كل العرب انفو الاخباري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كل العرب انفو الاخباري

منتدى . ثقافي . اجتماعي . رياضي . تعليمي . اسلامي . شامل
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الصحابه رضوان الله عليهم

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
انتقل الى الصفحة : 1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:27 am

موقف أهل السنة والجماعة من آل البيت


الخطبة الأولى

الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار, ويصطفي للشرف من شاء من الأخيار ، شرّف رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم على كل البرية ، وجعل ذريته أشرف ذريّة .
أحمد ربي تعالى وأشكره وأثني عليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نتقرب إلى الله تعالى بمحبة رسوله وعترته الطاهرة الزكية صلى الله وسلم وبارك عليهم وعلى الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،
فوصية الله تعالى للأولين والآخرين تقواه "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله".

أيها المسلمون:
الشريف في ذاته يفيض بالشرف على من حوله والكريم في معدنه يسري كرمه في المحيطين به، انظر إلى زجاجة العطر كيف تبقى فوّاحة بعد نفاد ما فيها، تطلّع إلى جوار المصباح وكيف استحال هالة من نور، وسوارًا من ضياء وكذلك البشر تفيض بركة السعداء منهم وتتعداهم إلى غيرهم . فكثير من سلالة إبراهيم الخليل غدوا أنبياء وأصحاب عيسى صاروا حواريين ورفاق محمد صلى الله عليه وسلم شرفوا بالصحبة وأزواجه أمهات للمؤمنين. ونسله استحقوا وصف الشرف والسيادة، كيف لا وفيهم من دمائه دم، و من روحه نبض ومن نوره قبس ومن شذاه عبق ومن وجوده بقية صلى الله عليه وصلى على آله وأزواجه وصلى على صحابته وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أيها المسلمون:
ولكرم النبي صلى الله عليه وسلم كرمت ذريته، ولشرفه شرف آل بيته، وكانت مودتهم ومحبتهم جزءًا من شريعة المسلمين، رعوها على مر الزمان كما رعوا باقي الشريعة. وأقاموها كما أقاموا بقية أحكام الدين، وقد يكون قصّر بعض المسلمين في هذا الجانب في مراحل من التاريخ وفي وقائع دونت بمداد من أسى كما يقصّر بعض المسلمين في بعض واجباتهم؛ فتكتب عليهم ذنبًا من الذنوب وخطيئة من الخطايا، إلا أن الطابع العام للأمة هو معرفة قدرهم، وبذل المودة لهم ومحبتهم وموالاتهم، شهدت بذلك عقائدهم المدونة وتفاسيرهم المبسوطة وشروحات السنن وكتب الفقه. كيف لا، وهم وصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هم وصيته وهم بقيته، إذ يقول: "أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" (رواه مسلم) وآل بيته صلى الله عليه وسلم هم أزواجه وذريته وقرابته الذين حرمت عليهم الصدقة هم أشراف الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة" (رواه البخاري)، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني" وفي رواية في الصحيحين أيضًا: "فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها"، وروى البخاري -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أنت مني وأنا منك"، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن بن علي رضي الله عنه : "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" (رواه البخاري). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن رضي الله عنه : "اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه" (متفق عليه). وقد قال الله عزّ وجل في كتابه الكريم وقرآنه العظيم: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا" ومعلوم أن هذه الآية نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما قبلها وما بعدها كله خطاب لهن رضي الله عنهن، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: قولوا: "اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وهذا يفسر اللفظ الآخر للحديث: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ فالآل هنا هم الأزواج والذرية كما في الحديث الأول.

عباد الله: هذه بعض فضائل آل بيت النبوة كما حفظتها كتب السنة والتزمها المسلمون منذ صدر الإسلام الأول وأنزلوهم منازلهم اللائقة من غير إفراط ولا تفريط. ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن أبا بكر رضي الله عنه قال: ارقبوا محمدًا في أهل بيته". وفي الصحيحين "أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي" وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شهد بالرضا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه والسبق والفضل ولما وضع الديوان بدأ بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول للعباس رضي الله عنه: "والله لإسلامك أحب إلي من إسلام الخطاب لحب النبي صلى الله عليه وسلم لإسلامك"، كما استسقى بالعباس وأكرم عبد الله ابن عباس وأدخله مع الأشياخ... كل ذلك في صحيح البخاري وغيره . وقد روى إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في فضائل آل البيت وحفظ للأمة أحاديث كثيرة في ذلك ، منها ما رواه عن عبد المطلب بن ربيعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس: "والله لا يدخلُ قلب مسلم إيمانٌ حتى يحبّكم لله ولقرابتي "، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي". رواه مسلم.
وقال الطحاوي رحمه الله: "ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق".

عباد الله: إن مما تفاخر به هذه البلاد المملكة العربية السعودية منذ نشأتها بمراحلها الثلاث حكامًا وعلماء ، رعاة ورعية اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة آل بيته وتعظيمهم ومحبتهم واقتفاء أثرهم والدفاع عنهم وعن منهجهم ودينهم الحق. وقد اتخذت ذلك ديناً ومنهجًا وقربة إلى الله عز وجل. وتحملت في سبيل هذا المنهج العدل طعون الطاعنين ولمز الشانئين ولا يزيدها ذلك إلا ثباتًا على الحق وتمسكًا بمنهج الوسط واتباعًا لسنة آل البيت حقًا وليس أحدٌ أتبع لمنهجهم اليوم من هذه البلاد وأهلها وحكامها وعلمائها. قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "لآله صلى الله عليه وسلم حق لا يشركهم فيه غيرهم ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر قريش.. وقريش يستحقون ما لا يستحقه غيرهم من القبائل". وقال رحمه الله في موضع آخر: "وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقًا، فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقوقهم ويظن أنه من التوحيد بل هو من الغلو والجفاء، ونحن ما أنكرنا إلا ادعاء الألوهية فيهم وإكرام مدعي ذلك" انتهى كلامه رحمه الله . و قال الإمام في السنة في زمانه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "والشيخ محمد رحمه الله – يعني ابن عبدالوهاب - وأتباعه الذين ناصروا دعوته كلهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ساروا على نهجه ويعرفون فضلهم ويتقربون إلى الله سبحانه بمحبتهم والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضا كالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكالخليفة الرابع الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبنائه الحسن والحسين ومحمد رضي الله عنهم . ومن سار على نهجهم من أهل البيت" انتهى كلامه رحمه الله.

أيها المسلمون:
ولأن آل بيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومحبتهم، أمر تهفو إليه النفوس وشعور تجثو عنده العواطف، وحس يتحرك له الوجدان فقد نفذ من هذا الباب من استغله وتاجر به واستخدمه من ادّعى خدمته، منذ القرن الأول من عمر هذه الأمة إلى أيامنا هذه، وعلى مر ذلك التاريخ الطويل وتحت شعار محبة آل البيت والانتصار لهم. برزت مطامع سياسية وأخرى مادية وصفيت ثارات عرقية عنصرية واندس موتورون بهذا الدين، شانئون له مبغضون لأهله يهدمون أساسه ويبغون اندراسه، حتى غيرت معالم الدين وشوهت الشريعة وبدلت العقيدة، ونبتت الفرقة وثار غبار النزاع والشقاق. فطالوا أهم ما فيه وهو التوحيد ثم كرّوا على أهم مسائل العقيدة فحرفوها ثم أخذوا يعيثون فسادًا في بقية شرائع الدين وأطاعوا شيوخهم في التحليل والتحريم بلا هدى حتى صاروا كمن قال الله فيهم: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله". عظموا المشاهد وعطلوا المساجد ناهيك عن أكل أموال الناس بالباطل واستحلال فروج الحرائر. وتكفير عموم الأمة وكنِّ العداوة والبغضاء للعرب الذين هم مادة الإسلام وأصل الإسلام كل هذا يحدث ويكون تحت لافتات النصرة لآل البيت، ومحصلة الأمر كله تمكن مندسين في تغيير عقائد الإسلام الراسخة وشرائعه الثابتة وشعائره الظاهرة لدى جماعة من المسلمين باسم آل البيت ومحبة آل البيت.

و هنا أمران يستدعيان الوقوف ويلحان في الطرح.
أولهما: أن آل البيت الثابتة أنسابهم هنا في الحجاز أو ممن انتشر منهم في البلاد أو حكم جزءًا من بلادنا الإسلامية اليوم، هم أبعد الناس عن تلك المذاهب المستحدثة، تشهد بذلك عقائدهم ومؤلفات العلماء وطلبة العلم منهم ومواقعهم على شبكة الاتصال العالمية، وكذا مواقف الساسة منهم والحكام فيهم؛ فهل بعد هذا بصيرة لمستبصر وذكرى لمستذكر؟!
الأمر الثاني: أنه في الوقت الذي ينكر فيه المعروفون من آل البيت تلك العقائد الدخيلة، تنشط في الوقت نفسه عناصر ليسوا عربًا ولا من نسل العرب، ينشطون في الحديث باسم آل البيت وتكوين دين يزعمون أنه مستقىً من آل البيت، دين لا يعرفه صاحب البيت ولم يأت به جد آل البيت؛ بل ويخالف شريعة مؤسسه صلى الله عليه وسلم. بل إن أولئك العجم هم الرعاة لهذه العقائد المستحدثة ، الناشرون لها منذ نشأت إلى يومنا هذا. ألم يتساءل العقلاء منهم أو من تأثر بهم لماذا لم تلق هذه العقائد قبولاً في منازل آل البيت وفي مهبط الوحي وموطن الرسالة؟ ويقودنا هذا إلى تأكيد على دور العلماء وطلبة العلم خاصة من النسل الشريف وآل البيت المنيف ممن جرت في عروقهم الدماء الزكية أن يملكوا زمام المبادرة في الحفاظ على عقيدة جدهم صلى الله عليه وسلم، وألا يتركوا الصوت العالي يذهب لغيرهم ممن يتاجر باسمهم وينتفع بالحديث عنهم، مفسدًا أديان الناس وعقائدهم. إن عليهم وعلى عموم الأمة مسؤولية عظمى لهداية الناس وتبصيرهم بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم واكتمل بوفاته، وتنقية فطر المسلمين من لوثات الغلو والجفاء لئلا تحيد بهم الأهواء عن صراط الله الذي قال فيه سبحانه: "وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيها من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد،
فلقد وفّق الله هذه البلاد ومنذ أن قامت في دورها الأول بلزوم جماعة المسلمين والتمسك بالإسلام الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين، وقفوا أثر آل البيت وعموم الصحابة والتابعين مما جعل للإسلام في هذه الديار بقاء بنقاء وهيمنة بصفاء. إن الإسلام الذي تمسكت به هذه البلاد هو الإسلام الذي قبلَتْه أجيال الأمة على مرَّ القرون يُسْلِمُه سلَفُهم إلى خَلَفِهم وعُلَماؤهم إلى مُتَعَلمهم، نافين عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ولأجل هذا كانت هذه البلاد بحكامها وعلمائها في مَرْمَى سهام المتربصين، وإفك الكاذبين، لقد نال علماء هذه البلاد الكثير من الطعن والتكفير كما نال حكامه صنوف من اللمز والتشكيك في المواقف السياسية والمبادرات والقرارات في محاولة للحد من تأثيرها الإيجابي في العالم. ولإقصائها عن الريادة في أمور الدين وفضاء السياسة وهو الأمر الذي هو قَدْرُها وقدرها ويمليه عليها مكانها ومكانتها وتتطلع إليه قلوب المستضعفين قبل عيونهم أملاً في لملمة شمل، وتطلعًا لمداواة جرح، ورغبة في سد حاجة. ومواقفها وسيرتها شاهدة على الجمع لا التفريق ورأب الصدع لا شق الصفوف، حفظها الله قائمة بالإسلام منافحة عنه.
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل في علاه: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا" اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وصل وسلم وبارك على آله وأزواجه وذريته وصحابته وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابة نبيك أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحب وترضى، وخذ بهم للبر والتقوى، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لرضاك واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه ونائبه وإخوانهم وأعوانهم لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم هيئ له البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان. الله كن للمسلمين في فلسطين وفي كل مكان. اللهم آمنهم في أوطانهم وأرغد عيشهم واحقن دماءهم واكبت عدوهم. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرّج هم المهمومين والمسلمين ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين وفك أسر المأسورين واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم ولجميع المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


الصحابة ومكانتهم عند المسلمين


رَبَّنَا لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ

الإهداء
أهدي هذه الرسالة إلى مَن تعهداني بأسباب الرعاية
أمي وأبي



المقـدمة




مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فما له من هاد.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المتقين وقائد الغر المحجلين الذي بُعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بهديه, فكانوا أعلام الهدى , المنار المقتدى.
أما بعد:
فقد تعرض الجيل الأول من المسلمين إلى محن قاسية وتحملوا أعباء كبيرة من أجل التمكين لهذا الدين القيّم في الأرض, فخرجوا من قلب الجزيرة العربية إلى العالم أجمع يحملون لهم الدواء الناجع لما كانت تعانيه الإنسانية من ضياع وتمزق. يحملون السلام العالمي الذي طالما حلم به الفلاسفة والحكماء, وقدموه للدنيا بأسرها وعلى وجوههم علامات الرضا, غير عابئين بما ضحوا في سبيل ذلك من دمائهم وأموالهم واغترابهم. فنالوا بهذه التضحيات الجسام الثواب الجزيل من الله تعالى والحب العظيم من رسول الله e, وأصبحوا نبراس الأمة الإسلامية ومثالها الفذ مَن أجبهم أحب الله ورسوله ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله.
غير إن كثيراً ممن استحوذ عليهم الشيطان, وممن نذروا أنفسهم للنيل من هذا الدين العظيم لم يرق لهم هذا التكريم لصحابة رسول الله e وكانوا يعلمون أنهم يمثلون سور الدين, وأن الطعن فيهم هو السبيل الموصلة إلى هدمه دون ضوضاء, فأخذوا يشوهون صورتهم في أعين الناس, ويبثون آراءهم المنحرفة في صحابة رسول الله e.
لهذا كله حق على كل مسلم غيور أن في كل زمان ومكان أن يدافع عن تلك النخبة الطاهرة الذين لولا جهادهم وإخلاصهم وأمانتهم لما نعمنا بنعمة الإسلام, وأن يساهم ولو بشيء يسير في إبراز دورهم الهام في حفظ الشريعة وتعاليم الدين, لأننا مدينون لهم بكل شيء, فحبهم قربى إلى الله, والذود عنهم ذود عن حياض الدين, ولاشيء أوجب على المسلم في حياته من ذلك.
وهذا ما دفعني إلى أن أكتب رسالتي في هذا الموضوع وأن أسميها " الصحابة ومكانتهم عند المسلمين" سائلا المولى تعالى أن يجعلها في صحيفة عملي يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.

وقد جاءت رسالتي على بابين وخاتمة.

فالباب الأول – عقدته في الصحابة- جاء مشتملاً على ثلاثة فصول:

الفصل الأول في التعريف بالصحابة رضي الله عنهم, وذكرت فيه تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً, وطبقات الصحابة, وعددهم والطرق التي يُعرف بها الصحابي.
أما الفصل الثاني فقد عقدته لبيان عدالتهم رضي الله عنهم وبينت فيه عدالتهم من خلال القران الكريم, والسنة النبوية وأقوال علماء الأمة وسلفها الصالح, ثم من خلال سيرتهم وأحوالهم العطرة.
والفصل الثالث, تحدثت فيه عن اختلافات الصحابة فتكلمت عن أسباب الاختلاف بين الناس عموماً, ثم بين الصحابة وأنواع الاختلافات التي وقعت بين الصحابة, وعن الآثار الناجمة عن تلك الاختلافات وأخيرا موقف علماء الأمة من اختلافهم.
أما الباب الثاني الذي عقدته لبيان مكانتهم فقد جاء مشتملاً على ستة فصول:
الفصل الأول: تحدثت فيه عن مكانة الصحابة عند الشيعة الإمامية. وذكرت فيه أيضاً نشأتهم وآراءهم وفرقهم.
الفصل الثاني: تكلمت فيه عن الإسماعيلية تعريفها ونشأتها وآرائها وموقفها من الصحابة ومكانتهم لديها, وأتيت فيه بشيء من جهود العلماء في مقاومة ضلالها.
الفصل الثالث: تحدثت فيه عن الزيدية وما قامت به من محاولات لتصحيح منهج التشيع وبينت فيه موقفهم من صحابة رسول الله e بعد أن ذكرت فرقهم.
الفصل الرابع: تحدثت فيه عن الخوارج وأسباب ظهورهم وصفاتهم وفرقهم وأرائهم ثم عن مكانة الصحابة عندهم.
الفصل الخامس: تحدثت فيه عن أهل السنة والجماعة وذكرت تعريفهم وأصنافهم وموقفهم من الصحابة وحكم من تجاوز عليهم عندهم بسب أو لعن أو اكفار.
الفصل السادس: عقدته في بيان النتائج الضارة للطعن في الصحابة رضي الله عنهم, وبينت فيه أن الطعن ينجم عنه الطعن في صحة نقل القرآن الكريم, والطعن في صحة نقل السنة النبوية, وتكذيب القرآن والسنة في نصوص كثيرة بعينها, وكذلك ينجم عنه الطعن في شخص الرسول e وأخيراً تصوير الإسلام ديناً بعيداً عن التطبيق العملي.


أما الخاتمة فقد تحدثت فيها عن النتائج التي خرجت بها من دراستي هذه.
ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور حارث سليمان الضاري لتفضله بالإشراف على رسالتي المتواضعة هذه ولما قدمه لي من ملاحظات أثناء كتابتي لها, التي كانت نعم العون لي. كما أتقدم بالشكر لكل من مد يد المساعدة وأشكر أسرة مكتبة كلية العلوم الإسلامية لما قدموه لي من تعاون وأسرة مكتبة التأميم المركزية فجزاهم الله عني ألف خير.
وأخيراً... فهذا جهد بذلته فإن أصبت فبعون من الله وفضل وإن أخفقت فإنما أنا بشر. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



الباب الأول
الفصل الأول
التعريف بالصحابة

من هو الصحابي
طبقات الصحابة
عدد الصحابة
طرق معرفة الصحابي





أولاً:- مَن هو الصحابي؟
الصحابي لغة مشتق من الصحبة, وهي المعاشرة, جاء في لسان العرب: صحبه يصحبه صُحبة بالضم وصحابة بالفتح, وصاحَبَه عاشَرَه ... والصاحب المُعاشر().
وقال صاحب المصباح المنير: والأصل في هذا الإطلاق -أي إطلاق اسم الصحبة من حيث اللغة- لمن حصل له رؤية ومجالسة. ووراء ذلك شروط للأصوليين. ويطلق مجازاً على من تمذهب بمذهب من مذاهب الأئمة, فيقال: أصحاب الشافعي, وأصحاب أبي حنيفة(), وكل شيءٍ لائم شيئاً فقد استصحبه().
ولا يشترط في إطلاق اسم الصحبة لغة, أن تكون الملازمة بين الشيئين طويلة الأمد, أو الملابسة بينهما عميقة, لأنها اسم مشتق من فعل, والأسماء المشتقة من الأفعال يصح أن تطلق بمجرد صدور الفعل, ولا علاقة لها بمقدار تحقق ذلك الفعل في الشخص.
فكما أن قولك: ضارب وهو اسم مشتق من الفعل (ضرب) يصح أن يطلق بمجرد صدور الضرب من شخص ما دون النظر إلى مقدار هذا الضرب, كذلك يصح أن يطلق اسم الصحابي أو الصاحب على كل من صحب غيره مهما كان مقدار الصحبة. لهذا قال صاحب الرياض المستطابةSadيطلق اسم الصحبة في اللغة على الشيئين إذا كان بينهما ملابسة وان قلّت أو مناسبة أو ملابسة من بعض الوجوه)().
أما تعريف الصحاب من حيث الاصطلاح فقد اختلف العلماء في حدّه على أقوال (فالمعروف عند المحدثين أنه كل مسلم رأى رسول الله r )(), وقال ابن حجر: (هو من لقي النبي e مؤمناً به ومات على الإسلام ولو تخللت ردة على الأصح)().
غير أن (منهم من بالغ فكان لا يعد من الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية كما جاء عن عاصم الأحول حيث قال: رأى عبدالله بن سرجس رسول الله e غير انه لم يكن له صحبة, هذا مع كون عاصم قد روى عن عبدالله بن سرجس هذا عدة أحاديث وهي عند مسلم وأصحاب السنن وأكثرها من رواية عاصم عنه, ومنها قوله: إن النبي e استغفر له. فهذا يوضح رأي عاصم في الصحابي بأنه من صحب الصحبة العرفية().
(وكذا روى عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد من الصحابة إلا من أقام مع النبي e سنة فصاعداً أو غزا معه غزوة فصاعداً)().
ومنهم من اشترط أن يكون حين اجتماعه بهF بالغاً , وهو مردود أيضاً لأنه يخرج أمثال الحسين بن علي ونحوه من أحداث الصحابة() وروي عن بعض أصحاب الأصول في تعريفهم للصحابي (أنه من طالت مجالسته عن طريق التتبع)() قال ابن حجر: (والعمل على خلاف هذا القول وأنهم اتفقوا على عدّ جمع من الصحابة لم يجتمعوا بالنبي e إلا في حجة الوداع)().
ولعل أرجح التعاريف وأجمعها ما اختاره ابن حجر إذ قال: (وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي e مؤمناً به ومات على الإسلام فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته أو قصرت ومن روى عنه أو لم يرو عنه ومن غزا معه أو لم يغز معه ومن رآه ولو لم يجالسه, ومن لم يره لعارض كالعمى)().
وهذا الذي صححه ابن حجر نسَبَه كثير من العلماء إلى الإمام البخاريT. وأثبت ابن حجر أن البخاري تابع فيه شيخه علي بن المديني T حيث قال: (وقد وجدت ما جزم به البخاري من تعريف الصحابي في كلام شيخه علي بن المديني فقرأت في المستخرج لأبي قاسم بن منده بسنده إلى أحمد بن يسار الحافظ المروزي قال: سمعت أحمد بن عتيك يقول: قال علي بن المديني: من صحب النبي e ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي e)().
وأرى أن هذا التعريف الذي ذكره ابن حجر هو أرجح التعاريف لما يلي:
أولاً: لأنه يتماشى مع المدلول اللغوي لكلمة الصحبة, ولا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا عند وجود مقتضى لذلك من نص أو مانع, لا وجود لشيء من ذلك كله.
ثانياً: لأنه قول جهابذة السنة وعلماء الأمة ممن لا يعدل قولهم قول غيرهم ممن خالفهم.
ثالثاً: لأن التوسع في إطلاق الصحبة يرى فيه العلماء وجهاً من وجوه الثناء على رسول الله e وتقديراً لمكانته e حق قدرها, قال ابن الصلاح: (بلغنا عن أبي المظفر السمعاني المروزي أنه قال: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثاً أو كلمة ويتوسعون حتى يعدوا من رآه رؤية من الصحابة, وهذا لشرف منزلة النبي e أعطوا كل من رآه حكم الصحبة)().
رابعاً: إن الأقوال الأخرى غير جامعة لكل من تشرف بلقاء النبي e أو رآه ولو مرة, لأنها اشترطت طول المجالسة أو الغزو معه أو الرواية عنه e وهذه الأمور لم تتحقق لكثير ممن وصفوا بالصحبة, كالعميان والأحداث من الصحابة y.
ثم إن الصحبة تكريم من الله لجماعة من البشر اختارهم سبحانه ليكونوا معية رسول الله e والنقلة لكل أحداث عصر النبوة. كما إن الجرح والتعديل بتطبيقهم لقواعد النقد العلمي الصحيح لم يعثروا على ما يمكن أن يكون مخلاً بعدالة أي شخص ثبت أنه رأى أو لقي النبي e مسلماً ومات على الإسلام.

ثانياً: طبقات الصحابة
حينما نقول أن كل من رأى النبي e مؤمناً به ومات على الإيمان فان له شرف الصحبة, وما يلزم منها من العدالة ودخولهم الجنة بوعد الله تعالى لهم بقوله: } لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌÇÊÉÈ {() فليس معنى هذا أن الصحابة كلهم على مرتبة واحدة, بل هم على طبقات ودرجات, حددها عدل الله سبحانه وتعالى. إذ فيهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار, وفيهم من تلوهم وتبعوهم بإحسان, فكان لابد أن يتفاوتوا في الفضل والمرتبة والزلفى عند الله تعالى, لذلك رتبهم العلماء الذين اعتنوا بهم إلى طبقات, وقد اختلفوا في ترتيب تلك الطبقات باعتبارات مختلفة.
فقسمهم ابن سعد في طبقاته على حسب القدم والمشاهد إلى خمس طبقات, هي():
الأولـى : البدريون من المهاجرين.
الثانيـة : البدريون من الأنصار.
الثالثـة : الذين لم يشهدوا بدراً ولهم إسلام قديم.
الرابعـة: الذين أسلموا قبل الفتح.
الخامسة : الذين أسلموا بعد الفتح.

ورتبهم الحاكم إلى اثنتي عشرة طبقة() وهي كالآتي:
الأولى: قوم أسلموا بمكة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم.
الثانية: أصحاب دار الندوة.
الثالثة: المهاجرون إلى الحبشة.
الرابعة: الذين بايعوا النبي e عند العقبة.
الخامسة: أصحاب العقبة الثانية.
السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله e وهو بقباء قبل أن يدخل المدينة ويبني المسجد.
السابعة: أهل بدر الذين قال رسول الله e فيهم: (( لعل الله أطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم))().
الثامنة: المهاجرون الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا { ().
العاشرة: المهاجرة بين الحديبية والفتح, منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبو هريرة().
الحادية عشرة: الذين أسلموا يوم الفتح وهم جماعة من قريش.
الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله e يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرهما.

والناظر في تقسيم الحاكم يرى أنه قائم على السبق في دخول الإسلام بغض النظر عن أية عوامل أخرى, بخلاف ما جرى عليه ابن سعد في طبقاته من اعتماده المشاهد والسبق إلى الإسلام معاً, فعنده أن المهاجر البدري أعلى رتبة من الأنصاري البدري باعتبار عامل السبق, ومن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار فهو أعلى رتبة ممن لم يشهدها وإن كان إسلامه قديماً, وهو بهذا يكون أميز من مخالفيه في تقديرنا.
هذا الترتيب والمفاضلة بين الصحابة y على سبيل الإجمال، أما على سبيل الأفراد لكل منهم فقد ذهب جمهور علماء أهل السنة إلى أن أفضل الناس بعد رسول الله e أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة ثم أهل بدر ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان وممن لهم مزية من أهل العقبتين من الأنصار والسابقين الأولين().

ثالثاً: عدد الصحابة
لاشك أن حصر عدد الصحابة أمر متعذر لأمور, منها: أن الرسول e عاش يدعو إلى دين الله ثلاثة وعشرين عاما, وقد أسلم في هذه الفترة خلق كثير بلا شك, فمنهم من كان يقيم معه ومنهم من يرجع إلى الجهة التي جاء منها, ومعرفة من أعلن إسلامه أمام الرسول e ومن أسلم دون أن يلتقي به أمر في غاية الصعوبة.
لذا فإن من كتب في هذا المجال, فإنما كتب على سبيل التقريب لا التحديد فيما نظن.
فقد روي عن أبي زرعة الرازي قوله: (توفي رسول الله e ومن رآه ومن سمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية)().
وأخرج الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (خرج رسول الله e لعشر مضين من رمضان, وصام الناس معه, حتى إذا كانوا بالكديد أفطر, ثم مضى في عشرة آلاف من المسلمين) وكان ذلك عام الفتح().
وقال ابن حجر: (ثبت عن سفيان الثوري فيما أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه قال: من قدّم علياً على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفاً مات رسول الله e وهو عنهم راض()- يعني الذين توفوا في خلافة أبي بكر وعمر-.
من خلال هذه الآثار يتبين لنا أن أصحاب رسول الله e كانوا من الكثرة بحيث أن الرواة الذين سمعوا من رسول الله e يزيدون على مائة ألف.
ومع هذا فإن التاريخ لم يحفظ لنا عشر ما ذكره أبو زرعة من الرواة. وقد قام الدكتور أكرم ضياء العمري بدراسة استقرائية في كتب معرفة الصحابة وتوصل إلى هذه النتيجة().
إن أوسع كتب معرفة الصحابة هو كتاب الإصابة لابن حجر حيث بلغت ترجماته(9477) ترجمة ممن عرفوا بأسمائهم و (1268) ترجمة ممن عرفوا بكناهم و (1522) ترجمة امرأة.
وليس كل من أوردهم ابن حجر في الإصابة قد ثبتت صحبتهم, فقد ذكر في مقدمة كتابه أنه تناول فيه أربعة أقسام, وهي:
الأول: من وردت صحبته بطريق الرواية عنه أو عن غيره سواء أكانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة, أو وقع ذكره على الصحبة بأي طريق كان.
الثاني: فيمن ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي e لبعض الصحابة من الرجال والنساء ممن مات e وهم دون سن التمييز, لغلبة الظن أنه e رآهم.
الثالث: فيمن ذكر في الكتب المتقدمة عليه من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يرد خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي e ولا رأوه, سواء أسلموا في حياته أم لا, وهؤلاء ليسوا صحابة بالاتفاق.
الرابع: فيمن ذكر في الكتب المتقدمة أنه صحابي على سبيل الوهم والغلط وبيان ذلك().

رابعاً: طرق معرفة الصحابي

للعلماء في معرفة الصحابة رضي الله عنهم طرق يعرفونه بها, ويمكن إجمال هذه الطرق بما يلي:
الأولى: الخبر المتواتر, كصحبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
الثانية: الخبر المستفيض أو المشهور: وهو الخبر الذي لم يصل إلى حد التواتر.
الثالثة: إخبار بعض الصحابة أنه صحابي.
الرابعة: شهادة ثقات التابعين في حقه بكونه صحابياً.
الخامسة: إخباره عن نفسه بصحبته لرسول الله بعد أن ثبتت عدالته عند علماء الجرح والتعديل().
فإذا ما ثبتت للشخص صحبة بأية طريقة من هذه الطرق فهو صحابي ويجب تعديله, واعتبار أقواله ومروياته دون عرضها على ميزان الجرح والتعديل.


الباب الأول
الفصل الثاني
عدالة الصحابة


تعريف العدالة
بم فضل الصحابة y على غيرهم
عدالة الصحابة y في القران الكريم
عدالة الصحابة y في السنة النبوية
عدالة الصحابة y في أقوال السلف الصالح
عدالة الصحابة y من خلال أحوالهم وسيرتهم العطرة
قبل أن نخوض في إثبات عدالة الصحابة رضي الله عنهم من خلال الكتاب والسنة وآراء العلماء, أرى من المناسب أن نتحدث عن معنى العدالة من حيث اللغة والاصطلاح وتوضيح الفرق بينها وبين العصمة ثم نتحدث عن الأشياء التي بها فُضّل الصحابة على غيرهم, بالله التوفيق.
أولاً:- تعريف العدالة
العدالة في اللغة مشتقة من العدل ضد الجور... ورجل عدل أي رضا ومقنع في الشهادة. وتعديل الشيء تقويمه .. وتعديل الشهود أن تقول أنهم عدول().
والعدالة في الاصطلاح عرفها ابن حجر بقولهSad إنها ملكة تحمل على ملازمة التقوى. والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة)() ولعل هذا التعريف هو المختار عند علماء الحديث.
فالعدالة بهذا المنظور لا تعني أن يكون الإنسان معصوماً, ونحن لا نريد أن نصل بالصحابة إلى مرتبة العصمة, إذ لا يجوز لنا أن ندعيها لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقد فهم العلماء هذه الحقيقة, فقد روى الخطيب البغدادي بسنده إلى إمام التابعين سعي بن المسيب أنه قال: (ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب, لابد , لكن من الناس مّن لا تُذكر عيوبه. من كان فضله أكثر من نقصه, وهب نقصه لفضله)().
فإذا صدر من أحد الصحابة ذنب, فلا يعني هذا خروجه من دائرة العدالة لأن مقومات العدالة لا تنص على عدم إتيان الذنوب, كما تنص العصمة على ذلك(). فكل من كان مسلماَ بالغاً عاقلاً سالماً من أسباب الفسق, سالماً من خوارم المروءة فهو جدير بتعديل المعدلين(), ولا يضره بعد ذلك أن تكون له هنّات وزلات, فالزلة لا تسقط بها العدالة كما نص على ذلك أبو حاتم الرازي().


ثانياً: بمَ فُضّل الصحابة على غيرهم.
لا شك أن علماء الأمة عليهم رضوان الله تعالى كانوا عالمين أن الصحابة يمتازون عن غيرهم بأمور استحقوا بها أن يسجل الله سبحانه وتعالى تعديلهم في الذكر الحكيم ليبقى في صدور المؤمنين وعلى أطراف ألسنتهم ما دامت السموات والأرض.
ومن أجل أن نتعرف على الأمور التي استحق بها الصحابة رضي الله عنهم هذه المنزلة, يجدر بنا أن نتعرف أولاً على الأسس التي يتفاضل العاملون بموجبها في أعمالهم بشكل عام, ثم نتعرف على نصيب الصحابة من تلك الأسس لكي نكون على بينة من أمرنا. ومن أجــل أن لا يظن ظان أن العلماء ربما بالغوا حينما قالوا بتعديل الصحابة رضوان الله عليهم وتفضيلهم على مَن سواهم.

وجوه التفاضل بين الناس
لقد رد ابن حزم رحمه الله أسباب التفاضل بين العاملين إلى سبعة أوجه:
(الوجه الأول:- الماهية, وهي أن تكون الفروض في أعمال أحدهما موافاة كلها, ويكون الآخر يضيع بعض الفروض وله نوافل...
الوجه الثاني:- الكمية وهي العرض, فان يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله لا يمزج به شيئاً البتة ويكون الآخر يساويه في جميع عمله, إلا أنه ربما مزج بعمله شيئاً من حب الترقي في الدنيا, وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه.
الوجه الثالث:- الكيفية, فان يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقــوقه ورتبه لا منتقصاً و لا مزيداً ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسننه, وان لم يعطل منه فرضاً.
الوجه الرابع:- الكم, فان يستويا في أداء الفرض, ويكون الآخر أكثر نوافل, فيفضله هذا بكثرة عدد نوافله.
الوجه الخامس: الزمان, فكمن عمل في صدر الإسلام, أو في عام المجاعة, أو في وقت نازلة بالمسلمين, وعمل غيره بعد قوة المسلمين أو في زمن رخاء وأمن...
الوجه السادس:المكان, كصلاة في المسجد الحرام ومسجد المدينة, فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما...
الوجه السابع:- الإضافة, فركعة من نبي أو معه, أو صدقة من نبي, أو صدقة معه, أو ذكر من نبي أو ذكر معه, أو سائر أعمال البر منه ومعه: فقليل ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده)(). (أ.هـ)
هذه هي وجوه التفاضل بين الناس ولننظر الآن ما نصيب الصحابة رضوان الله عليهم من هذه الوجوه.
إذا دققنا النظر في الوجوه التي ذكــرناها آنفاً, جدنا أن الوجه الخامس والوجه السابع لا يشارك الصحابة فيه أحد البتة. فهم الذين آمنوا حين كفر الناس, وهم الذين أنفقوا حين بخل الناس, وهم الذين جاهدوا حينما كانوا قلة يخافون أن يتخطفهم الناس فما زادهم ذلك إلا إيماناً. ومن أجل هذا قال رسول الله r Sad لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه)().
وقال تعالى: }لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{()
قال ابن حزم معلقاً على هذه الآية الكريمة: (وهذا في الصحابة فيما بينهم فكيف لمن بعدهم معهم رضي الله عنهم)(). هذا بالنسبة للوجه الخامس.
أما الوجه السابع من وجوه التفاضل وهو الإضافة: فان الصحابة رضي الله عنهم وحدهم الذين كانت أعمالهم مقترنة مع رسول الله e, صلاتهم وحجهم وجهادهم وسائر عباداتهم, وفي هذا منزلة وشرف تتطلع إليه الأعناق ولا يناله إلا من آتاه الله حظاً عظيماً, لذا فإن أي عمل يقوم به الصحابي بعد رسول الله e لا يوازي شيئاً من عمل البر الذي عمله ذلك الصحابي نفسه مع رسول الله e. وكذلك يمتاز الصحابة عن غيرهم ممن جاء بعدهم بإيمانهم العميق وإخلاصهم العمل لله سبحانه وتعالى, وهو الوجه الثاني من وجوه التفاضل التي ذكرناها آنفاً, وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية محتجاً لرأي عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل في تفضيل كل فرد في الصحابة على كل فرد ممن جاء بعدهم: (ومن حجة هؤلاء: أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر وعدل عمر بن عبدالعزيز أظهر من عدل معاوية t وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب, وقد قال النبي e لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه, قالوا: نحن نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم, لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك الصحابي ... وقال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم الصديق بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه) () ثم هم لم يقصرا فيما تبقى من وجوه التفاضل فقد كانوا حريصين على أن يتمثلوا برسول الله e في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتهم, فما أجدرهم أن ينالوا ما نالوا وما أجدرنا باحترامهم وإنزالهم المنزلة التي رضيها لهم رب العالمين.
وفوق كل هذا فالصحابة رضي الله عنهم هم نقلة السنة النبوية والشهود على الرسالة السماوية, وهم الذين نذروا أنفسهم في سبيل نشر هذه الرسالة التي امتزجت بها دماؤهم وأرواحهم مما يوجب لهم فضلا عظيما على كل من جاء بعدهم, لأن الله تعالى جعلهم سبباً في هداية غيرهم, مما يدخلهم في قوله e Sad من علّم علماً فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل)().
وقوله e Sadمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجروه شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) ().

ثالثاً: عدالة الصحابة في القران الكريم:
القرآن هو كتاب الله, كلمته الهادية لأهل الأرض, وهو المقياس الذي يتفاضل الناس في دينهم بمدى تمسكهم بتعاليمه واهتدائهم بهديه, فلا يعد مؤمناً-بإجماع الأمة- من يرى جواز مخالفته لقوله تعالى:} فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{(), إذن فلا يسع المسلم بأي حالٍ من الأحوال إلا أن يسلم قلبه ولبه لله تعالى في كل ما ورد من تشريعات سواء أكانت بنص الكتاب أم على لسان رسول الله r .
وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن الصحابة الكرام مشتملة على مكارم كثيرة منحها الله تعالى لهم, بما قدموا من أموالهم وأنفسهم في سبيل نصرة دين الله .
وهذه الآيات من الكثرة والصراحة بحيث لا يستطيع أحد معها أن ينال من صحابي إلا من كان ناقص الإيمان, مريض القلب والعياذ بالله تعالى.
فمن هذه الآيات قوله تعالى: }لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {() و قوله تعالى: } كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ{ () وأكثر العلماء على أن المراد بهذه الآية هم المخاطبون عند نزول الوحي وهم صحابة رسول الله r كما نص على ذلك الخطيب وابن حجر().
ومنها قوله تعالى: } وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ ().
ومنها قوله تعالى:} مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ () وقوله تعالى: } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا { () و قوله تعالى: } لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ=(Cool وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ = 9 وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{().
ولو لم يأت ذكر الصحابة yفي القرآن الكريم إلا في هذه الآيات الثلاث لكانت كافية لهم في الدنيا والآخرة, كافية لمن يأتي بعدهم في اتخاذ الموقف النبيل تجاه من أكرمه الله تعالى اقراراً بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء.
والمؤمن الحق حين يرى قافلة الإيمان تمضي عليه أن يبذل جهده ليكون في الطليعة فإن لم ينل ذلك فلا أقل من أن يتمنى أن يصل إلى مرتبتهم وأن يلقى الله ومحبتهم في قلبه, وينزع الغل والحسد والبغضاء لركب المؤمنين الأوائل.
و قوله تعالى: } تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ { ()
و قوله تعالى: } الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {()
وقال جل شأنه في حق المهاجرين:} فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ{ ().
ويقول تعالى شاهداً لهم بالإيمان الحق:} وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{ ().
ثم يذكر الله تعالى بشارته لعامة الصحابة y المنفق منهم قبل الفتح والمنفق بعده فيقول جل ذكره: :} لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{().
و قال تعالى: :} إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{ ().
وقد ذكر تعالى الصحابة y في مواضع كثيرة قارناً ذكرهم بذكر رسول الله r وفي هذا تشريف لهم أيما تشريف, وقد بلغت هذه الآيات من الكثرة ما يطول بنا ذكرها, لذا سنكتفي بذكر طرف منها فإن فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
من هذه الآيات قوله تعالى: } إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ{ ().
و قوله تعالى: } إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ{ ().
و قوله تعالى: } وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:28 am

الصحابة ومكانتهم عند المسلمين


رَبَّنَا لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ

الإهداء
أهدي هذه الرسالة إلى مَن تعهداني بأسباب الرعاية
أمي وأبي



المقـدمة




مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فما له من هاد.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المتقين وقائد الغر المحجلين الذي بُعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بهديه, فكانوا أعلام الهدى , المنار المقتدى.
أما بعد:
فقد تعرض الجيل الأول من المسلمين إلى محن قاسية وتحملوا أعباء كبيرة من أجل التمكين لهذا الدين القيّم في الأرض, فخرجوا من قلب الجزيرة العربية إلى العالم أجمع يحملون لهم الدواء الناجع لما كانت تعانيه الإنسانية من ضياع وتمزق. يحملون السلام العالمي الذي طالما حلم به الفلاسفة والحكماء, وقدموه للدنيا بأسرها وعلى وجوههم علامات الرضا, غير عابئين بما ضحوا في سبيل ذلك من دمائهم وأموالهم واغترابهم. فنالوا بهذه التضحيات الجسام الثواب الجزيل من الله تعالى والحب العظيم من رسول الله e, وأصبحوا نبراس الأمة الإسلامية ومثالها الفذ مَن أجبهم أحب الله ورسوله ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله.
غير إن كثيراً ممن استحوذ عليهم الشيطان, وممن نذروا أنفسهم للنيل من هذا الدين العظيم لم يرق لهم هذا التكريم لصحابة رسول الله e وكانوا يعلمون أنهم يمثلون سور الدين, وأن الطعن فيهم هو السبيل الموصلة إلى هدمه دون ضوضاء, فأخذوا يشوهون صورتهم في أعين الناس, ويبثون آراءهم المنحرفة في صحابة رسول الله e.
لهذا كله حق على كل مسلم غيور أن في كل زمان ومكان أن يدافع عن تلك النخبة الطاهرة الذين لولا جهادهم وإخلاصهم وأمانتهم لما نعمنا بنعمة الإسلام, وأن يساهم ولو بشيء يسير في إبراز دورهم الهام في حفظ الشريعة وتعاليم الدين, لأننا مدينون لهم بكل شيء, فحبهم قربى إلى الله, والذود عنهم ذود عن حياض الدين, ولاشيء أوجب على المسلم في حياته من ذلك.
وهذا ما دفعني إلى أن أكتب رسالتي في هذا الموضوع وأن أسميها " الصحابة ومكانتهم عند المسلمين" سائلا المولى تعالى أن يجعلها في صحيفة عملي يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.

وقد جاءت رسالتي على بابين وخاتمة.

فالباب الأول – عقدته في الصحابة- جاء مشتملاً على ثلاثة فصول:

الفصل الأول في التعريف بالصحابة رضي الله عنهم, وذكرت فيه تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً, وطبقات الصحابة, وعددهم والطرق التي يُعرف بها الصحابي.
أما الفصل الثاني فقد عقدته لبيان عدالتهم رضي الله عنهم وبينت فيه عدالتهم من خلال القران الكريم, والسنة النبوية وأقوال علماء الأمة وسلفها الصالح, ثم من خلال سيرتهم وأحوالهم العطرة.
والفصل الثالث, تحدثت فيه عن اختلافات الصحابة فتكلمت عن أسباب الاختلاف بين الناس عموماً, ثم بين الصحابة وأنواع الاختلافات التي وقعت بين الصحابة, وعن الآثار الناجمة عن تلك الاختلافات وأخيرا موقف علماء الأمة من اختلافهم.
أما الباب الثاني الذي عقدته لبيان مكانتهم فقد جاء مشتملاً على ستة فصول:
الفصل الأول: تحدثت فيه عن مكانة الصحابة عند الشيعة الإمامية. وذكرت فيه أيضاً نشأتهم وآراءهم وفرقهم.
الفصل الثاني: تكلمت فيه عن الإسماعيلية تعريفها ونشأتها وآرائها وموقفها من الصحابة ومكانتهم لديها, وأتيت فيه بشيء من جهود العلماء في مقاومة ضلالها.
الفصل الثالث: تحدثت فيه عن الزيدية وما قامت به من محاولات لتصحيح منهج التشيع وبينت فيه موقفهم من صحابة رسول الله e بعد أن ذكرت فرقهم.
الفصل الرابع: تحدثت فيه عن الخوارج وأسباب ظهورهم وصفاتهم وفرقهم وأرائهم ثم عن مكانة الصحابة عندهم.
الفصل الخامس: تحدثت فيه عن أهل السنة والجماعة وذكرت تعريفهم وأصنافهم وموقفهم من الصحابة وحكم من تجاوز عليهم عندهم بسب أو لعن أو اكفار.
الفصل السادس: عقدته في بيان النتائج الضارة للطعن في الصحابة رضي الله عنهم, وبينت فيه أن الطعن ينجم عنه الطعن في صحة نقل القرآن الكريم, والطعن في صحة نقل السنة النبوية, وتكذيب القرآن والسنة في نصوص كثيرة بعينها, وكذلك ينجم عنه الطعن في شخص الرسول e وأخيراً تصوير الإسلام ديناً بعيداً عن التطبيق العملي.


أما الخاتمة فقد تحدثت فيها عن النتائج التي خرجت بها من دراستي هذه.
ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور حارث سليمان الضاري لتفضله بالإشراف على رسالتي المتواضعة هذه ولما قدمه لي من ملاحظات أثناء كتابتي لها, التي كانت نعم العون لي. كما أتقدم بالشكر لكل من مد يد المساعدة وأشكر أسرة مكتبة كلية العلوم الإسلامية لما قدموه لي من تعاون وأسرة مكتبة التأميم المركزية فجزاهم الله عني ألف خير.
وأخيراً... فهذا جهد بذلته فإن أصبت فبعون من الله وفضل وإن أخفقت فإنما أنا بشر. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



الباب الأول
الفصل الأول
التعريف بالصحابة

من هو الصحابي
طبقات الصحابة
عدد الصحابة
طرق معرفة الصحابي





أولاً:- مَن هو الصحابي؟
الصحابي لغة مشتق من الصحبة, وهي المعاشرة, جاء في لسان العرب: صحبه يصحبه صُحبة بالضم وصحابة بالفتح, وصاحَبَه عاشَرَه ... والصاحب المُعاشر().
وقال صاحب المصباح المنير: والأصل في هذا الإطلاق -أي إطلاق اسم الصحبة من حيث اللغة- لمن حصل له رؤية ومجالسة. ووراء ذلك شروط للأصوليين. ويطلق مجازاً على من تمذهب بمذهب من مذاهب الأئمة, فيقال: أصحاب الشافعي, وأصحاب أبي حنيفة(), وكل شيءٍ لائم شيئاً فقد استصحبه().
ولا يشترط في إطلاق اسم الصحبة لغة, أن تكون الملازمة بين الشيئين طويلة الأمد, أو الملابسة بينهما عميقة, لأنها اسم مشتق من فعل, والأسماء المشتقة من الأفعال يصح أن تطلق بمجرد صدور الفعل, ولا علاقة لها بمقدار تحقق ذلك الفعل في الشخص.
فكما أن قولك: ضارب وهو اسم مشتق من الفعل (ضرب) يصح أن يطلق بمجرد صدور الضرب من شخص ما دون النظر إلى مقدار هذا الضرب, كذلك يصح أن يطلق اسم الصحابي أو الصاحب على كل من صحب غيره مهما كان مقدار الصحبة. لهذا قال صاحب الرياض المستطابةSadيطلق اسم الصحبة في اللغة على الشيئين إذا كان بينهما ملابسة وان قلّت أو مناسبة أو ملابسة من بعض الوجوه)().
أما تعريف الصحاب من حيث الاصطلاح فقد اختلف العلماء في حدّه على أقوال (فالمعروف عند المحدثين أنه كل مسلم رأى رسول الله r )(), وقال ابن حجر: (هو من لقي النبي e مؤمناً به ومات على الإسلام ولو تخللت ردة على الأصح)().
غير أن (منهم من بالغ فكان لا يعد من الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية كما جاء عن عاصم الأحول حيث قال: رأى عبدالله بن سرجس رسول الله e غير انه لم يكن له صحبة, هذا مع كون عاصم قد روى عن عبدالله بن سرجس هذا عدة أحاديث وهي عند مسلم وأصحاب السنن وأكثرها من رواية عاصم عنه, ومنها قوله: إن النبي e استغفر له. فهذا يوضح رأي عاصم في الصحابي بأنه من صحب الصحبة العرفية().
(وكذا روى عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد من الصحابة إلا من أقام مع النبي e سنة فصاعداً أو غزا معه غزوة فصاعداً)().
ومنهم من اشترط أن يكون حين اجتماعه بهF بالغاً , وهو مردود أيضاً لأنه يخرج أمثال الحسين بن علي ونحوه من أحداث الصحابة() وروي عن بعض أصحاب الأصول في تعريفهم للصحابي (أنه من طالت مجالسته عن طريق التتبع)() قال ابن حجر: (والعمل على خلاف هذا القول وأنهم اتفقوا على عدّ جمع من الصحابة لم يجتمعوا بالنبي e إلا في حجة الوداع)().
ولعل أرجح التعاريف وأجمعها ما اختاره ابن حجر إذ قال: (وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي e مؤمناً به ومات على الإسلام فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته أو قصرت ومن روى عنه أو لم يرو عنه ومن غزا معه أو لم يغز معه ومن رآه ولو لم يجالسه, ومن لم يره لعارض كالعمى)().
وهذا الذي صححه ابن حجر نسَبَه كثير من العلماء إلى الإمام البخاريT. وأثبت ابن حجر أن البخاري تابع فيه شيخه علي بن المديني T حيث قال: (وقد وجدت ما جزم به البخاري من تعريف الصحابي في كلام شيخه علي بن المديني فقرأت في المستخرج لأبي قاسم بن منده بسنده إلى أحمد بن يسار الحافظ المروزي قال: سمعت أحمد بن عتيك يقول: قال علي بن المديني: من صحب النبي e ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي e)().
وأرى أن هذا التعريف الذي ذكره ابن حجر هو أرجح التعاريف لما يلي:
أولاً: لأنه يتماشى مع المدلول اللغوي لكلمة الصحبة, ولا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا عند وجود مقتضى لذلك من نص أو مانع, لا وجود لشيء من ذلك كله.
ثانياً: لأنه قول جهابذة السنة وعلماء الأمة ممن لا يعدل قولهم قول غيرهم ممن خالفهم.
ثالثاً: لأن التوسع في إطلاق الصحبة يرى فيه العلماء وجهاً من وجوه الثناء على رسول الله e وتقديراً لمكانته e حق قدرها, قال ابن الصلاح: (بلغنا عن أبي المظفر السمعاني المروزي أنه قال: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثاً أو كلمة ويتوسعون حتى يعدوا من رآه رؤية من الصحابة, وهذا لشرف منزلة النبي e أعطوا كل من رآه حكم الصحبة)().
رابعاً: إن الأقوال الأخرى غير جامعة لكل من تشرف بلقاء النبي e أو رآه ولو مرة, لأنها اشترطت طول المجالسة أو الغزو معه أو الرواية عنه e وهذه الأمور لم تتحقق لكثير ممن وصفوا بالصحبة, كالعميان والأحداث من الصحابة y.
ثم إن الصحبة تكريم من الله لجماعة من البشر اختارهم سبحانه ليكونوا معية رسول الله e والنقلة لكل أحداث عصر النبوة. كما إن الجرح والتعديل بتطبيقهم لقواعد النقد العلمي الصحيح لم يعثروا على ما يمكن أن يكون مخلاً بعدالة أي شخص ثبت أنه رأى أو لقي النبي e مسلماً ومات على الإسلام.

ثانياً: طبقات الصحابة
حينما نقول أن كل من رأى النبي e مؤمناً به ومات على الإيمان فان له شرف الصحبة, وما يلزم منها من العدالة ودخولهم الجنة بوعد الله تعالى لهم بقوله: } لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌÇÊÉÈ {() فليس معنى هذا أن الصحابة كلهم على مرتبة واحدة, بل هم على طبقات ودرجات, حددها عدل الله سبحانه وتعالى. إذ فيهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار, وفيهم من تلوهم وتبعوهم بإحسان, فكان لابد أن يتفاوتوا في الفضل والمرتبة والزلفى عند الله تعالى, لذلك رتبهم العلماء الذين اعتنوا بهم إلى طبقات, وقد اختلفوا في ترتيب تلك الطبقات باعتبارات مختلفة.
فقسمهم ابن سعد في طبقاته على حسب القدم والمشاهد إلى خمس طبقات, هي():
الأولـى : البدريون من المهاجرين.
الثانيـة : البدريون من الأنصار.
الثالثـة : الذين لم يشهدوا بدراً ولهم إسلام قديم.
الرابعـة: الذين أسلموا قبل الفتح.
الخامسة : الذين أسلموا بعد الفتح.

ورتبهم الحاكم إلى اثنتي عشرة طبقة() وهي كالآتي:
الأولى: قوم أسلموا بمكة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم.
الثانية: أصحاب دار الندوة.
الثالثة: المهاجرون إلى الحبشة.
الرابعة: الذين بايعوا النبي e عند العقبة.
الخامسة: أصحاب العقبة الثانية.
السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله e وهو بقباء قبل أن يدخل المدينة ويبني المسجد.
السابعة: أهل بدر الذين قال رسول الله e فيهم: (( لعل الله أطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم))().
الثامنة: المهاجرون الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا { ().
العاشرة: المهاجرة بين الحديبية والفتح, منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبو هريرة().
الحادية عشرة: الذين أسلموا يوم الفتح وهم جماعة من قريش.
الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله e يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرهما.

والناظر في تقسيم الحاكم يرى أنه قائم على السبق في دخول الإسلام بغض النظر عن أية عوامل أخرى, بخلاف ما جرى عليه ابن سعد في طبقاته من اعتماده المشاهد والسبق إلى الإسلام معاً, فعنده أن المهاجر البدري أعلى رتبة من الأنصاري البدري باعتبار عامل السبق, ومن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار فهو أعلى رتبة ممن لم يشهدها وإن كان إسلامه قديماً, وهو بهذا يكون أميز من مخالفيه في تقديرنا.
هذا الترتيب والمفاضلة بين الصحابة y على سبيل الإجمال، أما على سبيل الأفراد لكل منهم فقد ذهب جمهور علماء أهل السنة إلى أن أفضل الناس بعد رسول الله e أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة ثم أهل بدر ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان وممن لهم مزية من أهل العقبتين من الأنصار والسابقين الأولين().

ثالثاً: عدد الصحابة
لاشك أن حصر عدد الصحابة أمر متعذر لأمور, منها: أن الرسول e عاش يدعو إلى دين الله ثلاثة وعشرين عاما, وقد أسلم في هذه الفترة خلق كثير بلا شك, فمنهم من كان يقيم معه ومنهم من يرجع إلى الجهة التي جاء منها, ومعرفة من أعلن إسلامه أمام الرسول e ومن أسلم دون أن يلتقي به أمر في غاية الصعوبة.
لذا فإن من كتب في هذا المجال, فإنما كتب على سبيل التقريب لا التحديد فيما نظن.
فقد روي عن أبي زرعة الرازي قوله: (توفي رسول الله e ومن رآه ومن سمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية)().
وأخرج الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (خرج رسول الله e لعشر مضين من رمضان, وصام الناس معه, حتى إذا كانوا بالكديد أفطر, ثم مضى في عشرة آلاف من المسلمين) وكان ذلك عام الفتح().
وقال ابن حجر: (ثبت عن سفيان الثوري فيما أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه قال: من قدّم علياً على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفاً مات رسول الله e وهو عنهم راض()- يعني الذين توفوا في خلافة أبي بكر وعمر-.
من خلال هذه الآثار يتبين لنا أن أصحاب رسول الله e كانوا من الكثرة بحيث أن الرواة الذين سمعوا من رسول الله e يزيدون على مائة ألف.
ومع هذا فإن التاريخ لم يحفظ لنا عشر ما ذكره أبو زرعة من الرواة. وقد قام الدكتور أكرم ضياء العمري بدراسة استقرائية في كتب معرفة الصحابة وتوصل إلى هذه النتيجة().
إن أوسع كتب معرفة الصحابة هو كتاب الإصابة لابن حجر حيث بلغت ترجماته(9477) ترجمة ممن عرفوا بأسمائهم و (1268) ترجمة ممن عرفوا بكناهم و (1522) ترجمة امرأة.
وليس كل من أوردهم ابن حجر في الإصابة قد ثبتت صحبتهم, فقد ذكر في مقدمة كتابه أنه تناول فيه أربعة أقسام, وهي:
الأول: من وردت صحبته بطريق الرواية عنه أو عن غيره سواء أكانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة, أو وقع ذكره على الصحبة بأي طريق كان.
الثاني: فيمن ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي e لبعض الصحابة من الرجال والنساء ممن مات e وهم دون سن التمييز, لغلبة الظن أنه e رآهم.
الثالث: فيمن ذكر في الكتب المتقدمة عليه من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يرد خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي e ولا رأوه, سواء أسلموا في حياته أم لا, وهؤلاء ليسوا صحابة بالاتفاق.
الرابع: فيمن ذكر في الكتب المتقدمة أنه صحابي على سبيل الوهم والغلط وبيان ذلك().

رابعاً: طرق معرفة الصحابي

للعلماء في معرفة الصحابة رضي الله عنهم طرق يعرفونه بها, ويمكن إجمال هذه الطرق بما يلي:
الأولى: الخبر المتواتر, كصحبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
الثانية: الخبر المستفيض أو المشهور: وهو الخبر الذي لم يصل إلى حد التواتر.
الثالثة: إخبار بعض الصحابة أنه صحابي.
الرابعة: شهادة ثقات التابعين في حقه بكونه صحابياً.
الخامسة: إخباره عن نفسه بصحبته لرسول الله بعد أن ثبتت عدالته عند علماء الجرح والتعديل().
فإذا ما ثبتت للشخص صحبة بأية طريقة من هذه الطرق فهو صحابي ويجب تعديله, واعتبار أقواله ومروياته دون عرضها على ميزان الجرح والتعديل.


الباب الأول
الفصل الثاني
عدالة الصحابة


تعريف العدالة
بم فضل الصحابة y على غيرهم
عدالة الصحابة y في القران الكريم
عدالة الصحابة y في السنة النبوية
عدالة الصحابة y في أقوال السلف الصالح
عدالة الصحابة y من خلال أحوالهم وسيرتهم العطرة
قبل أن نخوض في إثبات عدالة الصحابة رضي الله عنهم من خلال الكتاب والسنة وآراء العلماء, أرى من المناسب أن نتحدث عن معنى العدالة من حيث اللغة والاصطلاح وتوضيح الفرق بينها وبين العصمة ثم نتحدث عن الأشياء التي بها فُضّل الصحابة على غيرهم, بالله التوفيق.
أولاً:- تعريف العدالة
العدالة في اللغة مشتقة من العدل ضد الجور... ورجل عدل أي رضا ومقنع في الشهادة. وتعديل الشيء تقويمه .. وتعديل الشهود أن تقول أنهم عدول().
والعدالة في الاصطلاح عرفها ابن حجر بقولهSad إنها ملكة تحمل على ملازمة التقوى. والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة)() ولعل هذا التعريف هو المختار عند علماء الحديث.
فالعدالة بهذا المنظور لا تعني أن يكون الإنسان معصوماً, ونحن لا نريد أن نصل بالصحابة إلى مرتبة العصمة, إذ لا يجوز لنا أن ندعيها لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقد فهم العلماء هذه الحقيقة, فقد روى الخطيب البغدادي بسنده إلى إمام التابعين سعي بن المسيب أنه قال: (ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب, لابد , لكن من الناس مّن لا تُذكر عيوبه. من كان فضله أكثر من نقصه, وهب نقصه لفضله)().
فإذا صدر من أحد الصحابة ذنب, فلا يعني هذا خروجه من دائرة العدالة لأن مقومات العدالة لا تنص على عدم إتيان الذنوب, كما تنص العصمة على ذلك(). فكل من كان مسلماَ بالغاً عاقلاً سالماً من أسباب الفسق, سالماً من خوارم المروءة فهو جدير بتعديل المعدلين(), ولا يضره بعد ذلك أن تكون له هنّات وزلات, فالزلة لا تسقط بها العدالة كما نص على ذلك أبو حاتم الرازي().


ثانياً: بمَ فُضّل الصحابة على غيرهم.
لا شك أن علماء الأمة عليهم رضوان الله تعالى كانوا عالمين أن الصحابة يمتازون عن غيرهم بأمور استحقوا بها أن يسجل الله سبحانه وتعالى تعديلهم في الذكر الحكيم ليبقى في صدور المؤمنين وعلى أطراف ألسنتهم ما دامت السموات والأرض.
ومن أجل أن نتعرف على الأمور التي استحق بها الصحابة رضي الله عنهم هذه المنزلة, يجدر بنا أن نتعرف أولاً على الأسس التي يتفاضل العاملون بموجبها في أعمالهم بشكل عام, ثم نتعرف على نصيب الصحابة من تلك الأسس لكي نكون على بينة من أمرنا. ومن أجــل أن لا يظن ظان أن العلماء ربما بالغوا حينما قالوا بتعديل الصحابة رضوان الله عليهم وتفضيلهم على مَن سواهم.

وجوه التفاضل بين الناس
لقد رد ابن حزم رحمه الله أسباب التفاضل بين العاملين إلى سبعة أوجه:
(الوجه الأول:- الماهية, وهي أن تكون الفروض في أعمال أحدهما موافاة كلها, ويكون الآخر يضيع بعض الفروض وله نوافل...
الوجه الثاني:- الكمية وهي العرض, فان يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله لا يمزج به شيئاً البتة ويكون الآخر يساويه في جميع عمله, إلا أنه ربما مزج بعمله شيئاً من حب الترقي في الدنيا, وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه.
الوجه الثالث:- الكيفية, فان يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقــوقه ورتبه لا منتقصاً و لا مزيداً ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسننه, وان لم يعطل منه فرضاً.
الوجه الرابع:- الكم, فان يستويا في أداء الفرض, ويكون الآخر أكثر نوافل, فيفضله هذا بكثرة عدد نوافله.
الوجه الخامس: الزمان, فكمن عمل في صدر الإسلام, أو في عام المجاعة, أو في وقت نازلة بالمسلمين, وعمل غيره بعد قوة المسلمين أو في زمن رخاء وأمن...
الوجه السادس:المكان, كصلاة في المسجد الحرام ومسجد المدينة, فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما...
الوجه السابع:- الإضافة, فركعة من نبي أو معه, أو صدقة من نبي, أو صدقة معه, أو ذكر من نبي أو ذكر معه, أو سائر أعمال البر منه ومعه: فقليل ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده)(). (أ.هـ)
هذه هي وجوه التفاضل بين الناس ولننظر الآن ما نصيب الصحابة رضوان الله عليهم من هذه الوجوه.
إذا دققنا النظر في الوجوه التي ذكــرناها آنفاً, جدنا أن الوجه الخامس والوجه السابع لا يشارك الصحابة فيه أحد البتة. فهم الذين آمنوا حين كفر الناس, وهم الذين أنفقوا حين بخل الناس, وهم الذين جاهدوا حينما كانوا قلة يخافون أن يتخطفهم الناس فما زادهم ذلك إلا إيماناً. ومن أجل هذا قال رسول الله r Sad لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه)().
وقال تعالى: }لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{()
قال ابن حزم معلقاً على هذه الآية الكريمة: (وهذا في الصحابة فيما بينهم فكيف لمن بعدهم معهم رضي الله عنهم)(). هذا بالنسبة للوجه الخامس.
أما الوجه السابع من وجوه التفاضل وهو الإضافة: فان الصحابة رضي الله عنهم وحدهم الذين كانت أعمالهم مقترنة مع رسول الله e, صلاتهم وحجهم وجهادهم وسائر عباداتهم, وفي هذا منزلة وشرف تتطلع إليه الأعناق ولا يناله إلا من آتاه الله حظاً عظيماً, لذا فإن أي عمل يقوم به الصحابي بعد رسول الله e لا يوازي شيئاً من عمل البر الذي عمله ذلك الصحابي نفسه مع رسول الله e. وكذلك يمتاز الصحابة عن غيرهم ممن جاء بعدهم بإيمانهم العميق وإخلاصهم العمل لله سبحانه وتعالى, وهو الوجه الثاني من وجوه التفاضل التي ذكرناها آنفاً, وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية محتجاً لرأي عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل في تفضيل كل فرد في الصحابة على كل فرد ممن جاء بعدهم: (ومن حجة هؤلاء: أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر وعدل عمر بن عبدالعزيز أظهر من عدل معاوية t وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب, وقد قال النبي e لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه, قالوا: نحن نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم, لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك الصحابي ... وقال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم الصديق بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه) () ثم هم لم يقصرا فيما تبقى من وجوه التفاضل فقد كانوا حريصين على أن يتمثلوا برسول الله e في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتهم, فما أجدرهم أن ينالوا ما نالوا وما أجدرنا باحترامهم وإنزالهم المنزلة التي رضيها لهم رب العالمين.
وفوق كل هذا فالصحابة رضي الله عنهم هم نقلة السنة النبوية والشهود على الرسالة السماوية, وهم الذين نذروا أنفسهم في سبيل نشر هذه الرسالة التي امتزجت بها دماؤهم وأرواحهم مما يوجب لهم فضلا عظيما على كل من جاء بعدهم, لأن الله تعالى جعلهم سبباً في هداية غيرهم, مما يدخلهم في قوله e Sad من علّم علماً فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل)().
وقوله e Sadمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجروه شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) ().

ثالثاً: عدالة الصحابة في القران الكريم:
القرآن هو كتاب الله, كلمته الهادية لأهل الأرض, وهو المقياس الذي يتفاضل الناس في دينهم بمدى تمسكهم بتعاليمه واهتدائهم بهديه, فلا يعد مؤمناً-بإجماع الأمة- من يرى جواز مخالفته لقوله تعالى:} فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{(), إذن فلا يسع المسلم بأي حالٍ من الأحوال إلا أن يسلم قلبه ولبه لله تعالى في كل ما ورد من تشريعات سواء أكانت بنص الكتاب أم على لسان رسول الله r .
وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن الصحابة الكرام مشتملة على مكارم كثيرة منحها الله تعالى لهم, بما قدموا من أموالهم وأنفسهم في سبيل نصرة دين الله .
وهذه الآيات من الكثرة والصراحة بحيث لا يستطيع أحد معها أن ينال من صحابي إلا من كان ناقص الإيمان, مريض القلب والعياذ بالله تعالى.
فمن هذه الآيات قوله تعالى: }لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {() و قوله تعالى: } كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ{ () وأكثر العلماء على أن المراد بهذه الآية هم المخاطبون عند نزول الوحي وهم صحابة رسول الله r كما نص على ذلك الخطيب وابن حجر().
ومنها قوله تعالى: } وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ ().
ومنها قوله تعالى:} مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ () وقوله تعالى: } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا { () و قوله تعالى: } لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ=(Cool وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ = 9 وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{().
ولو لم يأت ذكر الصحابة yفي القرآن الكريم إلا في هذه الآيات الثلاث لكانت كافية لهم في الدنيا والآخرة, كافية لمن يأتي بعدهم في اتخاذ الموقف النبيل تجاه من أكرمه الله تعالى اقراراً بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء.
والمؤمن الحق حين يرى قافلة الإيمان تمضي عليه أن يبذل جهده ليكون في الطليعة فإن لم ينل ذلك فلا أقل من أن يتمنى أن يصل إلى مرتبتهم وأن يلقى الله ومحبتهم في قلبه, وينزع الغل والحسد والبغضاء لركب المؤمنين الأوائل.
و قوله تعالى: } تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ { ()
و قوله تعالى: } الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {()
وقال جل شأنه في حق المهاجرين:} فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ{ ().
ويقول تعالى شاهداً لهم بالإيمان الحق:} وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{ ().
ثم يذكر الله تعالى بشارته لعامة الصحابة y المنفق منهم قبل الفتح والمنفق بعده فيقول جل ذكره: :} لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{().
و قال تعالى: :} إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{ ().
وقد ذكر تعالى الصحابة y في مواضع كثيرة قارناً ذكرهم بذكر رسول الله r وفي هذا تشريف لهم أيما تشريف, وقد بلغت هذه الآيات من الكثرة ما يطول بنا ذكرها, لذا سنكتفي بذكر طرف منها فإن فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
من هذه الآيات قوله تعالى: } إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ{ ().
و قوله تعالى: } إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ{ ().
و قوله تعالى: } وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ { ().
و قوله تعالى: } لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { ().
و قوله تعالى: } وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ{ ().
و قوله تعالى: } بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا { ().
و قوله تعالى: } إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا{ ().
و قوله تعالى في هجرة الرسول e : } يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمِْ{ ().
هذا بالنسبة للصحابة y بشكل عام من دون أن نتبع الآيات التي وردت في أشخاص بعينهم لأن ذلك سيطول بنا.
ولا يفوتنا أن نذكر تعديل الله تعالى لزوجات رسول الله r حيث يقول تعالى: } النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا {().
ويقول أيضاً : } يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ{().
فإذا كانت نساء النبي e اكتسبن هذه الخصوصية بحكم معاشرتهن لرسول الله r , فإن الصحابة y بحكم جهادهم وكفاحهم مع رسول الله r قد اكتسبوا خصوصية ترتفع بهم عن مستوى جميع من سواهم, وهذا كله راجع إلى منزلة النبي e عند الله , تلك المنزلة التي بلغت أن أقسم تعالى بعمره e حيث قال: } لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ{(), وأن نوّه بأخلاقه الرفيعة فقال: } وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ {().
وبعد هذه الآيات المباركات لا أظن مسلماً يعتز بإسلامه وإيمانه يستطيع أن يطلق للعنان لينال من تلك المقامات الرفيعة التي اختارها الله تعالى لتكون الشاهد على كتابه, إذ بهم أوصل الله دينه إلينا فهم معية رسول الله r يسوؤه ما يسوؤهم ويسره ما يسرهم, وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده باذلين أنفسهم وأموالهم غير مكترثين بذلك.
وهذه الآيات ملزمة لكل المسلمين باتخاذ موقف سليم تجاه الصحابة الكرامy لأن الله تعالى يقول: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ { ().
والله سبحانه وتعالى قد عدّلهم وأمرنا بنزع الغل من صدورنا عن المؤمنين الذين سبقونا بالإيمان, فلا يسعنا بعد هذا أن نزنهم كما نشاء, أو كما تهوى أنفسنا إن كنّا صادقين في دعوانا بأنا مسلمون منقادون لأمر الله جل جلاله ومعتزون بكتابه ومهتدون بهدي نبيه y.

رابعاً : عدالة الصحابة y في السنة النبوية
لقد اشتملت السنة النبوية على أحاديث كثيرة تشهد بفضل الصحابة y وتنص على احترامهم وإكبارهم, والأحاديث التي تتحدث عن الصحابة y على نوعين: الأول يذكر الصحابة y بشكل عام دونما تخصيص والنوع الثاني يمثل خصوصيات لبعض إفراد الصحابة y المحيطين برسول الله r أو الذين لهم مواقف معلومة أو صفات معينة.
ولا يسعنا في هذه الرسالة أن نتصدى لجميع تلك الأحاديث لأنها كما قلنا آنفاً كثيرة جداً إلى حد أن صنّف العلماء الأوائل فيها مصنفات كبيرة, فقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (فضائل الصحابة ) ما يقارب الألفي حديث من تلك النصوص, لكننا سنكتفي بذكر طرف يسير منها, فإن مَن لا يكتفي بالقليل ولا يذعن لرسول الله r من خلال ما صح عنه منها لن يجدِ معه الكثير مهما بلغ عدده.
ومن تلك النصوص قوله r فيما رواه أبو سعيد الخدري t : (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)().
وعنه t أيضاً قال: قال رسول الله r Sad يأتي على الناس زمان فيغزو فئام() من الناس فيقولون هل فيكم من صاحب رسول الله r ؟ فيقولون نعم فيفتح لهم, ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله r؟ فيقولون نعم فيفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله r فيقولون نعم فيفتح لهم) ().
وعن أبي بردة عن أبيه قال: قال النبي e : (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد, وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون, وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) ().
وعن عمران بن حصين t قال: قال رسول الله r ( خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن)().
وعن عبدالله بن مسعود t أن النبي e قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)().
وعن ابن عباس t قال: سمعت علي بن أبي طالبt يقول: خرج علينا رسول الله r فقال: اللهم ارحم خلفائي, قلنا يا رسول الله r ومن خلفاؤك؟ قال الذين يأتون من بعدي يرون أحاديثي وسنتي ويعلمونها للناس)().
وعن بريدة t قال: قال رسول الله r : (ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بُعث قائداً ونوراً لهم يوم القيامة)().
وعن جابر t قال: قال رسول الله r : (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)().
وعن عبدالله بن مغفل المزني t قال: قال رسول الله r : (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم بعدي غرضاً فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم, ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه)().
وعن عبدالله بن أبي أوفى t قال: شكى عبدالرحمن بن عوف خالد بن الوليد فقال r : لم تؤذِ رجلاً من أهل بدر؟ لو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله, فقال: يا رسول الله يقعون فيّ فأرد عليهم فقال رسول الله r لا تؤذوا خالد فإنه سيف من سيوف الله صبه على الكفار) ().
هذا طرف من الأحاديث الكثيرة التي تشير إلى مكانة الصحابة y عند الله تبارك وتعالى وعند نبيه الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الأحاديث منها ما هو صحيح متفق على صحته كما رأيت ومنها ما هو حسن موافق لماء جاء في كتاب الله العزيز في بيان مكانة الصحابة y ومد الله تعالى لهم وإكرامه إياهم وثناؤه عليهم.

خامساً : عدالة الصحابة y في أقوال علماء الأمة وسلفها الصالح:
بعد أن عرضنا جانباً من الآيات القرآنية الكريمة التي شهدت للصحابة y بحسن السريرة وعلو المنزلة وثنينا بعد ذلك بطائفة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تمجد الصحابة y , أرى من المناسب أن نقتبس بعض الأنوار من خلال الأقوال الكثيرة لعلماء الأمة وسلفها الصالح التي قيلت بحق الصحابة y, لنعلم كيف كان سلف الأمة وعلماؤها يتعاملون مع النصوص النبوية إذا وردت في مسألة من المسائل.
فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله: (لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام احدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره)().
وعن نسير بن ذعلوق قال: سمعت ابن عمر يقول: ( لاتسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة خير من عبادة أحدكم أربعن سنة)().
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( لا تسبوا أصحاب محمد فان الله عز وجل قد أمر بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون)().
وعن ميمون بن مهران قال: (ثلاث ارفضوهن: سب أصحاب محمد r والنظر في النجوم والنظر في القدر)().
وعن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى انه قال: (من طعن في أصحاب رسول الله r فهو صاحب هوى)().
وقال الإمام أبو زرعة الرازي : (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله r فاعلم أنه زنديق, لأن الرسول r عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله r وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهو زنادقة)().
وقال النووي في التقريب: (الصحابة y كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به)().
وقال ابن حجر: (اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة)().
وقال ابن عبدالبر في الاستيعاب: (فهم خير القرون وخير أمة أخرجت للناس ثبتت عدالتهم جميعهم بثناء الله عز وجل ورسوله r )().
وقد كان سلفنا الصالح على درجة كبيرة من احترام الصحابة y وتقديرهم حتى أنهم عدوا من طعن في أي صحابي مرتكباً لأكبر الفواحش والكبائر, فهذا الإمام النووي يقول بهذا الصدد: (واعلم أن سب الصحابة y حرام من فواحش المحرمات ... )
ويقول في موضع آخر: ( وسب أحدهم من المعاصي الكبائر)().
وقد بلغ من إنكارهم أنهم كانوا يرون تعزير من يقع فيهم كما هو رأي الجمهور().
بل إن الإمام مالكاً رحمه الله يرى قتل من قال بضلال أحد من الصحابةy(). وقال القاضي أبو يعلى) مَن قذف عائشة مما برأها الله منه كفر بلا خلاف وحكى الإجماع على هذا غير واحد) ().
وقال ابن عباس رضي الله عنهما موضحاً دور الصحابة y وجهادهم في نشر الإسلام وإرساء دعائمه: ( إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمدا r بصحبة آثروه على الأنفس والأموال وبذلوا النفوس دونه في كل حال ووصفهم في كتابه فقال: رحماء بينهم فقاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين حتى تهذبت طرقه وأسبابه وظهرت آلاء الله واستقر دينه, ووضحت أعلامه وأذل الله بهم الشرك وأزال رؤوسه ومحا دعائمه وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية والأرواح الطاهرة العالية, فقد كانوا في الحياة أولياء وكانوا بعد الموت أحياء وكانوا لعباد الله نصحاء وصلوا إلى الآخرة قبل إن يصلوا إليها وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها) ()
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:33 am

فإذا كان ابن عباس رضوان الله عليه- وهو من هو بين الصحابة y- ينظر إليهم بعين الإجلال هذه ويحتفظ لهم في قلبه بهذه المنزلة الرفيعة فما أحرانا نحن بأن نحترمهم ونتولاهم ونتقرب إلى الله بحبهم. وقد أدرك هذه الحقيقة شيخ من شيوخ الزيدية في اليمن وهو الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان بن حمزة وهو من علماء القرن السابع نقل ذلك عنه عالم الزيدية في القرن التاسع عشر السيد عمرو بن إبراهيم بن المرتضى الوزير (757- 840) في كتابه (الروض الباسم) () فذكر طبقة الدهماء من الصحابة y وعوامهم فقال: ( إن أكثرهم تساهلاً في أمر الدين ممن يتجاسر على الإقدام على الكبائر لاسيما معصية الزنا... وذلك دليل خفة الإيمان ونقصان الديانة لكنا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورع الشحيح والخوف العظيم, ومن يضرب بصلاحه المثل, ويتقرب بحبه إلى الله عز وجل وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين وليس يفعل ذلك إلا من يحق له منصب الإمامة من أهل التقوى واليقين) ().
أي أن أقل الصحابة y تمسكاً بهدي الإسلام ممن قد يقعون في حدود الله وسرعان ما يستيقظ ضميرهم فيعترفون ولو كان في اعترافهم ذهاب حياتهم مما يرفعهم إلى استحقاق منصب الإمامة, فكيف بكبار الصحابة y الذين طهرهم الله من كل الأدران الخبيثة إنهم شريحة يصعب على البشر تصورهم.
وهاهو سيدنا علي بن أبي طالب t يذكر أصحاب رسول الله r يذكر أصحاب رسول الله r مقارناً بينهم وبين شيعته فيقول: ( لقد رأيت أصحاب محمد r فما رأيت أحداً يشبههم منكم! لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الحجر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجوهم اذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب)().
ويقول أيضاً في حقهم مقارناً بينهم وبين شيعته آسفاً على ذهابهم: ( أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه وقرءوا القرآن فأحكموه وسلبوا السيوف أغمادها وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً وصفاً صفاً بعض هلك وبعض نجا ولا يبشرون بالأحياء و لا]يُعزون عن الموتى, مره العيون من البكاء خمص البطون من الصيام ذبل الشفاه من الدعاء صفر الألوان من السهر, على وجوههم غبرة الخاشعين أولئك خواص الذاهبون فحق لنا أن نظمأ اليهم ونفض الأيدي على فراقهم.)().
وقد ذكر الشيخ إحسان آلهي ظهير أن المجلسي روى في كتابه "حياة القلوب" عن الآلوسي رواية موثوقة() عن علي رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: ( أوصيكم في أصحاب رسول الله r , لا تسبوهم فإنهم أصحاب نبيكم وهم أصحابه الذين لم يبتدعوا في الدين شيئاً ولم يقروا صاحب بدعة, نعم أوصاني رسول الله r في هؤلاء...)().
ولا شك أن شهادةً مثل شهادة علي بن أبي طالب t لها طعم خاص وثقل مميز خصوصاً اذا كان الرواة لها ممن يطلقون ألسنتهم لتنال من الصحابة الكرام y , ثم يدعون بعد ذلك تمسكهم بهدي أهل البيت رضوان الله عليهم. ولا نريد أن ننقل المزيد من أقوال السلف في حق الصحابةy ففيما نقلناه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
هذه هي منزلة الصحابةy عند علماء الأمة, وهم لم ينالوها بكسبهم وإنما هي هبة من الله وفضل حباهم بها واصفاهم لها.
و لاشك أن العلماء لم ينطلقوا من فراغ في تكريمهم لكل من صح أن يطلق عليه اسم الصحبة, فهم بهذا يكونون قد اقتدوا بالصــحابة أنفسهم, فإنهم كانوا يرون أن للصحبة فضلاً لا يعد له فضل.
قال ابن حجر: ( وقد كان تعظيم الصحابةy ولو كان اجتماعهم به r قليلاً , مقرراً عند الخلفاء الراشدين وغيرهم, فمن ذلك قرأت في كتاب (أخبار الخوارج) تأليف محمد بن قدامة المروزي بخط بعض من سمعه منه في سنة سبع وأربعين ومائتين قال: حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا زهير وهو الجعفي عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي قال كنت عند أبي سعيد الخدري ... قال: كنا عنده وهو متكئ فذكرنا علياً ومعاوية, فتناول رجل معاوية فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً ثم قال: كنا ننزل رفاقاً مع رسول الله r فكنا في رفقة فيها أبو بكر فنزلنا على أبيات وفيهم امرأة حبلى ومعنا رجل من أهل البادية فقال للمرأة الحامل أيسرك أن تلدي غلاماً, قالت نعم, قال: إن أعطيتني شاةً ولدت غلاماً, فأعطته فسجع لها اسجاعاً ثم عمد إلى الشاة فذبحها و طبخها وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر فلما علم بالقصة قام فتقيأ كل شي أكل, قال ثم رأيت ذلك البدوي أتي به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصار, فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله r ما أدري ما نال فيها لكفيتكموه ولكن له صحبة من رسول الله r) ().
وقال ابن كثير: (قال الزبير بن بكار: حدثني أخي هارون بن أبي بكر عن يحيى بن إبراهيم عن سليمان بن محمد عن يحيى بن عروة عن عمه عن عبدالله بن عروة قال: أقحمت السنة بني جعدة فدخل على عبدالله بن الزبير المسجد الحرام فأنشده هذه الأبيات:
حكيت لنا الصــــديق لما وليتها وعثمان والفــاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في الحق فاستووا فعاد صبــاحاً حـالك اليوم مظلم
أتاك أبو ليلى يجـوب به الرجـــا دجا الليــل جواب الفلاة غشعشم
لتـجير منــه جـــائيا غدرت به صروف الليالي والزمان المصمصم
فقال ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى فإن الشعر أهون رسائلك عندنا... ولكن لك في مال الله حقان: حق لرؤيتك رسول الله r وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم) ().
أرأيت كيف جعل عمر الصحبة مانعاً من إنزال العقوبة في مستحقها وجعلها ابن الزبير سبباً في استحقاق سهم آخر من مال المسلمين؟.

عدالة الصحابة y من خلال سيرتهم وأحوالهم العطرة:
بعد أن أتينا على الجوانب الثلاثة الماضية من أدلة عدالة الصحابة y رأيت أن أختم هذا الفصل بذكر طرف من شمائلهم العظيمة وأخلاقهم الرفيعة وحرصهم على التمسك الكامل لمنهج رسول الله r وعزوفهم عن الفتن وتمكن المحبة في قلوبهم وغير ذلك مما يشكل دليلاً قوياً من أدلة عدالتهم رضوان الله عليهم ونبراساً وضاءً للأمة الإسلامية تستضيء به على مر العصور إذا ما اشتدت دياجير الظلام يوما.

اقتداؤهم المطلق بالرسول r
لقد كان الصحابةy يعلمون أن رسول الله r إنما أرسل بشيراً نذيراً فكانوا يتمثلون به في كل أحوالهم فـ( قد ثبت أن النبي e كان يحث أمته على التمسك بسنته ويحذرهم من مخالفتها وأن الصحابة y كانوا يمتثلون أمره في ذلك ويقتدون به ويتبعونه في جميع أقواله وأفعاله وسائر أحواله ويعتبرون أن كل ما يصدر منه فهو حجة يلزمهم إتباعها) (). مع أن قدرة الصحابةy على الاستنباط من كتاب الله مباشرة اكبر من قدرات من جاء بعدهم بحكم تمكنهم من صهوة اللغة أيما تمكن, لكنهم كانوا عالمين أن القرآن الكريم لا يستقيم فهمه إلا من خلال صنوه – السنة النبوية-.
وقد وردت الآثار الكثيرة بهذا الشأن وسنورد بعضها فيما يلي:
فهذا عمر بن الخطاب t يقول مخاطباً الحجر الأسود: ( والله إني لأعلم أنك حجر ولو لم أر حبيبي r قبلك أو استلمك ما استلمتك ولا قبلتك) ().
وعن علي بن ربيعة قال: رأيت علياً أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله فلما استوى عليها قال: الحمد لله. سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم حمد الله ثلاثاً ثم كبر ثلاثاً ثم قال سبحانك لا اله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي. ثم ضحك. فقلت ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله r فعل مثل ما فعلت ثم ضحك فقلت لم تضحك يا رسول الله r ؟ قال: تعجب الرب من عبده إذا قال اغفر لي , ويقول علم عبدي انه لا يغفر الذنوب غيري)().
وعن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر في سفر فمر بمكان فحاد عنه فسئل لم فعلت؟ قال: رأيت رسول الله r فعل هذا ففعلت)().
وقد بلغ من تمسك الصحابة y بالنسبة النبوية أنهم كانوا ينكرون أشد الإنكار على من لا يعمل بها وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو عشيرتهم. ولا شك في ذلك فهم الذين فارقوا المال والولد في سبيل الدين.
من ذلك ما روي عن عبدالله بن مغفل أنه كان جالساً والى جنبه أبن اخ له فخذف فنهاه وقال ان رسول الله r نهى عنها وقال إنها لا تصيد صيداً ولا تنكيء عدواً وإنها تكسر السن وتفقأ العين. قال فعاد ابن اخيه يخذف. فقال: أحدثك أن رسول الله r نهى عنها ثم عدت تخذف لا أكلمك أبداً) ().
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أتخذ النبي e خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب. فقال النبي e إني اتخذت خاتماً من ذهب, فنبذه فقال: إني لن ألبسه أبدأ. فنبذ الناس خواتيمهم().
روى ابن عبدالبر عن عبدالله بن رواحة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله r يقول: اجلسوا, فجلس في الطريق فمر به رسول الله r فقال: ما شأنك؟ فقال سمعتك تقول: أجلسوا, فجلست فقال له النبي e : زادك الله طاعة().
بل إن بعض الصحابة y أو من كان يعيش معهم من المخضرمين ممن لا يذكرهم التاريخ لأنهم لم يكونوا يطلبون الذكر والمباهاة في الدنيا من وراء إعمالهم – أقول أن منهم من كان على درجة كبيرة من التمسك بهدي رسول الله r حتى شهد لهم كبار الصحابة y في ذلك. فقد ذكر الذهبي في ترجمته لعمرو بن الأسود أن عمر بن الخطاب قال في حقه : من أحب أن ينظر إلى هدي رسول الله r فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود() فمن يعرف عمراً هذا في التاريخ مع أنه كان على هذه الدرجة من السلوك الحسن, أن عدم شهرته تدل على أن المجتمع حينذاك كان بمجموعه على مثل هذه الدرجة الرفيعة فلو كان سلوكه فريداً بين أقرانه لكان من المشهورين منهم .
من خلال هذه الآثار التي أوردناها نستطيع أن نقول كما كانت السنة النبوية بمجموعها بياناً وتفسيراً للقران فان الصحابة y كانوا بمجوعهم يمثلون حياة الرسول r بحكم اقتداءهم به, فأي إغفال لجانب من حياة الصحابة y هو إغفال لجانب من حياة رسول الله r لأنه قد بلغ من اهتداءهم به r أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك دون أن يعلموا لذلك سبباً أو يسألوه عن علته أو حكمه().
فكن النبي e مثلهم الأعلى وقدوتهم المثلى , كانت أعمالهم صورة لأعماله وأحوالهم مظهراً لأحواله فكان احترامهم احتراماً له والتعريض بهم تعريض به r بل اعتراض على أقواله الآمرة باحترامهم ومودتهم.

خلو نفوسهم من العداوة والبغضاء
لا شك أن الصحابة y بشر عاشوا حياتهم كما عاش غيرهم يفرحون ويحزنون ويختلفون مع غيرهم في وجهات النظر لكنهم اختلفوا عن غيرهم في أن ما كان بينهم لم يصل إلى أن يحقد بعضهم على بعض, فكانوا قدوة لمن بعدهم في كل شيء : في سلمهم وحربهم , في جدهم ومرحهم , في رضاهم وغضبهم لأن الله أختارهم وجعلهم في موضع القدوة. والدارس لتاريخ الصحابة الكرام y ممن لا يرضى لنفسه أن يصطاد في الماء العكر يعرف هذه الحقيقة جيداً , فهذا سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما سمع بعض جنوده يسبون أهل الشام أبان معركة صفين على الرغم مما جرى بينه وبين أهل الشام الذين يقودهم معاوية قال: لا تسبوا أهل الشام فإن بها الأبدال فإن بها الأبدال().
( وأن علياً لما دار بين القتلى رأى طلحة بن عبيدالله فجعل يمسح التراب عن وجهه وقال: رحمة الله عليك أبا محمد, يعز علي أن أراك مجدولاً تحت نجوم السماء ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري, والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة()).
ثم قال ابن كثير(): وروي من غير وجه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله فيهم: ونزعنا ما في صدروهم من غل أخواناً على سرر متقابلين()).
صحيح أن عدداً يسيراً من الصحابة y ربما قاتل بعضهم بعضاً لكن قتالهم كان من اجتهاد واعتقاد وتحر للحق وعزم على التمسك به. وهم يعلمون هذه الحقيقة لهذا لم يكن يقع بعضهم ببعض, بل كانوا على الرغم من هذا الخلاف على مودة عظيمة واحترام لا يتصوره كثير من الناس.
وقد روى سعيد بن المسيب أن رجلاً كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلي رضي الله عنهم فجعل سعد ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني فأبى ,فقام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان سخطاً لك فيما يقول فأرني اليوم فيه آية وأجعله للناس عبرة. فخرج الرجل فاذا ببختي يشق الناس فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله. قال سعيد بن المسيب: فإني رأيت الناس يتبعون سعداً ويقولون: هنيئاً لك أبا اسحق أجيبت دعوتك().
( ولما قتل ابن جرموز الزبير بن العوام احتز رأسه وذهب به إلى علي ورأى أن ذلك يحصل به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار)().
وكان الصحابة y على جانب كبير من الاتزان في الحكم على الأشياء فهم لا يبحثون عن الزلة لكي يسقطوا صاحبها من معيار العدالة.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبدالمتعال الصعيدي" ( الا ليت الناس يتعظون بما كان عليه السلف الصالح من ذلك التسامح الديني, فهذا قدامة يرتكب هذا الخطاً الظاهر (حينما شرب الخمر متأولاً) وينكر حكماً معلوما من الدين بالضرورة فلا يتخذ أحد ذلك وسيلة للتشهير عليه في دينه, بل يراعى له حسن قصده في ذلك الخطأ ويبقى له دينه سالماً لا يطعن عليه أحد ثم يكون هو الذي يغضب على عمر ويهجره, فيكون عمر هو الذي يسعى إلى استرضائه ومصالحته. إلا ليت الناس يتعظون بما كان عليه السلف الصالح من الاعتدال في دينهم فلا يميلون فيه إلى تفريط أو إفراط بل يأخذ قدامة بالحد من غير تفريط في دينهم ولا يضيق صدرهم بتأويله الخاطئ... ألا ليتنا نعرف ما كان لهذا الأثر فيما امتاز به عصرهم من الصراحة في الدين والصراحة في الرأي. وأن هذا وصل بهم إلى تلك القوة والعظمة, ووصل بهم إلى حد الكمال الذي قدر له().
وعن أنس بن مالك t قال: كنا جلوسا مع رسول الله r فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة, فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال فلما كان الغد قال النبي e مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى فلما كان اليوم الثالث قال النبي e مثل مقالته أيضاً فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى فلما قام النبي e تبعه عبدالله بن عمرو فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً فان رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم , قال أنس فكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعارّ تقلب على فرشه ذكر الله عز وجل حتى صلاة الفجر, قال عبدالله: غير أني لم اسمعه يقول إلا خيرا فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أحتقر عمله قلت: يا عبدالله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ولكني سمعت رسول الله r يقول لك ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن أوى إليك فانظر ما عملك فاقتدي بك فلم أرك كبير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله r ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً و لا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبدالله: هذه التي بلغت بك().
بهذه القلوب الصافية وبهذه العزائم الصادقة في البحث عن وسائل الفلاح استحق الصحابة y تلك المنزلة الرفيعة.

ابتعاد جمهور الصحابة y عن الفتنة:
على الرغم مما حدث بين الصحابةy من فتن منذ أن قتل سيدنا عثمان بن عفان t إلى أن تولى الخلافة معاوية بن أبي سفيان t, أقول : على الرغم من كل ذلك بقي جمهور الصحابةy محباً للعافية بعيدا ًعن خوض غمار الفتنة, فلم يشترك في قتل سيدنا عثمان من الصحابةy أحد كما هو رأي جمهور العلماء ومن أضطر للولوج فيها إنما كان رائده الاجتهاد في طلب الحق وحرصه على تثبيت أركانه وإن أدى ذلك إلى أن تفيض روحه في سبيله.
جاء في المنتقى من منهاج الاعتدال: وجمهور الصحابةy وساداتهم تأخروا عن الفتنة. روى أبو أيوب السختياني عن ابن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله r عشرة آلاف فما خف لها منهم مائة, بل لم يبلغوا ثلاثين. وقال منصور بن عبدالرحمن: قال الشعبي: لم يشهد الجمل من أصحاب النبي e غير علي وعمار وطلحة والزبير, فإن جاءوا بخامس فانا كذاب – كأنه عنى من المهاجرين السابقين ( وهذا الاستدراك للذهبي) وقال عبدالله بن أحمد حدثنا أبي, حدثنا أمية بن خالد قال قيل لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلاً. قال أبو شيبة كذب والله , ذاكرنا الحكم ما وجدنا شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت , قلت ( القائل هو الذهبي) هذا النفي يدل على قلة من حضرها().
ويقول ابن كثير بصدد قتل عثمان t : ( ولما وقع هذا الأمر عظمه الناس جداً ولزم كثير من الناس بيوتهم)().
وعن عار بن سعد أن أخاه انطلق إلى سعد في غنم له خارج المدينة فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب. فلما أتاه قال: يا أبت أرضيت أن تكون اعرابياً في غنمك والناس يتنازعون الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فاني سمعت رسول الله r يقول: (( إن الله يحب العبد التقي النقي الخفي))().
ولما أشار بعض الصحابة y على عثمان بقتل هؤلاء الخارجين قال: (ان رحى الفتنة دائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها)().

خلوهم من الكذب
وللصحابة رضوان الله عليهم ميزة أخرى لم يكونوا ليفرطوا فيها وكان لها أثر كبير في حفظ السنة النبوية المطهرة, فقد كانوا صادقين في كل شؤونهم لا يكذبون مهما كانت الظروف مما جعل بعضهم يحدث عن بعض من دون أن يختلج في نفوسهم هاجس تكذيب بعضهم بعضا.
فعن البراء بن عازب t قال: ( ليس كلنا كان يسمع حديث النبي e فقد كانت لنا صنعة وأشغال ولكن كان الناس لا يكذبون فيحدث الشاهد الغائب)().
وروي عن قتادة أن انس t حدث بحديث فقال رجل: أسمعت هذا من رسول الله r ؟ قال نعم أو حدثني من لم يكذب , والله ما كنا نكذب ولاكنا ندري ما الكذب().
فما يراد لكي يُعدل الرجل أكثر من حرص مطلق على السنة النبوية وقلب خالٍ تماماً من الأمراض والأهواء وصدق ليس له نظير, وكل هذه الصفات كانت قائمة في الصحابة y على أكمل وجه وأحسنه. ولو أردنا أن نتعرض لصفات الخير كلها لما وسعنا المجال ففقد كانوا يشدون الرحال أياماً وأسابيع وراء حديث يبلغهم عن رسول الله r لكي يسمعوه ممن سمعه من رسول الله r مباشرة وكانوا يبذلون أموالهم وأرواحهم في سبيل الله راضية نفوسهم بذلك, أفلا يستحقون أن يكونوا عدولاً بعد كل هذا؟.
وبعد أن تعرضنا لأدلة عدالة الصحابةy من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة ومن خلال سيرتهم وسجاياهم هل يسع أحداً بعد كل هذا أن يتناول الصحابةy بلسانه وقلمه مدعياً النزاهة والمنهجية العلمية ولست أدري منذ متى كانت المنهجية قائمة على السباب والطعن الفاحش من غير بيان ولا برهان. إننا لكي ندعي الالتزام بمنهج الإسلام يجب أن نكون عالمين أن (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) () وأن المسلم يجب أن يلتمس لأخيه العذر مهما كان الذي بدر منه ما لم يكن كفراً بواحاً.
وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية رحمه الله : (فإن باب الإحسان إلى الناس والعفو عنهم مقدم على باب الإساءة والانتقام ... فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة فإذا كان هذا في حق آحاد الناس فالصحابة أولى أن يسلك بهم هذا فخطأ المجتهد في الإحسان إليهم بالدعاء والثناء عليهم والذب عنهم خير من خطئه في الإساءة إليهم باللعن والذم والطعن وما شجر بينهم غايته أن يكون ذنباً والذنوب مغفورة بأسباب متعددة هم أحق بها ممن بعدهم. وما نجد أحداً يقدح فيهم إلا ويعظم من هو دونهم ولا نجد أحداً يعظم شيئاً من زلاتهم إلا وهو يغض عما هو أكبر من ذلك من زلات غيرهم وهذا من أعظم الجهل والظلم) ().




الباب الأول
الفصل الثالث
اختلاف الصحابة


تمهيد
اسباب اختلاف الصحابةy
موقف علماء الأمة من اختلاف الصحابة y
الآثار الناتجة عن اختلاف الصحابةy



تمهيد
إن دراسة الاختلافات التي جرت بين الصحابةy - لاسيما السياسية منها- على جانب كبير من الصعوبة ويتطلب الكثير من الجهود للوقوف على الحقائق المتعلقة بها أو الاقتراب على الأقل. وتأتي هذه الصعوبة من كون أن عامة الاختلافات السياسية التي وقعت بين الصحابةy كان أهل البيت يمثلون أحد طرفيها, مما جعل القضية بمرور الزمن تأخذ طابع التحزب في عيون أشياعهم وفي عيون كثير من العامة , فتدخلت عواطف الناس في الحكم على الأشياء وأصبح كل من يقف في وجه أهل البيت أو تهاون في مناصرتهم -بغض النظر عن دوافعه ودواعيه- مجرماً يستحق السباب والشتم واللوم والتقريع. بينما أصبح الذين شايعوا أهل البيت على درجة كبيرة من الحظوة لدى الكثير من أبناء الأجيال اللاحقة.
وجرى كثير من المؤرخين على هذا المنوال. يقول الدكتور أحمد شلبي في أثناء كلامه على تاريخ الدولة الأموية: (لقد تحالفت ظروف كثيرة على الحط من شأن الأمويين بقصد أو بدون قصد وتكاد المراجع التي بين أيدينا تخلو خلواً تاماً من كلمة مدح أو ثناء على أكثر خلفاء هذه الدولة, أما عبارات القذف والطعن فقد أسهبت فيها كتب كثيرة واقتصدت كتب أخرى, وكان أسرها من اكتفى باللوم والتقريع)(). والسبب الحقيقي لهذا الغمط والغبن هو وقوف بعضهم أمام أهل البيت في يوم من الأيام في حين إن الحضارة الإسلامية عاشت عهداً ذهبياً أبان الحكم الأموي يشهد على ذلك صروح الحضارة في دمشق والأندلس وغيرها.
ما أريد أن أقوله هو أن النصوص التاريخية التي بين أيدينا تعجز إن تعطي لنا صورة صادقة للواقع أو تقارب ما كانت عليه الحياة, وبالتالي لا يجوز لأحد يتحرى الحق والصواب أن يسلم لكل ما ورد في كتب المؤرخين لكي يرسم صورة المجتمع الذي تتحدث عنه وعن أحداثه وأهم قضاياه.
نعم إن روايات الإخباريين على درجة كبيرة من الأهمية لا يجوز إغفالها ولكن في الوقت نفسه لا يجوز أن تأخذ كمسلمات وإنما يُنظر إلى إليها كمادة يستخرج منها تاريخنا بعد النقد والتمحيص, فـ(دراسة التاريخ لا تكون صحيحة إلا بتعليل الحوادث)().
وقد بلغت بعض الروايات حداً فظيعاً من الاستهتار بالقيم وتصوير المجتمع الإسلامي الأول بأبشع ما يتصوره العقل, فمثلاً:-
يقول ابن الأثير: (قال عمر بن سبيئة() حج يزيد في حياة أبيه فلما بلغ المدينة جلس على شراب له فاستأذن عليه ابن عباس والحسين فقال: إن ابن عباس إذا وجد ريح الشراب عرفه, فحجبه وأذن للحسين فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب فقال: لله در طيبك ما أطيبه فما هذا؟ قال هو طيب يصنع بالشام ثم دعا بالقدح فشربه ثم دعا بآخر فقال: اسق أبا عبدالله , فقال الحسين: عليك شرابك أيها المرء لا عين عليك مني فقال يزيد:
إلا يا صاح للعجـب دعوتك ذا ولم تجـب
إلى الفتيات والشهوا ت والصهباء والطرب
وباطيــــة مكللة عليها ســادة العرب
وفيهن التي تبلــت فـــؤادك ثم لم تتب
فنهض الحسين وقال: بل فؤادك يا ابن معاوية تبلت)().
إن مثل هذه النصوص لا تسيء إلى يزيد والحسين فحسب بل تسيء إلى المجتمع الإسلامي آنذاك بعمومه, لأن مجاهرة يزيد بشرب الخمر في موسم الحج وفي مدينة رسول الله r وبحضرة الحسين t استهتار فظيع بأمور الدين وتعاليمه يضعنا بين أمرين لا ثالث لهما, أما أن نصدق هذه الرواية ونؤمن بمقتضاها وهو أنه لم يكن لتعاليم الدين سلطان على النفوس ولم يكن هناك مجتمع يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولم يكن هذا القرن ثاني خير القرون التي أخبر عنها رسول الله r , وأما أن نحكم بأن هذه الرواية موضوعة ابتدعها أناس يتطلعون إلى يوم يلعن فيه آخر هذه الأمة أولها, وتزول تلك الروابط الإيمانية التي تشد بنيان الأمة وتقوي وحدتها, ومما لا مجال للشك فيه أن من يرى في الدولة الإسلامية في عهدها الأموي أو في عهدها العباسي خصوماً ألداء لأهل بيت النبوة لا تجوز شهادته على تلك الدولة إذ ليس من العدل أن يكون الخصم هو الحكم أو يكون الحكم متحيزاً إلى فئة ما. والناظر في كتب التأريخ الإسلامي يرى أن الكثير منها وقع أصحابها تحت تأثير العواطف والميول الشخصية إلى آل البيت بحكم ما لهم من مكانة سامية في قلوب المسلمين. ومن لم يكن واقعاً تحت تأثير تلك العواطف والميول فإنه واقع تحت تأثير الخط العام لكتابة التأريخ, وهو الاهتمام بمآثر أهل البيت والإغضاء من شأن مخالفيهم. فان كان للمسعودي والدينوري واليعقوبي وابن أعثم الكوفي وابن الطقطقا ميول علوية لا يخفونها() فإن الطبري وابن الأثير والسيوطي لم يستطيعوا أن يتخلصوا من ضغط هذا التيار. إذ أن نسبة كبيرة من تاريخ الطبري مروية عن أبي مخنف لوط بن يحيى وعن محمد بن عمر الواقدي.


أما أبو مخنف فقد قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال: (إخباري تالف لا يوثق به تركه أبو حاتم وغيره)().
وقال ابن تيمية في معرض كلامه على حجية الأخبار التي يوردها من يتعرضون للبحث عما يسمونه بمثالب الصحابةy: (كما أنهم جهلة بالمنقولات وإنما عمدتهم على تواريخ منقطعة الإسناد وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب فيعتمدون نقل أبي مخنف لوط بن يحيى وهشام بن الكلبي)().
وأما محمد بن عمر الواقدي (فهو لا يتورع بإظهار الصحابة y بمظهر المتآمرين على عثمان)() وقد جرحه علماء الجرح والتعديل وحذروا الناس من الأخذ بحديثه , فقد اتهمه النسائي والشافعي بالكذب والبخاري ينص على عدم الأخذ بحديثه. في حين أن الذهبي قال : استقر الإجماع على وهن الواقدي().
ولا شك أن من هذه حالته وهذه ميوله وعواطفه تكون دراسته انتقائية في أحسن الأحوال, فيأخذ ما يوافقه ويلاءم هواه ومذهبه ويترك كل ما لا يوافق ذلك. وقد لاحظ اثر تلك العواطف والميول على بعض الإخباريين بعض الباحثين من غير المسلمين أيضاً, فقد ذكر المستشرق فلهاوزن أن أبا مخنف لم يستطع أن يتجرد تماماً من عواطفه (وقد أغفل في بعض الأحيان شيئاً مما لا يعجبه, كإغفاله مثلاً أن عقيل بن أبي طالب كان في موقعة صفين يحارب في صفوف أعداء أخيه علي بن أبي طالب)().
فإذا كان تاريخ الطبري الذي يعد من خيرة كتب التاريخ الإسلامي على هذا المستوى فما بالك بالكتب الأخرى التي تعد عالة على تاريخ الطبري. ومما زاد من صعوبة اكتناه الحقائق لتاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية هو انه لم يتم أو بالأصح لم تبدأ مرحلة التدوين في التاريخ الإسلامي إلا في أواخر الدولة الأموية, ثم انتقلت الخلافة إلى بني العباس فلم يكونوا حريصين على إظهار بني أمية بمظهرهم الحقيقي كما كان بعض الناس على عهدهم (يتملقون الحكام بتشويه محاسن بني أمية)().
وقد فهم المستشرق فلهاوزن هذه الحقيقة جيداً حين قال: (أما روح هذا المأثور الشامي فيستطيع الإنسان أن يعرفه أحسن معرفة إذا رجع إلى كتب التاريخ النصرانية خصوصاً كتاب الصلة لتاريخ ايزيدور فالأمويون في هذه الكتب النصرانية يظهرون في ضوء آخر مغاير كل المغايرة في الكتب الأخرى, وهو يظهرون على صورة أحسن بكثير من الصورة التي اعتدنا أن نراهم عليها. أما في كتب التاريخ العربي فقد كانت الكلمة الأخيرة لأعدائهم وقد ألحق ذلك بتاريخهم ضرراً كبيراً)().
لا أقصد من سوقي لكلام فلهاوزن حول التواريخ النصرانية أن نعتمد عليها في دراسة قضايانا الإسلامية وإنما قصدت فقط أن ظاهرة التحيز وعدم الدقة التي اتسمت بها كثير من نقولنا التاريخية قد لاحظها غيرنا لذا فالحاجة إلى مراجعة علمية نقدية واسعة لتاريخنا الإسلامي وإخضاعه لقوانين الرواية المعتمدة لدى علماء الحديث, لأن تمحيص تراثنا التاريخي لا يقل أهمية عن تمحيص الآثار النبوية.
وقد وعى المحققون من العلماء هذه المسألة وخاصة ما يتعلق منها بالرعيل الأول من المسلمين فقسموا المثالب المنقولة عنهم والمنسوبة إليهم إلى قسمين لا ثالث لهما:
فقد قال ابن تيمية: (إن ما نقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان أحدهما ما هو كذب (ويشمل):
أما كذب كله.
وأما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن, وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب, مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد السائب الكلبي وأمثالهما من الكذابين...
والنوع الثاني: ما هو صدق وأكثر هذه الأمور فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً وتجعلها من موارد الاجتهاد)() و لا أريد أن اظلم التاريخ الإسلامي كله أو أجرده من مقومات النقد العلمي كلها.
فقد كانت البلاد الإسلامية تحتوي على أربع مدارس تاريخية كبرى لكل مدرسة مميزاتها وسماتها تبعاً للبيئات التي نشأت فيها, وتبعاً لسلوكيات أفرادها, فقد كانت هناك مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة ومدرسة البصرة ومدرسة بغداد, وقد عقد الدكتور خليل إبراهيم السامرائي مقارنة بين مدرسة المدينة من ناحية ومدرستي الكوفة والبصرة من ناحية أخرى فكانت النتيجة كما يلي:
أولاً: اهتمام مدرسة المدينة بالمواضيع الدينية كالسير والمغازي والتراجم , أما المدرستان الأخريان فكان اهتمامهما بالمواضيع الدنيوية, كأيام العرب والأنساب والحروب والقصص التاريخية.
ثانياً: اهتمام مدرسة المدينة بالإسناد على غرار دراسة الحديث, بينما اقتصرت المدرستان الأخريان على المتن دون السند غالباً.
ثالثاً: كانت مدرسة المدينة تعتمد تثبيت تاريخ الحوادث وتأكيده, بينما لا نجد هذا في مدرستي البصرة والكوفة إلا في الحروب والوقائع وأخيراً كان الاتجاه الإسلامي هو الغالب على مدرسة المدينة بينما غلب الاتجاه القبلي المحلي على المدرستين الأخيرتين)().
أما المدرسة الرابعة أعني مدرسة بغداد فقد كان (الطابع العالمي هو السائد على دراساتها... وذلك على أثر الازدهار الحضاري الذي رافق مختلف شؤون الحياة لدى العرب)().
إذن فالأمة الإسلامية لم تخل من رجال, ولم تخل من مدارس كانت تعتمد المنهج العلمي الرصين في دراساتها, لكن والحق يقال أن المنهج العلمي لم يعتمد في كل المدارس التاريخية أو في كل النقول التاريخية بدقة مما أدى إلى ما نراه من الروايات المضطربة والأخبار المبالغ فيها مدحاً أو ذماً وكذلك المكذوبة وما أكثرها.
وليت مدارس الكوفة والبصرة وبغداد تابعت مدرسة المدينة في إيرادها لأسانيد رواياتها التاريخية, فأعانتنا بذلك على التأكد من صحة تلك الروايات وخلصت تأريخنا من كثير من الروايات المكذوبة والمدسوسة فيه, للتشويش على سيرة بعض سلفنا الصالح ولتشويه تأريخ أمتنا بشكل عام.
ولا يعني هذا أن عدم إسناد تلك الروايات يسبغ عليها صفة القبول ويفيها من النظر فيها أو البحث عن صحتها ودرجتها فكثير منها يشهد أسلوبها ومضمونها بعدم صحتها لمخالفتها لواقع عصرها أو لصريح العقل أو لنص كتاب أو سنة صحيحة.
إذن فالنتيجة التي نخرج بها من هذا التمهيد هي: إن التزوير والتحريف وإعطاء المسائل أكبر من حجمها أو ما يسمى بالتضخيم إن صح التعبير كل ذلك قد وقع في التاريخ الإسلامي فلا بد لنا من التيقظ والحذر عند تناولنا لدراسة موضوع ما.
وأود أن أختم هذا التمهيد بذكر أصناف المزورين في التأريخ الإسلامي وهم:
أولاً: الزنادقة الذين حملهم على الوضع الاستخفاف بالدين والتلبيس على المسلمين.
ثانياً: أصحاب الأهواء والبدع وضعوا الأحاديث نصرة لمذاهبهم أو ثلباً لمخالفيهم.
ثالثاً: قوم اتخذوا الوضع صناعة وتسوقاً().
وكان بعضهم على درجة كبيرة من النظر البعيد فهم لا يأملون نتائج عاجلة لما يصنعون, فقد الخطيب البغدادي إن : (هارون الرشيد سأل أحد الزنادقة الشعوبيين في عصره قبل أن يضرب عنقه أمام الحاضرين: لماذا يتخذ الزنادقة خطتهم في البداية مع إتباعهم تعليمهم كراهية الصحابة y والطعن فيهم؟ فقال ذلك الزنديق: إنا نريد الطعن على الناقلة فإذا بطلت الناقلة أو شك أن يبطل المنقول)().
بعد كل ما تقدم نستطيع أن نقول ما قاله الدكتور محمود إسماعيل من انه (يتعين على الباحث المعاصر أن يعمل العقل في روايات السلف ويخضعها للمنهج النقدي... وان يتبع المنهج المقارن في استخلاص الحقيقة التاريخية من الروايات المتعددة المتباينة, وهو منهج احتذاه المحدثون القدامى فيما عرف " بالجرح والتعديل" وعملية التحقيق هذه لا تتم بمعزل عن الإلمام الكامل بحياة المؤرخين القدامى والوقوف على اتجاهاتهم الفكرية وأوضاعهم الطبقية التي تشكل المنظور التاريخي لكل منهم, وهي التي تترك بصماتها فيما يكتبون)().


أسباب اختلاف الصحابة y :
قبل الخوض في بيان أسباب اختلاف الصحابةy لابد لنا من معرفة أسباب الاختلاف بين الناس عموماً, فالصحابة يخضعون لما يخضع له الناس من مؤثرات تحدد ميولهم واتجاهاتهم فيما يعرض لهم في حياتهم, فإذا ما عرفنا هذه الأسباب سهل علينا الأمر في معرفة أسباب اختلاف الصحابةy .

أسباب الاختلاف بين الناس
منذ قديم الزمان والناس يختلفون على الحقائق, أو ما يعرض لهم من أمور كانوا يريدون أن يصلوا إلى كنهها, وقد أرجع العلماء هذه الاختلافات إلى أسباب عديدة نجمل أهمها فيما يلي:

أولاً: غموض الموضوع في ذاته
فإذا كان الموضوع غامضاً في ذاته, فإنه سيكون داعياً إلى تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر فيه , كل ينطبق من فهمه وتصوراته له, وربما أصاب كل واحد منهم جزء من الموضوع فيكون الحق في جميعها وليس في آحادها, وربما كانوا متفقين في آرائهم إلا أن أحدهم لم يفهم وجهة نظر الآخر فيصورهم هذا الجهل بنيات بعضهم بعضاً بصورة الخصماء وما هم بخصماء على الحقيقة ولذلك كان سقراط يقول: إذا عرف موضع النزاع بطل كل نزاع)().

ثانياً: اختلاف الرغبات والشهوات والأمزجة
خلق الله الإنسان وهو يسعى إلى أن يرضي نداء شهواته ورغباته ويجهد في أن يصور الحقائق متوافقة مع مزاجه ورغباته , وبما أن هذه الرغبات والشهوات مختلفة بين الناس بالضرورة لأنها تخضع لكل ما ألم به في حياته سواء كان في أسرته أو محيطه العام فإن حكمهم على الأشياء سيكون مختلفاً إذا ما أرادوا أن يرضوا رغباتهم وأمزجتهم.
بيد أن خضوع الإنسان لهذه الشهوات والرغبات والأمزجة وإن كان قاسماً مشتركاً بين الناس إلى حدٍ ما فانا لا نستطيع أن ندّعي أن الناس يخضعون لن بنفس المقدار, إذ أن فيهم من يستطيع أن يتجرد عن ميوله الخاصة إلى حد بعيد ما لم يكن لها صل بالحكم على حقائق الأشياء وفيهم من يكون خضوعه لها خضوعا شبه تام. وعلى هذا فلا أرى وجهاً لتعميم الشيخ محمد أبي زهرة حيث يقول: (فالرغبة إذن تستولي على مقياس الحسن والقبح في الأشياء والأفكار)().
فإطلاق القول هكذا بلا تقييد فيه ظلم للحقيقة وأهلها, نعم إن الرغبة قد تستولي على ذوي النفس الضعيفة والنظر القصير, لكنها تقف عاجزة أمام ذوي البصائر والعزائم الذين يقولون الحق وإن كان مراً. والذين يشهدون بالحق ولو على أنفسهم لأن الرغبة في جمع المال مثلاً لا تجعل السرقة حسنة حتى عند المجرمين.

ثالثاً: التعصب في تقليد السابقين:
ومن الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف الناس في حكمهم على الأشياء التعصب لآراء تلقوها عن السابقين اكتسبت بمرور الزمن قداسة كبيرة دفعتهم إلى تبني هذه الأفكار بأي ثمن حتى إن اضطرهم الأمر إلى اصطناع الحجج لكي يظهروا ما تعصبوا له بمظهر الحقيقة, فكان بعض المتعصبين لا يتورعون عن الكذب على رسول الله r من أجل نصرة مذاهبهم , وعن هؤلاء المتعصبين يقول ابن عراق الكناني: ( أصحاب الأهواء والبدع وضعوا أحاديث نصرة لمذاهبهم أو ثلباً لمخالفيهم , روى أبن أبي حاتم في مقدمة كتاب الجرح والتعديل عن شيخ من الخوارج أنه كان يقول بعد ما تاب: أنظروا عمن تأخذون فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرنا له حديثاً)().

رابعاً: اختلاف المدارك والقدرات العقلية:
يتميز كل إنسان عن غيره بمداركه الخاصة وقدراته التي يتسم بها, تبعاً لما وهب من فطنة وذكاء, وما مر به من تجارب في حياته فإذا اختلفت المدارك والقدرات التي هي وسائل الإنسان في حكمه على الأشياء فمن الطبيعي أن تأتي الأحكام مختلفة تبعاً لذلك التفاوت العقلي. فمن الناس من يكون إدراكه نافداً إلى حقيقة الأشياء ومنهم من يذهب به الوهم بعيداً فيعشو عن الحقيقة والصواب. وبالتالي يزيد من الاختلاف ويبعد عن الائتلاف. هذه جملة من الأسباب التي تؤدي إلى الاختلاف بين الناس في حكمهم على الأشياء تناولناها على وجه السرعة لتكون مدخلاً لدراسة أسباب الاختلاف بين الصحابة y .

أسباب اختلاف الصحابة y
بعد أن تعرفنا على الأسباب التي تؤدي إلى الاختلاف في وجهات النظر بين الناس في موضوع ما, أصبح الآن يسيراً علينا أن ندرس الأسباب التي أدت إلى اختلاف الصحابةy, ولكن قبل هذا علينا أن نعرف أنواع الاختلافات التي وقعت بين الصحابة y .
وجملة الاختلافات بين المسلمين أما أن تكون :-
اختلافاً في الأمور العقائدية.
أو في الأمور الفقهية.
أو في الأمور السياسية.
وقد وقع بين الصحابة y من هذه الاختلافات نوعان:-
الأول: اختلاف في الأمور الفقهية.
الثاني: اختلاف في الأمور السياسية.
أما الاختلاف في المسائل العقائدية فلم يقع بين الصحابة y منه شيء لأن الصحابة y (كانوا يكرهون البحث والجدل في الأمور العقائدية , ويرون أنه لا سبيل إلى تقرير شيء منها إلا بالوحي. بينما كانوا لا يتحرجون من النظر والاجتهاد في الشرائع العملية) () بل إن البحث في هذه الأمور _أي العقائدية- (بدأ يظهر في أواخر القرن الأول الهجري) () حيث لم يبق وجود لصحابة رسول الله r ورضي الله عنهم.
ولكل من النوعين السابقين من أنواع الاختلاف أسباب أدت إلى وقوعه بين الصحابةy .
فمن الأسباب التي أدت إلى وقوع الاختلافات الفقهية بين الصحابة y كما ذكر الشيخ عبدالوهاب خلاف() ما يلي:
اولاً: إن أكثر نصوص الحكام في القرآن والسنة الصحيحة ليست قطعية الدلالة على المراد منها,بل هي ظنية الدلالة في الغالب, وكما تحتمل أن تدل على معنى تحتمل أن تدل على معنى آخر بسبب أن في النص لفظاً مشتركاً لغة بين معنيين أو أكثر, أو أن فيه لفظاً عاماً يحتمل التخصيص , أو لفظاً مطلقاً يحتمل التقييد. فكل مشرع يفهم منه حسبما ترجح عنده من القرائن ووجهات النظر.
ثانياً: إن السنة النبوية لم يتم تدوينها في عهد الصحابة y , ولم يكن أحد من الصحابة y حافظاً للسنة كلها, مما كان يضطر بعضهم في كثير من الأحيان إلى أن يتراجع عن فتواه التي أفتى بها بعد أن علم من النصوص الواردة في المسألة ما لم يكن قد علمه من قبل, ولعل هذا السبب (أعني عدم تدوين السنة) كان وراء رد بعضهم لبعض الأخبار لاعتقاد السامع أن ما معه من نصوص في المسألة قد يكون ناسخاً لما مع الصحابي الآخر أو مخصصاً له أو غير ذلك ولا دخل للراوي نفسه من حيث العدالة كما توهم السايس حين قال: (إنهم كانوا يردون الحديث لضعف ثقتهم بالراوي)() , فلو كان الأمر كما قال رحمه الله لما قبل حديث من دره الصحابة y ولو مرة, ولما تجرأ علماء الجرح والتعديل على تعديل من جرحه الصحابة y .
ثالثاً: اختلاف البيئات التي يعيش فيها الصحابة y كان له الأثر الكبير في اختلاف الأحكام التي تصدر عنهم فما يطرأ لعبدالله بن عمر في المدينة غير ما يطرأ لمعاوية بن أبي سفيان في الشام وهو غير ما يطرأ لعبدالله بن مسعود في الكوفة, لأن الأحداث وليدة البيئة فيجب أن تكون الحلول ملائمة لها وفق ما تحتمله النصوص ويتطلبه النظر الصحيح.
رابعاً: لما كانت النصوص القرآنية والنصوص النبوية محدودة في حين إن مفردات الحياة غير متناهية فان ذلك اوجب على فقهاء الصحابة y أن يعملوا رأيهم في استنباط الأحكام الشرعية لهذه النصوص المتجددة . وكان لابد لهم من أن يختلفوا تبعا لقدراتهم العقلية ومواهبهم في استشفاف الأمور وحملها على مقتضى النصوص التشريعية الثابتة.
هذه هي جملة الأسباب التي أدت إلى اختلاف الصحابة y في الأمور الفقهية.
أما الأسباب التي أدت إلى الاختلافات السياسية بين الصحابة y فيمكن ردها إلى سببين:
سبب قريب: وهو محاولة معرفتهم من هو أحق بالخلافة.
وكانت بداية هذا الاختلاف عقب وفاة الرسول , فقد ظن الأنصار أنهم أولى بهذا الأمر من غيرهم, فقالوا نحن الذين آوينا ونصرنا وبنا اعز الله دينه فلا يكون هذا الأمر إلا فينا, وقال المهاجرون نحن السابقون الأولون أسلمنا ونحن قلة وتركنا المال والولد في سبيل نصرة الإسلام فنحن أحق به من غيرنا, ثم اختلف المهاجرون على أنفسهم فقال أغلبهم سوى بني هاشم إن الخلافة في قريش دون أن يخصوا بيتاً دون آخر ( لأنها قبيلة النبي e ولأنها أفضل القبائل ومن السهل أن يخضع لها جميع العرب إذ لو انتخب الخليفة من قبيلة أخرى لقامت القبائل ينافس بعضها بعضاً)().
بينما ذهب بنو هاشم إلى أن الخلافة لا تكون إلا فيهم لقرابتهم من رسول الله r .
السبب الثاني وهو السبب البعيد, وهو:
صحوة العصبية العربية, فقد جاء الإسلام والعرب تطحنهم حروب دامية تغذيها عصبية عمياء, فأباد الله هذه الحروب بأن أطفأ داعي العصبية وجعلها من عبية() الجاهلية ودعاهم إلى التمسك بشيء جديد لا يمت إليها بصلة على أساسه يكون التفاضل والتفاخر وهو تقوى الله سبحانه وتعالى, قال تعالى: } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {() فجعل تقوى الله تقوم مقام الاعتزاز بالآباء والأجداد والنسب العلي.
بل إن الرسول e اخرج من يدعو إلى عصبية عن حظيرة الإيمان , فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r : ( من قاتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو يغضب لعصبية فقتلته جاهلية)().
فاختفت هذه العصبية طوال عهد رسول الله r وأبي بكر وعمر وشطراً من خلافة عثمان, فلما قُتل t نشطت هذه العصبية من جديد ودبت الحياة فيها().
ويبدو أن سبب حياة هذه العصبية بعد رقادها هو أن الجيل الجديد الذي نشأ بعد الصحابةy كانت لديهم أطماع سياسية كبيرة, ولم يكن من السهل أن يرضخوا لسلطان خليفة ما, فكان كثير منهم يرى أنه جدير بالخلافة, وأن ليس فيه من الغضاضة ما يجعله يخرج من الساحة معلناً ولاءه لمن يختاره المسلمون, وكان لكل واحد من هؤلاء أتباع كثيرون يدفعونه إلى ذلك فكان أن اجتمعت في نفوسهم الرغبة وتأييد الناس, مما أدى إلى ظهور العصبية من جديد.
وهناك سبب آخر يمكن إضافته وهو محاولتهم معرفة طبيعة الحكم وشروط الخلافة بعد رسول الله r .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:36 am

وقف علماء الأمة من اختلاف الصحابة y
يختلف موقف العلماء إزاء اختلافات الصحابة y بتنوع هذه الاختلافات تبعاً للفائدة المتوخاة من تلك الاختلافات.

أولاً: موقفهم من الاختلافات الفقهية:-
أجمع المسلمون على أن قول الصحابي في المسائل التي لا مجال فيها للاجتهاد حجة لأنه محمول على السماع من النبي e وكذلك اتفقوا على الأخذ بقول الصحابي إذا شاع ولم يعرف له مخالف. لأنه من باب الإجماع السكوتي(). وليس هذا محل كلامنا, إنما نحن بصدد التعرف إلى موقف العلماء من اختلافات الصحابة y فيما بينهم في المسائل الفقهية.
فقد ذهب الإمام مالك وأحمد في أحد قوليه والشافعي في قوله القديم وأكثر الحنفية إلى اعتبار قول الصحابي حجة مقدمة على القياس.
بينما ذهبت الظاهرية والإمامية وأكثر الزيدية وأحمد في أحد قوليه والشافعي في الجديد من أقواله إلى عدم اعتبار مذهب الصحابي حجة().
وما نسب إلى الإمام الشافعي والإمام أحمد من عدم اعتبار قول الصحابي حجة لا يثبت أمام النقد كما ذكر الدكتور هاشم جميل إذ قال: ( لكني رأيت في كتاب الأم للشافعي وهو الحاوي على مذهبه الجديد أن الشافعي يحتج بمذهب الصحابي الذي لا يعرف له مخالف, وعند اختلاف أقوالهم يأخذ منها )
ثم يعمم المسألة على الأئمة الأربعة فيقول: ( فان الذي يبدو لي أن الغالب على الأئمة الأربعة هو عدم الخروج على أقوال الصحابة y, فهم لا يخرجون عنها إلا نادراً)().
أما ابن حزم فمع أنه(يعد الأخذ بقول الصحابي من غير حجة من السنة النبوية تقليداً غير جائز في دين الله تعالى... نجده كثير الذكر لأقوال الصحابة y بل إن كتبه الفقهية سواء كانت في الفروع أم كانت في الأصول تزخر بأقوال الصحابةy, وإذا قلنا إنها تشتمل على اكبر مجموعة تحوي أقوال الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عنهم لم نكن مبالغين)().
اذن فجمهور العلماء يرون أن أقوال الصحابة y سنة متبعة, وأن أقوالهم ليست كأقوال سواهم لقربهم من عهد التنزيل وتورعهم من التقول بالباطل في دين الله تعالى.


ثانياً: موقفهم من الاختلافات السياسية:
ولعلمائنا موقف نبيل تجاه الاختلافات السياسية التي وقعت بين الصحابة y والتي أدت إلى سفك دماء بعضهم بعضاً, فقد صرح كثير من أئمة العلم بأن المسلم الحق يتحتم عليه أن يكف يده ولسانه وخواطر قلبه عما وقع بينهم من الاختلافات.
قال ابن حجر الهيتمي: (صرح أئمتنا وغيرهم في الأصول بأنه يجب الإمساك عما جرى بين الصحابة)().
وليس معنى هذا أن نغفل كل اختلاف وقع بين الصحابة y, بل المقصود أن لا نتخذ تلك الخلافات سلماً يرتقي عليه من يريد أن يطعن في الصحابة y(). وقد ذكر عن الشافعي أنه قال: (أخذت أحكام البغاة والخوارج من مقاتلة على لأهل الجمل وصفين وللخوارج)().
فمن يذكر شيئاً مما وقع بينهم ليستخرج حكماً شرعياً ليس كمن يذكره ليستدل به على عيب من وقع له ذلك وصولاً إلى إسقاط ولايته وإغواء العوام على سبهم وثلبهم متوسلين إلى ذلك بما وجدوه من روايات مكذوبة أو مبالغ فيها.
فليس من مصلحتنا أن نبحث عن الهفوات والعورات في تأريخنا فنكون كالتي نكثت غزلها بعد أن أحكمته. بل إن مصلحتنا تقضي( أن نحاول استقصاء الحكم والعبر لا أن ننصب أنفسنا قضاة وسلاطين ونجرح هذا ونقدح هذا ولسنا خيراً منهم ولا مثلهم كما لسنا مسئولين عما كانوا يفعلون)().
قال الله تعالى: } تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {() فالله حسبهم ومولاهم وهو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.




الآثار الناجمة عن اختلاف الصحابة y :
لقد كان للاختلافات التي وقعت بين الصحابة y نتائج وآثار لمستها الأجيال اللاحقة ويمكن القول: إن الآثار الناجمة من الاختلافات الفقهية كانت آثاراً ايجابية جلبت الخير للمسلمين, وأما الآثار التي نجمت عن الخلافات السياسية فهي وإن لم تخل من جوانب ايجابية إلا أنها شكلت نواة وأساساً لانقسامات شهدتها الأمة الإسلامية ولا زالت. ويمكن إجمال هذه النتائج بما يلي:
أولاً: تمخض عنها شرح قانوني لنصوص الأحكام من الكتاب والسنة, فبحكم صحبتهم لرسول الله r ومعاصرتهم لعهد التنزيل وتمكنهم البارع في اللغة , استطاع الصحابة y أن يقدموا للأجيال اللاحقة نموذجاً لنصوص الكتاب والسنة وفي كيفية تطبيقها على مفردات حياتهم المستجدة, فكانت تفسيراتهم تلك تعد (أوثق مرجع لتفسيرها وبيان إجمالها ووجوه تطبيقها)().
ثانياً: نتج عنها ثروة فقهية كبيرة يستطيع الفقهاء من خلالها أن يتحركوا ضمن دائرة أوسع , لكي يواكبوا حركة الحياة, فيختار الفقيه منها ما يلائم مستجدات الحياة. وتتميز فتاوى الصحابة y هذه – لاسيما التي صدرت أبان الخلافة الراشدة- بكونها تستند إلى قاعدة جماهيرية كبيرة من الصحابة y.لأنهم كثيراً ما كانوا يجتمعون لتقرير حكم شرعي في مسألة ما. مما يعطي هذا الحكم الصادر قوة كبيرة, لأنه يمثل إجماع غالبية الصحابة .
وقد كان كثير من المحدثين ينظرون إلى آراء الصحابة y وفتاواهم على أنها جزء من السنة النبوية, فكانوا لا يتحرجون من (أن يدونوا فتاوى الصحابة y في مختلف أبواب الأحكام مع السنة)().
ثالثاً: والنتيجة الثالثة الناجمة عن اختلاف الصحابة y هي (انقسام الأمة انقساماً بدأ سياسياً بشأن الخلافة والخليفة, وانقلب دينياً ذا أثر خطير في التشريع, وذلك أنه بعد أن قتل عثمان بن عفان t وبويع بالخلافة لعلي بن أبي طالب t ونازعه() عليها معاوية بن أبي سفيان واشتعلت الحرب بين الفريقين وانتهت إلى تحكيم الحكمين الذي نتج عنه انقسام المسلمين إلى أحزاب ثلاثة, الخوارج والشيعة وأهل السنة والجماعة , وهم جمهور الأمة)().
وقد استفاد الفقهاء من هذه الخلافات والانقسامات فوائد عدة, ويأتي في طليعتها استنباط أحكام البغاة وقتال المرتدين والمخالفين وما إلى ذلك من أحكام.




الباب الثاني
مكانة الصحابة عند المسلمين

الفصل الأول

مكانة الصحابة عنـــد
الشيعة الإمامية



تعريف عام بالشيعة
الشيعة لغة : الأتباع والأنصار(), واصطلاحاً: هم الذين شايعوا عليا ًt على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته, نصاً ووصيةً أما جلياً أو خفياً واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من ولده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره, أو تقيةً من عنده().
وقد نشأ ما يمكن أن يسمى بالبذور الأولى للشيعة بعد وفاة رسول الله r حيث رأى بعض الصحابةy أن علياً أولى بالخلافة من غيره بسبب قرابته من رسول الله r , ومن هؤلاء جابر بن عبدالله الأنصاري وحذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري رضي الله عنهم.
غير إن هذه الفكرة كانت بسيطة للغاية (وتتلخص في انه لا نص على الخليفة, فترك الأمر لإعمال الرأي, فالأنصار كان رأيهم أنهم أولى بها, والمهاجرون كذلك وأصحاب علي() إلى أن الخلافة ميراث, ولم يرد من طريق صحيح أن علياً ذكر نصاً من آية أو حديث يفيد أن رسول الله r عينه للخلافة)().
ولم يستمر التشيع على هذا المنوال, فقد تطور إلى ما هو عليه الآن من القول بتعيين الإمام والقول بالرجعة وعصمة الأئمة والقول بالولاء لهم والبراءة من غيرهم وغير ذلك مما هم عليه اليوم.
ويمكن إرجاع هذا التطور المفاجئ في ظاهرة التشيع إلى سببين رئيسين:
أولهما: تعاطف الناس مع أهل البيت بسبب قرابتهم من رسول الله r وبسبب ما لحقهم من جراء مطالبتهم بالخلافة.
وثانيهما: تظاهر كثير من الساخطين على الإسلام بالدخول فيه بعدما زالت دولهم رغبة في التشكيك فيه والكيد لأهله. يقول المقريزي: (كان الفرس في سعة من الملك وعلو اليد, وكانوا يعدون العرب أقل الأمم خطراً فلما زالت دولة الفرس على يد العرب تعاظم لديهم الأمر وتضاعفت المصيبة وراموا الكيد للإسلام, فرأوا أن الكيد له بالحيلة أنجع فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل البيت واستبشاع ظلم علي ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى().
ويرى بعض الباحثين أن لليهود نصيباً وافراً في نشر المبادئ الغالية في صفوف المسلمين وخاصة أهل التشيع, فادعوا أن عبدالله بن سبأ كان من اليهود ثم أسلم وأصبح من دعاة التشيع وأنه أشاع القول في زمانه : (إن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة, ويتعين القائم بتعيينها, بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام, ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم. ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر, وأن علياً t هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه)().
غير إن كثيراً من علماء الإمامية ســيما المعاصرين منهم يرون أن هذا محض ادعاء لا تؤيده البراهين. فقد ذهب مرتضى العسكري إلى أن ابن سبأ ما هو إلا أسطورة ابتدعها سيف بن عمر(). وأنه لم يكن له وجود في الحقيقة وإنما اختلق من أجل تشويه أصالة المذهب الإمامي().
ويمكن القول أن مما أدى إلى تطور التشيع كذلك هو أن الذين دخلوا في الإسلام من أصحاب الديانات السابقة حتى وإن كانوا مخلصين في إسلامهم لم يستطيعوا أن يتجردوا من معتقداتهم القديمة تماما, فنقلوا كثيراً من المفاهيم التي كانت سائدة لديهم إلى الإسلام, وبمرور الزمن اكتسبت تلك المفاهيم قداسة في نظر معتنقيها وأصبحت في نظرهم جزءاً لا يتجزأ من الإسلام , مثل نظرية الحق الآلهي التي كانت سائدة عند الفرس.
قال الأستاذ أحمد أمين: (ومما كان يتصل بعقائد الفرس وكان له أثر في بعض المسلمين, أنهم كانوا ينظرون إلى ملوكهم كأنهم كائنات آلهية, اصطفاهم الله للحكم بين الناس وخصهم بالسيادة وأيدهم بروح من عنده لفهم ظل الله في أرضه أقامهم على مصالح عباده وليس للناس قبلهم حقوق, وللملوك على الناس السمع والطاعة)().
وقال بروكلمان(): ( إن التشيع الذي بدأ أول ما بدأ حزباً سلالياً خالصاً انضوى تحت لوائه أكثر الذين دخلوا الإسلام بقصد المناضلة ضد السيادة العربية وكان في كثير من الأحيان يستخدمه الانتهازيون الذين لا ذمة فيهم ولا ذمام لتحقيق أهدافهم الأنانية الصرفة المناهضة للحومة)().

أهم فرق الشيعة
اختلف العلماء في تصنيف فرق الشيعة إلى مذاهب شتى, فقد ذكر الشهرستاني()أن الشيعة خمس فرق: الكيسانية والزيدية والإمامية والغلاة والإسماعيلية وتحت كل فرقة فرق عديدة يصل مجموعها زهاء الثمانين فرقة.
في حين عدهم أبو الحسن الأشعري() ثلاثة أصناف وهم : الغالية والرافضة والزيدية, بينما صنفهم محمود شكري الآلوسي() في مختصر التحفة إلى أربعة فرق وهم: الشيعة الأولى أو الشيعة المخلصون والشيعة التفضيلية والشيعة السبئية والشيعة الغلاة.
ويبدو لي أن هذه التقسيمات فيها كثير من المطاطية وعدم الانضباط لأنها لم تعتمد على أسس ثابتة, حيث أصبح أسم الشيعة فضفاضاً يدخل فيه الأتقياء من الصحابةy والتابعين فيسمون شيعة, ويدخل فيه المارقون عن الإسلام ويسمون شيعة أيضاً , وفي هذا حيف كبير للحقيقة وطلابها. لذا أرى أن يخرج من صفوف الشيعة الصحابةy الذين رأوا أن علياً أحق بالخلافة من غيره, لأنهم حينما رأوا رأيهم هذا لم يخطر بالهم شي مما أصبح فيا بعد من ضرورات التشيع.
وبهذا يمكن تقسيم الشيعة إلى ثلاث فرق رئيسة:-
الفرقة الأولى: الشيعة التفضيلية: وهم الذين يفضلون علياً tعلى سائر إخوانه من الصحابة الكرام y من دون أن ينتقصوا أحداً منهم كالزيدية ومن سار سيرتهم.
الفرقة الثانية: الشيعة التبرئية, وهم الذين يتولون علياً وبنيه من غير تأليه لهم ويتبرءون ممن سواهم وتمثلهم الإمامية الاثنا عشرية ومن وافقها.
الفرقة الثالثة: الشيعة الغلاة, وهم الذين ارتفعوا بالأئمة إلى مرتبة الألوهية وهم الاسماعيليون ومن سار على منوالهم من فرق الباطنية.
وتجتمع فرق الشيعة على نقاط معينة لا يحولون عنها يمكن إجمالها فيما يلي():
أولاً : القول بوجوب التعيين والتنصيص في الإمامة.
ثانياً: القول بعصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الصغائر والكبائر ويخالفهم في هذا الزيدية.
ثالثاً: القول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً وعقداً إلا في حال التقية وتخالفهم الزيدية في هذه الفقرة أيضاً.
وهذه النقاط التي ذكرناها تمثل الأصول المذهبية لدى الشيعة, فكل من لا يقول بإحدى هذه العقائد خارج من دائرة التشيع.
وعلى هذا الأساس سنتحدث عن مكانة الصحابة y لدى ثلاث من فرق الشيعة المعاصرة في ثلاثة فصل تمثل كل فرقة منها اتجاهاً معيناً.

مكانة الصحابة y عند الشيعة الإمامية
لابد لنا قبل أن نعرف نظرة الشيعة الإمامية إلى الصحابة y أن نلم إلمامة بسيطة بمصطلح "الشيعة الإمامية" .
يقول الشهرستاني في تعريف الشيعة الإمامية : (هم القائلون بإمامة علي t بعد النبي e نصًا ظاهراً وتعييناً صادقاً من غير تعريض بالوصف, بل أشار إليه بالعين )() وعلى هذا فكل من لم ير التعيين قد ثبت بالنص فهو ليس إمامياً.
وقد قسم أبو المظفر الاسفراييني() الشيعة الإمامية إلى خمس عشرة فرقة وهم:
الكاملية(), المحمدية() , الباقرية(), الناووسية(), الشمطية(), العمارية(), الاسماعيلية(), الموسوية(), المباركية(), القطعية(), الهشامية() أو الحكمية, الهشامية() (أو الجواليقية), الزرارية(), اليونسية(), الشيطانية().
بيد أن هذا المصطلح قد اقتصر بمرور الزمن على فرقتين بارزتين من تلك الفرق وهما الإمامية القطعية "الاثنا عشرية" والإمامية الإسماعيلية().
ثم أخذت الإسماعيلية تستقل شيئاً فشيئاً في عقائدها وتصوراتها فلم تعد شعبة من شعبتي الإمامية , وأصبحت الساحة خالية للشيعة الأثني عشرية وأصبح أسم الإمامية علماً عليها كما يقوله المرحوم محمود شكري الآلوسي في تعريفه للشيعة الاثني عشرية: (وهذه هي المتبادرة عند الاطلاق في لفظ الإمامية وهم القائلون بإمامة علي الرضا بعد أبيه موسى الكاظم, ثم بإمامة ابنه محمد التقي المعروف بالجواد ثم بإمامة ابنه على التقي المعروف بالهادي , ثم بإمامة ابنه الحسن العسكري ثم بإمامة محمد المهدي معتقدين المهدي المنتظر)().
لذا فإننا عندما نتحدث عن مكانة الصحابةy لدى الشيعة الإمامية فإننا نعني بهم الشيعة الاثني عشرية لأنهم يمثلون الأغلبية الساحقة من الشيعة الموجودين في العالم الإسلامي اليوم.
وسنحاول أن نكون موضوعيين قدر الاستطاعة في إبراز موقفهم إزاء الصحابةy غير متحاملين ولا مجاملين ودون أن نعطي الأمور أبعاداً أكبر من حقيقتها, وفي سبيل الوصول إلى الغاية النبيلة اجتهدت إلا أنقل أي نص يصور نظرتهم للصحابة إلا من خلال كتبهم المعتمدة لديهم مهما كانت ثقتي عالية في أمانة من يحاول أن يظهر لنا حقيقة اعتقادهم في الصحابة y, ذلك لأن علماءهم أدرى بحقيقة ما اشتمل عليه مذهبهم بهذا الخصوص ولأن شهادتهم على أنفسهم أبلغ من شهادة غيرهم عليهم.
وسيكون بحثنا دائراً حول محورين, أولهما إبراز حقيقة نظرتهم إلى الصحابةy. وثانيهما: إبراز مغالاتهم في علي وبنيه رضي الله عنهم لأنه حيثما كان إفراط في مسألة ما قابله تفريط في نفس الحدة والمستوى.

أولاً: نظرتهم إلى الصحابة y :
لقد ورد في كتابات بعض الإمامية عبارات فيها قدح كبير لصحابة رسول الله r وهذه الكتابات لا تمثل السواد الأعظم من الإمامية فهم إن لم يتولوا جميع الصحابة y فقد توقفوا في أمرهم وأوكلوهم إلى الله. لذا يجب التذكير إننا عندما نذكر تلك التهم التي كالها بعض المتطرفين من الإمامية لا نريد من ورائها التشنيع والحكم على المذهب الإمامي من خلال تلك الكتابات التي لا تمثل الخط العام الذي يسار عليه, وانما نذكرها من باب الحقيقة التاريخية ومن أجل أن ينقى المذهب الإمامي ليعود إلى صفائه لكي لا يحسب أصحاب الأهواء والضلال عليهم.
ويمكن إبراز التهم التي ذكرها المتطرفون كما يلي:
اتهامهم بالارتداد عن دين الله.
لم يتورع هؤلاء المتطرفون عن توجيه تهمة الارتداد عن دين الله إلى الرعيل الأول من المسلمين من أجل أن يقطعوا صلة الأمة بنبيها r ولكي تبقى الأمة الإسلامية معلقة بلا جذور تشدها وتربط جأشها. ومن أجل أن يعمقوا الهوة بين الإمامية وبقية أخوانهم من المسلمين, سجلوا تلك التهم في كتب المسلمين ونسبوها إلى أفذاذ الأمة من علي وبنيه رضي الله عنهم.
فقد ادعوا أن سليم بن قيس الهلالي وهو من أصحاب علي رضي الله عنه قد ألف كتاباً بخصوص ما دار بين علي وبقية الصحابة y ونسوا أنه لم يكن ثمة تأليف في ذلك الزمان, أو على الأقل لم يصل إلى الأمة شيء من كتابات ذلك العصر, ومن أجل أن لا يشك أحد في مضمون هذا الكتاب المزيف نسبوا إلى الإمام جعفر الصادق أنه قال فيه: (من لم يكن معه من شيعتنا ومحبينا كتاب سليم بن قيس الهلالي فليس عنده من أمرنا شيء ولا يعلم من أسبابنا شيئاً وهو أبجد الشيعة وهو سر من أسرار آل محمد r)().
وأنا أجزم أن الإمام جعفراً الصادق لم يطلع على هذا الكتاب ولو أطلع عليه لأحرقه بالنار, لأنه يصور صحابة رسول الله r ورضي الله عنهم وكأنهم وحوش في غاب يتقاتلون على الخلافة ويقذف بعضهم بعضاً بعبارات لا تخرج من أفواه العامة من الناس فكيف بتلامذة رسول الله r وهم الذين علموا الدنيا مكارم الأخلاق.
ذكر هؤلاء المدسوسون في هذا الكتاب: (أن الصحابة قد ارتدوا بعد رسول الله r غير أربعة(), وأن الناس صاروا بعد رسول الله r بمنزلة هارون ومن تبعه ومنزلة العجل ومن تبعه, فعلي في شبه هارون , وعتيق في شبه العجل وعمر في شبه السامري)() ثم عمدوا إلى آيات من القرآن نزلت في مشركي قريش وكفارها فادعوا أنها نزلت في كبار الصحابةy.
ففسروا قوله تعالى: } وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأََمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ { ()على النحو التالي:
(وقوله : (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) يعني أمير المؤمنين عليا. (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) الأول والثاني والثالث)() يعني أبا بكر وعمر وعثمان.
أما قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً{() وقوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ { () قالوا في تفسيرها أن أبا عبدالله جعفراً قال- وهم كاذبون في ادعائهم هذا- نزلت في فلان وفلان وفلان ( يعني أبا بكر وعمر وعثمان) آمنوا بالنبي e في أول الأمر وفروا حين عرضت عليهم الولاية, حين قال رسول الله r : من كنت مولاه فهذا علي مولاه, ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام ثم كفروا حين مضى رسول الله r فلم يقروا له بالبيعة ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم فهؤلاء لم يبق لهم من الإيمان شي)().
ولم يكتف المبطلون بهذا القدر من التهم بل ادعوا أن الصحابة y كان يكفر بعضهم بعضاً. فقد ورد في رجال الكشي: ( أن محمد بن أبي زكريا بايع عليا عليه السلام على البراءة من أبيه)().
وأنه قال لعلي رضي الله عنه: (أشهد أنك إمام مفترض وأن أبي في النار)().
ويقول في موضع آخر من كتابه آنف الذكر في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (ما أهريق في الإسلام محجة من دم ولا اكتسب مال من غير حله ولا نح فرج حرام إلا ذلك في أعناقهما إلى يوم يقوم قائمنا ونحن معاشر بني هاشم نأمر صغارنا بسبهما والبراءة منهما)().
وقد رفض علماء الإمامية هذه التهمة الشنيعة فقال الشيخ عبدالحسين شرف الدين الموسويSad نعوذ بالله من تكفير المؤمنين, والله المستعان على كل معتدٍ أثيم, كيف يجوز على الشيعة أن تكفر أهل الشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج والإيمان باليوم الآخر)().

2- اتهامهم بتحريق القرآن .
يدين عامة المسلمين بأن القرآن الكريم كتاب الله الأخير أنزله لهداية الناس – وإخراجهم من الظلمات إلى النور وأن هذا الكتاب لن يتغير ولن يتبدل مهما امتد به الأمد واشتدت الظروف وما ذلك إلا لأن الله تكفل بحفظه, قال تعالى: } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{() و قال تعالى: } إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَه = 17 فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ = 18 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ{() و قال تعالى: } لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ{() فعدم الإيمان بحفظ القرآن وصيانته يجر إلى إنكار القرآن جملة وتفصيلاً لأن ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال. ولقد جرى عامة المسلمين على هذا الاعتقاد لأن الحياد عنه حياد عن الإسلام وقد فهم الذين يريدون الكيد لهذا الدين هذه الحقيقة جيداً فصور لهم الشيطان أنه لابد من تشكيك المسلمين بقرآنهم ودس ذلك في كتبهم واستطاعوا بالفعل أن يوصلوا بعض سمومهم إلى بعض كتب الإمامية موهمين الناس أن ذلك هو جوهر مذهب الإمامية من الشيعة وأنه عين ما كان عليه سلف الأمة من أهل البيت. وفي الحقيقة فان هذه السموم لاوجود لها في صفوف الأمة قديماً وحديثاً والحمد لله على ذلك.
وسنذكر شيئاً من هذه النصوص لا على أساس أنها تمثل عقيدة الإمامية بل هي سموم وردت إليهم ممن باعوا أنفسهم للشيطان وجنده. يقول الكليني: (عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله() أنه قال: إن القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية)().
ومعنى هذا القول أن القرآن الكريم قد فقد ثلثاه ويدل على ذلك رواية الكافي أيضاً إذ يقول: (عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبدالله عليه السلام فقلت جعلت فداك إني أسالك عن مسألة, أههنا أحد يسمع كلامي؟ قال فرفع أبو عبدالله ستراً بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ثم قال: سل عما بدا لك, قال: قلت ان شيعتك يتحدثون أن رسول الله r علم عليا بابا يفتح منه الف باب؟ قال فقال: علم رسول الله r علياً ألف باب يفتح كل باب ألف باب, قال: قلت هذا والله العلم قال فنكت ساعة في الأرض ثم قال: انه لعلم وما هو بذاك, قال يا أبا محمد وان عندنا الجامعة, وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت جعلت فداك وما الجامعة؟ قال صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله r وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الارش في الخدش وضرب بيده الي, فقال لي: تأذن يا أبا محمد؟ قال: قلت جعلت فداك إنما إنا لك فاصنع ما شئت, قال: فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا, كأنه مغضب, قال قلت هذا والله العلم, قال: انه لعلم وليس بذاك, ثم سكت ساعة ثم قال: وان عندنا الجفر؟ وما يدريهم ما الجفر؟ قال: قلت ما الجفر؟ قال دعاء من ادم فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل, قال قلت إن هذا هو العلم قال انه لعلم وليس بذاك, ثم سكت ساعة ثم قال: وان عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟ قال: قلت وما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه حرف واحد من قرآنكم)().
وقال محمد بن الحسن الصفار: ( حدثنا علي بن محمد عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود عن يحيى بن اديم عن شريك عن جابر قال: قال أبو جعفر دعا رسول الله r أصحابه بمنى فقال: يا أيها الناس إني تارك فيكم حرمات كتاب الله وعترتي والكعبة البيت الحرام ثم قال أبو جعفر: أما كتاب الله فحرفوا وأما الكعبة فهدموا وأما العترة فقتلوا)().
ثم يأتي الطبرسي فينقل ما يسهم في تعميق الهوة بين المسلمين فيقول: (وفي رواية أبي ذر أنه لما توفي رسول الله r جمع عليّ القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم لما قد أمره بذلك رسول الله r فلما فتحه أبو بكر خرج من أول صفحة فتحها فضائح القوم فوثب عمر وقال يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه فأخذه علي عليه السلام وانصرف ثم احضر زيد بن ثابت وكان قارئاً للقران فقال له عمر: إن علياً جاءنا بالقران وفيه فضائح المهاجرين والأنصار وقد رأينا أن نؤلف القرآن ونسقط منه ما كان فيه من فضيحة وهتك المهاجرين والأنصار فأجابه زيد إلى ذلك ثم قال فإن إنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علي القرآن الذي ألفه أليس قد بطل كل مل عملتم؟ قال عمر: فما الحيلة ؟ قال زيد: أنت أعلم بالحيلة, فقال عمر: ما حيلة دون أن نقتله ونستريح منه فدبر في قتله على يد خالد بن الوليد فلم يقدر على ذلك- فلما استخلف عمر سألوا علياً عليه السلام أن يرفع إليهم القرآن فيحرفوه فيما بينهم, فقال عمر: يا أبا الحسن إن جئت بالقران الذي كنت جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه, فقال: هيهات ليس إلى ذلك سبيل, إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم ولا تقولوا يوم القيامة (إنا كنا عن هذا غافلين) أو تقولوا ما جئتنا به إن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي, فقال عمر: فهل وقت لإظهاره معلوم؟ فقال عليه السلام: نعم إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه)().
ثم جاء النوري الطبرسي ليجمع كل جهود أولئك المبطلين في كتاب مستقل من أجل تحريف المذهب الشيعي فألف كتابه " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" واستقصى فيه البحث عن الروايات والنصوص الدالة على وقوع التحريف. فقال ناقلاً عن نعمة الله الجزائري: (إن الأخبار الدالة على ذلك- أي تحريف القرآن- تزيد على ألفي حديث وادعى استفاضتها جماعة كالمفيد والمحقق الدماد والمجلسي وغيرهم)().
وأخيراً جاء من يسمي نفسه الموجه الأعلى للثورة الإسلامية في إيران الخميني فردد نفس كلمات أولئك المتطرفين فقال: (إن تهمة التحريف التي يوجهها المسلمون إلى اليهود والنصارى إنما تثبت على الصحابة)().
وقال في موضع آخر: ( لقد كان سهلاً عليهم- أي الصحابة y- أن يخرجوا هذه الآيات من القرآن ويتناولوا الكتاب السماوي بتحريفه ويسدلوا الستار على القرآن ويغيبوه عن أعين العالمين)().
ولابد من الإشارة بعد ذكر تلك النصوص الدالة على وقوع التحريف إلى أن كثيراً من علماء الإمامية تصدوا لأولئك المغرضين فبينوا عقيدة الإمامية الحقة في القرآن الكريم, منهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ محمد رضا المظفر الذي ألف كتابه "عقائد الإمامية" بين فيه عقائدهم في القرآن وصحابة رسول الله r وكذلك فعل الشيخ عبدالحسين شرف الدين الموسوي في كتابه "الفصول المهمة في تأليف الأمة" وكتابه " أجوبة مسائل جار الله" فقال فيمن نسب التحريف إلى الشيعة: (نعوذ بالله من هذا القول ونبرأ إلى تعالى من هذا الجهل وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفترٍ علينا فان القرآن العظيم والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته تواتراً قطعياً عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام لا يرتاب في ذلك إلا معتوه)().

أمثلة من التحريف المُدّعى
ما رواه أحمد بن علي الطبرسي في "الاحتجاج" أن رجلاً من الزنادقة سأل عن علي بن أبي طالب أسئلة فقال في جوابه مفسراً بعض الآيات: إنهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله ليلبسوا على الخليفة وأزادوا فيه ما ظهر تناكره وتنافره, ثم قال: وأما ظهورك على تناكر قوله(فان خفتم إلا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...) فهو مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن, وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن)().
ذكر الكليني في الكافي:0عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عز وجل(ومن يطع الله ورسوله في ولاية علي والأئمة من بعده فقد فاز فوزاً عظيماً) هكذا نزلت)().
ويذكر علي بن إبراهيم القمي في مقدمة تفسيره: (أنه طرأ على القرآن تغيير وتحريف ويقول:وأما ما كان خلاف ما أنزل الله فهو قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) فقال أبو عبدالله عليه السلام لقارئ الآية: خير أمة تقتلون أمير المؤمنين والحسين بن علي؟ فقيل له: فكيف نزلت يابن بنت رسول الله r ؟ فقال: نزلت كنتم خير أئمة خرجت للناس)().
أما النوري الطبرسي فقد عقد باباً كاملاً ضمن كتابه الموسوم" فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" جمع فيه كل شاردة وواردة يستشهد بها على وقوع التحريف والتبديل. فقد جمع في هذا الباب- وهو الباب الحادي عشر الفاً واثنين ستين حديثاً كلها تشهد بوقوع التحريف وسنذكر بعضاً منها على سبيل الاستشهاد:-
ذكر الطبرسي: (عن علي بن إبراهيم في تفسيره قال: قال العالم لما نزل آل إبراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين فأسقطوا آل محمد من الكتاب)().
وأخرج الطبرسي ( عن جابر قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام يا جابر لو يعلم الجهال متى سمي أمير المؤمنين علي عليه السلام لم ينكروا حقه, قال: قلت جعلت فداك متى سمي فقال لي: قوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهد على أنفسهم ألست بربكم وأن محمدا رسولي وأن عليا أمير المؤمنين قال ثم قال لي : يا جابر هكذا والله جاء بها محمد صلى الله عليه وآله)().
وفوق هذا يدعي المتطرفون أن هناك سوراً بكاملها تواطأ على حذفها صحابة رسول الله r مثل سورة الولاية أو سورة النورين, وقد أثبتهما الطبرسي في كتابه سالف الذكر وكذلك أثبتهما محسن فاني الكشميري في كتابه (دبستان مذاهب) واليك نص هذه السورة المزعومة من كتاب فصل الخطاب.
(بسم الله الرحمن الرحيم. يآيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين الذين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم الدين. نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم. إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات الله لهم جنات النعيم.والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا الوصي الرسول أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء لا اله إلا هو الرحمن الرحيم. قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذناهم بمكرهم إن اخذي اليم شديد.إن الله أهلك عادا وثمود بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة أفلا تتقون وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون وأغرقناه ومن تبعه أجمعين ليكون لكم آية وأن أكثركم فاسقون. إن الله يجمعهم يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسئلون. إن الجحيم مأواهم وان الله عليم حكيم. يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون. قد خسر الذين كانوا من آياتي وحكمي معرضون. مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم. ان الله لذو مغفرة وأجر عظيم. ان عليا لمن المتقين وإنا لنوفيه حقه يوم الدين. وما نحن عن ظلمه بغافلين. وكرمناه على أهلك أجمعين. فانه وذريته لصابرون. وان عدوهم إمام المجرمين. قل للذين كفروا بعدما آمنوا طلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الامثال لعلكم تهتدون. يا أيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات بينات فيها من يوفاه مؤمناً ومن بتولية من بعدك يظهرون. فأعرض عنهم انهم معرضون. انا لهم لمحضرون في يوم لا يغني عنهم شيء ولا هم يرحمون.ان لهم في جهنم مقاماً عنه لا يعدلون. فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا على هارون فصبر جميل. فجعلنا منهم القردة والخنازير ولعناهم إلى يوم يبعثون. فصبر فسف يبصرون. ولقد آتيناك الحكم كالذين من المرسلين وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون. ومن يتولى عن أمري فاني مرجعه فليتمتعوا بكفرهم قليلاً فلا تسأل عن الناكثين. يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهداً فخذه وكن من الشاكرين. ان عليا قانتاً بالليل ساجداً يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون. سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون.انا بشرناك بذريته الصالحين وانهم لأمرنا لا يخلفون. فعليهم مني صلوات ورحمة احياءً وأمواتاً يوم يبعثون وعلى الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي انهم قوم سوء خاسرون وعلى الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة وهم في الغرفات آمنون. والحمد لله رب العالمين)().
ونقل السيد محب الدين الخطيب عن الاستاذ محمد علي سعودي -الذي كان كبير خبراء وزارة العدل بمصر- انه اطلع على مصحف ايراني مخطوط عند المستشرق براين فنقل عنه بالفوتوغراف سورة كاملة لا وجود لها في بقية المصاحف فيما يلي نصها:
(سورة الولايت سبع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي وبالولي الذين بعثناهما يهديناكم إلى صراط مستقيم نبي وولي بعضهما من بعض وانا العليم الخبير* ان الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم* والذين اذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبين*ان لهم في جهمنم مقاما عظيما اذا نودي لهم يوم القيامة اين الظالمون المكذبون للمرسلين* ما خلفهم المرسلين الا بالحق وما كان الله ليظهرهم إلى أجل قريب وسبح بحمد ربك وعلي من الشاهدين)().
وبعد فهذه الأمثلة التي ذكرها أعداء المسلمين أعداء الإمامية والسنة الذين يريدون لأن يأتوا على ديننا من القواعد. ذكرناها من أجل أن نكون على بينة من أمرنا ومن أجل أن نبعدهم عن حظيرة الإسلام ويفوت عليهم فرصة التنكر باسم الإسلام والحرص عليه تحت شعار التشيع ومحبة أهل البيت رضي الله عنهم الذين خدموا الإسلام على مر حياتهم.

3- اتهامهم بالكذب على رسول الله r .
لم يكتف أعداء المسلمين بتلك التهم التي وجهوها إلى صحابة رسول الله r ورضي الله عنهم من ارتداد عن دين الله وتحريف لكتابه, بل أرادوا أن يأتوا على سنة الحبيب المصطفى r ويشككوا المسلمين فيها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً إلا عن طريق اتهام الصحابة y بالكذب على رسول الله r لكي يبقى الناس يخبطون في ظلمات الجهالة بلا دين راسخ ثابت العقيدة واضح التعاليم.
والنتيجة الطبيعية لهذا الاتهام هي رد جميع ما جاء به الصحابةy عن رسول الله r فأصبح من شروط الذين شككوا في عدالة الصحابةy أن الحديث الصحيح هو (ما رواه الإمامي الثبت عن الإمامي وصولاً إلى المعصوم, شريطة أن لا دخل في سلسلة السند واحد من العامة سواء كان صحابيا أو لا إلا إذا عدل من قبلهم)().
قال عبدالحسين شرف الدين الموسوي: (والحق أن الصحبة بما هي فضيلة جليلة لكنها غير عاصمة والصحابة فيهم العدول وفيهم الأولياء والأصفياء والصديقون وهم علماؤهم وعظماؤهم وفيهم مجهول الحال, وفيهم المنافقون من أهل الجرائم والعظائم... فالوضــاعون لا نعفيهم من الجرح وان أطلق عليهم لفظ الصحابة)().
ويقول في موضع آخر: (فالسنة أرفع من أن تحتضن أعشاباً شائكة وخز بها أبو هريرة ضمائر الأذواق الفنية وأدمى بها تفكير المقاييس العلمية قبل أن يشوه بها السنة المنزهة ويسيء إلى النبي وأمته صلى الله عليه وآله.)().
ثم يقول متحدثاً عن الصحابة y على عهد معاوية رضي الله عنهSadوكثر الكذابة يومئذ على رسول الله كما أنذر به صلى الله عليه وسلم وتطوروا فيما اختلقوه من الحديث حسبما أوحى إليهم, وكان أبو هريرة في الرعيل الأول من هؤلاء فحدّث الناس في الفضائل أحاديث منكرة)().
ويكرر كاتب آخر من كتّاب القوم نفس التهمة للصحابة الكرامy فيقول: (قامت الأهواء بدورها , فغيرت مجرى التاريخ وأرادت أن تقلب الوضع القائم فسخرت الضمائر في ركابها, فوضعت الأحاديث لتساير رغبتها, حتى صار وضع الأحاديث واختلاقها سلعة رائجة السوق! ... وقد شجع التاجر معاوية هذه السوق وهي تعمل في صالحه فهي حجر الأساس في ملكه, فأنفق في ذلك حسبما شاء وقد رأى مقالته ناجحة, بعد ما ذلل منها كل صعب, فأسلمت له المقود, ولم تكن تلك الجموح. فالعقيدة على رجراج, والدين لعق على الألسنة, لم تتمثله هذه الروح الجاهلية تمثلاً عميقاً, والأهواء متحفزة في الصدور والأغراض تتوثب للانطلاق والذهب البراق- الذي يرين على القلب فيما هو يخطف الأبصار- يعمل عمله السيئ المشين)().
ويقول أيضاً: (دعا معاوية إليه سمرة بن جندب – وسمرة أحد تجار الحديث- فبذل معاوية إليه مائة ألف درهم, كي يروي أن هذه الآية نزلت في علي: " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما قلبه وهو ألد الخصام, وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد"().
وأن هذه الآية نزلت في ابن ملجم وهي:
( ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله) ولعل سمرة رأى في هذا الثمن ما لا يفي بتفسير منحرف لآية واحدة فكيف بآيتين؟! وراح معاوية يساومه, فزاده مائة الف أخرى... وليست المئتا ألف سوى ثمن تحريف لتفسير آية واحدة ... فراحا يتساومان, حتى تمت الصفقة باربعمائة ألف درهم فروى سمرة ذلك)().

4- اتهامهم بمخالفة تعاليم النبي e :
والتهمة الرابعة التي يكيلها بعض المتطرفين لصحابة رسول الله r ورضي الله عنهم الذابين عن الدين الحنيف هي مخالفتهم لرسول الله r وخذلانه والابتداع في دين الله بعد موته e وإعانة الظالمين على تعطيل حدود الله.
ومن هذه المخالفات التي يفترونها, بيعة أبي بكر الصديق t حيث يقول النباطي البياضي:
( ومنها أنه – أي عمر t - أوجب على جميع الخلق إمامة أبي بكر, ودعا إليها, لا عن وحي من الله ولا خبر عن رسول الله r , أتراه كان اعلم منهما بمصالح العباد, أو استناباه في نصب أبي بكر إماماً على البلاد, أم الأمة حكمته بنفسها, حتى قضى بذلك عليها فلزمها فساد أمرها)().
( ومنها أنه – أي عمر t - عطّل حدود الله لما شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا فلقن الرابع وهو زياد بن سمية فتركها فحد الثلاثة)().
ومن جملة ما يستدلون به على تخاذل الصحابةy عن أوامرهe ما ذكر محمد آصف المحسني عن أبي بكر أحمد بن عبدالله الجوهري في كتابه السقيفة فقال: (إن رسول الله r في مرض موته أمر أسامة ... فجعل يقول أنفذوا جيش أسامة, لعن الله من تخلف عنه وكرر ذلك ... وأما الأشخاص المتخلفون فكثيرون بينهم أكابر الأصحاب ولست أريد أن اذكرهم فإنهم معروفون! فيا أخي أين الملعون من العادل وأين المرتد من المسلم؟!)().
بل إن بعض متطرفي الشيعة يرى أن إصرار النبي e إنما هو احتيال لإخراج الصحابة y ليخلو له الجو وتتم البيعة لعلي t بهدوء, فاستمع إلى ما يقوله باقر شريف القريشي بهذا الصدد:
( والمتأمل في هذا الحادث الخطير يستنتج ما يلي:
إن اهتمام النبي e وآله بشأن إخراج القوم من يثرب ولعنه لمن تخلف من الالتحاق بجيش أسامة يدل بوضوح لا خفاء فيه على غايته المنشودة وهي إخلاء عاصمته من الحزب المعارض وتتم له الخلافة بهدوء وسلام.
إن تخلف القوم عن الجيش وطعنهم في تأمير أسامة ما كان المقصود منه إلا الظفر بالسلطة والحكم وإحكام قواعد سياستهم فأنهم إذا انصرفوا إلى الغزو ونزحوا عن عاصمة الرسول فان الخلافة لا محالة لا محالة تفوت من أيديهم, ولا مجال لهم حينئذ إلى التمرد والخلاف.
إن السبب في عدم تولية الرسول قيادة الجيش لذوي السن والموجهين من الصحابة إنما هو للاحتياط على مستقبل الأمة وصيانتها من الاضطراب والفتن من بعده , فأنه لو أسند القيادة إليهم لاتخذوها وسيلة إلى أحقيتهم بالخلافة ومطالبتهم بالحكم فسدّ رسول الله r عليهم هذه النافذة لئلا يتصدع شمل الأمة ويضطرب أمنها)().
ويعلق محمد باقر البهبودي على قضية البيعة لأبي بكر فيقول : (وفي روايات أصحابنا عند تفسير قوله تعالى: }أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون{() أن ستة من المهاجرين والأنصار وهم أبو بكر وعمر ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح عهدوا فيما بينهم وأبرموا عهدهم على أن يخرجوا سلطان محمد e عن أهل بيته)().
وأود أن أختم هذا المبحث بذكر نصين للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران وهو يتهم الصحابةy في أحدهما بعدم الانصياع لرسول الله r ويتهمهم في النص الآخر بأنهم أبعدوا القرآن عن الساحة وعملوا على إقامة حكومات معادية للإسلام.
فقد قال في خطابه الذي ألقاه صباح يوم السبت 28/3/1987 في حسينية جامران عند استقباله لوزير الصحة ومجموعة من الأطباء ورؤساء الجامعات: (إن النبي e لم يستطع أن يحقق ذلك(أي العدل) بالشكل الذي كان يريد وان كان بعض وعاظ السلاطين يقولون بأن فلاناً قال- يعني نفسه- أن النبي لم يستطع, نعم أنا أقول أن النبي لم يستطع وإن كان قد استطاع ذلك لما كان يوجد الآن وعاظ السلاطين, جميعنا يعرف أن الأوضاع كانت في عهد النبي بشكل كان فيه النبي أحياناً يمتنع عن قول الأحكام التي كان يريد قولها)().
أما النص الآخر فهو ما ذكره في وصيته , إذ قال:
( المسائل المؤسفة التي يجدر البكاء لها قد بدأت بعد استشهاد حضرة علي (ع) والأنانيون والطواغيت جعلوا من القرآن وسيلة لإقامة حكومات معادية للقران, ومع أن نداء (إني تارك فيكم الثقلين) كان يدوي في أسماعهم فقد عمدوا بحجج مختلفة ومؤامرات مدبرة إلى إقصاء المفسرين الحقيقيين للقرآن والمطلعين على الحقائق والآخذين جميع القرآن من النبي الأكرم e وأبعدوا القرآن من الساحة... وصادروا حكومة العدل الآلهي... ووضعوا أساس الانحراف عن دين الله وعن الكتاب والسنة الآلهية).
وأخيراً أود أن أقول بأني إذ أنقل هذه النصوص التي أعلم أنها لا تمثل حقيقة اعتقاد الإمامية , أهيب بعلمائهم المنصفين أن يعمدوا إلى هذه الشناعات فيخلصوا تراثهم منها لأنها دخيلة عليهم ليعود إلى التشيع صفاؤه ورونقه خاليا من الشوائب كالجدول الرقراق.

ثانياً: نظرتهم إلى علي وبنيه y.
لا شك أن لأهل بيت رسول الله r مكانة رفيعة في قلوب المسلمين وتتأتى هذه المكانة وهذا التقدير من حب المسلمين لرسول الله r وحب كل ما يمت إليه بصلة, هذا النوع من الحب لاشي فيه ولا غبار عليه بل هو من كمال الإيمان, غير أن بعض الشيع الإمامية لم يقفوا عند حدود العقل في حبهم بل أطلقوا لأنفسهم العنان فصوروا أهل بيت رسول الله r تصويراً يرتفع بهم عن مستوى البشر. حيث زعموا أن الأئمة منهم معصومون من الخطأ وأنهم يعلمون كل ما يريدون علمه من غير أن يتعبوا أنفسهم في تحصيل العلوم. فعلمهم حضوري متى ما أرادوه فهو حاصل لديهم إلى غير ذلك من المبالغات التي لم يكن لها وجود في الجيل الأول والثاني من المسلمين. وسنذكر فيما يلي بعض الروايات التي تعطي تصوراً واضحاً عن نظرة بعض الإمامية إلى علي وبنيه y.

1- ليس ثمة فرق بين علي والنبي e.
نسب بعض الإمامية أن علياً رضي t بمنزلة النبي e عند الله تبارك وتعالى, وإن لم يجهروا بذلك صراحة إلا أن المتفحص لرواياتهم يجد ذلك واضحاً فيها.
روى الكليني عن أبي عبدالله u قال: ما جاء به علي u أخذ به وما نهى عنه انتهى عنه, جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد e ولمحمد e الفضل على جميع من خلق الله U, المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله والراد عليه (أي على علي) في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله, كان أمير المؤمنين u باب الله الذي لا يؤتى إلا منه, وسبيله الذي من سلك بغيره هلك, كذلك يجري لأئمة الهدى واحداً بعد واحد, جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها وصحبة البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى, وكان أمير المؤمنين كثيراً ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر وأنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد e ولقد حملت مثل حمولته وهي حمولة الرب وان رسول الله r يدعى فيُكسى وأُدعى فأُكسى ويستنطق واستنطق على حد منطقه ولقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد من قبلي علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب, فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني, أبشر بأذن الله وأؤدي عنه كل ذلك من الله مكنني فيه بعلمه)().
بل إن بعض علماء الإمامية وصل بهم الحال إلى أن بدئوا يقارنون بين القرآن الذي هو كلام الله تعالى وبين كلام أمير المؤمنين علي t لكي لا يبقى هناك فرق بين النبي e وبين علي t:
يقول الشيخ عبدالمنعم الكاظمي( وهو من المعاصرين):
(وإن أمير المؤمنين أفضل الصلاة والسلام عليه الذي قد أعطاه الله تعالى الولاية الكبرى وكان نفس النبي e علماً وأخلاقاً وإيماناً حصل له ما حصل لابن عمه وشقيق نفسه محمد (ص) ... وقد قال السيد الشريف() في قصيدته الكرارية في حصول معجزة إيجاد الماء لأمير المؤمنين(ع) كما حصل للرسول الأعظم e :
لم يعط خير المرسلين كرامة الا وجدت نظيرها في حيدر
وفصاحة القرآن معجزة وفي نهج البلاغة حكمة لم تحصر
وكلاهما بظهور معجزة سقى جيش العدى عذباً لذيذاً سكرا
هذا-بي الرسول- بفيض الماء من كف غدت بسوى النضار بنائلها لم ينهمر
وعن القليب دعا علي صخرة فسقاه عذب زلالها المتفجر()

طاعة علي أولى من طاعة الله:
ويرى المتطرفون منهم أن طاعة علي بل مجرد محبته مما يوجب الجنة فقد قال سماحة حجة الإسلام والمســـلمين السيد عبدالرضا المرعشي الشهرستاني في الإجابة عن حال من لا يصوم ولا يصلي إذا كان محباً لعلي بن أبي طالب t فقال:
( قلنا إن الفاسق إذا مات وهو على عقيدته الأولية أعني مسلماً إمامياً جعفرياً اثني عشرياً ومات بلا توبة, فمقتضى الأخبار تزكيه بالمرض الذي توفي فيه وإلا فعلى المغتسل عند تقليبه وإلا فعند انحداره في القبر في البرزخ وإلا يشفعونه يوم الحساب)(). أي أن الشيعي يغفر له بما تلقاه من شدة في مرضه أو عند غسله أو وضعه في قبره أو يشف
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:41 am

الفصل الثاني
مكانة الصحابة عنـــد
الإســماعيليــة


تعريف الإسماعيلية ونشأتها
يشمل اسم الإسماعيلية كل الذين (يزعمون أن الإمامة صارت من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل)().
غير إن جميع أصحاب التواريخ لم يوافقوهم على هذه الدعوى لما صح عندهم من موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر.
ومن الإسماعيلية من يقول( بإمامة محمد بن إسماعيل وهذا مذهب الإسماعيلية من الباطنية)() وهم يدعون أن نسبهم يصل إلى محمد بن إسماعيل, غير أن محمداً هذا لم يعقب كما نص على ذلك النسابون الثقات() وقد سميت الإسماعيلية بأسماء كثيرة باختلاف البلدان التي انتشرت فيها, وأشهر هذه الأسماء الباطنية, لزعمهم أن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً, ففي العراق يسمون القرامطة, جمع قرمطي نسبة إلى حمدان قرمط() وبالمزدكية أيضاً نسبة إلى مزدك المعروف بدعوته إلى الاشتراك في الأبضاع والأموال.
واشتهروا في خراسان باسم "التعليمية" و"الملاحدة" و "الميمونية" نسبة إلى ميمون أخي قرمط سابق الذكر دون ميمون بن ديصان, ويدعون في مصر بالعبيدية نسبة إلى عبيد المعروف(), وفي الشام بالنصيرية والدروز, وفي اليمن باليامية نسبة إلى القبيلة المشهورة هناك, وفي بلاد الأكراد بالعلوية حيث يقولون علي هو الله – تعالى الله عما يقولون- وفي بلاد الأتراك بالبكداشية والقزلباشية على اختلاف منازعهم, وفي بلاد العجم بالبابية ولهم فروع إلى يومنا هذا تلبس لكل قرن لبوسه, وتظهر لكل قوم بمظهر تقضي به البيئة, وقدماؤهم كانوا يسمون أنفسهم بالإسماعيلية باعتبار تميزهم عن فرق الشيعة (). والإسماعيلية أو الباطنية يصعب إرجاعها إلى شخص بعينه لأنها أشبه ما تكون بتراكمات كبيرة خلفتها الحضارة الإسلامية في نفوس أولئك الذي يحنون إلى أمجادهم الأولى, يوم كانت بلاد فارس تبسط أجنحتها في مشارق الأرض ومغاربها, وبمرور الزمن وجدت هذه الشراذم الفرص التي أظهرت فيها مكنون أنفسها المريضة, وكان من هؤلاء: ميمون بن ديصان المعروف بالقداح() وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق وهو من الأهواز, ومحمد بن الحسين الملقب بدندان() وغيرهما من اجتمعوا في سجن والي العراق ثم ظهرت دعوتهم بعد خروجهم من السجن ثم ظهر عبدالله بن ميمون القداح في الكوفة وهو ابن ميمون بن ديصان وكان ظهوره سنة ست وسبعين ومائتين(), (فنصب للمسلمين الحبائل وبغى لهم الغوائل ولبس الحق بالباطل... وجعل لكل آية من كتاب الله تفسيراً وكل حديث عن رسول الله r تأويلاً , وزخرف الأقوال وضرب الأمثال وجعل لآي القرآن شكلاً يوازيه, ومثلاً يضاهيه... فجعل أصل دعوته التي دعاها, وأساس بنيته التي بناها الدعاء إلى الله والى رسوله, يحتج بكتاب الله ومعرفة مثله وممثوله والاختصاص لعلي بن أبي طالب t بالتقديم والإمامة والطعن على جميع الصحابة y بالسب والأذى).
فلاقت هذه الدعوة رواجاً عند غلاة الروافض والحلولية, وكانت الباطنية تتستر بستار العلم بدعوى معرفة الفلسفة وعلم النجوم لكي يسهل عليها أن تبث سمومها, ولكي تحجر على العقول من أن تنظر فيما يلقى إليها, أو يقدم لها من المعارف المضللة.



أصولها ومبادئها
الإسماعيلية في حقيقتها حركة هدامة تقوم على التحلل الكامل من جميع القيود الشرعية كما سنبين ذلك بعد قليل غير أنهم لا يعلنون عن حقيقة مبادئهم إلا لمن اطمأنوا له وأنسوا به, يقول الإمام الغزالي: (والمنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات باستحلالها وإنكار الشرائع إلا أنهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم)() فهم عند الحقيقة ليسوا من الفرق الإسلامية, وإن اتخذوا حب أهل البيت وسيلة لكي يصلوا إلى أهدافهم الدنيئة.
بل إن الإمام عبدالقاهر البغدادي يرى إن الذين أسسوا هذه الفرقة الضالة كلهم تجمعهم أصول مجوسية يحنون إليها ويسعون إلى نشرها بين المسلمين, فيقول: (ذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم ولم يجسروا على إظهاره خوفاً من سيوف المسلمين, فوضع الأغمار منهم أسساً من قبلها منهم صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس... وذكر زعماء البانية في كتبهم أن الإله خلق النفس فالإله هو الأول والنفس هو الثاني وهما مدبرا هذا العالم وسموهما الأول والثاني وربما سموهما العقل والنفس, ثم قالوا: إنهما يدبران العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأول, وقولهم أن الأول والثاني يدبران العالم هو بعينه قول بإضافة الحوادث لصانعين أحدهما قديم والآخر محدث, إلا أن الباطنية عبرت عن الصانعين بالأول والثاني وعبر المجوس عنهما بيزدان وأهرمن)().
بينما يرى فريق آخر من العلماء أن أصول الإسماعيلية الباطنية ترجع إلى اليهودية, ويستدلون على ذلك بروايتين:-
الأولى: تلك التي رواها محمد بن مالك() في رسالته : كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة) ومؤداها أن عبدالله بن ميمون كان يهودياً وكان من أحبار اليهود وأهل الفلسفة الذين عرفوا جميع الأديان, وكان صانعاً يخدم شيعة إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر... وكان حريصاً على هدم الشريعة المحمدية لما ركب الله في اليهود من عداوة للإسلام وأهله... فلم يرَ وجهاً يدخل به على الناس حتى يردهم عن الإسلام ألطف من دعوته إلى أهل بيت رسول الله r .
والرواية الثانية: هي التي رواها ابن كثير() في (المختصر في أخبار البشر) كما ذكر ذلك الباحث مكي خليل الزبيدي() وفيما يلي نصها:
( إن احد أولاد القداح وهو الحسين أقدم إلى سليمة فجرى بحضرته حديث النساء فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد بسلمية مات عنها زوجها فتزوجها الحسين بن محمد المذكور.. وكان للمرأة ولد من اليهودي الحداد وهو المهدي عبيدالله وعرفه أسرار الدعوة وأعطاه الأموال والعلامات فدعا له الدعاة).
ثم دعم أصحاب هذا الرأي مذهبهم بحجج وبراهين من الواقع منها المكانة المتميزة التي حظي بها اليهود أيام الدولة الفاطمية (فقد التف حول المعز لدين الله الفاطمي جماعة منهم يؤيدون ادعاءاته ويناصرونه في أعماله مثل أبي الفرج يعقوب بن كلس وزير المعز والعزيز والأخوين ابني التستري اليهودي, وصدقة الفلاحي وآخرين)().
ثم إن كثيراً من أسس الدين اليهودي وأصوله ظهرت جلية عند هؤلاء الاسماعيليين. كالمهر المقدس وليلة إطفاء الشمع, حيث الإباحة واستحلال المحرمات, وعقيدة الموت الظاهري, والرجعة, وانتظار المخلص, فكل هذه المعتقدات كانت وما تزال لصيقة بالدين اليهودي.
أما مبادئها وعقيدتها فهي كغيرها من الفرق الباطنية التي وافقتها في الكثير من أصولها, وسنعرض فيما يلي لأهم مبادئ الإسماعيلية ومعتقداتها.
التشبيه
التشبيه نوعان: تشبيه تقصير وتشبيه غلو. تشبيه التقصير هو تشبيه ذات الباري بذات غيره من المخلوقين, أو تشبيه صفاته سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين.وتشبيه الغلو هو تشبيه ذات أحد من المخلوقين بذات الله سبحانه, أو تشبيه صفات أحد المخلوقين بصفات الباري سبحانه() وفي كلا التشبيهين هدم للإلوهية الحقة وتقويض لمبادئ الإسلام وخروج صريح على تعاليمه.
والإسماعيلية وان لم تقل بتشبيه التقصير صراحة غلا أنها خاضت في تشبيه الغلو أيما خوض حيث شبهت أئمتها بالله سبحانه وتعالى, فقد كان أبو الفضل الباطني عامل اليمن أيام الدولة الفاطمية كان يصف نفسه بصفات الله تعالى في كتبه التي كان ينفذها. فقد جاء في أحد كتبه التي أنفذها إلى عامله أسعد بن جعفر ما نصه: (من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده أسعد...)().



الحلول:
وهو أن يحل الله سبحانه وتعالى بذاته أو بروحه في البشر ومذهب الغلاة يحكي قول النصارى في عيسى بن مريم u.
وقد ظهرت بدايات القول به على يد عبدالله بن سبأ اليهودي الذي زعم أن علياً نبي, ثم غلا فيه حتى زعم أنه اله بحلول روح الله فيه() وقد ذهبت إلى القول بالحلول أغلب الفرق الغالية إن لم نقل كلها حيث ادعت كل فرقة أن الإله سبحانه وتعالى قد حل في إمامهم.
وقد قالت الإسماعيلية بوقف الحلول على الأئمة, فقد كانوا ينظرون إلى خليفتهم نظرهم إلى الله, بل إنهم ربما بالغوا في ذلك فأنكروا أن يكون هناك اله سوى إمامهم, ولا أدل على ذلك من كتابات القوم أنفسهم.
فقد نقل لنا الدكتور حسن إبراهيم حسن عن مخطوط اسمه(رسائل الحاكم بأمر الله والقائمين بدعوته يحتوي على عشرين رسالة في أصول الإسماعيلية وهو موجود بدار الكتب الملكية بالقاهرة تحت رقم (عشرين) مخطوطات شيعية نقل عنه ما يدل دلالة قاطعة على اعتقادهم بإلوهية الحاكم بأمر الله واليك جانبا منه:
( ففي الرسالة الثانية (رسالة النساء) يؤكد الداعي خطر تعدد الآلهة ويدافع عن ضرورة الاعتقاد بوحدانية الحاكم الخالق الرزاق وعلام الغيوب)().
أما الرسالة الثانية عشرة وعنوانها المناجاة فهي تشتمل على الدعاء الذي يقوله المؤمنون في مجلس الحكمة() أما الداعي فإنه يبث الدعوة بين الناس مؤيداً ألوهية الحاكم وسرمديته, وغيرها من الصفات التي هي (فكان الحاكم في نظر الداعي هو رب العرش (فأنت صاحب العاجلة, أي الدنيا واليك حكم الآجلة أي الآخرة))().
(والرسالة الرابعة عشرة وعنوانها "الدعاء" ... وفيها يوضح الداعي الاصطلاحات التي كان يلقنها من يدين بمذهب الحاكم. وما جاء فيها الدعاء الآتي: " سبحانك يا مبدع الأشياء, يا مخترع العالمين, يا صفوة العالمين, سبحانك من تعزز بالكبرياء والجبروت, سبحانك من تعاظم أن يكون كمثله شيء, أو يلحقه وصف واصف, سبحانك يا من تعالى عن المساوئ! سبحانك يا من لا تلحقه صفة ولا صفة! شهدت وآمنت وأيقنت بأنك الله المبدع العزيز الواحد الأحد, وأنك بارئ لا بارئ لك, وخالق لا ضد لك, وقادر لا مقدور عليك , حاكم لا محكوم عليك, أسألك يا مولانا وسيدنا العظيم بعظيم جلال قدرتك ونور سلطانك أسألك يا مولانا بأول شيء ظهر من توحيدك وتنزيهك ونفي التشبيه عنك أن تمن علي بخالص معرفتك وحميد طاعتك والبلوغ إلى مرضاتك والثبات على أمرك, والتجنب لنهيك, والصبر على ما ينالني في عبادك من شدائد ومحن. يا أرحم الراحمين!! بحقك على من يصرف هويته عن تسبيحك وتمجيدك إلى سواك . لا أصرف ذاتي إلى غيرك , تائب إليك معترف بألوهيتك متبرئ من كل عدو لك, لا شريك لك, ولا دافع لأمرك, تجاوز عني واغفر ذنبي, واجعل معرفتك التي مننت بها علي في نفسي لا اله غيرك ولا معبود سواك)().
وبنفس الأسلوب وبنفس الروحية يخاطب ابن هانئ الأندلسي المعز لدين الله الفاطمي حيث يقول له:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار()
ولاشك أن القول بالحلول يؤدي إلى هدم الإلوهية ومبدأ النبو وينفي الحاجة إلى القول بها ويدعو إلى التسلط المطلق للإمام على البرايا وفي هذا الهدم كل الهدم للإسلام وتعاليمه.

3- التأويل
التأويل لغ مشتق من الأول بمعنى الرجوع() , واصطلاحاً: هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية من دون أن يخل ذلك من عادة لسان العرب من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه, أو مقارنه() والتأويل على صنفين مجازي وباطني, فالتأويل المجازي هو ما كان جارياً على شرطه وهو الأقرب إلى الصواب, كما صرح بذلك العز بن عبدالسلام بذلك(), والتأويل الباطني: هو إخراج اللفظ من دلالته الظاهرية إلى معانٍ باطلةٍ لا يقرها عرف لغوي ولا تستقيم مع قواعد اللغة العربية التي أنزل بها القرآن الكريم().
وهذا النوع من التأويل هو الذي توسعت به الإسماعيلية حتى وصل بهم الحال إلى التحلل الكامل من جميع الأوامر والنواهي التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
يقول الإمام الغزالي: ( وإنما الذي يصح من معتقدهم فيه أنهم يقولون لابد من الانقياد للشرع في تكاليفه على التفصيل الذي يفصله الإمام من غير متابعة للشافعي وأبي حنيفة وغيرهما. وأن ذلك واجب على الخلق والمستجيبين إلى أن ينالوا رتبة الكمال في العلوم فإذا أحاطوا من جهة الإمام بحقائق الأمور وأطلعوا على بواطن هذه الظواهر انحلت عنهم هذه القيود وانحطت عنهم هذه التكاليف العملية, فإن المقصود من أعمال الجوارح تنبيه القلب لينهض بطلب العلم فإذا ناله استعد للسعادة القصوى فيسقط عنه تكليف الجوارح وإنما تكليف الجوارح في حق من يجري جهله مجرى الحمر التي لا يمكن رياضتها إلا بالأعمال الشاقة وأما الأذكياء والمدركون للحقائق فدرجتهم أرفع من ذلك)() بل إن الإسماعيلية توغلت في التأويل إلى هوة سحيقة وهو ما يعرف بتأويل التأويل, وهذا النوع يعتبر من أعقد درجات التأويل.. فقد مهدت لذلك بجملة فرضيات من أجل قبول درجة تأويل التأويل هذه.
يقول الإمام الغزالي بهذا لخصوص: ( قالوا: كلما وردت ظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فكلها أمثلة ورموز إلى بواطن! أما الشرعيات فمعنى الجنابة مبادرة المستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال مرتبة استحقاقه, ومعنى الغسل: تجديد العهد على صدقة النجوى.. والصيام هو الإمساك عن كشف السر, والكعبة هي النبي, والباب هو علي والصفا هو النبي والمروة هو علي والميقات هو الأساس والتلبية هي إجابة الداعي والطواف بالبيت سبعاً هو الطواف بمحمد إلى تمام الأئمة السبعة, والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة والإمام...
( وكذلك زعموا أن المحرمات عبارة عن ذوى السر عن الرجال وقد تعبدنا بإحسانهم كما إن العبادات عبارة عن الأخيار والأشرار, فأما المعاد فزعم بعضهم أن النار عبارة عن الانحلال والأوامر التي هي التكاليف فتنها موظفة على الجهال بعلم الباطن فإذا نالوا علة الباطن وضعت عنهم أغلال التكاليف وسعدوا بالخلاص منها)().
ونقل لنا جولدزيهر() تصوراتهم في آيات القرآن فقال: (إن آيات الكتاب سهلة يسيرة ولكنها على سهولتها تخفي وراء ظاهرها- أي حسب تصورات الإسماعيلية- معنى خفياً مستتراً ويتصل بهذا المعنى الخفي معنى ثالث يحير ذوي الأفهام الثابتة ويعييها, والمعنى الرابع ما من أحد يحيط به سوى الله واسع الكفاية من لا شبيه له وهكذا نصل إلى معان سبعة الواحد تلو الآخر ففي كل مرحلة أو درجة أعلى من سابقتها يصبح المعنى الباطني والرمزي المتعلق بالمرحلة السابقة أساساً للقيام بتأويلات أخرى أعظم دقة والتواءً إلى أن تبخر تبخراً تاماً موضوع التفسير الإسلامي الذي كان الأساس الأول منذ البداية)().
وقد كان لتأويلاتهم الفاسدة هذه الأثر الكبير في ذوي النفوس الضعيفة الذين يرون في التكاليف الشرعية أعباءً تنوء بها كواهلهم فأخذ الناس يتهافتون على دعوتهم إشباعاً لشهواتهم الدنيئة. وقد ذكر ابن مالك رحمه الله في كشف أسرار الباطنية الكثير من ضلالاتهم التي لسبوها على العوام باسم التأويل واليك جانيا منها:-


قال ابن مالك:-
( فأول ما أشهد به وأشرحه وأبينه للمسلمين أن له –أي الطليحي وهو كبير القرامطة في زمان المؤلف- نواباً يسميهم الدعاة المؤذونين وآخرين يلقبهم بالمكلبين تشبيهاً لهم بكلاب الصيد لأنهم ينصبون للناس الحبائل ويكيدونهم بالغوائل وينقضون على كل عاقل ويلبسون على كل جاهل بكلمة حق يراد بها باطل. يحضونه على شعائر الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام كالذي ينثر الحب للطير ليقع في شركه فيقيم أكثر من سنة يمعنون به وينظرون صبره, ويتفحصون أمره ويخدعونه بروايات عن النبي e محرفة وأقوال مزخرفة ويتلون عليه القرآن على غير وجهه ويحرفون الكلم عن مواضعه فإذا رأوا منه الانهماك والقبول والإعجاب بجميع ما يعملونه والانقياد بما يأمرونه قالوا له حينئذ اكشف عن السرائر ولا ترض لنفسك ولا تقنع بما قنع به العوام من الظواهر وتدبر القرآن ورموزه واعرف مثله وممثوله واعرف معاني الصلاة والطهارة وما روي عن النبي e بالرموز والإشارة دون التصريح في ذلك بالعبارة فإن جميع ما عليه الناس أمثال مضروبة محجوبة)().
وهكذا يستدرجون السذج من الناس إلى مهاوي الضلالة والفساد. حتى إذا رأوا منهم استجابة وقبولاً كشفوا عن وجههم وأبانوا عن نواياهم التي بيتوها تجاه الإسلام وأهله. فيسقطون الصلاة والزكاة زاعمين أن معناهما ولاية محمد e وعلي t ثم يسقطون الصوم لأن معناه كتمان سر الدعوة فحسب, ويسقطون سائر أنواع العبادات ويحلون الخمر والميسر زاعمين أن معناهما بغض أبي بكر وعمر إلى غير ذلك من الترهات التي لا مجال ولا فائدة من الإطالة في ذكرها.()
وترى الإسماعيلية أن القرآن الكريم من حيث المعنى من وحي العقول الروحانية, ومن حيث العبارة هو من تأليف الرسول وليس منزلاً بلفظه ومعناه من الله تعالى, لأن العقول مجردة عن المادة واللفظ مركب من محدثات ولذلك فإن النبي e يوحى إليه بالمعاني مجردة فيضعها أو يعبر عنها الناطق- النبي e- باللغة التي يفهمها قومه ويتقنها هو. وترى كذلك أن تأويل الوصي أو الإمام للنص القرآني يقوم مقام ذلك النص لأنهم هم القائمون به, المعبرون عن حقائقه. لهذا قالوا: إن علياً هو القرآن الناطق في مقابل القرآن الصامت الذي يعنون به القرآن الكريم().
ويتبين من هذا أن القرآن الكريم المنزل على رسول الله r هو اقل شأناً عندهم من كلام الأئمة لأن القرآن في تصورهم عجز عن مواكبة أحداث الحياة مما جعله بحاجة إلى من يدفعه إلى الأمام بتأويله وتفسيره والأئمة هم الذين قاموا بهذه المهمة. (وان الأئمة أنسهم هم أعلى قدراً ومنزلة من الرسول لأنهم جاءوا بما هو أفضل وأشرف جاءوا بالحقائق بينما جاء الناطق بالقشور)().
ومن هذا المنطلق فقد القرآن الكريم عند الإسماعيلية أهميته ككتاب هداية وإيمان, وأصبح وجوده كعدمه لظهور ما يحل محله وهو كلام الأئمة, وكذلك فقدت السنة النبوية مكانتها التشريعية. فما قيمة القرآن والسنة إذا كان المعول عندهم على آراء بشرية لا مستند لها من دين ولا عقل. وفي هذا يقول أحد دعاة الإسماعيلية المعاصرين:
(ليس هناك كتاب لإهداء الإسماعيلية لأنهم يهتدون بنبراس الإمامة العظيم الموجود في كل الوجود)().


مكانة الصحابة y عند الإسماعيلية
بعد أن تعرفنا بشكل موجز على أصول الإسماعيلية وعقائدها, تبين لنا أنها تمثل حلقة من حلقات التآمر الشعوبي ضد الإسلام والمسلمين وجانباً من الأحقاد التي خلفتها الأمم البائدة التي كانت تحكم أهوائها في دماء الناس وأعراضهم.
وبعد أن عرفنا في بداية بحثنا منزلة الصحابة الكرام y عند علماء الأمة وسلفها الصالح وكيف استحق هؤلاء الصحابة الكرام كل ذلك التكريم بما أنفقوا من أموالهم وأنفسهم في سبيل الله, أقول بعد أن عرفنا كل هذا أصبح من الممكن أن نتعرف المنظار الذي تنظر به الإسماعيلية إلى الصحابة y .
تنظر الإسماعيلية إلى الصحابة y أنهم المتهم الأول في ضياع أملاكهم البائدة وإنهم السبيل الوحيدة إلى أعادة تلك الصروح إذا ما استطاعوا أن يشوهوا صورتهم في أعين المسلمين, لذا فإنهم لم يدخروا جهداً أو وسعاً من أجل نجاح تلك المهمة, إذ قاموا بنشر آرائهم الضالة بكل الوسائل عن طريق دعاتهم المأذونين بين العوام, وعن طريق التأليف والرسائل العديدة التي تطفح شتماً وسباباً وانتقاصاً لأصحاب رسول الله r .
وترى الإسماعيلية أن الصحابة y كفار كلهم لم يؤمنوا برسالة النبي محمد e وإنما تظاهروا بالإيمان. وفي هذا الصدد يقول شيخ الإسماعيلية محمد بن علي بن حسن الصوري في قصيدته الصورية:
(فأنزل الله على نبيــــه أن يظهر النص على وصيه
فخاف من أصحابه لعلمــه بكيدهم وما نووا من ظلـمه
وقيل لا تشرك فإن أشـركت ليحبطن الله كل ما عمــلت
فقم وبلغ ولا تخف فرحـمتي تنالك اليوم وكن في عصمتي
فقام في يوم غـديـر خـم وقال حكم الله غير حكــمي
من كنت مــولاه فذا مولاه فوالي يارب الـــذي والاه
فمن والــى فقــد والاك كذا ومن عاداه قــد عاداك
وأطلـع الله على ما قد نووا لعبده وما به من الحق طووا
وأنهم سينكثون عهــــده ويغدرون بالوصي بــعده
ويطلبون أهلــــه بالنار تباً لأهل الغدر والإضــرار
ثم قضى الله له ســـبحانه اختاره يســــكنه جنانه
وأن تعود نفســـه الزكية لسعيها راضـــية مرضية
فلم يقولوا مات حتى اجتمعوا وأبرموا وأتقنــوا ما صنعوا
وقدموا لهم وأخــــروا من رفع الله وغدراً ظهروا
ثم أدعوا بأنه ما وصــى وأنكـروا يوم غدير النصا
وعجلوا ظلم البتول الطاهرة لأنهم قد كــذبوا بالآخرة
واعتقدوا أن النبي e كاذب وأن ما سارت له الكواكب ()

وهكذا وبكل بساطة يخرج أصحاب رسول الله r صفر اليدين من كل جهادهم وكفاحهم في سبيل الدعوة الإسلامية بل إنها ترى أن أبا وعمر رضي الله عنهما كانا ساعدي أبي لهب في القضاء على رسول الله r وأن الآية الكريمة (تبت يدا أبي لهب وتب)() معناها تب أب بكر وعمر باعتبارهما يدا أبي لهب. وتب أبو لهب وأنهما تظاهرا بالإسلام كيداً لرسول الله r , فاستمع إلى قائلهم:
(فقال() لما أن رأى أبا لهب ما خصه الله به وما وهـب
يا قوم مالي كله أبـــذله في اللات والعزى لمن يقتله
وعاهد القوم على مرادهـم وأنه باق على اعتــقادهم
وأنه يعلم ما يــــبرمه من أمره عليــه ويحكمه
ثم أتى مذعناً مصـــدقا وعاجــــلاً به قد وافقا
لأجل ذا صار له في الغار مصاحباً بالليــل والنـهار
ليظهر ما يعلمه من شأنه ويطلع القــوم على مكانه
إلى أن قال:
فقال لما جلسوا في الأبطح أن عتيقاً قد مضى لا يفلح
فمن لها مبتدراً قال عمـر أنا الذي أكفيكم هذا الضرر
فقام يثني عطفه تمــردا وقد غدا بســـيفه مقلدا
ثم يقول:
وقال قلها أني أشــهد بأن رب العالمين أوحـد
وأنك الداعي إلى الرشاد رسوله الصادق في العباد
وعاد يبدي لعنـة وكفرا لا يعبد الله تعالى ســرا
لما رأى من قلة الأنصار وضعفــهم وكثرة الكفار
والسيف في يمينه مجرد وســار في أولهم يوحد
يؤمل القوم بأن يعجلوا حتى يقولوا() للنبي يقتلوا
فلم يقم وجهه منهم أحد وأنجز الله له ما قد وعد
فخافهم لما رآهم عادوا وخاف أن يعلم ما أرادوا
فأظهر الألفة والوفاقا وأضمر العدوان والنفاقا
وأنزلت تبت يدا أبي لهب بلعـن الله له تب وتب
أن بهما رام الوصول والظفر بخير خلق الله من نسل مضر()

وفي تاريخ الدولة الفاطمية الكثير من الوقائع التي تؤكد بالبرهان القاطع على زندقة هذه الفرقة المارقة. فكم حدثنا التاريخ عن رجال قتلوا أمام أعين الناس بسبب حبهم لصحابة رسول الله r . أجل لقد كان حب أبي بكر وعمر جريمة يستحق فاعلها العذاب والموت لأنهما طودا الإسلام ورايته الشامخة, ولأنهما كانا شوكة فقأت عيون أجدادهم من عبدة النار, واليك جانباً مما حدث أيام الحكم الفاطمي.
فقد عمل الفاطميون على لعن الخلفاء الثلاثة الأول (أبي بكر وعمر وعثمان) وغيرهم من الصحابة y إذ عدوهم أعداء لعلي().
وذكر المقري أن رجلاً من أهل دمشق حلت به العقوبة أيام حكم الحاكم بأمر الله الفاطمي بسبب محبته لأبي بكر وعمر حيث طافوا به في شوارع المدينة وهم ينادون عليه (هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر) ثم أمر به فضربت عنقه().
ويذكر المقريزي في خططه أن الحاكم قد عزم على نبش قبر أبي بكر وعمر بالمدينة, فرشا الرسل الذين أنفدهم لتأدية هذه المهمة رجلاً من العلويين كان يسكن في منزل قريب من مدفن الخليفتين, ومن ثم شرعا بمعاونته يحفران طريقاً يوصل إلى ما يريدون, إلا أن عاصفة شديدة ثارت وبلغ من ثورانها درجة أدخلت الخوف والهلع في قلوب الأهالي, فهرع الأهالي لاجئين إلى الحرم حيث ووري الجسد الشريف وأجساد الخلفاء الأول, ولما لم تهدأ العاصفة خشي ذلك العلوي وأبلغ الأمر لوالي المدينة, فأحل به عقوبته وحال دون إتمام ما كان يريده الحاكم)().
ويحدثنا ابن خلكان عن آخر خلفاء الدولة الفاطمية العاضد, أنه كان من غلاة الشيعة وكان له ولع خاص بلعن الصحابة y حتى انه كان لا يتردد في قتل أي سني تقع عليه عيناه().
وفي عهد المستنصر (427-428 هـ) ظهرت روح العداء والكراهية تجاه أهل السنة حيث أمر بنقش عبارات لعن الصحابة y رضي الله عنهم على الجدران().





جهود علماء المسلمين في كشف ضلالاتهم



كان لحركة الغلو الباطنية التي حاولت أن تطعن الإسلام في الصميم رد فعل عميق في الوسط الإسلامي وكان رد الفعل هذا يتناسب مع خطورة التحدي الذي تمثله الحركة الباطنية بشتى فصائلها.
وكان من جملة الذين برزوا للدفاع عن عقائد المسلمين والوقوف بوجه الغلاة من أجداد الاسماعيليين الأمام محمد الباقر وابنه جعفر الصادق , فحينما أظهر المغيرة بن سعيد بدعته ووجد نفسه بحاجة إلى من يحميه من آل البيت لجأ إلى محمد الباقر وقال له: (أقرر أنك تعلم الغيب اجبي لك العراق, فهزه وطرده) وتبرأ الأمام جعفر الصادق من أبي الخطاب الأسدي حينما وقف على غلوه().
وحين سئل الإمام على بن محمد العسكري عن تأويل الصلاة والزكاة بالرجال – وهو ما تقول به الباطنية عموماً ومنهم الإسماعيلية- نحو ذلك قال: ليس هذا ديننا ولعن الله من قال بنبوءة محمد بن نصير() النميري)().
وكذلك قام بقية الفقهاء أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل برد العقائد الباطلة وإفتاء الناس بخروج أولئك الغلاة عن حضيرة الإسلام.
ومن العلماء الذين ألفوا في الرد على مذاهبهم الباطلة وتبصير الناس بانحرافاتهم جابر بن حيان المتوفى سنة 161 هـ الذي ألف كتاباً سماه الخواص الكبير فيه الرد على المانوية وهو مطبوع ضمن (رسائل جابر بن حيان) بالقاهرة.
والجاحظ الذي رد على الزنادقة في الكثير من كتبه كالحيوان والتربيع والتنوير وحجج النبوة.
وعبدالرحيم بن محمد بن عثمان الذي ألف كتابه الانتصار في الرد على ابن الراوندي الملحد.
ثم جاء الأشعري والرازي والاسفراييني والشهرستاني وابن حزم والغزالي ومحمد بن مالك وغيرهم من الذين فضحوا الباطنية وكشفوا عوارها أمام المسلمين, ولم يدخروا وسعاً في الانتصار لدين الله وإيضاح الحجة لأتباعه السائرين في درب الهداية.
وكان لجهود هؤلاء العلماء الأجلاء وغيرهم ممن تلاهم الدور المشرف في فضح الزمر الباطنية وفي مقدمتها الإسماعيلية وفي حفظ العقيدة الإسلامية من الأدران التي كادوا يلصقونها بها حيث بقيت بفضل الله تعالى ثم بهذه الجهود النقية من كل شائبة والخالية من زيغ وانحراف.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:41 am

الفصل الثاني
مكانة الصحابة عنـــد
الإســماعيليــة


تعريف الإسماعيلية ونشأتها
يشمل اسم الإسماعيلية كل الذين (يزعمون أن الإمامة صارت من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل)().
غير إن جميع أصحاب التواريخ لم يوافقوهم على هذه الدعوى لما صح عندهم من موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر.
ومن الإسماعيلية من يقول( بإمامة محمد بن إسماعيل وهذا مذهب الإسماعيلية من الباطنية)() وهم يدعون أن نسبهم يصل إلى محمد بن إسماعيل, غير أن محمداً هذا لم يعقب كما نص على ذلك النسابون الثقات() وقد سميت الإسماعيلية بأسماء كثيرة باختلاف البلدان التي انتشرت فيها, وأشهر هذه الأسماء الباطنية, لزعمهم أن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً, ففي العراق يسمون القرامطة, جمع قرمطي نسبة إلى حمدان قرمط() وبالمزدكية أيضاً نسبة إلى مزدك المعروف بدعوته إلى الاشتراك في الأبضاع والأموال.
واشتهروا في خراسان باسم "التعليمية" و"الملاحدة" و "الميمونية" نسبة إلى ميمون أخي قرمط سابق الذكر دون ميمون بن ديصان, ويدعون في مصر بالعبيدية نسبة إلى عبيد المعروف(), وفي الشام بالنصيرية والدروز, وفي اليمن باليامية نسبة إلى القبيلة المشهورة هناك, وفي بلاد الأكراد بالعلوية حيث يقولون علي هو الله – تعالى الله عما يقولون- وفي بلاد الأتراك بالبكداشية والقزلباشية على اختلاف منازعهم, وفي بلاد العجم بالبابية ولهم فروع إلى يومنا هذا تلبس لكل قرن لبوسه, وتظهر لكل قوم بمظهر تقضي به البيئة, وقدماؤهم كانوا يسمون أنفسهم بالإسماعيلية باعتبار تميزهم عن فرق الشيعة (). والإسماعيلية أو الباطنية يصعب إرجاعها إلى شخص بعينه لأنها أشبه ما تكون بتراكمات كبيرة خلفتها الحضارة الإسلامية في نفوس أولئك الذي يحنون إلى أمجادهم الأولى, يوم كانت بلاد فارس تبسط أجنحتها في مشارق الأرض ومغاربها, وبمرور الزمن وجدت هذه الشراذم الفرص التي أظهرت فيها مكنون أنفسها المريضة, وكان من هؤلاء: ميمون بن ديصان المعروف بالقداح() وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق وهو من الأهواز, ومحمد بن الحسين الملقب بدندان() وغيرهما من اجتمعوا في سجن والي العراق ثم ظهرت دعوتهم بعد خروجهم من السجن ثم ظهر عبدالله بن ميمون القداح في الكوفة وهو ابن ميمون بن ديصان وكان ظهوره سنة ست وسبعين ومائتين(), (فنصب للمسلمين الحبائل وبغى لهم الغوائل ولبس الحق بالباطل... وجعل لكل آية من كتاب الله تفسيراً وكل حديث عن رسول الله r تأويلاً , وزخرف الأقوال وضرب الأمثال وجعل لآي القرآن شكلاً يوازيه, ومثلاً يضاهيه... فجعل أصل دعوته التي دعاها, وأساس بنيته التي بناها الدعاء إلى الله والى رسوله, يحتج بكتاب الله ومعرفة مثله وممثوله والاختصاص لعلي بن أبي طالب t بالتقديم والإمامة والطعن على جميع الصحابة y بالسب والأذى).
فلاقت هذه الدعوة رواجاً عند غلاة الروافض والحلولية, وكانت الباطنية تتستر بستار العلم بدعوى معرفة الفلسفة وعلم النجوم لكي يسهل عليها أن تبث سمومها, ولكي تحجر على العقول من أن تنظر فيما يلقى إليها, أو يقدم لها من المعارف المضللة.



أصولها ومبادئها
الإسماعيلية في حقيقتها حركة هدامة تقوم على التحلل الكامل من جميع القيود الشرعية كما سنبين ذلك بعد قليل غير أنهم لا يعلنون عن حقيقة مبادئهم إلا لمن اطمأنوا له وأنسوا به, يقول الإمام الغزالي: (والمنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات باستحلالها وإنكار الشرائع إلا أنهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم)() فهم عند الحقيقة ليسوا من الفرق الإسلامية, وإن اتخذوا حب أهل البيت وسيلة لكي يصلوا إلى أهدافهم الدنيئة.
بل إن الإمام عبدالقاهر البغدادي يرى إن الذين أسسوا هذه الفرقة الضالة كلهم تجمعهم أصول مجوسية يحنون إليها ويسعون إلى نشرها بين المسلمين, فيقول: (ذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم ولم يجسروا على إظهاره خوفاً من سيوف المسلمين, فوضع الأغمار منهم أسساً من قبلها منهم صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس... وذكر زعماء البانية في كتبهم أن الإله خلق النفس فالإله هو الأول والنفس هو الثاني وهما مدبرا هذا العالم وسموهما الأول والثاني وربما سموهما العقل والنفس, ثم قالوا: إنهما يدبران العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأول, وقولهم أن الأول والثاني يدبران العالم هو بعينه قول بإضافة الحوادث لصانعين أحدهما قديم والآخر محدث, إلا أن الباطنية عبرت عن الصانعين بالأول والثاني وعبر المجوس عنهما بيزدان وأهرمن)().
بينما يرى فريق آخر من العلماء أن أصول الإسماعيلية الباطنية ترجع إلى اليهودية, ويستدلون على ذلك بروايتين:-
الأولى: تلك التي رواها محمد بن مالك() في رسالته : كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة) ومؤداها أن عبدالله بن ميمون كان يهودياً وكان من أحبار اليهود وأهل الفلسفة الذين عرفوا جميع الأديان, وكان صانعاً يخدم شيعة إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر... وكان حريصاً على هدم الشريعة المحمدية لما ركب الله في اليهود من عداوة للإسلام وأهله... فلم يرَ وجهاً يدخل به على الناس حتى يردهم عن الإسلام ألطف من دعوته إلى أهل بيت رسول الله r .
والرواية الثانية: هي التي رواها ابن كثير() في (المختصر في أخبار البشر) كما ذكر ذلك الباحث مكي خليل الزبيدي() وفيما يلي نصها:
( إن احد أولاد القداح وهو الحسين أقدم إلى سليمة فجرى بحضرته حديث النساء فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد بسلمية مات عنها زوجها فتزوجها الحسين بن محمد المذكور.. وكان للمرأة ولد من اليهودي الحداد وهو المهدي عبيدالله وعرفه أسرار الدعوة وأعطاه الأموال والعلامات فدعا له الدعاة).
ثم دعم أصحاب هذا الرأي مذهبهم بحجج وبراهين من الواقع منها المكانة المتميزة التي حظي بها اليهود أيام الدولة الفاطمية (فقد التف حول المعز لدين الله الفاطمي جماعة منهم يؤيدون ادعاءاته ويناصرونه في أعماله مثل أبي الفرج يعقوب بن كلس وزير المعز والعزيز والأخوين ابني التستري اليهودي, وصدقة الفلاحي وآخرين)().
ثم إن كثيراً من أسس الدين اليهودي وأصوله ظهرت جلية عند هؤلاء الاسماعيليين. كالمهر المقدس وليلة إطفاء الشمع, حيث الإباحة واستحلال المحرمات, وعقيدة الموت الظاهري, والرجعة, وانتظار المخلص, فكل هذه المعتقدات كانت وما تزال لصيقة بالدين اليهودي.
أما مبادئها وعقيدتها فهي كغيرها من الفرق الباطنية التي وافقتها في الكثير من أصولها, وسنعرض فيما يلي لأهم مبادئ الإسماعيلية ومعتقداتها.
التشبيه
التشبيه نوعان: تشبيه تقصير وتشبيه غلو. تشبيه التقصير هو تشبيه ذات الباري بذات غيره من المخلوقين, أو تشبيه صفاته سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين.وتشبيه الغلو هو تشبيه ذات أحد من المخلوقين بذات الله سبحانه, أو تشبيه صفات أحد المخلوقين بصفات الباري سبحانه() وفي كلا التشبيهين هدم للإلوهية الحقة وتقويض لمبادئ الإسلام وخروج صريح على تعاليمه.
والإسماعيلية وان لم تقل بتشبيه التقصير صراحة غلا أنها خاضت في تشبيه الغلو أيما خوض حيث شبهت أئمتها بالله سبحانه وتعالى, فقد كان أبو الفضل الباطني عامل اليمن أيام الدولة الفاطمية كان يصف نفسه بصفات الله تعالى في كتبه التي كان ينفذها. فقد جاء في أحد كتبه التي أنفذها إلى عامله أسعد بن جعفر ما نصه: (من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده أسعد...)().



الحلول:
وهو أن يحل الله سبحانه وتعالى بذاته أو بروحه في البشر ومذهب الغلاة يحكي قول النصارى في عيسى بن مريم u.
وقد ظهرت بدايات القول به على يد عبدالله بن سبأ اليهودي الذي زعم أن علياً نبي, ثم غلا فيه حتى زعم أنه اله بحلول روح الله فيه() وقد ذهبت إلى القول بالحلول أغلب الفرق الغالية إن لم نقل كلها حيث ادعت كل فرقة أن الإله سبحانه وتعالى قد حل في إمامهم.
وقد قالت الإسماعيلية بوقف الحلول على الأئمة, فقد كانوا ينظرون إلى خليفتهم نظرهم إلى الله, بل إنهم ربما بالغوا في ذلك فأنكروا أن يكون هناك اله سوى إمامهم, ولا أدل على ذلك من كتابات القوم أنفسهم.
فقد نقل لنا الدكتور حسن إبراهيم حسن عن مخطوط اسمه(رسائل الحاكم بأمر الله والقائمين بدعوته يحتوي على عشرين رسالة في أصول الإسماعيلية وهو موجود بدار الكتب الملكية بالقاهرة تحت رقم (عشرين) مخطوطات شيعية نقل عنه ما يدل دلالة قاطعة على اعتقادهم بإلوهية الحاكم بأمر الله واليك جانبا منه:
( ففي الرسالة الثانية (رسالة النساء) يؤكد الداعي خطر تعدد الآلهة ويدافع عن ضرورة الاعتقاد بوحدانية الحاكم الخالق الرزاق وعلام الغيوب)().
أما الرسالة الثانية عشرة وعنوانها المناجاة فهي تشتمل على الدعاء الذي يقوله المؤمنون في مجلس الحكمة() أما الداعي فإنه يبث الدعوة بين الناس مؤيداً ألوهية الحاكم وسرمديته, وغيرها من الصفات التي هي (فكان الحاكم في نظر الداعي هو رب العرش (فأنت صاحب العاجلة, أي الدنيا واليك حكم الآجلة أي الآخرة))().
(والرسالة الرابعة عشرة وعنوانها "الدعاء" ... وفيها يوضح الداعي الاصطلاحات التي كان يلقنها من يدين بمذهب الحاكم. وما جاء فيها الدعاء الآتي: " سبحانك يا مبدع الأشياء, يا مخترع العالمين, يا صفوة العالمين, سبحانك من تعزز بالكبرياء والجبروت, سبحانك من تعاظم أن يكون كمثله شيء, أو يلحقه وصف واصف, سبحانك يا من تعالى عن المساوئ! سبحانك يا من لا تلحقه صفة ولا صفة! شهدت وآمنت وأيقنت بأنك الله المبدع العزيز الواحد الأحد, وأنك بارئ لا بارئ لك, وخالق لا ضد لك, وقادر لا مقدور عليك , حاكم لا محكوم عليك, أسألك يا مولانا وسيدنا العظيم بعظيم جلال قدرتك ونور سلطانك أسألك يا مولانا بأول شيء ظهر من توحيدك وتنزيهك ونفي التشبيه عنك أن تمن علي بخالص معرفتك وحميد طاعتك والبلوغ إلى مرضاتك والثبات على أمرك, والتجنب لنهيك, والصبر على ما ينالني في عبادك من شدائد ومحن. يا أرحم الراحمين!! بحقك على من يصرف هويته عن تسبيحك وتمجيدك إلى سواك . لا أصرف ذاتي إلى غيرك , تائب إليك معترف بألوهيتك متبرئ من كل عدو لك, لا شريك لك, ولا دافع لأمرك, تجاوز عني واغفر ذنبي, واجعل معرفتك التي مننت بها علي في نفسي لا اله غيرك ولا معبود سواك)().
وبنفس الأسلوب وبنفس الروحية يخاطب ابن هانئ الأندلسي المعز لدين الله الفاطمي حيث يقول له:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار()
ولاشك أن القول بالحلول يؤدي إلى هدم الإلوهية ومبدأ النبو وينفي الحاجة إلى القول بها ويدعو إلى التسلط المطلق للإمام على البرايا وفي هذا الهدم كل الهدم للإسلام وتعاليمه.

3- التأويل
التأويل لغ مشتق من الأول بمعنى الرجوع() , واصطلاحاً: هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية من دون أن يخل ذلك من عادة لسان العرب من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه, أو مقارنه() والتأويل على صنفين مجازي وباطني, فالتأويل المجازي هو ما كان جارياً على شرطه وهو الأقرب إلى الصواب, كما صرح بذلك العز بن عبدالسلام بذلك(), والتأويل الباطني: هو إخراج اللفظ من دلالته الظاهرية إلى معانٍ باطلةٍ لا يقرها عرف لغوي ولا تستقيم مع قواعد اللغة العربية التي أنزل بها القرآن الكريم().
وهذا النوع من التأويل هو الذي توسعت به الإسماعيلية حتى وصل بهم الحال إلى التحلل الكامل من جميع الأوامر والنواهي التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
يقول الإمام الغزالي: ( وإنما الذي يصح من معتقدهم فيه أنهم يقولون لابد من الانقياد للشرع في تكاليفه على التفصيل الذي يفصله الإمام من غير متابعة للشافعي وأبي حنيفة وغيرهما. وأن ذلك واجب على الخلق والمستجيبين إلى أن ينالوا رتبة الكمال في العلوم فإذا أحاطوا من جهة الإمام بحقائق الأمور وأطلعوا على بواطن هذه الظواهر انحلت عنهم هذه القيود وانحطت عنهم هذه التكاليف العملية, فإن المقصود من أعمال الجوارح تنبيه القلب لينهض بطلب العلم فإذا ناله استعد للسعادة القصوى فيسقط عنه تكليف الجوارح وإنما تكليف الجوارح في حق من يجري جهله مجرى الحمر التي لا يمكن رياضتها إلا بالأعمال الشاقة وأما الأذكياء والمدركون للحقائق فدرجتهم أرفع من ذلك)() بل إن الإسماعيلية توغلت في التأويل إلى هوة سحيقة وهو ما يعرف بتأويل التأويل, وهذا النوع يعتبر من أعقد درجات التأويل.. فقد مهدت لذلك بجملة فرضيات من أجل قبول درجة تأويل التأويل هذه.
يقول الإمام الغزالي بهذا لخصوص: ( قالوا: كلما وردت ظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فكلها أمثلة ورموز إلى بواطن! أما الشرعيات فمعنى الجنابة مبادرة المستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال مرتبة استحقاقه, ومعنى الغسل: تجديد العهد على صدقة النجوى.. والصيام هو الإمساك عن كشف السر, والكعبة هي النبي, والباب هو علي والصفا هو النبي والمروة هو علي والميقات هو الأساس والتلبية هي إجابة الداعي والطواف بالبيت سبعاً هو الطواف بمحمد إلى تمام الأئمة السبعة, والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة والإمام...
( وكذلك زعموا أن المحرمات عبارة عن ذوى السر عن الرجال وقد تعبدنا بإحسانهم كما إن العبادات عبارة عن الأخيار والأشرار, فأما المعاد فزعم بعضهم أن النار عبارة عن الانحلال والأوامر التي هي التكاليف فتنها موظفة على الجهال بعلم الباطن فإذا نالوا علة الباطن وضعت عنهم أغلال التكاليف وسعدوا بالخلاص منها)().
ونقل لنا جولدزيهر() تصوراتهم في آيات القرآن فقال: (إن آيات الكتاب سهلة يسيرة ولكنها على سهولتها تخفي وراء ظاهرها- أي حسب تصورات الإسماعيلية- معنى خفياً مستتراً ويتصل بهذا المعنى الخفي معنى ثالث يحير ذوي الأفهام الثابتة ويعييها, والمعنى الرابع ما من أحد يحيط به سوى الله واسع الكفاية من لا شبيه له وهكذا نصل إلى معان سبعة الواحد تلو الآخر ففي كل مرحلة أو درجة أعلى من سابقتها يصبح المعنى الباطني والرمزي المتعلق بالمرحلة السابقة أساساً للقيام بتأويلات أخرى أعظم دقة والتواءً إلى أن تبخر تبخراً تاماً موضوع التفسير الإسلامي الذي كان الأساس الأول منذ البداية)().
وقد كان لتأويلاتهم الفاسدة هذه الأثر الكبير في ذوي النفوس الضعيفة الذين يرون في التكاليف الشرعية أعباءً تنوء بها كواهلهم فأخذ الناس يتهافتون على دعوتهم إشباعاً لشهواتهم الدنيئة. وقد ذكر ابن مالك رحمه الله في كشف أسرار الباطنية الكثير من ضلالاتهم التي لسبوها على العوام باسم التأويل واليك جانيا منها:-


قال ابن مالك:-
( فأول ما أشهد به وأشرحه وأبينه للمسلمين أن له –أي الطليحي وهو كبير القرامطة في زمان المؤلف- نواباً يسميهم الدعاة المؤذونين وآخرين يلقبهم بالمكلبين تشبيهاً لهم بكلاب الصيد لأنهم ينصبون للناس الحبائل ويكيدونهم بالغوائل وينقضون على كل عاقل ويلبسون على كل جاهل بكلمة حق يراد بها باطل. يحضونه على شعائر الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام كالذي ينثر الحب للطير ليقع في شركه فيقيم أكثر من سنة يمعنون به وينظرون صبره, ويتفحصون أمره ويخدعونه بروايات عن النبي e محرفة وأقوال مزخرفة ويتلون عليه القرآن على غير وجهه ويحرفون الكلم عن مواضعه فإذا رأوا منه الانهماك والقبول والإعجاب بجميع ما يعملونه والانقياد بما يأمرونه قالوا له حينئذ اكشف عن السرائر ولا ترض لنفسك ولا تقنع بما قنع به العوام من الظواهر وتدبر القرآن ورموزه واعرف مثله وممثوله واعرف معاني الصلاة والطهارة وما روي عن النبي e بالرموز والإشارة دون التصريح في ذلك بالعبارة فإن جميع ما عليه الناس أمثال مضروبة محجوبة)().
وهكذا يستدرجون السذج من الناس إلى مهاوي الضلالة والفساد. حتى إذا رأوا منهم استجابة وقبولاً كشفوا عن وجههم وأبانوا عن نواياهم التي بيتوها تجاه الإسلام وأهله. فيسقطون الصلاة والزكاة زاعمين أن معناهما ولاية محمد e وعلي t ثم يسقطون الصوم لأن معناه كتمان سر الدعوة فحسب, ويسقطون سائر أنواع العبادات ويحلون الخمر والميسر زاعمين أن معناهما بغض أبي بكر وعمر إلى غير ذلك من الترهات التي لا مجال ولا فائدة من الإطالة في ذكرها.()
وترى الإسماعيلية أن القرآن الكريم من حيث المعنى من وحي العقول الروحانية, ومن حيث العبارة هو من تأليف الرسول وليس منزلاً بلفظه ومعناه من الله تعالى, لأن العقول مجردة عن المادة واللفظ مركب من محدثات ولذلك فإن النبي e يوحى إليه بالمعاني مجردة فيضعها أو يعبر عنها الناطق- النبي e- باللغة التي يفهمها قومه ويتقنها هو. وترى كذلك أن تأويل الوصي أو الإمام للنص القرآني يقوم مقام ذلك النص لأنهم هم القائمون به, المعبرون عن حقائقه. لهذا قالوا: إن علياً هو القرآن الناطق في مقابل القرآن الصامت الذي يعنون به القرآن الكريم().
ويتبين من هذا أن القرآن الكريم المنزل على رسول الله r هو اقل شأناً عندهم من كلام الأئمة لأن القرآن في تصورهم عجز عن مواكبة أحداث الحياة مما جعله بحاجة إلى من يدفعه إلى الأمام بتأويله وتفسيره والأئمة هم الذين قاموا بهذه المهمة. (وان الأئمة أنسهم هم أعلى قدراً ومنزلة من الرسول لأنهم جاءوا بما هو أفضل وأشرف جاءوا بالحقائق بينما جاء الناطق بالقشور)().
ومن هذا المنطلق فقد القرآن الكريم عند الإسماعيلية أهميته ككتاب هداية وإيمان, وأصبح وجوده كعدمه لظهور ما يحل محله وهو كلام الأئمة, وكذلك فقدت السنة النبوية مكانتها التشريعية. فما قيمة القرآن والسنة إذا كان المعول عندهم على آراء بشرية لا مستند لها من دين ولا عقل. وفي هذا يقول أحد دعاة الإسماعيلية المعاصرين:
(ليس هناك كتاب لإهداء الإسماعيلية لأنهم يهتدون بنبراس الإمامة العظيم الموجود في كل الوجود)().


مكانة الصحابة y عند الإسماعيلية
بعد أن تعرفنا بشكل موجز على أصول الإسماعيلية وعقائدها, تبين لنا أنها تمثل حلقة من حلقات التآمر الشعوبي ضد الإسلام والمسلمين وجانباً من الأحقاد التي خلفتها الأمم البائدة التي كانت تحكم أهوائها في دماء الناس وأعراضهم.
وبعد أن عرفنا في بداية بحثنا منزلة الصحابة الكرام y عند علماء الأمة وسلفها الصالح وكيف استحق هؤلاء الصحابة الكرام كل ذلك التكريم بما أنفقوا من أموالهم وأنفسهم في سبيل الله, أقول بعد أن عرفنا كل هذا أصبح من الممكن أن نتعرف المنظار الذي تنظر به الإسماعيلية إلى الصحابة y .
تنظر الإسماعيلية إلى الصحابة y أنهم المتهم الأول في ضياع أملاكهم البائدة وإنهم السبيل الوحيدة إلى أعادة تلك الصروح إذا ما استطاعوا أن يشوهوا صورتهم في أعين المسلمين, لذا فإنهم لم يدخروا جهداً أو وسعاً من أجل نجاح تلك المهمة, إذ قاموا بنشر آرائهم الضالة بكل الوسائل عن طريق دعاتهم المأذونين بين العوام, وعن طريق التأليف والرسائل العديدة التي تطفح شتماً وسباباً وانتقاصاً لأصحاب رسول الله r .
وترى الإسماعيلية أن الصحابة y كفار كلهم لم يؤمنوا برسالة النبي محمد e وإنما تظاهروا بالإيمان. وفي هذا الصدد يقول شيخ الإسماعيلية محمد بن علي بن حسن الصوري في قصيدته الصورية:
(فأنزل الله على نبيــــه أن يظهر النص على وصيه
فخاف من أصحابه لعلمــه بكيدهم وما نووا من ظلـمه
وقيل لا تشرك فإن أشـركت ليحبطن الله كل ما عمــلت
فقم وبلغ ولا تخف فرحـمتي تنالك اليوم وكن في عصمتي
فقام في يوم غـديـر خـم وقال حكم الله غير حكــمي
من كنت مــولاه فذا مولاه فوالي يارب الـــذي والاه
فمن والــى فقــد والاك كذا ومن عاداه قــد عاداك
وأطلـع الله على ما قد نووا لعبده وما به من الحق طووا
وأنهم سينكثون عهــــده ويغدرون بالوصي بــعده
ويطلبون أهلــــه بالنار تباً لأهل الغدر والإضــرار
ثم قضى الله له ســـبحانه اختاره يســــكنه جنانه
وأن تعود نفســـه الزكية لسعيها راضـــية مرضية
فلم يقولوا مات حتى اجتمعوا وأبرموا وأتقنــوا ما صنعوا
وقدموا لهم وأخــــروا من رفع الله وغدراً ظهروا
ثم أدعوا بأنه ما وصــى وأنكـروا يوم غدير النصا
وعجلوا ظلم البتول الطاهرة لأنهم قد كــذبوا بالآخرة
واعتقدوا أن النبي e كاذب وأن ما سارت له الكواكب ()

وهكذا وبكل بساطة يخرج أصحاب رسول الله r صفر اليدين من كل جهادهم وكفاحهم في سبيل الدعوة الإسلامية بل إنها ترى أن أبا وعمر رضي الله عنهما كانا ساعدي أبي لهب في القضاء على رسول الله r وأن الآية الكريمة (تبت يدا أبي لهب وتب)() معناها تب أب بكر وعمر باعتبارهما يدا أبي لهب. وتب أبو لهب وأنهما تظاهرا بالإسلام كيداً لرسول الله r , فاستمع إلى قائلهم:
(فقال() لما أن رأى أبا لهب ما خصه الله به وما وهـب
يا قوم مالي كله أبـــذله في اللات والعزى لمن يقتله
وعاهد القوم على مرادهـم وأنه باق على اعتــقادهم
وأنه يعلم ما يــــبرمه من أمره عليــه ويحكمه
ثم أتى مذعناً مصـــدقا وعاجــــلاً به قد وافقا
لأجل ذا صار له في الغار مصاحباً بالليــل والنـهار
ليظهر ما يعلمه من شأنه ويطلع القــوم على مكانه
إلى أن قال:
فقال لما جلسوا في الأبطح أن عتيقاً قد مضى لا يفلح
فمن لها مبتدراً قال عمـر أنا الذي أكفيكم هذا الضرر
فقام يثني عطفه تمــردا وقد غدا بســـيفه مقلدا
ثم يقول:
وقال قلها أني أشــهد بأن رب العالمين أوحـد
وأنك الداعي إلى الرشاد رسوله الصادق في العباد
وعاد يبدي لعنـة وكفرا لا يعبد الله تعالى ســرا
لما رأى من قلة الأنصار وضعفــهم وكثرة الكفار
والسيف في يمينه مجرد وســار في أولهم يوحد
يؤمل القوم بأن يعجلوا حتى يقولوا() للنبي يقتلوا
فلم يقم وجهه منهم أحد وأنجز الله له ما قد وعد
فخافهم لما رآهم عادوا وخاف أن يعلم ما أرادوا
فأظهر الألفة والوفاقا وأضمر العدوان والنفاقا
وأنزلت تبت يدا أبي لهب بلعـن الله له تب وتب
أن بهما رام الوصول والظفر بخير خلق الله من نسل مضر()

وفي تاريخ الدولة الفاطمية الكثير من الوقائع التي تؤكد بالبرهان القاطع على زندقة هذه الفرقة المارقة. فكم حدثنا التاريخ عن رجال قتلوا أمام أعين الناس بسبب حبهم لصحابة رسول الله r . أجل لقد كان حب أبي بكر وعمر جريمة يستحق فاعلها العذاب والموت لأنهما طودا الإسلام ورايته الشامخة, ولأنهما كانا شوكة فقأت عيون أجدادهم من عبدة النار, واليك جانباً مما حدث أيام الحكم الفاطمي.
فقد عمل الفاطميون على لعن الخلفاء الثلاثة الأول (أبي بكر وعمر وعثمان) وغيرهم من الصحابة y إذ عدوهم أعداء لعلي().
وذكر المقري أن رجلاً من أهل دمشق حلت به العقوبة أيام حكم الحاكم بأمر الله الفاطمي بسبب محبته لأبي بكر وعمر حيث طافوا به في شوارع المدينة وهم ينادون عليه (هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر) ثم أمر به فضربت عنقه().
ويذكر المقريزي في خططه أن الحاكم قد عزم على نبش قبر أبي بكر وعمر بالمدينة, فرشا الرسل الذين أنفدهم لتأدية هذه المهمة رجلاً من العلويين كان يسكن في منزل قريب من مدفن الخليفتين, ومن ثم شرعا بمعاونته يحفران طريقاً يوصل إلى ما يريدون, إلا أن عاصفة شديدة ثارت وبلغ من ثورانها درجة أدخلت الخوف والهلع في قلوب الأهالي, فهرع الأهالي لاجئين إلى الحرم حيث ووري الجسد الشريف وأجساد الخلفاء الأول, ولما لم تهدأ العاصفة خشي ذلك العلوي وأبلغ الأمر لوالي المدينة, فأحل به عقوبته وحال دون إتمام ما كان يريده الحاكم)().
ويحدثنا ابن خلكان عن آخر خلفاء الدولة الفاطمية العاضد, أنه كان من غلاة الشيعة وكان له ولع خاص بلعن الصحابة y حتى انه كان لا يتردد في قتل أي سني تقع عليه عيناه().
وفي عهد المستنصر (427-428 هـ) ظهرت روح العداء والكراهية تجاه أهل السنة حيث أمر بنقش عبارات لعن الصحابة y رضي الله عنهم على الجدران().





جهود علماء المسلمين في كشف ضلالاتهم



كان لحركة الغلو الباطنية التي حاولت أن تطعن الإسلام في الصميم رد فعل عميق في الوسط الإسلامي وكان رد الفعل هذا يتناسب مع خطورة التحدي الذي تمثله الحركة الباطنية بشتى فصائلها.
وكان من جملة الذين برزوا للدفاع عن عقائد المسلمين والوقوف بوجه الغلاة من أجداد الاسماعيليين الأمام محمد الباقر وابنه جعفر الصادق , فحينما أظهر المغيرة بن سعيد بدعته ووجد نفسه بحاجة إلى من يحميه من آل البيت لجأ إلى محمد الباقر وقال له: (أقرر أنك تعلم الغيب اجبي لك العراق, فهزه وطرده) وتبرأ الأمام جعفر الصادق من أبي الخطاب الأسدي حينما وقف على غلوه().
وحين سئل الإمام على بن محمد العسكري عن تأويل الصلاة والزكاة بالرجال – وهو ما تقول به الباطنية عموماً ومنهم الإسماعيلية- نحو ذلك قال: ليس هذا ديننا ولعن الله من قال بنبوءة محمد بن نصير() النميري)().
وكذلك قام بقية الفقهاء أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل برد العقائد الباطلة وإفتاء الناس بخروج أولئك الغلاة عن حضيرة الإسلام.
ومن العلماء الذين ألفوا في الرد على مذاهبهم الباطلة وتبصير الناس بانحرافاتهم جابر بن حيان المتوفى سنة 161 هـ الذي ألف كتاباً سماه الخواص الكبير فيه الرد على المانوية وهو مطبوع ضمن (رسائل جابر بن حيان) بالقاهرة.
والجاحظ الذي رد على الزنادقة في الكثير من كتبه كالحيوان والتربيع والتنوير وحجج النبوة.
وعبدالرحيم بن محمد بن عثمان الذي ألف كتابه الانتصار في الرد على ابن الراوندي الملحد.
ثم جاء الأشعري والرازي والاسفراييني والشهرستاني وابن حزم والغزالي ومحمد بن مالك وغيرهم من الذين فضحوا الباطنية وكشفوا عوارها أمام المسلمين, ولم يدخروا وسعاً في الانتصار لدين الله وإيضاح الحجة لأتباعه السائرين في درب الهداية.
وكان لجهود هؤلاء العلماء الأجلاء وغيرهم ممن تلاهم الدور المشرف في فضح الزمر الباطنية وفي مقدمتها الإسماعيلية وفي حفظ العقيدة الإسلامية من الأدران التي كادوا يلصقونها بها حيث بقيت بفضل الله تعالى ثم بهذه الجهود النقية من كل شائبة والخالية من زيغ وانحراف.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:46 am

الباب الثاني
الفصل الثالث

مكانة الصحابة عنـــد
الـزيــديـة



تعريف الزيدية ونشأتها
هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب t() ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم().
والزيدية من فرق الشيعة إلا أنها تكاد تختلف تمتما عن جميعهم حتى إنهم رفضوا أن يعدوا من فرق الشيعة, حيث إنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم, زاهد, شجاع , سخي خرج مطالباً بالإمامة واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أم من أولاد الحسين رضي الله عنهما(). من غير نص من إمام سابق, وكذلك جوزت الزيدية خروج إمامين في قطرين, إذا استجمعا شروط الإمامة آنفة الذكر, ويكون كل منهما واجب الطاعة.
وقد كان زيد بن علي t عالماً بالأصول والفروع حيث تتلمذ في الأصول على رأس المعتزلة واصل بن عطاء() (فأقتبس منه الاعتزال, وصار أصحابه كلهم معتزلة)(). ولما عزم زيد على الخروج والمطالبة بالإمامة أو الخلافة لنفسه التف حوله خلق كثير لما عرفوا من نبل غرضه وكفاءته لما يريد. فبايعه أهل الكوفة أيام هشام بن عبدالملك, وكان أمير الكوفة يوسف بن عمر الثقفي(), وكان زيد بن علي يفضل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة y ويتولى أبا بكر وعمر , فلما ظهر في الكوفة سمع من بعض أصحابه الطعن على أبي بكر وعمر, فأنكر ذلك على من سمعه منهم فتفرق عنه أصحابه فقال لهم (رفضتموني) فيقال أنهم سموا رافضة لقول زيد لهم (رفضتموني) ويذكر الرازي أنه لم يبق معه سوى مائتي فارس() سرعان ما قضى عليهم يوسف بن عمر , فقتل زيد وصلب رحمه الله.


وقال يحيى بن زيد في أبيه بعد مقتله:
خليلي عني بالمدينـــة بلغــا بني هاشم أهل النهى والتجارب
فحتى متـى مـروان يقتـل فيكم خياركم والـدهر جم العجائب
وحتى متى ترضون بالخسف منهم وكنتم أباة الضيم عند التجارب
لكل قتيل معشــر يطلبـــونه وليس لـزيد في العراقين طالب()
وتعتبر الزيدية حركة تصحيح في تاريخ الشيعة عموماً فحين اشتد على الذين ناصروا علياً ومن بعده الحسين وجدت أفكار جديدة نادى ببعضها أو بجلها المختار بن عبيد الثقفي بحجة مناصرته لولي دم الحسين محمد بن الحنفية. وقد تبلورت أفكار أولئك الذين يبثون أفكارهم في الظلام في الاجتماع على جملة عقائد:
أولها: أن الإمامة ثبتت بالوراثة لا بالاختيار, فعلي أوصي إليه بالذات من النبي e , وعلي أوصى بها إلى الحسن, والحسن أوصى بها إلى الحسين, إلى آخر السلسلة التي تقر بها كل نِحلة من نِحلهم.
وثانيها: أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما تجاوزا على علي t واغتصبا حقه بتقدمهم عليه وهم بهذا يستحقون اللعن والطعن.
ثالثها: أن الأوصياء معصومون عن الخطأ لأنهم في مقام تبليغ المعارف القدسية إلى الرعية.
رابعها: القول برجعة الأموات أو ما يسمى بالمهدي المنتظر في المذهب الشيعي حيث تدعي كل فرقة أن إمامهم لم يمت وأنه سيعود ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وهذه الفكرة ابتدعها عبدالله بن سبأ اليهودي حين قال في علي t : انه لم يمت وان الرعد صوته والبرق تبسمه().
وقالها المختار الثقفي في عودة محمد بن الحنفية الأبيات التالية:
ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحـق أربعة سواء
علي والثـلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سـبط إيمان وبر وسبط غيبته كربــــلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل وماء()
هذه الأفكار هي التي اجتمعت عيها فرق الشيعة عامة ,مخالفة بذلك ما كان عليه أهل البيت رضي الله عنهم, مع أنه لا يصح أن يدعي أحد مناصرة أهل البيت وهو على خلاف ما يعتقدون , فكان لابد والحالة هذه من إمام يظهر من أهل البيت ليصحح هذا الانحراف الخطير, فكان المصحح هو الإمام زيد بن علي t , وسنعرض فيما يلي لأهم الأفكار التي أتجه إلى تصحيحها:

أولاً: ولاية المفضول:
أول ما أتجه الإمام زيد إلى تصحيحه هو ما كان سائداً بين الشيعة من أن الإمامة لابد أن يتولاها أفضل الناس في زمانه, وأنها جزء من ميراث النبوة فقال: لا يشترط في الإمام أن يكون أفضل أهل زمانه, على ألا تتعارض مصلحته مع مصلحة المسلمين.
فهو وإن كان يعتقد أن علياً t هو أفضل الناس بعد رسول الله r لكنه كان يعتقد أن خلافة الشيخين أبي بكر وعمر صحيحة مستكملة لشروط الصحة, وكان يكن لها الاحترام والإكبار في نفسه, يشهد لهذا ما رواه عنه الشهرستاني بهذا الخصوص فقال:
(كان علي t أفضل الصحابة y - والكلام لزيد t- إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها, وقاعدة دينية راعوها, من تسكين ثائرة الفتنة وتطييب قلوب العامة, فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً, وسيف أمير المؤمنين u عن دماء المشركين لم يجف بعد, والضغائن في صدور القوم في طلب الثأر كما هي, فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل, ولا تنقاد إليه الرقاب كل الانقياد, وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عُرف باللين والتودد والتقدم بالسن والسبق في الإسلام, والقرب من رسول الله r , ألا ترى أنه لما أراد أبو بكر في مرضه الذي مات فيه بتقليد الأمر إلى عمر بن الخطاب صاح الناس وقالوا: لقد وليت علينا فظاً غليظاً, فما كانوا يرضون بأمير المؤمنين عمر لشدته وصلابته, غلظته بالدين وفضاضة على الأعداء حتى سكنهم أبو بكر e)().
ونحن وان كنا نشك في صحة هذا الكلام إلى زيد بن علي t بهذا اللفظ الذي اعتمده الشهرستاني وابن خلدون, لأن مضمونه غير متوافق مع ما كان يكنه الصحابة y رضي الله عنهم لأهل بيت رسول الله r من حب وإجلال, إذ كيف يصح القول بأن رغيتهم في الثأر من علي لم تهدأ وهو يصلون عليه في صلواتهم! وكيف لم ينسوا ثارات الجاهلية وهم الذين تربوا في مدرسة رسول الله r وقد كان أحدهم يدخل في دين الله فلا يبث يوما ًواحداً حتى يخرج مقاتلاً أهله وعشيرته في سبيل هذه العقيدة التي آمن بها؟
يستخلص من كلام زيد بن علي هذا أمور:
أولها: أن زيداً كان يرى أن علياً t أفضل من عامة الصحابة y وأنه أفضل الناس بعد رسول الله r .
ثانيها: أن أبا بكر t ولي الخلافة بناءً على اختيار المسلمين له من غير أن يكون هناك نص له أو لأحد غيره.
ثالثها: أنه كان يعتقد أن مصلحة المسلمين كانت في ولاية الشيخين رضي الله عنهما دون شواهما.
رابعها: أن اعترافه بخلافة الشيخين يدل على أن الإمام عنده يجوز أن يكون غير فاطمي وما نسب إليه من اشتراط النسب الفاطمي إنما هو شرط أفضلية لا شرط صحة, لعدم توفر هذا الشرط في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع اعترافه بصحة خلافتهما().

ثانياً: عدم عصمة الأئمة
إذا علمنا أن الإمام زيداً لا يفرض إمامة الأفضل دائماً وإنما ذلك منوط بمصلحة المسلمين, وأنه لا يدعي أن النبي e نص على واحد بعينه للقيام بمهام الخلافة, علمنا أنه لم يعد هناك مكان لادعاء عصمة الأئمة, لأنهم إنما يستمدون عصمتهم من تولية النبي e لهم, فلما لم يكون هناء ايصاء لم تكن هناك عصمة, ثم إن المعصوم إنما يعصم من أجل أن لا يخطئ فإذا لم يكن المعصوم قائماً بالإمامة فلا فائدة من خلق العصمة فيه. ولتوضيح هذا الكلام نقول: إذا أدعينا العصمة لعلي t في حياة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يقع اختيار المسلمين عليه لم تكن هناك فائدة من عصمته, إذ المفروض فيها أن تعصمه من الزلل والخطأ في الحكم. لهذا لم يقل الإمام زيد بعصمة الأئمة فالإمام عنده قائم باختيار المسلمين لأمر مصلحي, ليس هو المرجع الديني للمسلمين كما هو الحال عند الشيعة حتى تكون عصمته واجبة().


ثالثاً : عدم القول بالأئمة المستورين
إن الدارس لفرق الشيعة يجدها لا تخلو من القول بوجود إمام قائم مستور يعولون عليه أن يعود إليهم ويظهر لهم فتكون لهم الدولة والسلطان, فالكيسانية ترى أن محمد بن الحنفية هو المهدي المنتظر- كما ذكرنا آنفاً- وتدين الإمامية بمهدوية إمامهم الثاني عشر وهكذا فعلت عامة فرق الشيعة فكلهم يؤمنون بعودة المهدي المنتظر مع اختلافهم في شخصه ومكان اختباءه وكيفية عودته, وأنه سوف يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً كل هذا قائم على أساس أن الإمامة جزء وميراث من النبوة.
أما الإمام زيد فقد انطلق من غير هذه الدائرة واعتبر أن الإمامة كما قلنا إقامة لمصلحة عامة وأن الإمام معروف بوصفه لا بشخصه لذا لم يكن هناك إمام مستور لأن من شروط الإمام عنده أن يخرج ويدعو لنفسه فان لم يخرج فليس بإمام.
هذه هي جملة الآراء التي جاء الإمام زيد من أجل أن يطبقها, ولقد اجتهد رحمه الله في إعادة التشيع إلى حالته الأولى, أيام علي t وفي سبيل هذه المبادئ قتل زيد t فقد رفض رحمه الله أن ينال من الشيخين ولو كلفه ذلك خذلان قومه له كما مر.

مكانة الصحابة y عند فرق الزيدية
ذكر عامة كتاب الفرق والمقالات الإسلامية أن الزيدية تنقسم إلى ثلاث فرق. هي: الجارودية والسليمانية والبترية().
في حين انفرد أبو الحسن الأشعري() في تقسيمه للزيدية فأصلهم إلى ست فرق هي: (الجارودية والسليمانية والبترية والنعيمية والفرقة الخامسة لم يسمها واكتفى بترقيمها وأخيرا اليعقوبية)
وسنجري في بحثنا على ما كتبه أبو الحسن الأشعري لأنه ذكر عقائد كل فرقة بشكل موجز دقيق, وخاصة الناحية التي نحن بصددها وهي موقف كل فرقة من الصحابة y .
وقب أن نفصل في مواقف هذه الفرق من الصحابة y نود أن نقول:
إن الزيدية في نشأتها الأولى أيام الإمام زيد وما بعده بقليل كانت على مذهب إمامها وهو تولي عامة الصحابة y وعدم الطعن في واحد منهم, ثم تغير الحال شيئاً فشيئاً وظهر الطعن في الصحابة y وتكفيرهم وتكفير من تولاهم().
قال الشهرستاني: (ومال أكثر الزيدية بع ذلك إلى القول بإمامة المفضول , وطعنوا في الصحابة طعن الإمامية)() واليك موقف أهم فرقهم من الصحابة y .
مكانة الصحابة y عند الجارودية:
وهم أتباع أبي الجارود() زياد بن أبي زياد , زعموا أن النبي e عين علياً بالوصف دون الشخص وهم يرون أن الصحابة y كفروا لأنهم بايعوا أبا بكر دون علي رضي الله عنهما().
مكانتهم عند السليمانية:
وهم أتباع سليمان بن جرير, وهم اقل انحرافاً عن آراء الإمام زيد من الجارودية وكان سليمان هذا يقول بصحة خلافة أبي بكر وعمر وان ينزه لسانه عن الطعن بهما, غير أنه كان ينال من عثمان t حتى أنه كفّره وكفّر معه عائشة والزبير وطلحة() لأنهم قاتلوا علياً , وخطّأ الصحابة y عموماً لمبايعتهم أبا بكر دون علي, لكن من غير أن يفسقهم أو يكفرهم, ثم إنهم مع موافقتهم للرافضة في طعنهم ببعض الصحابة y نراهم يطعنون في الرافضة من ناحيتين: أولاهما القول بالبداء وثانيهما القول بالتقية لأنهم – أي الإمامية- باعتمادهم على هذين المبدأين لا يتبين صدقهم من كذبهم().
مكانتهم عند البترية أو الصالحية:-
وهم أصحاب كثير النووي الملقب بالأبتر(), وأصحاب السحن بن صالح بن حي() وهم أكثر اعتدالاً من السليمانية فلم يحكموا بكفر عثمان t كما أنهم لم يحكموا بإيمانه لأنهم قالوا اذا نظرنا في حاله قبل الخلافة حمنا بإيمانه وبأنه من أهل الجنة, وإذا نظرنا في حاله بعد الخلافة رأيناه تقدم على أفعال غير صالحة حيث ولى الظالمين من بني أمية, فتحيرنا في أمره, ووكلنا أمره إلى أحكم الحاكمين.
مكانتهم عند النعيمية:
وهم أصحاب نعيم بن اليمان(), وهم يزعمون أن علياً مستحق للإمامة وأنه أفضل الناس بعد رسول الله r وأن الأمة أخطأت حيت تجاوزته, لكنه ليس خطأ أثم, وإنما هو من باب ترك الأولى.
وهم يتبرؤون من عثمان t ومن كل الذين حاربوا علياً وشهدوا عليهم بالكفر والعياذ بالله().
مكانتهم عند الفرقة الخامسة من فرق الزيدية
وهذه الفرقة لم يسمها لنا أبو الحسن الأشعري, ولا غيره ممن تكلموا في الزيدية وفرقها وهي تتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لتقدمهما على علي t في الخلافة و لا ينكرون رجعة الأموات قبل يوم القيامة().
مكانتهم عند اليعقوبية:
وهم أتباع رجل يسمى يعقوب() وهم يتولون أبا بكر وعمر غير إنهم لا يتبرؤون ممن يتبرأ منهما, وهم ينكرون رجعة الأموات ويتبرؤون ممن يدين بها().
ومن الجدير بالذكر أن الخط العام للزيدية في القرون الأخيرة قد اقترب كثيراً من الزيدية الأولى أيام زيد بن علي فلم يعودوا ينتقصون أحداً من الصحابةy وغاية ما في الأمر أنهم يرون أن علياً t أفضل من بقية الصحابةy ,وأن الصحابةy تركوا الأولى حينما لم يبايعوه على الخلافة بعد وفاة رسول الله r وتعايشوا مع المسلمين وشاركوا في بناء الحضارة الإسلامية وأتحفوا المكتبة الإسلامية بتراث عظيم من العلوم التي خطتها أيادي جهابذة من علمائهم, كالإمام يحيى بن حمزة والصنعاني والشوكاني وغيرهم.





الباب الثاني
الفصل الرابع

مكانة الصحابة
عنــــــد
الخـــوارج



مكانة الصحابة y عند الخوارج
الخوارج : كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت عليه الجماعة يسمى خارجياً سواء كان ذلك الإمام أيام الصحابة y أم أيام من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
غير أن هذا الاسم اختصت به فرقة من فرق المسلمين وأصبح علماً على الذين خرجوا على علي بن أبي طالب t بعد موقعة صفين().
واختلف المؤرخون في تعيين بدء خروجهم فيرى بعضهم أن ذلك كان عند قبول علي t التحكيم. يقول ابن الجوزي: (... لما طالت الحرب بين معاوية وعلي رضي الله عنهما رفع أصحاب معاوية المصاحف ودعوا أصحاب علي إلى ما فيها, فقال الناس: قد رضينا... وأخر القضاء إلى رمضان فقال عروة بن أذينة تحكمون في أمر الله الرجال لا حكم إلا لله, ورجع من صفين فدخل الكوفة ولم تدخل معه الخوارج فأتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً(). فغلى هذا يكون نشوء الخوارج وظهورهم قبل ظهور نتائج التحكيم.
بينما ذهب فريق آخر من المؤرخين إلى أن بداية ظهور الخوارج كانت على عهد رسول الله r فقد (كان مر على النبي e ذو الثدية() وهو –أي رسول الله r - يقسم غنائم بدر فقال له: اعدل يا محمد, فقال عليه الصلاة والسلام خبت وخسرت إن لم أعدل من يعدل, ثم قال: إنه يخرج من (ضئضي هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)() وأصبح ذو الثدية فيما بعد المحرك الأساس لفرقة الخوارج, لكن من الجدير بالذكر أن ذا الثدية لم يسجل له التاريخ أي نشاط في عهد رسول الله r أو عهد الخلفاء الراشدين وبالتالي فلا يمكن الاعتماد على هذه الحادثة لربط تاريخ الخوارج بها().
بينما ذهب فريق ثالث إلى أن ظهور الخوارج كان بعد ظهور نتائج التحكيم إذ تجمعت أثناء ذلك فرقة من أصحاب علي t وقالوا لماذا نرضى بحكم الحكمين هذا ولماذا أعرض عن حكم الله لقد كفر بما فعل ولزم علينا أن نحاربه حتى يسلم مرة أخرى ويتوب عن هذا الإثم أو نقتله.
ولعل الصواب في هذا ما ذهب إليه بعض الباحثين وهو أن فريقاً من الخوارج قد خرجوا على علي أثناء قبوله التحكيم مدعين أن ذلك تحكيم لغير الله وأنه متضمن للشك في صحة موقفهم في حربهم لأهل الشام.
وإن فريقاً آخر خرجوا عليه t بعد أن رفض قبول نتائج التحكيم مدعين أنه قد رفض بهذا حكم الله سبحانه وتعالى. وبعد هذا الربط التاريخي بين حادثة التحكيم وظهور الخوارج فإن على الناقد البصير أن يلتمس أسباباً أخرى أبعد غوراً أدت إلى ظهور الخوارج. (إذ لا يمكن أن يكون هذا الحزب قد تكّون دفعة واحدة بل لابد أن فكرة هذا الحزب التي تكونت حولها مبادئه الأولى كانت منتشرة في فئة من المسلمين أو أنها تتفق مع أغراض أو أفكار أخرى كانت تشغل بال المسلمين قبل التحكيم)(). فما هذه الأسباب؟
أولاً: إن الخوارج كانوا – وخاصة في موقفهم من الإمامة وما يجب أن تكون عليه من عدل واختيار- يمثلون النزعة التي كانت تسود أتقياء الصحابة y الذين استفزهم الوضع القائم وعدم الاستقرار وسوء توزيع الثروة(). فكانوا يطمحون إلى إنشاء مجتمع تزول فيه الطبقية ويحكمه العدل المطلق ويصير الناس فيه إلى أخوة الإسلام وسماحته الكبيرة, حتى أنهم جوزوا أن لا يكون هناك إمام أصلاً إذا ما تحاكم الناس إلى كتاب الله وعرف كل فرد من الرعية ماله وما عليه (وإذ احتيج إليه فيجوز أن يكون عبداً أو حراً أو نبطياً أو قرشياً)() بل إنهم يرون إن الإمام إذا لم تكن قبيلة تحميه فإن نصبه أولى ليسهل خلعه إذا ما أنحرف عن الصراط القويم بيد أن مثاليتهم هذه انتهت إلى جمود فكري وتعصب عقدي أدى إلى ظهور النزعات المتطرفة والهدامة في صفوفهم.
ثانياً: من الأمور التي تتمثل في حركة الخوارج والتي يرى كثير من الباحثين أنها من أسباب ظهورهم إنها-أي حركة الخوارج- كانت تمثل الروح التقليدية للتمرد القبلي على المركزية والنزوع إلى الفردية التي تمثل أهم خصائص التكوين العقلي للإنسان العربي في جاهليته والتي جاهد الإسلام في تخفيف حدتها().
وقد أكثر الخوارج من القبائل الربعية التي كانت تشاطر القبائل المضرية في النفوذ والسلطان فليس من السهل على الربعيين أن يسلموا لقريش – وهي مضرية- بالسيادة والرئاسة.
قال محمد أبو زهرة: (ومن أعظم الأمور التي حفزته على الخروج أنهم كانوا يحسدون قريشاً على استيلائهم على الخلافة واستبدادهم دون الناس, ذلك أن أكثرهم من القبائل الربعية التي قامت بينها وبين القبائل المضرية الاحن الجاهلية التي خفف الإسلام من حدتها)().
بيد إن هذه العصبية لم تمت تماماً في النفوس وأخذت الحياة تدب في عروقها من جديد. فقد جاء في شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد (أن علياً t كان لا يعدل بربيعة أحد من الناس فشق ذلك على مضر وأظهروا لهم القبيح)() فكان هذا التنافس سبباً في انشقاق الخوارج عن علي t.
ثالثاً: يرى بعض الباحثين أن الخوارج نبتوا من فرقة السبئية الغلاة, فقد كان كثير من الخوارج قبل أن يعرفوا بهذا الاسم ينقدون خلافة عثمانt إن لم نقل كلهم, وربما اشتركوا في قتله t لذلك كانوا لا يريدون للحرب أن تنتهي بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ولا للصلح أن ينعقد مخافة أن يعاقبوا على جريمتهم في قتل عثمان t فكانوا يعملون دائماً على أن لا يتم الصلح أو النصر المبين لأحد الطرفين, فحين كانت المعركة وشيكة على الانتهاء لصالح علي t كان الخوارج لا يريدون له النصر وأجبروه على قبول التحكيم فلما قبل به خرجوا عليه من جديد وقالوا له تب كما تبنا وإلا خرجنا عليك.
ويرى الدكتور عرفان عبدالحميد أن مما يقوي هذا الرأي هو (أن بعضاً من آراء الغلاة وجدت لنفسها مكاناً عند بعض فرق الخوارج)().
فاليزيدية() وهم من فرق الخوارج يرون (أن الله عز وجل يبعث رسولاً من العجم وينزل عليه كتاباً من السماء وينسخ بشرعه شريعة محمد وزعم أتباع ذلك النبي e هم الصابئون المذكورون في القرآن)().
وكذلك الميمونية() من الخوارج فإنهم أباحوا نكاح بنات الأولاد من الأجداد وبنات أولاد الأخوة والأخوات.

صفات الخوارج
لقد تميز الخوارج بصفات قل أن توجد في سواهم, وسنرى من خلال دراستنا لصفاتهم أنهم تميزوا بالطابع العربي المحض, فقد كانت صفاتهم عربية بخيرها وشرها, عربية في البساطة وعدم العمق, عربية في الصراحة والوضوح, عربية في الشجاعة وحب الوغى, عربية في الفردية وضعف الروح الجماعية, عربية في الوفاء, عربية في عدم تقديس الزعماء.
فمن بساطة الخوارج وسطحيتهم فهمهم لنصوص القرآن على ظاهرها ببساطة شديدة على النقيض من فرق الشيعة التي كانت تتخبط في متاهات التأويل العميق. فقد استدل نافع بن الأزرق زعيم الأزارقة من الخوارج على جواز قتل أطفال مخالفيهم بقوله تعالى: } وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا = 26 إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا{ ()
واستدلوا على كفر علي t بقوله تعالى: } إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ{() بحجة أن علياً حكّم الرجال في كتاب الله فيكون قد حكم غير الله في أمر المسلمين().
ومن ملامح الخوارج الغالبة تشددهم في العبادة ومبالغتهم فيها, فقد روى ابن عباس حين ذهب إليهم رسولاً من قبل علي t رأى منهم جباهاً قرحة لطول السجود, وأيدياً كثفنات الإبل وهم مشمرون للعبادة().
ومما يروى أيضاً عن مبالغتهم في العبادة : ما روى عن زياد بن أبيه من أنه قتل أحد الخوارج ثم جاء بمولاه فقال له: صف لي أمره واصدق. قال المولى: أأطنب أن اختصر؟ فأجابه زياد: بل اختصر. قال المولى: ما أتيته بطعام في نهار قط ولا فرشت له فراشاً بليل قط.
ويصف أبو حمزة الشاري أصحابه خير وصف فيقول: (... وقد بلغني أنكم تنتقصون أصحابي! قلتم هو شباب وأحداث ,أعراب جفاة ويحكم , ما هم في الخير إلا شباباً أحداثاً؟ أما والله إني لعالم بتتابعكم فيما يضركم في معادكم... شباب والله مكتهلون في شبابهم, غضيضة عن الشر أعينهم, ثقيلة عن الباطل أرجلهم, أنضاء عبادة وأطلاح سهر باعوا أنفساً تموت غداً بأنفس لا تموت أبداً, قد نظر الله إليهم في جوف الليل, منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن, كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقاً إليها وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه, وقد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وأنوفهم وجباههم, وصلوا كلال الليل بكلال النهار, مصفرة ألوانهم, ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام مستقلون لذلك في جنب الله, موفون بعهد الله منجزون لوعد الله, حتى إذا رأوا سهام الأعداء قد فوقت ورماحهم قد أشرعت وسيوفهم وقد انتضيت, ورعدت الكتيبة بصواعق الموت, استخفوا بوعيد الكتيبة, ولقوا شبا الأسنة, وشائك السهام, وضباب السيوف بنحورهم ووجوههم وصدروهم, فمضى الشاب منهم مقتولاً وقد اختلفت رجلاه على عنق فرسه, واختضبت محاسن وجهه بالدماء, وعفر جبينه الثرى وانحطت عليه طير السماء وتمزقته سباع الأرض فطوبى لهم وحسن مآب فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعاً وساجدا, وكم من وجه رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد)().
ولا شك أن جماعة بهذا الورع وبهذا الإيمان لا يتهمون في دينهم وإخلاصهم فقد كانوا مخلصين لدين الله ساعين لخير الإسلام لكنهم قد ضلوا الطريق من حيث لا يعلمون وقد وصفهم عمر بن عبدالعزيز t أحسن وصف حين قال لهم: (إنكم أردتم الآخرة فأخطأتهم سبيلها)().
ومما تميز به الخوارج: شجاعتهم الفائقة في الذب عن معتقداتهم وأول ما يتبادر لنا من شجاعتهم ما أشتهر من أشعار قائدهم المغوار قطري بن الفجاءة الذي كان يناجي نفسه فيقول:
فصبراً في مجال الموت صبرا فما نيل الخلود بمــستطاع
سبيل الموت غاية كل حــي وداعيـه لأهل الأرض داعي
وما للمرء خيـــر من حياة إذا ما عدّ من سـقط المتاع()

وقد كان لقطري بن الفجاءة هذا زوجة من أشجع النساء وأكثرهم تمسكاً بتعاليم الدين وكانت تشارك في الحروب وتحمل على صفوف الأعداء وهو ترتجز:
أحمل رأساً قد سئمت حمله
وقد مللت دهنــه وغسله
ألا فتى يحمــل عني ثقله()
وقد قيل للمهلب بن أبي صفرة(): ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة. فقال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فينشد:
وسائلة بالغيب عني ولو درت مقارعتي الأبطال طال نحيبها
إذا ما التقينا كنت أول فارس يجود بنفس أثقلتها ذنوبها
ثم يحمل فلا يقوم له شيء إلا أقعده فإذا كان من الغد عاد لمثل ذلك().
ونحن إذ نصف هذه الصفات للخوارج ونقرر أنهم لم يكونوا متهمين في دينهم ومقاصدهم وأنهم لم يكونوا أعداء مباشرين للإسلام والمسلمين بطريق مباشرة فإنهم بتمسكهم الشديد بآرائهم وسطحيتهم في فهم تعاليم الدين قد آل أمرهم ليصبحوا أعداء خطرين للإسلام والمسلمين إذ ابتدعوا في الدين ما ليس منه واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم وأعاقوا نشاط الدولة الإسلامية ردحاً من الزمن() وتسببوا في هدر الكثير من الجهود والطاقات التي كان من الممكن الاستفادة منها في الجهد العام في بناء الدولة والمجتمع الإسلامي المنشود.





فرق الخوارج وآراءهم
قبل الكلام عن فرق الخوارج يجدر بنا أن نتعرف على ما يجمع فرقهم من عقائد وآراء.
لقد اجتمعت فرق الخوارج على عدة مسائل على الرغم من اختلافاتها فيما بينها() وهي:
إجماعهم على أن الخليفة لا يون إلا بالانتخاب الحر الصحيح يقوم به عامة المسلمين لا فريق منهم ويستمر الخليفة في منصبه ما دام قائماً بالعدل مقيماً للشرع فإن تنكب لذلك وجب عزله.
إن الخليفة لا يختص به بيت من بيوت المسلمين , فكل من توفرت فيه شروط الإمامة جاز له ذلك سواء أكان من قريش أو من سواها.
مما أجمعت عليه الخوارج أيضاً تكفير علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل, عائشة وطلحة والزبير وكل من رضي بالتحكيم.
أجمعت الخوارج سوى الإباضية على اعتبار مرتكب الكبيرة كافراً مخلداً في نار جهنم.
قلنا فيما سبق عند الكلام على صفات الخوارج ( إنهم يتميزون بالفردية وضعف الروح الجماعية , ومن شأن هذه الصفة أن تبعث على التفرق والتمزق. من أجل هذا انقسم الخوارج إلى فرق عديدة(), وصارت إمكانية حصر فرقهم مسألة صعبة, مما أدى إلى اختلاف علماء الفرق في بيان فرقهم وبيان عددها. لكنهم اتفقوا على أنهم لا يقلون عن عشرين فرقة.
لذا فإنا سوف نذكر فرق الخوارج أصولاً وفروعاً ونحن مقتفين أثر الشهرستاني في ذلك لما له من سابقة في هذا المضمار لوضوح تقسيماته وبساطتها:
وعليه يمكن تقسيم فرق الخوارج كالاتي:
( المحكمة الأولى() والأزارقة() والنجدات() والبيهسية() ومن البيهسية فرقة تسمى العونية)() وهي فرقتان , ومنهم أصحاب التفسير() ومنهم أصحاب السؤال() والعجاردة(), وقد افترقت بدورها إلى : الصلتية() والحمزية() والخلفية() والميمونية() والأطرافية() والشعبية() والخارمية() والثعالبة(), وتنقسم الثعالبة إلى فرق وهي: الأخنسية() و والمعبدية() والرشدية() والشيبانية() والمكرمية())



الأزارقة
وهم أتباع راشد بن نافع بن الأزرق الحنفي , وهم من أكبر فرق الخوارج عدداً وأشدهم شوكة() وأعظمهم خطراً على المسلمين, خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز فغلبوا عليها وعلى فارس, وقد هزموا كثيراً من جيوش المسلمين, تصدى لهم البطل المغوار المهلب بن أبي صفرة اختاره أهل البصرة ليذود عنهم وعن حرمهم, ثم أقره ابن الزبير على حربهم وبعد ابن الزبير أقره عبدالملك بن مروان والحجاج. وقد استمرت الحروب بين الأزارقة والمهلب تسعة عشر عاماً. ولولا بطولة المهلب وانقسام الأزارقة على أنفسهم لما انقضت حربهم بالفترة التي انقضت فيها().
وقالوا (الدار دار كفر إلا من أظهر إيمانه ولا يحل ذبائحهم ومناكحتهم ومواريثهم وهم ككفار العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ولا يحل القعود عن الجهاد . والقَعَدَة كفار)().
وذكر الشهرستاني عقائدهم فيقول: إن أهم بدعهم هي():-
تكفير سواهم من المسلمين.
تكفير القعدة.
إباحة قتل أطفال المخالفين ونساءهم.
إسقاط الرجم عن الزاني إذ ليس في القرآن ذكره.
الحكم بأن أطفال المشركين في النار مع آبائهم.
التقية غير جائزة قولاً وعملاً.
تكفير من ارتكب الكبيرة.
ويضيف الشهرستاني إلى بدعهم هذه بدعة جديدة , فيقول: ( واستحلوا كفر() الأمانة التي أمر الله تعالى بأدائها. وقالوا إن مخالفينا مشركين فلا يلزمنا أداء أماناتنا إليهم)().
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:48 am

النجدات:
وهم إتباع نجد بن عامر الحنفي الذي كان مع نافع بن الأزرق على عبدالله بن الزبير ثم اختلفا فيما بينهما بخصوص التقية حيث منعها نافع واقرها نجدة واختلفا كذلك في حكم القعدة , فقد قال نافع : القعود عن الجهاد كفر بينما عذر نجدة القاعدين عن الجهاد وأدى اختلافهم هذا إلى توجه نافع إلى البصرة بينما توجه نجدة بمن معه إلى اليمامة وبقي فيها فترة ثم خرج بمعسكره عازماً على اللحاق بنافع في البصرة لولا أن جاءه أبو فديك وعطية بن الأسود قافلين من البصرة فأخبراه بما أحدث نافع هناك فرجع مع هؤلاء بعسكره وقد أمروه عليهم.
ومن عقائد النجدات التي تميزهم عما سواهم من فرق الخوارج أنهم أكثر تساهلاً من الأزارقة. فهم لا يكفرون القعدة ويبيحون التقية ويعذرون بالجهالات ويرى نجدة أن الدين أمران: أحدهما معرفة الله ومعرفة رسوله والإقرار بما جاء من عند الله جملة وهذا واجب على كل مكلف, والأمر الثاني هو ما سوى ذلك والناس معذورون فيه إن جهلوه. فمن أداه اجتهاده إلى استحلال حرام وتحريم حلال فهو معذور , لهذا سموا بالعاذرية , ويرى أن من كذب كذبة وأصر عليها أشرك, ومن زنى وسرق وشرب الخمر دون إصرار لا يشرك().

العجـــــاردة
هم أتباع عبدالكريم بن عجرد وافق النجدات في بدعهم, وقد تفرد بقوله يجب التوقف في أطفال المسلمين حتى يبلغوا ويُدعوا إلى الإسلام , أما أطفال المشركين فهم مع آباءهم في النار. ويرون أن الهجرة فضيلة لا فريضة ولا يكفرون القعدة بقعودهم بل يتولونهم.
وفي العجاردة ميل إلى الانقسام , فقد ذكر البغدادي والشهرستاني وفخر الدين الرازي انقسامها إلى سبع فرق وهيSad الصلتية والميمونية والحمزية والخلفية والأطرافية والسبعية والحازمية)().

الصفـــرية
هم أتباع زياد بن الأصفر أو ابن الصفار , وقال قوم اصفرت وجوههم من العبادة فسموا بذلك, وقولهم في الجملة كقول الأزارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون غير أن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونساءهم والأزارقة يرون ذلك , وقد زعمت الصفرية أن ما كان من الأعمال فيه حد واقع لا يسمى صاحبه إلا بالاسم الموضوع له كزانٍ وسارق وقاذف وليس صاحبه كافراً ولا مشركاً().

الأباضية
وهم أتباع عبدالله بن أباض, ويرون ان كفار هذه الأمة يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الأمة براء من الشرك والإيمان وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار() وهم يعنون به كفر نعمة وليس كفر شرك() ويرون صحة مناكحة المخالفين من المسلمين والتوارث معهم, وأن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي, ويقبلون شهادة مخالفيهم ولا يجيزون قتالهم إلا بعد دعوتهم .
وقد بادت جميع فرق الخوارج آنفة الذكر ولم يتبق منها سوى طائفة الإباضية تقيم في عمان وفي جهات أخرى من شمال أفريقية ويكره إباضية عمان أن يسموا خوارج(), حيث إنهم لم يعد يربطهم بالخوارج سوى اسمهم وهم الآن متعايشون مع المسلمين على أكمل وجه , وقد استطاع المذهب الإباضي أن يثبت أصالته خاصة في العصور المتأخرة في عمان حيث استطاع أن يعطي تطبيقات عملية حول سلطات الإمام وواجباته ومسؤولياته الإدارية والمالية والأمنية, يقول الدكتور فاروق عمر: ( وبعد أن نجح الإباضية في تأسيس كيانات سياسية في عمان والمغرب العربي فقد كان لابد لهم من أن يغيروا ويعدلوا في نظريتهم... وهنا لابد من القول بأن المذهب الإباضي أظهر مرونة واعتدالاً ونظرةً توفيقية بحيث يتلاءم مع الظروف السياسية والاجتماعية في عمان وفي ذلك يكمن سر نجاح الإباضية واستمرارها لأكثر من اثني عشر قرناً من الزمان)().
وكان الإباضيون في المغرب العربي سواء أكانوا حكاماً أم ثواراً على قدر كبير من العفة والنزاهة والأخلاق الحميدة التي تؤكد تمسكهم بأهداب الشريعة الغراء. يقول الدكتور محمود إسماعيل: (فحروب الإباضية في المغرب عموماً انطوت على مثالية مفرطة في معاملة الخصوم ونجد مصداقاً لذلك في حروب أبي يزيد() ... فحسبه وفاؤه بالعهود التي كان يقطعها على نفسه ببذل الأمان لسكان المدن المفتوحة, ولم يلجأ إلى أساليب القمع والبطش إلا حين تمردت هذه المدن وانضمت لخصومه)().


مكانة الصحابة y عند الخوارج
قلنا أثناء كلامنا على فرق الخوارج أنهم يجمعهم اكفار عثمان وعلي والحكمين وأصحاب الجمل رضي الله عنهم جميعاً , وهم – الخوارج- كانوا يأخذون الأمور بسطحية شديدة , فبنوا نتائجهم على مقدمات ساذجة, فهم حينما قالوا بأن مرتكب الكبيرة كافر وقعوا في ورطة كبيرة جرتهم إلى أن يقعوا في أخطاء أكبر, وكل خطأ كانوا يقعون فيه كان يؤدي بهم إلى واد سحيق من الضلال بسبب عنادهم وتماديهم في الباطل.
ولقد جاء طعنهم في الصحابة y نتيجة خطأ بسيط في فهم آية من كتاب الله } إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ {().
ففي قضية التحكيم رأوا أن اللجوء إلى التحاكم إلى كتاب الله عن طريق الناس هو حكم بغير ما أنزل الله, وهو مستلزم للكفر, لهذا كفروا علياً ومعاوية والحكمين: أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهم ولو أنابوا إلى رشدهم واستمعوا إلى صوت العقل لكان خيراً لهم ولأمتهم لكن تنطعهم الشديد كان له الأثر السيئ عليهم , فقد كان هذا التشدد معول هدم يفت في عضدهم فترى الفرقة منهم بعد أن تثار أي مسألة مهما تكن بسيطة قد انقسمت على نفسها وهكذا حتى ترى منهم فرقتين تعترف أحدهما للأخرى بالصواب والهداية.
وبعد أن أكفر عامة الخوارج قسماً من صحابة رسول الله r متهمين إياهم بالحكم بغير ما أنزل الله نرى قسماً منهم قد وجه تهمة أخرى إلى الصحابة y كلهم وهي تهمة تحريف القرآن الكريم. فالعجاردة الذين تحدثنا عنهم آنفاً قالوا: (ليست سورة يوسف من القرآن ولا حا ميم عين سين قاف)() وهذا الكلام لم يتناول الصحابة y مباشرة إلا أن فيه طعناً ضمنياً لهم لأنهم هم الذين تُرك القرآن بين أيديهم فأي تحرف يقع له يكون الصحابة y هم المتهمين به.
وقد أدرك الأوائل من علماء الأمة خطورة هذه الآراء فحكموا بكفر من قال منهم ذلك.
يقول أبو المظفر الاسفراييني: ( والكفر لا محالة لازم لهم لتكفيرهم أصحاب رسول الله r)(). ونحن لا نوافق البغدادي حين يدخل الخوارج جميعاً في حضيرة الإيمان سوى الزيدية من الإباضية الذين يزعمون أنه سوف يرسل الله تعالى نبياً من العجم في آخر الزمان , والميمونية من العجاردة الذين يزعمون أن سورة يوسف ليست من القرآن وأنه يحل نكاح بنات الأولاد وبنات أولاد الأخوة والأخوات() لأن مثل هذا التسامح يغري الناس في التطاول على نبراس الأمة ورمز شموخها صحابة رسول الله r ويوحي إليهم بأن تكفير المسلم شيء يسير لا يقدم و لا يؤخر في ميزان الله تعالى.
لذا فنحن نوافق أبا المظفر الاسفراييني فيما ذهب إليه من أن من كفر أحداً من صحابة رسول الله r فقد لزمه الكفر() لأن مسألة تكفير الصحابة y لا تقف عند حدودهم بل تصل إلى المساس بالقرآن الكريم الذي شهد لهم بصدق الإيمان وحسن الإسلام وكثرة البذل والتضحية في سبيل الله وبالسنة النبوية المطهرة التي أعلت شأنهم وقدرتهم حق قدرهم كما سنرى فيما بعد.



الباب الثاني
الفصل الخامس

مكانة الصحابة
عنــــــد
أهل السنة والجماعة


تعريف بأهل السنة والجماعة
السنة لغة: الطريقة()-سواء كانت حسنة أو قبيحة قال رسول الله r:(من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا, ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب له مثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا)().
ونقل الشوكاني عن الكسائي أن السنة الدوام() ولعله أراد به الأمر الذي يداوم عليه. وقال الطبري: (السنة المثال المتبع والإمام المؤتم به)() وجعل منه قول لبيد بن ربيعة:
من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها()

وتطلق السنة لغة أيضا على الطبيعة أي السجية , وبه فسر قول الأعشى:
كريم شمائله من بني معاوية الأكرمين السنن()

أما تعريف السنة اصطلاحاً فهي: (ما صدر عن سيدنا محمد رسول الله r -غير القرآن- من فعل أو قول أو تقرير)().

والجماعة اسم مأخوذ من الاجتماع والمجامعة على أمر واحد ورأي واحد, فيقال: فلان من أهل السنة والجماعة إذا كان متمسكاً بسنة رسول الله r تاركاً لما ابتدعه المبتدعون بعده, ثابتاً مع أهل السنة الذين اجتمعوا على إمام هاد جامع لهم)().
وأهل السنة أكبر الفرق الإسلامية ويمثلون جمهور المسلمين ويجمعهم القول بأن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأن خير الناس بعد رسول الله r أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي().


(وكانت بداية إطلاق اسم أهل السنة في العصر العباسي الأول على كل من تمسك بالكتاب والسنة ووقف تجاه المعتزلة , وظلت الحال كذلك حتى اضمحلت أكثر الفرق الإسلامية فلم يعد هناك سوى الشيعة والسنة)()().
ويذكر البغدادي أن أهل السنة أصناف عديدة(), فمنهم الذين أحاطوا العلم بأبواب التوحيد والنبوة وأحكام الوعد والوعيد والثواب والعقاب وشروط الاجتهاد والإمامة والزعامة وسلكوا في هذا النوع من العلم طرق الصفاتية من المتكلمين الذين تبرئوا من التشبيه والتعطيل ومن بدع الرافضة والخوارج والجهمية وسائر أهل الأهواء الضالة ومنهم أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث من الذين اعتقدوا في أصول الدين مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته, ومنهم الذين أحاطوا بوجوه القراءات ووجوه تأويلها على وفق مذاهب أهل السنة.
ومنهم الزهاد والصوفية الذين أبصروا فاقصروا واختبروا فاعتبروا ورضوا بالمقدور وقنعوا بالميسور... كلامهم في طرفي العبارة والإشارة على سمت أهل الحديث... لا يعملون الخير رياءً ولا يتركونه حياءً. ومنهم المرابطون في ثغور المسلمين في وجوه الكفرة... ويظهرون في ثغورهم مذاهب أهل السنة والجماعة...
ومنهم عامة البلدان التي غلبت فيها شعائر أهل السنة دون عامة البقاع التي ظهر فيها شعار أهل الأهواء الضالة...(وهم الذين) اعتقدوا تصويب علماء السنة والجماعة في أبواب العدل والتوحيد والوعد والوعيد ورجعوا إليهم في معالم دينهم وقلدوهم في فروع الحلال والحرام ولم يعتقدوا شيئاً من بدع أهل الأهواء الضالة. وهؤلاء هم الذين سمتهم الصوفية حشو الجنة(انتهى)().
وتميز أهل السنة ببعدهم عن الغلو وميلهم إلى الاقتداء الصحيح بما كان عليه سلف الأمة من وسطية واعتدال فهم لم يتشددوا تشدد الخوارج ولم يتنصلوا تنصل كثير من فرق الشيعة تحت غطاء التقية, واستطاعوا بوسطيتهم هذه أن يحفظوا لنا شعائر الدين الحنيف وأن ينقوها من الغلو المذموم.
وبوسعي أن أقول أن أهل السنة إذا ما قورنوا بغيرهم من فرق المسلمين فإنهم كانوا ولا يزالون يشكلون قوة كبرى تعمل على تثبيت كفة العقيدة الصحيحة إزاء التيارات المنحرفة.

مكانة الصحابة y عند أهل السنة
تميز موقف أهل السنة والجماعة عن مواقف جميع الفرق الإسلامية في نظرتهم إلى الصحابة y , فكل فرقة من تلك الفرق نراها قد نالت من الصحابة y بطريقة أو بأخرى على التفصيل الذي ذكرناه سابقاً. فمنهم من اتهمهم بالارتداد عن دين الله تعالى, ومنهم من اتهمهم بالمكر والخداع والنفاق ومنهم من اتهمهم بتحريف القرآن, أو بممالئة الظالمين إلى آخر تلك الاتهامات, بينما يرى أهل السنة والجماعة أن الصحابة y هم القدوة الحسنة وهم أشبه ما يكون بالمرآة التي تعكس للأجيال اللاحقة حياة رسول الله r, وضعوهم في مكانهم الذي ارتضاه الله تعالى لهم من غير إفراط ولا تفريط, فلم يبالغوا فيهم ولم يدعوا فيهم العصمة ولا تلقي العلم اللدني عن الله تعالى, ولم يعلنوا مسؤولية التشريع واقفة عند حدودهم , بل هم بشر كسائر الناس سوى أن الله تعالى قد كرمهم بصحبة نبيه e وشرفهم بحمل تعاليمه ونشر دعوته وتبليغها للعالمين, فهم حلقة الوصل فإذا انفصمت عن المصدر الرئيس للتشريع نكون قد فقدنا النبراس الذي نهتدي به.
لذا لم يفرط أهل السنة بحقهم ولم يتهموهم بالكفر والنفاق والإصرار على الكبائر, وفيما يلي تفصيل لهذا الإجمال.
يقول الإمام الطحاوي: ( ونحب أصحاب رسول الله r ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم, ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان)().
(فأهل السنة يوالونهم كلهم, وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها, بالعدل والإنصاف, لا بالهوى والتعصب, فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد)().
(وأجمع أهل السنة على إيمان المهاجرين والأنصار من الصحابة y )()
(ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله r وأزواجه الطاهرات من كل دنس, وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق)().
وأهل السنة يرون أن أفضل الناس بعد رسول الله r أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة() ومن أكفر واحداً من الصحابة y فهو كافر لا شك في كفره.

حكم سب الصحابة y عند أهل السنة
أجمع أهل السنة – كما قلنا سابقاً- على عدالة الصحابة y , من لابس الفتن منهم ومن لم يلابسها . ولم يجعلوا من أنفسهم حكاماً عليهم بل التمسوا لهم الأعذار وأكنوا لهم المودة. يقول ابن كثير: ( وأما ما شجر بينهم بعده e فمنه ما وقع من غير قصد, كيوم الجمل, ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين, والاجتهاد يخطئ ويصيب ولكن صاحبه معذور إن أخطأ ومأجور أيضاً وأما المصيب فله أجران اثنان وكان علي وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين)().
لهذا كان موقف أهل السنة من الصحابةy موقفاً نبيلاً فقد ذبوا عنهم ودرؤوا أهل الأهواء وصرحوا بكفر من كفَّر أحداً من الصحابةy ومن سب واحداً منهم فهو فاسق.
يقول الإمام أحمد: إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله r بسوء فاتهمه على الإسلام)().
ويقول أبو زرعة الرازي: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي e فأعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول e حق والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة y وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة).
وقد فصل ابن تيمية رحمه الله أقوال علماء الأمة في حكم من سب الصحابة y فقال:
(من سب أحداً من أصحاب رسول الله r من أهل بيته وغيرهم فقد أطلق الإمام أحمد أنه يضرب نكالاً وتوقف عن قتله وكفره... وقال عبدالله(): سألت أبي عمن شتم أصحاب النبي e قال: أرى أن يضرب , قلت له حداً؟ فلم يقف على الحد إلا أنه قال: يضرب, وقال ما أراه على الإسلام)().
( وقال الميموني: سمعت أحمد يقول: مالهم ولمعاوية, نسأل الله العافية وقال لي يا أبا الحسن إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله r بسوء فاتهمه على الإسلام)().
وقال القاضي أبو يعلى: ( الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة y إن كان مستحلاً كفر وان لم يكن مستحلاً فسق)().
وذهب فريق من أهل السنة إلى أن من سب الصحابة y فهو كافر ويجب قتله, يقول ابن تيمية موضحاً حجة هؤلاء:-
( وأما من قال يقتل السابّ أو يكفر فلهم دلالات احتجوا بها منها قوله تعالى: } مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً {()
فلا بد أن يغيظ بهم الكفار , وإذا كان الكفار يغاظون بهم – أي الصحابة y - فمن غيظ بهم فقد شارك الكفار فيما أ ذلهم الله بهم وأخزاهم وكبتهم على كفرهم ولا يشارك الكفار في غيظهم الذي كبتوا به جزاء لكفرهم إلا كافر لأن المؤمن لا يكبت جزاء الكفر... ومنها ما روى عن النبي e أنه قال: (من أبغضهم فقد أبغضني ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله)().
وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر المسلمين وبين أذاهم بعد صحبتهم() له e.
وفي حاشية ابن عابدين أن (من سب الشيخين وطعن فيهما كفر ولا تقبل توبته)()
وبعد فهذه هي نظرة أهل السنة والجماعة إلى الصحابة y عرضناها بكل تجرد من غير إفراط ولا تفريط في حقهم , فهم رضي الله عنهم الأمة الوسط الذين اختارهم الله ليكونوا شهداء على الناس, نسأل الله تعالى أن يرزقنا حبهم وموالاتهم وأن يطهر قلوبنا من الغل والحسد} رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم ٌ{().




الفصل السادس
الطعن
في الصحابة ونتائجه الضارة




الطعن في الصحابة y ونتائجه الضارة
بعد أن عرفنا في الفصول السابقة عدالة الصحابة y وأنها ثابتة عقلاً ونقلاً, وعرفنا مكانتهم عند الفرق الإسلامية البارزة, ووقفنا على أسباب اختلافاتهم وأنواعها, رأينا أن نعقد هذا الفصل للنظر في نتائج الطعن فيهم وبيان أن الطعن فيهم لا يقف عند حدودهم بل يتجاوز إلى أساسيات الدين, إذ ترى بعض الفرق الإسلامية أن الطعن في الصحابة y مسألة سهلة لا يجب على المسلمين أن يعيروا لها بالاً, وترى أنها ربما كانت من المسائل التي يثابون عليها إذا هم خاضوا فيها عن اجتهاد واعتقاد ويرون أن هذه المسألة لا توجد تصادماً بينهم وبين عامة المسلمين الذين يكنون للصحابة كل إكبار واحترام. ومن هؤلاء محمد حسين كاشف الغطاء الذي دعا المسلمين إلى نبذ خلافات الفرقة ولم الشمل وتناسي مثل هذا الأمر البسيط (يعني سب الصحابة y ) فقال: ( أما أولاً: فهذا ليس رأي جميع الشيعة, وإنما هو أمر فردي من بعضهم() وربما لا يوافق الأكثرون عليه, ... وثانياً: إن هذا على فرضه لا يكون موجباً للكفر والخروج من الإسلام بل أقصى ما هناك أن يكون معصية, وما أكثر العصاة في الطائفتين,... وثالثاً: قد لا يدخل هذا في المعصية أيضاً ولا يوجب فسقاً إن كان ناتجاً عن اعتقاد, وإن كان خطأَ فان من المتسالم عليه عند الجميع في باب الاجتهاد أن للمخطئ أجر وللمصيب أجرين)().
وليس هذا رأياً انفرد به محمد حسين كاشف الغطاء بل هو ما عليه جمهورهم إن لم أقل إنه من مستلزمات دينهم وأصوله الرئيسية.
وهكذا وبكل بساطة أصبح سب الصحابة y مثوبة يتقرب بها إلى الله Y. أنما رأيهم فيمن يسب علياً t والعياذ بالله من ذلك فهو عندهم ملحد كافر بالله العظيم فهم كما قال أحدهم: (ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا كما جعلت في قلوب المنافقين والملحدين فسبوا أول المؤمنين على متون المنابر علانية وجهرا وظلموا الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا ربنا إنك رؤوف رحيم)().
ونحن إذ ننقل هذا الكلام لا نريد أن نهون من مسألة سب علي t أبداً... إنما نريد أن نبين تناقضهم لأنهم يرون أن من سب علياً فهو ملحد منافق في قلبه غل ومن سب سواه من الصحابة y فهو مأجور على اجتهاده, علماً أن الجريمة واحدة, فالسباب حرام بكل صوره ورسول الله e يقول: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)(), ومن تجرد عن هواه, وأخلص قلبه لله, أدرك أن مسألة الطعن في الصحابة y مسألة كبيرة لها ما بعدها, وأنها تؤثر في إيمان المرء أيما تأثير, فماذا يبقى من إيمان رجل يدعي الإسلام إذا هو شك في نَقَلة الشريعة قرآنها وسنتها؟ ثم ما الذي يدعو المسلم إلى التحامل؟ وما الذي يجنيه من هذه التجارة؟! أهو الغيرة على أهل البيت والانتصاف لهم؟! أم هو الدفاع عن بيضة الدين؟! ولم أر في حياتي مظلوماً كف يده ولسانه ثم يأتي غيره لينتصف من ظالميه بعد أن تنازل صاحب الحق عن حقه, ولم أر ديناً تحمي حياضه بالشتم والسباب!.
لهذا فإن الطعن في الصحابة y له نتائج خطيرة ومساوئ كثيرة يمكن أن نجملها فيما يلي:
أولاً: الطعن في صحة نقل القرآن
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم على محمد e النبي الأمي وأمره بتبليغه للناس ولكي تكون المعجزة أكبر كانت البيئة التي عاش فيها رسول الله r بيئة أمية.
وتلقى رسول الله r هذا القرآن عن طريق الوحي فكان يحفظ ما يلقيه إليه الروح الأمين في قلبه, ثم يبلغ ما تلقاه e إلى الصحابة y فمنهم من كان يكتب ذلك ومنهم من كان يكتفي بالسماع , وهكذا استمرت الحال إلى أن اكتمل نزول القرآن وقبض رسول الله r والقران مكتوب في الألواح() والأكتاف() والعسب() واللخاف() ومحفوظ في صدور الرجال كلاً أو بعضاً, إذ كان منهم من يحفظه كله ومنهم من يحفظ بعضه(), ثم دارت حروب الردة في عهد أبي بكر الصديقt فذهب فيها كثير من حفظة القرآن, فخشي عمر t أن يضيع القرآن بموت هؤلاء الحفظة, وعرض الأمر على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فتردد في أول الأمر ولم يزل به حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر عمر وعلم أن فيه خيراً كثيراً, وأسندت هذه المهمة العظيمة إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابتt , ويحدثنا زيد t عن هذا الأمر فيقول: (قال أبو بكر: إنك رجل شاب, عاقل لا نتهمك, وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله r فتتبع القرآن واجمعه, قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن... فقمت فتتبعت القرآن, أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال)(). فقام زيد بهذه المهمة خير قيام بما أوتي من عزيمة وصبر وبما لقي من عون من صحابة رسول الله r .
فإذا كان الصحابة y مطعوناً فيهم كما يروي البعض فكيف نطمئن إلى أن ما نقرأه من القرآن هو عين ما نزل على محمد e, إن المرء لا يستطيع إلا أن يشك في خبر من هو مطعون فيه, إن لم يردّه جملة وتفصيلاً.
والقران الكريم نفسه يحثنا على هذا المنهج القويم فيقول: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ {().
فيجب التأكد من خبر الفاسق, وكيف التأكد من خبر جميع رواته مطعون فيهم إلا قليلاً منهم, وليس لنا طريق لنقله سواهم, وعلى هذا يجب رد خبرهم جملة وتفصيلاً وإهمال ما جاء به من حكم وأحكام مهما كان شأنها في الدين وموقعها من الشريعة.
قد يقول قائل اننا لا نطعن في جميع الصحابة y , وإنما نطعن في بعضهم, فلا يلزم من كلامنا الطعن في صحة نقل القرآن. أقول: هذا كلام باطل, لأن القرآن نقل عن الصحابة y بمجموعهم لا عن أشخاص معينين منهم, فقد يكون من وقع عليه الطعن وافر الحظ في عملية جمع القرآن وتدوينه, أو ممن كان يكتب الوحي بين يدي رسول الله r .

ثانياً: الطعن في السنة المطهرة
إذن فالقران منقول عن عموم الصحابة y بغض النظر عن كونهم معدلين من قبلكم ايها الطاعنون أ غير معدلين, وفي هذه الحالة يكون القرآن الكريم مشكوكاً فيه, فيحتمل أن يكون صحيحاً ويحتمل أن يكون غير ذلك , وهذا الشك ليس بأهون من القطع في عدم صحته.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: ( ومن أنكر الاحتجاج بالسنة فلا يمكن أن يكون من المسلمين, لأن السنة تبليغ النبي e وهي المفسرة للقرآن الكريم وهي بابه النوراني الذي ندخل منه, من فصلها عن القرآن فقد فصل القرآن عن نبيه)().
وقد أمرنا تعالى بالعمل بها فقال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {() وقال سبحانه: } وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا{ () وقال أيضاً: } مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً{().
ويقول الدكتور خليل إبراهيم السامرائي: ( والسنة مع القرآن على جهتين: الأولى: بيان وتفسير ما جاء في القرآن, ففي القرآن آيات مجملة, أو مطلقة أو عامة فالسنة هي التي بينت المراد منها بتفصيل المجمل, وتقييد المطلق, وتخصيص العام... والثانية: إضافة أحكام جديدة لم يرد بها نص من القرآن, فقد حرمت السنة لبس الحرير والذهب على الرجال, وحرمت لحم الحمار الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور)().
فإذا كان للسنة هذه المنزلة فكيف يسوغ لنا أن نطعن في نقلها ونحن نعلن أن الطعن فيهم( أي الصحابة) لا يبقى معه ذكر للسنة المشرفة, فهم وحدهم الذين تلقوها عن رسول الله r وهم وحدهم الشهود عليها, فإذا رفضناهم فإلى مَن نيمم وجوهنا؟! وعلى من نعتمد في معرفة هدي نبينا e؟
وفي أمثال هؤلاء يقول الشيخ محمد أبو زهرة: ( إن هؤلاء الذين يسمحون لأنفسهم بالنيل من صحابة رسول الله r إنما يريدون أن يهدموا السنة ويكذبوا على الأمة)().
وينقل ابن حجر عن الخطيب البغدادي قول أبي زرعة: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي e فأعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول e حق والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة)().
وحينما سأل هارون الرشيد أحد الزنادقة قبل أن يضرب عنقه: لماذا كان الصحابة y أول ما تتجهون إلى تشويه صورتهم؟ أجابه قائلاً: لأننا إذا تمكنا من الطعن فيهم نكون قد أبطلنا نقلة الشريعة, فإذا بطل الناقل أوشك المنقول أن يبطل().
فهل يجوز بعدها أن نطلق ألسنتنا فيهم؟ إننا إن فعلنا هذا نكون قد حكمنا على ديننا بالهزال وعلى أنفسنا بالخسران.

ثالثاً: تكذيب نصوص كثيرة من الكتاب والسنة
إن الطعن في الصحابة y يؤدي صراحة إلى الطعن والتكذيب السافر في كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي تشهد بعدالة الصحابة y وحسن سريرتهم وسمو مكانتهم, وتصرح برضا الله تعالى عنهم, وحسن ثوابه لهم, وأنهم كانوا خير أصحاب لخير رسول, بل كانوا خير أمة أخرجت للناس.
وها هي بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تشهد بعدالتهم وفضلهم والتــي لا يسع أحد إغفالها أو تجاوزها.
فمن الآيات التي تشهد بذلك:
قوله تعالى: } وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { ().
و قوله تعالى: } لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{ ().
و قوله تعالى: } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا { ()
فهذه الآيات وكثر غيرها تقطع بعدالة الصحابة y وتثبت أن بواطنهم كان يملؤها الإيمان فامتلأت سكينة وأمناً فهل نرد هذه الآيات من أجل أهواء ألقاها الشيطان في زوايا بعض العقول؟
إن التفوه بالنيل من الصحابة y هو تجريد لله عن العلم – تعالى الله عن ذلك- إذ كيف يرضى عن قوم امتلأت قلوبهم نفاقاً وأهواءً وحباً للجاه والسلطان. إذن فنحن بالخيار إما أن نصدق الله فيما أخبرنا به من أن الصحابة y قد نالوا رضاه بما امتلأت به قلوبهم من صادق الإيمان وكامل اليقين, وأما أن نرد هذه الآيات ونسمح لمن يريد أن يجتهد في سب الصحابة y طلباً للأجر كما تزعمون؟!!
وأما الأحاديث , فمنها قوله e : ( خير الناس قرني ثم ال1ين يلونهم ثم الذين يلونهم, ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)().
وقوله e : (لا تسبوا أصحابي فوالدي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)().
وقوله e: ( الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فقد أحبني ومن أبغضهم فقد أبغضني ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)().
فأما أن يكون رسول الله r قد قال هذه الأحاديث عن علم بما كان عليه أصحابه, فيكون حالهم كما وصفهم, وفي هذه الحالة لا يجوز رد هذه الأحاديث, لأن ردها تكذيب له e وهو عين الكفر والعياذ بالله, وإما أن يكون e قد قالها اعتباطاً وجزافاً وهؤلاء أعلم بأصحابه منه e فتكون هذه الأخبار كاذبة , وفي هذا نكون قد نسبنا الكذب إلى رسول الله r وهو كفر بواح لاحظ لقائله بحبة خردل من إيمان.

رابعاً : الطعن في شخص الرسول e
ومن مفاسد الطعن في الصحابة y الطعن في شخص الرسول الأعظم e فهم تلامذته الذين كانوا يحيطون به صلى الله عليه وسلم وكان يأنس بهم ويتحدث إليهم فكان يحبهم ويحبونه, وكانوا يجتهدون في أن تكون حياتهم بحركاتها وسكناتها مطابقة لحياته e, من أجل هذا كان e يقول: (من آذاهم فقد آذاني)() و يقول: (من أحبهم فقد أحبني ومن أبغضهم فقد أبغضني)().
وقديماً قالت العرب:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وفي هذا الخصوص يقول الإمام مالك: (إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي e فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين أو كما قال)().

خامساً:- فشل الإسلام كدين صالح للتطبيق
والنتيجة الخامسة للطعن في الصحابة y هي أن الإسلام دين لم يطبق في يوم من الأيام وأنه غير صالح للتطبيق وأن تعاليمه إنما هي مُثُل تحلق في الفضاء. نعم, إذا آمنا بفسق الصحابة y وارتداهم والعياذ بالله وهم بحضرة رسول الله r وقد عاينوا معجزاته بأعينهم وسمعوا آيات الله وهي تتلى خلف صياصيهم على لسان نبيهم, ثم لا تلج هذه الآيات إلى قلوبهم فما معنى هذا؟ معناه أنهم قد طلب منهم ما لا طاقة لهم به أو أنهم ليسوا من البشر.
وإذا كان الصحابة y وقد عاشوا حياتهم كما نعرفها , جهاداً في سبيل الله بالمال والنفس والولد ومفارقة الأرض والأحباب في سبيل نشر دعوة الإسلام... إذا كان كل هذا يعد نفاقاً وفسقاً وارتداداً , فما هو معنى الإيمان الذي نريد أن نحققه والذي عجز الصحابة y من الوصول إليه؟ أهو الاجتهاد في الطعن والسباب وتحريف كتاب رب الأرباب ورد نصوص الكتاب والسنة؟! لست أدري ماذا يبقى من الإسلام أذا أصررنا على طعن الصحابة y وقد علمنا أن الطعن فيهم ينجم عنه سحب الثقة من القران والسنة, كما أنه ينجم عنه الطعن في شخص الرسول الكريم e وتصوير الإسلام ديناً بعيداً عن الواقع في إمكان تطبيقه, ثم كيف نستطيع أن نتصور الرسول e يقضي حياته بين ظهراني قوم منافقين يكلمهم ويجاملهم ويتعامل معهم ويتزوج منهم ويزوج بناته لهم, هل كان يخشاهم؟! هل كان يتظاهر بذلك وهو الذي علمنا الصدق في كل الأحوال؟!
وأخيراً أقول إن الإصرار على هذا الموقف لا يمكن المسلمين أن يجتمعوا في يوم من الأيام, ما دام فيهم من ينظر إلى الصحابة y هذه النظرة السوداء الحاقدة المارقة.
قوله تعالى: } رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ { ()




الخاتمة




الخاتمـــة

بعد أن تكلمنا عن الصحابة y وتعرفنا على مكانتهم عند المسلمين وبينا الآثار التي نجم عن الطعن فيهم , أرى من المناسب هنا أن أسجل في هذه الخاتمة النتائج التي توصلت اليها من خلال رسالتي هذه وهي:
أولاً: أن الصحابة y هم حلقة الوصل بين الأمة وبين نبيها الكريم e وأن قطع هذه الحلقة يعني قطع صلة الأمة بنبيها e.
ثانياً: إن على المؤمنين بالله ورسوله أن يسلموا بكل ما جاء في القرآن والسنة وبالتالي فلا يجوز له أن يناقش في عدالة الصحابة y بعد تعديل الله تعالى ورسوله الكريم e لهم.
ثالثاً: إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده, ومن فضله تعالى أن منّ على الصحابة y فأعطاهم فضيلة الصحبة, فلا يجوز لغيرهم أن يقيس نفسه بهم وأن يجعل من نفسه حكماً عليهم.
رابعاً: إن جميع الذين تطاولوا على مقام الصحابة y وقعوا في متاهاتٍ ومهاوٍ فاضطروا إلى القول بتحريف القرآن وبتأويل كثير من آياته تأويلاً باطنياً فاسداً لا يؤيده الظاهر ولا يتماشى مع قواعد اللغة ولا يقبله العقل.
خامساً: إن المستفيد من التطاول على السلف الصالح هم أعداء الإسلام من ملاحدة وزنادقة, لأن من شأن التطاول أن يفت في عضد الأمة ويقطع جذورها وصلتها بذلك السلف الذي شاد لها التاريخ الحافل بالأمجاد.
سادساً: إن التقريب بين المسلمين لا يكون بالسماح في التطاول على الصحابة y , وإنما يكون بإقلاع المخطئ عن خطئه, وإن أي تقريب على حساب سلف الأمة وجيلها الفذ هو ابتعاد عن الطريق الصحيح للتقريب بين المسلمين.
سابعاً: إن الأخوة الإسلامية هي الركن الأساس الذي يجب أن يلجأ إليه المسلمون في لمّ شعث الأمة , وإن أول ما يعتمد عليه في هذا هو احترام سلف الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثامناً: أرى من الضرورة الوطنية والدينية أن تعنى الجامعات والمعاهد في الأقطار العربية والإسلامية بدراسة حياة سلفنا الصالح من الصحابة y والتابعين, لإطلاع الأجيال على فضلهم ومكانتهم وما قدموا لهذه الأمة من أعمال أعلوا بها قدرها ورفعوا بها ذكرها بين الأمم, ولقطع الطريق على من تسول له نفسه النيل منهم والطعن بهم خدمة لأعداء للأمة ومريدي الشر والهوان بها.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:52 am

صفة الصحابة في التوراة والانجيل

منير عرفه

( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) سورة الفتح آية 29

.......................

كما اختار الله سبحانه وتعلى واصطفى نبيه محمدًا – صلى الله عليه وآله وسلم – لرسالته، اصطفى له أصحابه الكرام. وكما جاء ذكره فى الكتب السابقة ، كذلك جاء ذكرهم فى الكتب السابقة وهى التوراة والانجيل .

وهذه الآية التى بين أيدينا تنطق بهذا ، أنهم أشداء على الكفار ، وأنهم رحماء بينهم ، وأنهم راكعون ساجدون لله تعالى وهذا ظاهرهم. أما باطنهم فقد زكاه الله تعالى فقال ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) وهل أحد يعلم السرائر مثل الله تعالى ؟!

هذا هو وصفهم فى التوراة .

أما فى الانجيل ؛ فيصف فيه الله تعالى نبيه محمدًا كأنه زرع مبارك ، ثم نما هذا الزرع وأخرج بجانبه زرعًا آخرًا ، كذلك رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كان هو المؤمن الأول والزرع الأول لهذا الدين ، ثم آمن بدعوته بقية أصحابه فاستغلظت دعوته وعظمت بهم جميعًا ، كما يشتد عود الزرع الأصلى ببقية الزرع من نفس نوعه .

فهل بعد هذا الفضل من فضل ؟! وهل بعد هذا المدح من مدح ؟!

ألا قاتل الله أصحاب الأهواء الذين ينالون من أصحاب رسول – صلى الله عليه وآله وسلم – ، وما أقبحهم والله ما فضحوا إلا أنفسهم ، فإنه لو تحول الناس جميعًا إلى كناسين ليهيلوا التراب على السماء لأهالوا التراب على أنفسهم ولظلت السماء هى السماء فى عظمتها وعلوها وصفائها !

* ومما يدل على كمال ذلك أن عمر بن الخطاب حين ذهب لاستلام بيت المقدس ، رفض البطريريك أن يسلمها إلا للخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، قائلا أن وصف من سيستلم بيت المقدس قد جاء مسطرًا عندهم فى التوراة ، فلما جاء عمر وجدوا صفاته التى جاءت فى التوراة متحققة فسلم إليهم بيت المقدس ونزل على شروطهم .

وإن شاء الله نتابع فى مرة أخرى حول حديث القرآن عن أصحاب النبى – صلى الله عليه وآله وسلم – .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:55 am

فضائل الصحابة رضي الله عنهم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد : " فإن أولى ما نظر فيه الطالب ، وعني به العالم بعد كتاب الله -عز وجل- سنن رسوله -صلى لله عليه وآله وسلم- فهي المبيِّنة لمراد الله -عز وجل- من مجملات كتابه ، والدالة على حدوده ، والمفسرة له ، والهادية إلى الصراط المستقيم صراط الله مَن اتبعها اهتدى ،ومن سُلبها ضل وغوى وولاه الله ما تولى ، ومِن أَوكد آلات السنن المعينة عليها ، والمؤدية إلى حفظها معرفة الذين نقلوها عن نبيهم -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس كافة ، وحفظوها عليه ،وبلغوها عنه ، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها وأدوها ناصحين محسنين حتى أكمل بما نقلوه الدين ، وثبت بهم حجة الله -تعالى -على المسلمين فهم خير القرون ، وخير أمة أخرجت للناس ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم ، وثناء رسوله -عليه السلام- ، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته ، ولا تزكية أفضل من ذلك ، ولا تعديل أكمل منه قال الله تعالى ذكره ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود)( الفتح: 29) " [1]

" والصحابة أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها حالا اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإقامة دينه " . كما قاله ابن مسعود _رضي الله عنه_ [2] . "فحبهم سنة والدعاء لهم قربة والإقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة "[3]

وهم صفوة خلق الله تعالى بعد النبيين -عليهم الصلاة والسلام- فعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ في قول الله عز وجل ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) (النمل:59) قال : أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- [4].

وقال سفيان في قوله عز وجل ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)(الرعد: 28) قال : هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- .[5]

وعن وهب بن منبه -رحمه الله -في قوله تعالى ( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس:16) قال هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-[6].

وقال قتادة في قوله تعالى ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِه)(البقرة:121) هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -آمنوا بكتاب الله وعملوا بما فيه [7].

وقال ابن مسعود _رضي الله عنه_ " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوبَ أصحابهِ خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وزراءَ نبيهِ يُقاتِلون على دينه " [8] والصحابي هنا هو مَن لقي النبي -صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به ، ومات على ذلك . فقد جاء في حديث قيلة العنبرية -رضي الله عنها- : خرجت أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [9] .

وقد ورد في فضلهم آيات وأحاديث كثيرة منها : قوله تعالى ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100)

وقال تعالى ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18)

وقال تعالى ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح : 29)

وفي آيات عديدة ذكرهم الله تعالى وترضى عنهم .

ومما جاء في السنة :

عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) [10] " وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة ، وضيق الحال بخلاف غيرهم ، ولأن إنفاقهم كان في نصرته -صلى الله عليه وسلم- ، وحمايته ، وذلك معدوم بعده ، وكذا جهادهم وسائر طاعتهم ، وقد قال تعالى ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً )(الحديد:10) وهذا كله مع ما كان فيهم في أنفسهم من الشفقة ، والتودد ، والخشوع ، والتواضع ، والإيثار ، والجهاد في الله حق جهاده ، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ، ولا ينال درجتها بشيء ، والفضائل لا تؤخذ بقياس ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ا.هـ [11]

وقال البيضاوي _رحمه الله تعالى_ : " معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه ، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص ، وصدق النية ) ا.هـ [12] " مع ما كانوا من القلة ، وكثرة الحاجة والضرورة " [13] وقيل " السبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام ، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها ، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين لقلة عدد المتقدمين ، وقلة أنصارهم فكان جهادهم أفضل ، ولأن بذل النفس مع النصرة ، ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها " ا.هـ [14] .

ومما جاء في فضلهم -رضي الله عنهم- حديث ابن مسعود _رضي الله عنه_ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) [15] " وإنما صار أول هذه الأمة خير القرون ؛ لأنهم آمنوا به حين كفر الناس ، وصدقوه حين كذبه الناس ، وعزروه ، ونصروه ، وآووه ، وواسوه بأموالهم وأنفسهم ، وقاتلوا غيرهم على كفرهم حتى أدخلوهم في الإسلام " ا.هـ [16] .

ومما جاء في فضلهم ما رواه أبو بردة _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) [17]" وهو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض " [18] .

وها هو أمير المؤمنين علي _رضي الله عنه_ يصف حال الصحابة فعن أبي راكة قال : صليت خلف علي صلاة الفجر فلما سلم انفلت عن يمينه ثم مكث كأن عليه الكآبة حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قال : لقد رأيت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فما أرى اليوم شيئا يشبههم كانوا يصبحون ضمرا شعثا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح فهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم .[19]

الوعيد الشديد فيمن آذى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

عن عبد الله بن مغفل المزني _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( الله الله في أصحابي الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ) [20] قال المناوي _رحمه الله تعالى_ " ( الله الله في حق أصحابي ) أي اتقوا الله فيهم ، ولا تلمزوهم بسوء ، أو اذكروا الله فيهم وفي تعظيمهم وتوقيرهم ، وكرره إيذانا بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص ( لا تتخذوهم غرضا ) هدفا ترموهم بقبيح الكلام كما يرمى الهدف بالسهام هو تشبيه بليغ ( بعدي ) أي بعد وفاتي " ا.هـ ( [21] .

وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( مَن سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) [22] .

موقف السلف الصالح من الصحابة الكرام

لقد عرف السلف الصالح فضل الصحابة الكرام وبيَّنوا ذلك وردوا على كل من أراد انتقاصهم _رضي الله عنهم_ قال ابن عمر _رضي الله عنهما_ " لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمره " [23].

وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك وسأله أمعاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز فقال " لتراب في منخري معاوية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز " [24].

وجاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي -رحمه الله- فقال : يا أبا زرعة أنا أبغض معاوية . قال : لِمَ ؟ قال : لأنه قاتَل عليا . فقال أبو زرعة : إن ربَّ معاوية ربٌّ رحيم وخصمَ معاوية خصمٌ كريم فما دخولك أنت بينهما _رضي الله عنهم_ أجمعين [25] .

وقال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- " إذا رأيت رجلا يذكر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوء فاتهمه على الإسلام " [26] وقال –رحمه الله تعالى- " لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فان تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع " [27]

وقال بشر بن الحارث _رحمه الله تعالى_ " مَن شتم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين " [28] . ولعل كثيرا من الكتاب ممن في قلوبهم مرض الذين ينتقصون أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم – في الصحف وغيرها يرون أن الوقت لم يحن بعد لانتقاص القرآن والسنة فرأوا أن تقليل شأن الصحابة الكرام عند الناس هو من أخصر الطرق لرد الكتاب والسنة كما قال أبو زرعة _رحمه الله تعالى_ " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليُبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة " ا.هـ [29] .

وقال السرخسي _رحمه الله تعالى_ " فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب " ا.هـ [30] .

وقال الإمام محمد بن صُبيح بن السماك _رحمه الله تعالى_ لمن انتقص الصحابة " علمتَ أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى -عليه السلام- وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى -عليه السلام- فما بالك ياجاهل سببت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ؟ وقد علمتُ من أين أوتيتَ لم يشغلك ذنبك أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك ، ولقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين ؟ أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ، ولرجوت لهم أرحم الراحمين ، ولكنك من المسيئين فمن ثَمَّ عبت الشهداء والصالحين ، أيها العائب لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لو نمتَ ليلك ، وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك ، وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فويحك لا قيام ليل ، ولا صوم نهار ، وأنت تتناول الأخيار فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى .. وبم تحتج يا جاهل إلا بالجاهلين ، وشر الخلف خلف شتم السلف لواحد من السلف خير من ألف من الخلف " ا.هـ [31] .

وقال ابن الصلاح _رحمه الله تعالى_ " إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة , ومَن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتد بهم في الإجماع " ا.هـ ( [32] .

ذكر فضلهم في كتب العقائد رفعا لشأنهم وعلوا لمنزلتهم :

قال الطحاوي _رحمه الله تعالى_ " ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم و لا نُفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم ، وبغير الحق يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان " ا.ه[33].

وذكر الحميدي _رحمه الله تعالى_ أن من السنة " الترحم على أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كلهم فإن الله عز وجل قال ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ )(الحشر:10) فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم ، فمن سبهم أو تنقصهم أو أحدا منهم فليس على السنة وليس له في الفيء حق ، أخبرنا غير واحد عن مالك بن أنس " ا.ه[34]

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ " ويمسكون عما شجر من الصحابة ، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب ، ومنها ما قد زيد فيه ، ونقص ، وغُيِّرَ عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون ؛ إما مجتهدون مصيبون ، وإما مجتهدون مخطئون ... ، ولهم من السوابق ، والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم ؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم ... ثم القَدْر الذي يُنكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ، ومحاسنهم من الإيمان بالله ، ورسوله ، والجهاد في سبيله ، والهجرة ، والنصرة ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة ، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم ، وأكرمها على الله " ا.هـ [35]

وفي الختام لا نقول إلا كما قال الله تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) اللهم ارض عن أصحاب نبيك أجمعين واحشرنا وإياهم في زمرة سيد المرسلين والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:58 am

قبسات من سيرة الصديق رضي الله عنه

• مكانته في الإسلام

1- حب الرسول صلى الله عليه وسلم الشديد له :
روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْدَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ .
وروى الترمذي وقوى سنده الألباني في المشكاة عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : "أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "

2- صلاته بالناس نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ لَمَّا اسْتُعِزَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عِنْدَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَعَاهُ بِلَالٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ مُرُوا مَنْ يُصَلِّي لِلنَّاسِ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ فَإِذَا عُمَرُ فِي النَّاسِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا فَقُلْتُ يَا عُمَرُ قُمْ فَصَلِّ بِالنَّاسِ فَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ وَكَانَ عُمَرُ رَجُلًا مُجْهِرًا قَالَ فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ فَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى عُمَرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ

2- غضب الرسول لغضبه :
روى البخاري عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ : أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لَا فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا
وروى الإمام أحمد عن ربيعة الأسلمي رضي الله عنه قال : كان بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ كَلَامٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلِمَةً كَرِهَهَا وَنَدِمَ فَقَالَ لِي يَا رَبِيعَةُ رُدَّ عَلَيَّ مِثْلَهَا حَتَّى تَكُونَ قِصَاصًا قَالَ قُلْتُ لَا أَفْعَلُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَتَقُولَنَّ أَوْ لَأَسْتَعْدِيَنَّ عَلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ قَالَ وَرَفَضَ الْأَرْضَ وَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْطَلَقْتُ أَتْلُوهُ فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ فَقَالُوا لِي رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَعْدِي عَلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ فَقُلْتُ أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ هَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ هَذَا ثَانِيَ اثْنَيْنِ وَهَذَا ذُو شَيْبَةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاكُمْ لَا يَلْتَفِتُ فَيَرَاكُمْ تَنْصُرُونِي عَلَيْهِ فَيَغْضَبَ فَيَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَغْضَبَ لِغَضَبِهِ فَيَغْضَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِغَضَبِهِمَا فَيُهْلِكَ رَبِيعَةَ . قَالُوا مَا تَأْمُرُنَا قَالَ ارْجِعُوا قَالَ فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعْتُهُ وَحْدِي حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ كَمَا كَانَ فَرَفَعَ إِلَيَّ رَأْسَهُ فَقَالَ يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ وَلِلصِّدِّيقِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ كَذَا كَانَ كَذَا قَالَ لِي كَلِمَةً كَرِهَهَا فَقَالَ لِي قُلْ كَمَا قُلْتُ حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا فَأَبَيْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلْ فَلَا تَرُدَّ عَلَيْهِ وَلَكِنْ قُلْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ قَالَ الْحَسَنُ فَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَبْكِي

من صفات أبي بكر رضي الله عنه
1- ورعه وخوفه الشديد من ربه تبارك وتعالى :
== روى مالك في الموطأ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ .
== وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ أَتَدْرِي مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ ) وجاء في بعض الروايات أنه قال ( والله لو لم تخرج إلا مع روحي لأخرجتها إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) .
روى الحاكم في المستدرك وصححه عن زيد بن أرقم قال كنا مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدعا بشراب فأتي بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى وبكى حتى أبكى أصحابه فسكتوا وما سكت ثم عاد فبكى حتى ظنوا أنهم لن يقدروا على مسألته قال ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبكاك قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدفع عن نفسه شيئا ولم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها إليك عني ثم رجعت فقالت إن أفلت مني فلن ينفلت مني مَنْ بَعْدَك .
وجاء عند ابن أبي شيبة في المصنف عن الضحاك بن مزاحم قال رأى أبو بكر الصديق طيرا واقعا على شجرة فقال طوبى لك يا طير والله لوددت أني كنت مثلك تقع على الشجرة وتأكل من الثمر ثم تطير وليس عليك حساب ولا عذاب والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانب الطريق مر علي جمل فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم ازدردني ثم أخرجني بعرا ولم أكن بشرا )

2- تحمل الأذى في سبيل الدعوة والدفاع عنها :
جاء في مسند البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " أيها الناس أخبروني بأشجع الناس قالوا أو قال قلنا أنت يا أمير المؤمنين قال أما أني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس قالوا لا نعلم فمن ؟ قال أبو بكر رضي الله عنه أنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا فقلنا من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا يهوى إليه أحد من المشركين فوالله ما دنا منه إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه فهذا أشجع الناس فقال علي ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يجأه وهذا يتلتله وهم يقولون أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا قال فو الله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجاء هذا ويتلتل هذا وهو يقول ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ ثم رفع عليٌّ بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلّت لحيتُه ، ثم قال أنشدكم بالله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر فسكت القوم فقال ألا تجيبوني فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون ذاك رجل كتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه " .
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن عائشة قالت : " لما اجتمع أصحاب النبي وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله في الظهور فقال يا أبا بكر إنا قليل فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه وجاء بنو تيم يتعادون فاجلت المشركين عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب فتكلم آخر النهار فقال ما فعل رسول الله فمسوا منه بالسنتهم وعذلوه ثم قاموا وقالوا لامه أم الخير أنظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه فلما خلت به الحت عليه وجعل يقول ما فعل رسول الله فقالت والله مالي علم بصاحبك فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله فقالت ما أعرف ابا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك قالت نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت والله إن قوما نالوا هذا منك لاهل فسق وكفر وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم قال فما فعل رسول الله قالت هذه أمك تسمع قال فلا شيء عليك منها قالت سالم صالح قال أين هو قالت في دار ابن الأرقم قال فان لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله فامهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله قال فأكب عليه رسول الله فقبله وأكب عليه المسلمون ورق له رسول الله رقة شديدة فقال أبو بكر بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار قال فدعا لها رسول الله ودعاها إلى الله فأسلمت " .

3- اليقين والتصديق بما قال الله ورسوله :
روى الحاكم في المستدرك عن عائشة قالت : " لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا هل لك في صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس فقال أو قال ذلك قالوا نعم قال لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح قال نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة ، فلذلك سمي أبو بكر الصديق"
ومن يقينه بما قال الله ورسوله تصديقه بالمغيبات وكأنه يراها ، فقد روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَوْثَرِ فَقَالَ هُوَ نَهَرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ تُرَابُهُ الْمِسْكُ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ تَرِدُهُ طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا مِثْلُ أَعْنَاقِ الْجُزُرِ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ فَقَالَ أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا )

4- حبه الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :
فرحه بصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام في الهجرة :
أخرج البخاري في الصحيح عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ قَالَ أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَالَ الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصُّحْبَةَ ( زَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته " قَالَتْ عَائِشَة : فَرَأَيْت أَبَا بَكْر يَبْكِي , وَمَا كُنْت أَحْسَب أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَح ) "

خوفه على أن يصاب الرسول بأذى :
فقد ذكر الحاكم في المستدرك وصحح إسناده عن محمد بن سيرين قال ذُكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما قال فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر وليوم من أبي بكر خير من آل عمر لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي فقال يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك فقال يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني قال نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمة إلا أن تكون بي دونك فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر مكانك يا رسول الله حتى أستبرى ء لك الغار فدخل واستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الحجرة فقال مكانك يا رسول الله حتى أستبرى ء الحجرة فدخل واستبرى ء ثم قال انزل يا رسول الله فنزل فقال عمر والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر ).

5- حرصه على الطاعات بشتى صنوفها :
قال علي رضي الله عنه كما في مجمع الزوائد :" والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا أبو بكر إليه "
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا قَالَ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ "
وقال عمر رضي الله عنه كما عند أبي داود وحسنه الألباني : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالا فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما . قال فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك قال أبقيت لهم الله ورسوله . قلت والله لا أسبقه إلى شيء أبدا .
وفي صحيح ابن خزيمة عن عمر رضي الله عنه قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وخرجنا معه فإذا رجل قائم يصلي في المسجد فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع قراءته فلما كدنا أن نعرف الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة بن أم عبد قال ثم جلس الرجل يدعو فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سل تعطه مرتين قال فقال عمر فقلت والله لأغدون إليه فلأبشرنه قال فغدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه فبشره ولا والله ما سابقته إلى خير قط إلا سبقني "
وجاء في صحيح البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ "
وروى البيهقي في سننه : ( أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أنه شيع يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام ويزيد راكب وأبوبكر رضي الله عنه يمشي فقال له يزيد يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل أنا فأمشي معك قال لا أركب ولا تنزل إنني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله ) .

6- ثباته في المحن والشدائد ، ومن ذلك :
في موت الرسول صلى الله عليه وسلم :
روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمْ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَقَالَ اجْلِسْ فَأَبَى فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إِلَى الشَّاكِرِينَ ) قال ونشج الناس يبكون . وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا قال عمر : وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ ) .
موقفه يوم السقيفة :
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : اجْتَمَعَتْ الْأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالُوا مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ فَقَالَ فِي كَلَامِهِ نَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْوُزَرَاءُ فَقَالَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْوُزَرَاءُ هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا ( وفي رواية في غير البخاري مما قال في خطبته تلك : " وَكُنَّا مَعْشَر الْمُهَاجِرِينَ أَوَّل النَّاس إِسْلَامًا وَنَحْنُ عَشِيرَته وَأَقَارِبه وَذَوُو رَحِمه , وَلَنْ تَصْلُح الْعَرَب إِلَّا بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْش , فَالنَّاس لِقُرَيْشٍ تَبَع , وَأَنْتُمْ إِخْوَاننَا فِي كِتَاب اللَّه , وَشُرَكَاؤُنَا فِي دِين اللَّه , وَأَحَبّ النَّاس إِلَيْنَا , وَأَنْتُمْ أَحَقّ النَّاس بِالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه , وَالتَّسْلِيم لِفَضِيلَةِ إِخْوَانكُمْ , وَأَنْ لَا تَحْسُدُوهُمْ عَلَى خَيْر " فَبَايِعُوا عُمَرَ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَقَالَ عُمَرُ بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ )
في حرب الردة :
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ( جاء في بعض الروايات أن أبا بكر قال لعمر : يا ابن الخطاب أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام ؟ ) وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ . فَقَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ .

إذا تذكرتَ شجوا من أخي ثقة *** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
التاليَ الثانيَ المحمود مشهدُه *** وأولَ الناس طُرّا صدّق الرسلا
والثاني اثنين في الغار المُنِيفِ وقد *** طافَ العدو به إذ صعّد الجبلا
وكان حِبَّ رسول الله قد علموا *** من البريّة لم يعدِل به رجلا
خيرُ البرية أتقاها وأرأفُها *** بعد النبي وأوفاها بما حملا

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ،،،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:58 am

عدالة الصحابة ومكانتهم في الإسلام

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود، قال: " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ "
إن عدالتهم عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية ، ومما هو معلوم من الدين بالضرورة ويستدلون لذلك بأدلة لا تحصى من الكتاب والسنة .
ففي القرآن يقول عزوجل : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) وقال سبحانه :
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } .
قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : " كنا ألفا وأربعمائة " .
(ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر ، لأن العبرة بالوفاء على الإسلام ، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام ، وأما من علم موته على الكفر فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضي عنه. ومما يؤكد هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله يقول : أخبرتني أمُّ مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة : لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها "
وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم:" لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .
وروى الإمام أحمد في الفضائل وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر :"لا تسبوا أصحاب محمد،فلمقام أحدهم ساعةً خير من عمل أحدكم عمرَه " ، وفى رواية: " خير من عبادة أحدكم أربعين سنة " .
وقال ابن حزم : " فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم ، و-رضي الله عنهم ، وأنزل السكينة عليهم ، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ، أو الشك فيهم ألبتة " .
وفي مسند البزار رجاله موثوقون من حديث سعيد بن المسيب عن جابر قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم » إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين «
وقال الإمام أحمد : " فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال "
وإلى وصف دقيق لحالهم من أحدهم بل ومن خيارهم وهو صهر رسول الله عليه السلام علي بن أبي طالب حيث يروي لنا ابن أبي الدنيا والحافظ ابن كثير عن أبي أراكة قال : " صليت مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه صلاة الفجر فلما انتفل عن يمينه مكث كأن عليه كآبة،حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين ثم قلب يده فقال : والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئا يشبههم لقد كانوا يصبحون صفرا شعثا غبرا ، بين أعينهم كأمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم ،فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح ، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم ، والله لكأن القوم باتوا غافلين . ثم نهض فما رئي بعد ذلك مفترا يضحك حتى قتل رضي الله عنه "
ولقد كان بينهم من المحبة والوئام والألفة قدر كبير وجليل مع ما حدث بين بعضهم من القتال إلا أن المحبة في قلوبهم لبعضهم كالجبال الرواسي ، وهذا من أعجب العجب ، ولكنه يزول حين نعلم أن أولئك هم تلاميذ محمد بن عبدالله ، يأتي أحدهم إلى علي بن أبي طالب فيقول ما تقول فيمن قاتلوك ( يعني معاوية وطلحة والزبير ومن كان معهم من الصحابة ) فيقول : إخواننا بغوا علينا .
ويروي لنا أبو نعيم في الحلية عن أبي صالح قال: " دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له :صف لي عليا ؟ فقال : أو تعفني يا أمير المؤمنين ؟ قال :لا أعفيك قال :أما إذا ولا بد فإنه كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما جشب ، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ، ويجيبنا إذا سألناه ، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له ، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارة نجومه ، يميل في محرابه قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأني أسمعه الآن وهو يقول : يا ربنا يا ربنا يتضرع إليه ، ثم يقول للدنيا إلي تغررت ؟ إلي تشوفت ؟ هيهات هيهات ، غري غيري ، قد بتتك ثلاثا ، فعمرك قصير ، ومجلسك حقير ، وخطرك يسير ، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق ، فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء فقال معاوية رضي الله عنه : كذا كان أبو الحسن رحمه الله ، كيف وجدك عليه يا ضرار ؟ قال : وجد من ذبح واحدها في حجرها لا ترقأ دمعتها ولا يسكن حزنها ثم قام فخرج " .

هكذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فحق لأمة أن تفخر بهم وتباهي سائر الأمم :

أولئك أصحاب النبي وحزبُه *** ولولاهم ما كان في الأرض مسلم
ولولاهم كادت تميد بأهلها *** ولكن رواسيها وأوتادُها هم
ولولاهم كانت ظلاما بأهلها *** ولكن هم فيها بدور وأنجم[1]


اللهم اجمعنا بهم في أعالي الجنان واغفر لنا ولهم أجمعين والحمد لله رب العالمين،،،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 7:00 am

أبوبكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره

الفصل الأول
ابو بكر الصديق رضي الله عنه في مكة

المبحث الأول
إسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته
وأسرته وحياته في الجاهلية



أولاً: أسمه ونسبه وكنيته وألقابه:
هو عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي( )، ويلتقي مع النبي ? في النسب في الجد السادس مرة بن كعب( ) ويكنى بأبي بكر، وهي من البكر وهو الفتى من الإبل، والجمع بكارة وأبكر وقد سمَّت العرب بكراً، وهو أبو قبيلة عظيمة( ) ولُقب أبوبكر ?، بألقاب عديدة كلها تدل على سمو المكانة، وعلو المنزلة وشرف الحسب منها:
1- العتيق:
لقبّه به النبي ?؛ فقد قال له ?: (أنت عتيقُ الله من النار) فسُمِّيَ عتيقاً( ) وفي رواية عائشة قالت: دخل أبو بكر الصديق على رسول الله ?، فقال له رسول الله ?: (أبشر فأنت عتيق الله من النار)( )، فمن يؤمئذ سُمي عتيقاً( )، وقد ذكر المؤرخون أسباباً كثيرة لهذا اللقب، فقد قيل: إنما سمي عتيقاً لجمال وجهه( )، وقيل لأنه كان قديماً في الخير( )، وقيل سمي عتيقاً لعتاقة وجهه( )، وقيل إن أم أبي بكر كان لايعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لي( )، ولا مانع للجمع بين بعض هذه الأقوال، فأبي بكر جميل الوجه، حسن النسب، صاحب يد سابقة الى الخير، وهو عتيق الله من النار بفضل بشارة النبي ? له( ).
2- الصديق:
لقبه به النبي ? ففي حديث أنس ? أنه قال: أن النبي ? صعد أحداً، وأبوبكر، وعمر، وعثمان، فوجف بهم فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان( ).
وقد لقب بالصديق لكثرة تصديقه للنبي ?، وفي هذا تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فتقول: لما أسري بالنبي ? الى المسجد الاقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناسُ، كانوا آمنوا به وصدقوه وسعى رجال الى أبي بكر، فقالوا: هل لك الى صاحبك؟ يزعم أن أسري به الليله الى بيت المقدس! قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك فقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة الى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟!! قال نعم ، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبوبكر الصديق( ).
وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصديق لأنه بادر الى تصديق الرسول ? ولازمه الصدق فلم تقع منه هناة أبداً( )، فقد اتصف بهذا اللقب ومدحه الشعراء:
قال ابو محجن الثقفي:
وسُمِّيت صديقاً وكل مهاجر
سواك يُسَمَّى باسمه غير منكر
سبقت الى الاسلام والله شاهد
وكنت جليساً في العريش المشهر( )
وأنشد الأصمعي( )، فقال:
ولكني أحبّ بكل قلبي
وأعلم أن ذاك من الصواب
رسول الله والصدِّيق حبَّاً
به أرجو غداً حسن الثواب( )
3- الصاحب:
لقبه به الله عز وجل في القرآن الكريم: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة، الآية:40) وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود هنا هو أبوبكر ?( )، فعن أنس أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي ? وهو في الغار: لو أن أحدهم نظر الى قدميه لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي ?: (ياأبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما)( ).
قال الحافظ رحمه الله: ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا......... إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}فإن المراد بصاحبه هنا أبوبكر بلا منازع( )، والاحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة ولم يشركه في المنقبة غيره( ).
4- الأتقى:
لقبه به الله عز وجل في القرآن العظيم في قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} (سورة الليل، الآية: 17). وسيأتي بيان ذلك في حديثنا عن المعذبين في الله الذين أعتقهم أبوبكر ?.
5- الأواه:
لقب أبو بكر بالأواه وهو لقب يدل على الخوف والوجل والخشية من الله تعالى، فعن ابراهيم النخعي قال: كان أبوبكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته( ).
ثانياً: مولده وصفته الخَلْقية:
لم يختلف العلماء في أنه ولد بعد عام الفيل، وإنما اختلفوا في المدة التي كانت بعد عام الفيل، فبعضهم قال بثلاث سنين، وبعضهم ذكر بأنه ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وآخرون قالوا بسنتين وأشهر ولم يحددوا عدد الأشهر( )، وقد نشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز في قومهما مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس، عزيز المكانة في قومه( ).
وأما صفته الخِلقية، فقد كان يوصف بالبياض في اللون، والنحافة في البدن، وفي هذا يقول قيس بن أبي حازم: دخلت على أبي بكر، وكان رجلاً نحيفاً، خفيف اللحم أبيض( )، وقد وصفه أصحاب السير من افواه الرواة فقالوا: أن أبا بكر ? اتصف بأنه: كان أبيض تخالطه صُفرة، حسن القامة، نحيفاً خفيف العارضين، أجنأ( )، لايستمسك إزاره يسترخي عن حقويه( ) رقيقاً معروق الوجه( )، غائر العينين( )، اقنى( )، حمش الساقين( )، ممحوص الفخذين( )، وكان ناتئ الجبهة، عاري الأشجاع( ) ويخضب لحيته، وشيبه بالحناء والكتم( ).
ثالثاً: أسرته:
أما والده، فهو عثمان بن عامر بن عمرو يكنى أبا قحافة أسلم يوم الفتح، وأقبل به الصديق على رسول الله ? فقال: ياأبا بكر هلا تركته، حتى نأتيه، فقال أبوبكر: هوأولى أن يأتيك يارسول الله، فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله ?( )، ويروى أن رسول الله ? هنأ أبا بكر بإسلام أبيه( )، وقال لأبي بكر غيروا هذا من شعره، فقد كان رأس أبي قحافة مثل الثغامة( ).
وفي هذا الخبر منهج نبوي كريم سنَّهُ النبي ? في توقير كبار السن واحترامهم ويؤكد ذلك قوله ? (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)( ).
وأما والدة الصديق، فهي سلمى بن صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم وكنيتها أم الخير أسلمت مبكراً وسيأتي تفصيل ذلك في واقعة إلحاح أبي بكر على النبي ? على الظهور بمكة( ).
وأما زوجاته؛ فقد تزوج ? من أربع نسوة أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث وهنّ على التوالي:
1- قتيلة بنت عبدالعزى بن أسعد بن جابر ابن مالك:
اختلف في إسلامها( )، وهي والدة عبدالله وأسماء وكان أبوبكر طلقها في الجاهلية- وقد جاءت بهدايا فيها أقط وسمن الى إبنتها أسماء بنت أبي بكر بالمدينة، فابت أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها فأرسلت الى عائشة تسأل النبي ? فقال النبي ?: (لِتُدْخِلها ولتقبل هديتها)، وأنزل الله عز وجل {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة المتحنة، الآية:Cool أي لايمنعكم الله من البر والإحسان وفعل الخير الى الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء، والضعفة منهم كصلة الرحم، ونفع الجار، والضيافة، ولم يخرجوكم من دياركم، ولايمنعكم أيضاً من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم، بأداء مالهم من الحق، كالوفاء لهم بالوعود، وأداء الأمانة، وإيفاء أثمان المشتريات كاملة غير منقوصة، إن الله يحب العادلين، ويرضى عنهم، ويمقت الظالمين ويعاقبهم( ).
2- أم رومان بنت عامر بن عويمر:
من بني كنانة بن خزيمة، مات عنها زوجها الحارث بن سخبرة بمكة، فتزوجها أبوبكر، وأسلمت قديماً، وبايعت، وهاجرت الى المدينة وهي والدة عبدالرحمن وعائشة رضي الله عنهم، وتوفيت في عهد النبي ? بالمدينة سنة ست من الهجرة( ).
3- أسماء بن عُمَيس بن معبد بن الحارث:
أم عبدالله، من المهاجرات الأوائل، أسلمت قديماً قبل دخول دار الأرقم، وبايعت الرسول ?، وهاجر بها زوجها جعفر بن أبي طالب ? الى الحبشة، ثم هاجرت معه الى المدينة فاستشهد يوم مؤتة، وتزوجها الصديق فولدت له محمداً روى عنها من الصحابة : عمر، وأبو موسى، وعبدالله بن عباس، وأم الفضل امرأة العباس، فكانت أكرم الناس أصهاراً فمن أصهارها: رسول الله وحمزة، والعباس وغيرهم( ).
4- حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير:
الانصارية، الخزرجية وهي التي ولدت لأبي بكر أم كلثوم بعد وفاته وقد أقام عندها الصديق بالسُّنح( ).
وأما أولاد أبي بكر رضي الله عنهم فهم:
1- عبدالرحمن بن أبي بكر:
أسن ولد أبي بكر: أسلم يوم الحديبية، وحسن إسلامه وصحب رسول الله وقد إشتهر بالشجاعة وله مواقف محمودة ومشهودة بعد إسلامه( ).
2- عبدالله بن أبي بكر:
صاحب الدور العظيم في الهجرة، فقد كان يبقى في النهار بين أهل مكة يسمع أخبارهم ثم يتسلل في الليل الى الغار لينقل هذه الأخبار لرسول الله وأبيه، فإذا جاء الصبح عاد الى مكة، وقد أصيب بسهم يوم الطائف، فماطله حتى مات شهيداً بالمدينة في خلافة الصديق( ).
3- محمد بن أبي بكر:
أمه أسماء بنت عميس، ولد عام حجة الوداع وكان من فتيان قريش، عاش في حجر علي بن أبي طالب، وولاه مصر وبها قتل( ).
4- أسماء بنت أبي بكر:
ذات النطاقين أسن من عائشة، سماها رسول الله ? ذات النطاقين لأنها صنعت لرسول الله ? ولأبيها سفرة لما هاجرا فلم تجد ماتشدها به فشقت نطاقها، وشدت به السفرة فسماها النبي ? بذلك، وهي زوجة الزبير بن العوام وهاجرت الى المدينة وهي حامل بعبدالله بن الزبير فولدته بعد الهجرة فكان أول مولود في الاسلام بعدالهجرة، بلغت مائة سنة ولم ينكر من عقلها شيء، ولم يسقط لها سن، روى لها عن الرسول ? ستة وخمسون حديثاً، روى عنها عبدالله بن عباس، وأبناؤها عبدالله وعروة، وعبدالله بن أبي مُلَيْكة وغيرهم وكانت جوادة منفقة توفيت بمكة سنة 73هـ( ).
5- عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها:
الصديقة بنت الصديق تزوجها رسول الله ? وهي بنت ست سنين، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، وأعرس بها في شوال، وهي أعلم النساء، كناها رسول الله ? أم عبدالله، وكان حبه لها مثالاً للزوجية الصالحة( ).
كان الشعبي يحدث عن مسروق أنه إذا تحدث عن أم المؤمنين عائشة يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق المبرأة حبيبة حبيب الله ?، ومسندها يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث (2210) اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري باربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين( )، وعاشت ثلاثاً وستين سنة وأشهراً، وتوفيت سنة 57هـ، ولا ذرية لها( ).
6- أم كلثوم بنت أبي بكر:
أمها حبيبة بنت خارجة. قال أبوبكر لأم المؤمنين عائشة حين حضرته الوفاة: إنما هما أخواك وأختاك فقالت: هذه أسماء قد عرفتها فمن الاخرى قال: ذو بطن بنت خارجة، قد ألقي في خلدي أنها جارية فكانت كما قال: وولدت بعد موته( )، تزوجها طلحة بن عبيدالله وقتل عنها يوم الجمل، وحجت بها عائشة في عدتها فأخرجتها الى مكة( ).
هذه هي أسرة الصديق المباركة التي أكرمها الله بالاسلام وقد اختص بهذا الفضل أبو بكر ? من بين الصحابة وقد قال العلماء: لايعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله ?، إلا آل أبي بكر الصديق وهم: عبدالله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر بن ابي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضاً محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة ?( ).
وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده، وأدركوا النبي ? وأدركه أيضاً بنو أولاده: إلا أبوبكر من جهة الرجال والنساء -وقد بينت ذلك- فكلهم آمنوا بالنبي وصحبوه، فهذا بيت الصديق، فأهله أهل إيمان، ليس فيهم منافق ولايعرف في الصحابة مثل هذا لغير بيت أبي بكر رضي الله عنهم.
وكان يقال: للإيمان بيوت وللنفاق بيوت؛ فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين، وبني النجار من بيوت الإيمان من الانصار( ).
رابعاً: الرصيد الخُلقي للصديق في المجتمع الجاهلي:
كان أبو بكر الصديق في الجاهلية من وجهاء قريش وأشرافهم وأحد رؤسائهم، وذلك أن الشرف في قريش قد انتهى قبل ظهور الاسلام الى عشرة رهط من عشرة أبطن، فالعباس ابن عبدالمطلب من بني هاشم، وكان يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الاسلام وابو سفيان بن حرب من بني أمية، وكان عنده العقاب راية قريش، فإذا لم تجتمع قريش على واحد رأسوه هو وقدموه، والحارث بن عامر بن بني نوفل، وكانت إليه الرفادة، وهي ماتخرجه قريش من أموالها، وترفد به منقطع السبيل، وعثمان بن طلحة بن زمعة بن الاسود من بني أسد، وكانت إليه المشورة فلا يُجمع على أمر حتى يعرضوه عليه، فإن وافق ولاهم عليه، وإلا تخيّر وكانو له أعواناً، وأبو بكر الصديق من بني تيم وكانت إليه الأشناق وهي الديات والمغارم، فكان إذا حمل شيئاً فسأل فيه قريشاً صدقوه، وامضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه، وخالد بن الوليد من بني مخزوم، وكانت إليه القبة والأعنة، أما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها مايجهزون به الجيش، وأما الأعنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب. وعمر بن الخطاب من بني عدي، وكانت إليه السفارة في الجاهلية، وصفوان بن أمية من بني جمح، وكانت إليه الأزلام. والحارث بن قيس من بني سهم، وكانت إليه الحكومة وأموال آلهتهم( ).
لقد كان الصديق في المجتمع الجاهلي شريفاً من أشراف قريش وكان من خيارهم، ويستعينون به فيما نابهم وكانت له بمكة ضيافات لايفعلها أحد( ).
وقد اشتهر بعدة أمور منها:
1- العلم بالأنساب:
فهو عالم من علماء الأنساب وأخبار العرب، وله في ذلك باع طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين كعقيل بن أبي طالب وغيره، وكانت له مزية حببته إلى قلوب العرب وهي: أنه لم يكن يعيب الأنساب، ولايذكر المثالب بخلاف غيره( )، فقد كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها، وبما فيها من خير وشر( )، وفي هذا تروي عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ? قال: إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها( ).
2-تجارته:
كان في الجاهلية تاجراً، ودخل بُصرى من أرض الشام للتجارة وارتحل بين البلدان وكان رأس ماله اربعين ألف درهم وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم عُرف به في الجاهلية( ).
3-موضع الألفة بين قومه وميل القلوب إليه:
فقد ذكر ابن اسحاق في السيرة أنهم كانوا يحبونه، ويألفونه، ويعترفون له بالفضل العظيم، والخلق الكريم، وكانوا يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته( )، وقد قال له ابن الدغنه حين لقيه مهاجراً، إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتكسب المعدوم وتفعل المعروف( )، وقد علَّق ابن حجر على قول ابن الدغنه فقال: ومن أعظم مناقبه أن ابن الدغنه سيد القارة لما رد عليه جواره بمكة وصفه بنظير ماوصفت به خديجة النبي ? لما بعث، فتواردا فيها نعت واحد من غير أن يتواطأ على ذلك، وهذه غاية في مدحه لأن صفات النبي ? منذ نشأ كانت أكمل الصفات( ).
4-لم يشرب الخمر في الجاهلية:
فقد كان أعف الناس في الجاهلية( )، حتى إنه حرّم على نفسه الخمر قبل الإسلام، فقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: حرم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا في إسلام، وذلك أنه مرّ برجل سكران يضع يده في العذرة، ويدنيها من فيه، فإذا وجد ريحها صرفها عنه. فقال أبو بكر: إن هذا لايدري ما يصنع، وهو يجد ريحها فحماها( )، وفي رواية لعائشة ... ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية( ).
وقد أجاب الصديق من سأله هل شربت الخمر في الجاهلية؟ بقوله: أعوذ بالله، فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيّعاً لعرضه ومروءته( ).
5-ولم يسجد لصنم:
ولم يسجد الصديق رضي الله عنه لصنم قط، قال أبو بكر رضي الله عنه في مجمع من أصحاب رسول الله ?، ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشّمُ العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني فلم يُجبني فقلت: إني عار فأكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه() وهكذا حمله خلقه الحميد وعقله النير، وفطرته السليمة على الترفع عن كل شيء يخدش المروءة وينقص الكرامة من أفعال الجاهليين، وأخلاقهم التي تجانب الفطرة السليمة، وتتنافى مع العقل الراجح، والرجولة الصادقة( )، فلا عجب على من كانت هذه أخلاقه أن ينضم لموكب دعوة الحق ويحتل فيها الصدارة ويكون بعد إسلامه أفضل رجل بعد رسول الله ?، فقد قال ?: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا( )، وقد علق الأستاذ رفيق العظم عن حياة الصديق في الجاهلية فقال: اللهم إن امرأً نشأ بين الأوثان حيث لادين زاجر، ولاشرع للنفوس قائد، وهذا مكانه من الفضيلة، واستمساكه بعرى العفة والمروءة ... لجدير بأن يتلقى الإسلام بملء الفؤاد، ويكون أول مؤمن بهادي العباد، مبادر بإسلامه لإرغام أنوف أهل الكبر والعناد، ممهد سبيل الاهتداء بدين الله القويم، الذي يجتث أصول الرذائل من نفوس المهتدين بهديه، المستمسكين بمتين سببه( ).
لله در الصديق رضي الله عنه فقد كان يحمل رصيداً ضخماً من القيم الرفيعة، والأخلاق الحميدة والسجايا الكريمة في المجتمع القرشي قبل الإسلام وقد شهد له أهل مكة بتقدمه على غيره في عالم الأخلاق والقيم والمثل ولم يُعلمْ أحد من قريش عاب أبا بكر بعيب ولانقصه ولا استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين ولم يكن له عندهم عيب إلا الإيمان بالله ورسوله( ).
















المبحث الثاني
إسلامه ودعوته وابتلاؤه وهجرته الأولى



أولاً: إسلامه:
كان إسلام أبي بكر رضي الله عنه وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطر السليمة ويلبي رغباتها، ويتفق مع العقول الراجحة، والبصائر النافذة، فقد كان بحكم عمله التجاري كثير الأسفار، قَطَعَ الفيافي، والصحاري، والمدن والقرى في الجزيرة العربية وتنقل من شمالها إلى جنوبها، وشرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقاً، بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية، وكان كثير الإنصات لكلمات النفر الذين حملوا راية التوحيد، راية البحث عن الدين القويم( )، فقد حدّث عن نفسه فقال: كنت جالساً بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نُفيْل قاعداً، فمرّ ابن أبي الصَّلْتِ، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: وهل وجدت؟ قال: لا، فقال:
كل دين يوم القيامة إلا
ما مضَى في الحنيفية بُور( )
أما إنّ هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم، قال: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويُبعث، قال: فخرجت أريد ورقة بن نوفل -وكان كثير النظر إلى السماء، كثير همهمة الصّدر- فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنّا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب نسباً. قلت: ياعمّ ومايقول النبي؟ قال: يقول ماقيل له؟ إلا إنّه لايظلم، ولايُظلم ولا يُظالم، فلما بُعث رسول الله ? آمنت به وصدّقته( )، وكان يسمع مايقوله أمية بن أبي الصلت:
في مثل قوله: ألا نبي لنا منا فيخبرنا
مابعد غايتنا من رأس مجرانا
إني أعوذ بمن حج الحجيج له
والرافعون لدين الله أركانا
لقد عايش أبو بكر هذه الفترة، ببصيرة نافذة، وعقل نير، و فكر متألق، وذهن وقاد، وذكاء حاد، وتأمل رزين ملأ عليه أقطار نفسه، ولذلك حفظ الكثير من هذه الأشعار، ومن تلك الأخبار، فعندما سأل الرسول الكريم ? أصحابه يوماً -وفيهم أبو بكر الصديق قائلاً: من منكم يحفظ كلام -قيس بن ساعدة- في سوق عكاظ؟ فسكت الصحابة، ونطق الصديق قائلاً: إني أحفظها يارسول الله،
كنت حاضراً يومها في سوق عكاظ، ومن فوق جمله الأورق وقف قيس- يقول: أيها الناس: اسمعوا وَعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا إن من عاش مات ومن مات فات، وكل ماهو آتٍ، آت، إن في السماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسماء ذات أبراج!!
يُقسم قيس، إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. مالي أرى الناس يذهبون، ولايرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا ثم أنشد قائلاً:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصــــائر
لمــــــا رأيت موارداً للموت ليس لهــا مصائر
ورأيت قومي نحوها يسعى الأكابر والأصاغر
أيقنت أني لامحالـــة حيث صــار القوم صائر( )
وبهذا الترتيب الممتاز، وبهذه الذاكرة الحديدية، وهي ذاكرة استوعبت هذه المعاني يقص الصديق ماقاله قس بن ساعدة على رسول الله وأصحابه( ).
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصّها على بحيرا الراهب( )، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر ذلك أبو بكر في نفسه( ).
لقد كان إسلام الصديق بعد بحث وتنقيب وانتظار وقد ساعده على تلبية دعوة الإسلام معرفته العميقة وصلته القوية بالنبي ? في الجاهلية، فعندما نزل الوحي على النبي ? أخذ يدعو الأفراد إلى الله وقع أول اختياره على الصديق رضي الله عنه، فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبي بصدقه وأمانته، وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس فكيف يكذب على الله( )؟
فعندما فاتحه رسول الله ? بدعوة الله وقال له: .. إني رسول الله ونبيه، بعثني إلى الله وحده لاشريك له، ولاتعبد غيره، والموالاة على طاعته( )، فأسلم الصديق ولم يتلعثم وتقدم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته فقام بما تعهد ولهذا قال رسول الله ? في حقه: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين( ).
وبذلك كان الصديق رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال الأحرار، قال إبراهيم النخعي، وحسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر: أول من أسلم أبو بكر. وقال يوسف بن يعقوب الماجشون: أدركت أبي ومشيختنا: محمد بن المنكدر، وربيعة بن عبدالرحمن، وصالح بن كيسان وسعد بن ابراهيم وعثمان بن محمد الأخنس وهم لايشكون أن أول القوم إسلاماً أبو بكر( )، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول من صلى أبو بكر ثم تمثل بأبيات حسان:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها
إلا النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس صدق الرسلا( )
وثاني أثنين في الغار المنيف وقد
طاف العدو به إذ صعد الجبلا
وعاش حميداً لأمر الله متبعاً
بهدى صاحبه الماضي وما انتقلا
وكان حب رسول الله قد علموا
من البرية لم يعدل به رجلا( )
هذا وقد ناقش العلماء قضية إسلام الصديق، وهل كان رضي الله عنه أول من أسلم، فمنهم من جزم بذلك، ومنهم من جزم بأن علياً أول من أسلم، ومنهم من جعل زيد بن حارثة أول من أسلم، وقد جمع الامام ابن كثير رحمه الله بين الأقوال جمعاً طيباً فقال: (والجمع بين الأقوال كلها : أن خديجة أول من أسلم من النساء
-وقيل الرجال أيضاً- وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب -فإنه كان صغيراً دون البلوغ على المشهور- وهؤلاء كانوا آنذاك أهل بيته ?، وأول من أسلم من الرجال الأحرار أبوبكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من اسلام من تقدم ذكرهم إذ كان صدراً معظماً، ورئيساً في قريش مكرماً، وصاحب المال وداعية الى الاسلام وكان محبباً متآلفاً يبذل المال في طاعة الله ورسوله) ثم قال: (وقد أجاب أبو حنيفة ? بالجمع بين هذه الأقوال فإن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبوبكر، ومن النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة ومن الغلمان علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين( ).
وبإسلام أبي بكر عم السرور قلب النبي ? حيث تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فلما فرغ من كلامه -أي النبي ?- أسلم أبوبكر فانطلق رسول الله ? من عنده، ومابين الأخشبين أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر( ). لقد كان ابوبكر كنزاً من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافاً، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كافٍ لإلفة القوم وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: أرحم أمتي بأمتي ابوبكر( )، وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق ? النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصديق بأنه أ علمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها، ومافيه من خير وشر، فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علماً لاتجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائماً، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته، وطبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قصاده، ولطيبته وحسن خلقه تجد عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه( )، كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيماً، ولذلك عندما تحرك في دعوته للاسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق( ).
ثانياً: دعوته:
أسلم الصديق ? وحمل الدعوة مع رسول الله ?، وتعلم من رسول الله ? أن الاسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن الايمان لايكمل حتى يهب المسلم نفسه ومايملك لله رب العالمين( )، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ?} (سورة الأنعام، الآيتان: 162،163) وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة، وكثير البركة اينما تحرك أثر وحقق مكاسب عظيمة للاسلام، وقد كان نموذجاً حياً في تطبيقه لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل، الآية: 125).
كان تحرك الصديق ? في الدعوة الى الله يوضح صورة من صور الايمان بهذا الدين والاستجابة لله ورسوله صورة المؤمن الذي لايقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ماآمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ماتخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسه للاسلام الى أن توفاه الله عز وجل لم يفتر أو يضعف أويمّل أو يعجز( ).
كانت أول ثمار الصديق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق في الاسلام وهم: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مضعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبدالرحمن بن عوف، وأبوسلمة بن عبدالأسد، والأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم، وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى فأسلموا بين يدى رسول الله?، فكانوا الدعامات الاولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله ? وبهم أعزه الله و أيده وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، رجالاً ونساءً، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية الى الاسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد والإثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الاسلام( ).
وإهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبدالله وزوجته أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة، لقد كانت الصفات الحميدة والخلال العظيمة والأخلاق الكريمة التي تجسدت في شخصية الصديق عاملاً مؤثراً في الناس عند دعوتهم للاسلام، فقد كان رصيده الخلقي ضخماً في قومه وكبيراً في عشيرته، فقد كان رجلاً، مؤلفاً لقومه، محبباً لهم، سهلاً، أنسب قريش لقريش بل كان فرد زمانه في هذا الفن، وكان رئيساً مكرماً سخياً يبذل المال، وكانت له بمكة ضيافات لايفعلها أحد، وكان رجلاً بليغاً( ).
إن هذه الأخلاق والصفات الحميدة لابد منها للدعاة إلى الله وإلا أصبحت دعوتهم للناس صيحة في واد، ونفخة في رماد، وسيرة الصديق وهي تفسر لنا فهمه للإسلام وكيف عاش به في حياته حريٌّ بالدعاة أن يتأسوا بها في دعوة الأفراد إلى الله تعالى.
ثالثاً: ابتلاؤه:
إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام وتحملوا رضوان الله عليهم من البلاء ماتنوء به الرواسي الشامخات وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ماشاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فلقد أوذي أبو بكر ? وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وحمل الى بيته في ثوبه وهو مابين الحياة والموت( )، فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لمّا اجتمع أصحاب النبي ? وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً الحّ أبو بكر ? على رسول الله ? في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنَّا قليل. فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله ?، وتفرق المسلمين في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله ? جالس، فكان أوّل خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله ?، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر ?، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تميم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحَمَلت بنو تميم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولايشكون في موته، ثم رجعت بنو تميم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: مافعل رسول الله ?؟ فمسّوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: مافعل رسول الله ?؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر سألك عن محمد بن عبدالله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولامحمد بن عبدالله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دَنِفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر إنني لأرجوا أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله ?؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلاشيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله ?، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله ?، فقال: فأكب عليه رسول الله فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقّ له رسول الله ? رقة شديدة فقال أبو بكر : بأبي وأمي يارسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وأدع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله ? ودعاها إلى الله فأسلمت( ).
إن هذا الحدث العظيم في طياته دروس وعبر لكل مسلم حريص على الاقتداء بهؤلاء الصحب الكرام ونحاول أن نستخرج بعض هذه الدروس التي منها:
1-حرص الصديق على إعلان الإسلام واظهاره أمام الكفار وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته وقد تحمل الأذى العظيم حتى أن قومه كانوا لايشكون في موته، لقد أشرب قلبه حب الله ورسوله أكثر من نفسه، ولم يعد يهمه -بعد إسلامه- إلا أن تعلوا راية التوحيد، ويرتفع النداء لا إله إلا الله محمد رسول الله في أرجاء مكة حتى لو كان الثمن حياته، وكاد أبو بكر فعلاً أن يدفع حياته ثمناً لعقيدته وإسلامه.
2-إصرار أبي بكر على الظهور بدعوة الإسلام وسط الطغيان الجاهلي، رغبة في إعلام الناس بذلك الدين الذي خالطت بشاشته القلوب، رغم علمه بالأذى الذي قد يتعرض له وصحبه وماكان ذلك إلا لأنه قد خرج من حظ نفسه.
3-حب الله ورسوله تغلغل في قلب أبي بكر على حبه لنفسه، بدليل أنه رغم ما ألم به، كان أول ما سأل عنه: مافعل رسول الله ?، قبل أن يطعم أو يشرب، وأقسم أنه لن يفعل حتى يأتي رسول الله ?، وهكذا يجب أن يكون حب الله ورسوله ? عند كل مسلم أحب إليه مما سواهما حتى لو كلفه ذ لك نفسه وماله( ).
4-إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر( ).
5-تظهر مواقف رائعة لأم جميل بنت الخطاب، توضح لنا كيف تربت على حُبَّ الدعوة والحرص عليها، وعلى الحركة لهذا الدين، فحينما سألتها أم أبي بكر عن رسول الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبدالله، فهذا تصرف حذر سليم، لأن أم الخير لم تكن ساعتئذ مسلمة وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولاتود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول ? مخافة أن تكون عيناً لقريش( )، وفي نفس الوقت حرصت أم جميل أن تطمئن على سلامة الصديق ولذلك عرضت على أم الخير أن تصحبها إلى ابنها وعندما وصلت للصديق كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب منها أي معلومة عن مكان رسول الله وأبلغت الصديق بأن رسول الله سالم صالح( )، ويتجلى الموقف الحذر من الجاهلية التي تفتن الناس عن دينهم في خروج الثلاثة عندما: هدأت الرجل وسكت الناس( ).
6-يظهر بر الصديق بأمه وحرصه على هدايتها في قوله لرسول الله ?: هذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار. إنه الخوف من عذاب الله والرغبة في رضاه وجنته، ولقد دعا رسول الله ? لأم أبي بكر بالهداية فاستجاب الله له، وأسلمت أم أبي بكر وأصبحت من ضمن الجماعة المؤمنة المباركة التي تسعى لنشر دين الله تعالى، ونلمس رحمة الله بعباده ونلحظ من خلال الحدث قانون المنحة بعد المحنة.
7-إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله ? أبا بكر الصديق ? نظراً لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه فينبري الصديق مدافعاً عنه وفادياً إياه بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم، هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان( ).
رابعاً: دفاعه عن النبي ?:
من صفات الصديق التي تميز بها: الجرأة والشجاعة، فقد كان لايهاب أحداً في الحق، ولاتأخذه لومة لائم في نصرة دين الله والعمل له والدفاع عن رسوله ? فعن عروة بن الزبير قال سألت ابن عمرو بن العاص بأن يخبرني بأشد شئ صنعه المشركون بالنبي ? فقال: بينما النبي ? يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي ?( ) وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) (غافر، آية:28). وفي رواية أنس رضي الله عنه أنه قال: لقد ضربوا رسول الله ? مرة حتى غشي عليه فقام أبو بكر ? فجعل ينادي ويلكم ( أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)( ). وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقال: أدرك صاحبك. قالت فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لايمس شيئاً من غدائره إلا رجع معه( )، وأما في حديث علي بن أبي طالب ? فقد قام خطيباً وقال: يا أيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين فقال: أما إني مابارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله ? عريشاً فقلنا من يكون مع رسول الله ? لئلا يهوي عليه أحد من المشركين، فوالله مادنا منه أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله ?، لايهوي إليه أحد إلاّ أهوى إليه فهذا أشجع الناس. قال ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش فهذا يُحادُه، وهذا يتلتله ويقولون أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً فوالله مادنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ثم رفع على بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فبكت القوم، فقال عليّ: فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه( ).
هذه صورة مشرقة تبين طبيعة الصراع بين الحق والباطل والهدى والضلال، والإيمان والكفر، وتوضح ماتحمله الصديق من الألم والعذاب في سبيل الله تعالى كما تعطي ملامح واضحة عن شخصيته الفذة، وشجاعته النادرة التي شهد له بها الإمام علي ? في خلافته أي بعد عقود من الزمن، وقد تأثر علي ? حتى بكى وأبكى.
إن الصديق ? أول من أوذي في سبيل الله بعد رسول الله، وأول من دافع عن رسول الله، وأول من دعا الى الله( )، وكانت الذراع اليمنى لرسول الله ?، وتفرغ للدعوة وملازمة رسول الله وإعانته على من يدخلون الدعوة في تربيتهم وتعليمهم وإكرامهم، فهذا ابوذر ? يقص لنا حديثه عن إسلامه ففيه: (...فقال أبوبكر: ائذن لي يارسول الله في طعامه الليلة - وأنه أطعمه من زبيب الطائف( )، وهكذا كان الصديق في وقوفه مع رسول الله يستهين بالخطر على نفسه، ولا يستهين بخطر يصيب النبي ? قل أو كثر حيثما رآه واستطاع أن يذود عنه العادين عليه، وانه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه وهو يصيح بهم: (ويلكم أتقتلون رجلاً ان يقول ربي الله؟) فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه، ويجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صديع)( ).
خامساً: انفاقه الأموال لتحرير المعذبين في الله:
تضاعف اذى المشركين لرسول الله ? ولأصحابه مع انتشار الدعوة في المجتمع المكي الجاهلي حتى وصل الى ذروة العنف وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين، فنكلت بهم لتفتنهم عن عقيدتهم وإسلامهم، ولتجعلهم عبرة لغيرهم، ولتنفس عن حقدها وغضبها بما تصبه عليهم من العذاب وقد تعرض بلال ? لعذاب عظيم ولم يكن لبلال ? ظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، ومثل هذا الانسان في المجتمع الجاهلي المكي يعادل رقماً من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم ويطيع ويباع ويشترى كالسائمة، أما أن يكون له رأي أو يكون صاحب فكر، أو صاحب دعوة أو صاحب قضية، فهذه جريمة شنعاء في المجتمع الجاهلي المكي تهز أركانه، وتزلزل أقدامه، ولكن الدعوة الجديدة التي سارع لها الفتيان وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرمي المنسي، فأخرجته إنساناً جديد في الحياة( )، قد تفجرت معاني الايمان في إعماقه بعد أن آمن بهذا الدين وانضم الى محمد ? وإخوانه في موكب الايمان العظيم وعندما علم سيده أميةبن خلف، راح يهدده تارة ويغريه اطوراً فما وجد عند بلال غير العزيمة وعدم الاستعداد للعودة الى الوراء الى الكفر والجاهلية والضلال، وفحنق عليه أمية وقرر أن يعذبه عذاباً شديداً، فأخرجه الى شمس الظهيرة في الصحراء بعد أن منع عنه الطعام والشراب يوماً وليلة، ثم ألقاه على ظهره فوق الرمال المحرقة الملتهبة ثم أمر غلمانه فحملوا صخرة عظيمة وضعوها فوق صدر بلال وهو مقيد اليدين، ثم قال له: لاتزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى) وأجاب بلال بكل صبر وثبات: أحد أحد. وبقي أمية بن خلف مدة وهو يعذب بلالاً بتلك الطريقة البشعة( )، فقصد وزير رسول الله ? الصديق موقع التعذيب وفاوض أمية بن خلف وقال له: (ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى! قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال أبوبكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به، قال: قد قبلت؛ فقال: هو لك فأعطاه أبوبكر الصديق ? غلامه ذلك وأخذه فأعتقه)( )، وفي رواية اشتراه بسبع أواق أو بأربعين أوقية ذهباً( )، ماأصبر بلال وماأصلبه ?! فقد كان صادق الاسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُب ولم تلين قناته أمام التحديات وأمام صنوف العذاب، وكان صبره، وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم، خاصة أن كان الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الاسلام فلم يوات الكفار فيما يريدون مردداً كلمة التوحيد بتحد صارخ، وهانت عليه نفسه في الله وهان على قومه( ).
وبعد كل محنة منحة فقد تخلص بلال من العذاب والنكال، وتخلص من أسر العبودية، وعاش مع رسول الله بقية حياته ملازماً له، ومات راضياً عنه.
واستمر الصديق في سياسة فك رقاب المسلمين المعذبين واصبح هذا المنهج من ضمن الخطة التي تبنتها القيادة الاسلامية لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين فدّعم الدعوة بالمال والرجال والأفراد فراح يشتري العبيد والإماء المملوكين من المؤمنين والمؤمنات منهم عامر بن فهيرة شهد بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأم عبيس، و زنِّيرة وأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: ماأذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ماتضر اللات والعزى وماتنفعان، فرد الله بصرها( )، وأعتق النهدية وبنتها وكانتا لامرأة من بني عبدالدار مرّ بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبداً: فقال ابو بكر ? حِلُّ( ) يأم فلان فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما؛ قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. وقال: قد أخذتهما وهما حرتان ألينها طحينها. قالتا: أو نفرغ منه ياأبابكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما( ).
وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوى الاسلام بين الصديق والجاريتين حتى خطابتاه خطاب الند للند، لاخطاب المسود للسيد، وتقبل الصديق على شرفه وجلالته في الجاهلية والاسلام - منهما ذلك، مع أنه له يداً عليهما بالتعق، وكيف صقل الاسلام الجاريتين حتى تخلقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم أن تدعا لهما طحينها يذهب أدراج الرياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما ابتا - تفضلاً، إلا أن تفرغا منه، وترداه إليها( ).
ومر الصديق بجارية بني مؤمل حي من بني عدي بن كعب وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الاسلام، وهو يومئذ مشركاً يضربها، حتى إذا ملَّ قال: إني أعتذر إليك إني لم أتركك إلا عن ملالة فتقول: كذلك فعل الله بك فابتاعها أبوبكر فأعتقها( ).
هكذا كان واهب الحريات، ومحرر العبيد، شيخ الاسلام الوقور، الذي عرف بين قومه، بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، ولم ينغمس في إثم في جاهليته، أليف مألوف يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء والأرقاء، أنفق جزءً كبيراً من ماله في شراء العبيد، وعتقهم لله، وفي الله، قبل أن تنزل التشريعات الاسلامية المحببة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثواب( ).
كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر ? الذي يبذل هذا المال كله لهؤلاء المستضعفين، أما في نظر الصديق، فهؤلاء إخوانه في الدين الجديد فكل واحد من هؤلاء لايساوي عنده مشركي الأرض وطغاتها، وبهذه العناصر وغيرها تبنى دولة التوحيد، وتصنع حضارة الاسلام الرائعة( ) ولم يكن الصديق يقصد بعمله هذا محمدة، ولا جاهاً، ولا ديناً، وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام لقد قال له أبوه ذات يوم: يابني إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلد يمنعوك، ويقومون دونك؟ فقال أبوبكر ?: ياأبت إني إنما أريد ماأريد لله عز وجل، فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرآناً يتلى الى يوم القيامة قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى?وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى?فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى?وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى?وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى?فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى?وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى?إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى?وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى?فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى?لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى?الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى?وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى?الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى?وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى?إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى?وَلَسَوْفَ يَرْضَى?}( ) (سورة الليل، الآيات: 5-21).
لقد كان الصديق من أعظم الناس إنفاقاً لماله فيما يرضي الله ورسوله.
كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الاسلامية الأولى قمة من قمم الخير والعطاء، وأصبح هؤلاء العبيد بالاسلام، أصحاب عقيدة وفكرة يناقشون بها وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، وكان إقدام إبي بكر ? على شرائهم ثم عتقهم دليلاً على عظمة هذا الدين ومدى تغلغله في نفسية الصديق ?، وما أحوج المسلمين اليوم أن يحيوا هذا المثل الرفيع، والمشاعر السامية ليتم التلاحم والتعايش، والتعاضد بين أبناء الأمة التي يتعرض ابناءها للابادة الشاملة من قبل أعداء العقيدة والدين.
سادساً: هجرته الاولى وموقف ابن الدغنة منها:
قالت عائشة رضي الله عنها: قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله ? طرفي النهار: بكرة وعشية فلما ابتلى المس
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 7:01 am

المبحث الثالث
هجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة


اشتدت قريش في أذى المسلمين، والنيل منهم فمنهم من هاجر الى الحبشة مرة أو مرتين فراراً بدينه...ثم كانت الهجرة الى المدينة ومن المعلوم أن أبا بكر استأذن النبي ? في الهجرة فقال له: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً)( ) فكان أبوبكر يطمع أن يكون في صحبة النبي ? وهذه السيدة عائشة رضي الله عنها تحدثنا عن هجرة رسول الله ? وأبيها ? حيث قالت: (كان لايخطئ رسول الله ? أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله ? في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله ? بالهاجرة( )، في ساعة كان لايأتي فيها قالت: فلما رآه أبوبكر، قال: ماجاء رسول الله ? هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبوبكر عن سريره فجلس رسول الله ?، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله ? أخرج عني من عندك. فقال: يارسول الله، إنما هما إبنتاي، وماذاك فداك أبي وأمي! فقال: إنه قد أذن بي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبوبكر: الصحبة يارسول الله؟ قال: الصحبة. قالت: فوالله ماشعرت قط قبل ذلك اليوم أحد يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يانبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا فاستأجرا عبدالله بن أرقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً -يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما( ).
وجاء في رواية البخاري عن عائشة في حديث طويل تفاصيل مهمة وفي ذلك الحديث : (......قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوساً في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله ? متقنعاً( )، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال رسول الله ? لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبوبكر: إنما هم أهلك. فقال: فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبوبكر: الصحبة بأبي أنت يارسول الله قال رسول الله ? : نعم، قال ابوبكر: فخذ بأبي أنت يارسول الله إحد راحلتي هاتين، قال رسول الله ?: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، ووضعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله ? وأبوبكر بغار في جبل ثور، فكمنا( ) فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف( )، لقن( )، فيدلج( ) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان( ) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما حيث تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل -وهو لبن منحهما ورضيفهما( ) ينعق( ) بها عامر بن فهيرة بغلس( ) يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله ? وأبوبكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد ابن عدي -هادياً خريتا- والخريت الماهر- قد غمس حلفاً( ) في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل( ).
لم يعلم بخروج رسول الله ? أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبوبكر الصديق، وآل أبي بكر، وجاء وقت الميعاد بين رسول الله ? ابي بكر ?، فخرجا من خوخة( )، لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لاتتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبدالله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال( )، وقد دعا النبي ? عند خروجه من مكة الى المدينة( )، ووقف عند خروجه بالحزورة في سوق مكة وقال: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله الى الله، ولولا أني أخرجت منك ماخرجت)( ).
ثم أنطلق رسول الله وأبوبكر والمشركون يحاولون أن يقتفوا آثارهم حتى بلغوا الجبل -جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرآوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه( )، وهذه من جنود الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (سورة المدثر، الآية:31).
وبالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله ? فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً، وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها( )، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (سورة الاسراء، الآية:80).
وفي هذه الآية الكريمة دعاء يُعلّمه الله عز وجل لنبيه ? ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها ومابين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته بمناسبة ماحاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفترى على الله غيره، وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات، والاطمئنان والنظافة الاخلاص {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} قوة وهيبة استعلى بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة {مِنْ لَدُنْك} تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء الى حماه.
وصاحب الدعوة لايمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، لايمكن أن يستظل بحاكم أو ذى جاه فينصره ويمتعه مالم يكن أتجاهه قبل ذلك الى الله والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لاتفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه( ).
وعندما أحاط المشركون بالغار، أصبح منهم رأي العين طمأن الرسول ? الصديق بمعية الله لهما: فعن ابي بكر الصديق ? قال: قلت للنبي ? وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: ماظنك ياأبابكر باثنين الله ثالثهما( )؟
وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، الآية:40).
وبعد ثلاث ليال من دخول النبي ? في الغار خرج رسول الله ? وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب، ويئس المشركون من الوصول الى رسول الله، وقد قلنا أن رسول الله ? وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبدالله بن أريقط وكان مشركاً وقد أمِناهُ فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما وقد جاءها فعلاً في الموعد المحدد وسلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش( )، وفي أثناء الطريق الى المدينة مرّ النبي ? بأم معبد( )، في قديد( )، حيث مساكن خزاعة، وهي أخت حبيش بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثر: (وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضاً)( ).
وقد أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي ? حياً أو ميتاً فله مائة ناقة وانتشر هذا الخبر عند قبائل العرب الذين في ضواحي مكة وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله ? فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لايغلبها غالب، جعله يرجع مدافعاً عن رسول الله ? بعد أن كان جاهداً عليه( ).
ولما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله ? من مكة، كانوا يفدون كل غداة الى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ماأطالوا انتظارهم فلما أووا الى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم( ) من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر رسول الله ?، وأصحابه مبيضين( )، يزول بهم السراب( )، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته، يامعشر العرب هذا جدكم( )، الذي تنتظرون، فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا رسول الله ? بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عوف، وذلك يوم الخميس الأثنين( ) من شهر ربيع الأول( )، فقام أبابكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله ? عند ذلك( ).
كان يوم وصول الرسول ? وأبي بكر الى المدينة يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقاً يوم عيد، لأنه اليوم الذي انتقل فيه الاسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة الى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها الى سائر بقائع الأرض لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم الله به، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله وصحابته المهاجرين ثم لنصرة الاسلام كما أصبحت موطناً للنظام الاسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج ويقولون يارسول الله يامحمد يارسول الله( )، وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الانسانية سار رسول الله ? حتى نزل في دار أبي أيوب الانصاري ?( )، ونزل الصديق على خارجة بن زيد الخزرجي الأنصاري.
وبدأت رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله ? للوصول للمستقبل الباهر للأمة والدولة الاسلامية التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة على أسس من الإيمان والتقوى والإحسان والعدل بعد أن تغلبت على اقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما الفرس والروم( )، وكان الصديق ? الساعد الأيمن لرسول الله ? منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته ?، وكان ابوبكر ? ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة: حكمة وإيماناً، يقيناً وعزيمة، تقوى وإخلاصاً، فإذا هذه الصحبة تثمر: صلاحاً وصدِّيقية، ذكراً ويقظة، حُباً وصفاء، عزيمة وتصميماً، إخلاصاً وفهماً، فوقف مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله ?، في سقيفة بني ساعدة وغيرها من المواقف وبعث جيش أسامة وحروب الردة، فأصلح مافسد، وبنى ماهُدم، وجمع ماتفرق، وقوّم ماانحرف( )، إن حداثة هجرة الصديق مع رسول الله فيها دروس وعبر وفوائد منها:
أولاً: قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، الآية40).
ففي هذه الآية الكريمة دلالة على أفضلية الصديق من سبعة أوجه ففي الآية الكريمة من فضائل أبي بكر ?:
1- أن الكفار أخرجوه:
الكفار أخرجوا الرسول (ثاني أثنين) فلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.
2- أنه صاحبه الوحيد:
الذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبوبكر، وكان ثاني أثنين الله ثالثهما. قوله {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} ففي المواضع التي لايكون مع النبي ? من أكابر الصحابة إلا و احد يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبوبكر، ومثل خروجه الى قبائل العرب يدعوهم الى الاسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبوبكر، وهذا اختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي ?.
3- أنه صاحبه في الغار:
الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس، عن أبي بكر الصديق ?، قال: نظرت الى أقدام المشركين على رؤسنا ونحن في الغار، فقلت: يارسول الله لو أن أحدهم نظر الى قدميه لأبصرنا. فقال: ياأبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما( ). وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه( ).
4- أنه صاحبه المطلق:
قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} لايختص بمصحابته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصحبة كما لم يشركه فيه غيره -فصار مختصاً بالأكملية من الصحبة، وهذا مما لانزاع فيه بين أهل العلم باحوال النبي ? ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره( ).
5- أنه المشفق عليه:
قوله {لا تَحْزَنْ} يدل على أن صاحبه كان مشفقاً عليه محباً له ناصراً له حيث حزن، وإنما بحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وكان حزنه على النبي ? لئلا يقتل ويذهب الاسلام، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي امامه تارة، ووراءه تارة، فسأله النبي ? عن ذلك، فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك( )، وفي رواية أحمد في كتاب فضائل الصحابة: ...فجعل أبوبكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي ? مالك؟ قال: يارسول الله أخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا الى الغار قال أبوبكر: يارسول الله كما أنت حتى أيمه...فلما رأى أبوبكر حجراً في الغار فألقمها قدمه، وقال يارسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي( ). فلم يكن يرضى بمساواة النبي؛ بل كان لايرضى بأن يقتل رسول الله ? وهو يعيش؛ بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله. وهذا واجب على كل مؤمن، والصديق أقوم المؤمنين بذلك( ).
6- المشارك له في معية الاختصاص:
قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} صريح في مشاركة الصديق للنبي ? في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق... وهي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم - فيكون النبي ? قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك ياأبابكر، ويعيننا عليهم، نصر إكرام ومحبة كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (سورة غافر، الآية 51). وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالايمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله( ).
وقال الدكتور عبدالكريم زيدان عن المعية في هذه الآية الكريمة وهذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} لأن المعية هنا لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، كوصف التقوى والإحسان بل هي خاصة برسوله وصاحبه مكفولة هذه المعية بالتأييد بالآيات وخوارق العادات( ).
7- أنه صاحبه في حال إنزال السكينة والنصر:
قال تعالى {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا...} (سورة التوبة، الآية 40) فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد فلأن يكون صاحبه في حضور النصر والتأييد أولى وأحرى، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها. وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أنما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس لصاحبه فيها أعظم مما لسائر الناس. وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه( ).
ثانياً: فقه النبي ? والصديق في التخطيط والأخذ بالأسباب:
إن من تأمل حادثة الهجرة رأى دقة التخطيط فيها ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها ومن مقدماتها إلى ماجرى بعدها يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله ? كان قائماً وأن التخطيط جزء من السنة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ماطولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السُّنة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين( ).
فعندما حان وقت الهجرة للنبي ? في التنفيذ نلاحظ الآتي:
أ-وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ماكان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلاً،
1-جاء ? إلى بيت أبي بكر في وقت شدة الحر -الوقت الذي لايخرج فيه أحد بل من عادته لم يكن يأتي له لماذا؟ حتى لايراه أحد.
2-إخفاء شخصيته ? أثناء مجيئة للصديق وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم( ).
3-أمر ? أبا بكر أن يخرج من عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الإتجاه .
4-وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر( ).
5-بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، وكان ذلك الخبير مشركاً مادام على خلق ورزانة وفيه دليل على أن الرسول ? كان لايحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها( )، وقد بين الشيخ عبدالكريم زيدان أن القاعدة والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامة، ولهذه القاعدة استثناء وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروط معينة وهي: تحقق المصلحة أو رجحانها بهذه الاستعانة، وأن لايكون ذلك على حساب الدعوة ومعانيها، وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به، وأن لاتكون هذه الاستعانة مثار شبهة لأفراد المسلمين، وأن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه الاستعانة على وجه الاستثناء، وإذا لم تتحقق لم تجز الاستعانة( )، وقد كان الصديق ? قد دعا أولاده للإسلام ونجح بفضل الله في هذا الدور الكبير والخطير، وقام بتوظيف أسرته لخدمة الإسلام ونجاح هجرة رسول الله ?، فوزع بين أولاده المهام الخطيرة في مجال التنفيذ العملي لخطة الهجرة المباركة:
1-دور عبدالله بن أبي بكر-رضي الله عنهما-:
فقد قام بدور صاحب المخابرات الصادق وكشف تحركات العدو، لقد ربى عبدالله على حب دينه، والعمل لنصرته ببصيرة نافذة وفطنة كاملة وذكاء متوقد، يدل على العناية الفائقة التي اتبعها سيدنا أبو بكر في تربيته وقد رسم له أبوه دوره في الهجرة فقام به خير قيام، وكان يمتثل في التنقل بين مجالس أهل مكة يستمع أخبارهم، ومايقولونه في نهارهم ثم يأتي الغار إذا أمسى فيحكي للنبي ? ولأبيه الصديق ? مايدور بعقول أهل مكة ومايدبرونه، وقد أتقن عبدالله هذا الواجب بطريقة رائعة فلم تأخذ واحداً من أهل مكة ريبة فيه، وكان يبيت عند الغار حارساً حتى إذا اقترب النهار عاد إلى مكة فما شعر به أحد( ).
2-دور عائشة وأسماء رضي الله عنهما:
كان لأسماء وعائشة دور عظيم أظهر فوائد التربية الصحيحة حيث قامتا عند قدوم النبي ? إلى بيت أبي بكر ليلة الهجرة بتجهيز طعام للنبي ? ولأبيهما: تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فجهزناهما -تقصد رسول الله ? وأباها- أحسن الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فلذلك سميت ذات النطاقين( ).
3-دور أسماء في تحمل الأذى وإخفاء أسرار المسلمين:
أظهرت أسماء رضي الله عنها دور المسلمة الفاهمة لدينها، المحافظة على أسرار الدعوة المتحملة لتوابع ذلك من الأذى والتعنت فهذه أسماء تحدثنا بنفسها حيث تقول: لما خرج رسول الله ? وأبو بكر ? أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يابنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشاً خبيثاً- فلطم خدِّي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...)( ).
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم؟
4-دور أسماء رضي الله عنها في بث الأمان والطمأنينة في البيت:
خرج أبو بكر ? مع رسول الله ? ومعه ماله كله وهو ماتبقى من رأسماله -وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم- وجاء أبو قحافة ليتفقد بيت ابنه، ويطمئن على أولاده وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبتِ، ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال: لابأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. لاوالله ماترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكّن الشيخ بذلك( ).
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنّت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار التي كوّمتها لتطمئن لها نفس الشيخ إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لاتزلزله الجبال، ولاتحركه العواصف الهوج، ولايتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لاحد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولاتلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عزّ أن يتكرر،وقلّ أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هُنَّ في أمس الحاجة إلى الإقتداء به، والنسج على منواله وظلت أسماء مع أخواتها في مكة، لاتشكو ضيقاً، ولاتظهر حاجة، حتى بعث النبي ? زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجه وأسامة بن زيد، وأمه بركة المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبدالله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، حتى قدموا المدينة مصطحبين( ).
5-دور عامر بن فهيرة-مولى أبي بكر ?- :
من العادة عند كثير من الناس إهمال الخادم، وقلة الاكتراث بأمره، لكن الدعاة الربانيين لايفعلون ذلك، إنهم يبذلون جهدهم لهداية من يلاقوه لذا أدب الصديق ? عامر بن فهيرة مولاه وعلمه، فأضحى عامر جاهزاً لفداء الإسلام وخدمة الدين.
وقد رسم له سيدنا أبو بكر ? دوراً هاماً في الهجرة، فكان يرعى الغنم مع رعيان مكة لكن لايلفت الأنظار لشيء، حتى إذا أمسى أراح بغنم سيدنا أبي بكر على النبي ? فاحتلبا وذبحا ثم يكمل عامر دور عبدالله بن أبي بكر حين يغدو من عند رسول الله ? وصاحبه عائداً إلى مكة فيتتبع آثار عبدالله ليعض عليها مما يعد ذكاء، وفطنة في الإعداد لنجاح الهجرة( ).
وإن لدرس عظيم يستفاد من الصديق لكي يهتم المسلمون بالخدم الذين يأتونهم من مشارق الدنيا ومغاربها ويعاملونهم على كونهم بشراً أولاً ثم يعلمونهم الإسلام، فلعل الله يجعل منهم من يحمل هذا الدين كما ينبغي.
إن ماقام به الصديق من تجنيد أسرته لخدمة صاحب الدعوة عليه الصلاة والسلام في هجرته يدل على تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف لقد أخذ الرسول ? بالأسباب المعقولة أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته ... ومن ثم باتت عناية الله متوقعة( ).
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لايعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله ? أعد كل الأسباب واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح وهنا يستجاب الدعاء، ويكلل العمل بالنجاح( ).
ثالثاً: جندية الصديق الرفيعة وبكائه من الفرح:
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق ?، فأبو بكر ? عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله ?: (لاتعجل لعل الله يجعل لك صاحباً) فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة (فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك) وفي رواية البخاري، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر-وهو الخبط- أربعة أشهر). لقد كان يدرك بثاقب بصره ? وهو الذي تربى ليكون قائداً، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي ?، وعندما جاء رسول الله ? وأخبره إن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكا من شدة الفرح وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: فوالله ماشعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، إنها قمة الفرح البشري، أن يتحول الفرح إلى بكاء مما قال الشاعر عن هذا:
ورد الكتاب من الحبيب بأنه
سيزورني فاستعبرت اجفاني
غلب السرور عليّ حتى إنني
من فرط ماقد سرني أبكاني
ياعين صار الدمع عندك عادة
تبكين من فرح ومن أحزاني
فالصديق ? يعلم أن معنى هذه الصحبة أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى ? فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة( )، وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله ? في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله ?، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم ?، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول ? في قبضة المشركين( )، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي ? في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض فراراً من الحرج أو الكذب( )، وفي إجابته للسائل تورية وتنفيذاً للتربية الأمنية التي تلقاها من رسول الله ?، لأن الهجرة كانت سراً وقد أقره الرسول ? على ذلك( ).
رابعاً: فن قيادة الأرواح وفن التعامل مع النفوس:
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب ابي بكر لرسول الله ? في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى ? وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع ومن أسباب هذا الحب لرسول الله ? صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول ? مع صحابته، في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الإسلام( ).
وصدق الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوي عندما قال:
فإذا أحب الله باطن عبده
ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح
مال العباد عليه بالأرواح( )
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان ? رحيماً، وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقى إلا المستضعفين والمفتونين ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة( ).
والجدير بالذكر أن حب الصديق لرسول الله ? كان لله ومما يبين الحب لله والحب لغير الله: أن ابا بكر كان يحب النبي ? مخلصاً لله، وأبوطالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله، فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه قوله : {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى?الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى?وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى?إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى?وَلَسَوْفَ يَرْضَى?} (سورة الليل، الآيات:17-21)، وأما أبوطالب فلم يتقبل عمله، بل أدخله النار، لأنه كان مشركاً عاملاً لغير الله. وأبوبكر لم يطلب أجره من الخلق، لا من النبي ? ولا من غيره، بل آمن به وأحبه وكلأه وأعانه من الله، متقرباً بذلك الى الله وطالباً الأجر من الله ويبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده( ).
خامساً: مرض أبي بكر الصديق بالمدينة في بداية الهجرة:
كانت هجرة النبي ? وأصحابه عن البلد الأمين تضحية عظيمة عبّر عنها النبي ? بقوله: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله الى الله، ولولا أني أخرجت منك ماخرجت)( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما تقدم رسول الله ? المدينة قدمها وهي أوبأ ارض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلاً -يعني ماءً آجناً- فأصاب أصحابه منها بلاءً وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه. قالت: فكان أبوبكر، وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله ? في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب وبهم مالا يعلمه إلا الله من شدة الوعك( )، فدنوت من أبي بكر فقلت:
ياأبت كيف تجدك؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
قالت: فقلت والله مايدري أبي مايقول.ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك ياعامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه
إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه( )
كالثور يحمى جلده بروقه( )
قالت: قلت: والله مايدري عامر مايقول. قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته( )، ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي إذخر( ) وجليل
وهل أُرِدَن يوماً مياه مَجِنَة
وهل يبدون لي شامة وطفيل( )
قالت: فأخبرت رسول الله ? بذلك فقال: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد، اللهم وصحّحها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حمّاها وأجعلها بالجحفة)( ).
وقد استجاب الله دعاء نبيه ? وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم( ).
شرع رسول الله ? بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الاسلامية، فآخى بين المهاجرين والانصار، ثم أقام المسجد، وأبرم المعاهدة مع اليهود وبدأت حركة السرايا، واهتم بالبناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد، وكان أبوبكر ? وزير صدق لرسول الله ? ولازمه في كل أحواله ولم يغيب عن مشهد من المشاهد ولم يبخل بمشورة أو مال أو رأي( ).





























المبحث الرابع
الصدِّيق في ميادين الجهاد



ذكر أهل العلم بالتواريخ والسير أن أبابكر شهد مع النبي ? بدراً والمشاهد كلها، ولم يفته منها مشهد، وثبت مع رسول الله ? يوم أحد حين انهزم الناس ودفع إليه النبي ? رايته العظمى يوم تبوك وكانت سوداء( ).
وقال ابن كثير: ولم يختلف أهل السير في أن أبابكر الصديق ? لم يتخلف عن رسول الله ? في مشهد من مشاهده كلها( ).
وقال الزمخشري: إنه -يعني أبابكر ?- كان مضافاً لرسول الله ? الى الأبد، فإنه صحبه صغيراً وأنفق ماله كبيراً، وحمله الى المدينة براحلته وزاده، ولم يزل ينفق عليه ماله في حياته، وزوجه ابنته، ولم يزل ملازماً له سفراً وحضراً ، فلما توفي دفنه في حجرة عائشة أحب النساء إليه ?( ).
وعن سلمة بن الأكوع: غزوت مع النبي ? سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات مرة علينا أبوبكر ومرة علينا أسامة( ).
ومن خلال هذا المبحث سنحاول أن نتتبع حياة الصديق ? الجهادية مع النبي ? لنرى كيف جاهد الصديق بنفسه وماله ورأيه في نصرة دين الله تعالى.
أولاً: أبوبكر ? في بدر الكبرى:
شارك الصديق في غزوة بدر وكانت في العام الثاني من الهجرة وكانت له فيها مواقف مشهورة من أهمها:
1- مشورة الحرب:
لما بلغ النبي ? نجاة القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي ? استشار رسول الله ? اصحابه في الأمر( )، فقام أبوبكر فقال وأحسن ثم قام عمر فقال وأحسن( ).
2- دوره في الاستطلاع مع النبي ?:
قام النبي ? ومعه أبوبكر يستكشف أحوال جيش المشركين وبينما هما يتجولان في تلك المنطقة لقيا شيخاً من العرب، فسأله رسول الله ? عن جيش قريش، وعن محمد وأصحابه، ومابلغه ? من أخبارهم: فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني مما أنتما. فقال له رسول الله ?: إذا أخبرتنا أخبرناك فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: نعم. فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً واصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به جيش المسلمين- وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً- ثم قال الشيخ: لقد اخبرتكما عما أردتما، فأخبراني: ممن أنتما؟ فقال رسول الله ?: نحن من ماء. ثم انصرف النبي ? وأبوبكر عن الشيخ، وبقي هذا الشيخ يقول: مامن ماء؟ أمن ماء العراق( ).
وفي هذا الموقف يتضح قرب الصديق من النبي ? وقد تعلم أبوبكر من رسول الله ? دروساً كثيرة.
3- في حراسة النبي ? في عريشه:
عندما رتب ? الصفوف للقتال رجع الى مقر القيادة وكان عبارة عن عريش على تلِّ مشرف على ساحة القتال وكان معه فيه أبوبكر ? وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله ?( )، وقد تحدث علي بن أبي طالب ? عن هذا الموقف فقال: ياأيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت ياأمير المؤمنين، فقال: أما إني مابارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبوبكر: إنا جعلنا لرسول الله ? عريشاً فقلنا من يكون مع رسول الله ? لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله مادنا منه أحد إلا أبابكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله ? لا يهوي إليه أحد من المشركين إلا أهوى إليه فهذا اشجع الناس( ).
4- الصديق يتلقى البشارة بالنصر، ويقاتل بجانب رسول الله?:
بعد الشروع في الأخذ بالأسباب اتجه رسول الله ? الى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه: (اللهم أنجز لي ماوعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام فلا تعبد في الأرض أبداً) ومازال ? يدعو ويستغيث حتى سقط رداوه، فأخذه أبوبكر ورده على منكبيه وهو يقول: يارسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه منجر لك ماوعدك)( )، وأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وفي رواية ابن عباس قال: قال النبي ? يوم بدر: (الله انشدك عهد ووعدك، الله إن شئت لم تعبد) فأخذ ابوبكر بيده، فقال: حسبك الله، فخرج ? وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}( )، وقد خفق النبي ? خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: ابشر ياأبابكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع) يعني الغبار، قال: ثم خرج رسول الله ? الى الناس فحرضهم( ).
وقد تعلم الصديق من هذا الموقف درساً ربانياً مهماً في التجرد النفسي وحظها والخلوص واللجوء لله وحده والسجود والجثي بين يدي الله سبحانه لكي ينزل نصره وبقى هذا المشهد راسخاً في ذاكرة الصديق وقلبه ووجدانه يقتدي برسول الله ? في تنفيذه في مثل هذه الساعات، وفي مثل هذه المواطن ويبقى هذا المشهد درساً لكل قائد أو حاكم أو زعيم أو فرد يريد أن يقتدي بالنبي ? وصحابته الكرام.
ولما اشتد أوار المعركة وحمى وطيسها نزل رسول الله ? وحرض على القتال والناس على مصافهم يذكرون الله تعالى، وقد قاتل ? بنفسه قتالاً شديد وكان بجانبه الصديق( )، وقد ظهرت منه شجاعة وبسالة منقطعة النظير، وكان على استعداد لمقاتلة كل كافر عنيد ولو كان أبنه، وقد شارك ابنه عبدالرحمن في هذه المعركة مع المشركين، وكان من أشجع الشجعان بين العرب، ومن أنفذ الرماة سهماً في قريش، فلما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي (أي ظهرت أمامي كهدف واضح) يوم بدر، فملت عنك ولم اقتلك. فقال له أبوبكر: ولكنك لو أهدفت لي لم أمِلْ عنك( ).
5- الصديق والأسرى:
قال ابن عباس ?: ...فلما أسروا الأسارى قال رسول الله ? لأبي بكر وعمر: (ماترون في هؤلاء الأسارى؟) فقال أبوبكر: يانبي الله هم بنو العم والعشيرة: أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم الى الاسلام. فقال رسول الله ? : ماترى يابن الخطاب؟ قال: لا والله يارسول، ماأرى الذي يراه أبوبكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان (نسيباً لعمر) فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوى رسول الله ? الى ماقال أبوبكر ولم يهو ماقلت: فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله ? وأبوبكر قاعدين يبكيان، قلت يارسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله ?: أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة -شجرة قريبة من النبي ?- وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى.....} الى قوله {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا.....} فأحل الله لهم الغنيمة( ) وفي رواية عن عبدالله بن مسعود ? قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله ?: (ماتقولون في هؤلاء الأسرى؟) فقال ابوبكر: يارسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يارسول الله أخرجوك وكذبوك قربهم فاضرب أعناقهم. وقال عبدالله بن رواحة: يارسول الله انظر وادياً كثير الحطب، فادخلهم فيه ثم اضرم عليهم ناراً. فقال العباس: قطعت رحمك، فدخل رسول الله ? ولم يرد عليهم شيئاً. فقال ناس: يأخذ بقول ابي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبدالله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله ? فقال: (إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك ياأبابكر كمثل عيسى عليه السلام إذ قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة المائدة، الآية:118) وإن مثلك ياعمر كمثل نوح إذ قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (سورة نوح، الآية 26).
وإن مثلك كمثل موسى إذ قال: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} (سورة يونس، الآية 88)( ). كان النبي ? إذ استشار أصحابه أول من يتكلم أبوبكر في الشورى، وربما تلكم غيره، وربما لمن يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره ابتع رأيه دون رأي من يخالفه( ).
ثانياً: في أحد وحمراء الأسد:
في يوم أحد تلقى المسلمون درساً صعباً، فقد تفرقوا من حول النبي ?، وتبعثر الصحابة في أرجاء الميدان، وشاع أن الرسول ? قتل وكان رد الفعل على الصحابة متبايناً، وكان الميدان فسيحاً وكل مشغول بنفسه، وشق الصديق الصفوف وكان اول من وصل الى رسول الله ?، واجتمع الى رسول الله أبوبكر، وأبوعبيدة بن الجراح، وعلي، وطلحة والزبير، وعمر بن الخطاب والحارث بن الصمة، وأبودجانة، وسعد بن ابي وقاص، وغيرهم.... رضي الله عنهم وقصدوا مع رسول الله ? الشعب من جبل أحد في محاولة لاسترداد قوتهم المادية والمعنوية( ).
وكان الصديق إذا ذكر أحد قال: ذلك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً يقاتل في سبيل الله دونه، قال قلت: كن طلحة حيث فاتني مافاتني، وكان بيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب الى رسول الله ? منه، وهو يخطلف المشي خطفاً لا أخطفه فإذا هو أبوعبيدة، فانتهينا الى رسول الله ? وقد كسرت رباعيته وشج وجهه، وقد دخل في وجنتيه حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله ?: عليكما صاحبكما: يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت الى قوله، قال: ذهبت لأنزع من وجهه، فقال أبوعبيدة أقسم عليك بحقي لما تركتني فتركته فكره تناولها فيؤذي رسول الله ? فأرزم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة فكان أبوعبيدة من أحسن الناس هتماً...فأصلحنا من شأن رسول الله ? ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية، وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه فأصلحنا من شأنه( ).
وتتضح منزلة الصديق في هذه الغزوة من موقف أبي سفيان عندما سأل وقال: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات. فنهاهم النبي ? أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم أبن أبي قحافة؟ ثلاث مرات. ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات ثم رجع الى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا( )... فهذا يدل على ظن أبي سفيان زعيم المشركين حينئذ بأن أعمدة الاسلام، وأساسه رسول الله ? وابوبكر وعمر( ).
وعندما حاول المشركون أن يقبضوا على المسلمين ويستأصلوا شفأتهم، كان التخطيط النبوي الكريم قد سبقهم وأبطل كيدهم، وأمر رسول الله ? المسلمين مع مابهم من جراحات وقرح شديد للخروج في إثر المشركين، فأستجابوا لله ولرسوله مع مابهم من البلاء وانطلقوا فعن عائشة رضي الله عنها قالت لعروة بن الزبير في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (سورة آل عمران، الآية: 172): ياأبن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبوبكر لما أصاب رسول الله ? ماأصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: من يذهب في إثرهم؟) فانتدب منهم سبعون رجلاً: كان فيهم أبوبكر والزبير( ).
ثالثاً: في غزوة بني النضير، وبني المصطلق وفي الخندق وبني قريظة:
أ- خرج النبي ? الى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية من بني عامر على وجه الخطأ لأن عمراً لم يعلم بالعهد الذي بين بني عامر وبين النبي ?، وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فلما آتاهم النبي ? قالوا: نعم ياأبا القاسم نعينك على ماأحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله الى جنب جدار من بيوتهم قاعد. قالوا: فمن يعلوا على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله ? في نفر من أصحابه فيهم أبوبكر وعمر وعلي فأتى رسول الله ? الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج الى المدينة، فلما استلبت النبي ? أصحابه قالوا في طلبه فرأوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلاً المدينة. فأقبل أصحاب النبي ? حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به.
فبعث النبي ? محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يحرضونهم على المقام ويعدونهم بالنصر، فقويت نفوسهم وحمى حيي بن أخطب وبعثوا الى رسول الله ? أنه لايخرجون، ونابذوه بنقض العهد فعند ذلك أمر رسول الله ? الناس بالخروج إليهم فحاصروهم خمس عشرة ليلة فتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله ? بقطع النخيل والتحريق، ثم أجلاهم على أن لهم ماحملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة فنزلت سورة الحشر( ).
ب-بني المصطلق:
أراد بنو المصطلق أن يغزو المدينة، فخرج لهم رسول الله في أصحابه فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ويقال إلى عمار بن ياسر وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة. ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم فأبوا، فتراموا بالنبل ثم أمر رسول الله ? المسلمين فحملوا حملة رجل واحد فما أفلت منهم رجل واحد، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، ولم يقتل من المسلمين سوى رجل واحد( ).
جـ-في الخندق وبني قريظة:
كان الصديق في الغزوتين مرافقاً للنبي ?، وكان يوم الخندق يحمل التراب في ثيابه وساهم مع الصحابة للإسراع في انجاز حفر الخندق في زمن قياسي مما جعل فكرة الخندق تصيب هدفها في مواجهة المشركين( ).
رابعاً: في الحديبية:
خرج رسول الله ? في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد زيارة البيت الحرام في كوكبة من الصحابة عددها أربع عشرة مائة وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائر لتعظيم بيت الله الحرام فبعث النبي ? عيناً له من خزاعة فعاد بالخبر أن أهل مكة جمعوا جموعهم لصده عن الكعبة فقال: أشيروا عليَّ أيها الناس، فقال أبو بكر ? يارسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لاتريد حربه أو قتل أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال امضوا على اسم الله، وقد ثارت ثائرة قريش وحلفوا أن لايدخل الرسول ? مكة عنوة ثم قامت المفاوضات بين أهل مكة ورسول الله ? وقد عزم النبي ? على إجابة أهل مكة على طلبهم إن أرادوا شيئاً فيه صلة رحم( ).
أ-في المفاوضات:
جاءت وفود قريش لمفاوضة النبي ? وكان أول من أتى بديل بن ورقاء من خزاعة فلما علم بمقصد النبي ? والمسلمين رجع إلى أهل مكة ثم جاء مكرز بن حفص ثم بالحليس بن علقمة ثم عروة بن مسعود الثقفي فدار هذا الحوار بين النبي ? وعروة بن مسعود الثقفي واشترك في هذا الحوار أبو بكر ? وبعض أصحابه( ).
قال عروة: يامحمد أجمعت أوباش الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها (العوذ المطافيل)- أي خرجت رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً- قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة وايم الله لكأني بهؤلاء يقصد أصحاب النبي ? قد انكشفوا عنك!!
فقال أبو بكر: أمصص بظر( ) اللات -وهي صنم ثقيف- أنحن نفرُّعنه وندعه؟( ) فقال من ذا؟ قالوا أبو بكر. قال:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 7:02 am

كانت نهابا تلافيتها
بكرِّي على المُهرِ في الأجْرَع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا
إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيد
بين عيينة والأقرع( )
وقد كنت في الحرب ذا تُدْراء
فلم أُعطَ شيئاً ولم أُمْنَع
إلا أفائل أعطيتها
عديد قوائمها الأربع( )
وما كان حصن ولاحابس
يفوقان شيخي في المجمع
وماكنت دون امرئ منهما
ومن تضع اليوم لايُرْفعِ( )
فقال رسول الله ?: اذهبوا به، فأقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رَضي، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله ?( ).
وأتى العباس رسول الله ?، فقال له رسول الله ?: أنت القائل: فأصبح نهبي ونهبُ العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فقال ابوبكر الصديق: بين عيينة والأقرع؛ فقال رسول الله ?: (هما واحد)، فقال أبوبكر: أشهد أنك كما قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ} (سورة يس، الآية 69)( ).
ج- في الطائف:
في حصار الطائف وقعت جراحات في اصحاب النبي ? وشهادة، ورفع رسول الله ? عن أهل الطائف الحصار ورجع الى المدينة وممن استشهد من المسلمين في هذه الغزوة عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما رمي بسم فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة النبي ?( ).
وعندما قدم وفد ثقيف للمدينة ليعلنوا إسلامهم فما إن ظهر الوفد قرب المدينة حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول ?، وفاز الصديق بتلك البشارة( )، وبعد أن أعلنوا إسلامهم وكتب لهم رسول الله ? كتابهم وأراد أن يؤمّر عليهم أشار أبوبكر بعثمان بن أبي العاص بن أبي العاص -وكان أحدثهم سناً فقال الصديق: يارسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الاسلام وتعلم القرآن( )، فقد كان عثمان بن أبي العاص كلما نام قومه بالهاجرة، عمد الى رسول الله ? فساله في الدين واستقرأه القرآن حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله ? نائماً عمد الى أبي بكر وكان يكتم ذلك عن أصحابه فأعجب ذلك رسول الله ? وعجب منه وأحبه( ).
وعندما علم الصديق بصاحب السهم الذي أصاب أبنه كانت له مقوله تدل على عظمة إيمانه فعن القاسم بن محمد قال: رُمِيَ عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما بسهم يوم الطائف، فانتفضت به بعد وفاة رسول الله ? بأربعين ليلة، فمات فقدم عليه وفد ثقيف ولم يزل ذلك السهم عنده، فأخرجه إليهم فقال: هل يعرف هذا السَّهمَ منكم أحد؟ فقال سعيد بن عبيد، أخو بني عجلان: هذا سهم أنا بَرِيْتُهُ ورشته( )، عقبته( )، وأنا رميت به. فقال أبوبكر ?: فإن هذا السهم الذي قتل عبدالله بن أبي بكر، فالحمدلله الذي أكرمه بيدك، ولم يُهِنك بيده، فإنه أوسع لكما( ).
ثامناً: في غزوة تبوك، وإمارة الحج، وفي حجة الوداع:
أ- في تبوك:
خرج رسول الله ? بجيش عظيم في غزوة تبوك بلغ عدده ثلاثين ألفاً وكان يريد قتال الروم بالشام، وعندما تجمع المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله ?، اختار الأمراء والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، فأعطى لواءه الأعظم الى أبي بكر الصديق ?( )، وفي هذه الغزوة ظهرت بعض المواقف للصديق منها:
1- موقفه من وفاة الصحابي عبدالله ذو البجادين رضي الله عنه:
قال عبدالله بن مسعود ?: قمت في جوف الليل وأنا مع رسول الله ? في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار من ناحية العسكر، قال: فاتبعتها، أنظر إليها فإذا رسول الله ? وأبوبكر وعمر، وإذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حضرته، وأبوبكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: أدنيا الى أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه قال: اللهم إني أمسيت راضياَ عنه فارض عنه. قال (الراوي عبدالله ابن مسعود): قال عبدالله بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحفرة( ).
وكان الصديق ? إذا دخل الميت اللحد قال: بسم الله وعلى ملة رسول الله ?، وباليقين وبالبعث بعد الموت( ).
2- طلب الصديق من رسول الله ? الدعاء للمسلمين:
قال عمر بن الخطاب: خرجنا الى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستقطع حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل مابقي على كبده، فقال أبوبكر الصديق، يارسول الله إن الله قد عوّدك في الدعاء خيراً، فأدع الله، قال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه فلم يردهما حتى قالت السماء -أي تهيئت لإنزال مائها- فأظلت -أي أنزلت مطراً خفيفاً- ثم سكبت فملأوا مامعهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر( ).
3- نفقة الصديق في تبوك:
حث رسول الله ? الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته وكان عثمان ? صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة( ).
وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبابكر بذلك ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: أمرنا رسول الله ? يوماً أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت اليوم أسبق أبابكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله ?، ماأبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبوبكر ? بكل ماعنده، فقال له رسول الله ?: ماأبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لاأسابقك الى شيء أبداً( ).
كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً ولكن حال الصديق ? أفضل منه لانه خال من المنافسة مطلقاً ولا ينظر الى غيره( ).
ب- الصديق أمير الحج سنة 9هـ:
كانت تربية المجتمع وبناء الدولة في عصر النبي ? مستمرة على كافة الأصعدة والمجالات العقائدية والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والعسكرية والتعبدية وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية، وحجة عام 8هـ بعد الفتح كُلِّف بها عتّاب بن أسيد، ولم تكن قد تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين( )، فلما حل موسم الحج أراد الحج ? ولكنه قال: (إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت، فلا أحب أن أ حج حتى لايكون ذلك) فأرسل النبي ? الصديق أميراً على الحج سنة تسعة هجرية، فخرج أبوبكر الصديق بركب الحجيج نزلت سورة براءة فدعا النبي ? علياً ? وأمره أن يلحق بأبي بكر الصديق، فخرج على ناقة رسول الله ?: العضباء حتى أدرك الصديق ابابكر بذي حليفة، فلما رآه الصديق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم سار، فأقام أبوبكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة لا في شهر ذي القعدة كما قيل، وقد خطب الصديق قبل التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم النفر الأول فكان يعرّف الناس مناسكهم: في وقوفهم وإفاضتهم، ونحرهم، ونفرهم، ورميهم للجمرات..الخ وعلي بن أبي طالب يخلفه في كل موقف من هذه المواقف فيقرأ على الناس صدر سورة براءة ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولايطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده الى مدته، ولايحج بعد العام مشرك( ).
وقد أمر الصديق ابا هريرة في رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته( ).
وقد كلف النبي ? علياً بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم من عقد العهود ونقضها أن لايتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العرف ليس فيه منافاة للاسلام فلذلك تدارك النبي ? الأمر وأرسل علياً بذلك فهذا هو السبب في تكليف علياً ? بتبليغ صدر سورة براءة لا مازعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة الى أن علياً ? أحق بالخلافة من أبي بكر وقد علق على ذلك الدكتور محمد ابو شهبة فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصديق له: أمير أم مأمور( )؟ وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير( ).
وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة الوداع( )، لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وماعلى الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، ايقنت تلك القبائل أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلاً فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد( ).
ج- في حجة الوداع:
روى الامام أحمد ? بسنده الى عبدالله بن الزبير عن أبيه أن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله ? حجاجاً حتى أدركنا (العرج)( ) نزل رسول الله ?، فجلست عائشة جنب النبي ?، وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام لأبي بكر فجلس أبوبكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع وليس معه بعيره!! فقال: أين بعيرك؟ فقال: أظللته البارحة! فقال أبوبكر: بعير واحد تضله!! فطفق يضربه ورسول الله يبتسم ويقول: انظروا الى هذا المحرم ومايصنع( ).








المبحث الخامس
الصديق في المجتمع المدني وبعض صفاته وشيء من فضائله



كانت حياة الصديق في المجتمع المدني مليئة بالدروس والعبر وتركت لنا نموذجاً حياً لفهم الاسلام وتطبيقه في دنيا الناس وقد تميزت شخصية الصديق بصفات عظيمة ومدحه رسول الله في أحاديث كثيرة وبين فضله وتقدمه على كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمين.
أولاً: من مواقفه في المجتع المدني:
1- موقفه من فنحاص الحبر اليهودي:
ذكر غير واحد من كتّاب السيّر والمفسرين أن أبابكر ? دخل بيت المدارس( )، على يهود، فوجد منهم ناساً قد اجتمعوا الى رجل منهم، يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم، يقال له أشيع( )، فقال أبوبكر لفنحاص: ويحك! اتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمداً لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والانجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: ولله ياأبابكر، مابنا الى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ومانتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وماهو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ماستقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنياً ماأعطانا الربا فغضب أبوبكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك، أي عدو الله، فذهب فنحاص الى رسول الله ?، فقال: يامحمد انظر ماصنع بي صاحبك. فقال رسول الله ? لأبي بكر: ماحملك على ماصنعت؟ فقال أبوبكر: يارسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص وقال: ماقلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص رداً عليه، وتصديقاً لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (سورة آل عمران، الآية: 181).
ونزل في ابي بكر الصديق ?، ومابلغه في ذلك من الغضب( ) قوله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (سورة آل عمران، الآية:186).
2- حفظ سر النبي ?:
قال عمر بن الخطاب: تأيمت حفصة من خنيس بن حذافة، وكان مما شهد بدراً، فلقيت عثمان بن عفان فقلت: إن شئت انكحتك حفصة، فقال: أنظر ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبابكر فعرضتها عليه فصمت فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله ? فأنكحتها إياه، ثم لقيني أبوبكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين لم أرجع إليك، فقلت: أجل فقال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أني علمت أن رسول الله ? قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله ? ولو تركها لنكحتها( ).
3- الصديق وآية صلاة الجمعة:
قال جابر بن عبدالله بينما النبي ? يخطب يوم الجمعة، وقدمت عيُر المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله ? حتى لم يبق معه ? إلا اثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سورة الجمعة، الآية 11) وقال: في الاثنىعشر الذين ثبتوا مع رسول الله ? أبوبكر وعمر( ).
4- رسول الله ? ينفي الخيلاء عن أبي بكر:
قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله ?: (من جر ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فقال أبوبكر: إن أحد شِقيَّ يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله ?: (إنك لست تصنع ذلك خُيلاء)( ).
5- الصديق وتحريه للحلال:
عن قيس بن أبي حازم قال: كان لأبي بكر غلام فكان إذا جاء بغلتَّه لم يأكل من غلته حتى يسأل، فإن كان شيئاً مما يحب أكل، وإن كان شيئاً يكره لم يأكل، قال: فنسي ليلة فأكل ولم يسأله، ثم سأله فأخبره أنه من شيء كرهه، فأدخل يده فتقيأ حتى لم يترك شيئاً( ).
فهذا مثال على ورع أبي بكر ? حيث كان يتحرى الحلال في مطعمه ومشربه، ويتجنب الشبهات، وهذه الخصلة تدل على بلوغه درجات عُليا في التقوى، ولا يَخفَى أهمية طيب المطعم والمشرب والملبس في الدين، وعلاقة ذلك بإجابة الدعاء( )، كما في حديث الأشعث الأغبر وفيه: (يمد يديه الى السماء: يارب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك)( ).
6- أدخلاني في السلم، كما أدخلتماني في الحرب:
دخل أبوبكر الصديق ? على النبي ? فسمع صوت ابنته عائشة عالياً فلما اقترب منها تناولها ليلطمها وقال: اراك ترفعين صوتك على رسول الله، فجعل رسول الله بحجزه، وخرج أبوبكر مغضباً فقال النبي ? لعائشة حين خرج أبوبكر: أرايت كيف أنقذتك من الرجل؟ فمكث أبوبكر أياماً، ثم أستأذن على رسول الله فوجدهما قد اصطلحا. فقال لهما: (أدخلاني في سلمكما، كما أدخلتماني في حربكما) فقال النبي ?: (قد فعلنا)( ).
7-أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
دخل أبوبكر على عائشة رضي الله عنهم في أيام العيد، وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان فقال أبوبكر ?: أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله ?؟ وكان رسول الله ? معرضاً بوجهه عنهما، مقبلاً بوجهه الكريم الى الحائط. فقال: دعهما ياأبابكر، فإن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا أهل الاسلام( )، ففي الحديث بيان : أن هذا لم يكن من عادة النبي ? وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي ? أقر الجواري عليه معللاً ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث: ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة( ). وكان لعائشة لُعَب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها، وليس في حديث الجاريتين أن النبي ? استمع الى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لابمجرد السماع( ). ومن هذا نفهم أنه يرخص لمن يصلح له اللعب أن يلعب في الأعياد، كالجاريتين الصغيرتين من الأنصار اللتين تغنيان في العيد في بيت عائشة( ).
8- أكرامه للضيوف:
قال عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله ? قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، وإن أبابكر جاء بثلاث... وإن أبابكر تعشى عند رسول الله ? فجاء بعد أن مضى من الليل ماشاء الله تعالى فقالت له امرأته: ماحبسك عن أضيافك؟ أو قالت عن ضيفك، قال وماعشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، وقد عرضوا عليهم فغلبوهم قال: فذهبت أنا فاختبأت، فقال: ياعنثر( ) - فجدع وسب، وقال: كلوا هنيئاً وقال: والله لاأطعم أبداً، وحلف الضيف أن لايطعمه حتى يطعم أبوبكر، فقال أبوبكر: هذه من الشيطان، قال فدعا بالطعام فأكل، فقال: وأيم الله ماكنا نأخذ لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فقال حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها فإذا هي كما هي وأكثر فقال لأمرأته: ياأخت بني فراس ماهذا؟ قالت: لا وقرة عيني هي الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل أبوبكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان -يعني يمينه- ثم أكل منها لقمة ثم حملها الى رسول الله ? فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين القوم عقد فمضى الأجل فتفرقنا اثنى عشر رجلاً مع كل واحد منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل منهم فأكلوا منها أجمعين( ).
وفي هذه القصة دروس وعبر منها:
أ- حرص الصديق على تطبيق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على إكرام الضيف مثل قوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} (سورة الذاريات، الآية 27).
وقوله ?: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيلكرم ضيفه)( ).
ب- وفي هذه القصة كرامة للصديق حيث جعل لايأكل لقمة إلا ربي من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبوبكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها الى رسول الله ?، وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا( ) وهذه الكرامة حصلت ببركة اتباع الصديق لرسول الله ? في كافة أحواله وهي تدل على مقام الولاية للصديق فأولياء الله هم المقتدون بمحمد ? فيفعلون ماأمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياؤه المتقين( ).
ج- تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن أبابكر لم يحنث في يمين قط حتى أنزل الله كفارة اليمين، فقال: لا أحلف على يمين فرأيت غيرها خير منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني( )، فكان إذا حلف على شيء ورأى غيره خيراً منه كفر وأتى الذي هو خير( )، وفي هذه القصة مايدل على ذلك حيث ترك يمينه الاولى أكراماً لضيوفه وأكل معهم( ).
9- ماهي بأول بركتكم ياآل أبي بكر:
قالت عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول الله ? في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي فأقام رسول الله ? على التماسه، وأقام الناس معه، وليس على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبابكر فقالوا: ألاترى ماصنعت عائشة؟ أقامت برسول الله ? وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبوبكر ورسول الله ? واضع رأسه على فَخِذِي قد نام فقال: حِبَستٍ رسول الله ? والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قلت: فعاتبين وقال ماشاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ? على فخذي فنام رسول الله ? حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم:{....فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (سورة النساء، الآية43). فقال أسيد بن حضير: ماهي بأول بركتكم ياآل أبي بكر فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته)( ).
وفي هذه القصة يظهر حرص الصديق على التأدب مع رسوله، وحساسيته الشديدة على أن يضايقه شيئاً ولا يقبل ذلك ولو كان من أقرب الناس وأحبهم الى رسول الله ?، كعائشة رضي الله عنهم، فقد كان ? قدوة للدعاة في الأدب الجم مع النبي ? ومع نفسه ومع المسلمين( ).
10- انتصار النبي للصديق رضي الله عنه:
لقد ثبت من الأحاديث الصحيحة مايدل على أن النبي ? كان ينتصر لأبي بكر وينهى الناس عن معارضته، فعن أبي الدرداء ? قال: كنت جالساً مع النبي ? إذ أقبل ابوبكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي ?: (أما صاحبكم فقد غامر)( )، فسلم، وقال: يارسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إلي ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبي علي، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك ياأبابكر ثلاثاً. ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل : أثم أبوبكر؟ قالوا: لا. فأتى النبي ? فسلم عليه، فجعل وجه رسول الله ? يتمعر( )، حتى أشفق أبوبكر( ) فجثى على ركبتيه فقال يارسول الله: والله أنا كنت أظلم مرتين( )، فقال النبي ?: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال ابوبكر: صدق، وواساني بنفسه وماله( )، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين. فما أوذي بعدها( ).
وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها؛ الطبيعة البشرية للصحابة ومايحدث بينهم من خلاف، وسرعة رجوع المخطئ وطلب المغفرة والصفح من أخيه، تواد الصحابة فيما بينهم، مكانة الصديق الرفيعة عند رسول الله ? ثم أصحابه.......الخ.
11- قل: غفر الله لك ياأبابكر:
قال ربيعة الأسلمي ?: كنت أخدم النبي ? ...وذكر حديثاً ثم قال: إن رسول الله ? أعطاني بعد ذلك ارضاً وأعطى أبوبكر أرضاً وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت أنا: هي في حدِّي، وقال أبوبكر، هي في حدي، فكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال ابوبكر كلمة كرهها وندم فقال لي: ياربيعة رد عليها مثلها حتى تكون قصاصاً، قال: قلت: لا أفعل، فقال أبوبكر: لتقولن أو لاستعدين عليك رسول الله ?، فقلت: ماأنا بفاعل، قال: ورفض الأرض( )، وأنطلق أبوبكر ? الى النبي ?، وانطلقت أتلوه، فجاء ناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبابكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله ? وهو قد قال لك ماقال، قلت: اتدرون من هذا؟ هذا أبوبكر الصديق، هذا ثاني أثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله ? فيغضب لغضبه فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة، قال: ماتأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: فانطلق أبوبكر ? الى رسول الله ? فتبعته وحدي حتى أتى النبي ? فحدثه الحديث كما كان، فرفع إليّ رأسه فقال: ياربيعة مالك وللصديق؟ قلت: يارسول الله كان كذا كان كذا، قال لي كلمة كرهها فقال: قل لي كما قلت حتى يكون قصاصاً فابيت، فقال رسول الله ?: أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك ياأبابكر، فقلت: غفر الله لك ياأبابكر. قال الحسن (البصري): فولىَّ ابوبكر ? وهو يبكي( ).
(لله أي وجدان هذا الوجدان، وأي نفس تلك النفس، بادرة بدرت منها لمسلم فلم ترض إلا قتصاصه منها، وصفحه عنها، تناهيا بالفضيلة، واستمسكا بالأدب وشعوراً تمكن من الجوانح، وأخذ بمجامع القلوب، فكانت عنده زلة اللسان ولو صغيرة ألما يتململ منه الضمير فلا يستريح إلا بالقصاص منه، ورضا ذلك المسلم عنه)( ).
كانت كلمة هينة، ولكنها أصابت من ربيعة مَوجعاً..فإذا أبوبكر يُزَلزلُ من أجلها، ويأبى إلا القصاص عليها، مع أنه يومئذ كان الرجل الثاني في الاسلام بعد رسول الله ?، وهي كلمة لايمكن أن تكون من فُحش القول أبداً: لأن أخلاقه لم تسمع بهذا، ولم يؤثر عنه حتى في الجاهلية شيء من هذا( ).
لقد خشي الصديق مغبة تلك الكلمة، ولهذا اشتكى لرسول الله ، وهذا أمر عجيب فإن أبابكر قد نسى أرضه ونسى قضية الخلاف، وشغل باله أمر تلك الكلمة لأن حقوق العباد لابد فيها من عفو صاحب الحق( )، وفي هذا درس للشيوخ والعلماء والحكام والدعاة في كيفية معالجة الأخطاء ومراعاة حقوق الناس وعدم الدوس عليها بالأرجل.
وقد استنكر قوم ربيعة أن يذهب أبوبكر يشتكي الى رسول الله ? وهو الذي قال ماقال، ولم يعلموا ماعلمه أبوبكر من لزوم إنهاء قضايا الخصومات، وإزالة ماقد يعلق في القلوب من الوجدة في الدنيا قبل أن يكتب ذلك في الصحف ويترتب عليه الحساب يوم القيامة.
وبالرغم مما ظهر من رضى ربيعة وتوجيه النبي ? الى عدم الرد على أبي بكر فإن أبابكر قد بكى من خشية الله تعالى، وهذا دليل على قوة إيمانه، ورسوخ يقينه.
وأخيراً موقف يذكر لربيعة بن كعب الأسلمي ?، حيث قام بإجلال أبي بكر ?، وأبى أن يرد عليه بالمثل، وهذا من تقدير أهل الفضل والتقدم والمعرفة بحقهم، وهو دليل على قوة الدين ورجاحة العقل( ).
12- مسابقته في الخيرات:
اتصف الصديق ? بالأخلاق الحميدة، والصفات الرفيعة ومسابقته في الخيرات حتى صار في الخير قدوة، وفي مكارم الأخلاق أسوة، وكان حريصاً أشد الحرص على الخيرات، فقد أيقن أن مايمكن أن يقوم به المرء اليوم، قد يكون غير ممكن في الغد، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل ولذلك كان من المسارعين في الخيرات، فعن أبي هريرة ? قال رسول الله ?: من أصبح منكم صائماً؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم مسكيناً؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبوبكر: أنا.
فقال رسول الله ?: مااجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة( ).
13- كظمه للغيظ:
قال ابوهريرة ?: إن رجلاً شتم أبابكر، ورسول الله ? جالس، فجعل النبي ? يعجب ويبتسم، فلما أكثر الرجل، رد عليه أبوبكر بعض قوله، فغضب النبي ?، وقام فلحقه أبوبكر، وقال: يارسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما أكثر رددت عليه بعض قوله، غضبت وقمت!! فقال عليه الصلاة والسلام: إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال: ياأبابكر ثلاث كلهنّ حق: مامن عبد ظلم بمظلمة، فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره، ومافتح رجل باب عطية، يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، ومافتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة( ).
إن الصديق ? اتصف بكظم الغيظ ولكنه رد ماظن أنه به يسكت هذا الرجل، فرغبه النبي ? في الحلم والإناة، وأرشده الى ضرورة تحليه بالصبر في مواطن الغيظ فإن الحلم وكظم الغيظ مما يزيد المرء ويحمله في أعين الناس، ويرفع قدره عند الله تعالى.
ويتبين لنا كذلك من هذا الموقف حرص الصديق ? على عدم إغضاب النبي ? والمسارعة الى إرضائه وفي الحديث ذم الغضب للنفس، والنهي عنه، والتحذير منه، واعتزال الانبياء للمجالس التي يحضرها الشيطان، وبيان الفضل للمظلوم، الصابر، المحتسب للأجر والثواب، وفيه حث على العطايا، وصلة الأرحام، وذم للمسألة وأهلها.
وظل الصديق متمسكاً بالحلم، وكظم الغيظ، حتى عُرف بالحلم والأناة، ولين الجانب، والرفق، وهذا لايعني أن أبابكر لم يكن يغضب، وإنما كان غضبه لله تعالى، فإذا رأى محارم الله قد انتهكت غضب لذلك غضباً شديداً( ).
لقد عاش رسول الله ? متأملاً ومتفكراً وعاملاً بقوله تعالى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ?الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ?} (سورة آل عمران، الآيتين 133،134).
14- بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي:
كان أبوبكر ? يَعُول مِسْطَحَ ابن أُثَاثَة، فلما قال في عائشة رضي الله عنها ماقال، في حديث الأفك المشهور - أقسم بالله أبوبكر ألا ينفعه أبداً، فلما أنزل الله عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة النور، الآية22). قال ابوبكر : والله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع الى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً( ). لقد فهم الصديق من الآية بأن على المؤمن التخلق بأخلاق الله، فيعفو عن الهفوات والزلات والمزالق، فإن فعل، فالله يعفو عنه ويستر ذنوبه، وكما تدين تدان، والله سبحانه قال:{ أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم( ) وكما أن في الآية من حلف على شيء ألا يفعله، فرأى أن فعله أولى من تركه، أتاه وكفّر عن يمينه، وقال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ( ).
لقد دلت هذه الآية على أن أبا بكر أفضل الناس بعد النبي ?، لأن الله وصفه بصفات عجيبة في هذه الآية، دالة على علو شأنه في الدين، أورد الرازي في تفسيره أربع عشرة صفة مستنبطة من هذه الآية: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} منها أنه وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه ?، كان فاضلاً على الإطلاق كان مفضلاً على الإطلاق.ومنها أنه لما وصفه تعالى بأنه أولوا الفضل والسعة بالجمع لا بالواحد وبالعموم لابالخصوص على سبيل المدح، وجب أن يقال: إنه كان خالياً عن المعصية لأن الممدوح إلى هذا الحد لايكون من أهل النار( ).
15-خروجه للتجارة من المدينة إلى الشام:
خرج أبو بكر الصديق ? للتجارة إلى بصرى ببلاد الشام في عهد النبي ? مامنعه حبه لملازمة النبي من الذهاب للتجارة، ولامنع النبي ? الصديق من ذلك مع شدة حبه له( ). وفي هذا أهمية أن يكون للمسلم مصدر رزق يستغني به عن سؤال الناس، بل ويساهم بهذا الرزق في إغاثة الملهوف، وفك العاني ويسارع في ابواب الانفاق التي يحبها الله.
16-غيرة الصديق ? وتزكية النبي ? لزوجه:
قال عبدالله بن عمرو بن العاص: أن نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ فرآهم، فكره ذلك، فذكر ذلك لرسول الله، فقال:إن الله تعالى قد برأها من ذلك ثم قام رسول الله ? على المنبر فقال: لايدخل رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان( ).
17-خوفه من الله تعالى:
إن الخوف من الله عزوجل فضيلة تدفع العبد إلى الحذر من المعاصي، ومراقبة الله في السر والعلن، فتزكو أفعاله، وتجمل أعماله وقد أمر المؤمنين بالخوف منه فقال: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}(سورة البقرة، آية:40). وقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سورة هود، آية:112). وجعل للعبد الخائف منه أجراً عظيماً فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (سورة الرحمن، آية:46).
وعن أنس ? قال: خطبنا رسول الله ? خطبة ماسمعت مثلها قط فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، فغطى أصحاب رسول الله ? وجوههم ولهم خنين( ).
وقد كان الصديق ? على جانب من الخوف والرجاء عظيم جعله قدوة عملية لكل مسلم سواء حاكماً أو محكوماً قائداً أو جندياً، يريد النجاح والفلاح في الآخرة( )، فعن محمد بن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما يعلم بعد النبي ? من أبي بكر. وعن قيس قال: رأيت أبا بكر آخذ بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد( )، وقد قال أبو بكر ?: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا( ) وعن ميمون بن مهران قال: أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين فقلبه ثم قال: ماصيد من صيد ولاعضدت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح( )، وعن الحسن قال: قال أبو بكر: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد( )، وقال أبو بكر: لوددت أني كنت شعرة في جنب عبد مؤمن( )، وكان رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت من الشعر:
لاتزال تنعي حبيباً حتى تكونه
وقد يرجوا الرجا يموت دونه( )
ثانياً: من أهم صفات الصديق وشيء من فضائله:
إن شخصية الصديق ? تعتبر شخصية قيادية وقد اتصف ? بصفات القائد الرباني، ونجملها في أمور ونركز على بعضها بالتفصيل، فمن أهم هذه الصفات: سلامة المعتقد، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، وحسن اختياره لمعاونيه والتواضع وقبول التضحية، والحلم، والصبر، وعلو الهمة والحزم والإرادة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصفات التي ظهرت للباحث في الفترة المكية في صحبته للنبي ? وفي العهد المدني في غزواته مع رسول الله وحياته في المجتمع وظهر البعض الآخر لما تسلم قيادة الدولة وأصبح خليفة رسول الله ?، فقد استطاع بتوفيق الله تعالى وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية أن يحافظ على الدولة ويقمع حركة الردة، وينتقل بفضل الله وتوفيقه بالأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، ومن أهم تلك الصفات التي نحاول تسليط الأضواء عليها في هذا المبحث، إيمانه بالله العظيم، وعلمه الراسخ، وكثرة دعاؤه وتضرعه لله تعالى.
1-عظمة إيمانه بالله تعالى:
كان إيمان الصديق بالله عظيماً، فقد فهم حقيقة الإيمان وتغلغلة كلمة التوحيد في نفسه وقلبه وانعكست آثارها على جوارحه وعاش بتلك الآثار في حياته، فتحلى بالأخلاق الرفيعة، وتطهر من الأخلاق الوضيعة وحرص على التمسك بشرع الله والاقتداء بهديه ? وكان إيمانه بالله تعالى باعثاً له على الحركة والهمة والنشاط والسعي، والجهد والمجاهدة، والجهاد والتربية، والاستعلاء والعزة، وكان في قلبه من اليقين والإيمان شيء عظيم لايساويه فيه أحد من الصحابة قال أبو بكر بن عياش: ماسبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولاصيام ولكن بشيء وقر في قلبه( )، ولهذا قيل: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح، كما في السنن عن أبي بكرة عن النبي ? قال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فقال رجل أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان -فاستاء لها رسول الله ? فقال: خلافة نبوة ثم يؤتى الله الملك من يشاء( ).
وعن أبي هريرة ? قال: صلى رسول الله صلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال: بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث. فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم؟ فقال: إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر. وماهما ثم. وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع، يو لاراعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم؟ قال: فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر. وماهما ثم( ). ومن شدة إيمانه والتزامه بشرع الله تعالى وصدقه وإخلاصه للإسلام أحبه النبي ?، وأصبحت تلك المحبة مقدمة عند النبي ? على غيره من الصحابة، فعن عمرو بن العاص ?: أن النبي ? بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقلت من الرجال؟ قال: أبوها. قلت ثم من؟ قال عمر بن الخطاب فعد رجالاً( ). وبسبب هذا الإيمان العظيم والتزامه بشرع الله القويم ولجهوده التي بذلها لنصرة دين رب العالمين استحق بشارة رسول الله بالجنة وأنه يدعى من جميع أبوابها، فعن أبي موسى الأشعري أنه توضأ في بيته ثم خرج فقلت: لألزمن رسول الله ولأكونن معه يومي هذا. قال فجاء المسجد فسأل عن النبي ? فقالوا: خرج ووجه هنا، فخرجت على أثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، فجلست عند الباب وباب من جريد حتى قضى رسول الله حاجته فتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس وتوسط قفها وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فسلمت عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بواب رسول الله اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت: من هذا فقال: أبو بكر. فقلت: على رسلك، ثم ذهبت فقلت: يارسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله يبشرك بالجنة. فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله ? معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي ? وكشف عن ساقيه...( ) وعن أبي هريرة ? أن رسول الله ? قال: من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: ياعبدالله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة. فقال أبو بكر ? ماعلى هذا يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر( ).
2-علمه ?:
كان الصديق من أعلم الناس بالله وأخوفهم له( )، وقد اتفق أهل السنة على أن أبا بكر أعلم الأمة، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد( )، وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم والفضل ملازمته للنبي ?، فقد كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً، وكان يسمر عند النبي ? بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين، دون غيره من أصحابه، وكان إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى، وربما تكلم غيره، وربما لم يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه( )، وقد استعمله النبي ? على أول حجة حجت من مدينة النبي ? وعلم المناسك أدق مافي العبادات، ولولا سعة علمه لم يستعمله، وكذلك الصلاة استخلفه عليها ولولا علمه لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة، وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ماروى فيها( ) وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم في كتابة ماهو متقدم منسوخ، فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة، ولم يحفظ له قول يخالف فيه نصاً، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم، وفي الجملة لايعرف لأبي بكر مسألة في الشريعة غلط فيها، وقد عرف لغيرة مسائل كثيرة( )، وكان ? يقضي ويفتي بحضرة النبي ? ويقره، ولم تكن هذه المرتبة لغيرة وقد بينت ذلك في سلب أبي قتادة بحنين( )، وقد ظهر فضل علمه وتقدمه على غيره بعد وفاة الرسول ?، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة، وذلك لكمال علم الصديق وعدله، ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع، وكان إذا أمرهم أطاعوه. كما بين لهم موت النبي ? وتثبيتهم على الإيمان ثم بين لهم موضع دفنه، وبين لهم ميراثه، وبين لهم قتال مانعي الزكاة لما استراب فيه عمر، وبين لهم أن الخلافة في قريش، وتجهيز جيش أسامة، وبين لهم أن عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة هو رسول الله ?( ) وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه بإذن الله تعالى.
ولقد رأى رسول الله ? له رؤيا تدل على علمه، فعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله ?: رأيت كأني أعطيت عُسّاً مملوءاً لبناً، فشربت منه حتى تملأت، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم، ففضلت منها فضلة، فأعطيتها أبا بكر. قالوا: يارسول الله، هذا علم أعطاكه الله حتى إذا تملأت منه، فضلت فضلة، فأعطيتها أبا بكر، فقال ?: قد أصبتم( ).
وكان الصديق ? يرى أن الرؤيا حق، وكان يجيد تأويلها وكان يقول إذا أصبح(من رأى رؤيا صالحة فليحدِّثنا بها وكان يقول لأن يرى رجل مسلم مسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إلى من كذا وكذا( )، ومما عبره ? من الرؤى مايلي: عن ابن عباس ? أن رجلاً أتى رسول الله فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلَّة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقِلُّ، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وُصِلَ، فقال أبو بكر: يارسول الله، بأبي أنت، والله لتدَعنِّي فأعبُرَها. فقال النبي ?: اعْبُرْ. قال: أما الظُّلَّة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن، حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن، والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيُعليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ رجل آخر فيعلو به، فأخبرني يارسول الله، بأبي أنت، أصبت أم أخطأت؟ قال النبي ?: أصبت بعضا وأخطأت بعضا قال: فوالله لتحَدَثَنِّي بالذي أخطأت. قال: لاتُقسم( ) وعن عائشة رضي الله عنها أنها رأت كأنه وقع في بيتها ثلاثة أقمار، فقصتها على أبي بكر- وكان من أعبر الناس فقال: إن صدقت رؤياك ليُدْفَنَنَّ في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة. فلما قبض النبي ? قال ياعائشة هذا خيرُ أقمارك( )، فقد كان الصديق ? أعبر هذه الأمة بعد نبيها( ).
ومع كونه ? من أعلم الصحابة إلا أنه من أبعد الناس عن التكلف، فعن ابراهيم النخعي قال: قرأ أبو بكر الصديق {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (سورة عبس: آية31) فقيل ماالأب: فقيل كذا وكذا فقال أبو بكر: إن هذا لهو التكلف، أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم( ).
3-دعاؤه وشدة تضرعه ? :
إن الدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات وانهالت عليه البركات، ولذلك حرص الصديق على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء، كما أن الدعاء من أعظم وأقوى عوامل النصر على الأعداء قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (سورة غافر، آية:60) . وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (سورة البقرة، آية:186).
ولقد لازم الصديق رسول الله ? ورأى كيف كان رسول الله يستغيث بالله ويستنصره ويطلب المدد منه وقد حرص الصديق على أن يتعلم هذه العبادة من رسول الله، وأن يكون دعاؤه وتسبيحه على الصيغة التي يأمر بها رسول الله ? ويرتضيها، إذ ليس للمسلم أن يفضل على الصيغة المأثورة في الدعاء والتسبيح والصلاة على النبي صيغاً أخرى، مهما كانت في ظاهرها حسنة اللفظ، جيدة المعنى، لأن رسول الله ? هو معلم الخير، والهادي إلى الصراط المستقيم، وهو أعرف بالأفضل والأكمل( )، وقد جاء في الصحيحين: أن أبا بكر الصديق ? قال: يارسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولايغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم( ).
ففي هذا الدعاء وصف العبد لنفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب، أنه لايقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضى للإجابة، وهو وصف الرب بالمغفرة، والرحمة، فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب( ) وجاء في السنن عن أبي بكر ? قال: يارسول الله، علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن اقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم. قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك( ).
فقد تعلم الصديق من رسول الله ? أنه ليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والإستغفار من الذنوب، بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائماً قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا?لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?} (سورة الأحزاب، آية:72-73) فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم. وثبت في الصحيحين عن النبي ? أنه قالSadلن يدخل الجنة أحد بعلمه) قالوا: ولا أنت يارسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)( ) وهذا لاينافي قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (سورة الحاقة، آية:24) فإن الرسول نفيى باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب، وقول من قال: إذا أحب الله عبداً لم تضره الذنوب، معناه: أنه إذا أحب عبداً ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لاتضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره( ).
كان أبو بكر دائم الذكر لله تعالى شديد التضرع كثير التوجه لله، لاينفك عن الدعاء في كل أحيانه وقد نقل إلينا بعض أدعيته وتضرعاته ومنها:
أ-أسألك تمام النعمة في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى، وبعد الرضى، والخيرة في جميع ماتكون إليه الخَيَرةُ، بجميع ميسور الأمور كلها، لابمعسورها ياكريم( ).
ب- وكان يقول في دعائه: اللهم إني أسألك الذي هو خير لي في عاقبة الخير،اللهم اجعل آخر ماتعطيني من الخير رضوانك والدرجات العلا من جنات النعيم( ) .
جـ-وكان يقول في دعائه: اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك( ).
د-وكان إذا سمع أحداً يمدحه من الناس يقولSadاللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم أجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي مالايعلمون، ولاتؤاخذني بما يقولون)( ).
هذه بعض أهم صفاته وشيء من فضائله مررنا عليها بالإيجاز وسوف نرى أثر التربية النبوية على الصديق بعد وفاته، وكيف قام مقاماً لم يقمه غيره بفضل الله وتوفيقه ثم تربيته العميقة وإيمانه العظيم وعلمه الراسخ وتتلمذه على يدي رسول الله ? فقد أحسن الجندية وقطع مراحلها وأشواطها برفقة قائده العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام، فلما أصبح خليفة للأمة استطاع أن يقود سفينة الإسلام إلى شاطئ الأمان، رغم العواصف الشديدة، والأمواج المتلاطمة، والفتن المظلمة.








الفصل الثاني
وفاة الرسول، وسقيفة بني ساعدة، وجيش أسامة


المبحث الأول
وفاة الرسول وسقيفة بني ساعدة


أولاً: وفاة الرسول:
إن الأرواح الشفافة الصافية لتدرك بعض مايكون مخبوءاً وراء حجب الغيب بقدرة الله تعالى، والقلوب الطاهرة المطمئنة لتحدِّث صاحبها بما عسى أن يحدث له فيما يستقبل من الزمان، والعقول الذكية المستنيرة بنور الإيمان لتدرك ماوراء الألفاظ والأحداث من إشارات وتلميحات ولنبينا محمد ? من هذه الصفات الحظ ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 7:09 am

5-حديث الأئمة من قريش وموقف الأنصار منه:
ورد حديث الأئمة من قريش في الصحيحين، وكتب الحديث الأخرى، بألفاظ متعددة، ففي صحيح البخاري عن معاوية قال: قال رسول الله ?: إن هذا الأمر في قريش لايعاديهم أحد إلا أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين( ) وفي صحيح مسلم لايزال الإسلام عزيزاً بخلفاء كلهم من قريش( ) وعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله ?: لايزال هذا الأمر في قريش مابقي منهم اثنان( )، وقال رسول الله ?: الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم( ) وعن بكير بن وهب الجزري قال: قال لي أنس بن مالك الأنصاري: أحدثك حديثاً ما أحدثه كل أحد، كنا في بيت من الأنصار فجاء النبي ? حتى وقف فأخذ بعضادتي الباب( )، فقال: الأئمة من قريش إن لهم عليكم حقاً، ولكم عليهم حقا مثل ذلك، ما إن استرحموا فرحموا وإن عاهدوا أوفوا وإن حكموا عدلوا( ) وفي فتح الباري أورد ابن حجر أحاديث كثيرة تحت باب الأمراء من قريش أسندها إلى كتب السنن والمسانيد والمصنفات( )، فالأحاديث في هذا الباب كثيرة لايكاد يخلوا منها كتاب من كتب الحديث، وقد رويت بألفاظ متعددة، إلا أنها متقاربة تؤكد جميعها أن الإمرة المشروعة في قريش، ويقصد بالإمرة الخلافة فقط أما ماسوى ذلك فتساوى فيه جميع المسلمين( )، وبمثل ما أوضحت الأحاديث النبوية الشريفة أن أمر الخلافة في قريش فإنها حذرت من الإنقياد الأعمى لهم، وأن هذا الأمر فيهم ما أقاموا الدين كما سلف في حديث معاوية وكما جاء في حديث أنس: إن استرحموا فرحموا، وإن عاهدوا أوفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين( )، وبهذا حذرت الأحاديث من اتباع قريش إن زاغوا عن الحكم بما أنزل الله فإن لم يمتثلوا ويطبقوا مثل هذه الشروط، فإنهم سيصبحون خطراً على الأمة وحذرت الأحاديث الشريفة من اتباعهم على غير ما أنزل الله ودعت إلى اجتنابهم والبعد عنهم واعتزالهم، لما سيترتب على مؤازرتهم آنذاك من مخاطر على مصير الأمة قال ?: إن هلاك أمتي أو فساد أمتي رؤوس أغيلمة سفهاء من قريش( )، وعندما سئل ?: فما تأمرنا قال ?: لو أن الناس اعتزلوهم( ).
ومن هذه النصوص تتضح الصورة لمسألة الأئمة من قريش، وأن الأنصار انقادوا لقريش ضمن هذه الضوابط وعلى هذه الأسس، وهذا ما أكدوه في بيعاتهم لرسول الله على السمع والطاعة، والصبر على الأثرة، وأن لاينازعوا الأمر أهله، إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان( )، فقد كان للأنصار تصور تام عن مسألة الخلافة، وأنها لم تكن مجهولة عندهم، وأن حديث الأئمة من قريش كان يرويه كثير منهم، وأن الذين لايعلمونه سكتوا عندما رواه لهم أبو بكر الصديق ولهذا لم يراجعه أحد من الأنصار عندما استشهد به، فأمر الخلافة تم بالتشاور والاحتكام إلى النصوص الشرعية والعقلية التي أثبتت أحقية قريش بها، ولم يسمع عن أحد من الأنصار بعد بيعة السقيفة أنه دعا نفسه بالخلافة، مما يؤكد اقتناع الأنصار وتصديقهم لما تمّ التوصل إليه من نتائج( )، وبهذا يتهافت ويسقط قول من قال أن حديث الأئمة من قريش شعار رفعته قريش لاستلاب الخلافة من الأنصار أو أنه: رأي لأبي بكر وليس حديثاً رواه عن الرسول، وإنما كان فكراً سياسياً قرشياً، كان شائعاً في ذلك العصر يعكس ثقل قريش في المجتمع العربي في ذلك الحين، وعلى هذا فإن نسبة هذه الأحاديث إلى أبي بكر وأنها شعار لقريش، ماهي إلا صورة من صورة التشويه التي يتعرض لها تاريخ العصر الراشدي وصدر الإسلام الذي قام أساساً على جهود المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، وعلى روابط الأخوة المتينة بين المهاجرين والأنصار حتى قال فيهم أبو بكر نحن والأنصار كما قال القائل:
أبو أن يملونا ولو أن أمنا
تلاقي الذين يلقون منا لملت( )
6-الآيات القرآنية التي فيها إشارة إلى خلافة الصديق:
وردت آيات في كتاب الله عزوجل فيها الإشارة إلى أن أبا بكر الصديق ? أحق الناس في هذه الأمة بخلافة سيد الأولين والآخرين وتلك الآيات هي:
أ-قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ?صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ?} (سورة الفاتحة، آية:6-7). ووجه الدلالة أن أبا بكر ? فيمن أمر الله -جلاوعلا- عباده أن يسألوه أن يهديهم طريقهم وأن يسلك بهم سبيلهم وهم الذين أنعم الله عليهم وذكر منهم الصديقين في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (سورة النساء، آية:69). وقد أخبر المصطفى ? أن أبا بكر ? من الصديقين، فدل ذلك على أنه واحد منهم بل هو المقدم فيهم ولما كان أبو بكر ? ممن طريقهم هو الصراط المستقيم فلا يبقى أي شك لدى العاقل في أنه أحق خلق الله في هذه الأمة بخلافة المصطفى ?( ). قال محمد بن عمر الرازي: قوله:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ?صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ?} يدل على إمامة أبي بكر ? لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم؟ فقال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} الآية ولاشك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق ? فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالاً لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر ?( ).
وقال محمد الأمين الشنقيطي: يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق ? لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم
-أعني الفاتحة- بأن نسأله أن يهدينا صراطهم فدل على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله تعالى{اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين وقد بين ? أن أبا بكر ? من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق ? على الصراط المستقيم وإن إمامته حق( ).
ب-قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة، آية:54).
هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق ? وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات ووجه دلالة الآية على خلافة الصديق أنه (كان في علم الله سبحانه وتعالى مايكون بعد وفاة رسول الله ? من ارتداد قوم فوعد سبحانه -ووعده صدق- أنه يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم، فلما وجد ماكان في علمه من ارتداد من ارتد بعد وفاة رسول الله وجد تصديق وعده بقيام أبي بكر الصديق ? بقتالهم فجاهد بمن أطاعه من الصحابة من عصاه من الأعراب، ولم يخف في الله لومة لائم حتى ظهر الحق وزهق الباطل وصار تصديق وعده بعد وفاة رسوله ? آية للعالمين ودلالة على صحة خلافة الصديق ?( ).
جـ-قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، آية:40).
قال أبو عبدالله القرطبي: قال بعض العلماء في قوله تعالى:{ثاني اثنين إذ هما في الغار} مايدل على أن الخليفة بعد النبي ? أبو بكر الصديق ? لأن الخليفة لايكون أبداً إلا ثانياً وسمعت شيخنا أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق أن يقال ثاني اثنين لقيامه بعد النبي ? بالأمر كقيام النبي ? به أولاً، وذلك أن النبي ? لما مات ارتدت العرب كلها ولم يبقى الإسلام إلا بالمدينة وجواثا( )، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي ? فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين( ).
ح- قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة التوبة، آية:100) الآية ووجه دلالة الآية على أحقية الصديق بالإمامة بعد النبي ? أن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلاشك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم وإذا ثبت هذا فإن أسبق الناس إلى الهجرة أبو بكر الصديق فإنه كان في خدمة المصطفى عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وإذا ثبت هذا صار محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله ? فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما( ).
خ- قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة النور، آية:55).
هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق ? وعلى خلافة الثلاثة بعده فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف والتمكين في أمر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي دل ذلك على أن خلافتهم حق( )، وقال الحافظ بن كثير: وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية( ).
د-قال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (سورة الفتح، آية:16) قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالىSadوقد دل على إمامة أبي بكر في سورة براءة فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه : {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} (سورة التوبة، آية:83). وقال في سورة أخرى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يعني الى قوله: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} ثم قال الله تعالى {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا} وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} -يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم الى قتالكم- كما {تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (سورة الفتح، آيتان:
15-16). والداعي لهم إلى ذلك غير النبي ? قال الله -عزوجل- له {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} وقال في سورة الفتح: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلاً لكلامه فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه ?( )، وقد قال مجاهد في قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيد}. هم فارس والروم وبه قال الحسن البصري. قال عطاء: هم فارس وهو أحد قولي ابن عباس ?، وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو حنيفة يوم اليمامة فإن كانوا أهل اليمامة فقد قوتلوا في أيام أبي بكر: وهو الداعي إلى قتال مسيلمة وبني حنيفة من أهل اليمامة، وإن كانوا أهل فارس والروم( )، فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العاقد له الإمامة فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله ? وجب أنه أفضل المسلمين ?( ).
هـ- قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، الآية: Cool.
وجه دلالة هذه الآية على خلافته ? أن الله عز وجل سماهم (صادقين) ومن شهد له الرب - جل وعلا- بالصدق فإنه لايقع في الكذب ولا يتخذه خلقاً بحال وقد أطبق هؤلاء الموصوفون بالصدق على تسمية الصديق ? (خليفة رسول الله)( ) ? ومن هنا كانت الآية دالة على ثبوت خلافته ?( ).
7- الأحاديث التي أشارت الى خلافة أبي بكر ?:
وأما الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر ? فكثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة إما على وجه التصريح أو الإشارة ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لايسع أهل البدعة إنكارها( ) ومن تلك الأحاديث.
أ- عن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبي ? فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت- قال ? إن لم تجديني فأتي أبابكر( ).
قال ابن حجر: وفي الحديث أن مواعيد النبي ? كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس( ).
ب- عن حذيفة قال: كنا عند النبي ? جلوساً فقال: إني لا أدري ماقدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار الى أبي بكر وعمر (وتمسكوا بعهد عمار وماحدثكم ابن مسعود فصدقوه)( ).
فقوله ?: (اقتدوا باللذين من بعدي) أي: بالخيلفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبوبكر وعمر وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة( ).
ت- عن أبي هريرة ? عن رسول الله قال: بينما أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس فجاءني أبوبكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني فنزع الدلوين وفي نزعه ضعف والله يغفر له فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر( ).
قال الشافعي رحمه الله: رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشعله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته( ).
ث- قالت عائشة: قال لي رسول الله ? في مرضه: (ادعي لي أبابكر، وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر)( ).
دل هذا الحديث دلالة واضحة على فضل الصديق ? حيث أخبر النبي ? بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره ? وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع ووقع كل ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ثم اجتمعوا على أبي بكر ?( ).
ج- عن عبيد الله بن عبدالله قال: دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحديثيني عن مرض رسول الله ? قالت: بلى ثقل النبي ? فقال: أصلى بالناس. قلنا: لا وهم ينتظرونك يارسول الله. قال: ضعوا لي ماء في المخضب( ). ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء( )، فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس. قلنا: لا وهم ينتظرونك يارسول الله فقال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس. قلنا: لا وهم ينتظرونك يارسول الله؟ قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله ? لصلاة العشاء الآخرة قالت: فأرسل رسول الله ? الى أبي بكر أن يصلي بالناس فأتان الرسول فقال: إن رسول الله ? يأمرك أن تصلي بالناس فقال: أبوبكر، وكان رجلاً رقيقاً: ياعمر صلِ بالناس قال: فقال: عمر أنت أحق بذلك قالت: فصلى بهم أبوبكر تلك الأيام ثم إن رسول الله ? وجد في نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبوبكر يصلي بالناس فلما رآه أبوبكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي ? أن لا يتأخر وقال لهما: أجلساني الى جنبه. فأجلساه الى جنب أبي بكر وكان أبوبكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي ? والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي ? قاعد. قال عبيدالله: فدخلت على عبدالله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ماحدثتني عائشة عن مرض رسول الله ? قال: هات فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئاً غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت: لا قال: هو علي( ).
هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة منها: فضيلة أبي بكر الصديق ? وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله ? من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم، ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر ? لأن أبابكر ? لم يعدل الى غيره( ).
د- قال عبدالله بن مسعود ?: لما قبض رسول الله ? قالت الأنصار:منا أمير ومنكم أمير قال: فأتاهم عمر ? فقال: يامعشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله ? قد أمر أبابكر يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبابكر ? فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبابكر( ).
هـ- روى ابن سعد بإسناده الى الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي ? نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي ? قد قدم أبابكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله ? لديننا فقدمنا أبابكر( ).
وقد علق أبو الحسن الأشعري على تقديم رسول الله ? لأبي بكر في الصلاة فقال: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الاسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء: أن رسول الله ? قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاماً) - قال ابن كثير- وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق ? وأرضاه( ).
هذا ولأهل السنّة قولان في إمامة أبي بكر ? من حيث الإشارة إليها بالنص الخفي أو الجلي، فمنهم من قال: إن إمامة أبي بكر ? ثابتة بالنص الخفي والإشارة وهذا القول ينسب الى الحسن البصري رحمه الله تعالى وجماعة من أهل الحديث( )، وهو رواية عن الامام أحمد بن حنبل( )، رحمة الله عليه واستدل أصحاب هذا القول بتقديم النبي ? له في الصلاة وبأمره ? بسد الأبواب إلا باب أبي بكر، ومنهم من قال: إن خلافة أبي بكر ? ثابتة بالنص الجلي وهذا قول طائفة من أهل الحديث( )، وبه قال أبومحمد بن حزم الظاهري( )، واستدل هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: إن لم تجديني فأتي أبابكر( )، وبقوله لعائشة رضي الله عنها: ادعي لي أبابكر وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر( )، وحديث رؤياه ?: أنه على حوض يسقى الناس فجاء أبوبكر فنزع الدلو من يده ليروحه)( ).
والذي أميل إليه ويظهر لي من خلال البحث: أن المصطفى ? يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبابكر ? وإنما دلهم عليها لإعلام الله سبحانه وتعالى له بان المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية التي ورد بها القرآن والسنّة وفاق بها غيره من جميع الأمة المحمدية ? وأرضاه( ).
قال ابن تيمية رحمه الله: والتحقيق أن النبي ? دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقوله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار رضي بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك... فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله ? بياناً قاطعاً للعذر ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبابكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصورد ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر...) الى أن قال: (فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله ? له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه الى ماعملوه من تفضيل الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ماعلم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لايحتاج فيه الى عهد خاص( ).
8- انعقاد الإجماع على خلافة الصديق ?:
أجمع أهل السنّة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي ? أبوبكر الصديق ? لفضله وسابقته ولتقديم النبي ? إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي ? مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد ولم يكن الرب جل وعلا ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكان لأوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه( )، فعندما سئل سعيد بن زيد متى بويع أبوبكر؟ قال: يوم مات رسول الله ?: كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة( )، وقد نقل جماعة من أهل العلم المعتبرين إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنّة والجماعة على أن أبابكر ? أولى بالخلافة من كل أحد( ) وهذه بعض أقوال أهل العلم:
أ- قال الخطيب البغدادي -رحمه الله- أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر قالوا له: ياخليفة رسول الله ولم يسم أحد بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي ? عن ثلاثين ألف مسلم كل قال لأبي بكر: ياخليفة رسول الله ورضوا به من بعده رضي الله عنهم( ).
ب- وقال ابو الحسن الأشعري: أثنى الله -عز وجل- على المهاجرين والأنصار والسابقين الى الاسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (سورة الفتح، الآية 18). قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق ? وسموه خليفة رسول الله وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك( ).
جـ-وقال عبدالملك الجويني: أما إمامة أبي بكر ? فقد ثبتت بإجماع الصحابة فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والإنقياد لحكمه ... وماتخرص به الروافض من إبداء علي شراساً( )، وشماساً( ) في عقد البيعة له كذب صريح، نعم لم يكن ? في السقيفة وكان مستخلياً بنفسه قد استفزه الحزن على رسول الله ? ثم دخل فيما دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد( ).
د-وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق ?: وكان ? مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام مجيبا لقوله ? لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لانقيلك ولانستلقيلك قدمك رسول الله ? لديننا ألا نرضاك لدنيانا يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره وإستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا وكان ? أفضل الأمة وأرجحهم إيماناً وأكملهم فهماً وأوفرهم علماً( ).
9-منصب الخلافة والخليفة:
الخلافة الإسلامية هي المنهج الذي اختارته الأمة الإسلامية وأجمعت عليه طريقةً وأسلوباً للحكم تنظم من خلاله أمورها وترعى مصالحها، وقد ارتبطت نشأة الخلافة بحاجة الأمة لها واقتناعها بها، ومن ثم كان إسراع المسلمين في اختيار خليفة لرسول الله ?، يقول الإمام أبو الحسن الماوردي: إن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيماً خلف به النبوة وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلاً عليه استقرت قواعد الملة وانتظمت به مصالح العامة حتى استثبتت به الأمور العامة، وصدرت عنه الولايات الخاصة( ).
لقد كان على الأمة الإسلامية أن تواجه الموقف الصعب الذي نشأ عن انتقال الرسول ? إلى الرفيق الأعلى، وأن تحسم أمورها بسرعة وحكمة وألا تدع مجالاً لانقسام قد يتسرب منه الشك إلى نفوس أفرادها أو للضعف أن يتسلل إلى أركان البناء الذي شيده رسول الله ?( ).
ولما كانت الخلافة هي نظام حكم المسلمين فقد استمدت أصولها من دستور المسلمين، من القرآن الكريم ومن سنّة النبي ?( )، وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلافة الاسلامية فقالوا بالشورى والبيعة وهما أصلاً قد أشير إليهما في القرآن الكريم( )، ومنصب الخلافة أحياناً يطلق عليه لفظ الامامة أو الإمارة وقد أجمع المسلمون على وجوب الخلافة، وأن تعيين الخليفة فرض على المسلمين يرعى شؤون الأمة ويقيم الحدود ويعمل على نشر الدعوة الاسلامية وعلى حماية الدين والأمة بالجهاد وعلى تطبيق الشريعة وحماية حقوق الناس ورفع المظالم وتوفير الحاجات الضرورية لكل فرد. وهذا ثابت بالقرآن والسنّة والإجماع( ).
وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (سورة النساء، الآية: 59).
وقال تعالى: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (سورة ص، الآية: 26).
وقال ?: من خلع يداً من طاعة لقى الله يوم القيامة لاحجة له( ) ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية( ).
وأما الاجماع فالصحابة رضوان الله عليهم لم ينتظروا حتى يتم دفن الرسول ? وتوافدوا للاتفاق على إمام أو خليفة وعلل أبوبكر قبول هذه الأمانة وهو خوفه أن تكون فتنة أي من عدم تعيين خليفة للمسلمين( ) قال الشهرستاني في ذلك: (مادار في قلبه ولا في قلب أحد أنه يجوز خلو الأرض من إمام) فدل ذلك كله على أن الصحابة وهم الصدر الأول كانوا على بكرة أبيهم متفقين على أنه لابد من إمام، فذلك الإجماع على هذا الوجه دليل قاطع على وجوب الامام( ).
هذا وليس صحيحاً مايروجه الحاقدون أن الطمع في الرئاسة سبب الانشغال بالخلافة عن دفن النبي ?( ).
هذا وقد عرّف ابن خلدون الخلافة: (هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع الى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة هذا الدين وسياسة الدنيا به)( ).
وقد تحدث العلامة ابوالحسن الندوي عن شروط خلافة النبي ومتطلباتها، وقد أثبت بالأدلة والحجج من خلال سيرة الصديق بأن أبابكر كانت شروط خلافة النبي متحققة فيه ونذكر هذه الشروط بإيجاز وبدون ذكر الشواهد التي ذكرها الندوي وقد بينتها في هذا الكتاب متناثرة، فأهم هذه الشروط:
أ- يمتاز بأنه ظل طول حياته بعد الاسلام متمتعاً بثقة رسول الله ? به وشهادته له، واستخلافه إياه في القيام ببعض أركان الدين الأساسية، وفي مهمات الأمور، والصحبة في مناسبات خطرة دقيقة لايستصحب فيها الإنسان إلا من يثق به كل الثقة، ويعتمد عليه كل الاعتماد.
ب- يمتاز هذا الفرد بالتماسك والصمود في وجه الاعاصير والعواصف التي تكاد تعصف بجوهر الدين ولبه، وتحبط مساعي صاحب رسالته، وتنخلع لها قلوب كثير ممن قوى إيمانهم وطالت صحبتهم، ولكن يثبت هذا لفرد في وجهها ثبوت الجبال الراسيات، ويمثل دور خلفاء الأنبياء الصادقين الراسخين، ويكشف الغطاء عن العيون، وينفض الغبار عن جوهرة الدين وعقيدته الصحيحة.
ج- يمتاز هذا الفرد في فهمه الدقيق الاسلام، ومعايشته له في حياة النبي ? على اختلاف أطواره وألوانه من سلم وحرب، وخوف وأمن، ووحدة وإجتماع، وشدة ورخاء.
د- يمتاز بشدة غيرته على أصالة هذا الدين وبقائه على ماكان عليه في عهد نبيِّه، غيرة أشد من غيرة الرجال على الأعراض والكرامات، والأزواج والأمهات، والبنين والبنات، لايحوله عن ذلك خوف أو طمع أو تأويل أو عدم موافقة من أقرب الناس وأحبهم إليه.
س- يكون دقيقاً كل الدقة وحريصاً أشد الحرص في تنفيذ رغبات الرسول الذي يخلفه في أمته بعد وفاته، لايحيد عن ذلك قيد شعرة، ولا يساوم فيه أحداً، ولايخاف لومة لائم.
و- يمتاز بالزهد في متاع الدنيا والتمتُّع به، زهداً لا يُتصُّور فوقه إلا عند إمامه وهاديه سيد الانبياء عليه الصلاة والسلام، وأن لايخطر بباله تأسيس الملك والدولة وتوسيعهما لصالح عشيرته وورَثَته، كما اعتادت ذلك الأسر الملوكية الحاكمة في أقرب الدول والحكومات من جزيرة العرب، كالروم والفرس( ).
وقد اجتمعت هذه الصفات والشروط كلها في سيدنا أبي بكر ?، كما تمثلت في حياته وسيرته في حياة الرسول ? قبل الخلافة وبعد الخلافة الى أن توفاه الله تعالى، بحيث لايسع منكراً أن ينكره أو مشكِّكا يشكك في صحته، فقد تحقق بطريق البداهة والتواتر( ).
هذا وقد قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة ببيعة الصديق بيعة، خاصة ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة( ).
وقد افرز مادار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها: أن قيادة الأمة لاتقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، وأن الخلافة لاتدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبية أو القبلية، وإن إثارة (قريش) في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقع يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيء مشابه مالم يكن متعارضاً مع أصول الاسلام، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لاهرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار الى النصوص الشرعية( ).
وقد استدل الدكتور توفيق الشاوي على بعض الأمثلة التي صدرت بالشورى الجماعية في عهد الراشدين من حادثة السقيفة حيث قال:
• أول ماقرره اجتماع يوم السقيفة هو أن (نظام الحكم ودستور الدولة) يقرر بالشورى الحرة، تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن، ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وسند هذا الإجماع النصوص القرآنية التي فرضت الشورى، أي أن هذا الاجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في الاسلام وهو الشورى الملزمة، وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالإجماع بعد وفاة رسولنا ? ، ثم إن هذا الاجماع لم يكن إلا تأييداً وتطبيقاً لنصوص الكتاب والسنّة التي أوجبت الشورى .
• تقرر يوم السقيفة أيضاً أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة الاسلامية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى، أي البيعة الحرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة - الدستور في النظم المعاصرة-، وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق.
• تطبيقاً للمبدأين السابقين، قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الاسلامية( ).
ثم إن هذا الترشيح لم يصح نهائياً إلا بعد أن تمت له البيعة العامة، أي موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول ?، ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه الذي ألقاه( )، وسنأتي على ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى.











المبحث الثاني
البيعة العامة، وإدارة الشؤون الداخلية



أولاً: البيعة العامة:
بعد أن تمت بيعة أبي بكر ? البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر ? في اليوم التالي موقف في تأييد أبي بكر وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة( ) العامة قال أنس بن مالك: لما بويع أبي بكر في السقيفة وكان الغد جلس ابوبكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمدالله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ماكانت مما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده الى رسول الله ? ولكني قد كنت أرى أن رسول الله ? سيدبر أمرنا -يقول يكون آخرنا- وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله ورسوله ?، فإن عصيتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله ? ثاني أثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه فبايع الناس أبابكر بعد بيعة السقيفة فتكلم أبوبكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لايدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ماأطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا الى صلاتكم يرحمكم الله( ).
وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة( ).
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الاسلامية على إيجازها وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد( )، من خلال الخطبة والأحداث التي تمت بعد وفاة الرسول يمكن للباحث أن يستنبط بعض ملامح نظام الحكم في بداية عهد الخلافة الراشدة والتي من أهمها:
1- مفهوم البيعة:
عرّف العلماء البيعة بتعاريف عدة منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي الأمر( )، وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الاسلام( )، وعرفت كذلك بأنها أخذ العهد والميثاق والمعاقدة على إحياء ماأحياه الكتاب والسنّة، وإقامة ماأقامه( )، وكان المسلمون إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده، تأكيداً للعهد والولاء، فاشبه ذلك الفعل البائع والمشتري، فسمى هذا الفعل بيعة( ).
ونتعلم من مبايعة الأمة للصديق بأن الحاكم في الدولة الاسلامية إذا وصل الى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد وبايعته الأمة بعد أن توفرت فيه الشروط المعتبرة، فيجب على المسلمين جميعاً مبايعته والاجتماع عليه، ونصرته على من يخرج عليه، حفظاً على وحدة الأمة وتماسك بنيانها أمام الأعداء في داخل الدولة الاسلامية وخارجها( ).
قال ?: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)( )، فهذا الحديث فيه حث على وجوب إعطاء البيعة والتوعد على تركها، فمن مات ولم يبايع عاش على الضلال ومات على الضلال( ).
وقال رسول الله ?: (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فيطعه مااستطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)( ).
فالشارع الحكيم قد رتب القتل وأمر به، نتيجة الخروج على الامام مما يدل على حرمة هذا الفعل، لأنه بطلب بيعة أخرى بالبيعة الاولى التي هي فرض على المسلمين( ).
والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدولة هو الخليفة. وأما في الأقاليم فقد يأخذها الإمام، وقد يأخذها نواب الإمام، كما حدث في بيعة الصديق ?، فأهل مكة والطائف أخذها نواب الخليفة.
والذي تجب بيعتهم للإمام هم أهل الحل والعقد، وأهل الاختيار من علماء الأمة وقادتها، وأهل الشورى وأمراء الأمصار وأما سائر الناس وعامتهم فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلاء، ولا يمنع العامة من البيعة بعد بيعة أهل الحل والعقد( )، وهناك من العلماء من قال لابد من البيعة العامة لأن الصديق لم يباشر مهامه كخليفة للمسلمين إلا بعد البيعة العامة له من المسلمين( ).
والبيعة بهذا المعنى الخاص الذي تمّ للصديق لا تعطي إلا للإمام الأعظم في الدولة الاسلامية ولاتعطى لغيره من الأشخاص سوءا في ظل الدولة الإسلامية أو عند فقدها، لما يترتب على هذه البيعة من أحكام( )، وخلاصة القول أن البيعة بمعناها الخاص هي إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين طرفين؛ الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يبايع على الحكم بالكتاب والسنّة والخضوع التام للشريعة الاسلامية عقيدة وشريعة ونظام حياة، والأمة تبايع على الخضوع والسمع والطاعة للإمام في حدود الشريعة.
فالبيعة خصصية من خصائص نظام الحكم في الاسلام تفرد به عن غيره من النظم الاخرى في القديم والحديث. ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الاسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد، الخروج على أحكام الشريعة أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنّة، أو القواعد العامة في الشريعة ويعد فعل مثل ذلك خروجاً على الاسلام، بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الاسلامية بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة الايمان( )، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (سورة النساء، الآية:65).
فهذا مفهوم البيعة من خلال عصر أبي بكر الصديق ?.
2- مصدر التشريع في دولة الصديق:
قال أبوبكر ?: أطيعوني ماأطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم( )، فمصدر التشريع عند الصديق :
أ- القرآن الكريم:
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (سورة النساء، الآية:105).
فهو المصدر الاول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشؤون الحياة، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاماً قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل مايحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
ب- السنّة المطهرة:
هي المصدر الثاني الذي يستمد منه الدستور الاسلامي أصوله ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن( ).
إن دولة الصديق خضعت للشريعة وأصبحت سيادة الشريعة الاسلامية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون وأعطت لنا صورة مضيئة مشرقة على أن الدولة الاسلامية دولة شريعة، خاضعة بكل أجهزتها لأحكام هذه الشريعة، والحاكم فيها مقيد بأحكامها لايتقدم ولايتأخر عنها( ).
ففي دولة الصديق وفي مجتمع الصحابة، الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم ولهذا قيد الصديق طاعته التي طلبها من الأمة بطاعة الله ورسوله، لئن رسول الله ? قال: (لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف)( ).
3- حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته:
قال ابوبكر ?: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني( ).
فهذا الصديق يقرّ بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه وإلزامه بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي( )، وقد أقرّ الصديق في بداية خطابه للأمة أن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة، وأنه لايستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره؛ لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وان آخر رسول كان يتلقى الوحى انتقل الى جوار ربه، وقد كانت له سلطة دينية مستمدة من عصمته كنبي ومن صفته كرسول يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته ? وبعد وفاته ? أصبح الحكم والسلطة مستمدة من عقد البيعة وتفويض الأمة له( ).
إن الأمة في فقه أبي بكر لها إدارة حية واعية لها القدرة على المناصرة والمناصحة والمتابعة والتقويم، فالواجب على الرعية نُصرة الإمام الحاكم بما أنزل الله ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين والجهاد، ومن نصرة الامام ألا يهان، ومن معاضدته أن يحترم، وأن يكرّم فقوامته على الأمة وقيادته لها لإعلاء كلمة الله، تستوجب تبجيله وإجلاله وإكرامه وتبجيله، إجلالاً وإكراماً لشرع الله الذي ينافع عنه ويدافع عنه. قال رسول الله ? : (إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير المغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)( )، والأمة واجب عليها أن تُناصح ولاة أمرها قال ?: (الدين النصحية
-ثلاثاً-) قال الصحابة: لمن يارسول الله؟ قال: (لله -عز وجل- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)( )، ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق ? وترجمت ذلك الى لجان متخصصة ومجالس شورية، تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرره، والشيء المحزن أن كثيراً من الدول الاسلامية تعرض عن هذا النظام الحكيم، فعظم مصيبتها في تسلط الحكام وجبروتهم، والتخلق الذي يعم معظم ديار المسلمين ماهو إلا نتيجة لتسلط بغيض، (ودكتاتورية) لعين، أماتت في الأمة روح التناصح والشجاعة، وبذرت فيها، وزرعت بها الجبن والفزع إلا من رحم ربي، وأما الأمة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته تأخذ بأسباب القوة والتمكين في الأرض، فتنطلق الى آفاق الدنيا تبلغ دعوة الله( ).
4 الطيبين الأبرار.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 7:09 am

- إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس:
قال أبو بكر ?: الضعيف فيكم قوي عندى حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله( ).
إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم ومن أهم هذه القواعد، الشورى والعدل، والمساواة والحريات، ففي خطاب الصديق للأمة أقرّ هذه المبادئ، فالشورى تظهر في طريقة اختياره وبيعته وفي خطبته في المسجد الجامع، بمحضر من جمهور المسلمين وأما عدالته فتظهر في نص خطابه ولاشك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي فلاوجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولايعرف العدل.
إن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل( ) قال الفخر الرازي -رحمه الله- أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل( ).
وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية. إن من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته، بكافة أشكاله وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهد أو مال وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الإجتماعية فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق، ولايهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء عمالاً أو أصحاب عمل( )، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة المائدة، آية:Cool.
لقد كان الصديق ? قدوة في عدله يأسر القلوب ويبهر الألباب، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام فيه تفتح قلوب الناس للإيمان، لقد عدل بين الناس في العطاء، وطلب منهم أن يكونوا عوناً له في هذا العدل، وعرض القصاص من نفسه في واقعة تدل على العدل والخوف من الله سبحانه( )، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص ?: أن أبا بكر الصديق ? قام يوم جمعة فقال: إذا كنا بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسمها، ولايدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام وقال: استقد .. فقال عمر: والله لايستقد ولاتجعلها سنة، قال أبو بكر فمن لي من الله يوم القيامة؟ قال عمر: أرضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحلها وقطيفة وخمسة دنانير فأرضاه بها( ).
وأما مبدأ المساواة الذي أقره الصديق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات، آية:13).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء( )، وجاءت ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك حيث يقول: وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه( ).
وكان ? ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل مافيه سواسية بين الناس، فقد روى ابن سعد وغيره أن أبا بكر ?، كان له بيت مال بالسُّنح معروف، ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لايخاف عليه، قيل له: ولم؟ قال: عليه قفل! وكان يعطي مافيه حتى لايبقى فيه شيئاً، فلما تحوّل إلى المدينة حوّله معه فجعله في الدار التي كان فيها، وقدم عليه مال من معدن من معادن جُهينة، فكان كثيراً، وانفتح معدن بني سليم في خلافته، فقدم عليه منه بصدقة فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه بين الناس سوّياً، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على السواء. قالت عائشة رضي الله عنها: فأعطى أول عام الحرّ عشرة والمملوك عشرة، وأعطى المرأة عشرة، وأمتها عشرة، ثم قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين، فجاء ناس من المسلمين فقالوا: ياخليفة رسول الله: إنك قسمت هذا المال فسوّيت بين الناس، ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل. فقال: أما ماذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك وإنما ذلك شئ ثوابه على الله جلّ ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة( ) فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التسوية بين الناس، وقد ناظر الفاروق عمر ? أبا بكر في ذلك فقال: أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ للراكب.
ورغم أن عمر ? غيّر في طريقة التوزيع فجعل التفضيل بالسابقة إلى الإسلام والجهاد إلا أنه في نهاية خلافته قال: لو استقبلت من أمري مااستدبرت لرجعت إلى طريقة أبي بكر فسويت بين الناس( ).
وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح، فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة كساء مخمل) أتى بها من البادية، ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء وقد بلغ المال الذي ورد على أبي بكر في خلافته مائتي ألف وزعت في أبواب الخير( ).
لقد اتبع ابو بكر ? المنهج الرباني في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس وراعى حقوق الضعفاء فرأى أن يضع نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم فيتبعهم بسمع مرهف وبصر حاد وإرادة واعية لاتستذلها عوامل القوة الأرضية فتملي كلمتها .. إنه الإسلام في فقه رجل دولته النابه الذي قام يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة( ).
لقد قام الصديق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية، فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصديق سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (سورة النحل، آية:90).
أكان أبو بكر يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم، وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم الطمأنينة للمسلمين ماقام الحاكم فيهم على أساس من العدل المجرد عن الهوى.
والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو فوق كل اعتبار شخصي وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات، والتجرد لله تجرداً مطلقاً جعله يشعر بضعف الضعيف، وحاجة المجتمع ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه، وأهله، ثم يتتبع أمور الدولة جليلها، ورقيقها بكل ما أتاه الله من يقظة وحذر( ).
وبناء على ماسبق يرفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف آمن على حقه، وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل، فهو به قوي لايمنع حقه ولايضيع، والقوي حين يظلم يردعه الحق، وينتصف منه للمظلوم، فلا يحتمي بجاه أو سلطان أو قرابة لذي سطوة أو مكانة، وذلك هو العز الشامخ، والتمكين الكامل في الأرض( ).
وما أجمل ماقاله ابن تيمية رحمه الله: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولاينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة،... بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال( ).
5-الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم:
قال أبو بكر ?: الصدق أمانة والكذب خيانة( ) أعلن الصديق ? مبدأ أساسياً تقوم عليه خطته في قيادة الأمة وهو: أن الصدق بين الحاكم والأمة هو أساس التعامل، وهذا المبدأ السياسي الحكيم له الأثر الهام في قوة الأمة حيث ترسيخ جسور الثقة بينها وبين حاكمها إنه خلق سياسي منطلق من دعوة الإسلام إلى الصدق قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (سورة التوبة، آية:119) ومن التحذير منه كقول رسول الله ?: ثلاثة لايكلمهم الله يوم القيامة ولايزكيهم ولاينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر( ).
فهذه الكلمات (الصدق أمانة) اكتست بالمعاني، فكأن لها روحاً تروح بها وتغدو بين الناس، تلهب الحماس، وتصنع الأمل، (والكذب خيانة) وهكذا يأبى أبو بكر إلا أن يمس المعاني، فيسمي الأشياء بأسمائها، فالحاكم الكذاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز الأمة ثم يخدعها، فما أتعس حاكم يتعاطى الكذب فيسميه بغير اسمه، لقد نعته الصديق بالخيانة، وأنه عدو أمته الأول .. وهل بعد الخيانة من عداوة؟ حقا لازال الصديق يطل على الدنيا من موقفه هذا فيرفع أقواماً ويسقط آخرين! .. وتظل صناعة الرجال أرقى فنون الحكم! إذ هم عدة الأمة ورصيدها الذي تدافع به عن نفسها ملمات الأيام، ولاشك أن من تأمل كلمات أبي بكر تلك أصدقته الخبر بأن الرجل كان رائداً في هذا الفن الرفيع، فقد كان يسير على النهج النبوي الكريم( ) إن شعوب العالم اليوم تحتاج إلى هذا المنهج الرباني في التعامل بين الحاكم والمحكوم لكي تقاوم أساليب تزوير الانتخابات وتلفيق التهم، واستخدام الإعلام وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون الحكام أو ينتقدونهم، ولابد من إشراف الأمة على التزام الحكام بالصدق والأمانة من خلال مؤسساتها التي تساعدها على تقويم ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا( )، فتمنعهم من سرقة إرادتها، وشرفها، وحريتها وأموالها.
6-إعلان التمسك بالجهاد وإعداد الأمة لذلك:
قال أبو بكر ?: وماترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل( )، لقد تلقى أبو بكر تربيته الجهادية مباشرة من نبيه وقائده العظيم ?، تلقاها تربية حية في ميادين الصراع بين الشرك والإيمان، والضلال والهدى، والشر والخير ولقد ذكرت مواقف الصديق في غزوات الرسول ?، ولقد فهم الصديق ? من حديث رسول الله ?: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم( )، إن الأمة تصاب بالذل إذا تركت الجهاد فلذلك جعل الصديق الجهاد إحدى حقائق الحكم في دولته( )، ولذلك حشد طاقات الأمة من أجل الجهاد، لكي يرفع الظلم عن المظلومين ويزيل الغشاوة عن أعين المقهورين ويعيد الحرية للمحرومين، وينطلق بدعوة الله في آفاق الأرض يزيل كل عائق ضدها.
7-إعلان الحرب على الفواحش:
قال أبو بكر ?: ولاتشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء( )، والصديق هنا يذكر الأمة بقول النبي ?Sad لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا...)( ) إن الفاحشة هي داء المجتمع العضال الذي لادواء له، وهي سبيل تحلله وضعفه حيث لاقداسة لشيء، فالمجتمع الفاحش لايغار ويقر الدنية ويرضاها، إنه مجتمع الضعف والعار والأوجاع والأسقام، وحال الناس أدل شاهد. لقد وقف أبو بكر يحفظ قيم الأمة وأخلاقها( )، فقد حرص في سياسته على طهر الأمة ونقائها، وبعدها عن الفواحش ماظهر منها ومابطن، وهو ? يريد بذلك أمة قوية لاتشغلها شهواتها، ولايضلها شيطانها، لتعيش أمة منتجة تعطي الخير، وتقدم الفضل لكل الناس.
إن علاقة الأخلاق بقيام الدول وظهور الحضارة علاقة ظاهرة، فإن فسدت الأخلاق، وخربت الذمم، ضاعت الأمم، وعمها الفساد والدمار والدارس لحياة الأمم السابقة والحضارات السالفة بعين البصيرة، يدرك كيف قامت حضارات على الأخلاق الكريمة والدين الصحيح كالحضارة التي قامت في زمن داود وسليمان عليه السلام والتي قامت في زمن ذي القرنين وكثير من الأمم التي التزمت بالقيم والأخلاق فظلت قوية طالما حافظت عليها، فلما دب سوس الفواحش إليها استسلمت للشياطين، وبدلت نعمة الله كفراً، وأحلت قومها دار البوار، فزالت قوتها، وتلاشت حضارتها( ) إن الصديق ? استوعب سنن الله في المجتمعات وبناء الدول وزوالها وفهم أن زوال الدول يكون بالترف والفساد والإنغماس في الفواحش والموبقات قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (سورة الإسراء، آية:16). أي أمرناهم بالأمر الشرعي من فعل الطاعات وترك المعاصي فعصوا وفسقوا فحق عليهم العذاب والتدمير جزاء فسقهم وعصيانهم. وفي قراءة {أمّرنا}( ) بالتشديد أي جعلناهم أمراء. والترف وإن كان كثرة المال والسلطان من أسبابه إلا أنه حالة نفسية ترفض الإستقامة على منهج الله وليس كل ثراء ترف( ).
إن سياسة الصديق في حربه للفواحش حرى بحكام المسلمين أن يقتدوا به، فالحاكم التقي الذكي العادل هو الذي يربي أمته على الأخلاق القويمة لأنه حينئذ سيقود شعباً أحس طعم الآدمية، وجرى في عروقه دم الإنسانية.. وأما إن سلب الحاكم الذكاء، وصار من الأغبياء.. أشاع الفاحشة في قومه وعمل على حمايتها بالقوة والقانون، وحارب القيم والأخلاق الحميدة ودفع بقومه إلى مستنقعات الرذيلة ليصبحوا كالحيوانات الضالة، والقطعان الهائمة لاهم لها إلا المتاع، والزينة الخادعة، فيصبحوا بعد ذلك أقزاماً، قد ودّعوا الرجولة والشهامة( ) ويصدق فيهم قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (سورة النحل، آية:112).
هذه بعض التعليقات التي فتح الله بها بما ترى على البيان الذي ألقاه الصديق للأمة والذي رسم فيه سياسة الدولة، فحدد مسؤولية الحاكم ومدى العلاقة بينه وبين المحكومين وغير ذلك من القواعد المهمة في بناء الدولة وتربية الشعوب وهكذا قامت الخلافة الإسلامية، وتحدد مفهوم الحكم تحديداً عملياً وكان حرص الأمة على منصب الخلافة واختيار الخليفة على هذه الصورة ومسارعة الناس إلى الرضا بذلك دليلاً على أنهم كانوا يسلمون بأن النظام الذي أنشأه النبي عليه الصلاة والسلام واجب البقاء، وأن النبي ? وإن مات فإنه خلف فيهم دينا وكتابا يسيرون على هديه فرضاء الناس يومئذ يعبر عن إرادة الاستمرار في ظل النظام الذي أنشأه النبي ?( ).
إن حكومة الصديق ? تمتع بها المسلمون زمناً ليس بكثير وعيَّن أبو بكر حد السلطة العليا فيها بتلك الخطبة الراقية على مستوى أنظمة الحكم في ذلك العصر وفي هذا الزمن فهي حكومة شورية قل أن يجد طلاب الحرية والعدل في كل عصر أحسن لسياسة الأمم منها( ) قادها التلميذ الأنجب والأذكى والأعلم والأعظم ايماناً للحبيب المصطفى ? أبو بكر ?.
وقد بين الإمام مالك بأنه لايكون أحد إماماً أبداً إلا على هذا الشرط( ) يقصد بالمضامين العظيمة التي ألقاها الصديق في بيانه السياسي الأول.
ثانياً: إدارة الشؤون الداخلية:
أراد الصديق ? أن ينفذ السياسة التي رسمها لدولته واتخذ من الصحابة الكرام أعواناً يساعدونه على ذلك، فجعل أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة (وزير المالية) فأسند إليه شؤون بيت المال، وتولى عمر بن الخطاب القضاء (وزارة العدل) وباشر الصديق القضاء بنفسه أيضاً، وتولى زيد بن ثابت الكتابة (وزير البريد والمواصلات)( ) وأحياناً يكتب له من يكون حاضر من الصحابة كعلي بن أبي طالب أو عثمان بن عفان رضي الله عنهم، وأطلق المسلمون على الصديق لقب خليفة رسول الله ورأى الصحابة ضرورة تفريغ الصديق للخلافة، فقد كان أبو بكر ? رجلاً تاجراً يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع فلما استُخلف أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد ياخليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقالاSadانطلق معنا حتى نفرض لك شيئاً. فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاه( )، وجاء في الرياض النضرة أن رزقه الذي فرضوه له خمسون ومائتا دينار في السنة وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارِعها، فلم يكن يكفيه ذلك ولاعياله، قالوا وقد كان قد ألقى كل دينار ودرهم عنده في بيت مال المسلمين، فخرج إلى البقيع فتصافق (بايع) فجاء عمر ? فإذا هو بنسوة جلوس، فقالSadماشأنكن؟) قلن: نريد خليفة رسول الله ? يقضي بيننا، فانطلق فوجده في السوق فأخذه بيده فقالSadتعالى هاهنا). فقال: لاحاجة لي في إمارتكم( )، رزقتموني مالايكفيني ولاعيالي قالSad فإنّا نزيدك). قال أبو بكرSadثلاثمائة دينار والشاة كلها) قال عمر: أما هذا فلا، فجاء علي ? وهما على حالهما تلك، قالSadأكملها له) قالSadترى ذلك؟) قال: نعم، قالSadقد فعلنا)( ) وانطلق أبوبكر ? فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: (أيها الناس إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارِعُها وإن عمر وعلياً كمّلا لي ثلاثمائة دينار والشاة أفرضيتم؟ قال المهاجرونSadاللهم نعم قد رضينا)( ).
وهكذا وقف الصحابة في فهمهم الراقي لولاية الدين وأمانة الحكم يفرضون لإمامهم رزقاً يغتني به عن التجارة بعد إذ صار عاملاً للأمة تملك منه الوقت والجهد والفكر .. ومن ثم يقررون معنى في الإسلام بديعاً يفصل الذمة المالية للأمة عن ذمة الحاكم.
هذا المعنى الذي لم يعرفه الغرب إلا في عهوده القريبة، إذ ظلت راية مالقيصر لقيصر مشرعة خفاقة يقاتل الناس دونها أزماناً طويلة، إن أصدق تعبير نقف به على دخول الذمة المالية للدولة بأسرها في ذمة الحاكم لهو مقالة لويس الخامس عشر (أنا الدولة والدولة أنا) لقد كان لويس تاجر غلال معروفاً يتجر في قوت أمته وهي تتضور جوعاً ثم لايرى أحد في ذلك شيئاً من العار .. أليس هو الأصل والأمة فرع عنه؟( ).
اين البشرية اليوم من أولئك الصحابة رضوان الله عليهم؟ فإن الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاءون، ويتصرفون كما يريدون، كما أصبحت لهم نفقات مستورة لاحصر لها، وفوق هذا فقد تكدست لهم الأموال في المصارف خارج البلاد، حتى غدت دول أجنبية تعيش على هذه الأموال لكثرتها وأكثرها يعود إلى الحكام وأمراء الشعوب المستضعفة، مع أنه قد ظهر أن هذه الأموال مهما بلغت، والعقارات مهما كثرت، فإنها لاتكفي شيئاً، ولاتغني صاحبها شيئاً، فإن شاه إيران مع ضخامة ما يملك لم يجد أرضاً تقبله ليأوي إليها هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر أشد والحساب عظيم( ).
فعلى حكام المسلمين أن يقتدوا بهذا الصحابي الجليل الذي أدار دولة الإسلام بعد وفاة الرسول ?، فما أجمل قوله ?: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه( ).
إن الصديق يؤكد معاني بديعة، فولاية الدين ليست في حد ذاتها مغنما، أما مايفرض لها من رزق فلما تقضي إليه من اشتغال عامل الأمة عن أمر نفسه( ).
لقد سطر الصديق والصحابة الكرام صفحات رائعة في جبين الزمن، حتى أن البشرية تسعى في سلم التطور وتسعى ثم إذا هي قابعة عند أقدامهم( ).
سار الصديق في بناء دولة الإسلام بجد ونشاط واهتم بالبناء الداخلي، ولم يترك أي ثغرة يمكن أن تؤثر في ذلك البناء الشامخ الذي تركه رسول الله ?، فاهتم بالرعية وله مواقف مشرفة في هذا الباب، وأعطى للقضاء اهتماماً خاصاً، وتابع أمر الولاة وسار على المنهج النبوي الكريم في كل خطواته وإليك شيء من التفصيل عن تلك السياسة الرشيدة:
1-الصديق في المجتمع:
عاش الصديق ? بين المسلمين كخليفة لرسول الله ?، فكان لايترك فرصة تمر إلا علم الناس وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فكانت مواقفه تشع على من حوله من الرعية بالهدى والإيمان والأخلاق فمن هذه المواقف:
أ-حلبه للأغنام، والعجوز العمياء، وزيارة أم أيمن:
كان قبل الخلافة يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لايحلب لنا منايح (أغنام) دارنا فسمعها أبو بكر فقال: لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني مادخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهنَّ، وكنَّ إذا أتينه بأغنامهنّ يقول: أنضح أم ألبد؟ فإن قالت انضح باعد الإناء من الضرع حتى تشتد الرغوة، وإن قالت ألبد أدناه منه حتى لاتكون له رغوة، فمكث كذلك بالسُّنح ستة أشهر ثم نزل إلى المدينة( ).
ففي هذا الخبر بيان شيء من أخلاق أبي بكر الصديق ?، فهذا تواضع كبير من رجل كبير، كبير في سنه، وكبير في منزلته وجاهه، حيث كان خليفة المسلمين، وكان حريصاً على أن لاتغير الخلافة شيئاً من معاملته للناس وإن كان ذلك سيأخذ عليه وقتا هو بحاجة إليه، كما أن هذا العمل يدلنا على مقدار تقدير الصحابة رضي الله عنهم لأعمال البر والإحسان وإن كلفتهم الجهد والوقت( ).
هذا أبو بكر ? غلب بعزيمته الصادقة، وثباته العجيب الجزيرة العربية، وأخضعها لدين الله، ثم بعث بها فقاتلت تحت ألويته الدولتين الكبريين على وجه الأرض، وغلبت عليها. أبو بكر.. يحلب لجواري الحي أغنامهنّ، ويقول: أرجو أن لايغيرني مادخلت فيه. وليس الذي دخل فيه بالأمر الهين، بل هو خلافة رسول الله، وسيادة العرب، وقيادة الجيوش التي ذهبت لتقلع من الأرض الجبروت الفارسي، والعظمة الرومانية، وتنشئ مكانهما صرح العدل، والعلم والحضارة، ثم يرجو ألاّ يغيره هذا كله، ولايمنعه من حلب أغنام الحيِّ( ).
إن من ثمار الإيمان بالله تعالى أخلاق حميدة منها خلق التواضع الذي تجسد في شخصية الصديق في هذا الموقف وفي غيره من المواقف وكان عندما يسقط خطام ناقته ينزل ليأخذه فيقال له: لو أمرتنا أن نناولكه، فيقول: أمرنا رسول الله ? ألا نسأل الناس شيئاً( )، لقد ترك لنا الصديق مثالاً حياً في فهم وتطبيق خلق التواضع المستمد من قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (سورة القصص، آية:40) ومن قوله ?: (مانقصت صدقة من مال، ومازاد الله عبداً بعفو إلا عزا، وماتواضع أحد لله إلا رفعه الله)( ). ولقد دفعه هذا الخلق إلى خدمة المسلمين وبخاصة أهل الحاجة منهم والضعفاء فعن أبي صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب كان يتعهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ماأرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها –فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة( )، وعن أنس بن مالك ?: قال أبو بكر ? بعد وفاة رسول الله ? لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله ? يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا مايبكيك؟ ماعند الله خير لرسول الله ?، فقالت: ما أبكي أن أكون أعلم أن ماعند الله خير لرسول الله ?، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها( ).
ب-نصحه لأمرأة نذرت أن لاتحدث أحداً:
كان أبو بكر ? ينهى عن أعمال الجاهلية، والابتداع في الدين، ويدعو إلى إلى أعمال الإسلام، والتمسك بالسنّة( )، فعن قيس بن أبي حازم: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس( )، يقال لها زينب، فرآها لاتتكلم. فقال أبو بكر: مالها لاتتكلم؟ قالوا: نوت حجه مصمتة( ) فقال لها: تكلمي، فإن هذا لايحل،( ) هذا من عمل الجاهلية. قال: فتكلمت، فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين. قالت: أيُّ المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: من أيِّ قريش أنت؟ قال: إنك لسؤول، أنا أبو بكر. قالت: ياخليفة رسول الله: مابقاؤنا على هذا الأمر الصالح، الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ فقال: بقاؤكم عليه مااستقامت به أئمتكم.
قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟
قالت: بلى قال: فهم أولئك على الناس( ).
قال الخطابي رحمه الله: كان من نسك الجاهلية الصمت، فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة، ويصمت، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالنطق بالخير، وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن لايتكلم استحب له أن يتكلم، ولاكفارة عليه، لأن أبا بكر لم يأمرها بالكفارة، وقياسه أن من نذر أن لايتكلم لم ينعقد نذره، لأن أبا بكر أطلق أن ذلك لايحل، وأنه من فعل الجاهلية، وأن الإسلام هدم ذلك، ولايقول مثل هذا إلا عن علم من النبي ? فيكون في حكم المرفوع( ).
وقال ابن حجر: وأما الأحاديث الواردة في الصمت وفضله، فلايعارض لاختلاف المقاصد في ذلك، فالصمت المرغب فيه: ترك الكلام بالباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطرفين، والله أعلم( ).
جـ-اهتمامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
كان الصديق ? يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويبين للناس ما التبس عليهم من الفهم فعن قيس بن أبي حازم قال سمعت أبا بكر الصديق يقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم) إني سمعت رسول الله ? يقول: إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه عمهم الله بعقاب. وفي رواية: يا أيها الناس إنكم تقرؤن هذه الآية، وتضعونها على غير مواضعها، وإنا سمعنا النبي ? يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب( ) قال النووي: وأما قوله تعالى{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية. فليس مخالفاً لوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ماكلفتم به فلايضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإذا فعله، ولم يمتثل المخاطب فلاعتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ماعليه( ).
وكان ? يحث الناس على الصواب، فعن ميمون بن مهران أن رجلاً سلّم على أبي بكر فقال: السلام عليك ياخليفة رسول الله. قال: من بين هؤلاء أجمعين( )، وكان ? يترك السنة مخافة أن يظن مالاعلم له أنها فريضة أو واجبة، فعن حذيفة بن أسيد ? أنه قال: رأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وما يضحيان مخافة أن يستن بهما وفي رواية: كراهية أن يقتدي بهما( )، وكان يوصي ابنه عبدالرحمن بحسن المعاملة لجيرانه، فقد قال له ذات يوم وهو يخاصم جاراً له: لاتماظ جارك، فإنّ هذا يبقى ويذهب الناس( )، وكان باراً بوالده فلما اعتمر في رجب سنة اثنتي عشر من الهجرة، دخل مكة ضحوة فأتى منزله وأبوه أبو قحافة جالس على باب داره، معه فتيان يحوشهم، فقيل له: هذا ابنك فنهض قائماً، وعجل أبو بكر أن ينيخ ناقته فنزل عنها وهي قائمة –ليقابل أباه في بر وطاعة، وجاء الناس يسلمون عليه، فقال أبو قحافة ياعتيق هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم فقال أبو بكر: يا أبة لاحول ولاقوة إلا بالله، طوقت أمراً عظيماً لاقدرة لي به ولايدان إلا بالله ..)( ) وكان يهتم بالصلاة والخشوع فيها ويحرص على حسن العبادة، وكان لايلتفت في صلاته( )، وكان أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزبير، وأخذها ابن الزبير من أبي بكر، وأخذها أبو بكر من النبي ?، وكان عبدالرزاق يقول: مارأيت أحداً أحسن صلاة من ابن جريج( )، وعن أنس ? قال: صلى أبو بكر بالناس الفجر فاقترأ البقرة في ركعتيه، فلما انصرف قال له عمر: ياخليفة رسول الله ماانصرفت حتى رأينا أن الشمس قد طلعت قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين( )، وكان يحث الناس على الصبر في المصائب ويقول لمن مات له أحد: ليس مع العزاء مصيبة ولامع الجزع فائدة، الموت أهون مما قبله وأشدُّ مما بعده، اذكروا فقد رسول الله تصغر مصيبتكم، وعظم الله أجركم( )، وعزّى عمر ? عن طفل أصيب به فقال: عوَّضك الله منه ماعوضك منك( )، وكان ? يحذر الناس من البغي، والنكث، والمكر ويقول ثلاث من كُنَّ فيه كُنَّ عليه: البغي، والنكث والمكر( ) وكان يعظ الناس ويذكرهم بالله ومن مواعظه ?: الظلمات خمس والسُّرُج خمس: حب الدنيا ظلمة والسراج له التقوى، والذنب ظلمة والسراج له التوبة، والقبر ظلمة والسراج له لا إله إلا الله محمد رسول الله، والآخرة ظلمة والسراج لها العمل الصالح، والصراط ظلمة والسراج لها اليقين( )، وكان ? من خلال منبر الجمعة يحث على الصدق والحياء ويحث على الاعتبار والاستعداد للقدوم على الله ويحذر من الغرور، فعن أوسط بن اسماعيل رحمه الله قال: سمعت أبا بكر الصديق ? يخطب بعد وفاة رسول الله بسنة فقال: قام فينا رسول الله ? مقامي هذا عام أول، ثم بكى أبو بكر ثم قال: وفي رواية، ثم ذرفت عيناه، فلم يستطيع من العبرة أن يتكلم، ثم قال: أيها الناس: اسألوا الله العافية، فإنه لم يعط أحد خير من العافية بعد اليقين، وعليكم بالصدق فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار ولاتقاطعوا ولاتدابروا، ولاتباغضوا، ولاتحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً( )، وقال الزبير بن العوام ?: إن أبا بكر قال وهو يخطب الناس: يامعشر المسلمين: استحيوا من الله عزوجل، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب الغائط في الفضاء متقنعاً بثوبي استحياء من ربي عزوجل( ) وعن عبدالله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر ? فقال: أما بعد:
فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاح بالمسألة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، فاشترى القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لاتفنى عجائبه، ولايطفأ نوره، فصدقوا قوله، وانتصحوا كتابه، واستوضئوا منه ليوم الظلمة، فإنما خلقكم للعبادة، ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ماتفعلون ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيّب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم وأنتم في عمل لله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم فيردكم إلى أسوأ أعمالكم، فإن أقواماً جعلوا آجالهم لغيرهم، ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا مثلهم. فالوحا الوحا( )، ثم النجا النجا، فإن وراءكم طلباً حثيثاً مَرُّهُ( ) سريع وفي رواية أخرى: أين من تعرفون من إخوانكم؟! ومن أصحابكم؟! قد وردوا على ماقدموا، قدموا ماقدموا في أيام سلفهم، وحلوا فيه بالشقوة والسعادة. أين الجبارون الذين بنوا المدائن، وحففوها بالحوائط، قد صاروا تحت الصخر والآبار. أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك وأين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدهر، فأصبحوا في ظلمات القبور. لاخير في قول لايراد به وجه الله، ولاخير في مال لاينفق في سبيل الله، ولاخير فيمن يغلب جهله حلمه، ولاخير فيمن يخاف في الله لومة لائم.
إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيراً، ولايصرفه عن سوءاً، إلا بطاعته واتباع أمره، وإنه لاخير بخير بعده النار، ولاشر بشر بعده الجنة، واعلموا أنكم ما أخلفتم لله عزوجل فربكم أطعتم، وحقكم حفظتم، وأوصيكم بالله لفقركم وفاقتكم أن تتقوه، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تستغفروه إنه كان غفاراً، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم( ).
وهكذا كان الصديق يهتم بالمجتمع فيوعظ المسلمين، ويحثهم على الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا غيظ من فيظ، وقليل من كثير.
2-القضاء في عهد الصديق:
يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه، فكان العهد الراشدي عامة، والجانب القضائي خاصة، امتداداً للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ماثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه، وتظهر أهمية العهد الراشدي في القضاء بأمرين أساسيين:
• المحافظة على نصوص العهد النبوي في القضاء، والتقيد بما جاء فيه، والسير في ركابه، والاستمرار في الالتزام به.
• وضع التنظيمات القضائية الجديدة لترسيخ دعائم الدولة الإسلامية الواسعة ومواجهة المستجدات المتنوعة( ).
كان أبو بكر ? يقضي بنفسه إذا عرض له قضاء، ولم تفصل ولاية القضاء عن الولاية العامة في عهده، ولم يكن للقضاء ولاية خاصة مستقلة كما كان الأمر في عهد رسول الله ?، إذ كان الناس على مقربة من النبوة، يأخذون أنفسهم بهدي الإسلام، وتقوم حياتهم على شريعته، وقلما توجد بينهم خصومة تذكر، ففي المدينة عهد أبو بكر إلى عمر بالقضاء، ليستعين به في بعض الأقضية ولكن هذا لم يعطي لعمر صفة الاستقلال بالقضاء( )، وأقر أبو بكر ? معظم القضاة والولاة الذين عينهم رسول الله واستمروا على ممارسة القضاء والولاية أو أحديهما في عهده( ) وسوف نأتي على ذكر الولاة وأعمالهم بإذن الله تعالى.
وأما مصادر القضاء في عهد الصديق ? هي:
1-القرآن الكريم.
2-السنة النبوية ويندرج فيها قضاء رسول الله ?.
3-الإجماع، باستشارة أهل العلم والفتوى.
4-الاجتهاد والرأي، وذلك عند عدم وجود مايحكم به من كتاب أو سنة أو إجماع( ).
فكان ابو بكر ? إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه مايقضي به قضى، فإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله ?، فإن وجد فيها مايقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس، هل علمتم أن رسول الله ? قضى فيه بقضاء، فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا أو بكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله، يقول عندئذ: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به( )، ويظهر أن الصديق يرأى الشورى ملزمة إذا اجتمع رأي أهل الشورى على أمر، إذ لايجوز للإمام مخالفتهم وهذا ماحكى عنه في القضاء فإنه كان إذا اجتمع رأي المستشارين على الأمر قضى به وهذا ماأمر به عمرو بن العاص عندما أرسل إليه خالد بن الوليد مدداً حيث قال له: شاورهم ولاتخالفهم( )، وكان ? يتثبت في قبول الأخبار، فعن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله تعالى شيئاً، وماعلمت أن رسول الله ? ذكر لك شيئاً، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله ? يعطيها السدس فقال أبو بكر: هل معك أحد؟ فشهد ابن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر ?( )، وكان يرأى أن القاضي لايحكم بعلمه الشخصي، إلا إذا كان معه شاهد آخر يعزز هذا العلم، فقد روي عن أبي بكر ? أنه قال: لو رأيت رجلاً على حد، لم أعاقبه حتى تقوم البينة عليه، أو يكون معي شاهد آخر( )، وهذه بعض الأقضية التي صدرت في عهد أبي بكر ?:
أ-قضيه قصاص:
قال علي بن ماجدة السهمي: قاتلت رجلاً، فقطعت بعض أذنه، فقدم أبو بكر حاجا، فرفع شأننا إليه، فقال لعمر: انظر هل بلغ أن يقتص منه، قال: نعم، عليَّ بالحجّام، فلما ذكر الحجام قال أبو بكر: سمعت رسول الله ? يقول: إني وهبت لخالتي غُلاما، أرجو أن يبارك لها فيه، وإني نهيتها أن تجعله حجاماً، أو قصّاباً، أو صانعاً( ).
2-نفقة الوالد على الولد:
عن قيس بن حازم قال: حضرت أبا بكر الصديق ?، فقال له رجل: ياخليفة رسول الله: هذا يريد أن يأخذ مالي كله ويجتاحه، فقال أبو بكر ?: إنما لك من ماله مايكفيك، فقال: ياخليفة رسول الله ?، أليس قال رسول الله ?: أنت ومالك لأبيك؟ فقال أبو بكر ?: ارض بما رضي الله به، ورواه غيره عن المنذر بن زياد، وقال فيه: إنما يعني بذلك النفقة( ).
3-الدفاع المشروع:
عن أبي مليكة عن جده أن رجلاً عضَّ يد رجل فأنذَرَ ثنيته (قلع سنه) فأهدرها أبو بكر( ).
4-الحكم بالجلد:
روى الإمام مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته: أن أبا بكر الصديق أتى برجل قد وقع على جارية بكر فأحبلها، ثم اعترف على نفسه بالزنا، ولم يكن أحصن، فأمر به أبو بكر فجلد الحدَّ، ثم نُفي إلى فدك( )، وفي رواية بأنه لم يجلد الجارية ولم ينفها لأنها استكرهت، ثم زوجها إياه أبو بكر وأدخله عليها( )، وعندما سئل الصديق عن رجل زنى بامرأة، ثم يريد أن يتزوجها قال: مامن توبة أفضل من أن يتزوجها، خرجا من سفاح إلى نكاح( ).
5-الحضانة للأم مالم تتزوج:
طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية-أم ابنه عاصم- فلقيها تحمله بمُحَسِّر( )، ولقيه قد فُطم ومشى، فأخذ بيديه لينتزعه منها، ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى، وقال: أنا أحق بإبني منك. فاختصمها إلى أبي بكر، فقضى لها به، وقال: ريحها، وحِجْرُها وفرشها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه( ) وفي رواية: هي أعطف وألطف وأرحم وأحْنا وأرأف، وهي أحق بولدها مالم تتزوج( ).
هذه بعض الأقضية والأحكام التي حدثت في عهد الصديق ? هذا وقد تميز القضاء في عهد الصديق بعدة أمور منها:
أ-كان القضاء في عهد الصديق امتداداً لصورة القضاء في العهد النبوي، بالالتزام به، والتأسي بمنهجه، وانتشار التربية الدينية، والإرتباط بالإيمان والعقيدة والاعتماد على الوازع الديني، والبساطة في سير الدعوى، واختصار الإجراءات القضائية، وقلة الدعاوى والخصومات.
ب- اصبحت الأحكام القضائية في عصر الصديق موئل الباحثين، ومحط الأنظار للفقهاء، وصارت الأحكام القضائية، مصدراً للأحكام الشرعية، والاجتهادات القضائية، والآراء الفقهية في مختلف العصور.
جـ-مارس الصديق وبعض ولاته النظر في المنازعات، وتولي القضاء بجانب الولاية.
د-ساهمت فترة الصديق في ظهور مصادر جديدة للقضاء في العهد الراشدي، وصارت مصادر الأحكام القضائية هي: القرآن الكريم، والسنة الشريفة، الإجماع، القياس، السوابق القضائية، الرأي الاجتهادي مع المشورة( ).
هـ-كانت آداب القضاء مرعية في حماية الضعيف، ونصرة المظلوم، والمساواة بين الخصوم وإقامة الحق والشرع على جميع الناس، ولو كان الحكم على الخليفة أو الأمير أو الوالي، وكان القاضي في الغالب يتولى تنفيذ الأحكام، إن لم ينفذها الأطراف طوعاً واختياراً، وكان التنفيذ عقب صدور الحكم فوراً( ).
3-الولاية على البلدان:
كان أبو بكر يستعمل الولاة في البلدان المختلفة ويعهد إليهم بالولاية العامة في الإدارة والحكم والإمامة، وجباية الصدقات، وسائر أنواع الولايات، وكان ينظر إلى حسن اختيار الرسول للأمراء والولاة على البلدان فيقتدي به في هذا العمل، ولهذا نجده قد أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول وهم على ولايتهم، ولم يعزل أحداً منهم إلا ليعينه في مكان آخر أكثر أهمية من موقعه الأول ويرضاه كما حدث لعمرو بن العاص( ) وكانت مسؤوليات الولاة في عهد أبي بكر الصديق ? بالدرجة الأولى امتداداً لصلاحياتهم في عصر الرسول ? خصوصاً الولاة الذين سبق تعيينهم أيام الرسول ويمكن تلخيص أهم مسئوليات الولاة في عصر أبي بكر وهي:
أ-إقامة الصلاة وإمامة الناس وهي المهمة الرئيسية لدى الولاة نظراً لما تحمله من معان دينية ودنيوية سياسية واجتماعية حيث الولاة يؤمون الناس وعلى وجه الخصوص في صلاة الجمعة، والأمراء دائماً كانت توكل إليهم الصلاة سواء كانوا أمراء على البلدان أم أمراء على الأجناد.
ب-الجهاد كان يقوم به أمراء الأجناد في بلاد الفتح، فكانوا يتولون أموره ومافيه من مهام مختلفة بأنفسهم أو ينيبون غيرهم في بعض المهام كتقسيم الغنائم أو المحافظة على الأسرى، أو غير ذلك، وكذلك مايتبع هذا الجهاد من مهام أخرى كمفاوضة الأعداء وعقود المصالحة معهم وغيرها، ويتساوى في المهمات الجهادية أمراء الأجناد في الشام والعراق وكذلك الأمراء في البلاد التي حدثت فيها الردة كاليمن والبحرين وعمان ونجد، نظراً لوجود تشابه في العمليات الجهادية مع اختلاف الأسباب الموجهة لهذه العمليات.
ت-إدارة شؤون البلاد المفتوحة وتعيين القضاة والعمال عليها من قبل الأمراء أنفسهم، وبإقرار من الخليفة أبي بكر، أو تعيين من أبي بكر ?، عن طريق هؤلاء العمال( ).
جـ-أخذ البيعة للخليفة، فقد قام الولاة في اليمن وفي مكة والطائف وغيرها بأخذ البيعة لأبي بكر ? من أهل البلاد التي كانوا يتولون عليها.
ح-كانت هناك أمور مالية توكل إلى الولاة إو إلى من يساعدهم ممن يعينهم الخليفة أو الوالي لأخذ الزكاة من الأغنياء وتوزيعها على الفقراء أو أخذ الجزية من غير المسلمين وصرفها في محلها الشرعي وهي امتداد لما قام به ولاة الرسول في هذا الخصوص.
خ-تجديد العهود القائمة من أيام الرسول ? حيث قام والي نجران بتجديد العهد الذي كان بين أهلها وبين الرسول ? بناء على طلب نصارى نجران( ).
د-كانت من أهم مسؤوليات الولاة إقامة الحدود وتأمين البلاد وهم يجتهدون رأيهم فيما لم يكن فيه نص شرعي، كما فعل المهاجر بن أبي أمية بالمرأتين اللتين تغنتا بذم الرسول وفرحتا بوفاته وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى في جهاد الصديق لأهل الردة.
س-كان للولاة دور رئيسي في تعليم الناس أمور دينهم وفي نشر الإسلام في البلاد التي يتولون عليها وكان الكثير من هؤلاء الولاة يجلسون في المساجد يعلمون الناس القرآن والأحكام وذلك عملاً بسنة الرسول ? وتعتبر هذه المهمة من أعظم المهام وأجلها في نظر الرسول وخليفته أبي بكر، وقد اشتهر عن ولاة أبي بكر ذلك حيث يتحدث أحد المؤرخين عن عمل زياد والي أبي بكر على حضرموت فيقول: فلما أصبح زياد غداً يقرئ الناس كما كان يفعل قبل ذلك( ).
وبهذا التعليم كان للولاة دور كبير في نشر الإسلام في ربوع البلاد التي يتولونها، وبهذا التعليم تثبت أقدام الإسلام سواء في البلاد المفتوحة الحديثة عهد بالإسلام أو في البلاد التي كانت مسلمة وارتدت، وهي حديثة عهد بالردة جاهلة بأحكام دينها، إضافة إلى أن البلاد المستقرة كمكة والطائف والمدينة، كان بها من يقرئ الناس بأمر من الولاة أو الخليفة نفسه، أو من يعينه الخليفة على التعليم في هذه البلدان( ).
وقد كان الوالي هو المسؤل مسئولية مباشرة عن إدارة الأقليم الذي يتولاه وفي حالة سفر هذا الوالي فإنه يتعين عليه أن يستخلف أو ينيب عنه من يقوم بعمله حتى يعود هذا الوالي إلى عمله، ومن ذلك أن المهاجر بن أبي أمية عينه الرسول على كندة ثم أقره أبو بكر بعد وفاة الرسول ولم يصل المهاجر إلى اليمن مباشرة وتأخر نظراً لمرضه فأرسل إلى (زياد بن لبيد) ليقوم عنه بعمله حتى شفائه وقدومه، وقد أقرأ أبو بكر ذلك( )، كذلك كان خالد أثناء ولايته للعراق ينيب عنه في الحيرة من يقوم بعمله حتى عودته.
وكان أبو بكر ? يشاور الكثير من الصحابة قبل إختيار أحد من الأمراء سواء على الجند أو على البلدان، ونجد في مقدمة مستشاري أبي بكر في هذا الأمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما( )، كما كان أبو بكر ? يشاور الشخص الذي يريد توليته قبل أن يعينه وعلى وجه الخصوص إذا أراد أن ينقل الشخص من ولاية إلى أخرى كما حدث حينما أراد أن ينقل عمرو بن العاص من ولايته التي ولاه عليها الرسول إلى ولاية جند فلسطين، فلم يصدر أبو بكر قراره إلا بعد أن استشاره وأخذ منه موافقة على ذلك( )، كذلك الحال بالنسبة للمهاجر بن أمية الذي خيّره أبو بكر بين اليمن أو حضرموت فاختار المهاجر اليمن فعينه أبو بكر عليها( ).
ومن الأمور التي سار عليها أبو بكر ? أنه كان يعمل بسنة النبي ? في تولية بعض الناس على قومهم إذا وجد فيهم صلحاء، كالطائف وبعض القبائل وكان أبو بكر ? عندما يريد أن يعين شخصاً على ولاية يكتب للشخص المعين عهداً له على المنطقة التي ولاه عليها، كما أنه في كثير من الأحيان قد يحدد له طريقه إلى ولايته ومايمر عليه من أماكن خصوصاً إذا كان التعيين مختصاً بمنطقة لم تفتح بعد ولم تدخل ضمن سلطات الدولة ويتضح ذلك في حروب الردة، وفتوح الشام والعراق وقام الصديق أحياناً بضم بعض الولايات إلى بعض، خصوصاً بعد الانتهاء من قتال المرتدين فقد ضم أبو بكر كندة إلى زياد بن لبيد البياضي، وكان والياً على حضرموت واستمر بعد ذلك والياً لحضرموت وكندة( ).
وكانت معاملة أبي بكر للولاة تتسم بالاحترام المتبادل الذي لم تشبه شائبة، وأما عن الاتصالات بين الولاة وبين الخليفة أبي بكر ? فقد كانت تجري بصفة دائمة وكانت هذه الاتصالات تختص بمصالح الولاية ومهام العمل، فقد كان الولاة كثيراً مايكتبون لأبي بكر في مختلف شئونهم يستشيرونه، وكان أبو بكر ي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:07 pm

المبحث الثاني
البيعة العامة، وإدارة الشؤون الداخلية



أولاً: البيعة العامة:
بعد أن تمت بيعة أبي بكر ? البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر ? في اليوم التالي موقف في تأييد أبي بكر وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة( ) العامة قال أنس بن مالك: لما بويع أبي بكر في السقيفة وكان الغد جلس ابوبكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمدالله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ماكانت مما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده الى رسول الله ? ولكني قد كنت أرى أن رسول الله ? سيدبر أمرنا -يقول يكون آخرنا- وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله ورسوله ?، فإن عصيتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله ? ثاني أثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه فبايع الناس أبابكر بعد بيعة السقيفة فتكلم أبوبكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لايدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ماأطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا الى صلاتكم يرحمكم الله( ).
وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة( ).
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الاسلامية على إيجازها وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد( )، من خلال الخطبة والأحداث التي تمت بعد وفاة الرسول يمكن للباحث أن يستنبط بعض ملامح نظام الحكم في بداية عهد الخلافة الراشدة والتي من أهمها:
1- مفهوم البيعة:
عرّف العلماء البيعة بتعاريف عدة منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي الأمر( )، وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الاسلام( )، وعرفت كذلك بأنها أخذ العهد والميثاق والمعاقدة على إحياء ماأحياه الكتاب والسنّة، وإقامة ماأقامه( )، وكان المسلمون إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده، تأكيداً للعهد والولاء، فاشبه ذلك الفعل البائع والمشتري، فسمى هذا الفعل بيعة( ).
ونتعلم من مبايعة الأمة للصديق بأن الحاكم في الدولة الاسلامية إذا وصل الى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد وبايعته الأمة بعد أن توفرت فيه الشروط المعتبرة، فيجب على المسلمين جميعاً مبايعته والاجتماع عليه، ونصرته على من يخرج عليه، حفظاً على وحدة الأمة وتماسك بنيانها أمام الأعداء في داخل الدولة الاسلامية وخارجها( ).
قال ?: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)( )، فهذا الحديث فيه حث على وجوب إعطاء البيعة والتوعد على تركها، فمن مات ولم يبايع عاش على الضلال ومات على الضلال( ).
وقال رسول الله ?: (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فيطعه مااستطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)( ).
فالشارع الحكيم قد رتب القتل وأمر به، نتيجة الخروج على الامام مما يدل على حرمة هذا الفعل، لأنه بطلب بيعة أخرى بالبيعة الاولى التي هي فرض على المسلمين( ).
والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدولة هو الخليفة. وأما في الأقاليم فقد يأخذها الإمام، وقد يأخذها نواب الإمام، كما حدث في بيعة الصديق ?، فأهل مكة والطائف أخذها نواب الخليفة.
والذي تجب بيعتهم للإمام هم أهل الحل والعقد، وأهل الاختيار من علماء الأمة وقادتها، وأهل الشورى وأمراء الأمصار وأما سائر الناس وعامتهم فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلاء، ولا يمنع العامة من البيعة بعد بيعة أهل الحل والعقد( )، وهناك من العلماء من قال لابد من البيعة العامة لأن الصديق لم يباشر مهامه كخليفة للمسلمين إلا بعد البيعة العامة له من المسلمين( ).
والبيعة بهذا المعنى الخاص الذي تمّ للصديق لا تعطي إلا للإمام الأعظم في الدولة الاسلامية ولاتعطى لغيره من الأشخاص سوءا في ظل الدولة الإسلامية أو عند فقدها، لما يترتب على هذه البيعة من أحكام( )، وخلاصة القول أن البيعة بمعناها الخاص هي إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين طرفين؛ الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يبايع على الحكم بالكتاب والسنّة والخضوع التام للشريعة الاسلامية عقيدة وشريعة ونظام حياة، والأمة تبايع على الخضوع والسمع والطاعة للإمام في حدود الشريعة.
فالبيعة خصصية من خصائص نظام الحكم في الاسلام تفرد به عن غيره من النظم الاخرى في القديم والحديث. ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الاسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد، الخروج على أحكام الشريعة أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنّة، أو القواعد العامة في الشريعة ويعد فعل مثل ذلك خروجاً على الاسلام، بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الاسلامية بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة الايمان( )، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (سورة النساء، الآية:65).
فهذا مفهوم البيعة من خلال عصر أبي بكر الصديق ?.
2- مصدر التشريع في دولة الصديق:
قال أبوبكر ?: أطيعوني ماأطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم( )، فمصدر التشريع عند الصديق :
أ- القرآن الكريم:
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (سورة النساء، الآية:105).
فهو المصدر الاول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشؤون الحياة، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاماً قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل مايحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
ب- السنّة المطهرة:
هي المصدر الثاني الذي يستمد منه الدستور الاسلامي أصوله ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن( ).
إن دولة الصديق خضعت للشريعة وأصبحت سيادة الشريعة الاسلامية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون وأعطت لنا صورة مضيئة مشرقة على أن الدولة الاسلامية دولة شريعة، خاضعة بكل أجهزتها لأحكام هذه الشريعة، والحاكم فيها مقيد بأحكامها لايتقدم ولايتأخر عنها( ).
ففي دولة الصديق وفي مجتمع الصحابة، الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم ولهذا قيد الصديق طاعته التي طلبها من الأمة بطاعة الله ورسوله، لئن رسول الله ? قال: (لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف)( ).
3- حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته:
قال ابوبكر ?: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني( ).
فهذا الصديق يقرّ بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه وإلزامه بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي( )، وقد أقرّ الصديق في بداية خطابه للأمة أن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة، وأنه لايستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره؛ لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وان آخر رسول كان يتلقى الوحى انتقل الى جوار ربه، وقد كانت له سلطة دينية مستمدة من عصمته كنبي ومن صفته كرسول يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته ? وبعد وفاته ? أصبح الحكم والسلطة مستمدة من عقد البيعة وتفويض الأمة له( ).
إن الأمة في فقه أبي بكر لها إدارة حية واعية لها القدرة على المناصرة والمناصحة والمتابعة والتقويم، فالواجب على الرعية نُصرة الإمام الحاكم بما أنزل الله ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين والجهاد، ومن نصرة الامام ألا يهان، ومن معاضدته أن يحترم، وأن يكرّم فقوامته على الأمة وقيادته لها لإعلاء كلمة الله، تستوجب تبجيله وإجلاله وإكرامه وتبجيله، إجلالاً وإكراماً لشرع الله الذي ينافع عنه ويدافع عنه. قال رسول الله ? : (إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير المغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)( )، والأمة واجب عليها أن تُناصح ولاة أمرها قال ?: (الدين النصحية
-ثلاثاً-) قال الصحابة: لمن يارسول الله؟ قال: (لله -عز وجل- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)( )، ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق ? وترجمت ذلك الى لجان متخصصة ومجالس شورية، تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرره، والشيء المحزن أن كثيراً من الدول الاسلامية تعرض عن هذا النظام الحكيم، فعظم مصيبتها في تسلط الحكام وجبروتهم، والتخلق الذي يعم معظم ديار المسلمين ماهو إلا نتيجة لتسلط بغيض، (ودكتاتورية) لعين، أماتت في الأمة روح التناصح والشجاعة، وبذرت فيها، وزرعت بها الجبن والفزع إلا من رحم ربي، وأما الأمة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته تأخذ بأسباب القوة والتمكين في الأرض، فتنطلق الى آفاق الدنيا تبلغ دعوة الله( ).
4- إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس:
قال أبو بكر ?: الضعيف فيكم قوي عندى حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله( ).
إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم ومن أهم هذه القواعد، الشورى والعدل، والمساواة والحريات، ففي خطاب الصديق للأمة أقرّ هذه المبادئ، فالشورى تظهر في طريقة اختياره وبيعته وفي خطبته في المسجد الجامع، بمحضر من جمهور المسلمين وأما عدالته فتظهر في نص خطابه ولاشك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي فلاوجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولايعرف العدل.
إن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل( ) قال الفخر الرازي -رحمه الله- أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل( ).
وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية. إن من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته، بكافة أشكاله وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهد أو مال وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الإجتماعية فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق، ولايهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء عمالاً أو أصحاب عمل( )، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة المائدة، آية:Cool.
لقد كان الصديق ? قدوة في عدله يأسر القلوب ويبهر الألباب، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام فيه تفتح قلوب الناس للإيمان، لقد عدل بين الناس في العطاء، وطلب منهم أن يكونوا عوناً له في هذا العدل، وعرض القصاص من نفسه في واقعة تدل على العدل والخوف من الله سبحانه( )، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص ?: أن أبا بكر الصديق ? قام يوم جمعة فقال: إذا كنا بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسمها، ولايدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام وقال: استقد .. فقال عمر: والله لايستقد ولاتجعلها سنة، قال أبو بكر فمن لي من الله يوم القيامة؟ قال عمر: أرضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحلها وقطيفة وخمسة دنانير فأرضاه بها( ).
وأما مبدأ المساواة الذي أقره الصديق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات، آية:13).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء( )، وجاءت ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك حيث يقول: وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه( ).
وكان ? ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل مافيه سواسية بين الناس، فقد روى ابن سعد وغيره أن أبا بكر ?، كان له بيت مال بالسُّنح معروف، ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لايخاف عليه، قيل له: ولم؟ قال: عليه قفل! وكان يعطي مافيه حتى لايبقى فيه شيئاً، فلما تحوّل إلى المدينة حوّله معه فجعله في الدار التي كان فيها، وقدم عليه مال من معدن من معادن جُهينة، فكان كثيراً، وانفتح معدن بني سليم في خلافته، فقدم عليه منه بصدقة فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه بين الناس سوّياً، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على السواء. قالت عائشة رضي الله عنها: فأعطى أول عام الحرّ عشرة والمملوك عشرة، وأعطى المرأة عشرة، وأمتها عشرة، ثم قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين، فجاء ناس من المسلمين فقالوا: ياخليفة رسول الله: إنك قسمت هذا المال فسوّيت بين الناس، ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل. فقال: أما ماذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك وإنما ذلك شئ ثوابه على الله جلّ ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة( ) فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التسوية بين الناس، وقد ناظر الفاروق عمر ? أبا بكر في ذلك فقال: أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ للراكب.
ورغم أن عمر ? غيّر في طريقة التوزيع فجعل التفضيل بالسابقة إلى الإسلام والجهاد إلا أنه في نهاية خلافته قال: لو استقبلت من أمري مااستدبرت لرجعت إلى طريقة أبي بكر فسويت بين الناس( ).
وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح، فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة كساء مخمل) أتى بها من البادية، ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء وقد بلغ المال الذي ورد على أبي بكر في خلافته مائتي ألف وزعت في أبواب الخير( ).
لقد اتبع ابو بكر ? المنهج الرباني في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس وراعى حقوق الضعفاء فرأى أن يضع نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم فيتبعهم بسمع مرهف وبصر حاد وإرادة واعية لاتستذلها عوامل القوة الأرضية فتملي كلمتها .. إنه الإسلام في فقه رجل دولته النابه الذي قام يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة( ).
لقد قام الصديق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية، فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصديق سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (سورة النحل، آية:90).
أكان أبو بكر يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم، وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم الطمأنينة للمسلمين ماقام الحاكم فيهم على أساس من العدل المجرد عن الهوى.
والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو فوق كل اعتبار شخصي وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات، والتجرد لله تجرداً مطلقاً جعله يشعر بضعف الضعيف، وحاجة المجتمع ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه، وأهله، ثم يتتبع أمور الدولة جليلها، ورقيقها بكل ما أتاه الله من يقظة وحذر( ).
وبناء على ماسبق يرفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف آمن على حقه، وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل، فهو به قوي لايمنع حقه ولايضيع، والقوي حين يظلم يردعه الحق، وينتصف منه للمظلوم، فلا يحتمي بجاه أو سلطان أو قرابة لذي سطوة أو مكانة، وذلك هو العز الشامخ، والتمكين الكامل في الأرض( ).
وما أجمل ماقاله ابن تيمية رحمه الله: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولاينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة،... بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال( ).
5-الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم:
قال أبو بكر ?: الصدق أمانة والكذب خيانة( ) أعلن الصديق ? مبدأ أساسياً تقوم عليه خطته في قيادة الأمة وهو: أن الصدق بين الحاكم والأمة هو أساس التعامل، وهذا المبدأ السياسي الحكيم له الأثر الهام في قوة الأمة حيث ترسيخ جسور الثقة بينها وبين حاكمها إنه خلق سياسي منطلق من دعوة الإسلام إلى الصدق قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (سورة التوبة، آية:119) ومن التحذير منه كقول رسول الله ?: ثلاثة لايكلمهم الله يوم القيامة ولايزكيهم ولاينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر( ).
فهذه الكلمات (الصدق أمانة) اكتست بالمعاني، فكأن لها روحاً تروح بها وتغدو بين الناس، تلهب الحماس، وتصنع الأمل، (والكذب خيانة) وهكذا يأبى أبو بكر إلا أن يمس المعاني، فيسمي الأشياء بأسمائها، فالحاكم الكذاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز الأمة ثم يخدعها، فما أتعس حاكم يتعاطى الكذب فيسميه بغير اسمه، لقد نعته الصديق بالخيانة، وأنه عدو أمته الأول .. وهل بعد الخيانة من عداوة؟ حقا لازال الصديق يطل على الدنيا من موقفه هذا فيرفع أقواماً ويسقط آخرين! .. وتظل صناعة الرجال أرقى فنون الحكم! إذ هم عدة الأمة ورصيدها الذي تدافع به عن نفسها ملمات الأيام، ولاشك أن من تأمل كلمات أبي بكر تلك أصدقته الخبر بأن الرجل كان رائداً في هذا الفن الرفيع، فقد كان يسير على النهج النبوي الكريم( ) إن شعوب العالم اليوم تحتاج إلى هذا المنهج الرباني في التعامل بين الحاكم والمحكوم لكي تقاوم أساليب تزوير الانتخابات وتلفيق التهم، واستخدام الإعلام وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون الحكام أو ينتقدونهم، ولابد من إشراف الأمة على التزام الحكام بالصدق والأمانة من خلال مؤسساتها التي تساعدها على تقويم ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا( )، فتمنعهم من سرقة إرادتها، وشرفها، وحريتها وأموالها.
6-إعلان التمسك بالجهاد وإعداد الأمة لذلك:
قال أبو بكر ?: وماترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل( )، لقد تلقى أبو بكر تربيته الجهادية مباشرة من نبيه وقائده العظيم ?، تلقاها تربية حية في ميادين الصراع بين الشرك والإيمان، والضلال والهدى، والشر والخير ولقد ذكرت مواقف الصديق في غزوات الرسول ?، ولقد فهم الصديق ? من حديث رسول الله ?: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم( )، إن الأمة تصاب بالذل إذا تركت الجهاد فلذلك جعل الصديق الجهاد إحدى حقائق الحكم في دولته( )، ولذلك حشد طاقات الأمة من أجل الجهاد، لكي يرفع الظلم عن المظلومين ويزيل الغشاوة عن أعين المقهورين ويعيد الحرية للمحرومين، وينطلق بدعوة الله في آفاق الأرض يزيل كل عائق ضدها.
7-إعلان الحرب على الفواحش:
قال أبو بكر ?: ولاتشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء( )، والصديق هنا يذكر الأمة بقول النبي ?Sad لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا...)( ) إن الفاحشة هي داء المجتمع العضال الذي لادواء له، وهي سبيل تحلله وضعفه حيث لاقداسة لشيء، فالمجتمع الفاحش لايغار ويقر الدنية ويرضاها، إنه مجتمع الضعف والعار والأوجاع والأسقام، وحال الناس أدل شاهد. لقد وقف أبو بكر يحفظ قيم الأمة وأخلاقها( )، فقد حرص في سياسته على طهر الأمة ونقائها، وبعدها عن الفواحش ماظهر منها ومابطن، وهو ? يريد بذلك أمة قوية لاتشغلها شهواتها، ولايضلها شيطانها، لتعيش أمة منتجة تعطي الخير، وتقدم الفضل لكل الناس.
إن علاقة الأخلاق بقيام الدول وظهور الحضارة علاقة ظاهرة، فإن فسدت الأخلاق، وخربت الذمم، ضاعت الأمم، وعمها الفساد والدمار والدارس لحياة الأمم السابقة والحضارات السالفة بعين البصيرة، يدرك كيف قامت حضارات على الأخلاق الكريمة والدين الصحيح كالحضارة التي قامت في زمن داود وسليمان عليه السلام والتي قامت في زمن ذي القرنين وكثير من الأمم التي التزمت بالقيم والأخلاق فظلت قوية طالما حافظت عليها، فلما دب سوس الفواحش إليها استسلمت للشياطين، وبدلت نعمة الله كفراً، وأحلت قومها دار البوار، فزالت قوتها، وتلاشت حضارتها( ) إن الصديق ? استوعب سنن الله في المجتمعات وبناء الدول وزوالها وفهم أن زوال الدول يكون بالترف والفساد والإنغماس في الفواحش والموبقات قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (سورة الإسراء، آية:16). أي أمرناهم بالأمر الشرعي من فعل الطاعات وترك المعاصي فعصوا وفسقوا فحق عليهم العذاب والتدمير جزاء فسقهم وعصيانهم. وفي قراءة {أمّرنا}( ) بالتشديد أي جعلناهم أمراء. والترف وإن كان كثرة المال والسلطان من أسبابه إلا أنه حالة نفسية ترفض الإستقامة على منهج الله وليس كل ثراء ترف( ).
إن سياسة الصديق في حربه للفواحش حرى بحكام المسلمين أن يقتدوا به، فالحاكم التقي الذكي العادل هو الذي يربي أمته على الأخلاق القويمة لأنه حينئذ سيقود شعباً أحس طعم الآدمية، وجرى في عروقه دم الإنسانية.. وأما إن سلب الحاكم الذكاء، وصار من الأغبياء.. أشاع الفاحشة في قومه وعمل على حمايتها بالقوة والقانون، وحارب القيم والأخلاق الحميدة ودفع بقومه إلى مستنقعات الرذيلة ليصبحوا كالحيوانات الضالة، والقطعان الهائمة لاهم لها إلا المتاع، والزينة الخادعة، فيصبحوا بعد ذلك أقزاماً، قد ودّعوا الرجولة والشهامة( ) ويصدق فيهم قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (سورة النحل، آية:112).
هذه بعض التعليقات التي فتح الله بها بما ترى على البيان الذي ألقاه الصديق للأمة والذي رسم فيه سياسة الدولة، فحدد مسؤولية الحاكم ومدى العلاقة بينه وبين المحكومين وغير ذلك من القواعد المهمة في بناء الدولة وتربية الشعوب وهكذا قامت الخلافة الإسلامية، وتحدد مفهوم الحكم تحديداً عملياً وكان حرص الأمة على منصب الخلافة واختيار الخليفة على هذه الصورة ومسارعة الناس إلى الرضا بذلك دليلاً على أنهم كانوا يسلمون بأن النظام الذي أنشأه النبي عليه الصلاة والسلام واجب البقاء، وأن النبي ? وإن مات فإنه خلف فيهم دينا وكتابا يسيرون على هديه فرضاء الناس يومئذ يعبر عن إرادة الاستمرار في ظل النظام الذي أنشأه النبي ?( ).
إن حكومة الصديق ? تمتع بها المسلمون زمناً ليس بكثير وعيَّن أبو بكر حد السلطة العليا فيها بتلك الخطبة الراقية على مستوى أنظمة الحكم في ذلك العصر وفي هذا الزمن فهي حكومة شورية قل أن يجد طلاب الحرية والعدل في كل عصر أحسن لسياسة الأمم منها( ) قادها التلميذ الأنجب والأذكى والأعلم والأعظم ايماناً للحبيب المصطفى ? أبو بكر ?.
وقد بين الإمام مالك بأنه لايكون أحد إماماً أبداً إلا على هذا الشرط( ) يقصد بالمضامين العظيمة التي ألقاها الصديق في بيانه السياسي الأول.
ثانياً: إدارة الشؤون الداخلية:
أراد الصديق ? أن ينفذ السياسة التي رسمها لدولته واتخذ من الصحابة الكرام أعواناً يساعدونه على ذلك، فجعل أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة (وزير المالية) فأسند إليه شؤون بيت المال، وتولى عمر بن الخطاب القضاء (وزارة العدل) وباشر الصديق القضاء بنفسه أيضاً، وتولى زيد بن ثابت الكتابة (وزير البريد والمواصلات)( ) وأحياناً يكتب له من يكون حاضر من الصحابة كعلي بن أبي طالب أو عثمان بن عفان رضي الله عنهم، وأطلق المسلمون على الصديق لقب خليفة رسول الله ورأى الصحابة ضرورة تفريغ الصديق للخلافة، فقد كان أبو بكر ? رجلاً تاجراً يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع فلما استُخلف أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد ياخليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقالاSadانطلق معنا حتى نفرض لك شيئاً. فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاه( )، وجاء في الرياض النضرة أن رزقه الذي فرضوه له خمسون ومائتا دينار في السنة وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارِعها، فلم يكن يكفيه ذلك ولاعياله، قالوا وقد كان قد ألقى كل دينار ودرهم عنده في بيت مال المسلمين، فخرج إلى البقيع فتصافق (بايع) فجاء عمر ? فإذا هو بنسوة جلوس، فقالSadماشأنكن؟) قلن: نريد خليفة رسول الله ? يقضي بيننا، فانطلق فوجده في السوق فأخذه بيده فقالSadتعالى هاهنا). فقال: لاحاجة لي في إمارتكم( )، رزقتموني مالايكفيني ولاعيالي قالSad فإنّا نزيدك). قال أبو بكرSadثلاثمائة دينار والشاة كلها) قال عمر: أما هذا فلا، فجاء علي ? وهما على حالهما تلك، قالSadأكملها له) قالSadترى ذلك؟) قال: نعم، قالSadقد فعلنا)( ) وانطلق أبوبكر ? فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: (أيها الناس إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارِعُها وإن عمر وعلياً كمّلا لي ثلاثمائة دينار والشاة أفرضيتم؟ قال المهاجرونSadاللهم نعم قد رضينا)( ).
وهكذا وقف الصحابة في فهمهم الراقي لولاية الدين وأمانة الحكم يفرضون لإمامهم رزقاً يغتني به عن التجارة بعد إذ صار عاملاً للأمة تملك منه الوقت والجهد والفكر .. ومن ثم يقررون معنى في الإسلام بديعاً يفصل الذمة المالية للأمة عن ذمة الحاكم.
هذا المعنى الذي لم يعرفه الغرب إلا في عهوده القريبة، إذ ظلت راية مالقيصر لقيصر مشرعة خفاقة يقاتل الناس دونها أزماناً طويلة، إن أصدق تعبير نقف به على دخول الذمة المالية للدولة بأسرها في ذمة الحاكم لهو مقالة لويس الخامس عشر (أنا الدولة والدولة أنا) لقد كان لويس تاجر غلال معروفاً يتجر في قوت أمته وهي تتضور جوعاً ثم لايرى أحد في ذلك شيئاً من العار .. أليس هو الأصل والأمة فرع عنه؟( ).
اين البشرية اليوم من أولئك الصحابة رضوان الله عليهم؟ فإن الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاءون، ويتصرفون كما يريدون، كما أصبحت لهم نفقات مستورة لاحصر لها، وفوق هذا فقد تكدست لهم الأموال في المصارف خارج البلاد، حتى غدت دول أجنبية تعيش على هذه الأموال لكثرتها وأكثرها يعود إلى الحكام وأمراء الشعوب المستضعفة، مع أنه قد ظهر أن هذه الأموال مهما بلغت، والعقارات مهما كثرت، فإنها لاتكفي شيئاً، ولاتغني صاحبها شيئاً، فإن شاه إيران مع ضخامة ما يملك لم يجد أرضاً تقبله ليأوي إليها هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر أشد والحساب عظيم( ).
فعلى حكام المسلمين أن يقتدوا بهذا الصحابي الجليل الذي أدار دولة الإسلام بعد وفاة الرسول ?، فما أجمل قوله ?: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه( ).
إن الصديق يؤكد معاني بديعة، فولاية الدين ليست في حد ذاتها مغنما، أما مايفرض لها من رزق فلما تقضي إليه من اشتغال عامل الأمة عن أمر نفسه( ).
لقد سطر الصديق والصحابة الكرام صفحات رائعة في جبين الزمن، حتى أن البشرية تسعى في سلم التطور وتسعى ثم إذا هي قابعة عند أقدامهم( ).
سار الصديق في بناء دولة الإسلام بجد ونشاط واهتم بالبناء الداخلي، ولم يترك أي ثغرة يمكن أن تؤثر في ذلك البناء الشامخ الذي تركه رسول الله ?، فاهتم بالرعية وله مواقف مشرفة في هذا الباب، وأعطى للقضاء اهتماماً خاصاً، وتابع أمر الولاة وسار على المنهج النبوي الكريم في كل خطواته
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:08 pm

وإليك شيء من التفصيل عن تلك السياسة الرشيدة:
1-الصديق في المجتمع:
عاش الصديق ? بين المسلمين كخليفة لرسول الله ?، فكان لايترك فرصة تمر إلا علم الناس وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فكانت مواقفه تشع على من حوله من الرعية بالهدى والإيمان والأخلاق فمن هذه المواقف:
أ-حلبه للأغنام، والعجوز العمياء، وزيارة أم أيمن:
كان قبل الخلافة يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لايحلب لنا منايح (أغنام) دارنا فسمعها أبو بكر فقال: لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني مادخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهنَّ، وكنَّ إذا أتينه بأغنامهنّ يقول: أنضح أم ألبد؟ فإن قالت انضح باعد الإناء من الضرع حتى تشتد الرغوة، وإن قالت ألبد أدناه منه حتى لاتكون له رغوة، فمكث كذلك بالسُّنح ستة أشهر ثم نزل إلى المدينة( ).
ففي هذا الخبر بيان شيء من أخلاق أبي بكر الصديق ?، فهذا تواضع كبير من رجل كبير، كبير في سنه، وكبير في منزلته وجاهه، حيث كان خليفة المسلمين، وكان حريصاً على أن لاتغير الخلافة شيئاً من معاملته للناس وإن كان ذلك سيأخذ عليه وقتا هو بحاجة إليه، كما أن هذا العمل يدلنا على مقدار تقدير الصحابة رضي الله عنهم لأعمال البر والإحسان وإن كلفتهم الجهد والوقت( ).
هذا أبو بكر ? غلب بعزيمته الصادقة، وثباته العجيب الجزيرة العربية، وأخضعها لدين الله، ثم بعث بها فقاتلت تحت ألويته الدولتين الكبريين على وجه الأرض، وغلبت عليها. أبو بكر.. يحلب لجواري الحي أغنامهنّ، ويقول: أرجو أن لايغيرني مادخلت فيه. وليس الذي دخل فيه بالأمر الهين، بل هو خلافة رسول الله، وسيادة العرب، وقيادة الجيوش التي ذهبت لتقلع من الأرض الجبروت الفارسي، والعظمة الرومانية، وتنشئ مكانهما صرح العدل، والعلم والحضارة، ثم يرجو ألاّ يغيره هذا كله، ولايمنعه من حلب أغنام الحيِّ( ).
إن من ثمار الإيمان بالله تعالى أخلاق حميدة منها خلق التواضع الذي تجسد في شخصية الصديق في هذا الموقف وفي غيره من المواقف وكان عندما يسقط خطام ناقته ينزل ليأخذه فيقال له: لو أمرتنا أن نناولكه، فيقول: أمرنا رسول الله ? ألا نسأل الناس شيئاً( )، لقد ترك لنا الصديق مثالاً حياً في فهم وتطبيق خلق التواضع المستمد من قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (سورة القصص، آية:40) ومن قوله ?: (مانقصت صدقة من مال، ومازاد الله عبداً بعفو إلا عزا، وماتواضع أحد لله إلا رفعه الله)( ). ولقد دفعه هذا الخلق إلى خدمة المسلمين وبخاصة أهل الحاجة منهم والضعفاء فعن أبي صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب كان يتعهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ماأرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها –فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة( )، وعن أنس بن مالك ?: قال أبو بكر ? بعد وفاة رسول الله ? لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله ? يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا مايبكيك؟ ماعند الله خير لرسول الله ?، فقالت: ما أبكي أن أكون أعلم أن ماعند الله خير لرسول الله ?، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها( ).
ب-نصحه لأمرأة نذرت أن لاتحدث أحداً:
كان أبو بكر ? ينهى عن أعمال الجاهلية، والابتداع في الدين، ويدعو إلى إلى أعمال الإسلام، والتمسك بالسنّة( )، فعن قيس بن أبي حازم: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس( )، يقال لها زينب، فرآها لاتتكلم. فقال أبو بكر: مالها لاتتكلم؟ قالوا: نوت حجه مصمتة( ) فقال لها: تكلمي، فإن هذا لايحل،( ) هذا من عمل الجاهلية. قال: فتكلمت، فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين. قالت: أيُّ المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: من أيِّ قريش أنت؟ قال: إنك لسؤول، أنا أبو بكر. قالت: ياخليفة رسول الله: مابقاؤنا على هذا الأمر الصالح، الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ فقال: بقاؤكم عليه مااستقامت به أئمتكم.
قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟
قالت: بلى قال: فهم أولئك على الناس( ).
قال الخطابي رحمه الله: كان من نسك الجاهلية الصمت، فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة، ويصمت، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالنطق بالخير، وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن لايتكلم استحب له أن يتكلم، ولاكفارة عليه، لأن أبا بكر لم يأمرها بالكفارة، وقياسه أن من نذر أن لايتكلم لم ينعقد نذره، لأن أبا بكر أطلق أن ذلك لايحل، وأنه من فعل الجاهلية، وأن الإسلام هدم ذلك، ولايقول مثل هذا إلا عن علم من النبي ? فيكون في حكم المرفوع( ).
وقال ابن حجر: وأما الأحاديث الواردة في الصمت وفضله، فلايعارض لاختلاف المقاصد في ذلك، فالصمت المرغب فيه: ترك الكلام بالباطل، وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك، والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطرفين، والله أعلم( ).
جـ-اهتمامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
كان الصديق ? يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويبين للناس ما التبس عليهم من الفهم فعن قيس بن أبي حازم قال سمعت أبا بكر الصديق يقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم) إني سمعت رسول الله ? يقول: إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه عمهم الله بعقاب. وفي رواية: يا أيها الناس إنكم تقرؤن هذه الآية، وتضعونها على غير مواضعها، وإنا سمعنا النبي ? يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب( ) قال النووي: وأما قوله تعالى{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية. فليس مخالفاً لوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ماكلفتم به فلايضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإذا فعله، ولم يمتثل المخاطب فلاعتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ماعليه( ).
وكان ? يحث الناس على الصواب، فعن ميمون بن مهران أن رجلاً سلّم على أبي بكر فقال: السلام عليك ياخليفة رسول الله. قال: من بين هؤلاء أجمعين( )، وكان ? يترك السنة مخافة أن يظن مالاعلم له أنها فريضة أو واجبة، فعن حذيفة بن أسيد ? أنه قال: رأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وما يضحيان مخافة أن يستن بهما وفي رواية: كراهية أن يقتدي بهما( )، وكان يوصي ابنه عبدالرحمن بحسن المعاملة لجيرانه، فقد قال له ذات يوم وهو يخاصم جاراً له: لاتماظ جارك، فإنّ هذا يبقى ويذهب الناس( )، وكان باراً بوالده فلما اعتمر في رجب سنة اثنتي عشر من الهجرة، دخل مكة ضحوة فأتى منزله وأبوه أبو قحافة جالس على باب داره، معه فتيان يحوشهم، فقيل له: هذا ابنك فنهض قائماً، وعجل أبو بكر أن ينيخ ناقته فنزل عنها وهي قائمة –ليقابل أباه في بر وطاعة، وجاء الناس يسلمون عليه، فقال أبو قحافة ياعتيق هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم فقال أبو بكر: يا أبة لاحول ولاقوة إلا بالله، طوقت أمراً عظيماً لاقدرة لي به ولايدان إلا بالله ..)( ) وكان يهتم بالصلاة والخشوع فيها ويحرص على حسن العبادة، وكان لايلتفت في صلاته( )، وكان أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزبير، وأخذها ابن الزبير من أبي بكر، وأخذها أبو بكر من النبي ?، وكان عبدالرزاق يقول: مارأيت أحداً أحسن صلاة من ابن جريج( )، وعن أنس ? قال: صلى أبو بكر بالناس الفجر فاقترأ البقرة في ركعتيه، فلما انصرف قال له عمر: ياخليفة رسول الله ماانصرفت حتى رأينا أن الشمس قد طلعت قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين( )، وكان يحث الناس على الصبر في المصائب ويقول لمن مات له أحد: ليس مع العزاء مصيبة ولامع الجزع فائدة، الموت أهون مما قبله وأشدُّ مما بعده، اذكروا فقد رسول الله تصغر مصيبتكم، وعظم الله أجركم( )، وعزّى عمر ? عن طفل أصيب به فقال: عوَّضك الله منه ماعوضك منك( )، وكان ? يحذر الناس من البغي، والنكث، والمكر ويقول ثلاث من كُنَّ فيه كُنَّ عليه: البغي، والنكث والمكر( ) وكان يعظ الناس ويذكرهم بالله ومن مواعظه ?: الظلمات خمس والسُّرُج خمس: حب الدنيا ظلمة والسراج له التقوى، والذنب ظلمة والسراج له التوبة، والقبر ظلمة والسراج له لا إله إلا الله محمد رسول الله، والآخرة ظلمة والسراج لها العمل الصالح، والصراط ظلمة والسراج لها اليقين( )، وكان ? من خلال منبر الجمعة يحث على الصدق والحياء ويحث على الاعتبار والاستعداد للقدوم على الله ويحذر من الغرور، فعن أوسط بن اسماعيل رحمه الله قال: سمعت أبا بكر الصديق ? يخطب بعد وفاة رسول الله بسنة فقال: قام فينا رسول الله ? مقامي هذا عام أول، ثم بكى أبو بكر ثم قال: وفي رواية، ثم ذرفت عيناه، فلم يستطيع من العبرة أن يتكلم، ثم قال: أيها الناس: اسألوا الله العافية، فإنه لم يعط أحد خير من العافية بعد اليقين، وعليكم بالصدق فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار ولاتقاطعوا ولاتدابروا، ولاتباغضوا، ولاتحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً( )، وقال الزبير بن العوام ?: إن أبا بكر قال وهو يخطب الناس: يامعشر المسلمين: استحيوا من الله عزوجل، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب الغائط في الفضاء متقنعاً بثوبي استحياء من ربي عزوجل( ) وعن عبدالله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر ? فقال: أما بعد:
فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاح بالمسألة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، فاشترى القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لاتفنى عجائبه، ولايطفأ نوره، فصدقوا قوله، وانتصحوا كتابه، واستوضئوا منه ليوم الظلمة، فإنما خلقكم للعبادة، ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ماتفعلون ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيّب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم وأنتم في عمل لله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم فيردكم إلى أسوأ أعمالكم، فإن أقواماً جعلوا آجالهم لغيرهم، ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا مثلهم. فالوحا الوحا( )، ثم النجا النجا، فإن وراءكم طلباً حثيثاً مَرُّهُ( ) سريع وفي رواية أخرى: أين من تعرفون من إخوانكم؟! ومن أصحابكم؟! قد وردوا على ماقدموا، قدموا ماقدموا في أيام سلفهم، وحلوا فيه بالشقوة والسعادة. أين الجبارون الذين بنوا المدائن، وحففوها بالحوائط، قد صاروا تحت الصخر والآبار. أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك وأين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدهر، فأصبحوا في ظلمات القبور. لاخير في قول لايراد به وجه الله، ولاخير في مال لاينفق في سبيل الله، ولاخير فيمن يغلب جهله حلمه، ولاخير فيمن يخاف في الله لومة لائم.
إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيراً، ولايصرفه عن سوءاً، إلا بطاعته واتباع أمره، وإنه لاخير بخير بعده النار، ولاشر بشر بعده الجنة، واعلموا أنكم ما أخلفتم لله عزوجل فربكم أطعتم، وحقكم حفظتم، وأوصيكم بالله لفقركم وفاقتكم أن تتقوه، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تستغفروه إنه كان غفاراً، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم( ).
وهكذا كان الصديق يهتم بالمجتمع فيوعظ المسلمين، ويحثهم على الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا غيظ من فيظ، وقليل من كثير.
2-القضاء في عهد الصديق:
يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه، فكان العهد الراشدي عامة، والجانب القضائي خاصة، امتداداً للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ماثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه، وتظهر أهمية العهد الراشدي في القضاء بأمرين أساسيين:
• المحافظة على نصوص العهد النبوي في القضاء، والتقيد بما جاء فيه، والسير في ركابه، والاستمرار في الالتزام به.
• وضع التنظيمات القضائية الجديدة لترسيخ دعائم الدولة الإسلامية الواسعة ومواجهة المستجدات المتنوعة( ).
كان أبو بكر ? يقضي بنفسه إذا عرض له قضاء، ولم تفصل ولاية القضاء عن الولاية العامة في عهده، ولم يكن للقضاء ولاية خاصة مستقلة كما كان الأمر في عهد رسول الله ?، إذ كان الناس على مقربة من النبوة، يأخذون أنفسهم بهدي الإسلام، وتقوم حياتهم على شريعته، وقلما توجد بينهم خصومة تذكر، ففي المدينة عهد أبو بكر إلى عمر بالقضاء، ليستعين به في بعض الأقضية ولكن هذا لم يعطي لعمر صفة الاستقلال بالقضاء( )، وأقر أبو بكر ? معظم القضاة والولاة الذين عينهم رسول الله واستمروا على ممارسة القضاء والولاية أو أحديهما في عهده( ) وسوف نأتي على ذكر الولاة وأعمالهم بإذن الله تعالى.
وأما مصادر القضاء في عهد الصديق ? هي:
1-القرآن الكريم.
2-السنة النبوية ويندرج فيها قضاء رسول الله ?.
3-الإجماع، باستشارة أهل العلم والفتوى.
4-الاجتهاد والرأي، وذلك عند عدم وجود مايحكم به من كتاب أو سنة أو إجماع( ).
فكان ابو بكر ? إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه مايقضي به قضى، فإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله ?، فإن وجد فيها مايقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس، هل علمتم أن رسول الله ? قضى فيه بقضاء، فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا أو بكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله، يقول عندئذ: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به( )، ويظهر أن الصديق يرأى الشورى ملزمة إذا اجتمع رأي أهل الشورى على أمر، إذ لايجوز للإمام مخالفتهم وهذا ماحكى عنه في القضاء فإنه كان إذا اجتمع رأي المستشارين على الأمر قضى به وهذا ماأمر به عمرو بن العاص عندما أرسل إليه خالد بن الوليد مدداً حيث قال له: شاورهم ولاتخالفهم( )، وكان ? يتثبت في قبول الأخبار، فعن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله تعالى شيئاً، وماعلمت أن رسول الله ? ذكر لك شيئاً، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله ? يعطيها السدس فقال أبو بكر: هل معك أحد؟ فشهد ابن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر ?( )، وكان يرأى أن القاضي لايحكم بعلمه الشخصي، إلا إذا كان معه شاهد آخر يعزز هذا العلم، فقد روي عن أبي بكر ? أنه قال: لو رأيت رجلاً على حد، لم أعاقبه حتى تقوم البينة عليه، أو يكون معي شاهد آخر( )، وهذه بعض الأقضية التي صدرت في عهد أبي بكر ?:
أ-قضيه قصاص:
قال علي بن ماجدة السهمي: قاتلت رجلاً، فقطعت بعض أذنه، فقدم أبو بكر حاجا، فرفع شأننا إليه، فقال لعمر: انظر هل بلغ أن يقتص منه، قال: نعم، عليَّ بالحجّام، فلما ذكر الحجام قال أبو بكر: سمعت رسول الله ? يقول: إني وهبت لخالتي غُلاما، أرجو أن يبارك لها فيه، وإني نهيتها أن تجعله حجاماً، أو قصّاباً، أو صانعاً( ).
2-نفقة الوالد على الولد:
عن قيس بن حازم قال: حضرت أبا بكر الصديق ?، فقال له رجل: ياخليفة رسول الله: هذا يريد أن يأخذ مالي كله ويجتاحه، فقال أبو بكر ?: إنما لك من ماله مايكفيك، فقال: ياخليفة رسول الله ?، أليس قال رسول الله ?: أنت ومالك لأبيك؟ فقال أبو بكر ?: ارض بما رضي الله به، ورواه غيره عن المنذر بن زياد، وقال فيه: إنما يعني بذلك النفقة( ).
3-الدفاع المشروع:
عن أبي مليكة عن جده أن رجلاً عضَّ يد رجل فأنذَرَ ثنيته (قلع سنه) فأهدرها أبو بكر( ).
4-الحكم بالجلد:
روى الإمام مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته: أن أبا بكر الصديق أتى برجل قد وقع على جارية بكر فأحبلها، ثم اعترف على نفسه بالزنا، ولم يكن أحصن، فأمر به أبو بكر فجلد الحدَّ، ثم نُفي إلى فدك( )، وفي رواية بأنه لم يجلد الجارية ولم ينفها لأنها استكرهت، ثم زوجها إياه أبو بكر وأدخله عليها( )، وعندما سئل الصديق عن رجل زنى بامرأة، ثم يريد أن يتزوجها قال: مامن توبة أفضل من أن يتزوجها، خرجا من سفاح إلى نكاح( ).
5-الحضانة للأم مالم تتزوج:
طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية-أم ابنه عاصم- فلقيها تحمله بمُحَسِّر( )، ولقيه قد فُطم ومشى، فأخذ بيديه لينتزعه منها، ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى، وقال: أنا أحق بإبني منك. فاختصمها إلى أبي بكر، فقضى لها به، وقال: ريحها، وحِجْرُها وفرشها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه( ) وفي رواية: هي أعطف وألطف وأرحم وأحْنا وأرأف، وهي أحق بولدها مالم تتزوج( ).
هذه بعض الأقضية والأحكام التي حدثت في عهد الصديق ? هذا وقد تميز القضاء في عهد الصديق بعدة أمور منها:
أ-كان القضاء في عهد الصديق امتداداً لصورة القضاء في العهد النبوي، بالالتزام به، والتأسي بمنهجه، وانتشار التربية الدينية، والإرتباط بالإيمان والعقيدة والاعتماد على الوازع الديني، والبساطة في سير الدعوى، واختصار الإجراءات القضائية، وقلة الدعاوى والخصومات.
ب- اصبحت الأحكام القضائية في عصر الصديق موئل الباحثين، ومحط الأنظار للفقهاء، وصارت الأحكام القضائية، مصدراً للأحكام الشرعية، والاجتهادات القضائية، والآراء الفقهية في مختلف العصور.
جـ-مارس الصديق وبعض ولاته النظر في المنازعات، وتولي القضاء بجانب الولاية.
د-ساهمت فترة الصديق في ظهور مصادر جديدة للقضاء في العهد الراشدي، وصارت مصادر الأحكام القضائية هي: القرآن الكريم، والسنة الشريفة، الإجماع، القياس، السوابق القضائية، الرأي الاجتهادي مع المشورة( ).
هـ-كانت آداب القضاء مرعية في حماية الضعيف، ونصرة المظلوم، والمساواة بين الخصوم وإقامة الحق والشرع على جميع الناس، ولو كان الحكم على الخليفة أو الأمير أو الوالي، وكان القاضي في الغالب يتولى تنفيذ الأحكام، إن لم ينفذها الأطراف طوعاً واختياراً، وكان التنفيذ عقب صدور الحكم فوراً( ).
3-الولاية على البلدان:
كان أبو بكر يستعمل الولاة في البلدان المختلفة ويعهد إليهم بالولاية العامة في الإدارة والحكم والإمامة، وجباية الصدقات، وسائر أنواع الولايات، وكان ينظر إلى حسن اختيار الرسول للأمراء والولاة على البلدان فيقتدي به في هذا العمل، ولهذا نجده قد أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول وهم على ولايتهم، ولم يعزل أحداً منهم إلا ليعينه في مكان آخر أكثر أهمية من موقعه الأول ويرضاه كما حدث لعمرو بن العاص( ) وكانت مسؤوليات الولاة في عهد أبي بكر الصديق ? بالدرجة الأولى امتداداً لصلاحياتهم في عصر الرسول ? خصوصاً الولاة الذين سبق تعيينهم أيام الرسول ويمكن تلخيص أهم مسئوليات الولاة في عصر أبي بكر وهي:
أ-إقامة الصلاة وإمامة الناس وهي المهمة الرئيسية لدى الولاة نظراً لما تحمله من معان دينية ودنيوية سياسية واجتماعية حيث الولاة يؤمون الناس وعلى وجه الخصوص في صلاة الجمعة، والأمراء دائماً كانت توكل إليهم الصلاة سواء كانوا أمراء على البلدان أم أمراء على الأجناد.
ب-الجهاد كان يقوم به أمراء الأجناد في بلاد الفتح، فكانوا يتولون أموره ومافيه من مهام مختلفة بأنفسهم أو ينيبون غيرهم في بعض المهام كتقسيم الغنائم أو المحافظة على الأسرى، أو غير ذلك، وكذلك مايتبع هذا الجهاد من مهام أخرى كمفاوضة الأعداء وعقود المصالحة معهم وغيرها، ويتساوى في المهمات الجهادية أمراء الأجناد في الشام والعراق وكذلك الأمراء في البلاد التي حدثت فيها الردة كاليمن والبحرين وعمان ونجد، نظراً لوجود تشابه في العمليات الجهادية مع اختلاف الأسباب الموجهة لهذه العمليات.
ت-إدارة شؤون البلاد المفتوحة وتعيين القضاة والعمال عليها من قبل الأمراء أنفسهم، وبإقرار من الخليفة أبي بكر، أو تعيين من أبي بكر ?، عن طريق هؤلاء العمال( ).
جـ-أخذ البيعة للخليفة، فقد قام الولاة في اليمن وفي مكة والطائف وغيرها بأخذ البيعة لأبي بكر ? من أهل البلاد التي كانوا يتولون عليها.
ح-كانت هناك أمور مالية توكل إلى الولاة إو إلى من يساعدهم ممن يعينهم الخليفة أو الوالي لأخذ الزكاة من الأغنياء وتوزيعها على الفقراء أو أخذ الجزية من غير المسلمين وصرفها في محلها الشرعي وهي امتداد لما قام به ولاة الرسول في هذا الخصوص.
خ-تجديد العهود القائمة من أيام الرسول ? حيث قام والي نجران بتجديد العهد الذي كان بين أهلها وبين الرسول ? بناء على طلب نصارى نجران( ).
د-كانت من أهم مسؤوليات الولاة إقامة الحدود وتأمين البلاد وهم يجتهدون رأيهم فيما لم يكن فيه نص شرعي، كما فعل المهاجر بن أبي أمية بالمرأتين اللتين تغنتا بذم الرسول وفرحتا بوفاته وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى في جهاد الصديق لأهل الردة.
س-كان للولاة دور رئيسي في تعليم الناس أمور دينهم وفي نشر الإسلام في البلاد التي يتولون عليها وكان الكثير من هؤلاء الولاة يجلسون في المساجد يعلمون الناس القرآن والأحكام وذلك عملاً بسنة الرسول ? وتعتبر هذه المهمة من أعظم المهام وأجلها في نظر الرسول وخليفته أبي بكر، وقد اشتهر عن ولاة أبي بكر ذلك حيث يتحدث أحد المؤرخين عن عمل زياد والي أبي بكر على حضرموت فيقول: فلما أصبح زياد غداً يقرئ الناس كما كان يفعل قبل ذلك( ).
وبهذا التعليم كان للولاة دور كبير في نشر الإسلام في ربوع البلاد التي يتولونها، وبهذا التعليم تثبت أقدام الإسلام سواء في البلاد المفتوحة الحديثة عهد بالإسلام أو في البلاد التي كانت مسلمة وارتدت، وهي حديثة عهد بالردة جاهلة بأحكام دينها، إضافة إلى أن البلاد المستقرة كمكة والطائف والمدينة، كان بها من يقرئ الناس بأمر من الولاة أو الخليفة نفسه، أو من يعينه الخليفة على التعليم في هذه البلدان( ).
وقد كان الوالي هو المسؤل مسئولية مباشرة عن إدارة الأقليم الذي يتولاه وفي حالة سفر هذا الوالي فإنه يتعين عليه أن يستخلف أو ينيب عنه من يقوم بعمله حتى يعود هذا الوالي إلى عمله، ومن ذلك أن المهاجر بن أبي أمية عينه الرسول على كندة ثم أقره أبو بكر بعد وفاة الرسول ولم يصل المهاجر إلى اليمن مباشرة وتأخر نظراً لمرضه فأرسل إلى (زياد بن لبيد) ليقوم عنه بعمله حتى شفائه وقدومه، وقد أقرأ أبو بكر ذلك( )، كذلك كان خالد أثناء ولايته للعراق ينيب عنه في الحيرة من يقوم بعمله حتى عودته.
وكان أبو بكر ? يشاور الكثير من الصحابة قبل إختيار أحد من الأمراء سواء على الجند أو على البلدان، ونجد في مقدمة مستشاري أبي بكر في هذا الأمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما( )، كما كان أبو بكر ? يشاور الشخص الذي يريد توليته قبل أن يعينه وعلى وجه الخصوص إذا أراد أن ينقل الشخص من ولاية إلى أخرى كما حدث حينما أراد أن ينقل عمرو بن العاص من ولايته التي ولاه عليها الرسول إلى ولاية جند فلسطين، فلم يصدر أبو بكر قراره إلا بعد أن استشاره وأخذ منه موافقة على ذلك( )، كذلك الحال بالنسبة للمهاجر بن أمية الذي خيّره أبو بكر بين اليمن أو حضرموت فاختار المهاجر اليمن فعينه أبو بكر عليها( ).
ومن الأمور التي سار عليها أبو بكر ? أنه كان يعمل بسنة النبي ? في تولية بعض الناس على قومهم إذا وجد فيهم صلحاء، كالطائف وبعض القبائل وكان أبو بكر ? عندما يريد أن يعين شخصاً على ولاية يكتب للشخص المعين عهداً له على المنطقة التي ولاه عليها، كما أنه في كثير من الأحيان قد يحدد له طريقه إلى ولايته ومايمر عليه من أماكن خصوصاً إذا كان التعيين مختصاً بمنطقة لم تفتح بعد ولم تدخل ضمن سلطات الدولة ويتضح ذلك في حروب الردة، وفتوح الشام والعراق وقام الصديق أحياناً بضم بعض الولايات إلى بعض، خصوصاً بعد الانتهاء من قتال المرتدين فقد ضم أبو بكر كندة إلى زياد بن لبيد البياضي، وكان والياً على حضرموت واستمر بعد ذلك والياً لحضرموت وكندة( ).
وكانت معاملة أبي بكر للولاة تتسم بالاحترام المتبادل الذي لم تشبه شائبة، وأما عن الاتصالات بين الولاة وبين الخليفة أبي بكر ? فقد كانت تجري بصفة دائمة وكانت هذه الاتصالات تختص بمصالح الولاية ومهام العمل، فقد كان الولاة كثيراً مايكتبون لأبي بكر في مختلف شئونهم يستشيرونه، وكان أبو بكر يكتب لهم الاجابة على استفساراتهم، أو يوجه لهم أوامره وكانت الرسل تأتي بالأخبار من الولاة سواء أخبار الجهاد أو قبل ذلك على جبهات حروب المرتدين كذلك كان الولاة يبعثون بأخبار ولاياتهم من تلقاء أنفسهم( )، وكان الولاة يتصل بعضهم ببعض عن طريق الرسل أو عن طريق الاتصال المباشر واللقاءات، وتتمثل هذه اللقاءات والاتصالات بالدرجة الأولى بين ولاة اليمن وحضرموت بعضهم مع بعض، وكذلك الحال بالنسبة لولاة الشام، الذين كانوا كثيراً مايجتمعون لتدارس أمورهم العسكرية بالدرجة الأولى، وكانت كثير من مراسلات أبي بكر ? تختص بحث الولاة على الزهد في الدنيا وطلب الآخرة، وكانت بعض هذه النصائح تصدر على شكل كتب عامة رسمية من الخليفة نفسه إلى مختلف الولاة وأمراء الأجناد( ) هذا وقد قسمت الدولة الإسلامية في عهد أبي بكر إلى عدة ولايات وهذه أسماء الولايات والولاة:
أ-المدينة: عاصمة الدولة وبها الخليفة أبو بكر ?.
ب-مكة: وأميرها عتاب بن أسيد وهو الذي ولاّه الرسول ? واستمر مدة حكم أبي بكر.
ت-الطائف: وأميرها عثمان بن أبي العاص، ولاّه رسول الله ? وأقره أبو بكر عليها.
ث-صنعاء: وأميرها المهاجر بن أبي أمية، وهو الذي فتحها ووليها بعد انتهاء أمر الردة.
جـ-حضرموت: ووليها زياد بن لبيد.
حـ-زبيد ورقع: ووليها أبو موسى الأشعري.
خـ-خولان: ووليها يعلى بن أبي أمية.
ذ-الجند: وأميرها معاذ بن جبل.
س-نجران: ووليها جرير بن عبدالله.
ش-جرش: ووليها عبدالله بن نور.
ك-البحرين: ووليها العلاء بن الحضرمي.
ل-العراق والشام كان أمراء الجند هم ولاة الأمر فيها.
و-عمان: ووليها حذيفة بن محصن.
هـ-اليمامة: ووليها سليط بن قيس( ).
4-موقف علي والزبير رضي الله عنهما من خلافة الصديق:
وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي عن مبايعة الصديق رضي الله عنهما وكذا تأخر الزبير بن العوام وجُلّ هذه الأخبار ليس بصحيح إلا مارواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن عليا والزبير، ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله ?( )، فقد كان انشغال جماعة من المهاجرين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب بأمر جهاز رسول الله ? من تغسيل، وتكفين، ويبدو ذلك واضحاً فيما رواه الصحابي سالم بن عبيد ? من أن أبا بكر قال لأهل بيت النبي، وعلى رأسهم علي: عندكم صاحبكم، فأمرهم يغسلونه( ).
وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول، وهو يوم الثلاثاء، قال أبو سعيد الخدري: لما صعد أبو بكر المنبر، نظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير بن العوام فدعا بالزبير فجاء، فقال له أبو بكر: يابن عمة رسول الله ?، وحوارّيه، أتريد أن تشقَّ عصا المسلمين؟ فقال الزبير: لاتثريب عليك ياخليفة رسول الله، فقام الزبير، فبايع أبا بكر!، ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم، فلم ير علي بن أبي طالب فدعا بعلي، فجاء. فقال له أبو بكر: يا ابن عمّ رسول الله ?، وختنه على ابنته، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟
فقال علي: لاتثريب عليك ياخليفة رسول الله ?، فقام علي، فبايع أبا بكر( )!
ومما يدل على أهمية حديث أبي سعيد الخدري الصحيح أن الإمام (مسلم بن الحجاج) صاحب الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب الحديثية بعد صحيح البخاري- ذهب إلى شيخه الإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة – صاحب صحيح ابن خزيمة – فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن الخزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: هذا الحديث يساوي بدنة، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لايساوي بَدَنَة( ) فقط، إنه يساوي بدرة( ) مال، وعلق على هذا الحديث ابن كثير –رحمه الله- فقال: هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة علي بن أبي طالب إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حق، فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه( )، وفي رواية حبيب بن أبي ثابت، حيث قال: كان علي بن أبي طالب في بيته، فأتاه رجل، فقال له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج عليُّ إلى المسجد في قميص له، ماعليه إزار ولارداء، وهو متعجِّل، كراهة أن يبطئ عن البيعة. فبايع أبا بكر، ثم جلس، وبعث إلى ردائه، فجاؤوه به، فلبسه فوق قميصه( ) وقد سأل عمرو بن حريث سعيد بن زيد ?، فقال له: أشهِدْتَ وفاة رسول الله ?؟
قال: نعم.
قال له: متى بويع أبو بكر؟
قال سعيد: يوم مات رسول الله ?، كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم، وليسوا في جماعة.
قال: هل خالف أحد أبا بكر؟
قال سعيد: لا. لم يخالفه إلا مرتد، أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه.
قال: هل قعد أحد من المهاجرين عن بيعته؟
قال سعيد: لا. لقد تتابع المهاجرون على بيعته( )!!.
وأما علي ? فلم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين( ).
ويرى ابن كثير وكثير من أهل العلم أن علياً جدّد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى أي بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، وجاءت في هذه البيعة روايات صحيحة( ).
وكان علي في خلافة أبي بكر عيبة نصح له، مرجِّحاً لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شيء آخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكر ونصحه للإسلام والمسلمين وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين ماجاء من موقفه من توجه أبي بكر ? بنفسه إلى ذي القصة( )، وعزمه على محاربة المرتدين، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه، وماكان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي( )، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما برز أبو بكر إلى ذي القصة، واستوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب بزمامها، وقال: إلى أين ياخليفة رسول الله ?؟ أقول لك ماقال رسول الله ? يوم أحد: لمَّ سيفك ولاتفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لايكون للإسلام نظام أبداً فرجع( ).
فلو كان علي ? -أعاذه الله من ذلك- لم ينشرح صدره لأبي بكر وقد بايعه على رغم من نفسه، فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها علي، فيترك أبا بكر وشأنه، لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو الجو له، وإذا كان فوق ذلك
-حاشاه عنه- من كراهته له وحرصه على التخلُّص منه، أغرى به أحداً يغتاله، كما يفعله الرجال السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم( ).
5-(إنا معشر الأنبياء لانُرَثُ ماتركنا صدقة)( ):
قالت عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة والعباس رضي الله عنهم: أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ? وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله ? يقول: لانورث، ماتركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال( )، وفي رواية قال أبو بكر ?: … لست تاركاً شيئاً كان رسول الله ? يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أزواج النبي ?، حين توفى رسول الله ?، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان ? إلى أبي بكر، يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال رسول الله ?: لانورث ماتركنا صدقة( )، وعن أبي هريرة ? قال رسول الله ?: لايقتسم ورثتي ديناراً، ماتركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة( ).
وهذا مافعله أبو بكر الصديق ? مع فاطمة رضي الله عنها إمتثالاً لقوله ? لذلك قال الصديق: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به( )، وقال: والله لاأدع أمراً رأيت رسول الله ? يصنعه فيه إلا صنعته( ).
وقد تركت فاطمة رضي الله عنها منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها وفيه دليل على قبولها الحق واذعانها لقوله ?: قال ابن قتيبة( )، وأما منازعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما في ميراث النبي ? فليس بمنكر، لأنها لم تعلم ماقاله رسول الله ? وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم فلما أخبرها بقوله كفت( ).
وقال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهم( ).
وقال حماد بن إسحاق: والذي جاءت به الروايات الصحيحة فيما طلبه العباس وفاطمة وعلي لها وأزواج النبي ? من أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً إنما هو الميراث حتى أخبرهم أبو بكر والأكابر من أصحاب رسول الله ? أنه قال: (لانورث ماتركنا صدقة) فقبلوا بذلك وعلموا أنه الحق ولو لم يقل رسول الله ? ذلك كان لأبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة رضي الله عنهما فآثروا أمر الله وأمر رسوله، ومنعوا عائشة وحفصة، ومن سواهما ذلك، ولو كان رسول، يورث، لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد ?( ).
وأما ماذكره من الرواة في كون فاطمة رضي الله عنها غضبت وهجرت الصديق حتى ماتت فبعيد جداً لعدة أدلة منها:
أ-مارواه البيهقي من طريق الشعبي: أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك فقالت: أتحب أن آذن له قال: نعم فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت( )، وبهذا يزول الإشكال الوارد في تمادي فاطمة رضي الله عنها لهجر أبي بكر الصديق ?، كيف وهو القائل: والله لقرابة رسول الله ?، أحب إليّ أن أصل من قرابتي( )، ومافعل ? إلا امتثالاً وإتباعاً لأمر رسول الله ?( ).
ب-لقد انشغلت عن كل شيء بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أي مشاركة في أي شأن من الشؤون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول -لكل لحظة من لحظاته- بشؤون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها، فقد أخبرها رسول الله ? بأنها أول من يلحق به من أهله -ومن كان في مثل علمها لايخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني: ولم يرو أحد، أنهما ألتقيا وامتنعا عن التسليم، وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران( ).
هذا ومن الثابت تاريخياً أن أبابكر دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقهم في فيء رسول الله ? في المدينة، ومن أموال فدك وخمس خيبر، إلا أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله ? وقد روي عن محمد بن علي بن الحسين المشهور بمحمد الباقر، وعن زيد بن علي أنهما قالا: إنه لم يكن من أبي بكر -فيما يختص بآبائهم- شيء من الجور أو الشطط، أو مايشكونه من الحيف أو الظلم( ).
ولما توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد رسول الله ? بستة أشهر على الأشهر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقاً به، وقال لها مع ذلك: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة( )، وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء، فحضرها أبوبكر وعمر وعثمان والزبير وعبدالرحمن بن عوف، فلما وُضِعت ليُصلى عليها، قال علي: تقدم ياأبابكر، قال أبوبكر: وأنت شاهد ياأبا الحسن؟ قال: نعم تقدم، فوالله لا يصلي عليها غيرك؛ فصلى عليها أبوبكر ودفنت ليلاً، وجاء في رواية: صلى أبوبكر الصديق على فاطمة بنت رسول الله ? فكبر عليها أربعاً( ) وفي رواية مسلم صلى عليها علي بن أبي طالب( ).
هذا وقد كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله ? بأعضاء أهل البيت، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم، وقد كانت هذه المودة والثقة متبادلتين بين أبي بكر وعلي، فقد سمَّى علي أحد أولاده بأبي بكر( )، وقد احتضن علي ابن أبي بكر محمداً بعد وفاة الصديق وكفله بالرعاية ورشحه للولاية في خلافته حتى حسب عليه، وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله( ).
هذا بعض القضايا الداخلية التي عالجها الصديق ? والتزم فيها بمتابعة الرسول ? بكل دقة وحرص ر? وعن جميع الصحابة الكرام الطيبين الأبرار.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:10 pm

الفصل الثالث
جيش أسامة وجهاد الصديق لأهل الردة


المبحث الأول
جيش أسـامة


أولاً: إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما:
كانت الدولة الرومانية إحدى الدولتين المجاورتين للجزيرة العربية في عهد النبي ?، وكانت تحتل أجزاء كبيرة من شمال الجزيرة، وكان أمراء تلك المناطق يُعيَّنون من قبل الدولة الرومانية وينصاعون لأوامرها.
بعث النبي الكريم ? الدعاة والبعوث إلى تلك المناطق، وأرسل دحية الكلبي ? بكتاب إلى هرقل ملك الروم، يدعوه فيه إلى الإسلام( )، ولكنه عاند وأخذته العزة بالإثم وكانت خطة الرسول ? واضحة المعالم لهز هيبة الروم في نفوس العرب ومن ثم تنطلق جيوش المسلمين لفتح تلك الأراضي، فأرسل ? في العام السابع للهجرة جيشاً واشتبك مع نصارى العرب والروم في معركة مؤتة واستشهد قادة الجيش على التوالي، زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبدالله بن رواحة رضي الله عنهم، وتولى قيادة الجيش بعدهم سيف الله خالد بن الوليد ?، فعاد بالجيش إلى المدينة النبوية( )، وفي العام التاسع للهجرة خرج رسول الله ? بجيش عظيم إلى الشام ووصل إلى تبوك( )، ولم يشتبك جيش المسلمين بالروم ولا القبائل العربية، وآثر حكّام المدن الصلح على الجزية، وعاد الجيش إلى المدينة بعدما مكثوا عشرين ليلة بتبوك( ) وفي العام الحادي عشر ندب النبي ? الناس لغزو الروم بالبلقاء وفلسطين، وفيهم كبار المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أسامة رضي الله عنهم( ) قال الحافظ بن حجر: جاء أنه كان تجهيز جيش أسامة ? يوم السبت قبل موت النبي ? بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي ?، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر، ودعا أسامة ? فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش( )، وطعن بعض الناس في إمارة أسامة ?، فردّ عليهم رسول الله ? فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله! إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإنّ هذا لمن أحبّ الناس إليَّ بعده( ). ومرض النبي ? بعد البدء بتجهيز هذا الجيش بيومين، واشتدّ وجعه عليه الصلاة والسلام، فلم يخرج هذا الجيش وظل معسكراً بالجرف( )، ورجع إلى المدينة بعد وفاة النبي الكريم ?( )، وتغيرت الأحوال مع انتقال الرسول الكريم ? إلى رحمة ربه، وصارت كما تصف أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها بقولها: لما قبض رسول الله ? ارتدت العرب قاطبة، واشرأبت( ) النفاق والله! قد نزل بي( )، مالو نزل بالجبال الراسيات لهاضها( ) وصار أصحاب محمد ? كأنهم معزى( )، مطيرة في حش( ) في ليلة مطيرة بأرض مسبعة( )( ) ولما تولى الخلافة الصديق أمر ? رجلاً في اليوم الثالث من مُتَوَّفى رسول الله ? أن ينادي في الناس: ليُتمَّ بعث أسامة ?، ألا لا يبيتنَّ في المدينة أحد من جند أسامة ? إلا خرج إلى عسكره بالجرف( ) ثم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس: إنما أنا مثلكم، وإني لاأدري لعلكم ستكلفونني ماكان رسول الله ? يطيق، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست مبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله ? قبض وليس لأحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة -ضربة سوط فما دونها- ألا وإن لي شيطاناً يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني لاأؤثر في أشعاركم وأبشاركم، وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإنه ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في جهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قوماً نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فإياكم أن تكونوا مثلهم، الجد الجد، والوحا الوحاء، والنجا النجاء، فإن وراءكم طالبا حثيثا- مره سريع - احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والأخوان، ولاتغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات( ) وقام أيضاً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله لايقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنما أخلصتم لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس، وأين هم اليوم، أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب، قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا رميماً، قد تولت عليهم العالات ... وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا ونسي ذكرهم، وصاروا كلاشئ، إلا أن الله عزوجل قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وبعثنا خلفا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن انحدرنا كنا مثلهم، أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابا، وصار مافرطوا فيه حسرة عليهم، أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (سورة مريم، آية:98)؟ أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم، قد انتهت بهم آجالهم فردوا على ماقدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقاوة أو السعادة بعد الموت، ألا إن الله لاشريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً، ولايصرف به عنه سوءاً، إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون، وأن ماعنده لايدرك إلا بطاعته أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النارولاتبعد عنه الجنة( )، وفي هذه الخطبة دروس وعبر منها:
أ-بيان طبيعة خليفة رسول الله ?، وأنه ليس خليفة عن الله بل عن رسوله ? وأنه بشر غير معصوم لايطيق مقام رسول الله ? بنبوته ورسالته، ولذلك فهو في سياسته متبع وليس بمبتدع أي أنه على نهج النبي ? في الحكم بالعدل والإحسان( ).
ب-بيان واجب الأمة في مراقبة الحاكم لتعينه في إحسانه وصلاحه وتقومه وتنصحه في غير ذلك، ليظل على الطريق متبعاً غير مبتدع.
جـ-بيان أن النبي ? عدل بين الأمة فلم يظلم أحداً، ولذلك ليس لأحد عند النبي ? مظلمة صغيرة أو كبيرة ومعنى هذا أنه سوف يسير على نفس النهج، ينشر العدل ويبتعد عن الظلم، ومن ثم على الأمة أن تعينه على ذلك، وإذا رآه أحد غاضباً فعليه أن يجتنبه حتى لايؤذي أحدا، فيخالف مارآه في سياسة الاتباع( ) للنبي ?، والشيطان الذي يعتري الصديق يعتري جميع بني آدم، فإنه مامن أحد إلا وقد وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن( )، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فقد قال رسول الله ?: مامن أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن، قيل: وأنت يارسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير( )، وقد جاء في الحديث أيضاً: لما مرّ به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلاً، فقال: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. ثم قال: إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئاً، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم( ) ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوماً كالرسول ? وهذا حق( ).
د-حرص الصديق على وعظ المسلمين وتذكيرهم بالموت وحال الملوك الذين مضوا، وحثهم على العمل الصالح ليستعدوا للقاء الله عزوجل ويستقيموا في حياتهم على منهج الله تعالى( )، وهنا نلحظ توظيف الصديق لقوة البيان في خطبه وفي حديثه للأمة وقد كان ? أفصح خطباء النبي ? يقول عنه الاستاذ العقاد: أما كلامه فهو من أرجح ماقيل في موازين الخلق والحكمة، وله من مواقع الكلم أمثلة نادرة تدل الواحدة منها على ملكة صاحبها فيغني القليل منها عن الكثير، كما تغني السنبلة الواحدة عن الجرين الحافل، فحسبك أن تعلم معدن القول من نفسه وفكره حين تسمع كلمة كقوله (احرص على الموت تهب لك الحياة) أو قوله: أصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة. الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، فهي كلمات تتسم بالقصد والسداد، كما تتسم بالبلاغة وحسن التعبير، وتنبئ عن المعدن الذي نجمت منه، فتغني عن علامات التثقيف التي يستكثر منها المستكثرون لأن هذا الفهم الأصيل هو اللباب المقصود من التثقيف وكانت له ? لباقة في الخطاب إلى جانب البلاغة في الكلام( ).
ثانياً: ماتمّ بين الصديق والصحابة في أمر إنفاذ الجيش:
اقترح بعض الصحابة على الصديق ? بأن يبقى الجيش فقالوا: إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب كما ترى -قد انتفضت بك فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين( ) وأرسل أسامة من معسكره من الجرف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس، وقال: إنّ معي وجوه المسلمين وجلتهم، ولاآمن على خليفة رسول الله ?، وحرم رسول الله ?، والمسلمين أن يتخطفهم المشركون( ).
ولكن أبا بكر خالف ذلك وأصرّ على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج، ولم يرتاح أسامة وهيئة أركان حربه لإصرار الخليفة على رأيه وقد بذلوا لدى الخليفة عدة محاولات كي يقنعوه بصواب فكرتهم، وعندما كثر الإلحاح على أبي بكر، دعا عامة المهاجرين والأنصار إلى اجتماع في المجلس لمناقشة هذا الأمر معهم، وفي هذا الاجتماع دار نقاش طويل متشعب وكان أشد المعارضين لاستمرار حملة الشام عمر بن الخطاب، مبدياً تخوفه الشديد على الخليفة وحرم رسول الله وكل المدينة وأهلها من أن تقع في قبضة الأعراب المرتدين المشركين، وعندما أكثر وجوه الصحابة بهذا الصدد على الخليفة وخوفوه مما ستتعرض له المدينة من أخطار جسام إن هو أصرّ على تحريك جيش أسامة لغزو الروم أمر بفض الاجتماع الأول( )، بعد أن سمع الصديق لرأيهم واستوضح منهم إن كان لأحدهم مايقول وذلك حتى يعطي إخوانه وأهل الرأي كامل الفرصة لبيان رأيهم( ) أمر بفض الاجتماع الاول ثم دعاهم إلى اجتماع عام آخر في المسجد، وفي هذا الاجتماع طلب من الصحابة أن ينسوا فكرة إلغاء مشروع وضعه رسول الله ? بنفسه وأبلغهم أنه سينفذ هذا المشروع حتى لو تسبب تنفيذه في احتلال المدينة من قبل الأعراب المرتدين، فقد وقف خطيباً وخاطب الصحابة( ) قائلاً: والذي نفس أبي بكر بيده! لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ?. ولو لم يبقى في القرى غيري لأنفذته( ).
نعم لقد كان أبو بكر مصيباً فيما عزم عليه من بعث أسامة مخالفاً بذلك رأي جميع المسلمين، لأن في ذلك أمراً من رسول الله، وقد أثبتت الأيام والأحداث سلامة رأيه وصواب قراره الذي اعتزم تنفيذه( ).
وطلبت الأنصار رجلاً أقدم سناً من أسامة يتولى أمر الجيش وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدث الصديق في ذلك، فقال عمر ?: فإن الأنصار تطلب رجلاً أقدم سناً من أسامة ? فوثب أبو بكر ? وكان جالساً وأخذ بلحية عمر ? وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله ? وتأمرني أن أعزله( )، فخرج عمر ? إلى الناس فقالوا: ماصنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم! مالقيت في سببكم من خليفة رسول الله ?( ).
ثم خرج أبو بكر الصديق ? حتى أتاهم، فأشخصهم، وشيعهم، وهو ماش راكب، وعبدالرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر رضي الله عنهم، فقال له أسامة ?: ياخليفة رسول الله ?: والله لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لاتنزل، ووالله لاأركب. وماعلي أن أغبر قدميَّ في سبيل الله( ).
ثم قال الصديق ? لأسامة ?: إن رأيت تعينني بعمر ? فافعل، فأذن له( ). ثم توجه الصديق ? إلى الجيش فقال: يا أيها الناس! قفوا أوصيكم بعشر، فاحفظوها عني:
لاتخونوا ولاتغلوا، ولاتغدروا ولاتمثلوا( )، ولاتقطعوا شجرة مثمرة، ولاتذبحوا شاة ولابقرة ولابعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم ومافرّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منه شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقواماً قد فحصوا( ) أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فأخفقوهم( ) بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله( ) وأوصى الصديق أسامة رضي الله عنهما أن يفعل ما أمر به النبي الكريم ? قائلاً: اصنع ماأمرك به نبي الله ?، ابدأ ببلاد قضاعة، ثم إيت آبل( )، ولاتقصرن في شيء من أمر رسول الله ? ولاتعجلنَّ لما خلَّفت عن عهده( )، ومضى أسامة ? بجيشه، وانتهى إلى ما أمر به النبي ? من بث الخيول في قبائل قضاعة، والغارة على آبل، فسَلِم وغنم( )، وكان مسيره ذاهباً وقافلاً أربعين يوماً( ).
وقدم بنعي رسول الله على هِرَقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبراً واحداً، فقالت الروم: مابال هؤلاء يموت صاحبهم ثم أغاروا على أرضنا( )، وقال العرب: لو لم يكن لهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش( )، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه( ).
ثالثاً: أهم الدروس والعبر والفوائد من انفاذ الصديق جيش أسامة:
1-الأحوال تتغير وتتبدل والشدائد لاتشغل أهل الإيمان عن أمر الدين:
ماأشد التحول وأخطره! وماأسرعه كذلك! سبحان الله الذي يقلّب الأحوال كيفما يشاء {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (سورة البروج، آية:16)، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (سورة الأنبياء، آية:23). تأتي وفود العرب مذعنة منقادة، مطيعة، وبهذه الكثرة حتى سمّي العام التاسع عام الوفود، ثم تتقلب الأحوال فيخشى من أن تأتي القبائل العربية للإغارة على المدينة المنورة عاصمة الإسلام( )، بل قد جاءت للإغارة للقضاء -على حسب زعمها الباطل - على الإسلام والمسلمين( )، ولاغرابة في هذا، فإن من سنن الله الثابتة في الأمم أن أيامها لاتبقى ثابتة على حالة، بل تتغير وتتبدل، وقد أخبر بذلك الذي يقلب الايام ويصرِّفها عزوجل بقوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (سورة آل عمران، آية:140).
قال الرازي في تفسيره: والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس، لايدوم مسارها ولامضارها. فيوم يحصل فيه سرور له، والغم لعدوه، ويوم آخر بالعكس من ذلك، ولايبقى شيء من أحوالها، ولايستقر أثر من آثارها( ).
وجاءت صيغة المضارع {نُدَاوِلُهَا} للدلالة على تجدّد سنة مداولة الأيام من الأمم واستمرارها. وفي هذا قال القاضي أبو السعود: وصيغة المضارع الدالة على التجدّد والاستمرار للإيذان بأن تلك المداولة سنة مسلوكة بين الأمم قاطبة سابقتها ولاحقتها( ) وقد قيل: الأيام دول والحرب سجال( ).
وقال الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا
ويوم نُساء ويوم نُسّرّ( )
فالصديق يعلّم الأمة إذا نزلت بها الشدة وألمت بها المصيبة أن تصبر، فالنصر مع الصبر، وأن لاتيأس ولاتقنط من رحمة الله {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (سورة الأعراف، آية:56). وليتذكر المسلم دائماً أن الشدة مهما عظمت، والمصيبة مهما اشتدت وكبرت فإن من سنن الله الثابتة، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا?إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا?} (سورة الانشراح، آية:5-6) وإن المسلم لأمره عجيب في هذه الدنيا فقد بين رسول الله ? ذلك في قوله: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)( ).
ومن الدروس المستفادة من بعث جيش أسامة: أن الشدائد والمصائب مهما عظمت وكبرت لاتشغل أهل الإيمان عن أمر الدين. إن وفاة الرسول الكريم ? لم تشغل الصديق عن أمر الدين وأمر ببعث أسامة في ظروف كالحة مظلمة بالنسبة للمسلمين ولكن ماتعلمه الصديق من رسول الله من الاهتمام بأمر الدين مقدم على كل شيء وبقى هذا الأمر حتى ارتحل من هذه الدنيا( ).
2-المسيرة الدعوية لاترتبط بأحد، ووجوب اتباع النبي:
وفي قصة إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما نجد أن الصديق ? بين بقوله وعمله أن مسيرة الدعوة لم ولن تتوقف، حتى بموت سيد الخلق، وإمام الأنبياء وقائد المرسلين ? وأثبت مواصلة العمل الدعوي بالمبادرة إلى تنفيذ هذا الجيش حيث نادى مناديه في اليوم الثالث من وفاة رسول الله بخروج جند أسامة ? إلى عسكره بالجرف. وقد كان الصديق ? قبل ذلك قد بين في خطبته التي ألقاها إثر بيعته عن عزمه على مواصلة بذل الجهود لخدمة هذا الدين( )، وقد جاء في رواية قوله: فاتقوا الله أيها الناس! واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم، وإنَّ كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه. والله! لانبالي من أجلب علينا من خلق الله. إن سيوف الله لمسلولة، ماوضعناها بعد، ولنجاهدنّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله ?، فلايبغينّ أحد إلا على نفسه( ).
ومن الدروس المستفادة من قصة إنفاذ الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما أنه يجب على المسلمين اتباع أمر النبي ? في السراء والضراء، فقد بين الصديق من فعله أنه عاض على أوامر النبي ? بالنواجذ ومنفِّذها مهما كثرت المخاوف وشدّت المخاطر، وقد تجلّى هذا أثناء هذه القصة عدة مرات منها:
أ-لما طلب المسلمون إيقاف جيش أسامة ? نظراً لتغير الأحوال وتدهورها أجاب ? بمقولته الخالدة: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ?، ولو لم يبقى في القرى غيري لانفذته( ).
ب-ولما استأذنه أسامة رضي الله عنهما في الرجوع بجيشه من الجرف إلى المدينة خوفاً على الصديق وأهل المدينة، لم يأذن له، بل أبدى عزمه وتصميمه على تنفيذ قضاء النبي الكريم ? بقوله: لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أردّ قضاء قضى به رسول الله ?( )، وقدّم ? بموقفه هذا صورة تطبيقية لقول الله عزوجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} (سورة الأحزاب، آية:36).
جـ-وعندما طلب منه تعيين رجل أقدم سناً من أسامة ? أبدى غضبه الشديد على الفاروق ? بسبب جرأته على نقل مثل هذا الاقتراح( )، وقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يابن الخطاب! استعمله رسول الله ? وتأمرني أن أنزعه( ).
د-وتجلّى اهتمام أبي بكر الصديق ? باتباع النبي الكريم ? كذلك في خروجه لتشييع الجيش، ومشيه مع أسامة ? الذي كان راكباً( ).ولقد كان الصديق ? في عمله هذا مقتدياً بما فعله سيد الأولين والآخرين رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه مع معاذ بن جبل ? قال: لما بعثه رسول الله ? الى اليمن( )، فقد روى الامام أحمد عن معاذ بن جبل ? قال: لما بعثه رسول الله ? الى اليمن، خرج معه رسول الله ? يوصيه، ومعاذ ? -راكب، ورسول الله ? يمشي تحت راحلته( ). قال الشيخ أحمد البنا تعليقاً على هذا الحديث: وقد فعل ذلك أبوبكر ? بأسامة بن زيد رضي الله عنهما مع صغر سنة، فقد عقد له النبي ? قبل وفاته لواء على جيش، ولم يسافر إلا بعد وفاة النبي ?، فشيعه أبوبكر ? ماشياً، وأسامة ? راكباً، اقتداءً بما فعله النبي بمعاذ ?( ).
س- وظهرت عناية أبي بكر الصديق ? بالاقتداء بالرسول الكريم ? أيضاً في قيامه بتوصيه الجيش عند توديعهم حيث كان رسول الله ? يوصي الجيوش عند توديعهم، ولم يقتصر الصديق على هذا؛ بل إن معظم ماجاء في وصيته لجيش أسامة كان مقتبساً من وصايا النبي ? للجيوش( ).
ولم يقف أبوبكر الصديق ? في الاقتداء بالرسول الكريم ? فيما قاله وفعله فحسب؛ بل أمر أمير الجيش أسامة ? بتنفيذ أمره ?، ونهاه عن التقصير فيه( ) فقد قال له رضي الله عنهما: اضع ماأمرك به نبي الله ?. ابدأ ببلاد قضاعة، ثم ايت آبل، ولا تقصرنَّ شيئاً من أمر رسول الله ?( ) وفي رواية أخرى أنه قال ?: امض ياأسامة للوجه الذي أمرت به ثم اغز حيث أمرك رسول الله ? من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة فإن الله سيكفي ماتركت( )، وفي رواية عند ابن الأثير: وأوصى أسامة ? أن يفعل به ماأمر به رسول الله ?( ).
لقد انقاد الصحابة رضي الله عنهم لرأي الصديق وشرح الله صدورهم لذلك، وتمسكوا بأمر الرسول الكريم، وبذلوا المستطاع لتحقيقه فنصرهم الله تعالى، ورزقهم الغنائم، وألقى في قلوب الناس هيبتهم، وكفّ عنهم كيد الأعداء وشرهم( ).
وقد تحدث توماس آرنولد عن بعث جيش أسامة فقال: بعد وفاة محمد ? أرسل أبوبكر ? الجيش الذي كان النبي ? قد عزم على إرساله الى مشارف الشام، على الرغم من معارضة بعض المسلمين، بسبب الحالة المضطربة في بلاد العرب، إذ ذاك، فأسكت احتجاجهم بقوله: أر قضاءً قضى به رسول الله، ولو ظنتت أن السباع تخطفني لأنفذت جيش أسامة ? كما أمر النبي ?( ).... ثم قال: وكانت هذه هي أولى تلك السلسلة الرائعة من الحملات التي اجتاح العرب فيها سورية وفارس وإفريقية الشمالية، فقوضوا دولة فارس القديمة ، وجردوا الامبراطورية الرومانية من أجمل ولاياتها( ).
وهكذا نرى أن الله تعالى قد ربط نصر الأمة وعزها باتباع النبي الكريم ?، فمن أطاعه فله النصر والتمكين، ومن عصاه فله الذل والهوان، فسر حياة الأمة في طاعتها لربها واقتدائها بسنّة نبيها ?( ).
3- حدوث الخلاف بين المؤمنين ورده الى الكتاب والسنّة:
ومما نستفيد من هذه القصة أنه قد يحدث الخلاف بين المؤمنين الصادقين حول بعض الأمور، فقد اختلفت الآراء حول تنفيذ جيش أسامة ? في تلك الظروف الصعبة، وقد تعددت الأقوال حول إمارته ولم يجرهم الخلاف في الرأي الى التباغض والتشاجر، والتدابر، والتقاطع، والتقاتل، ولم يصر أحد على رأي بعد وضوح فساده وبطلانه( )، وعندما ردّ الصديق الخلاف الى ماثبت من أمر النبي ? ببعث أسامة وبين ? أنه ماكان ليفرّط فيما أمر به رسول ? مهما تغيرت الأحوال وتبدلت واستجاب بقية الصحابة لحكم النبي ? بعد ماوضحه لهم الصديق، كما أنه لاعبرة لرأي الأغلبية إذا كان مخالفاً للنص، فقد رأى عامة الصحابة حبس جيش أسامة وقالوا للصديق: إن العرب قد انتقصت عليك وإنك لاتضع بتفريق الناس شيئاً( )، فأولئك الناس لم يكونوا كعامة الناس بل كانوا من الصحابة الذين هم خير البشر وجدوا على الأرض بعد الأنبياء والرسل عليه السلام، لكن الصديق ? لم يستجب لهم مبيناً أن أمر رسول الله ? أجل وأكرم، وأوجب وألزم من رأيهم كلهم( )، وقد تجلت هذه الحقيقة في حادثة وفاة النبي ? حيث رأى عامة الصحابة رضي الله عنهم وفيهم عمر ? أن النبي ? لم يمت ورأى عدد قليل من الصحابة رضي الله عنهم أنه ? قد مات منهم أبوبكر ?، وقد رأينا أن أبابكر تمسك بالنص وبين خطأ من قال أن رسول الله? لم يمت( ).
قال الحافظ بن حجر: تعليقاً على رأي الأكثير حول وفاته ?: فيؤخذ منه أن الأقل عدداً في الاجتهاد قد يصيب ويخطئ الأكثرية، فلا يتعين الترجيح بالأكثر( )، فخلاصة الكلام أن مما نستفيده من قصة تنفيذ الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما أن تأييد الكثرة لرأي ليس دليلاً على إصابته( )، ومما يستفاد من هذه القصة انقياد المؤمنين وخضوعهم للحق إذا اتضح لهم، فعندما ذكرهم الصديق أن النبي ? قد أمر بتنفيذ جيش امامة وهو الذي عين أسامة أميراً على الجيش، انقاد أولئك الأبرار للأمر النبوي الكريم( ).
4- جعل الدعوة مقرونة بالعمل، ومكانة الشباب في خدمة الاسلام:
لما أصر أبوبكر ? على إبقاء أسامة بن زيد ? أميراً للجيش حرصاً منه على التمسك بما قرره رسول الله ? لم يقتصر على الإصرار على إمارته فحسب بل قدم اعترافاً عملياً بإمارته وقد تجلى ذلك في أمرين:
أ- مشى أبوبكر ? مع أسامة ?، وهو راكب وقد كان ابن عشرين سنة أو ثماني عشرة سنة، وكان الصديق ? قد تجاوز ستين سنة من عمره وأصر على المشي مع أسامة ?، كما أصر على بقاء أسامة ? راكباً لما طلب منه أسامة ? إما أن يركب هو، أو يأذن له بالنزول؛ فلم يوافق ? لا على هذا ولا على ذاك، وبهذا قدّم ? باستمراره في مشيه ذلك دعوة لجيش أسامة ? الى الاعتراف بإمارة أسامة ?، ورفع الحرج عنها من صدورهم، وكأن الصديق ? بمشيه ذلك يخاطب الجيش فيقول: انظروا أيها المسلمون أنا أبوبكر رغم كوني خليفة رسول الله ? أمشي مع أسامة وهو راكب إقراراً وتقديراً لإمارته حيث أمره رسولنا الكريم إمامنا الأعظم وقائدنا الأعلى صلوات ربي وسلامه عليه، فكيف تجرّأتم أنتم على الانتقاد على إمارته( ).
ب- كان أبوبكر الصديق يرغب في بقاء عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالمدينة نظراً لحاجته إليه. لكنه لم يأمره بذلك، بل استأذن من أسامة ? في تركه إياه بالمدينة إن رأى هو ذلك مناسباً وبهذا قدّم الصديق ? صورة تطبيقية اخرى لاعترافه واحترامه لإمارة أسامة ?، وفيها بلا شك دعوة قوية للجيش الى الإقرار والانقياد لإمارته.
وهذا الذي اهتم به الصديق ? من جعل دعوته مقرونة بالعمل هو الذي أمر به الاسلام، ووبّخ الرب عز وجل أولئك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم( )، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (سورة البقرة، الآية:44).
ومما يتجلى في هذه القصة كذلك منزلة الشباب العظيمة في خدمة الاسلام، فقد عين رسول الله ? الشاب أسامة بن زيد رضي الله عنهما أميراً على الجيش المعدّ لقتال الروم - القوة العظمة في زعم الناس في ذلك الوقت- وكان عمره آنذاك عشرين سنة، أو ثماني عشرة سنة، وأقره أبوبكر الصديق ? على منصبه رغم انتقاد الناس، وعاد الأمير الشاب بفضل الله تعالى من مهمته التي أسندت إليه غانماً ظافراً وفي هذا توجيه للشباب في معرفة مكانتهم في خدمة الاسلام، ولو نعيد النظر في تاريخ الدعوة الاسلامية في المرحلتي المكية والمدنية لوجدنا شواهد كثيرة تدل على ماقام به شباب الاسلام في خدمة القرآن والسنّة، وإدارة أمور الدولة، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله والدعوة الى الله تعالى( ).
5- صورة مشرقة من آداب الجهاد في الاسلام:
ومن فوائد قصة بعث أبي بكر ? لجيش أسامة أنها تقدم لنا صورة مشرقة للجهاد الاسلامي، وقد تجلت تلك الصورة في وصية أبي بكر الصديق لجيش أسامة عند توديعه إياهم، ولم يكن أبي بكر الصديق ? في وصاياه للجيوش إلا مستناً بسنّة المصطفى ? حيث كان عليه الصلاة والسلام يوصي الأمراء والجيوش عند توديعهم( ) ومن خلال فقرات الوصية التي جاءت في البحث تظهر الغاية من حروب المسلمين فهي دعوة الى الاسلام، فإذا مارأت الشعوب جيشاً يلتزم بهذه الوصايا لا تملك إلا الدخول في دين الله طواعية واختياراً:
أ- إنها ترى جيشاً لايخون، بل يصون الامانة، ويفي بالعهد، ولا يسرق مال الناس أو يستولي عليه دون حق.
ب- جيشاً لايمثل بالآدميين بل هو يحسن القتل كما يحسن العفو يحترم الطفل ويرحمه، ويبر الشيخ الكبير ويكرمه، ويصون المرأة ويحفظها.
ج- جيشاً لايبدد ثروة البلاد المفتوحة، بل تراه يحفظ النخيل ولا يحرقه ولايقطع شجرة مثمرة، ولا يدمر المزروعات أو يخرب الحقول.
د- وإذا ماحافظ على الثروة الآدمية فلم يغدر، ولم يخن، ولم يغل، ولم يمثل بقتيل، ولم يقتل طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا أمرأة، وحافظ على الثروة الزراعية، فلم يعقر نخلاً، أو يقطع شجرة مثمرة، فهو يحافظ في نفس الوقت على الثروة الحيوانية فلا يذبح شاة أو بقرة أو بعيراً إلا للأكل فقط، فهل تحافظ الجيوش على واحد من هذه الأشياء؟ أم أنها تحول البلاد التي تحاربها الى خراب ودمار؟ والمثال قائم في العدوان الشيوعي الملحد على أفغانستان( )، وفي البوسنة من قبل الصرب وكذلك كوسوفا وفي كشمير من قبل الهند على المسلمين، وفي الشيشان، وفي فلسطين من قبل اليهود، ألا ماأعظم الفرق بين هداية الله، وضلال الملحدين.
هـ- وهو جيش يحترم العقائد والأديان السابقة عليه، فيحافظ على العباد في صوامعهم، ولا يتعرض لهم بأذى.. وتلك دعوة عملية تدل على سماحة الاسلام وعدالته، أما من يعبثون فيهم في الأرض فساداً، ويحاربون الحق فجزاؤهم القتل ليكونوا عبرة لغيرهم( ).
وماجاء في وصية الصديق ? لم يكن كلمات قبلت بل طبقها المسلمون في عصره وبعده( ) وسنرى ذلك بإذن الله في فتوحاته ?.
6- أثر جيش أسامة على هيبة الدولة الاسلامية:
عاد جيش أسامة ظافراً غانماً بعد ماأرهب الروم حتى قال لهم هرقل وهو بحمص بعدما جمع بطارقته: هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن تقبلوا مني!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر فتغير عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم تكلم. قال أخوه (يناف) فابعث رباط (جندا مرابطين) تكون بالبلقاء، فبعث رباطاً واستعمل عليهم رجلاً من أصحابه فلم يزل مقيماً حتى تقدمت البعوث الى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما( ). ثم تعجب الروم بأجمعهم وقالوا: مابال هؤلاء يموت صاحبهم ثم أغاروا على أرضنا؟ ( )، وأصاب القبائل العربية في الشمال الرعب والفزع من سطوة الدولة( )، وعندما بلغ جيش أسامة الظافر الى المدينة، تلقاه أبوبكر، وكان قد خرج في جماعة من كبار المهاجرين والأنصار للقائه وكلهم خرج وتهلل، وتلقاه أهل المدينة بالإعجاب والسرور والتقدير، ودخل أسامة المدينة وقصد مسجد رسول الله ? وصلى لله شكراً على ماأنعم به عليه وعلى المسلمين وكان لهذه الغزوة أثر في حياة المسلمين وفي حياة العرب الذين فكروا في الثورة عليهم، وفي حياة الروم الذين تمتد بلادهم على حدودهم( )، فقد فعل هذا الجيش بسمعته مالم يفعله بقوته وعدده، فأحجم من المرتدين من أقدم، وتفرق من اجتمع، وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال، وقبل أن يضع السلاح( ).
حقاً لقد كان إرسال هذا الجيش نعمة على المسلمين، إذ أمست جبهة الردة في الشمال أضعف الجبهات، ولعل من آثار هذا أن هذه الجبهة في وقت الفتوحات كان كسرها أهون على المسلمين من كسر جبهة العدو في العراق، كل ذلك يؤكد أن أبابكر ? كان في الأزمات، من بين جميع الباحثين عن الحل، أثقبهم نظراً، وأعمقهم فهماً( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:18 pm

المبحث الثاني
جهاد الصديق لأهل الردة



أولاً: الردة إصطلاحاً وبعض الآيات التي حذرت من الردة:
1- الردة إصطلاحاً:
عرف النووي الردة بأنها : قطع الاسلام بنية أو قول كفر أو فعل، سواء قاله استهزاءً أو عناداً أو اعتقاداً، فمن نفى الصانع أو الرسل أو كذب رسولاً أو حلل محرماً بالإجماع كالزنا وعكسه، أو نفى وجوب مجمع عليه أو عكسه، أو عزم على الكفر أو تردد فيه، كفر( )، وعرفها عليش المالكي: بأنها كفر المسلم بقول صريح أو لفظ يقتضيه أو بفعل يتضمنه( )، وعرفه ابن حزم الظاهري (المرتد) بأنه: كل من صح عنه أنه كان مسلماً متبرئاً من كل دين حاش دين الاسلام، ثم ثبت عنه أنه ارتد عن الاسلام وخرج الى دين كتابيّ أو غير كتابّي أو الى غير دين( )، وعرفه عثمان الحنبلي: بأنه لغة الراجع. قال تعالى: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ}، وشرعاً من أتى بما يوجب الكفر بعد إسلامه( ).
ومعنى هذا أن المرتد هو كل من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة كالصلاة والزكاة والنبوة وموالاة المؤمنين، أو أتى بقول أو فعل لا يحتمل تأويلاً غير الكفر( ).
2- بعض الآيات التي أشارت الى المرتدين:
أطلق الله سبحانه وتعالى على المرتدين عن دينه عبارات تشير الى هذا المرتكس الوبئ الذي تحولوا إليه. منها الردة على الأعقاب أو على الأدبار، والانقلاب بالخسران، وطمس الوجوه، وردّ الأيدي في الأفواه، والارتياب والتردد، واسوداد الوجوه( )، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (سورة آل عمران، الآية: 149). وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} (سورة النساء، الآية: 47) وجاء في تفسير ابن كثير: وطمسها أن تعمى، وقوله: فنردها على أدبارها أي نجعل لأحدهم عينين من قفاه، وهذا أبلغ من العقوبة والنكال وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم الى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء الى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقري على أدبارهم( ).
وقال تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (سورة آل عمران، الآية:106).
نقل القرطبي فيها جملة آراء منها رأي قتادة أنها في المرتدين كما نقل حديثاً لأبي هريرة، وقال عنه قد يستشهد به بأن الآية في الردة وهو (يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يارب أصحابي، فيقول: إنك لاعلم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري( )، وفي رواية أخرى لهذا الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله ?: يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات اليمين، فأقول: أصحابي فيقال: إنك لاتدري ماأحدثوا بعدك، فأقول، كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم، فلما توفيتني ، كنت أنت الرقيب عليهم. فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم( ).
ثانياً: أسباب الردة وأصنافها:
إن الردة التي قامت بها القبائل العربية بعد وفاة رسول الله ? لها أسباب منها، هو الصدمة بموت رسول الله ?، رقة الدين والسقم في فهم نصوصه، الحنين الى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، التفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، العصبية القبلية، الطمع في الملك، التكسب بالدين والشح بالمال، التحاسد، المؤثرات الأجنبية( ) كدور اليهود والنصارى، والمجوس وسنتحدث عن كل سبب في البحث بإذن الله تعالى.
وأما أصنافها، فمنهم من ترك الاسلام جملة وتفصيلاً وعاد الى الوثنية، وعبادة الأصنام، ومنهم من أدعى النبوة، ومنهم من دعا الى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة، ولكنه امتنع عن أداء زكاتة، ومنهم من شمت بموت الرسول وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من تكون الدبرة، وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير( ).
قال الخطابي: إن أهل الردة كانوا صنفين: صنفاً ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا الى الكفر. وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا محمد ? مدعية النبوة لغيره، والطائفة الاخرى ارتدو عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين وعادوا الى ماكانوا عليه في الجاهلية، والصنف الآخر هم الذين فرّقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها الى الإمام( )،... وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح (بها) ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك وقبضوا أيديهم على ذلك( )، وقريب من هذا التقسيم لأصناف المرتدين تقسيم القاضي عياض، غير أنهم عنده ثلاثة: صنف عادوا الى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي. وكل منهما ادعى النبوة، وصنف ثالث استمروا على الاسلام ولكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي ?( ).
وقسّم الدكتور عبدالرحمن بن صالح المحمود المرتدين الى أربعة أصناف: صنف عادوا الى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين بالكذبة، الأسود العنسي ومسيلمة وسجاح، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها الى أبي بكر( ).
ثالثاً: الردة أواخر عصر النبوة:
بدأت هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود. وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول ? ممثلة بزعمائها الذين قدما عليه من أصقاعها المختلفة، وكانت حركة الردة في هذه الأثناء لما تستَعلِن، بشكل واسع حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري، وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول الله ?، ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس، بدأ الجمر يتململ من تحت الرماد، وأخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وتجرأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، وطليحة الاسدي في بلاد قومه( ). ولما كان أخطر متمردين على الاسلام، وهما الأسود العنسي ومسيلمة وأنهما مصممان - كما يبدو- على المضي في طريق ردتهما قدماً دون أن يفكرا في الرجوع، وأنهما مشايعان بقوى غفيرة وإمكانيات وفيرة، فقد أرى الله نبيه ? من أمرهما ماتقر به عينه، ومن ثم ماتقر به عيون أمته من بعده. فقد قال يوماً وهو يخطب على منبره: أيها الناس، إني قد رأيت ليلة القدر، ثم أُنستها، ورأيت في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما الكذابين: صاحب اليمن، وصاحب اليمامة( ).
وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة فقالوا: إن نفخه ?، لهما يدل على أنهما يقتلان بريحه، لأنه لايغزوهما بنفسه، وإن وصفه لهما بأنهما من ذهب دلالة على كذبهما لأن شأنهما زخرف وتمويه، كما دل لفظ السوارين على أنهما ملكان لأن الأساورة هم الملوك، ودلاّ بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتد على المسلمين فترة، لكون السوار مضيقاً على الذراع( ).
وعبّر الدكتور علي العتوم بقوله: ...بأن طيرانهما بالنفخ دلالة على ضعف كيدهما مهما تضاخم فشأنهما زبد لابد أن يؤول الى جُفاء مادام هذا الكيد مستمداً من الشيطان، فهو واهن لامحالة، إذ أقل هجمة مركزة في سبيل الله تحيلهما أثراً بعد عين، وكونهما من ذهب دلالة على أنهما يقصدان من عملهما الدنيا لأن الذهب رمز لحطامها الذي يسعى المغترون بها خلفه، وأنهما سواران إشارة الى محاولتهما الإطاحة بكيان المسلمين عن طريق الإحاطة بهم من كل جانب، تماماً كم يحيط السوار بالمعصم( ).
رابعاً: موقف الصديق من المرتدين:
لما كانت الردة قام أبوبكر ? في الناس خطيباً فحمدالله وأثنى عليه ثم قال: الحمدلله الذي هدى فكفى وأعطى فأغنى إن الله بعث محمداً ? والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قدرت حبله، وخلق ثوبه، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيراً لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شراً لشر عندهم، وقد غيروا كتابهم، وألحقوا فيه ماليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله، لايعبدونه، ولايدعونه، فأجهدهم عيشاً، وأظلهم ديناً في ظلف الأرض مع مافيه من سحاب، فختمهم الله بحمد وجعلهم الأمة الوسطى، ونصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه ? فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (سورة آل عمران، الآية:144).
إن من حولكم من الأعراب قد منعوا شاتهم، وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على متقدم من بركة نبيكم وقد وكلكم الى المولى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلاً فأغناه {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (سورة آل عمران، الآية: 103).
والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل شهيداً من أهل الجنة، ويبقى منها خليفته وذريته في أرضه قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}( ) (سورة النور، الاية 55).
وقد أشار بعض الصحابة ومنهم عمر على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الايمان من قلوبهم ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق عن ذلك وأباه( )، فعن أبي هريرة ? قال: لما توفى رسول الله ?، وكان أبوبكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال ?: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله، ونفسه إلا بحقه( )، وحسابه على الله، فقال أبوبكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً( ) كانوا يؤدونها الى رسول الله لقاتلتهم على منعها وفي رواية: والله لو منعوني عقالاً( )، كانوا يؤدونه الى رسول الله لقاتلتهم على منعه. قال عمر فوالله ماهو إلآ أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق( )، ثم قال عمر بعد ذلك؛ والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعاً في قتال أهل الردة( )، وبذلك يكون أبوبكر قد كشف لعمر (وهو يناقشه) عن ناحية فقهية مهمة أجلاها له، وكانت قد غابت عنه وهي أن جملة جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي أحتج به عمر هي الدليل على وجوب محاربة من منع الزكاة حتى وإن نطق بالشهادتين وهي قول النبي ?: فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها( )، وفعلاً كان رأي أبوبكر في حرب المرتدين رأياً ملهماً، وهو الرأي الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الاسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع الى الجاهلية، ولولا الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ وتحولت مسيرته، ورجعت عقارب الساعة الى الوراء، ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فساداً( ).
لقد تجلى فهمه الدقيق للاسلام، وشدة غيرته على هذا الدين، وبقائه على ماكان عليه في عهد نبيه في الكلمة التي فاضى بها لسانه ونطق بها جنانه، وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة طويلة وكتاباً حافلاً، وهي قوله عندما امتنع كثير من قبائل العرب أن يدفعوا الزكاة الى بيت المال، أو منعوها مطلقاً وأنكروا فرضيتها: قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي( ) وفي رواية قال عمر: فقلت ياخليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم، فقال لي: أجبّار في الجاهلية خوَّار في الاسلام، قد انقطع الوحي، وتم الدين أينقص وأنا حي( ).
لقد سمع أبوبكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين وماعزم على خوض الحرب إلا بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح، إلا أنه كان سريع القرار حاسم الرأي فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر -هذا الخليفة العظيم- في حياته كلها( )، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا الى قوله واستصوبوه.
لقد كان أبوبكر ? أبعد الصحابة نظراً، وأحقهم فهماً، وأربطهم جناناً في هذه الطامة العظيمة( )، والمفاجئة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيب رحمه الله: وكان أفقهم، يعني الصحابة، وأمثلهم رأياً( ).
إن أبابكر كان أنفذ بصيرة من جميع من حوله لأنه فهم بإيمانه الذي فاق إيمانهم جميعاً، أن الزكاة لا تنفصل عن الشهادتين؛ فمن أقر لله بالوحدانية لابد أن يقر له بما يفرض من حق في ماله الذي هو مال الله أصلاً (وأن لا إله إلا الله بغير زكاة لا وزن لها في حياة الشعوب، وأن السيف يشرع دفاعاً عن أدائها تماماً كما يشرع دفاعاً عن لا إله إلا الله، تماماً هذه كتلك. هذا هو الاسلام وغير هذا ليس من الاسلام( )، فقد توعد الله اولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سورة البقرة، الآية: 85).
كان موقف أبي بكر ? الذي لاهوادة فيه ولا مساومة فيه ولا تنازل، موفقاً ملهماً من الله، يرجع إليه الفضل الأكبر -بعد الله تعالى- في سلامة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبابكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية، ومحاولة نقض عرى الاسلام عروة عروة، موقف الأنبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى أبوبكر حقها واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم الى أن يرث الله الأرض وأهلها( ).
خامساً: خطة الصديق لحماية المدينة:
انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصديق وحزمه وقد خرجت بأمرين:
أ- أن قضية منع الزكاة لاتقبل المفاوضة وأن حكم الإسلام فيها واضح ولذلك لاأمل في تنازل خليفة المسلمين عن عزمه ورأيه وخاصة بعدما أيده المسلمون وثبتوا على رأيه بعد وضوح الرؤية وظهور الدليل.
ب-أنه لابد من اغتنام فرصة ضعف المسلمين -كما يظنون- وقلة عددهم لهجوم كاسح على المدينة يسقط الحكم الإسلامي فيها ويقضي على هذا الدين( ).
قرأ الصديق في وجوه القوم مافيها من الغدر، ورأى فيها الخسة وتفرس فيها اللؤم فقال لأصحابه: إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لاتدرون أَليْلاً تؤتون أم نهاراً! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا وأعدوا( )، ووضع الصديق خطته على الوجه التالي:
أ-ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع.
ب-نظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون حولها حتى يدفعوا أي غارة قادمة.
جـ-عين على الحرس أمراؤهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم( ).
س-وبعث أبو بكر ? إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت على الإسلام، من أسلم وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة وكعب، يأمرهم بجهاد أهل الردة فاستجابوا له، حتى امتلأت المدينة المنورة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق( )، ومما يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها للصديق، أن جهينة وحدها قدمت إلى الصديق في أربعمائة من رجالها ومعهم الظهر والخيل، وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لإعانة المسلمين، فوزعها أبو بكر في الناس( ).
هـ-ومن ابتعد من المرتدين عن المدينة، وأبطأ خطره، حاربه بالكتب يبعث بها إلى الولاة المسلمين في أقاليمهم كما كان رسول الله يفعل، يحرضهم على النهوض لقتال المرتدين، ويذمر الناس للقيام معهم في هذا الأمر، ومن أمثلة ذلك رسالته لأهل اليمن حيث المرتدة من جنود الأسود العنسي التي قال فيهاSadأما بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم، وحوطوهم، واسمعوا من فيروز، وجدوا معه، فإني قد وليته)( )، وقد أثمرت هذه الرسالة، وقام المسلمون من أبناء الفرس بزعامة فيروز، يعاونهم إخوانهم من العرب بشن غارة شعواء على العصاة المارقين حتى رد الله كيدهم إلى نحورهم، وعادت اليمن بالتدرج إلى جادة الحق( ).
و-وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره كبني عبس وذبيان فإنه لم ير بداً من محاربتهم على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول الله ?، فكان أن آوى الذراري والعيال إلى الحصون والشعاب، محافظة عليهم من غدر المرتدين( )، واستعد للنزال بنفسه ورجاله.
سادساً: فشل أهل الردة في غزو المدينة:
بعد ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدينة ليلاً وخلفوا بعضهم بذي حُسىَ، ليكونوا لهم ردءاً، وانتبه حرس الأنقاب لذلك وأرسلوا للصديق بالخبر، فأرسل إليهم أن ألزموا أماكنكم، ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم فانفشَّ العدو، فاتبعهم المسلمون على إبلهم، حتى بلغوا ذا حُسىَ، فخرج عليهم الرّدء بأنحاء( ) قد نفخوها، وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها( )، بأرجلهم في وجوه الإبل، فتدهده كل نحْي في طوله( )، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها -ولاتنفر الإبل في شيء نفارَها من الأنحاء- فعاجت بهم مايملكونها، حتى دخلت بهم المدينة فلم يُصْرَع مسلم ولم يُصَبْ( ) وقال عبدالله الليثي وكانت بنو عبد مناة من المرتدة -وهم بنوذبيان- في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حسى:
أطعنا رسول الله ماكان بيننا
فيالعباد الله مالأبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده
وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه
وهلا خشيتم حسَّ راغبة البكر
وإنَّ التي سالُوكُمُ فمنعتُمُ
لكالتَّمْر أو أحلى إليّ من التمر( )
فظنّ القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصَّة بالخبر، فقدموا عليهم اعتماداً في الذين أخبروهم، وهم لايشعرون لأمر الله عزوجل الذي أراده، وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ، فعبَّى الناس، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النُّعمان بن مُقرِّن، وعلى ميسرته عبدالله بن مقرن، وعلى الساقة سُويد بن مقرن معه الرُّكاب فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همساً ولاحسّاً حتى وضعوا فيهم السيوف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذرَّ قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامّة ظهرهم، وقتل حبالُ -أخو طليحة الأسدي- واتبعهم أبو بكر، حتى نزل بذي القُصَة -وكان أول الفتح- ووضع بها النعمان بن مقرن في عدد، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين، فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم، وعزَّ المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة( ).
وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي:
غداة سعى أبو بكر إليهم
كما يسعى لموتته جلال
أراح على نواهقها عليا
ومج لهن مهجته حبال( )
وصمم الصديق ? على أن ينتقم للمسلمين الشهداء، وأن يؤدب هؤلاء الحاقدين ونفذ قسمه وازداد المسلمون في بقية القبائل ثباتاً على دينهم، وازداد المشركون ذلاً وضعفاً وهواناً وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة، فطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان ثم الزبرقان، ثم عدي، صفوان في أول الليل، والثاني في وسطه، والثالث( ) في آخره، وفي ليلة واحدة أثرت المدينة بأموال زكاة ستة أحياء من العرب، وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة الزكاة قال الناس: (نذير) فيقول أبو بكر: (بل بشير) وإذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه، فيقول الناس لأبي بكر: طالما بشرتنا بالخير( )، وخلال هذه البشائر التي تحمل معها بعض العزاء، وشيئاً من الثراء، عاد أسامة ابن زيد بجيشه ظافراً، وصنع كل ماكان الرسول قد أمره به، وما أوصاه به أبو بكر الصديق( )، فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وقال له ولجنده أريحوا وأريحوا ظهركم( )، ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله ياخليفة رسول الله أن تُعرض نفسك! فإنك إن تُعَب لم يكن للناس نظام ومقامك أشد من العدو، فابعث رجلاً، فإن أصيب أمّرت آخر فقال: لاوالله لاأفعل ولأواسينّكم بنفسي( ). لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه، فالقائد في فهم المسلمين قدوة في أعماله، فكان من آثار هذه السياسة الصديقية أن تقوّى المسلمون وتشجعوا لحرب عدوهم، وأستجابوا لتطبيق الأوامر الصادرة إليهم من القيادة( )، لقد خرج الصديق في تعبيته إلى ذي حُسَ وذي القصة، والنُّعمان وعبدالله وسُويد على ماكانوا عليه، حتى نزل على أهل الرَّبذة بالأبرق، فهزم الله الحارث وعوفاً وأخذ الحطيئة أسيراً، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياماً، وقد غلب بني ذبيان على البلاد. وقال: حرام على ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله وأجلاها فلما غلب أهل الردة، ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة، وهي كانت منازلهم لينزلوها، فمنعوا منها فأتوه في المدينة، فقالوا: علام نمنع من نزول بلادنا! فقال: كذبتم، ليست لكم ببلاد، ولكنها مَوْهبي ونَقَذي( )، ولم يُعْتبهم( )، وحمى الأبرق لخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الرَّبذة الناس على بني ثعلبة، ثم حماها كلها لصدقات المسلمين، لقتال كان وقع بين الناس، وأصحاب الصدقات، وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة:
ويوم بالأبارق قد شهدنا
على ذبيان يلتهب التهابا
أتيناهم بداهية نسُوفُ( )
مع الصديق إذ ترك العتابا( )
وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا، وما اضطربت أمور المسلمين منذ زمن، إلا لأنهم كانوا يعدون الرئاسة وسيلة للجاه، وباباً لجلب المغانم ودرء المغارم، وإيثاراً للعافية، والاكتفاء بالكلمات تزجى من وراء أجهزة الإعلام، أو من غرف العمليات، بعيداً عن المشاركة مشاركة حقيقية في قضايا الأمة المختلفة( ).
إن خروج الصديق ? للجهاد ثلاثة مرات متتالية، يعتبر تضحية كبيرة وفدائية عالية، فقد ناشده المسلمون أن يبقى في المدينة ويبعث قائداً على الجيش فلم يقبل بل قال: لاوالله لاأفعل ولأواسينَّكم بنفسي، وهذا يدل على تواضعه الجمِّ، واهتمامه الكبير بمصلحة الأمة، وتجرده من حظ النفس، وقد أصبح بذلك قدوة صالحة لغيره، فلاشك أن خروجه للجهاد ثلاث مرات متتاليات وهو الشيخ الذي بلغ الستين من عمره قد أعطى بقية الصحابة دفعات قوية من النشاط والحيوية( ).
وقد جاء في إحدى هذه الروايات أن ضراربن الأزور حينما أخبر أبا بكر الصديق بخبر تجمع طليحة الأسدي قال: فما رأيت أحد -ليس رسول الله- أملأ بحرب شعواء من أبي بكر، فجعلنا نخبره ولكأنما نخبر بماله ولاعليه( ).
وهذا وصف بليغ لما كان يتصف به أبو بكر من اليقين الراسخ والثقة التامة بوعد الله تعالى لأولياءه بالنصر على الأعداء والتمكين في الأرض، فأبو بكر لم يَفُق الصحابة بكبير عمل وإنما فاقهم بحيازة الدرجات العلى من اليقين رضي الله عنهم أجمعين( ).
وقد روى أنه لما قيل له: لقد نزل بك مالو نزل بالجبال لهاضها وبالبحار لغاظها ومانراك ضعفت. فقال: مادخل قلبي رعب بعد ليلة الغار، فإن النبي ? لما رأى حزني قال: لاعليك يا أبا بكر، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام( )، فكان له ? مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية، وقوة يقينية في الله عزوجل، وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين، وهذه الشجاعة لاتحصل إلا لمن كان قوي القلب، وتزيد بزيادة الإيمان وتنقص بنقص ذلك، فقد كان الصديق أقوى قلباً من جميع الصحابة لايقاربه في ذلك أحد منهم( ).

المبحث الثالث
الهجوم الشامل على المرتدين



تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين فكان للثابتين دور في مواجهة أقوامهم، فوقف بعض الثابتين في وجه أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ماهم مقدمون عليه من نقض مايؤمنون به وكانت الخطوة الأولى بالكلمة، ولم تكن الكلمة في يوم من الأيام هي أضعف المواقف وإنما هي أقواها، لأنها تستتبع مواقف جادة لتحديد مصداقية الكلمة، وقد تؤدي الكلمة بصاحبها إلى الذبح من أجل الشهادة للكلمة التي قالها، ففي كل قبيلة حصلت فيها ردة كانت هناك بعض المواقف للذين انفعلت قلوبهم للحق وتغذت به وعاشت عليه هي التي رأت باطل مايفعله كل قوم، ولهذا وقفوا لهم بالمرصاد يحذرون أقوامهم من سوء المصير الذي ينتظرهم، فما كان من قومهم إلا أن وقفوا في وجوههم ساخرين مستهزئين، ثم تمادوا إلى مطاردتهم وإخراجهم بل وقتلهم في بعض الأحيان، ونجح بعضهم بالكلمة، كعدي بن حاتم مع قومه، والجارود مع أهل البحرين( ) وسترى تفاصيل ذلك بإذن الله وعندما فشل بعض المسلمين في وعظ أقوامهم، تحولوا إلى تجمعات مسلمة ثابتة على إسلامها واتخذت لها الموقف المناسب ضد أقوامهم المرتدين، وكثير من المواقف بدأت بالكلمة، ثم انتهت إلى العمل كما حصل لمن ثبت من بني سليم فقد حذرهم قومهم فانقسموا إلى قسمين، ثابت ومرتد.
فتجمع الثابتون وصاروا يجالدون قومهم المرتدين، وقام الأبناء في اليمن سراً بتدبير قتل الأسود العنسي -كما سيأتي تفصيله- بعد أن كان موقفهم سلبياً في بطش الأسود العنسي، ووقف مسعود أو مسروق القيسي ابن عابس الكندي ينصح الأشعث بن قيس ويدعوه لعدم الردة، ودخل بينهما حوار طويل وتحد متبادل، وهكذا صارت بعض المواقف سبباً في إرجاع قومهم عن الردة أو في تسهيل مهمة جيوش الدولة الإسلامية القادمة للقضاء على الردة( ).
لقد اعتمدت سياسة الصديق في القضاء على الردة على الله تعالى ثم على ركائز قوية من القبائل والزعماء والأفراد الذين انبثوا في كافة أنحاء الجزيرة العربية، وثبتوا على إسلامهم، وقاموا بأدوار هامة ورئيسية في القضاء على فتنة الردة، ولقد أخطأ بعض الكتاب عندما تناول فتنة الردة بشيء من التعميم أو عدم الدقة أو عدم الموضوعية أو سوء الفرض أو النظرة الجزئية( ).
إن من الحقائق الأساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة لكل الناس كشمولها الجغرافي، بل إن هناك قادة وقبائل وأفراد وجماعات وأفراد تمسكوا بدينهم في كل منطقة من المناطق التي ظهرت فيها الردة ( ) ولقد قام الدكتور مهدي رزق الله أحمد بدراسة عميقة وأجاب على سؤال طرحه وهو: هل كانت الردة في عهد الخليفة أبي بكر ? شاملة لكل القبائل العربية والأفراد والزعماء الذين كانوا مسلمين؟ أم أن هذه الفتنة قد وقعت فيها بعض القبائل وبعض الزعماء وبعض الأفراد في مناطق جغرافية مختلفة؟ وبعد البحث قال: إن أول حقيقة تستخلص من المصادر التي أشرت إليها سابقاً هي أنني لم أجد مايدل على أن القبائل والزعماء والأفراد قد ارتدوا جميعاً على الإسلام، كما ذكر أولئك النفر الذين جعلناهم مثالاً( )، بل وجدت أن الدولة الإسلامية اعتمدت على قاعدة صلبة من الجماعات والقبائل والأفراد الذين ثبتوا على الإسلام وانبثوا في كافة أنحاء الجزيرة وكانوا سنداً قوياً للإسلام ودولته في قمع حركة المرتدين منهم( ).
أولاً: المواجهة الرسمية من الدولة:
1-وسيلة الإحباط من الداخل:
كان رسول الله ? قد استعمل هذه الوسيلة فقام بمراسلة وبعث الرسل إلى قبائل المتنبئين لتجميع الثابتين على الإسلام، وليشكل بهم جماعة تحارب الردة، وسار الصديق ? على نفس المنهج، وحاول أن يحجم ويقضي على مايمكن القضاء عليه من بؤر المرتدين،وقام بالتوعية ضدها والتخذيل منها وتنفير الناس عنها، واستطاع أن يتصل بالثابتين على الإسلام وجعل منهم رصيداً للجيوش المنظمة، فقد كان يعد الأمة لمواجهة منظمة مع المرتدين بعد عودة جيش أسامة، فقد راسل الصديق زعماء الردة والثابتين على الإسلام ليحقق بعض الأهداف، ككسب الوقت حتى يرجع جيش أسامة، فكتب إلى من كتب إليهم رسول الله باليمن وغيرها( )، ليبذلوا جهدهم لدعوة الثابتين إلى الإسلام، وطلب من الثابتين التجمع في مناطق حددها لهم حتى يأتيهم أمره، وكان هذا الترتيب بداية للخطة العسكرية القادمة( )، وقد حالف التوفيق بعض الثابتين بالوصول إلى المدينة ومعهم صدقاتهم مثل عدي بن حاتم الطائي، والزبرقان بن بدر التميمي( )، وتمكن الثابتون من إفشال حركة قيس بن مكشوح المرادي، وبعض التجمعات القبلية في تهامة وبلاد السراة ونجران وقد حققت هذه الوسيلة بعض النتائج منها:
أ-نجحت خطة الصديق في تحقيق حملات التوعية والدعاية والتعضيد للمسلمين، والتخذيل لقوى المرتدين، تمهيداً لاتخاذ الوسيلة الأخرى حينما تتوفر لها الإمكانات: وهي أداة الجيوش المنظمة.
ب-أنها حققت أغراضها من حيث التربية وإعداد الثابتين على الإسلام ليكونوا قواداً في حركة الفتوح الإسلامية فيما بعد، كعدي بن حاتم الطائي أحد قواد فتوح العراق.
جـ-تكوين قوى مسلمة مرابطة في بعض المراكز التي حددها لهم الصديق لتنظم بعد ذلك إلى الجيوش القادمة.
د-القضاء على بعض مناطق الردة ولو بمحدودية ضيقة مثل ماحصل في جنوب الجزيرة العربية.
2-إرسال الجيوش المنظمة:
لما وصل جيش أسامة بعد شهرين وقيل أربعين يوماً -من مسيرهم واستراحوا خرج أبو بكر الصديق بالصحابة رضي الله عنهم إلى (ذي القَّصَّة) وهي على مرحلة من المدينة، وذلك لقتال المرتدين والمتمردين، فعرض عليه الصحابة أن يبعث غيره على القيادة وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور الأمة وألحُّوا عليه بذلك، ومما رُوي في هذا الموضوع ماقالته عائشة: خرج أبي شاهراً سيفه راكبا راحلته إلى وادي ذي القصة، فجاء علي بن أبي طالب ?، فأخذ بزمام راحلته فقال: إلى أين ياخليفة رسول الله؟ أقول لك ماقال رسول الله يوم أحد( )، لُمَّ سيفك ولاتفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك لايكون للإسلام بعدك نظام أبداً، فرجع( ) وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء وجعل على كل لواء أميراً( )، وأمر كل أمير جند باستنفار من مرّ به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم:
1-جيش خالد بن الوليد إلى بني أسد ثم إلى تميم ثم إلى اليمامة.
2-جيش عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة في بني حنيفة، ثم إلى عمان والمهرة، فحضرموت، فاليمن.
3-جيش شرحبيل بن حسنة إلى اليمامة في إثر عكرمة ثم حضرموت.
4-جيش طريفة بن حاجز إلى بني سليم من هوازن.
5-جيش عمرو بن العاص إلى قضاعة.
6-جيش خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام.
7-جيش العلاء بن الحضرمي إلى البحرين.
8-جيش حذيفة بن محصن الغلفاني إلى عمان.
9-جيش عرفجة بن هرثمة إلى مهرة.
10-جيش المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن (صنعاء ثم حضرموت).
11-جيش سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن( ).
وهكذا اتخذت قرية (ذي القصة) مركز انطلاق او قاعدة تحرك للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاء عليها، وتنبئ خطة الصديق ? عن عبقرية فذة، وخبرة جغرافية دقيقة( )، ومن خلال تقسيم الألوية وتحديد المواقع يتضح أن الصديق ? كان جغرافياً دقيقاً خبيراً بالتضاريس، والتجمعات البشرية، وخطوط مواصلات جزيرة العرب، فكأن الجزيرة العربية صوّرت مجسم واضح نصب عينيه في غرفة عمليات مجهزة بأحدث وسائل التقنية، فمن يتمعَّن تسيير الجيوش ووجهه كلِّ منها، واجتماعها بعد تفرُّقها، وتفرقها لتجتمع ثانية، يرى تغطية سليمة رائعة صحيحة مثالية لجميع أرجاء الجزيرة، مع دقة في الإتصال مع هذه الجيوش، فأبوبكر في كل ساعة يعلم أين مواقع الجيوش ويعلم دقائق أمورها وتحركاتها، وماحققت، وماعليها في غد من واجبات، والمراسلات دقيقة وسريعة، تنقل أخبار الجبهات إلى مقرِّ القيادة في المدينة حيث الصديق وكان على صلة مستمرة مع جيوشه كلها، وبرز من المراسلين العسكريين مابين الجبهات وبين مقرِّ القيادة: أبو خيثمة النَّجَّاري الأنصاري، وسلمة بن سلامة، وأبو برزة الأسلمي، وسلمة بن وقش( ).
وكانت الجيوش التي بعثها الصديق متماسكة وهي إحدى إنجازات الدولة الهامة، إذ جمعت تلك الجيوش بين مهارة القيادة وبراعة التنظيم، فضلاً عن الخبرة في القتال صهرتها الأعمال العسكرية في حركة السرايا والغزوات التي تعدى بعضها شبه الجزيرة في زمن النبي ?، فقد كان الجهاز العسكري لدولة الصديق متفوقاً على كل القوى العسكرية في الجزيرة( )، وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في حروب الردة، والفتوحات الإسلامية كان هذا التوزيع للجيوش وفق خطة استراتيجية هامة مفادها، أن المرتدين لازالوا متفرقين كلٌّ في بلده ولم يحصل منهم تحزب ضد المسلمين بالنسبة للقبائل الكبيرة المتباعدة في المكان أولاً، لأن الوقت لم يكن كافياً للقيام بعمل كهذا حيث لم يمضي على ارتدادهم إلا مايقرب من ثلاثة شهور، وثانياً لأنهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم وأنهم باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعاً في شهور معدودة، ولذلك أراد الصديق أن يعاجلهم بضربات مفاجئة تقضي على شوكتهم وقوتهم قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم( )، فعالجهم قبل استفحال فتنتهم ولم يترك لهم فرصة يطلون منها برؤوسهم، ويمدون ألسنتهم يلذعون بها الجسم الإسلامي وبذلك طبق الحكمة القائلة:
لاتقطَعَنْ ذنب الأفعى وترسلها
إن كنت شهماً فاتبع رأسها الذنبا( )
فقد أدرك حجم الحدث وأبعاده، ومدى خطورته، وعلم أنه إن لم يفعل كذلك فسيوشك الجمر أن ينتفض من تحت الرماد فيحرق الأخضر واليابس كما قال الأول:
أرى تحت الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون له ضرام( )
فقد كان ? السياسي الماهر والعسكري المحنَّك الذي يقدر الأمور ويضع لها الخطط المباشرة.
انطلقت الألوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلام التوحيد مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى عزوجل وتشربت معاني الإيمان ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله جل وعلا هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره وأعلى بهم كلمته وحمى بهم دينه حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة( ).
هذا وقد كتب أبو بكر الصديق كتاباً واحداً إلى قبائل العرب من المرتدين والمتمردين، فدعاهم إلى العودة إلى الإسلام وتطبيقه كاملاً كما جاء من عند الله تعالى ثم حذرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا على ماهم عليه في الدنيا والآخرة، وكان قوياً في إنذارهم، وهذا هو المناسب لشدة انحرافهم وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم، فكان لابد من إنذار شديد يتبعه عمل جرئ قوي لإزالة الطغيان الذي عشَّش في أفكار زعماء تلك القبائل والعصبية العمياء التي سيطرت على أفكار أتباعهم( ).
3-نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين والعهد الذي كتبه للقادة:
بعد التنظيم الدقيق، وحسن الإعداد للجيوش الإسلامية التي عقد لها الصديق الألوية، نجد الدعوة البيانية القولية تطل لتقوم بدورها، وتدلي بدلوها، فقد حرر الصديق كتاباً عاماً ذا مضمون محدد سعى إلى نشره على أوسع نطاق ممكن في أوساط من ثبتوا على الإسلام ومن ارتدوا عنه جميعاً قبل تسيير قواته لمحاربة الردة وبعث رجالاً إلى محل القبائل وأمرهم بقراءة كتابه في كل مجمع وناشد من يصله مضمون الكتاب بتبليغه لمن لم يصل إليه وحدد الجمهور المخاطب به بأنه: العامة والخاصة، من أقام على إسلامه أو رجع عنه( ) وهذا نص الكتاب الذي بعثه الصديق: بسم الله الرحمن الرحيم: من أبي بكر خليفة رسول الله ? إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، نُقرُّ بما جاء به، ونكفِّر من أبى ونجاهده. أما بعد، فإن الله تعالى أرسل محمداً بالحق من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله ? بإذنه( )، من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوْعاً وكَرهاً ثم توفي الله رسوله ? وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (سورة الزمر، آية:30)، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (سورة الأنبياء، آية:34)، وقال للمؤمنين :{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(سورة آل عمران، آية:144)، فمن كان إنما يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لاشريك له فإن الله له بالمرصاد، حي قيوم لايموت، ولاتأخذه سنة ولانوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه، يجريه وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله، وماجاءكم به نبيكم ?، وأن تهتدوا بهُداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من يعافه مُبْتلى، وكل من لم يُعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتدياً ومن أضله كان ضالاً، قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (سورة الكهف، آية:17). ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقربه، ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولاعدل وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقرّ بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله، وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} (سورة الكهف، آية:50) وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (سورة فاطر، آية:6)، وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحداً ولايقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكفّ وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لايُبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولايقبل من أحد إلا سلام، فمن تبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يُعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان: فإذا أذن المسلمون فأذَّنوا كُفُّوا عنهم، وإن لم يؤذّنوا عاجلوهم،وإن أذَّنوا اسألوهم ماعليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقرّوا قبل منهم، وحملهم على ماينبغي لهم( ).
ونلحظ في خطاب أبي بكر أنه كان يدور حول محورين:
أ-بيان أساس مطالبة المرتدين بالعودة الى الاسلام.
ب-بيان عاقبة الإصرار على الردة( ).
وقد أكد الكتاب على عدة حقائق هي:
• أن الكتاب موجه إلى العامة والخاصة ليسمع الجميع دعوة الله.
• بيان أن الله بعث محمداً بالحق فمن أقر به كان مؤمناً، ومن أنكر كان كافراً يجاهد ويقاتل.
• بيان أن محمداً، بشر قد حق عليه قول الله: إنك ميت، وأن المؤمن لايعبد محمداً ? وإنما يعبد الله الحي الباقي الذي لايموت أبداً، ولذلك لاعذر لمرتد( ).
• إن الرجوع عن الإسلام جهل بالحقيقة واستجابة لأمر الشيطان، وهذا يعني أن يتخذ العدو صديقاً، وهو ظلم عظيم للنفس السوية، إذ يقودها صاحبها بذلك إلى النار عن طواعية.
• إن الصفوة المختارة من المسلمين وهم المهاجرون والأنصار وتابعوهم هم الذين ينهضون لقتال المرتدين غيرة منهم على دينهم، وحفاظاً عليه من أن يهان.
• إن من رجع إلى الإسلام، وأقر بضلاله، وكف عن قتال المسلمين وعمل من الأعمال مايتطلبه دين الله، فهو من مجتمع المسلمين له مالهم وعليه ماعليهم.
• إن من يأبى الرجوع إلى صف المسلمين، ويثبت على ردته، إنما هو محارب لابد من شن الغارة عليه: تقتله أو تحرقه وتسبي نساءه وذراريه، ولن يعجز الله بأية حال، لأنه أنى ذهب، في ملكه.
• إن الشارة التي ينجو بها المرتدون من غارة المسلمين أن يعلن فيهم الأذان، وإلا فالمعالجة بالقتال هي البديل( ) وحتى لايترك الخليفة الأمر للقادة والجند بغير انضباط، كتب للقواد جميعاً كتاباً واحداً، يدعوهم فيه إلى الالتزام بمضمون كتابه السابق هذا نصه: ... هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله ? لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقي الله مااستطاع في أمره كله سره وعلانيته، وأمره بالجدّ في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شنّ غارته عليهم حتى يقرُّوا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ماعليهم ويعطيهم الذي لهم، لايُنظرهم، ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله عزوجل وأقرّ له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يتقبل من كفربالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسربه، ومن لم يجب داعية الله قُتل وقوتل حيث كان، وحيث بلغ مراغَمهُ، لايقبل من أحد شيئاً أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقرّ قبل منه وعلَّمه، ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسَّم ما أفاء الله عليهم، إلا الخُمس فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألاّ يُدخل فيهم حَشْواً حتى يعرفهم ويعلم ماهم، لايكونوا عيوناً، ولئلا يُؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم، ولايُعجِّل بعضهم عن بعض ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول( ).
وفي هذا العهد الذي ألزم به قوّاده يظهر حرص الصديق على إلزام أمرائه في حرب الردة بتعليمات أساسية مكتوبة موحدة نصت بوضوح لايحتمل اللبس على حظر القتال قبل الدعوة إلى الإسلام والإمساك عن قتال من يجيب والحرص على اصلاحهم وحظر مواصلة القتال بعد أن يقروا بالإسلام والتحول عند هذه النقطة من القتال إلى تعليمهم أصول الإسلام وتبصيرهم بما لهم من حقوق وماعليهم من واجبات وحظر المهادنة أو رد الجيش عن محاربة المرتدين مالم يفيئوا إلى أمر الله.
والتزم الجيش الإسلامي في التنفيذ بمبدأ الدعوة قبل القتال والإمساك عن القتال بمجرد إجابة الدعوة باعتبار أن الغاية الوحيدة هي عودة المرتدين إلى الذي خرجوا منه، وتلمساً لتحقيق أقصى درجة من التوافق في صفوف القوات الإسلامية التي نيط بها القضاء على ظاهرة الردة أمضى الصديق هذا العهد مع أمراء الجيوش الإسلامية، يطلب من الجيش أن يكون سلوكه ذاته خير دعوة للمهمة المسندة إليه، وأن يتطابق تماماً مع هدف واحد هو الدفاع عن الإسلام( ).
إن اقتداء أبي بكر ? برسول الله ? علمه فن القيادة، ونجاح القائد في قيادته يتوقف على مدى نجاحه في جنديته ولقد كان أبو بكر نعم الجندي في جيش المسلمين، مخلصاً في ولائه لرسول الله، يطبق مايقوله بحذافيره، مضحياً في سييله لم يفر عنه في معركة قط، ونستطيع أن ندرك دقة آرائه القيادية وبعد مرماها من وصاياه لقواده وخططه العامة التي رسمها لهم أثناء تحركهم لضرب قوات العدو( ). لقد كانت أول وصية أوصاهم بها تتركز على النقاط التالية:
• أن يلزموا أنفسهم تقوى الله عزوجل ومراقبته في السر والعلن، وهذا عين الصواب في هذه السياسة الرشيدة لأن القائد إذا ألزم نفسه تقوى الله عزوجل كان معه {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}(سورة النحل، آية:128).
• الجد والاجتهاد وإخلاص النية لله سبحانه، وتلك أخلاق المنصورين الفائزين( ) {وَالَّذ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:20 pm

كان الصديق في نهجه هذا يستهدف أمرين متلازمين:
• أنه جعله خطة حربية حيث كان جيش أسامة بن زيد قد خرج الى الشام، وكان الخليفة ينتظر عودته حتى يتسنى له مواجهة أعنف موجات الردة في اليمامة والبحرين وعمان وتميم، وهي أشد وأعنف من موجات الردة في اليمن التي اكتفى بمعالجة بعضها بالرسائل والرسل.
• وأما الهدف الآخر فهو إعطاء الفرصة لمن ثبت على الاسلام لكي يبرهن على صدق إسلامه، ولكي يزداد ثباتاً واستمساكاً بدينه مادام هو صاحب المسؤولية والمتحمل لأمانة إقرار الإسلام فيمن حوله، خاصة أن من راسلهم أبوبكر كانوا هم الذين راسلهم رسول الله ? من قبل، وقد ثبتوا وقاموا بما طُلب منهم( )، وقام فيروز بالاتصال ببعض القبائل يستمدهم ويستنصرهم وعلى رأس هؤلاء (بنو عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة) ثم أرسل الى قبيلة (عك) للغرض نفسه، وكان أبوبكر قد أرسل الى الطاهر بن أبي هالة( )، والى مسروق العكي -وكانا بين عك والأشعريين- أن يمدا الأبناء بالمعونة، فخرج كل من جهته وعملوا جميعاً للحيلولة دون تنفيذ مخطط قيس وهو طرد الأبناء وإخراجهم من اليمن، فانقذوهم ثم تكتلوا وتوجهوا نحو صنعاء جميعاً، فاصطدموا به حتى اضطر الى ترك صنعاء، وعاد الى ماكان عليه أصحاب الأسود العنسي وهو التذبذب بين نجران وصنعاء ولحج إلا أنه انضم الى عمرو بن معد يكرب الزبيد، وبهذا عادت صنعاء للمرة الثانية الى الهدوء والاستقرار عن طريق الرسل والكتب( ).
ج- واستمر الصديق يتابع سياسة الإحباط من الداخل وهي مايعبر عنها المؤرخون بقولهم: (ركوب من ارتد بمن لم يرتد وثبت على الاسلام)( ).
ففي ردة (تهامة اليمن) تم القضاء عليها بدون مجهود يذكر من قبل الخليفة، فقد تولاها المسلمون من أبناء تهامة مثل (مسروق) العكي الذي قاتل المرتدين بقومه من عك، وكان على رأس من قضاء على ردة تهامة (الطاهر بن أبي هالة) الذي كان والياً للرسول ? على جزء من تهامة وهي موطن (عك والأشعريين)( )، ثم أمر أبوبكر (عكاشة بن ثور) أن يقيم في (تهامة) ليجمع حوله أهلها حتى يأتيه أمره( )، وأما بجيلة فإن أبابكر رد جرير بن عبدالله( )، وأمره أن يستنفر من قومه من ثبت على الاسلام ويقاتل بهم من ارتد عن الاسلام وأن يأتي خشعم فيقاتل من ارتد منهم، فخرج جرير وفعل ماأمره به الصديق ?، فلم يقم له أحد إلا نفر يسير، فقتلهم وتتبعهم( ).
وكان بعض (بني الحارث بن كعب) بنجران قد تابعوا الأسود العنسي وبعد وفاة رسول الله ? بقوا مترددين فخرج أليه (مسروق العكي) وهو يزمع مقاتلتهم فدعاهم الى الاسلام فأسلموا من غير قتال، فأقام فيهم ليعمل على استتباب الأمور فلم يأته (المهاجر بن أبي أمية) إلا وقد ضبط نجران( ).
وقد نجحت سياسة الاحباط من الداخل وتوّجه الصديق بإرسال الجيوش بعد عودة جيش أسامة.
د- جيش عكرمة:
بعد أن شارك في القضاء على ردة أهل عمان توجه نحو مهرة حسب أمر أبي بكر وكان معه سبع مئة فارس( )، فوق ماجمع حوله من قبائل عمان، وحينما دخل مهرة وجدها مقسمة بين زعيمين متناحرين: أحدهما يسمى شخريت ويتمركز في الساحل الساحلي، وهو أقل الجمعين عدداً وعدة. والآخر يسمى المصبح ونفوذه على المناطق المرتفعة وهو أكبر الجمعين، فدعاهما عكرمة الى الاسلام فاستجاب صاحب السهل الساحلي، وأما الآخر فقد اغتر بجموعه فأبى، فصادمه عكرمة ومعه (شخريت) فلحقته الهزيمة وقتل ومعه الكثير من أصحابه ثم أقام عكرمة فيهم يجمعهم ويقيم شؤونهم حتى جمعهم على الذي يجب، حيث بايعوا على الاسلام وأمنوا واستقروا( ). وكان قد تلقى كتاباً من أبي بكر يأمره بالاجتماع مع المهاجر بن أبي أمية القادم من (صنعاء) ليتوجها معاً الى كندة، فخرج من مهرة حتى نزل أبين وبقي هناك ينتظر المهاجر وعمل وهو هناك على جمع (النَخَع) وحمير وتثبيتهم على الاسلام( )، وكان لوصول عكرمة الى أبين أثر على بقية فلول الأسود العنسي وعلى رأسهم قيس بن المكشوح وعمرو بن معد يكرب، فبعد هروب قيس من صنعاء بقي متردداً بينهما وبين نجران، وكان (عمرو بن معد يكرب) قد انضوى الى فلول العنسي التي أطلق عليها الفلول اللحجية لأن وجهتهم كانت الى لحج، فلما جاء عكرمة انضم قيس الى عمرو وقد اجتمعا للقتال، ولكن مالبث أن نشب الخلاف بينهما فتعايرا ففارق كل واحد الآخر، فلما جاء المهاجر بن أمية أسرع عمرو لتسليم نفسه ولحقه قيس فأوثقهما المهاجر وبعث بهما الى أبي بكر، وبعد أن عاتبهما اعتذر كل واحد منهما عن فعله فأطلقهما ورجعاً بعد أن تابا وأصلحا( ).
وهكذا كان لقدوم عكرمة من الشرق دور في القضاء على فلول المرتدين الموجودين في لحج سواء بالمواجهة أو الخوف من هذا الجيش القادم، بينما هم يواجهون جيشاً آخر في الشمال بقيادة المهاجر( ).
س- جيش المهاجر بن ابي أمية للقضاء على ردة حضرموت وكندة:
كان آخر من خرج من المدينة من الجيوش الأحد عشر جيش المهاجر بن أبي أمية وكان معه سرية من المهاجرين والأنصار، فمر على مكة فانضم إليه (خالد بن أسد) -أخو (عتّاب بن أسد أمير مكة- ومر على الطائف فلحقه عبدالرحمن بن أبي العاص، ومن معه، ولما التقى (بجرير بن عبدالله البجلي بنجران ضمه إليه، ضم عكاشة بن ثورالذي جمع بعض أهل تهامة، ثم دخل في جموعه (فروة بن مسيك المرادي) الذي كان في أطراف بلاد مذحج ومر على بني الحارث بن كعب بنجران فوجد عليهم مسروق العكي فضمه إليه( ).
وفي نجران قسم جيشه الى فرقتين: فرقة تولت القضاء على فلول (الأسود العنسي) المتناثرة بين نجران وصنعاء، وكان المهاجر نفسه على هذه الفرقة، أما الفرقة الأخرى فكان عليها أخوه (عبدالله) وكانت مهمتها تطهير منطقة تهامة اليمن من بقية المرتدين( ).
وحينما استقر المهاجر في صنعاء كتب الى أبي بكر بما قام به وبما استقر عليه وبقى ينتظر الرد منه، وفي الوقت نفسه كتب معاذ بن جبل وبقية عمال اليمن الذين كانوا على عهد رسول الله ? -ماعدا زياد بن لبيد- الى أبي بكر يستأذنونه بالعودة الى المدينة، فجاءت كتب أبي بكر مطلقة حق الاختيار لمعاذ ومن معه من العمال بالبقاء أو العودة والاستخلاف على عمل كل من رجع، فرجعوا جميعاً( )، وأما المهاجر فقد تلقى الأمر بالتوجه لملاقاة عكرمة وأن يسيرا معاً الى حضرموت لمعاونة زياد بن لبيد، وإقراره على ماهو عليه وأمره أن يأذن لمن معه من الذين قاتلوا بين مكة واليمن في العودة إلا أن يؤثر قوم الجهاد( ).
كان زياد بن لبيد الأنصاري والياً لرسول الله على كندة بحضرموت وأقره الصديق ? على ذلك وكان حازماً شديداً وكان لحزمه وشدته سبب كبير في ان يتمرد عليه حارثة بن سراقة. وخلاصة ذلك كما يذكر الكلاعي، أن زياداً أعطى من ضمن الصدقة ناقة معينة لفتى من كندة على سبيل الخطأ، فلما أراد صاحبها استبدالها بأخرى لم يقبل منه ذلك زياد، فاستنجد الفتى بزعيم لهم هو حارثة بن سراقة، وعندما طلب ابن سراقة من زياد استبدال الناقة، أصر زياد على موقفه، فغضب ابن سراقة وأطلق الناقة عنوة، فوقعت الفتنة بين أنصار زياد وأنصار ابن سراقة، ودارت الحرب، وانهزم ابن سراقة، وقتل ملوك كندة الأربعة، وأسر زياد عدداً من جماعة ابن سراقة، واستنجد الأسرى وهم في طريقهم الى المدينة بالأشعث بن قيس، فنجدهم حمية وعبية واتسعت رقعتها وتكاثر جمع الأشعث وحصروا المسلمين( )، فأرسل زياد الى المهاجر وعكرمة يستعجلهما النجدة، وكانا قد التقيا بمأرب فما كان من المهاجر إلا أن ترك (عكرمة) الى الجيش وأخذ أسرع الناس وغالباً من الفرسان -ليكون بجانب زياد، وقد استطاع أن يفك الحصار عنه فهربت كندة الى حصن من حصونها يسمى النجير، وكان لهذا الحصن ثلاث طرق لا رابع لها، فنزل زياد على احدهما والمهاجر على الثانية وبقيت الثالثة تحت تصرف كندة حتى قدم عكرمة فنزل عليها، فحاصروهم من جميع الجهات، ثم بعث (المهاجر) الطلائع الى قبائل كندة والمتفرقة في السهل والجبل يدعوهم الى الاسلام ومن أبى قاتلوه، ولم يبق إلا في الحصن المحاصر( ).
وكان جيشا زياد والمهاجر يزيدان على خمسة آلاف رجل من المهاجرين والأنصار وغيرهم من القبائل، وقد عملا على التضييق على من في الحصن حتى ضجوا بالشكوى الى زعمائهم متبرمين من الجوع وفضلوا الموت بالسيف بدلاً من ذلك، فاتفق زعماؤهم على أن يقوم الأشعث بن قيس بطلب الأمان والنزول على حكم المسلمين( )، وبعد أن فوض الأشعث من قومه لمفاوضة المسلمين لم يوفق لأن الروايات تضافرت على أنه لم يطلب الأمان لجميع من في الحصن، أو أنه لم يصر على ذلك ولم يطلبه إلا لعدد ترواح حسب الروايات بين السبعة والعشرة، وكان الشرط هو فتح أبواب حصن (النُّجَير) وكان من جراء ذلك أن قتل من (كندة) في الحصن سبعمائة قتيل فاشبه موقفهم موقف يهود بني قريظة( ).
وتم القضاء على ردة كندة وعاد عكرمة بن أبي جهل ومعه السبايا والأخماس، وبرفقتهم الأشعث بن قيس، الذي صار مبغضاً الى قومه ولاسيما نساؤهم لأنهم عدوه سبب ذلتهم، ولأنه عندما صالح المسلمين كان أول مابدأ به أسمه، فكانت نساء قومه يسمينه عُرف النار، ومعناه بلغتهم: الغادر( ) ولما قدم الأشعث على أبي بكر، قال: ماذا تراني أصنع بك، فإنك قد فعلت ماعلمت! قال: تمنّ عليّ فتفكني من الحديد وتزوجني أختك، فإني قد راجعت وأسلمت. فقال أبوبكر: قد فعلت فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة، فكان بالمدينة حتى فتح العراق( ) وفي رواية جاء فيها : فلما خشي أن يقع به قال: أو تحتسب في خيراً فتطلق إساري وتقيلني عثرتي، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل مافعلته بأمثالي وترد علي زوجتي -وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة مقدمه على رسول الله ?، فزوجه وأخرها الى أن يقدم الثانية، فمات رسول الله، وفعل الأشعث مافعل، فخشى ألا ترد عليه- تجدني خير أهل بلادي لدين الله ! فتجافي له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال: انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبوبكر في الناس الخمس( ).
هـ- دورس وعبر وفوائد:
• المرأة بين الهدم والبناء:
وفي حروب الردة باليمن تظهر صورتان مختلفتان للنساء، صورة المراة الطاهرة العفيفة التي تقف مع الاسلام وتحارب الرذيلة، وتقف مع المسلمين لكبح جماح شياطين الأنس والجن فهذه (آزاد) الفارسية زوج شهر بن باذان، وابنة عم فيروز الفارسي تقف مع الصف الاسلامي بكل عزم وتصميم وتدبر مع المسلمين خطة محكمة لاغتيال الأسود العنسي كذاب اليمن، فالمسلم في كل عصر يكبر في آزاد المسلمة غيرتها على دينها وينظر بستهجان الى مامجه قلم الدكتور محمد حسين هيكل عندما تحدث عن موقف آزاد من كذاب اليمن وحاول أن يرجع ماقامت به المرأة المسلمة آزاد الفارسية الى عصبية شهوانية وذلك في قوله عن الأسود: ولما استغلظ أمره وأثخن في الأرض استخف بقيس وبفيروز وجعل يرى في الأخيرين وفي سائر الفرس من تنطوي أضالعهم على المكر به، وعرفت زوجته الفارسية ذلك منه، فثار في عروقها دم قومها، وتحركت في نفسها عوامل الحقد على الكاهن القبيح، قاتل زوجها الشاب الفارسي الذي كانت تحبه من أعماق قلبها ولقد استطاعت بسجيتها النسوية أن تخفي ذلك عنه، وأن تسخوا له في البذل له من أنوثتها سخاءً جعله يركن إليها ويطمع في وفائها( ).
إنه أسلوب فيه لمز بالفارسية المؤمنة آزاد وكأنه يتهمها بالغدر لفارسيتها بالأسود العربي، ويأخذ عليها هذا الصنيع الذي كانت تظهر له فيه مالا تخفي، إنه توجيه للحدث في غير محله( )، وهذه المرأة الصالحة المسلمة قتل الاسود زوجها المسلم وتزوجها غصباً وهي التي وصفت الأسود الكذاب بقولها: والله ماخلق الله شخصاً أبغض إليّ منه، مايقوم لله على حق ولا ينتهي عن محرم( )، وهي التي جعلها الله تعالى سبباً لهلاك الطاغية الأسود العنسي، فلولا الله ثم جهودها الميمونة مااستطاع فيروز وأصحابه قتل الأسود( )، فالذي حركها لذلك العمل العظيم الذي فيه حتفها وموتها، هو حبها لدينها وعقيدتها وإسلامها وبغضها للأسود العنسي الكذاب الذي اراد أن يقضي على الاسلام في اليمن، فهذه صورة مشرقة مضيئة لما قامت به المرأة المسلمة في اليمن من الجهاد من أجل دينها، أما الصورة الكالحة المظلمة التي قامت به بعض بنات اليمن من يهود أو من لف لفهم، في حضرموت فقد طرن فرحاً بموت رسول الله ?ن فأقمن الليالي الحمراء مع المجّان والفساق، يشجعن على الرذيلة، ويزرين بالفضيلة، فقد رقص الشيطان فيها معهنّ وأتباعه طرباً لنكوص الناس عن الاسلام والدعوة الى التمرد عليه وحرب أهله( )، لقد حنت تلك البغايا الى الجاهلية ومافيها من المنكرات وانجذبن إليها إنجذاب الذباب الى أكوام من الأقذار، فقد تعودن على الفاحشة في حياتهن الجاهلية، فلما جاء الإسلام حجزتهن نظافته عنها، فشعرن وكأنهن بسجن ضيق يكدن يختنقن فيه، ولذا ماإن سمعن بموته ? حتى أظهرن الشماتة فخضبن أيديهن بالحناء وقمن يضربن بالدفوف، ويغنين فرحتهن، فقد تحقق لهن ماكنّ يتمنينه على السلطة الجديدة، وكان معظمهن من علية القوم هناك، وبعضهن يهوديات وقد كان لكلا الطرفين: أشراف القوم من العرب، واليهود مصلحة في الانتقاض على مبادئ الاسلام، والانقضاض على كيانه لقد عرفت هذه الحركة في التاريخ بحركة البغايا، وكن نيفاً وعشرين بغياً متفرقات في قرى حضرموت، وأشهرهن هر بنت يامن اليهودية التي ضرب المثل بها في الزنا، فقيل: أزنى من هر، ويذكر التاريخ أن الفساق كانوا يتناوبونها لهذا الغرض في الجاهلية، ولكن هؤلاء السواقط لم يتركن وشأنهن يفسدن في المجتمع كما يحلو لهنّ( )، فقد وصل الخبر الى الصديق وأرسل رجل من أهل اليمن إليه هذه الأبيات:
أبلغ أبابكر إذا ماجئته
أن البغايا رُمنَ أيّ مَرامِ
أظهرن من موت النبي شماتة
وخضبن أيديهن بالعُلاّم( )
فاقطع هُديت كُفَّهن بصارم
كالبرق أومضى من متون غَمامِ( )
فكتب أبوبكر ? الى عامله هناك المهاجر بن أبي أمية كتاباً في منتهى الحزم والصرامة جاء فيه: (فإذا جاءك كتابي هذا فسر إليهن بخيلك ورجلك حتى تقطع أيديهن، فإن دفعك عنهن دافع فاعذر إليه باتخاذ الحجة عليه وأعلمه عظيم مادخل فيها من الإثم والعدوان، فإن رجع فاقبل منه، وإن أبى فنابذه على سواء إن الله لايهدي كيد الخائنين ...) فلما قرأ المهاجر الكتاب جمع خيله ورجله وسار إليهنّ فحال بينه وبينهن رجال من كندة وحضرموت فأعذر إليهم فأبوا إلا قتاله ثم رجع عنه عامتهم فقاتلهم فهزمهم وأخذ النسوة فقطع أيديهن، فمات عامتهن وهاجر بعضهن الى الكوفة( ). لقد نلن جزاءهن في محكمة الاسلام العادلة، إذ أخذهن عامل أبي بكر على تلك البلاد، وطبق عليهن حد الحرابة( ).
ونقلت الأخبار للخليفة في امرأتين من بلاد حضرموت تغنتا بهجاء رسول الله ?، والمسلمين، وكان قد عاقبهما المهاجر بن أبي أمية والي تلك البلاد، بقطع يديهما ونزع ثنيتيهما، فلم يرضى أبابكر وعدها عقوبة خفيفة في حق هاتين المجرمتين وقد وجه إليه كتاباً بهذا الخصوص قال فيه بحق الناعقة بشتم صحاب الرسالة: (بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتيمة رسول الله ?، فلولا ماقد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مستسلم فهو مرتد، أومعاهد فهو محارب غادر( ). وقال في الأخرى: (بلغني انك قاطعت يد امرأة في أن تغنت بهجاء المسلمين ونزعت ثنيتها، فإن كانت ممن تدعي الاسلام، فأدب وتقدمة دون المثلة، وإن كانت ذمية لعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم، ولو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروها فاقبل الدعة، وإياك والمثلة في الناس فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص( ).
• من خطباء الإيمان:
كان بعض أهل اليمن لهم مواقف عظيمة في الثبات على الحق والدعوة الى الاسلام وتحذير قومهم من خطورة الردة ومن هؤلاء كان مران بن ذي عمير الهمداني أحد ملوك اليمن الذي كان قد أسلم ممن أسلم من أهل اليمن، فلما ارتد الناس هناك، وتكلم سفهاؤهم بما لايليق وقف فيهم خطيباً وقال لهم: يامعشر همدان، إنكم لم تقاتلوا رسول ?، ولم يقاتلكم، فأصبتم بذلك الحظ ولبستم به العافية، ولم يعمكم بلعنة تفضح أوائلكم وتقطع دابره، وقد سبقكم قوم الى الاسلام وسبقتم قوماً فإن تمسكتم لحقتم من سبقكم، وإن أضعتموه لحقكم من سبقتموه، فأجابوا الى ماأحب وأنشد أبياتاً رثى فيها النبي ? يقول فيها:
إن حزني على الرسول طويل
ذاك مني على الرسول قليل
بكت الأرض والسماء عليه
وبكاه خديمه جبريل( )
وقام عبدالله بن مالك الأرحبيُّ، وكان من أصحاب النبي ?، له هجرة وفضل في دينه فاجتمع إليه همدان فقال: يامعشر همدان، إنكم لم تعبدوا محمداً، إنما عبدتم رب محمد وهو الحي الذي لايموت، غير أنكم أطعتم رسوله بطاعة الله، واعلموا أنه استنقذكم من النار، ولم يكن الله ليجمع أصحابه على ضلالة وذكر له خطبة طويلة يقول فيها:
لعمري لئن مات النبي محمد
لما مات ياابن القَيلِ ربُّ محمد
دعاه إليه ربُّه فأجابه
ياخير غوريٍّ( ) وياخير منجد( )
ووقف شرجبيل بن السِّمط وابنه في بني معاوية من كندة عندما أطبقوا كلهم على منع الصدقة وقالا لبني معاوية: إنه لقبيح بالأحرار التنقل، إن الكرام ليلزمون الشُّبْهة فيتكرمون أن ينتقلوا الى أوضح منها مخافة العار، فكيف الانتقال من الأمر الحسن الجميل والحق الى الباطل القبيح؛ اللهم إنا لانمالي قومنا على ذلك وانتقل ونزل مع زيد ومعهما امرؤ القيس بن عابس، وقالا له: بيّتِ القوم فإن أقواماً من السكاسك والسَّكون قد انضموا إليهم وكذلك شُذَّاذ من حضرموت، فإن لم تفعل خشينا أن تتفرق الناس عنا إليهم، فأجابهم الى تبييت القوم، فاجتمعوا وطرقوهم في محاجرهم فوجدوهم جلوساً حول نيرانهم، فأكبوا على بني عمرو وبني معاوية وفيهم العدد والشوكة من خمسة أوجه، فأصابوا الملوك الأربعة من كندة وأختهم العمّردة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، وعاد زياد بن لبيد بالأموال والسبي( )، فهذه بعض النماذج من أهل الايمان الذين كانت لهم مواقف تدل على عمق إيمانهم وشدة إنتمائهم الى الاسلام، فكانوا من خطباء الإيمان.
• كرامات الأولياء:
عندما تمكن الأسود العنسي باليمن وتنبأ بالنبوة بعث الى أبي مسلم الخولاني، فلما جاء قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ماأسمع. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. فردد ذلك عليه، وفي كله يقول مثل قوله الأول قال: فأمر به فالقي في نار عظيمة، فلم تضره، فقيل له: انفه عنك، وإلا أفسد عليك من اتبعك، قال: فأمره بالرحيل فأتى المدينة وقد قبض رسول الله ? واستخلف أبوبكر، فأناخ أبومسلم راحلته بباب المسجد، ودخل المسجد فقام يصلي الى سارية، وبصر به عمر بن الخطاب، فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من أهل اليمن، قال: مافعل الرجل الذي أحرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبدالله بن ثوب، قال: أنشدك الله أنت هو؟ قال: اللهم نعم، فاعتنقه عمر وبكى ثم ذهب به فأجلسه فيما بينه وبين أبي بكر، وقال: الحمدلله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فعل به مافعل بإبراهيم خليل الله ?( )، فهذه كرامة لهذا العبد الصالح الذي التزم بحدود الله، وأحب في الله، وابغض في الله، وتوكل على الله في كل شيء، وبذلك وفقه الله في القول والعمل ورزقه الأمن والطمأنية وأجرى الله على يديه هذه الكرامة قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ?الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?} (سورة يونس، الآيات:62-64).
• العفو عند الصديق:
كان لأبي بكر بُعد نظر، وبصيرة نافذة، ونظر بعواقب الأمور ولذلك كان يستعمل الحزم في محله، والعفو عندما تقتضي إليه الحاجة، فقد كان حريصاً على جمع شتات القبائل تحت راية الاسلام، فكان من سياسته الحكيمة عفوه عن زعماء القبائل المعاندة بعد رجوعهم الى الحق فإنه لما استخضع قبائل اليمن المرتدة، وأراهم سطوة دولة المسلمين وقوة شكيمتهم ومضاء عزيمتهم واعترفت القبائل بما أنكرت، واستكانت لحكم الاسلام، وأطاعوا خليفة رسول الله رأى أبوبكر أنه من تأليف القلوب ترك استعمال القوة مع زعماء هذه القبائل بل اللين هنا والرفق أوفق، فرفع العقوبة عنهم وألان القول لهم، ووظف نفوذهم في قبائلهم لصالح الاسلام والمسلمين( )، فعفا عن زلتهم وأحسن إليهم، فقد فعل ذلك مع قيس بن يغوث المرادي، وعمرو بن معد يكرب، فقد كانوا من صناديد العرب وأفرسهم، وأكثرهم شجاعة، فعزّ على أبي بكر أن يخسرهم وحرص على أن يستخلصهم للاسلام، ويسنتقذهم من التردد بين الاسلام والردة، فقد قال أبوبكر لعمرو: أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك الله فقال عمرو: لاجرم لأفعلن ولن أعود) فأطلقه الصديق، ولم يرتد عمرو بعدها قط، بل أسلم وحسن إسلامه، ونصره الله وأصبح له بلاء عظيماً في الفتوحات، وندم قيس ، على مافعل، فعفا عنه الصديق، وكان للعفو عن هذين البطلين من أبطال عرب اليمن آثاره العميقة والعريضة فقد تألف به الصديق قلوب أقوام قد عادوا الى الاسلام بعد الردة خوفاً أو طمعاً، وعفا عن الأشعث بن قيس( ) وبذلك أسر الصديق قلوبهم، وامتلك افئدتهم، فكانوا في مستقبل الأيام نصراً للاسلام وقوة للمسلمين، وأصبحت لهم يد عظيمة في هذا المجال( ).
وصية الصديق لعكرمة ومحاسبته لمعاذ:
كان ابو بكر ? حين بعث عكرمة بن أبي جهل إلى مُسيلمة وأتبعه شرحبيل بن حسنة، عجَّل عكرمة، فوافته بنو حنيفة فنكبوه، فكتب عكرمة إلى أبي بكر بالذي كان من أمره، فكتب إليه أبو بكر، يابن أم عكرمة، لا أرينَّك ولاتراني على حالها لاترجع فتوهن الناس، امضي على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة فقاتل معهما أهل عُمان ومَهرة، وإن شغلا فامضي أنت، ثم تسير وتُسيِّر جندك تستبرئون من مررتم به، حتى تلتقوا أنتم والمهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت( ).
ونلحظ أن الصديق حينما وجه الجيوش لقتال المرتدين وجه إلى مسيلمة الكذاب جيشين، أحدهما بقيادة عكرمة بن أبي جهل والثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة وهذا دليل على خبرة أبي بكر الدقيقة بدرجات القوة عند الأعداء ومقدار مقدرتهم على الصمود، وحينما تعجل عكرمة لحرب مسيلمة فنُكب هو وجيشه أرسل إليه أبو بكر يقول له: (لاأريَنَّك ولاتراني على حالها، لاترجع فتوهن الناس) وهذا أيضاً من خبرة أبي بكر الحربية، فإن الروح المعنوية لها أثر كبير في نتائج المعارك، فإذا قدم هؤلاء المنهزمون فقابلوا الجيش المتوجه لقتال الأعداء أنفسهم فإن نفوس أفراد هذا الجيش سيكون فيها شيء من التخوف والضعف خصوصاً فيما إذا رَوَى لهم المنهزمون شيئاً عن ضخامة جيش الأعداء وقوته( ) وقد كان البعد الحربي عند الصديق واضحاً، فأرسل عكرمة وجيشه إلى مناطق أخرى وحقق نجاحاً باهراً فارتفعت معنويته وجيشه.
وعندما رجع معاذ من اليمن إلى المدينة واستقبله الصديق وكان من عادته مراقبة عماله ومحاسبتهم بعد فراغهم من عملهم قال الصديق لمعاذ: ارفع حسابك فقال معاذ: أحسابان حساب الله وحساب منكم؟ والله لاآلي لكم عملاً ابداً( ).
توحيد اليمن ووضوح الإسلام عند أهله، وطاعتهم للخليفة:
وبعد انتهاء حروب الردة تجمعت اليمن تحت قيادة مركزية عاصمتها المدينة المنورة، وقسم اليمن إلى أقسام إدارية لاوحدات قبلية، فقد قسم إلى ثلاثة أقسام إدارية: صنعاء والجند، وحضرموت ولم تعد العصبية القبلية أساساً في الزعامة أو في التولية، ولم تعد القبيلة سوى وحدة عسكرية لاسياسية، وأصبحت المقاييس المعتبرة هي المقاييس الإيمانية التقوى، والإخلاص، والعمل الصالح( ).
وتخلصت اليمن من بقايا الشرك ومن جميع مظاهره -شرك في الاعتقاد أو شرك في القول، أو شرك في الفعل: تركاً أو إتياناً، وأدركوا أن النبوة أرفع من أن يدعيها مدع عابث ويتخذها وسيلة إلى غرضه ورغبته( )، وأيقنوا أن الإيمان لايلتقي مع المطامع، وأن الإسلام لايتفق مع الجاهلية، عرفوا ذلك بالدماء والألم والحسرات، فقتل من كلا الطرفين الكثير وتعلم منهم الكثير( )، ورجع من كان قد ارتد إلى الإسلام يرجو التكفير عما بدر( ) واذن لهم بالجهاد في عصر الخليفة عمر بن الخطاب ?، وقد برزت قيادات يمنية إسلامية في الفتوحات قد تربت وانصهرت في أحداث الردة، وكانوا من الثابتين على الإسلام كجرير بن عبدالله البجلي، وذو الكلاع الحميري، ومسعود بن العكي، وجرير بن عبدالله الحميري وغيرهم، وكان لهذه القيادات أدوار بارزة في الفتوحات الإسلامية وفي عمران مدن جديدة، في الكوفة والبصرة والعراق، والفسطاط بمصر، وبرزت -أيضاً- شخصيات يمنية عينت في اليمن وغير اليمن قضاة وولاة مثل حشك عبدالحميد، وسعيد بن عبدالله الأعرج، وشرحبيل بن السمط الكندي وغيرهم( ).
والتحم أهل اليمن بالدولة الإسلامية وبقيادتها سواء التي عليهم مباشرة أو القيادة العامة (الخليفة) في المدينة ولهذا حينما دعاهم الخليفة للجهاد سارعوا طواعية ورغبة في الجهاد -كما سأتي تفصيله بإذن الله تعالى-
لقد تربوا في أحداث الردة تربية كافية جعلتهم موصولين بالقيادة واثقين بها، ولذا ساد الهدوء والاستقرار واصبحوا خير مدد للإسلام والمسلمين( ).
2-القضاء على فتنة طليحة الأسدي:
طليحة الأسدي هو المتنبئ الثالث من المتنبئة الذين ظهروا في الإسلام أواخر عهد رسول الله ? بالحياة، وطليحة هذا هو طليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة الأسدي، ولقد قدم مع و فد قومه أسد على رسول الله ? في عام الوفود سنة تسع للهجرة، فسلموا عليه، وقالوا له ممتنين: جئناك نشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، ولم تبعث إلينا، ونحن لمن وراءنا، فأنزل الله عزوجل قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (سورة الحجرات، آية:17). ولما عادوا ارتد طليحة وتنبأ( )، وعسكر في سميراء (منطقة في بلادهم)، واتبعه العوام واستكشف أمره (وأول ما صدر عنه -وكان سبباً لضلال الناس- أنه كان مع بعض قومه في سفر، فأعوزهم الماء وغلب العطش على الناس، فقال: اركبوا أعلالاً (اسم فرسه) واضربوا أميالاً، تجدوا بلالاً، ففعلوا فوجدوا الماء فكان ذلك سبب وقوع الأعراب في الفتنة)( ).
ومن خزعبلاته أنه رفع السجود من الصلاة، وكان يزعم أن الوحي يأتيه من السماء، ومن أسجاعه التي ادعى أنه يوحي له بها قولهSadوالحمام واليمام، والصُّرد الصّوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكُنا العراق والشام)( ) وغرته نفسه واشتد أمره وقوت شوكته، فبعث رسول الله ? ضرار بن الأزور الأسدي لمقاتلته لما سمع من أمره. ولكن ضراراً لم يكن له به قبل، وذلك لتعاظم قوته مع الزمن، ولاسيما بعد أن آمن به الحليفان: أسد وغطفان( )، وتقول عنه دائرة المعارف الإسلامية: (ويروى عنه أنه كان يرتجل الشعر ويخطب عفو الساعة في ميدان القتال. ويبدو أنه كان مثالاً -حقاً- للزعيم القبلي الجاهلي. وقد اجتمعت فيه صفات: العرَّاف والشاعر والخطيب والمقاتل( ). ويشمّ من هذا النص رائحة المدح المبطن لطليحة من قبل هذه الموسوعة الشهيرة، فهو في نظرها الزعيم القبلي المثال، يرتجل الشعر والخطابة، وهما أهم ماكان يحرص عليه العربي آنذاك، ولايستغرب هذا الاتجاه من هذه الموسوعة التي جعلت من اللمز في الإسلام ديدنها، سواء أعرفت أن طليحة عاد فأسلم وحسن أسلامه أم لم تعرف.
وتوفي رسول الله ولم يحسم أمر طليحة( ) وتولى الخلافة الصديق ? وعقد الألوية للجيوش والأمراء للقضاء على المرتدين وكان من ضمنهم طليحة ووجه إليه الصديق جيشاً بقيادة خالد بن الوليد، روى الإمام أحمد: ... أن أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة، قال: سمعت رسول الله ? يقول: نَعْمَ عبدالله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله سَلَّه الله على الكفار والمنافقين( ). ولما توجه خالد من ذي القّصَّة وفارقه الصديق واعده أنه سيلقاه من ناحية خيبر بمن معه من الأمراء وأظهروا ذلك ليرعبوا الأعراب -وأمره أن يذهب أولاً إلى طليحة الأسدي، ثم يذهب بعده إلى بني تميم، وكان طليحة بن خويلد في قومه بني أسد، وفي غطفان، وانضم إليهم بنو عبس وذبيان، وبعث إلى بني جَدِيلة والغوث من طئ يستدعيهم إليه، فبعثوا أقواماً منهم بين أيديهم، ليلحقوهم على أثرهم سريعاً، وكان الصديق قد بعث عدي بن حاتم قبل خالد بن الوليد، وقال له: أدرك قومك لايلحقوا بطليحة فيكون دمارهم، فذهب عدي إلى قومه بني طئ فأمرهم أن يبايعوا الصديق( )، وأن يراجعوا أمر الله فقالوا: لانابيع أبا الفَصيِل( ) أبداً -يعنون أبا بكر ?- فقال والله ليأتينكم جيشه فلا يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا أنه أبو الفحل الأكبر، ولم يزل عدي يَفْتِل لهم في الذُّروة والغارب حتى لانوا، وجاء خالد في الجنود وعلى مقدمة الأنصار الذين معه: ثابت بن قيس بن شّماس، وبعث بين يديه، ثابت بن أقرم، وعكاشة بن محصن، طليعة، فتلقاهما حِبَال -ابن أخي طليحة، فقتلاه فبلغ خبره طليحة فخرج هو وأخوه سلمة، فلما وجدا ثابتاً وعُكّاشة تبارزوا، وحمل طليحة على عُكاشة فقتله، وقتل سلمة، ثابت بن أقرم، وجاء خالد بمن معه فوجودهما صريعين، فشق ذلك المسلمين، ومال خالد إلى بني طئ، فخرج إليه عدي بن حاتم فقال: أنظرني ثلاثة أيام، فإنهم قد استنظروني حتى يبعثوا إلى من تعجّل منهم إلى طليحة حتى يرجعوا إليهم، فإنهم يخشون إن تابعوك أن يقتل طليحة من سار إليه منهم، وهذا أحبّ إليك من أن يعجلهم إلى النار، فلما كان بعد ثلاث جاءه عدي في خمسمائة مقاتل ممن راجع الحق، فانضافوا إلى جيش خالد وقصد خالد بني جَدِيلة فقال له: ياخالد، أجّلني أياما حتى آتيهم، فلعل الله أن ينقذهم كما أنقذ الغوث( )، فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى تابعوه، فجاء بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، فكان عدي خير مولود وأعظمه بركة على قومه ?( ).
أ-معركة بُزَاخَة والقضاء على بني أسد:
ثم سار خالد حتى نزل بأجا وسلمى، وعَبّى جيشه هنالك والتقى مع طليحة الاسدي بمكان يقال له: بُزَاخة ووقفت أحياء كثيرة من الأعراب ينظرون على من تكون الدائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه، ومن التف معهم وانضاف إليهم، وقد حضر معه عُيَيْنة بن حِصْن، في سبعمائة من قومه بين فزارة، واصطف الناس، وجلس طليحة ملتفا في كساء له يتنبأ لهم، ينظر مايوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل، حتى إذا ضجر من القتال جاء الى طليحة وهو ملتف في كسائه وقال له: أجاءك جبريل؟ فيقول: لا، فيرجع فيقاتل، ثم يرجع فيقول له مثل ذلك، ويرد عليه مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟ قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحا كرحاه، وحديثاً لاتنساه، قال يقول عيينة: أظن أن قد علم الله سيكون لك حديثاً لاتنساه، ثم قال: يابني فزارة انصرفوا، وانهزم، وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه المسلمون، ركب على فرس كان قد أعدها له، وأركب امرأته النّوار على بعير له، ثم انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه، وقد قتل الله طائفة ممن كان معه( ).
وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر طليحة ومن كان في صفه، وقام بنصره فكتب إليه: ليزدك ما أنعم الله به خيراً، واتق الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جدّ في أمرك ولاتلن، ولاتظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نَكّلْت به، فأقام خالد ببزاخة شهراً يُصَعد عنها ويصوّب، ويرجع إليها في طلب الذي وصاه الصديق، فجعل يتردد في طلب هؤلاء شهراً يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدوا، فمنهم من حرّقه بالنار، ومنهم من رَضَخه بالحجارة، ومنهم من رَمَى به من شواهق الجبال، كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب( ).
ب-وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم:
لما قدم وفد بزاخة -اسد وغطفان- على أبي بكر يسألونه الصلح، خيّرهم أبو بكر بين حرب مُجلية أو خطة مخزية، فقالوا: ياخليفة رسول الله أما الحرب المجلية فقد عرفناها، فما الخطة المخزية؟ قال: تؤخذ منكم الحلقة والكُرَاع، وتتركون أقواماً تتبعون أذناب الإبل، حتى يُرَى الله خليفة نبيه والمؤمنين أمراً يعذرونكم به، وتؤدون ما أصبتم منا، ولانؤدي ما أصبنا منكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة، وأن قتلاكم في النار، وتدون قتلانا، ولاندي قتلاكم، فقال عمر: أما قولك تدون قتلانا، فإن قتلانا قتلوا على أمر الله لاديات لهم، فامتنع عمر وقال عمر في الثاني: نعم مارأيت( ).
جـ-قصة أم زِمْل:
كان قد اجتمع طائفة كثيرة من الضُلاّل من أصحاب طليحة من بني غطفان إلى امرأة يقال لها: أم زِمْل -سلمى بنت مالك بن حذيفة في مكان يسمى ظَفَر( )-وكانت من سيدات العرب كأمها أم قِرْفة( )، وكان يضرب بأمها المثل في الشرف لكثرة أولادها، وعزة قبيلتها وبيتها، فلما اجتمعوا إليها ذمرتهم لقتال خالد، فهاجوا لذلك، وناشب إليهم آخرون من بني سُلَيم، وطئ، وهوازن، واسد، فصاروا جيشاً كثيفاً، وتفحل أمر هذه المرأة، فلما سمع بهم خالد بن الوليد سار إليهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، وهي راكبة على جمل أمها الذي كان يقال له: من نخسه فله مائة من الإبل، وذلك لعزها، فهزمهم خالد وعقر جملها وقتلها وبعث بالفتح إلى الصديق( ).
د-دروس وعبر وفوائد:
ثقة الصديق بالله وخبرته الحربية:
قول الصديق لعدي بن حاتم: ادرك قومك لايلحقوا بطليحة فيكون دمارهم. فيه مثال على قوة يقين أبي بكر ? وثقته بنصر الله فقد حكم على نتيجة المعركة مع طئ قبل الدخول فيها، وفي أمر أبي بكر خالداً رضي الله عنهما بأن يبدأ بحرب قبيلة طئ مع أنها أبعد من تجمع طليحة خطة حربية ناجحة، وذلك ليحول دون انضمام طئ إلى طليحة وليضطر من انضم إليه منهم إلى التخلي عنه، للدفاع عن قبيلتهم، ثم في إظهار أبي بكر أنه خارج جهة خيبر ليلاقي خالداً ببلاد طئ تخطيط حربي بارع، وذلك لإرهاب تلك القبيلة والقبائل المجاورة، وتظهر براعة الصديق في اختيار الرجال أن اختار لهذه المهمة التي لها مابعدها أبا سليمان خالد بن الوليد، الذي لم تنتكس له راية( )، وفي خطاب الصديق لخالد بعد انتهاء معركة بزاخة فوائد منها: الدعاء لخالد الذي يفهم منه الثناء عليه بإحسان، كما يتضمن أمره بتقوى الله، وذلك فيه العصمة من الوقوع في الزلل، واتباع الهوى، كما أمره بالجد والحزم مع الأعداء لأنهم مازالوا في فورة طغيانهم، وهذا موقف قوي يدل على حزم الصديق ? وبصيرته النافذة، فهناك قبائل لاتزال متحيرة ومترددة بين الحق والباطل، والهدى والضلال والخير والشر، والإيمان والكفر بحاجة إلى تأديب وردع حتى يزول طغيانهم، فالموقف من أبي بكر يقتضي أعلى درجات القوة والحزم والسرعة، فكانت منه القوة في محل القوة كما كان منه اللين في محل اللين.
قال الشاعر:
ووضع النَّدَى في موضع السيف للندى
مُضرُّ كوضع السيف في موضع الندى( )
وفي موقف الصديق في عدم قبول استلام هؤلاء المحاربين وعدم قبول الصلح إلا بحرب مجلية أو خطة مخزية إظهار عزة الإسلام وهيبة دولته فكانت شروطه في الصلح قوية وكان من أشدها عليهم مصادرة أسلحتهم وخيولهم وكان هذا الشرط مؤقت بظهور صدق توبتهم وخضوعهم لدولة الإسلام، وقد كان لابد منه لضمان عدم عودتهم إلى التمرد مرة أخرى( ).
• نصح عدي بن حاتم لقومه والحرب النفسية التي شنها عليهم:
قدم عدي على قومه طئ، فدعاهم للرجوع للإسلام فقالوا: لانبايع أبا الفصيل أبداً( ) فقال: لقد أتاكم قوم ليُبيحُنّ حريمكم، ولتكنُّنه بالفحل الأكبر، فشأنكم به فقالوا له: فاستقبل الجيش فنهنهه( ) عنّا حتى نستخرج من لحق بالبُزاخة منّا، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم. فاستقبل عديُّ خالداً وهو بالسُّنح، فقال: ياخالد، أمسك عني ثلاثاً يجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوك، وذلك خير من أن تُعْجلهم إلى النار وتتشاغل بهم ففعل، فعاد عدي بإسلامهم إلى خالد( )، فهذا موقف استطاع فيه عدي أن يقنع قبيلته بفرعيها بني الغوث وبني جديلة بالتخلي عن معكسر طليحة والانضمام إلى جيش خالد بن الوليد، وهذا تحوُّل مهم في تقرير نتائج معركة بزاخة الحاسمة، فهذا موقف عظيم يسجل لعدي ? إلى جانب موقفه الأول حينما قدم على الصديق بصدقات قومه، وكان المسلمون بأمس الحاجة إلى المال آنذاك، ولقد كان إسلامه من أول يوم إسلام رجل العلم والفهم فكان عن قناعة واختيار، وكان واثقاً من انتصار الإسلام والمسلمين في النهاية كما بشره بذلك النبي ? يوم إسلامه، فكان لإيمانه القوي أثر في إقناع قومه في العدول عما توجهوا إليه من مناصرة أعداء الإسلام ولم تكن قناعتهم إلى حد الحياد والانتظار حتى يروا لمن تكون الدائرة، بل انضم منهم ألف وخمسمائة إلى جيش المسلمين مما يدل على مبلغ أثره فيهم( )، وجاء في رواية: أن قومه طلبوا من خالد بأن يقاتلوا قيساً لأن بني أسد حلفاؤهم، فقال لهم خالد: والله ماقيس بأوهن الشوكتين اصمدوا إلى أي القبيلتين أحببتم، فقال عدي: لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه، فأنا امتنع من جهاد بني أسد لحلفهم! لالعمر الله لاأفعل فقال له خالد: إن جهاد الفريقين جميعاً جهاد لاتخالف رأي أصحابك، امضي إلى أحد الفريقين، وامضي بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط( )، وفي انكار عدي على قومه دليل على قوة إيمانه وغزارة علمه حيث والى أولياء الله وإن كانوا بعيدين عنه في النسب وتبرأ من أعداء الله وإن كانوا من أقاربه( )، كما تظهر خبرة خالد بن الوليد الحربية حينما أمر عديا بأن لايخالف قومه في تمنعهم من مواجهة حلفائهم بني أسد وأن يوجههم إلى الوجه الجهادي الذي يكونون فيه أنشط على القتال( ) لقد كان الدور الذي قام به عدي في دعوة قبيلته إلى الانضمام إلى جيش المسلمين عظيماً، فكان دخول طئ في جيش خالد أول وهن اصيب به الأعداء، لأن قبيلة طئ من اقوى قبائل جزيرة العرب، وممن كانت القبائل تحسب لها حسابا، وتنظر إليها باعتبارها على درجة من القوة بحيث كانت مرهوبة الجانب، عزيزة في بلادها، تتقرب اليها جاراتها بالتحالف معها، لقد التقى الجمعان بعد ان دب الوهن في نفوس الأعداء فكتب الله النصر لجيش المسلمين فسرعان ماطفقوا يقتلون ويأسرون حتى ابادوا جميع أعدائهم وهرب قائدهم طليحة على فرسه، ولم يسلم منهم إلا من استسلم أو هرب، وبعد هذه الوقعة انتشر الضعف في نفوس المرتدين من قبائل الجزيرة، فاصبح الجيش الإسلامي لايجد عناءاً في هزيمة من تجمع منهم في أماكن أخرى( ).
أسباب هزيمة طليحة بن خويلد الأسدي:
كانت هناك مجموعة من الأسباب ساهمت في هزيمة طليحة الأسدي منها:
• إن المسلمين كانوا يقاتلون مدفوعين بعقيدة راسخة، ويقين بنصر الله، وحب في الشهادة، فكان حب الموت في سبيل الله تعالى سلاحاً معنوياً فتاكاً، فكان خالد يرسل للمرتدين هذه الكلمات القلائل: لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة( )، ولقد عرف العدو نفسه من خلال تعامله مع قوات المسلمين في المعارك التي خاضوها معه، صدقهم في تنفيذ هذا المبدأ، فقد سأل طليحة الأسدي قومه لما انهزموا في موقعة بزاخة مع جيش خالد بشيء كبير من الحنق والتعجبSadويلكم مايهزمكم؟) فقال رجل منهم: أنا أخبركم، إنه ليس رجل (منّا) إلا وهو يحب أن يموت قبل صاحبه وإن نلقى أقواماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه( ).
• كان لانضمام طئ أثره في تقوية المسلمين وإضعاف أعدائهم، كما كان مقتل الصحابيين، عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم قد زاد من غيظ المسلمين ودفعهم إلى قتال أعدائهم، كما كان لتورية أبي بكر الصديق تأثير على طئ، في عدم التعاون مع حلفائها وبقائها في مواضعها الأصلية، وأما التورية المشار إليها فإن الصديق أوهم الناس أنه متوجه إلى خيبر بدلاً من الجهة الأصلية التي حُدِّدت للجيش، كما كان لإفساح المجال لطئ كي تقاتل قيساً كما أرادت شجعها على الاستقلال في الحرب، إذ لو أمر خالد على أن يقاتلوا حلفائهم من بني أسد كما أراد عدي بن حاتم لقصرت طئ في حربها أيما تقصير( )، وغير ذلك من الأسباب.
• من نتائج معركة بزاخة:
القضاء على قوة أحد الأدعياء الأقوياء،وعودة فريق كبير من العرب إلى حظيرة الإسلام، فقد أقبلت بنو عامر بعد هزيمة بزاخة يقولون : ندخل فيما خرجنا منه فبايعهم خالد على مابايع عليه أهل بزاخة من أسد وغطفان وطئ قبلهم وأعطوه بأيديهم على الإسلام، ولم يقبل أحد من أسد ولاغطفان ولاهوازن ولاسليم ولاطيئ إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردتهم. فأتوه بهم ... فمثل خالد بن الوليد -بالذين عدوا على الإسلام، فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم في الجبال، ونكسهم في الآبار، وخزق بالنبال وبعث بقرة بن هبيرة والأسارى، وكتب إلى أبي بكر: إن بني عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت في الإسلام بعد تربص وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئاً حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين فقتلتهم كل قتلة، وبعثت إليك بقرة وأصحابه( )، وكان عيينة بن حصن من بين الأسرى فأمر خالد بشد وثاقه تنكيلاً به، وبعثه إلى المدينة ويداه إلى عنقه، إزراء عليه وإرهاباً لسواه، فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان المدينة مستهزئين وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين: (أي عدو الله! ارتددت عن الإسلام!!) فيقول: والله ماكنت آمنت قط، وجئ به إلى خليفة رسول الله، ولقي من الخليفة سماحة لم يصدقها وأمر بفك يديه، ثم استتابه، فأعلن عيينة توبة نصوحاً، واعتذر عما كان منه وأسلم وحسن إسلامه( ).
ومضى طليحة، حتى، نزل كلب( ) على النَّقع، فأسلم ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر، وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسداً، وغطفان، وعامراً قد أسلموا، ثم خرج نحو مكة معتمراً في إمارة أبي بكر، ومرّ بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به! خلوا عنه، فقد هداه الله للإسلام( ) وقد جاء عند ابن كثير: وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك أيضاً وذهب إلى مكة معتمراً أيام الصديق واستحيَ أن يواجهه مدة حياته، وقد منع الصديق المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاحتياط لأمر الأمة، لأن من كان له سوابق في الضلال والكيد للمسلمين لايُؤمن أن يكون رجوعه من باب الاستسلام لقوة المسلمين فأبوبكر ? من الأئمة الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم فهو لذلك يأخذ بمبدأ الاحتياط لما فيه صالح الأمة، وإن كان في ذلك وضع من شأن بعض الأفراد( ) وهذا درس عظيم تتعلمه الأمة في عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في الإلحاد ثم ظهر منهم العودة إلى الالتزام بالدين.
إن وضع الثقة الكاملة بهؤلاء وإسناد الأعمال القيادية لهم قد جرَّ على الأمة أحياناً ويلات كثيرة وأوصلها إلى مآزق خطيرة، على أن أخذ الحذر من مثل هؤلاء لايعني اتهامهم في دينهم ولانزع الثقة منهم بالكلية، وهذا معلم من سياسة الصديق في التعامل مع أمثال هؤلاء( ).
هذا وقد حسن إسلام طليحة واتى عمر إلى البيعة حين استخلف. وقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت( )، والله لاأحبُّك أبداً. فقال: يا أمير المؤمنين، ماتهتم من رجلين أكرمهما الله بيدي، ولم يُهنِّي بأيديهما! فبايعه عمر ثم قال له: ياخُدَع، مابقي من كهانتك؟ قال: نفخة أو نفختان بالكير. ثم رجع إلى دار قومه، فأقام بها حتى خرج إلىالعراق( )، وقد كان إسلامه صحيحاً ولم يُغْمض( ) عليه فيه وقال يعتذر ويذكر ماكان منه:
ندمت على ماكان من قتل ثابت
وعُكَّاشة الغنمِّي ثم ابن معبد
واعظم من هاتين عندي مصيبةً
رجوعي عن الإسلام، فعل التعمُّد
وتركي بلادي والحوادث جَمَّةٌ
طريداً، وقد ماكنت غير مطرَّد
فهل يقبل الصديق أني مراجع
ومُعطٍ بما أحدثتُ من حدثٍ يدي
وأني من بعد الضلالة شاهد
شهادة حقٍّ ليس فيها بملحد
بأن إله الناس ربي وأنني
ذليل وأن الدين دينُ محمد( )
هـ-قصة الفجاءة:
وإسمه إياس بن عبدالله بن عبد ياليل بن عمير بن خُفَاف من بني سُليم، قاله ابن اسحاق. وقد كان الصديق حرّق الفجاءة بالبقيع في المدينة، وكان سببه أنه قدم عليه فزعم أنه أسلم، وسأل منه أن يجهز معه جيشاً يقاتل به أهل الردة، فجهز معه جيشاً، فلما سار جعل لايمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله وأخذ ماله، فلما سمع الصديق بعث وراءه جيشاً فردّه، فلما أمكنه الله منه، بعث به إلى البقيع، فجمعت يداه إلى قفاه وألقى في النار، فحرقه وهو مقموط( )( ) وكان الذي ألقى القبض عليه طريفة بن حاجز وهذا يظهر لنا دور مسلمي سليم في محاربة المفسدين في الأرض والمرتدين( ).
وهذه العقوبة بسبب غدر الفجاءة، أو لأنه قد يكون ارتكب مع ضحاياه من المسلمين جريمة الإحراق مرة أو مرات( ).
و- ماقاله حسان في من قال لا نطيع أبا الفصيل، يعنون أبابكر:
ماالبكرُ إلا كالفصيل وقد ترى
إن الفصيل عليه ليس بعار
إنا وماحج الحجيج لبيته
ركبان مكة معشر الانصار
نفري جماحمكم بكلِّ مهند
ضرب القُدار( ) مبادي الأيسار( )
حتى تكَنُّوه بفحْل هنيدة( )
يحمي الطروقة بازل هدّار( )
3-سجاح وبنو تميم ومقتل مالك بن نويرة اليربوعي:
أ-كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة، فمنهم من ارتد ومنع الزكاة، ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق، ومنهم من توقف لينظر في أمره فبينما هم كذلك إذ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:22 pm

- ردة أهل عُمان والبحرين:
أ- ردة أهل عُمان:
كان أهل عُمان قد استجابوا لدعوة الاسلام وبعث إليهم رسول الله ? عمرو بن العاص، ثم بعد وفاته ? نبغ فيهم رجل يقال له (ذو التاج)، لقيط بن مالك الأزدي وكان يسامي في الجاهلية الجُلَنْدي ملك عمان( )، فأدعى النبوة، وتابعه الجهلة من أهل عُمان، فتغلب عليها وعبّاداً أبني الجُلَندي( )، وألجأهما الى أطرافها من نواحي الجبال والبحر، فبعث جيفر الى الصديق فأخبره الخبر واستجاشه، فبعث إليه الصديق بأميرين، وهما: حذيفة بن محصن الغلفاني من حِميّر، وعرْفجة الى مَهْرة، وأمرها أن يجتمعا ويتفقا ويبدئا بعُمان، وحذيفة هو الأمير، فإذا ساروا الى بلاد مَهرة فعرفجة الأمير، وأرسل عكرمة بن أبي جهل مدداً لهم، وكتب الصديق الى عرفجة وحذيفة أن ينتهيا الى رأي عكرمة بعد الفراغ من السير الى عُمان أو المقام بها، فساروا فلما اقتربا من عُمان راسلوا جيفرا، وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش، فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له دَبَا، وهي مصر تلك البلاد وسوقها العظمى، وجعل الذاراري والأموال وراء ظهورهم، ليكون أقوى لحربهم، واجتمع جيفر وعباد بمكان يقال له صُحَار، فعسكروا فيه وبعثا الى أمراء الصديق فقدموا على المسلمين، فتقابل الجيشان هناك، وتقاتلوا قتالاً شديداً وابتلى المسلمون وكادوا أن يولوا، فمّن الله بكرمه ولطفه أن بعث إليهم مدداً في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس، في جماعة من الأمراء، فلما وصولا إليهم كان الفتح والنصر فولى المشركون مدبرين، وركب المسلمين ظهورهم فقتلوا منهم عشرة آلاف مقاتل، وسبوا الذراري، وأخذوا الأموال والسوق بحذافيرها وبعثوا بالخمس الى الصديق مع أحد الأمراء وهو عرفجة( ). وكان السبب في هذا النصر العظيم وقوف الجماعة الاسلامية في عُمان مع أميرها جَيْفَر وأخيه عباد ضد ذي التاج لقيط بن مالك الأزدي، واعتصامها بالأماكن الحصينة، حتى ادركتها جيوش المسلمين، كما كان لمواقف بني جُذيد وبني ناجية وبني عبدالقيس في ثبوتهم على الاسلام ودخلوهم في المعركة في الوقت المناسب أثر في نصر المسلمين( ).
ب- ردة أهل البحرين:
أسلم أهل البحرين بعد ماأرسل النبي ? العلاء بن الحضرمي الى ملكها وحاكمها المنذر بن ساوى العبدي، وقد أسلم هو وقومه وأقام فيهم الاسلام والعدل، وقد كان رد المنذر بن ساوى: قد نظرت في هذا الأمر الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده وإن من إعظام ماجاء به أن يعظم( ).
فلما توفي رسول الله ? وتوفي المنذر بعده بمدة قصيرة ارتدَّ أهل البحرين وملّكوا عليهم المنذر بن النعمان الغرور( ).
أين هي أرض البحرين؟
أرض البحرين هي شقة ضيقة من الأرض تشاطئ مع هجر خليج العرب، وتمتد من القطيف الى عُمان، والصحراء في بعض أنحائها تكاد تتصل بماء الخليج وهي تتصل باليمامة في جزئها الأعلى لا يفصل بينهما إلا سلسلة من التلاف يهون لا نخفاضها إجتيازها( ).
فهي إذا تشمل إمارات الخليج العربي والجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية عدا الكويت( ).
هذا وقد كان لمن ثبت على الاسلام في البحرين دور كبير في إخماد هذه الفتنة وكان للجارود بن المعلى دور متميز، فقد صحب رسول الله ? وتفقه في الدين ثم رجع الى قومه فدعاهم الى الاسلام، فأجابوه كلهم، فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات النبي ?، فقالت عبدالقيس: لو كان محمد نبياً لما مات، وارتدوا، وبلغه ذلك فبعث فيهم فجمعهم، ثم قام فخطبهم. فقال: يامعشر عبدالقيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه ولا تجيبوني إن لم تعلموا. قالوا: سل عما بدا لك. قال: تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونه أو ترون؟ قالوا: لا بل نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً ? مات كما ماتوا. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك سيدنا وأفضلنا وثبتوا على إسلامهم، فهذا موقف يُذكر للجارود بن المعلىَّ ? فقد ثبت الله به قومه عبدالقيس فثبتوا على إسلامهم، وقد ألهمه الله تعالى بضرب المثل بالأنبياء السابقين عليهم السلام حيث كان نهايتهم الموت فكذلك رسول الله ? فاقتنع قومه وزال عنهم الشك، وهذا مما يبين مزية التفقه في الدين وأثر ذلك في توجيه الاعتقاد والسلوك وخاصة عند حدوث الفتن( ).
وقد بقت بلدة جُواثا على الاسلام، وكانت أول قرية أقامت الجمعة من أهل الردة كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس، وقد حاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم، ومنعوا عنهم الأقوات وجاعوا جوعاً شديداً حتى فرج الله عنهم، وقد قال رجل منهم يقال له عبدالله بن حذف، احد بني بكر بن كلاب، وقد اشتد الجوع:
ألا أبلغ ابابكر رسولا
وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم الى قوم كرام
قعود في جُواثا مُحصَرينا
كأن دماءهم في كل فج
شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا
وجدنا النصر للمتوكلينا( )
فهذا موقف يذكر في الثبات على الحق لهؤلاء المسلمين الذين حصرهم الأعداء في (جُواثا) حتى كادوا يهلكون من الجوع، وفي الأبيات المذكورة في الرواية التي قالها عبدالله بن حذف دليل على عمق إيمان هؤلاء المصورين وقوة توكلهم على الله تعالى وثقتهم بنصره( ).
بعث الصديق بجيش الى البحرين بقيادة العلاء بن الحضرمي فلما دنا من البحرين انضم إليه حُمامة بن أُثَال في محفل كبير من قومه بني سحيم، واستنهض المسلمين في تلك الأنحاء، وأمد الجارود بن المعلى العلاء برجال من قومه، فاجتمع إليه جيش كبير قاتل به المرتدين، ونصر الله به المؤمنين وكان ممن آزر العلاء لقمع فتنة البحرين، قيس بن عاصم النقري، وعفيف بن المنذر، والمثنى بن حارثة الشيباني( ).
• كرامة للعلاء بن الحضرمي:
كان العلاء من سادات الصحابة العلماء العباد مجابي الدعوة اتفق له في هذه الغزوة أنه نزل منزلاً( )، فلم يستقر الناس على الأرض حتى نفرت الأبل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الأرض ليس معهم شيء سوى ثيابهم -وذلك ليلاً- ولم يقدروا منها على بعير واحد، فركب الناس من الهم والغم مالا يُحَدّ ولا يُوصَف، وجعل بعضهم يوصي الى بعض، فنادى منادي العلاء فاجتمع الناس إليه، فقال: أيها الناس ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى، قال: فابشروا فوالله لايخذل الله من كان في مثل حالكم، ونودي لصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى الناس، فلما قضى الصلاة جثا على ركبتيه، وجثا الناس، ونصب في الدعاء ورفع يديه وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس، وجعل الناس ينظرون الى سراب الشمس يلمع مرة بعد اخرى، وهو يجتهد في الدعاء ويكرره، فلما بلغ الثالثة إذا قد خلق الله الى جانبهم غديراً عظيماً من الماء القراح، فمشى ومشى الناس إليه فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها، لم يفقد الناس من أمتعتهم سِلْكاً، فسقوا الإبل عَلَلاَ بعد نَهَلِ( )، فكان هذا مما عاين الناس من آيات الله بهذه السرية( ).
• هزيمة المرتدين:
ثم لما اقترب من جيوش المرتدة -وقد حشدوا وجمعوا خلقاً عظيماً- نزل ونزلوا، وباتوا مجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل إذ سمع العلاء أصواتاً عالية في جيش المرتدين، فقال: من رجل يكشف لنا خبر هؤلاء؟ فقام عبدالله بن حذف فدخل فيهم فوجدهم سُكارى لايعقلون من الشراب، فرجع إليه فأخبره، فركب العلاء من فورهم والجيش معه فكسوا أولئك فقتلوهم قتلاً عظيماً، وقل من هرب منهم واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم وأثقالهم، فكانت غنيمة، عظيمة جسيمة، وكان الحُطَم بن ضُبيعَة أخو بني قيس بن ثعلبة من سادات القوم نائماً، فقام دهشا"ً حين اقتحم المسلمون عليهم، فركب جواده فانقطع ركابه فجعل يقول: من يصلح لي ركابي؟ فجاء رجل من المسلمين في الليل فقال: أنا أصلحها لك، ارفع رجلك، فلما رفعها ضربه بالسيف فقطعها مع قدمه، فقال: أجهز عليّ، فقال: لا أفعل، فوقع صريعاً وكلما مرّ به أحد يسأله أن يقتله فيأبى، حتى مر به قيس بن عاصم فقال له: أنا الحُطم فاقتلنى فقتله، فلما وجد رجله مقطوعة ندم على قتله وقال: واسوأتاه، لو أعلم مابه لم أحركه، ثم ركب المسلمون في آثار المنهزمين، يقتلونهم بكل مرصد وطريق وذهب من فرّ منه أو أكثر الى دارين( )، ركبوا إليها السفن، ثم شرع العلاء الحضرمي في قسمة الغنيمة ونَفَل الأنفال ولما فرغ من ذلك قال للمسلمين: اذهبوا بنا الى دارين لنغزو من بها من الأعداء، فأجابوا الى ذلك سريعاً، فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن، فرأى أن الشُّقة بعيدة لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول: ياارحم الراحمين ياحكيم ياكريم، ياأحد ياصمد، ياحي ياقيوم، ياذا الجلال والاكرام لا إله إلا أنت ياربنا( ). وأمر الجيش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليج بإذن الله على مثل رملة دمثة فوقها ماء لايغمر أخفاف الإبل، ولا يصل الى رُكب الخيل، ومسيرته للسفن يوم وليلة، فقطعه الى الجانب الآخر فعاد الى موضعه الأول، وذلك كله في يوم، ولم يترك من العدو مخبراً وانساق الذراري والأنعام والأموال، ولم يفقد المسلمون في البحر شيئاً عُليقة فرس لرجل من المسلمين، ومع هذا رجع العلاء فجاءه بها، ثم قسم غنائم المسلمين فيهم، فاصاب الفارس ستة آلاف والرجل ألفين، مع كثرة الجيشين وكتب الى الصديق فأعلمه بذلك، فبعث الصديق يشكره على ماصنع، وقد قال رجل من المسلمين في مرورهم في البحر وهو عفيف بن المنذر:
ألم تر أن الله ذللَّ بحره
وأنزل بالكفار إحدى الجلائل( )
دعونا الى شقِّ البحار فجاءنا
بأعجب من فلق البحار الأوائل( )
وكان مع المسلمين في هذه المواقف والمشاهد التي رأوها من أمر العلاء، وما أجرى الله على يديه من الكرامات، رجل من أهل هجر راهب فأسلم حينئذ، فقيل له: مادعاك الى الاسلام؟ فقال: خشيت إن لم أفعل أن يمسخني الله، لما شاهدت من الآيات: قال: وقد سمعت في الهواء وقت السِّحَر دعاء، قالو: وماهو؟ قال: اللهم أنت الرحمن الرحيم، لا إله غيرك والبديع ليس قبلك شيء والدائم غير الغافل، والذي لايموت، وخالق مايرى ومالايرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللهم كل شيء علماً، قال: فعلمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله، فحسن إسلامه وكان الصحابه يسمعون منه( ).
وبعد هزيمة المرتدين رجع العلاء بن الحضرمي الى البحرين، وضرب الاسلام بجرانه، وعزّ الاسلام وأهله، وذل الشرك وأهله( )، ولولا تدخل بعض العناصر الأجنبية لصالح المرتدين، ماتجرأ المرتدون على الموقف في وجه المسلمين مدة طويلة، إذ أن الفرس قد أمدو المرتدين بتسعة آلاف من المقاتلين، وكان عدد المرتدين من العرب ثلاثة آلاف، وعدد المسلمين أربعة آلاف( ) وكان للمثنى بن حارثة دور كبير في إخماد فتنة البحرين والوقوف بقواته بجانب العلاء بن الحضرمي، وقد سار بجنوده من البحرين شمالاً ووضع يده على القطيف وهجر حتى بلغ مصب دجلة وقضى في سيره هذا على قوات الفرس وعمالهم ممن عانوا المرتدين بالبحرين وأنه انضم الى العلاء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين على رأس من بقي على الاسلام من أهل هذه النواحي وانه تابع مسيره مع الساحل شمالاً حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا النهرين فتحدث إليهم وتعاهد معهم وعندما سأل الخليفة الصديق ? عن المثنى قال له قيس بن عاصم المنقري: هذا رجل غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا ذليل العماد هذا المثنى بن حارثة الشيباني( ).
وقد أصدر الصديق ? أمره الى المثنى بن حارثة ان يتابع دعوته للعرب في العراق الى الحق وقد اعتبر ان ماقام به المثنى من قبل ماهو إلا الخطوة الأولى في تحرير العراق وأما الخطوة الحاسمة فهي توجيه خالد بن الوليد ليتولى قيادة الجيوش الاسلامية هناك( ).
لقد كان أبوبكر الصديق ? يغتنم الفرص ويستنفذ الطاقات ويستحث الهمم ليصل من الأعمال المقدَّمة الى أعلى النتائج، وكان يسخر الطاقات الكامنة في الرجال ويوجهها لسحق الطغيان الذي عشش في رؤوس زعماء الكفر والطغيان( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:24 pm

المبحث الرابع
مسيلمة الكذاب وبنو حنيفة


أولاً: التعريف به ومقدمة عنه:
هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي أبوشامة، متنبئ من المعمرين، وفي الأمثال: أكذب من مسيلمة، ولد ونشأ باليمامة في القرية المسماة اليوم بالجبيلة بقرب العيينة بوادي حنيفة في نجد، وتلقب في الجاهلية بالرحمن، وعرف برحمان اليمامة( )، وأخذ يطوف في ديار العرب والعجم يتعلم الأساليب التي يستطيع بها استغفال الناس واستجرارهم لجانبه كجبل السدنة والحوّاء وأصحاب الزجر والخط، ومذاهب الكهان والعياف والسحرة وأصحاب الجن الذين يزعمون أن لهم تابعات الى غيرها من الخزعبلات ومن هذه الشعوذات أنه كان يصل جناح الطائر المقصوص في الظاهر، ويدخل البضة في القارورة( )، وكان مسيلمة يدعي النبوة ورسول الله بمكة وكان يبعث بأناس إليها ليسمعوا لقرآن ويقرؤوه على مسامعه، فينسج على منواله أو يسمعه هو نفسه للناس زاعماً أنه كلامه( )، وفي العام التاسع للهجرة الذي عم فيه الاسلام ربوع الجزيرة العربية، أقبل وفد بني حنيفة على مدينة الرسول ? يعلنون إسلامهم، وكان مسيلمة معهم، فقد ذكر ابن اسحاق: إن مسليمة كان ضمن المجموعة التي قابلت الرسول ?، من وفد بني حنيفة جاؤوا به يسترونه بالثيات، فلما قابله كلمه وكان مع رسول الله ? عسيب من سعف النخل، فقال له رسول الله ?: لو سألتني هذا العسيب ماأعطيتكه( ). ويبدو أنه سأله الشركة في النبوة أو الخلافة من بعده، وفي رواية : إن مسيلمة لم يكن في الوفد الذي قابل رسول الله ?، لأنه تخلف يحرس رحال القوم، فلما قسّم ? الأعطيات أخرج له نصيباً مثل أنصبائهم، وقال لهم: إنه ليس بشرّكم مكاناً، وذلك لقيامه على حراسة متاعهم( ).
وفي الرواية الاولى يبدو مسليمة الكذاب شخصاً مريباً مما استدعى ستره بهذه الثياب، وكأنه يخفي في نفسه وتقاطيع وجهه شيئاً مدخولاً. وقد كان الرجل كذلك في حياته وفي قوله ?: ليس بشركم لا تعني أنه خيرهم، بل قد تعني أنهم أشرار وليس هو بأكثر شراً منهم، بل هو شرير مثلهم والحقيقة التي كشفتها الأيام أن بني حنيفة، كان جلهم أشراراً وكان هو الذي يتولى كبر هذا الشر فيهم.
1- رجوع وفد بنى حنيفة:
ولما رجع وفد بني حنيفة الى اليمامة حيث ديارهم، ادعى مسيلمة النبوة واعلن شركته لرسول الله ? فيها، اعتماداً على قوله ?: إنه ليس بشركم. وطفق يتنباً لقومه ويسجع ويحلل ويحرم كما يشتهي، فكان مما زعم أنه قرآن يأتيه: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى( )، فمنهم من يموت ويدس الى الثرى، ومنهم من يبقى الى أجل مسمى، والله يعلم السر وأخفى( ).
ومما قاله مسيلمة: ياضفدع بنت ضفدعين، نقي ماتنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين( )، وقد حاول مسيلمة الكذاب أن يسرق أساليب القرآن مع إحالة معانيه، بحيث تخرج شوهاء ممسوخة، مثل قوله (فسبحان الله، إذا جاءت الحياة كيف تحيون؟ والى ملك السماء ترقون، فلو أنها حبة خردلة، لقام عليها شهيد يعلم مافي الصدور، ولأكثر الناس فيها ثبور( )، لقد كان هذا الهراء غير خاف على أحد بمن فيهم هم أنفسهم قبل غيرهم وقد ذكر ابن كثير ان عمرو بن العاص -قبل إسلامه- قابل مسيلمة الكذاب فسأله هذا ماذا أنزل على محمد من القرآن، فقال له عمرو: إن الله أنزل عليه سورة العصر، فقال مسيلمة. وقد أنزل الله عليَّ مثلها وهو قوله: ياوبر، ياوبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفر نقر( )، فقال له عمرو بن العاص: والله إنك تعلم أني أعلم أنك تكذب( )، وعلقّ ابن كثير رحمه الله على قول عمرو هذا من قرآن مسيلمة المزعوم: فاراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان، مايعاض به القرآن، فلم يرج ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان( ).
وقال أبوبكر البقلاني -رحمه الله- فأما كلام مسيلمة الكذاب، ومازعم أنه قرآن ، فهو أخسُّ من أن ننشغل به، وأسخف من أن نفكر فيه وإنما نقلنا منه طرفاً ليتعجب القارئ، وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضل، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع( ).
2- كتاب مسيلمة الى رسول الله ? والجواب عنه:
وفي العام العاشر للهجرة، عندما أصيب رسول الله ? بمرض موته، تجرأ الخبيث فكتب رسالة الى رسول الله ? يزعم لنفسه فيها الشركة معه في النبوة، كتبها له عمرو بن الجارود الحنفي وبعثها إليه مع عبادة بن الحارث الحنفي المعروف بابن النواحة، هذا نصها: من مسيلمة رسول الله (كذب) الى محمد رسول الله، أما بعد، فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً لاينصفون( ). فرد عليه رسول الله ? برسالة كتبها له أبي بن كعب ? نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي الى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، والسلام على من اتبع الهدى( )، وكان مسيلمة قد بعث برسالته الى الرسول ? مع رجلين، أحدهما ابن النواحة المذكور، فلما اطلع عليها رسول الله ?، قال لهما: وماذا تقولان أنتما؟ فقالا: نقول كما قال: فقال ?: أما والله لولا أن الرسل لاتقتل لضربت أعناقكم( ).
3- موقف حبيب بن زيد الأنصاري حامل رسالة رسول الله الى مسيلمة:
حمل حبيب بن زيد الأنصار ابن أم عمارة، نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله عنها رسالة رسول الله الى مسيلمة الكذاب، فعندما سلمه الرسالة قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله فيقول : نعم، فيقول له: أو تشهد أني رسول الله، فيقول: أنا أصم لا أسمع، ففعل ذلك مراراً، وكان في كل مرة لايجيبه فيها حبيب الى طلبه، يقتطع من جسمه عضواً، ويبقى حبيب محتسباً صابراً الى أن قطعه إرباً إربا، فاستشهد ? بين يديه( )، ولننظر الى رسول الله ? كيف يحترم المواثيق، والأعراف الدولية، فلا يقتل الرسل ولو كانوا من قبل أعدائه الألداء الكفار، وحتى ولو كفروا أمامه، ومادام لهم هذه الحصانة (الدبلوماسية). أما مسيلمة فيتعامى عن العهود والمواثيق، فيقتل السفراء، لاقتلاً عادياً، بل قتل تشويه وتمثيل وتشفٍّ، مع إنه الفارق بين الاسلام الذي يحترم الكلمة، ويحترم الانسان، ويخاصم بشرف ورجولة، وبين الجاهلية التي لاتعرف إلا الفساد في الأرض وتحكيم الهوى( ).
4- الرّجال بن عُنفوة الحنفي:
استفحل أمر مسيلمة الكذّاب في بني حنيفة، ويبدو أنهم كانوا على استعداد للتجاوب مع زيفه وخداعه، وافتتن به الرجّال بن عنُفُوة الذي هاجر إلى النبي ?، وأسلم وقرأ القرآن، وحفظ بعض سوره، كان قد بعثه رسول الله إلى مسيلمة ليخذل عنه الأتباع، وليوضح جلية الأمر للناس في هذه الفتنة الغاشية، فما كان منه عندما وصل إليه، إلا أن انقلب على جهه وأخذ يشهد لمسيلمة أمام الناس أن رسول الله، أشركه معه في النبوة، فكان هذا الشقي أشدّ فتنة على الناس من مسيلمة نفسه( ).
وقد ألمح رسول الله في حياته إلى سوء منقلب الرّجال، فقد روى أبو هريرة ?، قال: جلست مع النبي ?، في رهط معنا الرّجال ابن عنُفُوة، فقال: إن فيكم لرجلاً ضرسه في النار أعظم من أحد، فهلك القوم، وبقيت أنا والرّجال، فكنت متخوفاً لها، حتى خرج الرجال مع مسيلمة، فشهد له بالنبوة، فكانت فتنة الرّجال أعظم من فتنة مسيلمة( ).
ثانياً: الثابتون على الإسلام من بني حنيفة:
طغت أخبار ردة مسيلمة الكذاب باليمامة على غيرها من أخبار ثبات جماعات من المسلمين الصادقين باليمامة بصفة عامة وفي بني حنيفة -قوم مسيلمة بصفة خاصة- ولم يتعرض كثير من الكتّاب المحدثين لذكر المسلمين الذين تمسكوا بإسلامهم في فتنة مسيلمة ووقفوا في وجهه وساندوا جيوش الخلافة للقضاء على فتنته وقد وجدت( ) روايات معتبرة تلقي الضوء على هذه الحقيقة التي غابت عن الكثيرين( ).
يذكر ابن أعثم، أن ممن ثبت على الإسلام في اليمامة ثمامة بن آثال( )، الذي كان من مشاهير بني حنيفة، ولذا اجتمعت إليه عندما علموا بمسير خالد إليهم لأنه كان واحداً من أكابرهم، وكان ذا عقل وفهم ورأي، وكان مخالفاً لمسيلمة على ماهو عليه من الردة، وكان مما قاله لمن تابع مسيلمة: ... ويحكم يابني حنيفة اسمعوا قولي تهتدوا، وأطيعوا أمري ترشدوا، واعلموا أن محمداً ? كان نبياً مرسلاً لاشك في نبوته، ومسيلمة رجل كذّاب، لاتغتروا بكلامه وكذبه، فإنكم قد سمعتم القرآن الذي أتى به محمد ? وآل عن ربه إذ يقول: {حم?تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ?غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ?} (سورة غافر، آية:1-3) فأين هذا الكلام من كلام مسيلمة الكذاب؟ فانظروا في أموركم ولايذهبن هذا عنكم، ألا وإني خارج إلى خالد بن الوليد في ليلتي هذه طالبا منه الأمان على نفسي ومالي وأهلي وولدي...وكان جواب من هُدي إليه من قومهSadنحن معك يا أبا عامر فكن من ذلك على علم). ثم خرج ثمامة بن أثال في جوف الليل في نفر من بني حنيفة حتى لحق بخالد بن الوليد واستأمن إليه فأمنه وأمن أصحابه( )، وجاء في رواية الكلاعي قوله لهم بأن لانبي مع محمد ? ولابعده، وتذكر طرفاً من قرآن مسيلمة للتدليل على سخفه( ) وتروى شعراً ينسب إلى ثمامة، منه قوله:
مسيلمة ارجع ولاتمحك
فإنك في الأمر لم تشرك
كذبت على الله في وحيه
فكان هواك هوى الأنوك( )
ومنّاك قومُك أن يمنعوك
وإن يأتيهم خالد تُتركِ
فمالك من مصعد في السماء
ولالك في الأرض من مسلك( )
وقد جاء في رواية: دور ثمامة في حرب مسيلمة ومساعدة عكرمة بن أبي جهل له في هذه المهمة( ).
وقد ساهم ثمامة بن أثال في مساعدة العلاء بن الحضرمي في حربه للمرتدين بالبحرين وكان معه مسلمو بني حنيفة من بني سُحيم، ومن أهل القرى من سائر بني حنيفة، وكان ثمامة من أهل البلاء في قتال المرتدين مع العلاء الحضرمي( ).
وممن ثبت على الإسلام في اليمامة معمر بن كلاب الرُّماني، فقد وعظ مسيلمة وبني حنيفة الذين تابعوه ونهاهم عن الردة، وكان جاراً، لثمامة بن أثال وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد ومن سادات اليمامة الذين كانوا يكتمون إسلامهم: ابن عمرو اليشكري الذي كان من أصدقاء الرَّجَّال بن عنفوة، وقال شعراً فشا في اليمامة، وأنشده الناس، ومن هذا الشعر قوله:
إن ديني دين النبي وفي القوم
رجال على الهدى أمثالي
أهلك القوم مُحَكَّم بن طُفيل
ورجال ليسوا لنا برجال
إن تكن ميتتي على فطرة
الله حنيفاً فإني لاأبالي
فبلغ ذلك مسيلمة ومحكما وأشراف أهل اليمامة فطلبوه ولكنه فاتهم، ولحق بخالد بن الوليد، وأخبره بحال أهل اليمامة ودله على عوراتهم( ).
وممن ثبت على الإسلام في اليمامة أيضا: عامر بن مَسْلَمَة ورهطه( ).
ولقد أكرم أبو بكر الثابتين على الإسلام من بني حنيفة وذلك في أشخاص ذوي قرابتهم ومن ذلك تعيينه لمطرف بن النعمان بن مسلمة ابن أخ كل من ثمامة بن أثال وعامر بن مسلمة اللذين كان لهما ثباتا في فتنة الردة -عينه والياً على اليمامة( ).
ثالثاً: تحرك خالد بن الوليد بجيشه إلى مسيلمة الكذاب باليمامة:
كان أبو بكر ? قد أمر خالداً إذا فرغ من أسد وغطفان ومالك بن نويرة أن يقصد اليمامة وأكد عليه في ذلك، قال شريك الفزاري( )، كنت ممن حضر بزاخة، فجئت أبا بكر، فأمرني بالمسير إلى خالد، وكتب معي إليه: أما بعد فقد جاءني في كتابك مع رسولك تذكر ما أظفرك الله بأهل بزاخة، ومافعلت بأسد وغطفان، وأنك سائر إلى اليمامة، وذلك عهدي إليك، فاتق الله وحده لاشريك له، وعليك بالرفق بمن معك من المسلمين، كن لهم كالوالد، وإياك ياخالد بن الوليد ونخوة بني المغيرة، فإني قد عصيت فيك من لم أعصه في شيء قط، فانظر إلى بني حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله، فإنك لم تلقَ قوما يشبهون بني حنيفة، كلهم عليك ولهم بلاد واسعة، فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك، واجعل على ميمنتك رجلا، وعلى ميسرتك رجلا( )، واجعل على خيلك رجلاً، واستشر من معك من الأكابر من أصحاب رسول الله ? من المهاجرين والأنصار، واعرف لهم فضلهم، فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم، فالقهم إن شاء الله وقد أعددت للأمور أقرانها، فالسهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف، واحمل أسيرهم على السيف( )، وهوّل فيهم القتل، واحرقهم بالنار، وإياك أن تخالف أمري، والسَّلام عليك( ). فلما انتهى الكتاب إلى خالد وقرأه قال: سمع وطاعة( ).
سار خالد إلى قتال بني حنيفة باليمامة، وعبّأ معه للمسلمين، وكان على الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، فسار لايمر بأحد من المرتدين إلا نكَّل به، وسيّر الصديق جيشاً كثيفاً، مجهزاً بأحدث سلاح، ليحمي ظهر خالد، حتى لايوقع به أحد من خلفه، وكان خالد في طريقه إلى اليمامة قد لقي أحياء من الأعراب قد ارتدت فغزاها، وردها إلى الإسلام، ولقي مؤخرة جيش سجاح، ففتك به ونكبه، ثم زحف إلى اليمامة( ).
ولما سمع مسيلمة بقدوم خالد، عسكر بمكان يقال له عقرباء( ) في طرف اليمامة، وندب الناس وحثَّهم على لقاء خالد، فأتاه أهل اليمامة وجعل على مجنبتي جيشه: المحكم بن الطفيل والرّجّال بن عنفوة (شاهد زور).
والتقى خالد بعكرمة وشرحبيل، فتقدم وقد جعل على مقدمة الجيش شرحبيل بن حسنة، وعلى المجنبتين زيد ابن الخطاب وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة( ).
أ-مجاعة بن مرارة الحنفي يقع في أسر المسلمين:
مرّت مقدمة جيش خالد بنحو من أربعين -وقيل ستين- فارساً، عليهم مجاعة بن مرارة الحنفي، وكان قد ذهب لأخذ ثأر له، في بني تميم وبني عامر، وفي طريق عودته إلى قومه أسرهم المسلمون، فلما جيئ بهم إلى خالد قال لهم: ماذا تقولون يابني حنيفة؟ قالوا: نقول منا نبي ومنكم نبي، فقتلهم( )، وفي رواية: سألهم خالد: متى شعرتم بنا؟ قالوا: ماشعرنا بك! إنما خرجنا لنثأر فيمن حولنا من بني عامر وتميم. فلم يصدقهم خالد، بل حسبهم جواسيس عليه، لمسيلمة الكذاب، فأمر بقتلهم جميعاً، فقالوا له: إن تريد بأهل اليمامة غداً شراً أو خيراً، فاستبق هذا، وأشاروا إلى رئيسهم مجّاعة، فاستبقى مجاعة وقتل الآخرين( ).
وكان مجاعة بن مرارة سيداً في بني حنيفة، شريفاً مطاعاً، فكان خالد كلما نزل منزلاً واستقر به، دعا مُجاعة فأكل معه وحدثه، فقال له ذات يوم: أخبرني عن صاحبك -يعني مسيلمة- ماالذي يقرأكم؟ هل تحفظ منه شيئاً؟ قال نعم: فذكر له شيئاً من رجزه، فقام خالد وضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: يامعشر المسلمين، اسمعوا إلى عدو الله كيف يعارض القرآن، ثم قال: ويحك يامجاعة، أراك رجلاً سيداً عاقلاً اسمع إلى كتاب الله عزوجل، ثم انظر كيف عارضه عدو الله، فقرأ عليه خالد{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فقال مجاعة: أما إن رجلا من أهل البحرين كان يكتب، أدناه مسيلمة وقرّبه حتى لم يكن يُعدّ له في القُرْب عنده أحد، فكان يخرج إلينا فيقول: ويحكم يا أهل اليمامة، صاحبكم والله كذّاب، وما أظنكم تتهموني عليه، إنكم لترون منزلتي عنده وحالي، هو والله يكذبكم وبايعكم على الباطل، قال خالد: فما فعل ذلك البحراني، قال: هرب منه، كان لايزال يقول هذا القول حتى بلغه فخافه على نفسه، فهرب، فلحق بالبحرين، قال خالد: هات زدنا من كذب الخبيث، فقال مجاعة بعض رجز مسيلمة، فقال خالد: وهذا كان عندكم حقاً، وكنتم تصدقونه؟ قال مجاعة: لو لم يكن عندنا حقا لما لقيتك غداً أكثر من عشرة ألف سيف يضاربونك فيه حتى يموت الأعجل، قال خالد: إذاً يكفيناكم الله ويعز دينه، فإياه يقاتلون، ودينه يريدون( )، فهذا رد يدل على عظمة إيمان خالد وثقته بالله، فقد كان إيمانه بالله وثقته المطلقة في نصر الله لدينه، هما اللذان فجرا في شخصيته كنوز المواهب الحربية وفنون المهارات القيادية، لقد قاتل يوم بزاخة بسيفين حتى قطعهما فقد كان يملأ الإيمان قلبه، ويعتز بالله وحده، وكان ذلك كفيلاً بإسقاط هيبة عدوه من نفسه وغرس هيبته في قلب عدوه، وذلك أول الطريق لإحراز النصر الحاسم عليه، وإلحاق الهزيمة الساحقة به( ).
ب-شن الحرب النفسية قبل المعركة:
وضع خالد بن الوليد خطته على اساس استخدام الحرب النفسية ثم تحكيم السيف، فبعث زياد بن لبيد وكان صديقا، لمحكم بن طفيل سيد أهل اليمامة، بقصد أن يكسبه إلى جانبه، فقال خالد لزياد: لو لقيت إلى محكم شيئاً تكسره به، فكتب زياد إليه ابياتاً من الشعر جاء فيها:
ويل اليمامة ويلاً لافراق له
إن جالت الخيل فيها بالقنا الصادي
والله لاتنثني عنكم أعنتها
حتى تكونوا كأهل الحجر أو عاد
واتجه خالد كذلك إلى عمير بن صالح اليشكري وكان قد اسلم وكتم اسلامه على قومه وكان قوي العقيدة راسخ الإيمان، وقال له: تقدم إلى قومك، فأتاهم وقال: أظلكم خالد في المهاجرين والأنصار، اني رأيت قوما ان غالبتموهم بالصبر، غلبوكم بالنصر، وان غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد، ولستم والقوم سواء، الإسلام مقبل والشرك مدبر، وصاحبهم نبي، وصاحبكم كذاب، ومعهم السرور، ومعكم الغرور، فالآن والسيف في غمده، والنبل في جفيره، قبل أن يسل السيف ويرمي بالسهم( )، ثم باشر خالد المهمة مع ثمامة بن أثال الحنفي فمشى إلى قومه يدعوهم إلى الاستسلام ويحطم عندهم روح القتالSadانه لايجتمع نبيان بأمر واحد، ان محمداً ? لانبي بعده، ولانبي مرسل معه لقد بعث اليكم (يقصد ابا بكر) رجلاً لايسمى باسمه ولاباسم ابيه، يقال لهSadسيف الله) معه سيوف كثيرة، فانظروا في امركم( ) واهتم خالد بتدبير الخطط المحكمة، وكان ? لايستخف بعدوه، وكان في ميدان المعركة على أهبة وحذر دائمين مخافة أن يفجأه عدوه بغارة غادرة، والتفاف مكر وقد وصف ? بأنه: كان لاينام وينيم لايبيت إلا على تعبئة، ولايخفى عليه من أمر عدوه شيء( )، -وفي محاربته لمسيلمة- قبل معركة عقرباء -جعل طليعته مكنف بن زيد الخيل وأخاه حريثا لجمع المعلومات اللازمة للمعركة وقد حان ترتيب أمور جيشه، فالموقف شديد الخطورة ولابد من أخذ الترتيبات اللازمة فقد كان حامل الراية في هذه المعركة عبدالله بن حفص بن غانم ومن ثم تحولت إلى سالم( ) مولى أبي حذيفة ومعلوم أن الناس براياتهم، كما قالت العرب، فإذا زالت زالوا، وقد قدم خالد في هذه المعركة شرحبيل بن حسنة وقسم الجيش أخماساً، على المقدمة خالد المخزومي، وعلى الميمنة أبو حذيفة، وعلى الميسرة شجاع، وفي القلب زيد بن الخطاب، وجعل أسامة بن زيد على الخيالة، ووضع الظعن في المؤخرة وفيها الخيام والنساء( )، وهذا الترتيب الأخير قبل المعركة.
رابعاً: المعركة الفاصلة:
ولما توجه الجيشان قال مسيلمة لأتباعه وقومه قبيل المعركة الفاصلة: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيّات، وينكحن غير حظيات، فقاتلوا على أحسابكم، وامنعوا نساءكم( ).
وتقدم خالد ? بالمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يشرف على اليمامة، فضرب به عسكره، واصطدم المسلمون والكفار، فكانت جولة وانهزمت الأعراب، حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد وهموا بقتل أم تميم، حتى أجارها مجّاعة وقال: نعمت الحرة هذه وقد قتل الرّجّال بن عنفوة لعنه الله في هذه الجولة قتله زيد بن الخطاب، ثم تذامر الصحابة بينهم وقال ثابت بن قيس بن شماس: لبئس ماعودتم أقرانكم، ونادوا من كل جانب: اخلِصْنا ياخالد، فخلصت ثلة من المهاجرين والأنصار وحَميَ وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يعهد مثله، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة، بطل السحر اليوم، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه، وهو حامل لواء الأنصار بعدما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتاً حتى قتل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذا، وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم، وامضوا قدما، وقال: والله لاأتكلم حتى يهزمهم الله أو القى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيداً ? وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زينِّوا القرآن بالفعال، وحمل فيهم حتى أبعدهم وأصيب ?، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم، وسار لقتال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ثم وقف بين الصفين ودعا البراز وقال: انا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين-وكان شعارهم يومئذ يامحمداه- وجعل لايبرز له أحد إلا قتله، ولايدنو منه شيء إلا أكله وقد ميز خالد المهاجرين، من الأنصار، من الأعراب، وكل بني أب على رايتهم، يقاتلون تحتها، حتى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبر الصحابة في هذا الموطن صبراً لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولّى الكفار الأدبار، واتبعوهم يقتلون في أقفائهم، ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم مُحَكَّم اليمامة- وهو محَكّم بن الطفيل لعنه الله- بدخولها، فدخلوها وفيها عدو الله مسيلمة لعنه الله، وأدرك عبدالرحمن بن أبي بكر، محكَّم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم، وأحاط بهم الصحابة( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:25 pm

خامساً: بطولات نادرة:
1-قال البراء بن مالك:
يامعشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فاحتملوه فوق الجحف( )، ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من الباب الذي فتحه البراء، وفتح الذين دخلوا الأبواب الأخرى، وحوصر المرتدون وأدركوا أنها القاضية، وأن الحق جاء، فزهق باطلهم( ).
2-مصرع مسيلمة الكذاب:
وخلص المسلمون إلى مسيلمة لعنه الله، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، وهو يريد يتساند، لايعقل من الغيظ، وكان اذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه، فتقدم إليه وحشي بن حرب مولى جبير ابن مطعم
-قاتل حمزة- فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، فضربه بالسيف فسقط، فنادت امرأة من القصر: وأمير الوضاءة، قتله العبد الأسود، فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريباً من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أحد وعشرون ألفاً، وقتل من المسلمين ستمائة، وقيل خمسمائة، فالله أعلم، وفيهم من سادات الصحابة، وعيان الناس من يذكر بعد، وخرج خالد وتبعه مجاعة ابن مرارة يرسف في قيوده، فجعل يريه القتلى ليعرفه بمسيلمة، فلما مروا بالرّجال بن عنفوة قال له خالد: أهذا هو؟ قال لا، والله هذا خير منه، هذا الرَّجال بن عنفوة. ثم مروا برجل أصفر أخنس، فقال: هذا صاحبكم، فقال خالد: قبحكم الله على اتباعكم هذا، ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ماحول حصونها من مال وسبي( ).
3-أبو عقيل: عبدالرحمن بن عبدالله البلوي الأنصاري الأوسي:
كان أبو عقيل من أول من جُرح يوم اليمامة، رمى بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده، فجرح في غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن شقُّه الأيسر، فأخذ إلى معسكر المسلمين، فلما حمي القتال، وتراجع المسلمون إلى رحالهم ومعسكرهم، وأبو عقيل واهن من جرحه سمع معن بن عدي يصيح: ياللأنصار، الله الله والكرة على عدوكم، وتقدم معن القوم، ونهض أبو عقيل يريد قومه، فقال له بعض المسلمين: يا أبا عقيل، مافيك قتال، قال: قد نوّه المنادي باسمي، فقيل له: إنما يقول يا للأنصار لايعني الجرحى، فقال أبو عقيل: فأنا من الأنصار،وأنا أُجيب ولو حبواً، فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجرّداً، ثم جعل ينادي: ياللأنصار، كرَّة كيوم حُنين، فاجتمعوا جميعاً، وتقدموا بروح معنوية عالية يطلبون الشهادة أو النصر، حتى أقحموا عدوَّهم الحديقة، وفي هذا الهجوم قطعت يد أبي عقيل من المنكب، ووجدت به أربعة عشر جُرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل، ومرَّ ابن عمر بأبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقال: يا أبا عقيل، فقال: لبيك، بلسان ثقيل، ثم قال: لمن الدبرة، فقال ابن عمر: أبشر، قد قُتِل عدوُّ الله، فرفع أبو عقيل اصبعه إلى السماء بحمد الله قال عنه عمر ?: رحمه الله، مازال ينال الشهادة ويطلبها وإنه لمن خيار أصحاب نبينا( ).
4-نسيبة بنت كعب المازنية الأنصارية:
خرجت في جيوش خالد الذاهبة لليمامة وباشرت القتال بنفسها وأقسمت أن لاتضع السلاح حتى يقتل دجال بني حنيفة وبرت بفضل الله بقسمها وقتل مسيلمة ورجعت المدينة وبها اثنا عشر جرحاً مابين طعنة برمح وضربة بسيف وكلها أوسمة شرف لهذه الصحابية المجاهدة التي ضربت لبنات جنسها مثلا رائعاً في الدفاع عن الدين والعقيدة ولو أدى ذلك لأن تتحمل مالايتحمله في العادة مثيلاتها من ربات الخدور( )، وقد قام خالد بن الوليد بعد هذه المعركة برعايتها فقد قالت نسيبة رضي الله عنها: فلما انقطعت الحرب ورجعت إلى منزلي جاءني خالد بن الوليد بطبيب فداواني بالزيت المغلي، وكان والله أشد علي من القطع وكان خالد كثير التعهد لي، حسن الصحبة لنا، يعرف لنا حقنا، ويحفظ فينا وصية نبينا ?( ).
سادساً: من شهداء معركة اليمامة:
1-ثابت بن قيس بن شماس الذي أجاز الصديق وصيته بعد موته:
هو أبو محمد خطيب الأنصار، وقد ثبت أن رسول الله بشره بالشهادة، وقتل يوم اليمامة شهيداً وكانت راية الأنصار يومئذ بيده وقد رأى رجل من المسلمين ثابت بن قيس في منامه فقال: إني لما قتلت بالأمس مر بي رجل من المسلمين فانتزع مني درعاً نفيسة ومنزله في أقصى العسكر وعند خبائه فرس يستَنُّ طوله، وقد كفأ على الدرع بُرْمة، وفوق البرمة رحل، فأتِ خالداً فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله-يعني أبا بكر- فقل له: إن عليّ من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق، وإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه، قال: فأتى خالداً فوجهه إلى الدرع فوجدها كما ذكر، وقدم على أبي بكر فأخبره فأنفذ أبو بكر وصيته بعد موته فلا يعلم أحداً جازت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس بن شماس( ).
2-زيد بن الخطاب ?:
هو أخو عمر بن الخطاب لأبيه، وكان أكبر من عمر، أسلم قديماً، وشهد بدراً، ومابعدها وقد آخى رسول الله ? بينه وبين معن بن عدي الأنصاري وقد قتلا جميعاً باليمامة، وقد كانت راية المهاجرين يومئذ بيده، فلم يزل يتقدم بها حتى قتل فسقطت، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قتل زيد يومئذ الرّجال بن عنفوة الذي كان فتنته على بني حنيفة أشد من فتنة مسيلمة، فكانت وفاته على يد زيد ?، والذي قتل زيداً رجل يقال له أبو مريم الحنفي، وقد أسلم بعد ذلك وقال لعمر: يا أمير المؤمنين إن الله أكرم زيداً بيدي ولم يهني على يده، وقد قال عمر لما بلغه مقتل زيد بن الخطاب سبقني إلى الحسنيين أسلم قبلي، واستشهد قبلي، وقال لمتمم بن نويرة حين جعل يرثي أخاه مالكاً بالأشعار: لو كنت أحسن الشعر لقلت كما قلت، فقال له متمم: لو أن أخي ذهب على ماذهب عليه أخوك ما حزنت عليه، فقال له عمر: ماعزاني أحد بمثل ماعزيتني به ومع هذا كان عمر يقول ماهبت الصبا إلا ذكرتني زيد ?( ).
3-معن بن عدي البلوي:
شهد العقبة وبدراً وأحداً والخندق وسائر المشاهد، وكان قد آخى رسول الله ? بينه وبين زيد بن الخطاب فقتلا جميعاً يوم اليمامة رضي الله عنهما وكان لمعن بن عدي موقف متميز عند وفاة رسول الله، فعندما بكى الناس على رسول الله ? حين مات وقالوا: والله وددنا أنا متنا قبله ونخشى أن نفتتن بعده، فقال معن بن عدي: لكني والله ما أحب أن أموت قبله لأصدقه ميتاً كما صدقته حياً( )
4-عبدالله بن سهيل بن عمرو:
أسلم قديماً وهاجر ثم استضعف بمكة، فلما كان يوم بدر خرج معهم فلما تواجهوا فرّ إلى المسلمين فشهدها معهم، وقتل يوم اليمامة فلما حج أبو بكر عزى أباه فيه، فقال سهيل: بلغني أن رسول الله ? قال: يشفع الشهيد لسبعين من أهله( )، فأرجوا أن يبدأ بي( )، وقد كان لسهيل بن عمرو ? موقف عظيم بمكة حين توفى رسول الله ? فقد همّ أكثر أهل مكة بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك حتى خافهم والي مكة عتاب بن أسيد: فتوارى فقام سهيل بن عمرو، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة فمن رابنا ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، فظهر عتاب بن أسيد. فهذا المقام الذي أراد رسول الله ? في قوله لعمر بن الخطاب-يعني حين أشار بقلع ثنيته حين وقع في الاسارى يوم بدر- إنه عسى أن يقوم مقاماً لاتَذُمَنَّه( ).
5-أبو دُجانة سِماك بن خرشه:
كانت عليه يوم بدر عصابة حمراء، قيل آخى النبي ? بينه وبين عتبة بن غزوان، وثبت أبو دجانة يوم أحد مع النبي ? وبايعه على الموت، وهو ممن اشترك في قتل مسيلمة، وقتل يومئذ، وقال زيد بن أسلم: دُخل على أبي دجانة وهو مريض- وكان وجهه يتهلل- فقيل له: مالِوجهك يتهلل؟ فقال: مامن عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لاأتكلم فيما لايعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً( )، وكان أبو دجانة يوم اليمامة من أبطال المسلمين، فقد رمى بنفسه إلى داخل الحديقة فانكسرت رِجله، فقاتل وهو مكسور الرجل حتى قتل( ).
6-عبّاد بن بشر:
من فضلاء الصحابة، عاش خمساً وأربعين سنة، وهو الذي أضاءت عصاه ليلة حين انقلب إلى منزله، وكان قد سمُر عند النبي ?( )، أسلم عبّاد على يد مصعب بن عمير، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف( )، واستعمله النبي ? على صدقات مزينه وبني سليم وعلى حرسه بتبوك، وأبلى يوم اليمامة بلاءً حسناً، وكان من الشجعان، وعن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلاً، كلهم من بني عبدالأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعبّاد بن بشر، وعن عائشة قالت: تهجَّد رسول الله ? في بيتي، فسمع صوت عبّاد بن بشر فقال: ياعائشة هذا صوت عبَّاد؟ قلت: نعم، قال: اللهم اغفر له( )، وقد استشهد باليمامة ويحدثنا أبو سعيد الخدري عنه حيث قال: سمعت يقول حين فرغنا من بزاخة، يا أبا سعيد: رأيت الليلة كأن السماء فرجت لي ثم أطبقت عليّ فهي إن شاء الله الشهادة. قلت: خيراً والله رأيت( )، وقد كان له يوم اليمامة مواقف مشهودة، فقد وقف على نشز مرتفع من الأرض ثم صاح بأعلى صوته: أنا عباد بن بشر، يا للأنصار يا للأنصار، ألا إليّ ألا إليّ، فأقبلوا إليه جميعاً وأجابوه لبيك لبيك ... ثم حطم جفن سيفه فألقاه، وحطمت الأنصار جفون سيوفهم ثم قال حملة صادقة اتبعوني فخرج حتى ساقوا بني حنيفة منهزمين حتى انتهوا بهم إلى الحديقة فأغلق عليهم( )، ولما تمكن المسلمون من اقتحام باب الحديقة: ألقى درعه على بابها ثم دخل بالسيف سلتا يجالدهم حتى قتل شهيداً باليمامة وهو ابن خمس وأربعين سنة، ولم يعرف إلا بعلامة في جسده لكثرة مافيه من الجراح ?( )، وقد اشتهرت مواقف عباد بن بشر في اليمامة حتى أصبحت مضرب المثل( )، وبقيت بنو حنيفة تذكر عباد بن بشر، فإذا رأت الجراح بالرجل منهم تقول: هذا ضرب مجرب القوم عباد بن بشر( ).
لقد كان للأنصار مواقف عظيمة وإقدام منقطع النظير في حروب الردة وخصوصاً باليمامة وقد شهد للأنصار بالأقدام والصبر في ذلك اليوم، مجّاعة بن مرارة الحنفي، عند الخليفة أبي بكر فقال: ياخليفة رسول الله لم أر قوما قط، أصبر لوقع السيوف ولاأصدق كرة من الأنصار... فلقد رأيتني وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى بني حنيفة وإني لأنظر إلى الأنصار وهم صرعى، فبكى أبو بكر حتى بل لحيته( ).
7-الطفيل بن عمرو الدّوسي الأزديّ:
استشهد باليمامة، وكان شريفاً شاعراً لبيباً، وقد رأى الرؤيا قبل استشهاده حيث قال: خرجت ومعي ابني عمرو فرأيت كأن رأسي حُلِقَ وخرج من فمي طائر، وكأن امرأةً أدْخلتني فرجها، فأوّلتها حلق رأسي قطعه، وأمّا الطائر فروحي، وأما المرأة فالأرض أدفن فيها، فاستشهد يوم اليمامة( ).
وقد استشهد كثير من المهاجرين والأنصار في هذه المعركة الفاصلة.
وكانت المدينة على الرغم من فرحها بانتصار المسلمين على المرتدين مازالت تبكي شهداءها، ففي حرب اليمامة وحدها قتل من المسلمين مائتان وألف، منهم عدد من كبار الصحابة، وفيهم أكثر حفاظ القرآن: نحو أربعين من القراء، وعصرت الأحزان قلب المدينة، وغمرت الدموع ابتسامات الفرح بالنصر، وضافت الصدور، وثقلت المحنة على القلوب، بقدر ما أضاء انتصار المسلمين غيابات النفوس، وقوى من إيمانهم، وغرس الثقة في أعماقهم( ).
سابعاً: خدعة مجاعة وزواج خالد من ابنته ورسائل بينه وبين الصديق:
أ-خدعة مجاعة:
بعد انتصار جيش المسلمين في حديقة الموت بعث خالد ? الخيول حول اليمامة يلتقطون ماحول حصونها من مال وسبي، ثم عزم على غزو الحصون، ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ الكبار، فخدعه مجاعة فقال: إنها ملأى رجالاً مقاتلة فهلم فصالحني عنها، فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد كَلُّوا من كثرة الحروب والقتال، فقال: دعني حتى أذهب إليهم ليوافقوني على الصلح، فقال: اذهب، فسار إليهم مجاعة، فأمر النساء أن يلبسن الحديد، ويبرزن على رؤوس الحصون، فنظر خالد فإذا الشُّرفات ممتلئة من رؤوس الناس، فظنهم كما قال مجاعة، فانتظر الصلح ودعاهم خالد إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم، ورجعوا إلى الحق، وردّ عليهم خالد بعض ماكان من السبي، وساق الباقين إلى الصديق، وقد شرى علي بن أبي طالب بجارية منهم، وهي أم ابنه محمد الذي يقال له: محمد بن الحنفية ?( ).
وكانت وقعة اليمامة في سنة إحدى عشر وقال الواقدي وآخرون: كانت في سنة ثنتي عشرة والجمع بينهما أن ابتداءها في سنة إحدى عشرة، والفراغ منها في سنة ثنتي عشرة( ).
ب-زواجه بابنة مجاعة والرسائل بينه وبين الصديق:
طلب خالد بن الوليد من مجاعة بعدما تم الصلح أن يزوجه بابنته فقال له مجاعة: مهلاً، إنك قاطع ظهرك وظهري معك عند صاحبك. فقال خالد: أيها الرجل زوجني ابنتك فزوجه مجاعة ابنته( ).
وكان الصديق قد أرسل سلمة بن وقش إلى خالد إن أظفره الله أن يقتل من جرت عليه الموس( ) من بني حنيفة، فوجده قد صالحهم وأتم خالد عقده معهم، ووفى لهم( ).
وكان الصديق يستروح الخبر من اليمامة، وينتظر رسول خالد، فخرج يوماً بالعشي، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار إلى ظهر الحرّة، فلقي أبا خيثمة النجّاري قد أرسله خالد، فلما رآه أبو بكر قال له: ماوراءك يا أبا خيثمة؟ قال: خير ياخليفة رسول الله، قد فتح الله علينا اليمامة، وهذا كتاب خالد، فسجد الصديق شكراً لله، وقال أخبرني عن الوقعة كيف كانت؟ فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع خالد، وكيف صفَّ أصحابه، ومن استشهد من الصحابة وقال أبو خيثمة: ياخليفة رسول الله: أُتينا من قبل الأعراب انهزموا بنا، وعوّدونا مالم نكن نُحْسِن( ).
ولما علم الصديق بزواج خالد كتب إليه: يا ابن أم خالد، إنك لفارغ تنكح النساء، وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد، ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك عن قومه وقد أمكن الله منهم( )، وإزاء هذا التعنيف الذي وصل إلى خالد من الخليفة بسبب مصالحته لمجّاعة وزواجه بابنته، بعث خالد إليه كتاباً جوابياً مع أبي برزة الأسلمي يدافع فيه عن موقفه دفاعاً يتسم بوضوح الحجة وقوة المنطق( )، يقول فيه: أما بعد، فلعمري ماتزوجت النساء حتى تم لي السرور، وقرت بي الدار، وماتزوجت إلا إلى امرئ لو عملت إليه من المدينة خاطباً لم أبل، دع أني استثرت خطبتي إليه من تحت قدمي، فإن كنت قد كرهت لي ذلك لدين أو لدنيا أعتبتك، وأما حسن عزائي عن قتلى المسلمين فوالله لو كان الحزن يبقي حياً أو يرد ميتاً لأبقى حزني الحيّ ورد الميت ولقد أقتحمت حتى أيست من الحياة، وأيقنت بالموت، وأما خدعة مجاعة إياي عن رايي، فإني لم أخطئ رأيي يومي، ولم يكن لي علم بالغيب، وقد صنع الله للمسلمين خيراً: أورثهم الأرض والعاقبة للمتقين( ) فلما قدم الكتاب على أبي بكر ? رقَّ بعض الرقة، وقام رهط من قريش فيهم أبو برزة الأسلمي، فعذروا خالداً وقال أبو برزة: ياخليفة رسول الله مايوصف خالد بجبن ولاخيانة، ولقد أقحم في طلب الشهادة حتى أُعذر، وصبر حتى ظفر، وماصالح القوم إلا على رضاه وما أخطأ رأيه بصلح القوم، إذ هو لايرى النساء في الحصون إلا رجالا، فقال أبو بكر: صدقت، لكلامك هذا أولى بعذر خالد من كتابه إليّ( ).
ونلحظ في رسالة خالد إلى أبي بكر بعض النقاط التي دافع بها عن نفسه والتي تمثلت بما يلي:
1-إنه لم يتزوج إلا بعد أن كسب النصر واطمأن به المقام.
2-إنه أصهر إلى رجل من زعماء قومه وأشرافهم.
3-إنه لم يتكلف أدنى مشقة في هذا الإصهار.
4-إن هذا الزواج ليس فيه مخالفة دينية أو دنيوية.
5-إن الامتناع بسبب الحزن على قتلى المسلمين تصرف غير مجد، لأن الحزن لايبقي حيا ولايرد ميتا.
6-إنه لم يكن يقدم على الجهاد أي أمر آخر. ولقد أبلى فيه بلاء لم يعد
-بسببه- بينه وبين الموت أي حاجز.
7-إنه في مصالحته لمجّاعة لم يأل جهداً في تحقيق الخير للمسلمين وإذا كان مجاعة لم ينقل له الصورة عن قومه على حقيقتها، فعذره إنه إنسان لايدري من أمر الغيب شيئاً وعلى كل فالعاقبة كانت في صالح المسلمين إذا استولوا على أرض بني حنيفة، ومن ثم فاءت بقيتهم إلى الإسلام دون قتال وعلى هذا، فإن الزواج ببنت مجاعة كان أمراً طبيعياً، لاعلى خالد فيه بأس. وليس صحيحاً أنه كان ناشئاً عن إعجابه بمجاعة لغيرته على قومه ولذا: أحب أن يصهر إليه ويوثق الصلة بينه وبينه وطاب له أن يعزز صلة الدين بصلة البيت والنسب( )، كما يقول العقاد، ذلك لأن خالداً لم يكن ليقدم على رابطة الدين أو يجمع إليها في التعامل مع الناس، رابطة أخرى( ).
وأما أسلوب الدكتور محمد حسين هيكل في الاعتذار لخالد فإنه مرفوض لأنه يتنافى مع أحكام الإسلام، فقد قال هيكل: ومن تكن بنت مجاعة في أعياد النصر التي يجب أن تقام لخالد؟! إنّها لن تزيد على قربان يطرح على قدمي هذا العبقري الفاتح الذي روى أرض اليمامة بالدماء لعلها تطهر من رجسها( ).
فهذه الكلمات تصور خالداً -الصحابي الكريم- وكأنه أخيل أو هكتور أو أغاممنون من قادة حرب طروادة الوثنيين الذين لايحارب الواحد منهم، إلا إذا أشير إليه بالبنان، أو أمطر بالقبلات والتوسلات، لأنه لايحارب إلا للزعامة والوجاهة، أو كأنه أحد أصنام العرب الذين تسفح على جنباتهم دماء القرابين تقربا وتذللا ً أو كأنه إله النيل الذي كان يعتقد المصريون أنه لن يفيض عليهم بالخير إلا إذا قذفوا في بحره أجمل بنات مصر، فحاشى أبا سليمان ثم حاشاه من قبل ومن بعد من مثل هذه الروح وتلك النفسية، فخالد مؤمن موحد، لايحارب إلا لإعلاء كلمة الله، لايبغي عليها جزاء ولاشكور من أحد من خلق الله، ومرفوض أيضاً ماذهب إليه الجنرال أكرم في تعليله لما وقع فيه خالد من ملامات من جراء قصص زواجه في حروب الردة، إذ يعيدها إلى لياقته البدنية: التي سببت له كثيراً من المشاكل بين حسناوات شبه الجزيرة العربية( ). على حد زعمه، وكأن خالداً تحول إلى زير نساء، أو دون جوان غوان، وهو الذي لم يكن يهوى شيئاً هواه الجهاد في سبيل الله، ولكنها التوجيهات الباطلة التي تفسر الأمور بعيداً عن طبيعة الظروف ومعطيات المبادئ وشواهد الأخبار( ).
إن خالد ? كان يقاتل عن دين ويحتسب الأجر عند الله تعالى وكان يقتحم المعامع بنفسه، وقد وصف بأنه له أناة القطة ووثوب الأسد( ) وماكان يوماً بالذي يؤثر نفسه عن جنده، بل كانوا يجدونه أمامهم في كل معترك ففي معركة بزاخة: ضرّس في القتال، فجعل يقحم فرسه، ويقولون له: الله الله! فإنك أمير القوم، ولا ينبغي لك أن تقدم، فيقول: والله إني لأعرف ماتقولون، ولكني مارأيتني أصبر، وأخاف هزيمة المسلمين( ).
وفي معركة اليمامة لما اشتد القتال، ولم يزد بني حنيفة ماقتل منهم إلا عنفاً وضراوة برز (حتى إذا كان أمام الصف دعا الى المبازة وانتمى، ونادى الناس بشعارهم يؤمئذ، وكان: يامحمداه، فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله، ولا شيء إلا أكله( )، فقد كان يرغب في النصر ويتحرى الشهادة ولنترك لخالداً يصف لنا جولة من المصارعة بينه وبين أحد جنود مسيلمة داخل حديقة الموت قال: ولقد رأيتني في الحديقة وعانقني رجل منهم وأنا فارس وهو فارس، فوقعنا عن فرسينا ثم تعانقنا بالأرض فأجؤه بخنجر في سيفي، وجل يجؤني بمعول في سيفه فجرحني سبع جراحات، وقد جرجته جرحاً أثبته به فاسترخى في يدي، ومابي حركة من الجراح، وقد نزفت من الدم إلا أنه سبقني بالأجل فالحمدلله على ذلك( ). وقد شهد خالد ? لابي حنيفة على قوتهم وشدة بأسهم فقال: شهدت عشرين زحفاً، فلم أر قوماً أصبر لوقع السيوف، ولا أضرب بها، ولا اثبت أقدماً من بني حنيفة يوم اليمامة... ومابي حركة من الجراح، ولقد أقحمت حتى أيست من الحياة وتيقنت الموت( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:26 pm

أ-محاولة قتل خالد بن الوليد:
على الرغم من وضوح باطل الجاهلية وزيفه فإنها لاتتخلى عنه بسهولة، لأن به ديمومة حياتها، ولذا ما إن تواجه بالحقيقة حتى تأخذ في الدفاع عن نفسها بشراسة، ولاتلقي سيف القتال من يدها إلا بعد أن يسقط بالقوة( )، وبعد ذلك تحاول الغدر مااستطاعت إلى ذلك سبيل، فهذا سلمة بن عمير الحنفي يدلل بفعله على صحة ما ذهبت إليه، فقد حاول اغتيال خالد بن الوليد بعد الصلح الذي أجراه خالد مع بني حنيفة بشكل عام، إلا أنه من حقده الناقع للمسلمين، فقد دبر خطة اغتيال خالد بن الوليد كجزء من سياسته في رفض التصالح معهم، ولما قبض عليه أول مرة وعاهد بني حنيفة ألا يعود لمثلها، نكث بعهده إذ أفلت ليلاً من وثاقه الذي أوثقوه به مخافة غدره، فعمد إلى عسكر خالد فصاح به الحرس، وفزعت بنو حنيفة فاتبعوه فأدركوه في بعض الحوائط (الحدائق)، فشد عليهم بالسيف، فاكتنفوه بالحجارة، وأجال السيف على حلقه فقطع أوداجه (عروق رقبته) فسقط في بئر فمات( )، فهذا مثال على عناد الجاهلية في الدفاع عن باطلها( ).
2-قدوم وفد بني حنيفة على الصديق:
ولما قدمت وفود بني حنيفة على الصديق قال لهم: أسمعونا شيئاً من قرآن مسيلمة، فقالوا: أوتعفينا ياخليفة رسول الله؟ فقال: لابد من ذلك، فقالوا: كان يقول: ياضفدع بنت الضفدعين، نقي لكم تنقين، لاالماء تكدرين ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء وذنبك في الطين. وكان يقول: والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا. ويقول: لقد فضلتم على أهل الوبر، وماسبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والناعي فواسوه( )، وذكروا أشياءً من هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصبيان وهم يلعبون، فيقال: إن الصديق قال لهم: ويحكم، أين كان يذهب بعقولكم؟ إن هذا الكلام لم يخرج من إل( ) ولابر.
وذكر علماء التاريخ أنه كان يتشبه بالنبي ?، وبلغه أن رسول الله ? بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق في بئر فغاص ماؤه بالكلية، وفي أخرى فصار ماؤه أجاجا، وتوضأ فسقى بوضوئه نخلا فيبست وهلكت، وأتى بولدان يبرك عليهم فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه، ومنه من لثغ لسانه ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحها فعمي( ).
تاسعاً: جمع القرآن الكريم:
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر ? بمشورة عمر بن الخطاب ? بجمع القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال( )، وأسند الصديق هذا العمل العظيم المشروع الحضاري الضخم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري ?، يروي زيد بن ثابت ? فيقول: بعث إليّ أبو بكر ? لمقتل أهل اليمامة( )، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر ?: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر( ) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن( )، كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ?( )؟!! فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، لانتهمك( )، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ?، فتتبع القرآن فاجمعه( ) قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ماكان بأثقل عليّ مما كلفني به من جمع القرآن، فتتبعت القرآن من العسب( )، واللخاف( )، وصدور الرجال، والرقاع( )، والأكتاف( ). قال: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة، آية:128) حتى خاتمة براءة وكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم( ) وعلق البغوي على هذا الحديث فقال: فيه البيان الواضح أن الصحابة -رضي الله عنهم- جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله ? من غير أن يزادوا فيه أو ينقصوا منه شيئاً والذي حملهم على جمعه ماجاء في الحديث وهو أنه كان مفرقاً في العسب، واللخاف، وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله، ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله من غير أن قدموا شيئاً أو أخروا، أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله ?، وكان رسول الله ? يُلقى أصحابه، ويعلمهم ماينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه، إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا( )، وهكذا يتضح للقارئ الكريم أن من أوليات أبي بكر الصديق ?: أنه أول مَنْ جمع القرآن الكريم، يقول صعصعة بن صوحان رحمه الله: أول من جمع بين اللوحين، وورت الكلالة( ): أبو بكر( ).
وقال علي بن أبي طالب ?: يرحم الله أبا بكر هو أول من جمع بين اللوحين( ).
وقد اختار أبو بكر ? زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة، وذلك لأنه رأى فيه المقومات الأساسية للقيام بها وهي:
1-كونه شاباً، حيث كان عمره 21 سنة، فيكون أنشط، لما يطلب منه.
2-كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له، إذ من وهبه الله عقلا راجحاً فقد يسر له سبيل الخير.
3-كونه ثقة، فليس هو موضعاً للتهمة، فيكون عمله مقبولاً، وتركن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب.
4-كونه كاتباً للوحي، فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا الأمر، وممارسة عملية له فليس غريباً عن هذا العمل، ولا دخيلاً عليه( ).
هذه الصفات الجليلة جعلت الصديق يُرشِّح زيداً لجمع القرآن، فكان به جديراً، وبالقيام به خبيراً.
5-ويضاف لذلك أنه أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي ?، فعن قتادة قال سألت أنس بن مالك ?: من جمع القرآن على عهد النبي ?؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد( )، وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن فكان لايثبت شيئاً من القرآن، إلا إذا كان مكتوباً بين يدي النبي ?، ومحفوظاً من الصحابة، فكان لايكتفي بالحفظ دون الكتابة، خشية أن يكون في الحفظ خطأ أو وهم، وأيضاً لم يقبل من أحد شيئاً جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله?، وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن( )، وعلى هذا المنهج استمر زيد ? في جمع القرآن حذراً متثبتاً مبالغاً في الدقة والتحري.
كما كان زيد في طليعة من وجدوا المصاحف في زمن عثمان بن عفان ?( ) وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله في موضعه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:27 pm

المبحث الخامس
أهم الدروس والعبر والفوائد من حروب الردة



أولاً: أولاً تحقيق شروط التمكين وأسبابه وآثار شرع الله، وصفات المجاهدين:
1-تحقيق شروط التمكين:
إن الاستخلاف في الأرض، والتمكين لدين الله، وإبدال الخوف أمناً، وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه، ولقد أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين، ولوازم الاستمرار فيه قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ?وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?} (سورة النور، آية:55-56). ولقد أشارت الآيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي: الإيمان بكل معانيه وبكافة أركانه، وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر، وتحقيق العبودية الشاملة، ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأما لوازم التمكين فهي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول ?( )، وقد تحققت هذه الشروط واللاوازم كلها في عهد الصديق والخلفاء الراشدين من بعده، وكان للصديق الفضل بعد الله في تذكير الأمة بهذه الشروط ولذلك رفض طلب الأعراب في وضع الزكاة عنهم، وأصرّ على بعث جيش أسامة والتزم بالشرع كاملاً ولم يتنازل عن صغيرة ولاكبيرة، قال عبدالله بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله ?، مقاماً كدْنا نهلك فيه لولا أن منّ علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لانقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون وأن نأكل قرى عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتاله فوالله مارضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المحلية( ).
2-الأخذ بأسباب التمكين:
قال تعال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (سورة الأنفال، آية:60). وقد لاحظت أن الصديق ? كان إعداده شاملاً، معنوياً ومادياً، فجيش الجيوش وعقد الألوية، واختار القادة لحروب الردة، وراسل المرتدين، وحرض الصحابة على قتالهم، وجمع السلاح والخيل والإبل وجهز الغزاة، وحارب البدع، والجهل، والهوى، وحكّم الشريعة، وأخذ بأصول الوحدة والاتحاد والاجتماع، وأخذ بمبدأ التفرغ، وساهم في إحياء مبدأ التخصص، فخالد لقيادة الجيوش، وزيد بن ثابت لجمع القرآن، وأبو برزة الأسلمي للمراسلات الحربية وهكذا، واهتم بالجانب الأمني، والإعلامي وغير ذلك من الأسباب.
3-آثار تحكيم الشرع:
تظهر آثار تحكيم شرع الله في عصر الصديق في تمكين الله للصحابة، فقد حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسهم وأهليهم وأخلصوا لله في تحاكمهم إلى شرعه، فالله سبحانه وتعالى قواهم وشد أزرهم ونصرهم على المرتدين، ورزقهم الأمن والاستقرار قال تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (سورة الأنعام، آية:82). وتحققت فيهم سنة الله في نصرته لمن ينصره لأن الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ?الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ?} (سورة الحج، آية:40-41).
وماحدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت مجموعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف…)( ).
وقد انتشرت الفضائل وانحسرت الرذائل في عهد الصديق ?.
4-صفات جيل التمكين:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة، آية:54) هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق ? وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات وأعلى المبرات( ) فهذه الصفات:
أ-{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}:
مذهب السلف في المحبة المسندة له سبحانه وتعالى، أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولاتأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها( ). لقد أحب المولى عزوجل ذلك الجيل لما بذلوه من أجل دينهم وبما تطوعوا به بما لم يفرض عليهم فرضاً، تقرباً إلى الله وحبا لرسوله، واتخاذهم المندوبات والمستحبات كأنها فروض واجبة التنفيذ( )، ولقد اتصف هذا الجيل بصفات الإحسان والتقوى والصبر التي ذكر المولى عزوجل بأنه يحبها قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (سورة آل عمران، آية:134) وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (سورة آل عمران، آية:76) ولقد أحب الصحابة المولى عزوجل حباً عظيماً فقدموا محابه على كل شيء وبغضوا ما أبغضه، ووالوا ماوالاه وعادوا من عاداه واتبعوا رسوله، واقتفوا أثره، لقد أحب الصحابة ربهم، وخالقهم، ورازقهم، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر، وشرع فيسر، وجعل الإنسان في أحسن تقويم، ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها مالاعين رأت ولا أذن سمعت، ولاخطر على قلب بشر، لهذا كله ولأكثر منه، أحب ذلك الجيل ربهم حبا لامثيل له، فقدموا أنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله، بلا تردد أو منة، بل اعتبروا ذلك تفضل من الله عليهم، أن فتح لهم باب الجهاد والاستشهاد في سبيله ويسر لهم أسبابه، فقاموا بذلك الواجب خير قيام( ).
ب-قوله تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}:
فهذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه وعدوه( )، ولذلك قام الصديق وجنوده الكرام بمناصرة المسلمين وخرج بنفسه يقاتل المرتدين، وسير إحدى عشرة لواء، لرفع الظلم عن المؤمنين، وكسر شوكة المرتدين ولم يقبل من المرتدين الذين عذبوا المستضعفين من مواطنيهم المسلمين إلا أن يأخذ بحقهم منهم فيفعل بهم كما فعلوا بهم وكذلك فعل قادة جيوشه، وكان ? حريصاً على مراعاة أحوال الرعية في المجتمع فقد مر بنا كيف كان يعامل الجواري، والعجائز، وكبار السن ? لقد سادت هذه الصفات في عصر الصديق وتجسدت في حياة الناس.
جـ-{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}:
وقد ظهرت صفة المجاهدة لأعداء الله في عصر الصديق في حربهم للمرتدين وكسرهم لشوكتهم ومن بعد في الفتوحات الإسلامية التي سيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى، لقد جاهد الصحابة أعدائهم من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وتحقيق عبادة الله وحده، وإقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض، ودفع عدوان المرتدين، ومنع الظلم بين الناس، وبالجهاد في سبيل الله تحقق إعزاز المسلمين وإذلال المرتدين، ورجع الناس إلى دين الله، واستطاعت القيادة الإسلامية بزعامة الصديق ? أن تجعل من الجزيرة العربية قاعدة للانطلاق لفتح العالم أجمع، وأصبحت الجزيرة هي النبع الصافي الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى أصقاع الأرض بواسطة رجال عركتهم الحياة، وأصبحوا من أهل الخبرات المتعددة في مجالات التربية والتعليم والجهاد وإقامة شرع الله الشامل لإسعاد بني الإنسان حيثما كان( ).
لقد كان الجهاد الذي خاضه الصحابة في حروب الردة إعداداً ربانياً للفتوحات الإسلامية حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات، وتفجرت الطاقات، واكتشفت قيادات ميدانية وتقنن القادة، في الأساليب والخطط الحربية، وبرزت مؤهلات الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقاً والتفاني عظيماً( ).
لقد توحدت شبه الجزيرة العربية بفضل الله ثم جهاد الصحابة مع الصديق
-تحت راية الإسلام لأول مرة في تاريخها بزوال الرؤوس أو انتظامها ضمن المد الإسلامي، وبسطت عاصمة الإسلام -المدينة- هيمنتها على ربوع الجزيرة وأصبحت الأمة تسير وراء زعيم واحد بمبدأ واحد، بفكرة واحدة، فكان الانتصار انتصاراً للدعوة الإسلامية ولوحدة الأمة بتضامنها وتغلبها على عوامل التفكك والعصبية كما كانت برهاناً على أن الدولة الإسلامية بقيادة الصديق قادرة على التغلب على أعنف الأزمات( ).
وهكذا كان الصحابة يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لوم أحد واعتراضه ونقده، لصلابتهم في دينهم، ولأنهم يعملون لإحقاق الحق وإبطال الباطل( ).
د-{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}:
الإشارة إلى ماذكر من حب الله إياهم، وحبهم لله، وذلتهم للمؤمنين، وعزتهم على الكافرين، وجهادهم في سبيل الله، وعدم مبالاتهم للوم اللوّام، فالمذكور كله فضل الله الذي فضل به أولياء، يؤتيه من يشاء أي: ممن يريد به مزيد إكرام من سعة جوده، والله واسع: كثير الفواضل جل جلاله( )، عليم بمن هو أهلها، فهو تعالى واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك، ممن يحرم منه( ).
ثانياً: وصف المجتمع في عصر الصديق:
حين ندرس المجتمع المسلم في صدر الخلافة الراشدة تتضح لنا مجموعة من السمات منها:
1-أنه -في عمومه- مجتمع مسلم بكامل معنى الإسلام، عميق الإيمان بالله واليوم الآخر، مطبق لتعاليم الإسلام بجدية واضحة، والتزام ظاهر، وبأقل قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في التاريخ، فالدين بالنسبة له هو الحياة، وليس شيئاً هامشياً يفيء الناس إليه بين الحين والحين، إنما هو حياة الناس وروحهم، ليس فقط فيما يؤدونه من شعائر تعبدية يحرصون على أدائها على وجهها الصحيح، وإنما من أخلاقياتهم، وتصوراتهم واهتماماتهم، وقيمهم، وروابطهم الاجتماعية، وعلاقات الأسرة وعلاقات الجوار، والبيع والشراء، والضرب في مناكب الأرض والسعي وراء الأرزاق، وأمانة التعامل، وكفالة القادرين، لغير القادرين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرقابة على أعمال الحكام والولاة ولايعني هذا بطبيعة الحال أن كل أفراد المجتمع هم على هذا الوصف، فهذا لايتحقق في الحياة الدنيا، ولافي أي مجتمع من البشر. وقد كان في مجتمع الرسول ? -كما ورد في كتاب الله- منافقون يتظاهرون بالإسلام وهم في دخيلة أنفسهم من الأعداء، وكان فيه ضعاف الإيمان، والمعوّقون، والمتثاّقلون، والمبطّئون، والخائنون، ولكن هؤلاء جميعاً لم يكن لهم وزن في ذلك المجتمع، ولاقدرة على تحويل مجراه، لأن التيار الدافق هو تيار أولئك المؤمنين الصادقي الإيمان المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، الملتزمين بتعاليم هذا الدين( ).
2-أنه المجتمع الذي تحقق فيه أعلى مستوى المعنى الحقيقي (للأمة)، فليست الأمة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللغة ووحدة الأرض ووحدة المصالح، فتلك هي الروابط التي تربط البشر في الجاهلية، فإن تكونت منهم أمة فهي أمة جاهلية، أما الأمة بمعناها الرباني -فهي الأمة التي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النظر عن اللغة والجنس واللون، ومصالح الأرض القريبة وهذه لم تتحقق في التاريخ وحده كما تحققت في الأمة الإسلامية، فالأمة الإسلامية هي التي حققت معنى الأمة أطول فترة من الزمن عرفتها الأرض، أمة لاتقوم على عصبية الأرض ولاالجنس ولا اللون ولا المصالح الأرضية، إنما هو رباط العقيدة، يربط بين العربي والحبشي والرومي والفارسي، يربط بين البلاد المفتوحة والأمة الفاتحة على أساس الأخوة الكاملة في الدين ولئن كان معنى الأمة قد حققته هذه الأمة أطول فترة عرفتها الأرض، فقد كانت فترة صدر الإسلام أزهى فترة تحققت فيها معاني الإسلام كلها، بما فيها معنى الأمة، على نحو غير مسبوق( ).
3-أنه مجتمع أخلاقي، يقوم على قاعدة أخلاقية واضحة مستمدة من أوامر الدين وتوجيهاته، وهي قاعدة لاتشمل علاقات الجنسين وحدها، وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع، فهو خالٍ من التبرج، ومن فوضى الاختلاط وخال من كل مايخدش الحياء من فعل أو قول أو إشارة وخال من الفاحشة إلا القليل الذي لايخلو منه مجتمع على الإطلاق، ولكن القاعدة الأخلاقية أوسع بكثير من علاقات الجنسين، فهي تشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والتعبير، فالحكم قائم على أخلاقيات الإسلام، والعلاقات الاقتصادية من بيع وشراء وتبادل واستغلال للمال قائمة على أخلاقيات الإسلام، وعلاقات الناس في المجتمع قائمة على الصدق والأمانة والإخلاص والتعاون والحب، لاغمز ولالمز ولانميمة ولاقذف للأعراض( ).
4-أنه مجتمع جاد، مشغول بمعالي الأمور لابسفاسفها، وليس الجد بالضرورة عبوساً وصرامة ولكنه روح تبعث الهمة في الناس وتحث على النشاط والعمل والحركة، كما أن اهتمامات الناس هي اهتمامات أعلى وأبعد من واقع الحس القريب، وليست فيه سمات المجمتع الفارغة المترهلة، التي تتسكع في البيوت وفي الطرقات، تبحث عن وسيلة لقتل الوقت من شدة الفراغ( ).
5-أنه مجتمع مجند للعمل، في كل اتجاه تلمس فيه روح الجندية واضحة لا في القتال في سبيل الله فحسب، وإن كان القتال في سبيل الله قد شغل حيزاً كبيراً من حياة هذا المجتمع، ولكن في جميع الاتجاهات، فالكل متأهب للعمل في اللحظة التي يطلب منه فيها العمل ومن ثم لم يكن في حاجة إلى تعبئة عسكرية ولامدنية، فهو معبأ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنتها الدافعة لبذل النشاط في كل اتجاه( ).
6-أنه مجتمع متعبد، تلمس روح العبادة واضحة في تصرفاته ليس فقط في أداء الفرائض، والتطوع بالنوافل ابتغاء مرضاة الله، ولكن في أداء الأعمال جميعاً، فالعمل في حسه عبادة، يؤديه بروح العبادة، الحاكم يسوس رعيته بروح العبادة، والمعلم الذي يعلم القرآن ويفقه الناس في الدين يعلم بروح العبادة، والتاجر الذي يراعي الله في بيعه وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة، والزوج يرعى بيته بروح العبادة، والزوجة ترعى بيتها بروح العبادة، تحقيقاً لتوجيه رسول الله ?: كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته( ).
هذه من أهم سمات عصر الصديق الذي هو بداية الخلافة الراشدة وهذه السمات جعلته مجتمعاً مسلماً في أعلى آفاقه وهي التي جعلت هذه الفترة هي الفترة المثالية في تاريخ الإسلام، كما أنها هي التي ساعدت في نشر هذا الدين بالسرعة العجيبة التي انتشر بها، فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح في التاريخ كله، بحيث شملت في أقل من خمسين عاماً أرضاً تمتد من المحيط غرباً إلى الهند شرقاً، وهي ظاهرة في ذاتها تستحق التسجيل والإبراز، وكذلك دخول الناس في الإسلام في البلاد المفتوحة بلاقهر ولاضغط وقد كانت تلك السمات التي اشتمل عليها المجتمع المسلم هي الرصيد الحقيقي لهذه الظاهرة، فقد أحب الناس الإسلام لما رأوه مطبقاً على هذه الصورة العجيبة الوضاءة، فأحبوا أن يكونوا من بين معتنقيه( ).
ثالثاً: سياسة الصديق في محاربة التدخل الأجنبي:
أدت حركة الدولة الإسلامية الضاربة في الجزيرة العربية إلى لجوء كثير من القبائل المجاورة لكل من الروم والفرس التسليم للدولة الإسلامية، وما أن سمعوا بوفاة رسول الله ? حتى سعوا للتقرب من الدولتين، واستغل الفرس والروم هذه القبائل بالحض والتشجيع والدعم لتقف ضد الدولة الإسلامية( )، فكانت سياسة الصديق للتصدي لهذا الدعم الخارجي، بأن أرسل حملة أسامة بن زيد إلى الشام بعد وفاة رسول الله ?، فكانت تلك الحملة بمثابة الضمان لاسترسال تلك القبائل على مهاجمة الدولة الإسلامية، وأرسل أبو بكر أيضاً خالد بن سعيد بن العاص على رأس جيش إلى الحمقتين من مشارف الشام، وعمراً بن العاص إلى تبوك ودومة الجندل، وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى البحرين (أي ساحل الخليج العربي كله)، ثم تابع المثنى بن حارثة الشيباني إلى جنوب العراق بعد القضاء على ردة البحرين، واضطرت سجاح التميمية وقد كانت من نصارى العرب في العراق التي كانت تحت سيطرة الفرس، أن ترتد عائدة إلى العراق لما رأت قوة المسلمين، لقد كان المسلمون بقيادة أبي بكر على مستوى اليقظة والمسؤولية، فحفظوا الحدود الشمالية بدقة، فمن الشرق إلى الغرب على طول الحدود الشمالية المتاخمة للفرس والروم نجد العلاء الحضرمي، وخالد بن الوليد شمال نجد، ثم عمرو بن العاص في دومة الجندل، وخالد بن سعيد على مشارف الشام، ناهيك عن جيش أسامة( ).
كان الفرس يتربصون بالإسلام الدوائر، ولكنهم كمنوا كمون الأفعى، وخاصة أنهم كانوا يرون المد الإسلامي يكتسح من أمامه كل أقزام التاريخ، ويزيح من وجهه جميع قوى الشر والطغيان، وعندما حانت الفرصة بإرتداد بعض القبائل عن الإسلام وتوجهت قبيلة بكر بن وائل إلى كسرى بعد وفاة الرسول تعرض عليه إمارة البحرين، فلاقى العرض قبولا لديه، وأرسل معهم المنذر بن النعمان على رأس قوة مؤلفة من سبعة آلاف فارس وراجل وعدد من الخيل تقارب في أعدادها المائة لمساعدتهم في مواجهة المسلمين وهم شرذمة لايخشى خطرهم كما يقول الكلاعي( ) وكان مسيلمة الكذاب تتطلع إليه الأعين من بلاط فارس( )، وقد ذكر الدكتور محمد حسين هيكل: من أن سجاح، لم تنحدر من شمالي العراق إلى شبه الجزيرة يتبعها رهطها إلا مدفوعة بتحريض الفرس، وعمالهم في العراق كي يزيدوا الثورة في بلاد العرب اشتعالاً( ) هذا عن دور الفرس أما دور الروم فقد كان أظهر وأخطر، ذلك لأن موقف الروم من الإسلام ودولته كان أصلب وأعتى فهم أمة ذات فكر وعقيدة، وذات نظم وقوانين متقدمة، ولهم من العَدد والعُدد مدد لايكاد ينقطع، ومن الحلفاء والأتباع دول ودول، ولذا كانت العلاقات بينهما في أعلى درجات سخونتها وتوترها منذ فترات مبكرة( ) وقد لجأ الروم ومنذ وقت مبكر بعد وصول كتب رسول الله ?، إلى محاولة الصدام مع المسلمين، فكان من جرّاء ذلك غزوتا: مؤتة وتبوك اللتان اثبتتا لهم ماديا أن الدولة الإسلامية ليس من السهل ابتلاعها أو شراء أصحابها، كما أثبتت للمسلمين من جهة أخرى، إخلاص متنصرة العرب من قبائل الشام لأبناء دينهم من الروم وعلى الرغم من الاتفاقيات التي عقدها رسول الله بنفسه إثر غزوة تبوك مع أمراء الشام من أتباع الروم، فإن الروم كانوا لايكفّون عن مناوشة الدولة الإسلامية ومحاولة قص أجنحتها، وبالتالي القضاء عليها وكان الصديق ? متنبهاً لهذا الأمر جيداً، وقد تمثل ذلك بإصراره الشديد على إنفاذ جيش أسامة لوجهته، وقد رأى قبائل العرب في شمالي الجزيرة من لخم وغسان وجذام وبلي وقضاعة وعذره وكلب، تعود للانقضاض على عهود رسول الله ? التي أبرمها معها. ومن غير الدولة الرومية يمدهم بوقود المعركة من سلاح ورجال ومال، ومخططات؟ وكأنه كان يريد أن يقول للروم بلسان الحال: إنه على الرغم من انتقاض العرب داخل بلادي، فإن ذلك لن يفت في عضدنا نحن المسلمين، ونحن قادرون أن نصد عن دولتنا أكبر هجمة عالمية ولو كانت من جانبكم( ).
إن انتقاض الجزيرة العربية جدد الأمل عند الفرس والروم بأن العرب سيقضون على الاسلام، وقدمت الفرس والروم للعرب الثائرين على الحكم الاسلامي كثيراً من المساعدات، وآوت الفارين منهم، ولذلك لم يكد المسلمون يعيدون الجزيرة العربية الى وحدتها حتى كان الأوان قد آن للزحف نحو الشمال لمواجهة العدوين الكبيرين اللذين يتربصان بالاسلام( ).
لقد تحرك الصديق من قاعدته الأمينة (المدينة المنورة) وبعث منها الجيوش وزودها بكل مامن شأنه يجعلها ذات هيبة في عيون أعدائها وفي قلوبهم، وقد استطاع الصديق أن يفيض من قاعدته الخير على بقية أرجاء الجزيرة العربية وماكان له أن ينطلق لفتح بلاد الشام والعراق، لولا أنه أمّن قاعدته الكبرى الجزيرة العربية، موالية للاسلام موحدة على أساسه، وقد تمثل أمن هذ القاعدة في ثلاثة مستويات هي: أولاً عزم الخليفة على مواصلة الجهاد، وإيمانه الوطيد بصلاحية فكره وتميزه واستعلائه به، وثانياً: نظافة مجتمعه الأصغر، مجتمع المدينة من مهاجرين وأنصار، وثالثاً تطهير مجتمه الأكبر وهو المجتمع العربي من أدران الشرك، وعقابيل الردة، وقد انبنت هذه المستويات بعضها على بعض حتى سما البناء شامخاً قوياً، واستطاع أن يرمي به ثغور العراق والشام رمياً زعزع كيانات الروم والفرس زعزعة شديدة في أمد قصير، وماذلك إلا لأن الجيوش المنطلقة من الجزيرة كانت موحدة الصفوف، موحدة الفكر، موحدة الراية، محمية الظهر، مؤمنة مراكز التموين( ).
رابعاً: من نتائج أحداث الردة:
خلفت حروب الردة آثاراً ونتائج لم تكن محدودة الزمان والمكان وإنما شلمت أجيالاً وآماداً وتصورات وأفكاراً وسلوكيات وأحكاماً مازلت تغذي الأجيال من بعدها وتمدها بالكثير ومن أهم تلك النتائج:
1- تميز الإسلام عما عداه من تصورات وأفكار وسلوك:
بعد وفاة رسول ? اختلطت الأمور ببعضها وسارعت الأعراب الى الردة، فكان منهم المؤلفة قلوبهم، أو من المنافقين، أو الذين أسلموا رغم أنوفهم وفي وقت متأخر، أو من الذين لم يسلموا أصلاً، ومن أمثلة الصنفين الأولين، إسلام عيينة بن حصن الفزاري الذي أسلم إسلاماً فيه دخن كبير، ولذا ماإن هبت نار الفتنة حتى استجاب لها، وباع دينه بدنيا طليحة الأسدي ولما أسر وبعث الى أبي بكر مقيداً بالأغلال، كان فتيان المدينة يمرون عليه فينخسونه بالجريد ويقولون: أي عدو الله! أكفرت بعد إيمانك؟! فيقول والله ماكنت آمنت بالله قط( )، ومن هؤلاء الذين يقال: إنهم لم يسلموا أصلاً قبيلة عنس اليمنية. وهي قبيلة الطاغية الأسود الذي ادعى النبوة، وفعل في بلاد اليمن الأفاعيل، ونكل بالمسلمين، ومن أمثلة سوء الفهم لنصوص الاسلام التي أدت بهؤلاء الى الكفر أن بعضاً منهم أنكر الزكاة محتجاً بمدلول قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة التوبة، الآية: 103).
فقد جاء في التعليق على هذه الآية في تفسير ابن كثير رحمه الله قوله: (اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفعها الى الإمام لايكون، وإنما كان هذا خاصاً برسول الله ? وقد احتجوا بقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقد رد عليهم هذا التأويل (السقيم) والفهم الفاسد أبوبكر وسائر الصحابة (رضوان الله عليهم) وقاتلوهم حتى أدوها الى الخليفة، كما كانوا يؤدونها الى رسول الله ?)( ).
وظهرت العصبية القبلية بقوة، فهذا مسيلمة الكذاب يقول لبني حنيفة محرضاً إياهم على اتباعه وإنكار حق قريش بالنبوة: أريد أن تخبروني بماذا صارت قريس أحق بالنبوة والإمامة منكم؟ والله ماهم بأكثر منكم ولا أنجد، وإن بلادكم لأوسع من بلادهم، وأموالكم أكثر من أموالهم( ).
وهذا الرّجال بن عُنفوة الحنفي الذي أضله الله على علم، بعد أن قرأ القرآن، وفقه في الدين، يقول في حقيقة النبوة بين رسول الله ومسيلمة: (كبشان انتطحا، فأحبهما إلينا كبشنا( )، وهذا طلحة النمري قال لمسيلمة عندما رآه وسمع منه ماعلم به كذبه: أشهد أنك كذاب، وأن محمد صادق، ولكنه كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر( ).
بل إن مسيلمة يعرف كذب نفسه، فلما كانت معركة اليمامة وبدت الغلبة للمسلمين قال له أصحابه محنقين عليه: أين ماكنت تعدنا به من النصر والآيات؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم، فأما الدين فلا دين( )، واختلطت عليهم التصورات والأفكار، والسلوكيات والآمال وعمل المرتدون على إنهاء الاسلام ومحيه من الوجود وتكالبت قوى الشر على ذلك ولكن محاولاتهم باءت بالفشل وأحبطت جميعها بتوحد المسلمين وتجمعهم وتكتلهم حول القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي التي تربت على يد رسول الله ?، وأصبحت تشبه القطب المغناطيسي الضخم الذي قام -بحكم طبيعته وخصائصه- بجذب كل من كان مؤهلاً للإسلام، ويحمل خاصية الانجذاب الى هذا القطب المغناطيسي الضخم الفعال، فقد أدى هذا التجمع الى إظهار قوة الاسلام، ليس بكثرة العدد والعُدة، وإنما في قوة تفرده تصوراً وفكراً وسلوكاً في لبناته الصلبة وتربيتها الفذة التي تربت عليها تلك اللبنات مجتمعة، والقوة في وضوح التعامل مع الحدث دون مواربة أو تربيت أو إغماض عين وفتح الاخرى، وإنما كانوا واضحين وضوح عبارة أبي بكر الصديق للمسلمين جميعاً: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت( ).
إن من نتائج أحداث الردة حفظ التصور الإسلامي من التحريف والتشويه، وأن تجردت الراية الاسلامية من العصبية الجاهلية، والولاء المختلط، وصارت خالصة من أية شائبة، وأن التصور الاسلامي لايقبل المداهنة مهما كانت الظروف المحيطة، وأن القوة الاسلامية لا ترتبط بالعدد ولا العدة، ولكن بقوة الإيمان والروح المعنوية، وأن الأصل دعوة الناس الى الاسلام، وليس مقاتلتهم، فالدعوة أولاً. وأن الحرص على الناس هو المقدم على كل شيء( ).
2- ضرورة وجود قاعدة صلبة للمجتمع:
أظهرت أحداث الردة معادن أصيلة في بنية قاعدة هذه الدولة وكشفت عن عناصر صلبة، فلم يكونوا أفراداً متناثرين، ولكنهم كانوا يشكلون القاعدة لهذا المجتمع، ولهذه الدولة، ولم تكن قاعدة رخوة أو هشة أو ساذجة؛ وإنما كانت قاعدة صلبة واعية تدرك حقيقة نفسها وحقيقة عدوها، وتعي أبعاد المخاطر من حولها، وتخطط بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب، وهي مع هذا وذاك موصولة بالقوي العزيز ولهذا انتصرت على كل خصومها وازالت كل العوائق من طريقها، فقد حافظت هذه القاعدة على الاسلام ودولته، وساهمت في جمع الحشود لكسر شوكة أهل الردة، وعملت على لم شمل الناس من حولها، وتم بفضل الله ثم جهود هذه القاعدة الصلبة حفظ كيان الأمة وبقائها وتنميتها( ).
3- تجهيز الجزيرة كقاعدة للفتوح الاسلامية:
بمجرد وفاة الرسول ? ثناثرت التجمعات، وتمردت كثير من القبائل على الخليفة، وقام الصديق ? مع الصحابة بعمل شاق عظيم استطاعوا أن يخضوعوا القبائل للدولة واشرف الصديق على تنفيذ الخطط التربوية والتعليمية والحربية والإدارية، ونجح نجاحاً باهراً والتحمت القبائل العربية مع الدولة الاسلامية وأصبحت جزيرة العرب بسكانها قاعدة الفتوح الاسلامية بعد ذلك، وصارت هي النبع الذي يتدفق منه الاسلام ليصل الى أصقاع الأرض فاتحاً ومعلماً ومربياً( ).
إن جزيرة العرب هي قاعدة الفتوح فكيف يتسنى الفتح إذا لم تكن له قاعدة، أو كانت هذه القاعدة مضطربة غير مستقرة أما الآن فقد أصبح ممكناً تعبئة كل طاقات شبه الجزيرة وحشدها للأعمال الحربية التي تلت( ).
4-الإعداد القيادي لحركة الفتوح الإسلامية:
ومن خلال أحداث الردة التي ميزت الصفوف وامتحنت الطاقات، والقدرات،وكشفت عن الطبقة التي كانت تغطي عن معادن الأمة، ظهرت المعادن الخسيسة على حقيقتها وأعطي المقاد للمعادن النفيسة الصلبة المصقولة لتمسك بزمام الأمور في حركة الفتوح، فالمصادر التاريخية تمدنا بمعلومات جمة عن قيادات لم تكن من المهاجرين ولامن الأنصار ولامن الصحابة، ولكنهم تربوا من خلال كتاب الله مباشرة، ثم صقلتهم أحداث الردة، وميزتهم عن غيرهم ليصلوا إلى صدارة الجيوش الفاتحة، وشهد لهم الجميع بالحنكة، والأداء المتفاني، والإيمان الصادق.
هذا وقد كانت القيادة المركزية في المدينة، وميادين القتال تديرها قيادات غاية في التفاهم والتعاون والتحاب على الرغم من بعد المسافات إلا أن التوازن الرائع بين دور كل من القيادة المركزية وقيادات ميادين القتال كان واضحاً وبارزاً( ).
5-الفقه الواقعي للردة:
وردت العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تحدثت على الردة كحالة تعتري بعض البشر، وكل ماورد من النصوص ظلت في إطارها العام النظري الثابت، ولم تكن قد مورست بشكل عام في الواقع، ولما وقعت الردة وعاشها المسلمون عملياً واستنبطوا لها أحكاماً على ضوء تلك النصوص، كانت تلك الاستنباطات معالم هادية لفقه تلك النصوص ويتضح هذا من نقاش بين الصحابة حول موقفهم من هؤلاء القوم فكانوا يعودون إلى النصوص يدرسون ويتحاورون حولها وسرعان مايتفقون على صورة واحدة سواء في تقييمهم وتوصيفهم الوصف المنطبق عليهم أم في طريقة معاملتهم، فهذه الوقفات العملية أمام الحدث والنص أنتجت أبواباً في كتب التشريع الإسلامي ضمت تفصيلات تشريعية دقيقة عن أحكام الردة ثم صار عمل الصحابة سابقة فقهية تؤخذ في الاعتبار عند استنباط اجتهاد، أو تطبيق حكم فيما بعد( ).
6-{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}:
إن أية محاولة للتمرد على دين الإسلام، سواء أقام بها فرد أم جماعة، أم دولة إنما هي محاولة يائسة مآلها الإخفاق الذريع والخيبة الشنيعة، لأن التمرد، إنما هو تمرد على أمر الله المتمثل بكتابه الذي تكفل بحفظه، وحفظ جماعة تلتف حوله، وتقيمه في نفوسها وواقعها مدى الدهر، وبحكمه القاضي بالعاقبة للمتقين، وبالمن على المستضعفين أن يديل لهم من الظالمين، إن مصير الكائدين لدين الله هو البوار في الدنيا والآخرة، وما أجمل ماقال الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل( )
7- استقرار التنظيم الاداري في الجزيرة:
استقر التقسيم الاداري بعد انتصار الصديق في حروب الردة على نظام الولايات وهي: مكة وكان أميرها عتاب بن أسيد، والطائف وأميرها عثمان بن أبي العاص، وصنعاء وأميرها المهاجر بن أبي أمية وحضرموت ووليها زياد بن لبيد، وخولان ووليها يعلى بن أمية، زبيد ورفع ووليهما أبوموسى الأشعري، أما جَنَد اليمن، فأميرها معاذ بن جبل، ونجران ووليها جرير بن عبدالله، جرش ووليها عبدالله بن نور، البحرين ووليها العلاء بن الحضرمي، وعمان ووليها حذيفة الغلفاني واليمامة ووليها سليط بن قيس(
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:28 pm

الفصل الرابع
فتوحات الصديق واستخلافه لعمر رضي الله عنهم ووفاته


?
إن غاية وجود الأمة المسلمة في هذه الدنيا هي توحيد الله، وتحقيق عبوديته الشاملة في هذه الحياة كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات، آية:56). فإذا كان خلق الجن والإنس الغاية منه عبادة الله وحده سبحانه وتعالى، كان لزاماً على الأمة المسلمة أن تسعى لتحقيق هذه الغاية وتحمل هذه الأمانة وأعباء تبليغها للناس أجمعين، بالدعوة إلى الله، وتعليم الناس وتربيتهم على منهج الله، والعمل على إزالة كل العقبات، التي تقف في وجه أداء هذه الأمانة إلى الناس أجمعين، وبذلك يتحقق بسط سيادة الشرع الحكيم على كل بني البشر، ويصبح الجميع يدينون بحاكمية الله سبحانه المطلقة المتمثلة في خضوع الجميع لشرع الله تعالى( )، ولذلك شرع الله تعالى الجهاد لإزالة الحواجز والعقبات المانعة من سماع دين الفطرة التي فطر الناس عليها، قال ابن تيمية: (وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد بقصد أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع قوتل باتفاق المسلمين( )، وقد قام ? بتبليغ واجب الدعوة إلى الله، فأرسل الكتب والرسل إلى القادة والملوك والزعماء وبعث السرايا والجيوش لإزالة الحواجز البشرية، والأعراف الجاهلية، والموانع النفسية، والعوائق المادية المانعة من سماع الإسلام وتفهمه، بل قاد ? بذاته بعض البعوث والغزوات، والتي كان آخرها غزوة تبوك سنة 9هـ، والناس في كل هذه المعارك والغزوات مخيرون بين ثلاثة: إما أن يدخلوا في الإسلام ويكونوا للمسلمين إخواناً، وإما أن يختاروا البقاء على كفرهم ويدفعوا الجزية، وإما أن يرفضوا هذا وذاك فيكون السيف فاصل بيننا وبينهم( )، وسار الصديق ? على هذا المنهج وشرع إرسال الجيوش لتحقيق بشائر الرسول ? بفتح كثير من الممالك والبلاد كفتح العراق وغيرها من البلاد، فقد قال ? لعدي بن حاتم: فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز( ) وقد وضع رسول الله ? الخطوط العريضة لتلك الفتوحات وأضافت تلك المبشرات رصيداً مادياً ومعنوياً، وحسياً للأمة وقد حاول المستشرقون وأذنابهم وأعداء الإسلام، أن يجردوا الفتوحات الإسلامية من دوافعها الدعوية، وأهدافها الربانية، ومقاصدها السامية وألصقوا بحركة الفتوحات تهم باطلة لاتقوم أمام الدليل والبرهان والحجة.
إن الهدف الرفيع والمقصد السامي لحركة الفتوحات التي قادها الصديق ? كان غرضها نشر دين الله تعالى بين الناس، وإزاحة الطواغيت من على رقاب الناس، وكان الصديق والمسلمون معه على يقين بما أخبر الله ورسوله من النصر والتمكين، وهذا اليقين من أخلاق جيل النصر فقد كانوا على يقين بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(سورة الصف، آية:9) وبقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}(سورة غافر، آية: 51) ولنترك الأحداث في حركة الفتوحات تخبرنا عن الحقائق وتوضح الطريق لأبناء الأمة الصادقين.




المبحث الأول
فتوحات العراق


أولاً: خطة الصديق لفتح العراق:
ما إن انتهت حروب الردة واستقرت الأمور في الجزيرة العربية التي كانت ميداناً لها حتى شرع الصديق في تنفيذ خطة الفتوحات التي وضع معالمها رسول الله ?، فجيش الصديق لفتح العراق جيشين وأنضم إلى خالد المثنى بن حارثة بالعراق:
1-بقيادة خالد بن الوليد وكان يومئذ باليمامة، فكتب إليه يأمره بأن يغزو العراق من جنوبه الغربي، وقال له: سر إلى العراق حتى تدخلها، وابدأ (بفرج الهند) أي ثغرها، وهي الأبلة( ) وأمره بأن يأتي العراق من أعاليها، وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الله عزوجل، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره أن لايكره أحداً على المسير معه، ولايستعين بمن ارتد عن الإسلام وإن كان عاد إليه، وأمره أن يستصحب( ) كل امرئ مرّ به من المسلمين، وشرع أبو بكر في تجهيز السرايا والبعوث والجيوش إمداداً لخالد ?( ).
2-الجيش الثاني بقيادة عياض بن غنم، وكان بين النباج( ) والحجاز فكتب إليه بأن يغزو العراق من شماله الشرقي، بادئاً بالمصيخ( ) وقال له: سر حتى المصيخ وابدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها حتى تلقي خالداً ثم اردف أمره هذا بقوله: وأذن لمن شاء بالرجوع، ولاتستفتحا بمتكاره. أي لاتجبرا أحداً على السير معكما للقتال إكراهاً، فمن شاء فليقدم، ومن شاء فليحجم( ).
وكتب الصديق ? إلى خالد وعياض: ... ثم يستبقا إلى الحيرة، فأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه، وقال: إذا اجتمعتما إلى الحيرة، فأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه وقال: إذا اجتمعتما بالحيرة، وقد ففضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليكن أحدكما ردءاً للمسلمين ولصاحبه بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن( ).
3-وكان المثنى بن حارثة قد قدم على أبي بكر وحث الصديق على محاربة الفرس، وقال له ابعثني على قومي ففعل ذلك أبو بكر، فرجع المثنى وشرع في الجهاد بالعراق، ثم إنه بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبي بكر يستمده، فكتب معه أبو بكر إلى المثنى: أما بعد فإني قد بعثت إليك خالد بن الوليد إلى أرض العراق فاستقبله بمن معك من قومك، ثم ساعده ووازره وكانفه، ولاتعصين له أمراً، ولاتخالفن له رأياً، فإنه من الذين وصف الله تبارك وتعالى في كتابه
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} (سورة الفتح، آية:29). فما أقام معك فهو الأمير، فإن شخص عنك فأنت على ماكنت عليه( ) وكان من قوم المثنى رجل يدعى مذعور بن عدي خرج عن المثنى بن حارثة وراسل الصديق وقال له: أما بعد: فإني امرؤ من بني عجل أجلاس الخيل -أي يلزمون ظهورها- وفرسان الصباح -أي يغيرون صباحاً- ومعي رجال من عشيرتي، الرجل خير من مئة رجل، ولي علم بالبلد، وجراء على الحرب، وبصر بالأرض، فولّني أمر السواد أكفكه إن شاء الله( ) وكتب المثنى بن حارثة ? بشأن مذعور بن عدي إلى الصديق فقال له:... فإني أخبر خليفة رسول الله ? أن امرءاً من قومي، يقال له مذعور بن عدي، أحد بني عجل، في عدد يسير، وإنه أقبل ينازعني ويخالفني، فأحببت أعلامك ذلك لترى رأيك فيما هنالك( )، وردّ الصديق على مذعور بن عدي فقال له: أما بعد: فقد أتاني كتابك، وفهمت ماذكرت، وأنت كما وصفت نفسك، وعشيرتك نعم العشيرة، وقد رأيت لك أن تنضم إلى خالد بن الوليد، فتكون معه، وتقيم معه ما أقام بالعراق وتشخص معه إذا شخص( )، وكتب إلى المثنى بن حارثة:... فإن صاحبك العجلي كتب إليّ يسئلني أموراً، فكتبت إليه آمره بلزوم خالد حتى أرى رأي وهذا كتابي إليك آمرك أن لاتبرح العراق حتى يخرج منه خالد بن الوليد، فإذا خرج منه خالد بن الوليد، فالزم مكانك الذي كنت به وأنت أهل لكل زيادة، وجدير بكل فضل( )، وممن سبق يمكننا أن نستخلص بعض الدروس والعبر، والفوائد فمنها:
1-كان تاريخ بعث خالد إلى العراق في شهر رجب وقيل في المحرم سنة اثنتي عشرة( ).
2-الحس الاستراتيجي عند الصديق:
إن الأوامر التي وجهها الصديق إلى قائديه، خالد وعياض تشير إلى الحس الاستراتيجي المتقدم الذي كان يملكه الصديق ?، فقد أعطى جملة تعليمات عسكرية استراتيجية منها وتكتيكية، فحدد لكل من القائدين المسلمين جغرافياً، منطلقة للدخول إلى العراق، كأنما هو يمارس القيادة من غرفة العمليات بالحجاز، وقد بسطت أمامه خارطة العراق بكل تضاريسها ومسالكها، فيأمر أحدهما خالداً بدخول العراق من اسفلها، جنوباً بغرب، (أي الأبلة)، ويأمر الثاني (عياضاً) بدخول العراق من أعلاها، شمالاً بشرق (أي المصيخ) ويأمر الاثنين معاً أن يلتقيا في وسط العراق. ولاينسى الخليفة مع ذلك، أن يأمرهما بأن لايُكرها الناس على الانخراط في جيشيهما، وأن لايجبرا أحد على البقاء معهما للقتال، فلم يكن التجنيد في نظره إلزامياً، وإنما طوعياً واختيارياً( ).
3-تحديد الحيرة كموقع استراتيجي:
كان هدف الخليفة الصديق السيطرة على الحيرة وذلك لأهميتها العسكرية، فالحيرة تقع على بعد ثلاثة أميال جنوب (الكوفة) وتبعد عن (النجف) مسيرة ساعة للفارس إلى الجنوب الشرقي للنجف، والناظر على الخارطة، يرى لأول وهلة، أهمية هذا الموقع الاستراتيجي، فالحيرة كانت (عقد مواصلات) في نقطة تتصل بها الطرق من جميع الاتجاهات، فهي تتصل بالمدائن من الشرق عبر نهر الفرات، وتتصل شمالاً بـ (هيت)، وتتصل بـ (الأنبار) على جسر الأنبار، وتتصل بالشام من الغرب، كما تتصل بـ (الأبلة) في منطقة (البصرة) بالعراق، وفي (كسكر) في (السواد)، وفي (النعمانية) على نهر دجلة ومن هذا يتضح جلياً، أهمية السيطرة على هذا الموقع الهام، وكان الصديق مصيباً عندما جعلها هدفاً لجيشين، هما جيش خالد، وجيش عياض، فالحيرة كانت قلب العراق، وأقرب منطقة مهمة إلى المدائن، عاصمة الامبراطورية الفارسية، التي كانت تدرك هذه القيمة الاستراتيجية للحيرة، ولذا كانت ترسل القوات باتجاهها دائماً لاستعادتها، لأن المسيطر على الحيرة، يؤمن سيطرته على المنطقة الكائنة غربي الفرات بأجمعها وهي عدا عن هذا، كانت مهمة للقوات الإسلامية في قتالها الروم في بلاد الشام( ).
إن تخطيط الصديق للوصول إلى الحيرة في الفتوحات يعرف في الخطط العسكرية للجيوش الحديثة بحركة فكي الكماشة أو عملية الالتفاف الدائري بأكثر من جيش وهذا يؤكد أن عملية فتح العراق وضم أطراف شبه الجزيرة العربية عن طريق الجهاد لم تكن محض مصادفة أو نتيجة لمجريات الحوادث( ) ويظهر للباحث فقه أبي بكر ? في التخطيط الجهادي بأنه كان يرتكز على اتخاذ القرارات بتنظيم الجيوش وتوجيهها وتحديد واجباتها وأهدافها، وتنسيق التعاون فيما بينها، وتحقيق التوازن على مسارح العمليات، غير أنه يترك لقادته حرية العمل العسكري، لإدارة العمليات القتالية بالأساليب التي يرونها مناسبة، وبالطرائق التي تستجيب لها يجابهونه من مواقف( ).
4-نكران الذات عند المثنى بن حارثة:
ومن المواقف التي تذكر في الجهاد في العراق ماكان المثنى بن حارثة الشيباني، وكان يقاتل الأعداء في العراق بقومه، ولما علم بذلك أبو بكر سرَّه ماكان منه فأمّره على من بناحيته وذلك قبل مجئ خالد، فلما توجهت همة الصديق لغزو فارس رأى أن خالداً أجدر القواد بهذه المهمة فوجهه لها، وكتب كتاباً إلى المثنى يأمره بالانضمام إلى خالد وطاعته، فما كان منه إلا أن سارع في الاستجابة ولحق بخالد هو وجيشه وإن هذا موقف يذكر للمثنى حيث لم يَغُرَّه كثرة جيشه ولاكونه أقدم من خالد في إمرة جيوش العراق فلم يحمله ذلك على أن يرى أنه أحق بالقيادة من خالد( ).
5-احتياط الصديق لأمر الجهاد في سبيل الله:
وقد جاء في كتاب أبي بكر لخالد وعياض بن غُنْم، أن استنفروا من قاتل أهل الردة ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله ? ولايغزونَّ معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي، فلم يشهد الأيام مرتد( )، يعني في أول الأمر وقد شهدوا الأيام بعد ذلك حينما ثبتت استقامتهم كما سيأتي بإذن الله تعالى. وهذا الموقف من أبي بكر مبني على الاحتياط لأمر الجهاد في سبيل الله تعالى حتى لايشترك فيه طلاب الدنيا فيكونوا سبباً في فشل المجاهدين واختلال صفوفهم وهذا درس تربوي من أبي بكر استفاده من الدروس النبوية الغالية وذلك في تنقية الصف الإسلامي من الشوائب وتوحيد هدفه حتى يكون خالصاً لوجه الله تعالى، فيأمن بذلك من الانتكاسات الخطيرة التي تحدث بسبب تعدد الأهداف، ولقد حرص أبو بكر على هذا المبدأ السامي مع شدة احتياج الجيش الإسلامي آنذاك إلى الرجال مما يدل على قناعته التامة بأن العبرة بسمو الهدف والإخلاص لابكثرة العدد( ).
6-الرفق بالناس والتوصية بفلاحي العراق:
وفي قول الصديق لخالد: وتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم( )، وهذا القول يبين لنا الهدف من الجهاد الإسلامي خارج بلاد الإسلام فهو جهاد دعوي يقصد به دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام، ولما كانت الدعوة غير ممكنة مع بقاء الحكومات فإنه لابد من إزالتها لتمكين شعوبها من الدخول في الإسلام، وهذا الهدف ظاهر في جميع المعارك التي خاضها الصحابة رضي الله عنهم حيث كانوا يدعون أعداءهم إلى الإسلام فيكون لهم ماللمسلمين وعليهم ماعليهم، فإن أبوا فليستسلموا لحكم الإسلام ويدفعوا الجزية مقابل حماية المسلمين لهم، فإن أبوا فلابد من القتال حتى تكون كلمة الله هي العليا( )، وقد وصى الصديق ? قادة جيوشه بفلاحي العراق وأهل السواد حرصاً منه على هداية الناس، وعلى منابع الثروة وعلماً منه بأن العمران لاتقوم بدونه دولة، كما أن الفلاحة مصدر من مصادر الثروة، وهي المتصلة بحياة الناس ومعايشهم( ).
7-لايهزم جيش فيهم مثل هذا:
عندما استمد خالد أبا بكر أثناء سيره للعراق، أمده الصديق بالقعقاع بن عمرو التميمي فقيل له: أتُمدُّ رجلاً قد ارفضَّ عنه جنوده برجل؟ فقال: لايهزم جيش فيهم مثل هذا( ) وهذه فراسة من أبي بكر بينتها أحداث العراق بعد ذلك وقد كان أبو بكر أعلم الناس بالرجال وما يتصفون به من طاقات وكفاءات مختلفة( ).
ثانياً: معارك خالد بن الوليد بالعراق:
لم يلبث خالد أن قدم العراق ومعه ألفي رجل ممن قاتل المرتدين وحشد ثمانية آلاف رجل من قبائل ربيعة وكتب إلى ثلاثة من الأمراء في العراق قد اجتمعت لهم جيوش لغرض الجهاد وهم مذعور بن عدي العجلي وسُلْمَى بن القين التميمي وحرملة بن مُرَيْطة التميمي فاستجابوا وضموا جيوشهم التي بلغ تعدادها مع جيش المثنى ثمانية آلاف، فأصبح جيش المسلمين ثمانية عشر ألفاً( )، وقد اتفقوا على أن يكون مكان تجمع الجيوش الأبلة( )، وقبل أن يسير خالد إلى العراق كتب إلى هرمز صاحب ثغر الأبلة كتاب إنذار يقول فيه: أما بعد فاسلم تسلم او اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقررّ بالجزية وإلا فلا تلومن إلا نفسك فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة( )، وقد لجأ إلى هذا الأسلوب وهو نوع من الحرب النفسية ليدخل الخوف والرعب في قلب هرمز وجنوده وليوهن من قوتهم ويضعف من عزيمتهم وحين قارب خالد العدو جعل الجيش ثلاث فرق وأمر أن تسلك كل فرقة طريقاً ولم يحملهم على طريق واحد تحقيقاً لمبدأ مهم من مبادئ الحرب وهو أمن القطعات، فجعل المثنى على فرقة المقدمة ثم تلتها فرقة عليها عدي بن حاتم الطائي وخرج خالد بعدهما وواعدهما الحضير( ) ليجتمعوا به ويصمدوا لعدوهم( ).
1-معركة ذات السلاسل:
سمع هرمز بمسير خالد وعلم أن المسلمين تواعدوا الحضير فسبقهم إليه وجعل على مقدمته القائدين قباذ وأنو شجان ولما بلغ خالد انهم يمموا الحضير عدل عنها إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها ونزل على الماء واختار المكان الملائم لجيشه وجاء خالد فنزل على غير ماء، فقال لأصحابه: حطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء فلعمري ليصيرن الماء لاصبر الفريقين واكرم الجندين( ).
وحط المسلمون أثقالهم والخيل وقوف وتقدم الراجلون، وزحفوا إلى الكفار، ومنَّ الله تعالى بكرمه وفضله على المسلمين بسحابة فأمطرت وراء صفوف المسلمين ونهلوا من غدرانها فتقوى بذلك المسلمون، وهذا مثل من الأمثلة الكثيرة الشاهدة على معية الله جل جلاله لأوليائه المؤمنين بنصره وإمداده ووجه المسلمون هرمز وكان مشهوراً بالخبث والسوء حتى ضُرب المثل بخبثه فعمل مكيدة لخالد وذلك أنه اتفق مع حاميته على أن يبارز خالدا ثم يغدروا به ويهجموا عليه، فبرز بين الصفين ودعا خالداً إلى البراز، فبرز إليه، والتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد فحملت حامية هرمز على خالد وأحْدَقوا به فما شغله ذلك عن قتل هرمز، وما أن لمح ذلك البطل المغوار القعقاع بن عمرو حتى حمل بجماعة من الفرسان على حامية هرمز وكان خالد يجالدهم فأناموهم( )، وحمل المسلمون من وراء القعقاع حتى هزموا الفرس، وهذا هو أول المشاهد التي ظهر فيها صدق فراسة أبي بكر حينما قال عن القعقاع: (لايهزم جيش فيه مثل هذا)( ) وأما خالد فقد ضرب أروع الأمثال في البطولة ورباطة الجأش فقد أجهز على قائد الفرس وحاميته من حوله فلم يستطيعوا تخليصه منه، ثم ظل يجالدهم حتى وصل إليه القعقاع ومن معه فقضى عليهم وقد كان الفرس ربطوا أنفسهم بالسلاسل حتى لايفروا فلم تغن عنهم شيئاً أمام الليوث البواسل، وسميت هذه المعركة بذات السلاسل( ).
وغنم المسلمون من الفرس حمل ألف بعير، وبعث خالد سرايا تفتح ماحول الحيرة من حصون، فغنموا أموالاً كثيرة، ولم يعرض خالداً لمن لم يقاتلوه من الفلاحين، بل أحسن معاملتهم كما أوصاه الصديق، وأبقاهم في الأرض التي يفلحونها، ومكنّهم من إنتاجها، ومتعهم بثمرات عملهم، فمن دخل في الإسلام حدد له نصيب الزكاة، ومن بقي على دينه فرض عليه الجزية، وهو أقل بكثير مما كان ينهبه المالكون الفرس، ولم ينتزع الأرض من أيدي أصحابها الفرس، ولكنه أنصف العاملين فيها، فأحسُّوا بأن عنصراً جديداً من العدل والإخاء الإنساني يشرف عليهم من خلال هذا الفتح المجيد، وأرسل خالد خمس الغنائم والأموال إلى الصديق، ووزع الباقي على المجاهدين، وكان مما أرسله إلى الصديق قلنسوة هرمز ولكن الصديق أهداها إلى خالد، مكافأة له على حسن بلائه( ) وكانت قيمتها مائة ألف، وكانت مفصصة بالجوهر، فقد كان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف، فكان هرمز ممن تم شرفه( ) في الفرس.
2-معركة المذار (الثَّني):
كان هرمز قد كتب إلى كسرى بكتاب خالد فأمده كسرى بجيش بقيادة (قارن) ولكن هرمز استخف بجيش المسلمين فسارع إليهم قبل وصول قارن فنكب ونكب جيشه، وهرب فلول المنهزمين فالتقوا بجيش (قارن) وتذامروا فيما بينهم وتشجعوا على قتال المسلمين، وعسكروا بمكان يسمى المذار وكان خالد قد بعث المثنى بن حارثة وأخاه المعنَّى في آثار القوم، ففتحا بعض الحصون، وعلما بمجئ جيش الفرس فأبلغا خالداً الخبر، وكتب خالد إلى أبي بكر بمسيره إليهم، وسار وهو مستعد للقتال حتى لايفاجأ بهم، والتقى المسلمون معهم في (المذار) فاقتتلوا والفرس قد أغضبهم وأثار حفيظتهم ماوقع لهم قبل ذلك، وخرج قائدهم (قارن) ودعا إلى البراز، فبرز إليه خالد ولكن سبقه إليه معقل بن الأعمش بن النباش فقتله، وكان قارن وضع على ميمنته (قباذ) وعلى ميسرته (أنوشجان) وهما من القواد الذين حضروا اللقاء الأول وفروا من المعركة، فتصدَّى لهما بطلان من أبطال المسلمين، فأما قباذ فقتله عاصم بن عمرو التميمي، واشتد القتال بين الفريقين ولكن الفرس انهزموا بعد مقتل قادتهم، وقتل منهم ثلاثون ألفاً ولجأ بقيتهم إلى السفن فهربوا عليها ومنع الماء المسلمين من ملاحقتهم وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفئ، ونفل من الأخماس أهل البلاء، وبعث ببقية الأخماس( ) إلى المدينة.
3-معركة الولجة:
وصل نبأ نكبة الفرس في المذار إلى كسرى فبعث الأند زغر على رأس جيش عظيم واردفه بجيش آخر عليه بهمن جاذويه وتحرك الاندرزغر من المدائن حتى انتهى إلى كسكر ومنها إلى الولجة وخرج بهمن جاذويه سالكاً وسط السواد يريد أن يحضر جيش المسلمين بينه وبين الاندرزغر واستطاع أن يحشر في طريقه عدداً من الأعوان والدهاقين وتجمعت القوة الفارسية في الولجة وعندما شعر الاندرزغر ان حشوده أصبحت كبيرة قرر الزحف على خالد، ولما بلغ خالد وهو بالثني (مكان قرب البصرة ومعناه منعطف النهر والجبل) تجمع الفرس ونزولهم الولجة رأى ان من الأفضل للمسلمين أن يهاجموا هذه الحشود الكبيرة من ثلاث جهات حتى يفرقوا جموعهم وتكون المفاجأة للفرس مربكة وأخذ يعد العدة لتنفيذ خطة الهجوم، ولكي يؤمن خطوطه الخلفية أمر سويد بن مقرن بلزوم الحضيروتحرك بجيشه حتى وصل الولجة وبعد أن قام باستطلاع واف للمنطقة وجد أن ميدان المعركة ارض مستوية وواسطة تصلح للقتال وتسمح بحرية الحركة، ولما كان خالد قد قرر أن يهاجم قوات الفرس من ثلاث جبهات فقد نفذ خطته وبعث بفرقتين لمهاجمة حشود الفرس من الخلف والجانبين، وبدأت المعركة واشتد القتال بين الفريقين وشدد خالد بهجومه من المقدمة، وفي الوقت المناسب انقض الكمينان على مؤخرة جيش العدو فحلت به الهزيمة المنكرة، وفر الاندرزغر مع عدد من رجاله ولكنهم ماتوا عطشاً( ) وقام خالد في الناس خطيباً، فرغبهم في بلاد الأعاجم وزهدهم في بلاد العرب وقال: ألا ترون ماهاهنا من الأطعمات؟ وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في سبيل الله والدعاء إلى الإسلام ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقاتل على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولّي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه. ثم خمس الغنيمة ، وقسم أربعة أخماسها، وبعث الخمس إلى الصديق، وأسر من أسر من ذراري المقاتلة وأقر الفلاحين بالجزية( ) وفي خطبة خالد بن الوليد للناس إشارة إلى أن العرب وهم في جاهليتهم إضافة الى أنهم ليسوا من طلاب الآخرة فإنهم لم يظفروا بالدنيا لتفرقهم وتناحرهم فيما بينهم، فخالد يقول: نحن طلاب الآخرة ولنا هدف سام نسعى إليه، من أجله ندعو ومن أجله نجاهد، ولو فرض أننا لانحمل هذا الهدف ولا نجاهد من أجله فإن العقل يقتضي أن نقاتل من أجل أن نصلح أحوالنا المعيشية وخالد حينما يذكر ذلك لايجعل هذا الموقف ثنائياً مع الهدف السامي الذي ذكره، وإنما يذكر ذلك على أنه مجرد إفتراض يفرض نفسه لو لم يوجد الهدف السامي المذكور، وكأنه يقول: إذا كنا سنقارع هؤلاء من أجل هذا الهدف الدنيوي أفلا نقارعهم من أجل الهدف الأخروي وابتغاء مرضاة الله جل وعلا؟
وهذا الكلام يشحذ الهمم ويقوي العزم، ويحي القلب ويفجر الطاقات، فتنطلق بعد ذلك النفوس المؤمنة مجاهدة في سبيل الله تعالى بكل طاقاتها وإمكاناتها وقدراتها( ).
وجاء في رواية: أن في يوم الولجة بارز خالد رجلاً من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله، فلما فرغ اتكأ عليه ودعا بغدائه( )، وهذا التصرف الجليل من سيف الله ? فيه إذلال للفرس وتحطيم لجبروتهم وتغطرسهم وإضعاف لعزائمهم( ).
4-معركة إليس وفتح امغيشيا:
في هذه الموقعة انضم بعض نصارى العرب إلى الأعاجم وصاروا عوناً للفرس على المسلمين وكان عليهم عبدالأسود العجلي وعلى الفرس جابان وكان قد أمره بهمن جاذويه إلا ينازل المسلمين إلا أن يعجلوه وبعد ان بلغ خالد تجمع نصارى العرب وعرب الضاحية من اهل الحيرة سار إليهم وكان همه متجه لمواقعتهم ولاعلم له بانضمام الفرس لجموع العرب فلما اقبلت جنود المسلمين طلب جابان من جنده مهاجمتهم فاظهروا عدم الاكتراث بخالد والتهاون بأمره وتداعوا إلى الطعام إلا أن خالد لم يدعهم يهنأون بطعامهم واقتتلوا اشد القتال وقد زاد في كلب الأعداء وشدتهم مايتوقعون من لحاق بهمن جاذويه بهم في مدد كبير وصبر المسلمون على هذا القتال العنيف وقال خالد: اللهم ّ إنّ لك عليّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحداً قدْرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم ثم إن الله كشفهم للمسلمين، ومنحهم أكتافهم، فأمر خالد مناديه، فنادى في الناس: الأسر الأسر لاتقتلوا إلا من امتنع، فأقبلت الخيول بهم أفواجاً مستأسرين يساقون سَوْقاً، وقد وكَّل بهم رجالاً يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يوماً وليلة، وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا إلى النهرين، ومقدار ذلك من كل جانب أليس، فضرب أعناقهم، وقال له القعقاع وأشباه له: لو أنك قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، إن الدماء لاتزيد على أن ترقرق منذ نهيت عن السيلان، ونهيت الأرض عن نشف الدماء، فأرسل عليها الماء تبر يمينك، وقد كان صد الماء عن النهر فأعاده، فجرى دما عبيطا فسمي نهر الدم لذلك الشأن( ).
ولما هُزم القوم وأجلُوا عن عسكرهم، ورجع المسلمون من طلبهم ودخلوه، وقف خالد على الطعام فقال: فقد نفَّلتكموه فهو لكم. وقال: كان رسول الله ? إذا أتى على طعام مصنوع نفَّله، فقعد عليه المسلمون لعشائهم بالليل، وجعل من لم يَرالأرياف ولايعرف الرّقاق يقول: ماهذه الرّقاق البيض! وجعل من قد عرفها يجيبهم، ويقول لهم مازحاً: هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون: نعم، فيقول: هو هذا فسميَّ الرّقاق، وكانت العرب تسمّيه القرَى( ) وبعد أن فرغ خالد من أُليس نهض حتى أتى امغيشيا وقد جلا عنها أهلها واعجلوا عما فيها وتفرقوا في السواد فأمر بهدمها وهدم كل شيء كان في حيزها وأصابوا بها مالم يصيبوا مثله فقد بلغ سهم الفارس الف وخمسمائة درهم سوى انفال أهل البلاء ولما وصلت الأخماس واخبار النصر إلى الصديق ? وماصنعه خالد والمسلمون قال: يامعشر قريش -يخبرهم بالذي أتاه- عَدَا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله( )، أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد( ) وكان خالد قد بعث بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بني عجل، وكان دليلاً صارماً، فقدم على أبي بكر بالخبر، وبفتح أليس، وبقدر الفئ وبعدة السبي، وبما حصل من الأخماس وبأهل البلاء من الناس، فلما قدم على أبي بكر، فرأى صرامته وثبات خبره، قال: مااسمك؟ قال: جندل، قال: ويهاً جندل
نفس عصام سودت عصاما
وعودته الكر والاقداما
وأمر له بجارية من ذلك السبي، فولدت له( ).
وفي قول الصديق عن خالد: عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله، أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد( )، وسام شرف لخالد، واعتراف بالجميل، ورفع لأهل البلاء والفضل والهمم العالية، ودفع لأصحاب الهمم الضعيفة ليضاعفوا من جهودهم وينافسوا على معالي الأمور ومكارمها( ) وهذا القول من أبي بكر وكان أعلم بالرجال -أعظم شهادة، وأجل تقدير يناله رجل في تاريخ الإسلام، فالصديق وهو خليفة المسلمين الأعظم لايرى لخالد ? في الناس عدلاً في عبقريته وشجاعته، ولانظيراً في بطولته ومهارته، وحسبك بها لخالد من الصديق( ).
5-فتح الحيرة:
علم مرزبان الحيرة بما صنع خالد بأمغيشيا فأيقن أنه آتيه، فاستعد لذلك وأرسل جيشاً بقيادة ابنه ثم خرج في إثره وأمر ابنه بسد الفرات ليعطل سفن المسلمين، وفوجئ المسلمون بذلك واغتموا له فأرسلوا الفلاحين فأخبروهم بضرورة سد الأنهار حتى يسيل الماء فماذا فعل خالد؟
نهض خالد في خيل يقصد ابن المرزبان فلقى خيلاً من خيله ففاجأهم فأنامهم بالمقر ثم نهض قبل أن تصل أخباره إلى المرزبان حتى لقى جنداً لابنه على فم الفرات فقاتلهم وهزمهم، وسد الأنهار وسلك الماء سبيله، ثم طلب خالد عسكره واتجه إلى الحيرة، وعلم المرزبان بموت ابنه، وخبر موت أزدشير فهاله الأمر فعبر الفرات هاربا من غير قتال فعسكر خالد مكانه، وأهل الحيرة متحصنون، وأدخل خالد الخيل من عسكره وتمت خطته حول قصور الحيرة بمحاصرتها على هذا النحو:
أ-ضرار بن الأزور لمحاصرة القصر الأبيض وفيه إياس بن قبيصة الطائي.
ب-ضرار بن الخطاب لمحاصرة قصر العدسيين وفيه عدي بن عدي العبادي.
جـ-ضرار بن مقرن لمحاصرة قصر بني مازن وفيه ابن أكال.
د-المثنى بن حارثة لمحاصرة قصر ابن بقيلة وفيه عمرو بن عبدالمسيح.
وعهد خالد إلى أمرائه أن يدعوا القوم إلى الإسلام فإن أجابوا قبلوا منهم، وإن أبوا أجلوهم يوما، وأمرهم أن لايمكنوا عدوا منهم بل عليهم أن يناجزوهم ولايمنعوا المسلمين من قتال عدوهم ففعلوا، واختار القوم المنابذة وعمدوا لرمي المسلمين بالحذف( )، فرشقهم المسلمون بالنبل، وشنوا غاراتهم، وفتحوا الدور والديارات فنادى القسيسون: ياأهل القصور مايقتلنا غيركم، فنادى أهل القصور: يامعشر العرب قبلنا واحدة من ثلاث فكفوا عنا-وخرج رؤساء القصور فقابلهم خالد كل أهل قصر على حدة، ولامهم على فعلهم، وتصالحوا مع خالد على الجزية وصالحوه على مائة وتسعين ألفاً، وبعث خالد بالفتح والهدايا إلى ابي بكر فقبل الهدايا، وعدها لأهل الحيرة من الجزية تعففاً عما لم يأذن به الشرع وقطعا لدابر العادات الأعجمية التي كان يحتال بها على سلب أموال الناس( ).
وكتب خالد في عهده لأهل الحيرة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ماعاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا بن عديا، وعمرو بن عبدالمسيح، وإياس بن قبيصة، وحيرى بن أكال، وهم نقباء أهل الحيرة، ورضى بذلك أهل الحيرة، وأمرهم به، وعاهدهم على مائة وتسعين ألف درهم تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا رهبانهم وقسيسهم إلا من كان منهم على غير ذي يد حبيساً عن الدنيا، تاركا لهما، وعلى المنعة، وإن لم يمنعهم شيء، فلاشيء عليهم حتى يمنعهم وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة وكانت كتابة هذا العهد في شهر ربيع الأول سنة 12هـ( )، وقد جاء في رواية: أن خالد عرض على أهل الحيرة واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم مالنا وعليكم ماعلينا إن نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة، فقال: بل نعطيكم الجزية، فقال خالد: تبّا لكم، ويحكم إن الكفر فلاة مضلّة فأحمق العرب من سلكها( ).
ففي حديث خالد ? تتضح بعض الصفات الإيمانية التي تجسدت في جيش فتح العراق، فهذا الجيش يتحرك من أجل هدف سامي، إلا وهو دعوة الناس إلى الإسلام وتبليغ الهداية للبشرية، وليس التوسع في الممالك وفرض السلطان والتمتع بالحياة الدنيا، كما بين خالد أهم مقومات نجاح المسلمين في حروبهم ألا وهو الحرص الأكيد على طلب الشهادة وابتغاء ماعند الله تعالى في الآخرة، كما بين النص السابق حرص الصحابة رضي الله عنهم على تطبيق سنة النبي ?، وذلك بالرغبة القلبية في هداية البشرية حيث إن خالداً وبَّخهم على اختيار البقاء على الكفر مع أن بقاءهم على الكفر ودفع الجزية فيه مصلحة مالية للمسلمين ولكن خالداً من قوم هانت عليهم الحياة الدنيا وفضلوا ماعند الله جل وعلا في الآخرة، وقد سنَّ رسول الله ? لهم هذا المبدأ السامي( )، في قوله ?: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النَّعم( ).
وفي قبول الصديق لهدية أهل الحيرة، وقد أهدوها طائعين مختارين، فعدها من الجزية عدلاً وتعففاً وخشية أن يظلم أهل ذمته أو يكلفهم شططا، درس عظيم في إقامة العدل بين الناس وقد قارن الشيخ علي طنطاوي بين فتوح الاستعمار التي أثارتها أوروبا وبين فتح المسلمين مقارنة متميزة ثم استدل بقول الشاعر:
ملكنا فكان العدل منا سجية
فلّما ملكتم سال بالدم أبطح
وحلَّلتم فكان العدل منا سجية
غدونا على الأسرى نمن ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا
فكل إناء بالذي فيه ينضح( )
• الحيرة قاعدة الجيوش الإسلامية:
كان فتح الحيرة عملاً حربياً عظيم القيمة، وسع أمل المسلمين في فتح بلاد فارس، لمكان هذا البلد الجغرافي والأدبي من العراق والمملكة الفارسية، فقد اتخذها القائد العام للجيوش الإسلامية مقراً لقيادته العليا ومركزاً رئيسياً تتلقى منه جيوش الإسلام أوامر الهجوم والدفاع والإمداد والنظم، وكذلك جعلها قاعدة عامة للتدبير والسياسة التي يقوم عليها تنظيم من وقع في يد المسلمين، وبث خالد عماله على الولايات لجباية الخراج والجزاء، ووجه أمراء إلى الثغور لحمايتها، وأقام هو ريثما يتم ماأراده من الاستقرار والنظام، وترامت أخباره إلى الدهاقين والرؤساء فأقبلوا إليه يصالحونه حتى لم يبقى مابين قرى سواد العراق إلى أطرافه من ليس مولى للمسلمين أو على عهد منهم( ) وقد كان من عماله على الأقاليم:
1-عبدالله بن وثيمة النصري على الفلاليج.
2-جرير بن عبدالله على بانقيا.
3-بشير بن الخصاصية على النهرين.
4-سويد بن مقرن المزني على تستر.
5-أط بن أبي أط على روذستان.
وكان من قادة الثغور:
1-ضرار بن الأزور.
2-المثنى بن حارثة الشيباني.
3-ضرار بن الخطاب.
4-ضرار بن مقرن.
5-القعقاع بن عمرو.
6-بسر بن أبي رهم.
7-قتيبة بن النّهاس( ).
• الرسائل التي أرسلها خالد إلى خاصة وعامة الفرس:
أجمع خالد أمره على منازلة الفرس في ساحات ملكهم بعد أن صفا له الجو في العراق، وأمن ظهره بانحسار أمر فارس عن العرب فيما بين الحيرة ودجلة، وكان أهل فارس في هذه الفترة على خلاف شديد فيمن يولونه عليهم بعد موت كسراهم أزدشير، فانتهز خالد هذه الفرصة وكتب إلى خاصتهم يقول: من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس: أما بعد فالحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، وأوهن بأسكم، وسلب أموالكم، وأزال عزكم، فإذا أتاكم كتابي فأسلموا تسلموا، أو اعتقدوا منا الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو لأسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا( )، وكتب إلى عامتهم فقال: من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس: الحمد لله الذي فض خدمتكم، وفرق جمعكم، وأوهن بأسكم، وسلب أموالكم، وأزال عزكم، فإذا أتاكم كتابي فأسلموا تسلموا، أو اعتقدوا منا الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو لأسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا( ).
وبفتح الحيرة تحقق شطر من أمل أبي بكر ? في فتح العراق وإخضاعه تمهيداً لغزو فارس في عقر دارهم، وقد قام خالد بن الوليد ? بمهمته في ذلك خير قيام ووصل إلى الحيرة في وقت قياسي حيث بدأ صراعه مع الأعداء في شهر محرم من العام الثاني عشر في معركة الكاظمة، وانتهى من فتح الحيرة في شهر ربيع الأول من العام نفسه( ).
• كرامة لخالد بن الوليد في فتح الحيرة:
وقد أخرج الإمام الطبري بإسناده ... وكان مع ابن بُقَيْلة( )، مَنْصَف له( ) فعلق كيساً في حقوه، فتناول خالد الكيس ونثر مافيه في راحته، فقال: ماهذا ياعمرو؟ قال: هذا وأمانة الله سمُّ ساعة، قال: لم تحتقب السم؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير مارأيت، وقد أتيت على أجلي، والموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي وأهل قريتي، فقال خالد: إنها لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، وقال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض ورب السماء، الذي ليس يضر مع اسمه داء الرحمن الرحيم، فأهووا إليه يمنعوه منه، وبادرهم فابتلعه، فقال عمرو: والله يامعشر العرب لتملكن ماأردتم مادام منكم أحد أيها القَرْن( )، وأقبل على أهل الحيرة فقال: لم أرَ كاليوم أوضح إقبالا( ) وقد ذكر هذه الرواية الحافظ بن كثير ولم يضعفها( )، وذكرها الحافظ ابن حجر وقال: رواه أبو يعلى ورواه ابن سعد من طريقين آخرين ولم يضعفها( )، وذكرها ابن تيمية مثالا من أمثلة الكرامات( ) وقد أنكر بعض الكتاب المعاصرين هذا الخبر، واعتبروه من نسج خيال بعض الرواة حول شخصية خالد، وقد ثبتت هذه الرواية من ناحية الإسناد، فقد ارتضاها الطبري، وابن سعد، وابن كثير، وابن حجر وابن تيمية ولم يضعفوا إسنادها، وهم أعلم وأنصف في علم التاريخ الإسلامي من الكتّاب المعاصرين.
إن خالد ? عندما أقدم على شرب السم كان في قمة اليقين والإيمان بأن الله جل جلاله هو الذي خلق كل شئ وأودع في كل شئ خصائصه، وأنه القادر على أن يلغي مفعول هذه الخصائص إذا أراد، لحكمة عالية وهدف عظيم، كما أذهب فعالية النار حينما ألقي فيها إبراهيم عليه السلام، وجعلها عليه برداً وسلاماً، وقد حصل ذلك لغير الأنبياء عليهم السلام كما حصل لأبي مسلم الخولاني لما رفض أن يقر بنبوة الأسود العنسي الكذاب فألقاه في النار فوجدوه فيها قائماً يصلي ولم تضره( )، كما أن خالداً حينما أقدم على ذلك لم يخالج قلبه ذرة من إرادة حظ النفس وكسب السمعة والجاه، لأنه لو نوى شيئاً من ذلك لعلم أن الله تعالى سيتخلى عنه، وهو لاحول له ولاقوة على انتزاع أثر السم الضار، وهذه تجربة فذة لايُطلب من أي مسلم أن يخوضها ولو كان هدفه نفس الهدف الذي رمى إليه خالد، لأنه يندر أن يوجد من يبلغ إيمانه وثقته بالله تعالى إلى المستوى الذي بلغ إليه خالد ? وأرضاه( )، هذا وقد صلى خالد عندما فتح الحيرة ثماني ركعات بتسليمة واحدة( ).
• من أدب الفتوحات العراقية:
ومما قاله القعقاع بن عمرو في فتح الحيرة:
سقى الله قتلى بالفرات مُقيمةً
وأخرى بأثباج النجَاف الكوانف( )
ونحن وطئنا بالكواظم هرمزاً
وبالثني قَرْنَي قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت
على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كان عرشهم
يميل بِهُمْ فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا
غبوقَ المنايا حول تلك المحارف( )
صبيحة قالوا نحن قوم تنزَّلوا
إلى الرِّيف من أرض العريب المُقانِف( )
6-فتح الأنبار (ذات العيون)
استقام الأمر لخالد في تلك الجهات فاستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو التميمي، واتجه بتعبئة لإغاثة عياض بن غنم الذي أرسله الصديق لفتح العراق من الشمال ويلتقي بخالد، وصل خالد إلى الأنبار فوجد القوم قد تحصنوا وخندقوا على أنفسهم وأشرفوا من أعالي الحصون( )، فضرب المسلمون عليهم الحصار وامر خالد جنوده أن يصوبوا إلى عيون أهل الأنبار فلما نشب القتال أصابوا في أول رمية الف عين من عيونهم ولذلك سميت هذه الوقعة ذات العيون( )، واخترق خالد الخندق الذي حول الأنبار بفطنة وذكاء حيث عمد إلى الضعاف من الإبل بجيشه فنحرها، وملأ الخندق في أضيق نقطة فيها بجثث الإبل، واقتحم المسلمون الخندق وجسرهم جثث الإبل، وصاروا مع عدوهم داخل الخندق، فالتجأ العدو إلى الحصن( )، واضطر شيراز قائد جند الفرس إلى قبول الصلح بشروط خالد على أن يخرج من الأنبار في عدد من الفرسان يحرسونه فقبل خالد منه ذلك بشرط ألا يأخذ معه المتاع أو من الأموال شيئاً( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:30 pm

وتعلم الصحابة ممن بها من العرب الكتابة العربية، وكان أولئك العرب قد تعلموها من عرب قبلهم وهم بنو إياد، كانوا بها في زمان بختنصر حين أباح العراق للعرب، وأنشدوا خالداً قول بعض إياد يمتدح قومه:
قومي إياد أنهم أمم
أولو أقاموا فُتْهزَلَ النعم
قوم لهم باحة العراق إذا
ساروا جميعاً واللوح والقلم( )
7-عين التمر:
استخلف خالد الزبرقان بن بدر على الأنبار وسار إلى عين التمر فوجد عقة بن أبي عقة في جمع عظيم من التمر وتغلب وإياد ومن حالفهم ومعهم من الفرس مهران بقواته( )، وطلب عقة من مهران أن يتركه لقتال خالد وقال له: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالداً، فقال له: دونكم وإياهم، وإن احتجتم إلينا أعناكم، فلامت العجم أميرهم على هذا، فقال: دعوهم فإن غلبوا خالداً فهو لكم، وإن غلبوا قاتلنا خالداً، وقد ضعفوا ونحن أقوياء، فاعترفوا له بفضل الرأي عليهم، وسار خالد وتلقاه عقة فلما تواجهوا قال خالد لمجنبته: احفظوا مكانكم فأني حامل، وأمر حماته، أن يكونوا من ورائه، وحمل على عقة وهو يسوي الصفوف فاحتضنه وأسره وانهزم جيش عقة من غير قتال فأكثروا فيهم الأسر وقصد خالد حصن عين التمر، فلما بلغ مهران هزيمة عقة وجيشه نزل من الحصن وهرب وتركه، ورجعت فلال نصارى الأعراب إلى الحصن فوجدوه مفتوحاً فدخلوه واحتموا به، فجاء خالد وأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار، واضطر أهل الحصن أن ينزلوا على حكم خالد، فأمر بضرب عنق عقة ومن كان أسر معه والذين نزلوا على حكمه أجمعين وغنم جميع مافي ذلك الحصن، ووجد في الكنيسة التي به أربعين غلاماً يتعلمون الانجيل وعليهم باب مغلق، فكسره خالد وفرقهم في الأمراء وأهل الغناء، وكان حمران مولى عثمان بن عفان من ذلك الخمس، ومنهم سيرين والد محمد بن سيرين أخذه مالك بن أنس، وأرسل خالد الخمس إلى الصديق ثم أرسل أبو بكر الوليد بن عقبة إلى عياض مدداً له وهو محاصر دومة الجندل فلما قدم عليه وجده في ناحية من العراق يحاصر قوماً، وهم قد أخذوا عليه الطرق فهو محصور أيضاً، فقال عياض للوليد: ان بعض الرأي خير من جيش كثيف، ماذا ترى فيما نحن فيه؟ فقال له الوليد، اكتب إلى خالد يمدك بجيش من عنده، فكتب إليه يستمده فقدم كتابه على خالد عقب وقعة عين التمر وهو يستغيث به، فكتب إليه: من خالد إلى عياض، إياك أريد.
لَبِثْ قليلاً تأتِكَ الحلائب( ) يحملن آساداً عليها القشائب( )، كتائب تتبعها كتائب( ).
8-دومة الجندل:
رحل خالد بجنده من عين التمر بعد أن خلف عليها عويم بن كاهل الاسلمي ووصلت أنباؤه إلى أهل دومة الجندل فاستنجدوا بحلفائهم من قبائل بهراء وكلب وغسان وتنوخ( )، وكان أمر أهل دومة الجندل إلى زعيمين هما: أكيدر بن عبدالملك والجودي بن ربيعة، فاختلفا فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لاأحد أيْمنُ طائراً منه، ولاأحد في حرب، ولايرى وجه خالد قوم أبداً قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم، فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد فشأنكم( ).
وهذه شهادة خصم في خالد والحق ماشهدت به الأعداء وقد كان خالد أسره قبل ذلك حينما أرسله إليه رسول الله ? في غزوة تبوك، فأخذه وأتى به إلى النبي ? فمنَّ عليه وكتب له كتاب عهد، ولكنه خان العهد بعد ذلك، ولقد بقي الرعب في نفسه منذ يوم أسره خالد إلى جانب سمعته الشهيرة في حروبه مع العرب والعجم، وخرج أكيدر مفارقاً قومه، وبلغ خالداً خبره وهو في طريقه إلى (دومة) فأرسل إليه عاصم بن عمرو معارضاً له فأخذه، فقال: إنما تلقيت الأمير خالدا، ولكن خيانته السابقة جعلت خالد ينفذ فيه حكم الإعدام وهكذا قتله الله بخيانته ونقضه العهد، ولم يُغن الحذر من القدر( ).
ونزل خالد على دومة الجندل وجعل أهلها ومشايعيهم من بهراء وكلب وتنوخ بين فكي (كماشة) ذراعها الأول عسكره، والثانية عسكر عياض بن غنم( ) وتقدم الجودي بن ربيعة بجنوده نحو خالد وتقدم ابن الحدرجان وابن الأبهم بجنودهما ناحية عياض ودارت المعركة وأنزل خالد الهزيمة بالجودي واتباعه وانتزع عياض النصر من ابن الحدرجان ومن معه بصعوبة وحاولت فلول المنهزمين الاحتماء بالحصن ولكنه كان قد عج بمن فيه فاغلقوه عليهم وتركوا اصحابهم حوله في العراء ولم يلبث خالد أن هاجم من بداخل الحصن بعد أن اقتلع بابه فقتل منهم جموعاً كثيرة( ) وبفتح دومة الجندل اصبح للمسلمين موقع استراتيجي ذو اهمية فريدة لأن دومة الجندل تقع على ملتقى الطرق الى ثلاث جهات فشبه الجزيرة العربية من الجنوب والعراق من الشمال الشرقي، والشام من الشمال الغربي ومن الطبيعي أن تنال هذه المدينة مثل هذه العناية من الخليفة ابي بكر الصديق ? وجنوده تقاتل بالعراق وتقف على تخوم الشام وتلك هي العلة في ان عياضاً لم يبرحها بل ظل مرابطاً امامها إلى أن خف اليه خالد ولو ان دومة الجندل لم تذعن للمسلمين لبقي امرهم في العراق تحفه المخاطر( ).
وبذلك استطاع خالد أن يعين عياضاً على فتح دومة الجندل ولئن كانت حروب خالد ? في جنوب العراق مثالا للبراعة في الهجوم السريع واغتنام الفرص وإثارة الرعب لدى الأعداء فإن ثبات عياض ? هذه المدة الطويلة في وجه أعداء قد تكالبوا عليه من كل مكان دليل على تمتع الجيش الإسلامي أيضاً بالصبروالمصابرة وطول الأمل والثقة بنصر الله تعالى في النهاية، وكان عياض ? من أفاضل المهاجرين، ومن سادات قريش، وكان سمحاً جواداً وقد وثق به الخلفاء وولاتهم بعد ذلك، فكان أحد قادة اليرموك، وكان على مقدمة جيش أبي عبيدة ثم فتح بعد ذلك الجزيرة بأكملها وهي المناطق التي بين الشام والعراق، واستخلفه أبو عبيدة ? على الشام لما حانت وفاته، فأقره عمر ? على الشام إلى أن احتاج إليه في الفتوح فوجهه إليها( ).
9-وقعة الحصيد( ):
أمر خالد الأقرع بن حابس بالرجوع إلى الأنبار وأقام بدومة الجندل فكانت اقامته مدعاة لطمع الأعاجم وظنهم به الظنون وكذلك ظنها عرب المنطقة فرصة فكاتبوا الأعاجم ليكونوا معهم على خالد غضبا لعقة الذي لم ينسوا مصرعه بعد فخرج رزمهر من بغداد ومعه روزبة يريدان الأنبار وتواعدوا في الحصيد والخنافس فوصل خبرهم الزبرقان بن بدر وهو على الأنبار فاستمد القعقاع بن عمرو خليفة خالد على الحيرة فأمده باعْبد بن فدكي السعدي (أبو ليلى) وأمره بالحصيد وبعروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس، وعندما علم خالد بتحرك بعض القبائل ورغبتهم بالانضمام إلى روزبة في الحصيد جعل القعقاع اميراً على الناس في الحصيد بعد ان ترك مكانه عياض بن غنم على الحيرة فلما علم روزبة بتوجه القعقاع إليه استمد رزمهر فانضم إليه، والتقى المسلمون بجموع الفرس وقتلوا منهم مقتلة عظيمة من بينهم رزمهر وروزبة وغنموا غنائم كثيرة( )، وقد قال القعقاع بن عمرو في هذه المعركة:
ألا أبلغا اسماء أن حليلها
قضى وطراً من روزمهر الأعاجم
غدا صبحنا في حصيد جموعهم
لهندية تفري فراخ الجماجم( )
10-وقعة المصيخ:
بعد أن وصلت أخبار المسلمين في الحصيد إلى خالد واعد قادة جيوشه في ليلة وساعة يجتمعون فيها عند المُصيَّخ قرب حورات فلما توافوا في موعدهم بيتوا بعض القبائل ومن آوى إليهم من ثلاثة أوجه فاوقع بهم خسائر كبيرة( )، ثم علم خالد بتحشد بعض القبائل في (المثنى) وهو موضع قرب الرقة و (الزُميّل) في ديار بكر استعداداً لقتال المسلمين فباغتهم في (المثنى) من عدة اتجاهات فشتت جموعهم وكذلك هاجم المتحشدين في (الزميّل) فأوقع بهم خسائر هائلة( ).
يقول عدي بن حاتم: انتهينا في هذه الغارة إلى رجل يقال له حرقوص بن النعمان النمري، وحوله بنوه وبناته وامرأته، وقد وضع لهم جفنة من الخمر وهم يقولون: أحد يشرب هذه الساعة وهذه جيوش خالد قد أقبلت؟ فقال لهم: اشربوا شرب وداع فما أرى أن تشربوا خمراً بعدها، فشربوا وجعل يقول:
ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر
بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بالقدر
لحين لعمري لايزيد ولايجري( )
فسبق إليه وهو في ذلك في بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو في جفنته، وأخذنا بناته وقتلنا بنيه( ).
وقد قتل في هذه المعركة رجلان كانا قد أسلما ومعهما كتاب من الصديق بالأمان ولم يعلم بذلك المسلمون، فلما بلغ خبرهما الصديق وداهما وبعث بالوصاة بأولادهما وقال فيهما الصديق: كذلك يلقى من يساكن أهل الحرب في ديارهم، أي الذنب لهما في مجاورتهما المشركين( ).
11-وقعة الفراض:
بعد أن بسط خالد راية الإسلام على العراق واستسلمت له قبائل العرب قصد الفراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة حتى يحفظ ظهره ويأمن من أن تكون وراءه عورة عند اجتيازه ارض السواد إلى فارس فلما اجتمع المسلمون بالفراض غضب الروم وهاجوا واستعانوا بمن يليهم من مسالح الفرس فلبسوا سراعاً لأنهم كانوا حانقين على المسلمين الذين أذلوهم وكسروا شوكتهم كما استمدوا العرب من تغلب واياد والنمر فأمدوهم لأنهم لم ينسوا بعد مصرع رؤسائهم وأشرافهم فاجتمعت جيوش الفرس والروم والعرب على المسلمين في تلك الموقعة فلما بلغوا الفرات قالوا للمسلمين: إما أن تعبروا الينا، أو نعبر إليكم، فقال خالد: اعبروا، قالوا: فتنحوا حتى نعبر فقال خالد: لانفعل، ولكن اعبروا أسفل منا. وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة. فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل على دين، وله عقل وعلم، ووالله لينصرن ولنخذلن، ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسفل من خالد، فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم ماكان من حسن أو قبيح، من أينا يجئ! ففعلوا فاقتتلوا قتالاً شديداً طويلاً، ثم إن الله عزوجل هزمهم، وقال خالد للمسلمين: ألحوا عليهم ولاترفهوا عنهم، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه فإذا جمعوهم قتلوهم، وقتل من الأعداء عشرات الألوف وأقام خالد في الفراض عشرة أيام ثم أمر بالرجوع للحيرة( ).
وهكذا واجه المسلمون لأول مرة جيشاً مكوناً من الفرس الذين يمثلون دولة المشرق العظمى، والروم الذين يمثلون دولة المغرب العظمى، والعرب الموالين لهؤلاء وهؤلاء ومع ذلك انتصر المسلمون عليهم انتصاراً ساحقاً، ولاشك أن هذه المعركة تعتبر من المعارك التاريخية الفاصلة-وإن لم تَنَلْ من الشهرة مانالته المعارك الكبرى لأنها حطمت معنويات الكفار على مختلف انتماءاتهم حيث هزموا جميعاً، وهذه المعركة تعتبر خاتمة المعارك التي خاضها سيف الله المسلول خالد بن الوليد ? في العراق( )، وانكسرت شوكة الفرس بعد هذه المعركة ولم تقم لهم قوة حربية يخشاها الإسلام بعد هذه الموقعة( ).
ومما قاله القعقاع بعد عمرو في هذه المعركة:
لقينا بالفراض جموع روم
وفرس غَمّها طول السلام
أبدنا جمعهم لما التقينا
وبيتنا بجمع بني رزام
فما فتئت جنود السلم حتى
رأينا القوم كالغنم السَّوام( )
ثالثاً: حجة خالد وأمر الصديق له بالخروج إلى الشام واستلام المثنى لقيادة جيوش العراق:
1-حجة خالد: (12هـ) وأمر الصديق له بالخروج إلى الشام:
أقام خالد بالفراض عشرة أيام، ثم أذن بالقفول إلى الحيرة، لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدمة، وأمر شَجَرة بن الأعزّ أن يسير في الساقة، وأظهر خالد أنه يسير في الساقة ثم انطلق في كوكبة من أصحابه، وقصد شطر المسجد الحرام، وسار إلى مكة في طريق لم يُسْلك قبله قط، وتأتىّ له في ذلك أمر لم يقع لغيره، فجعل يسير معتسفاً على غير جادّة، حتى انتهى إلى مكة فأدرك الحج هذه السنة (12هـ) ثم عاد فأدرك أمر الساقة قبل أن يصلوا الحيرة، ولم يعلم أبو بكر الصديق بذلك ايضاً إلا بعدما رجع أهل الحج من الموسم، فبعث يعتب عليه في مفارقته الجيش( )، وأمره بالذهاب إلى الشام وجاء في خطاب الصديق لخالد: أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل مافعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتم الله لك، ولايدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن وهو ولي الجزاء( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:31 pm

هذا الخطاب الجليل من الخليفة الحكيم ? يصور مدى حرص الصديق ? على القواد الناجحين فيمدهم بالمشورة والنصائح التي تأخذ بيدهم إلى الفوز والتمكين بفضل الله:
أ-يأمر الصديق ? سيف الله خالد أن يترك العراق ويتوجه إلى الشام لعل الله يفتح على يديه هذا الموقع.
ب-ينصحه ألا يعود في مثل ماحدث في حجه بدون إذن من الخليفة.
جـ-يأمره أن يسدد ويقارب ويجتهد مخلصاً النية لله وحده.
هـ-يحذره من العجب بالنفس والزهو والفخر فذلك حظ النفس الذي يفسد العمل على العامل ويرده في وجهه، كما يحذره أن يدل ويمن على الله بالعمل الذي يعمله فإن الله هو المان به إذ التوفيق بيده سبحانه( ).
هذا وقد ظهرت في معارك العراق مقدرة الجيوش الإسلامية على تطبيق مبادئ الحرب من مباغتة وصد الهجوم وتثبيت الأعداء، وحشد القوة، وإدامة المعنويات، وجمع المعلومات ورسم الخطط وتنفيذها بكل قوة ودقة واحتياط منقطع النظير فهو لم يذهب إلى الشام لمجاهدة الروم إلا بعد خبرة واسعة في فتوحات العراق، وكان المرشح للبقاء على جيوش العراق بعد سفر خالد المثنى بن حارثة الشيباني لخبرته الواسعة بأرض العراق، ومهارته الفائقة في حرب الفرس ويظهر للباحث أن الخطط التي وضعها خالد في حروب العراق كانت تعتمد على الله ثم على جمع المعلومات الدقيقة التي تدل على نشاط مخابراته واستكشافاته في الميدان والذي يبدو أن هذه المخابرات قد قام بتنظيمها القائد الفذ (المثنى بن حارثة الشيباني) ليس فقط لألمعيته وقدرته الفائقة على التنظيم وإنما لمعايشته للمنطقة، فهو ينتمي إلى (بني شيبان) من (بكر بن وائل) الذين كانت منازلهم بتخوم العراق وحوض الفرات التي تمتد شمالاً إلى (هيت) فكانوا بحكم مساكنهم واتصالاتهم، مؤهلين لأن يكونوا عيوناً (مخابرات). فما وجدنا تحركاً لجيش من جيوش الفرس إلا وكان خبر ذلك التحرك منذ بدئه على لسان (المثنى) في الوقت المناسب، وما من شاردة ولاواردة تحدث في بلاط الفرس إلا وكان (المثنى) على علم بها في حينها( ).
وكان في خطاب الصديق إلى خالد: دع العراق، وأخلف فيه أهله الذي قدمت عليهم، ثم امضي مخففا في أهل قوة من أصحابنا الذين قدموا معك العراق من اليمامة، وصحبوك في الطريق وقدموا عليك من الحجاز، ثم تأتي الشام، فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، وإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة، والسلام عليك ورحمة الله( ) وتهيأ خالد للسير إلى الشام، وقسم خالد الجند نصفين: نصفاً يسير به إلى الشام ونصفاً للمثنى، ولكنه جعل الصحابة جميعاً من نصيبه، فقال له المثنى: والله لاأقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة، وإبقاء النصف، فوالله ماأرجو النصر إلا بهم، فأنت تعريني منهم، وكان خطاب الصديق قد وصل إلى خالد قبل سفره يأمره فيه بمن يأخذ من الجند، ومن يدعهم للمثنى، قال: ياخالد لاتأخذ مجّداً إلا خلفت لهم مُجّداً، فإذا فتح الله عليك فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك( ).
فما زال خالد يسترضي المثنى ويعوضه عن الصحابة بمقاتلين من سادة أقوامهم من أهل البأس، وممن عرفوا بالشجاعة والصبر، وشدة المراس، فرضي المثنى آخر الأمر( ) وحشد خالد جنوده وانطلق ليعبر إلى الشام صحارى رهيبة، غائبة النواحي مترامية الآفاق، كأنما هي التيه وسأل الأدلاّء: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟ فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين! قالوا له: لانعرف إلا طريقاً لايحمل الجيوش، فوالله إن الراكب المفرد ليخافه على نفسه! إنك لن تطيق ذلك الطريق بالخيل والأثقال، إنها لخمس ليال لايُصاب فيها ماء.
قال خالد: إنه لابد من ذلك لأخرج من وراء جموع الروم. وعزم خالد على سلوك هذا الطريق، مهما تكن مخاطره، فكم فاز باللذة الجسور، فنصحه رافع ابن عمير أن يستكثر من الماء، فلا ماء حتى يجتاز ذلك الطريق، فأمر خالد جنوده أن يخزنوا الماء في بطون الإبل العطاش، ثم يشدوا مشافرها لكيلا تجتر، فتستنزف الماء( )، وقال لرجاله: إن المسلم لاينبغي أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله له( ).
وسار به الدليل رافع بن عمير في طريق تمتاز بوعورتها وقلة مائها وضياع معالمها وقلة سكانها ولاسيما الجزء الممتد بين قراقر وسوى( ) إلا انها اقصر الطرق فاوضح خالد لجنده الاعتبارات التي تجعله يفضل سلوك هذا الطريق على غيره وهي السرعة والسرية والمباغتة، وكان رافع قد طلب من خالد أن يهيئ عشرين ناقة كبيرة فأعطاه ماأراد فمنع عنها الماء أياماً حتى عطشت ثم أوردها اياه فملأت جوفها فقطع مشافرها وكممها فلا تجتر ثم قال لخالد: سر الآن بالخيول والاثفال وكلما نزلت منزلا نحرت من تلك الإبل وشرب الناس مما تزودوا فسار الجيش من قراقر وهي آخر قرى العراق على حدود الصحراء إلى سول وهي اوائل قرى الشام والمسافة بينهما خمس ليال يستريحون بالنهار ويسيرون بالليل واعتمد خالد على رافع بن عمير دليلاً بعد ان وثق به، ومن صحة دلالته، واختار محرز المحاربي لحذقه في الدلالة على النجوم لذلك كان مسيرهم ليلاً وصباحاً مع تحاشي السير عند ارتفاع النهار والظهيرة لقطع مرحلتين في اليوم الواحد، ولم يترك خالد احداً من جنده يسير راجلاً وانما اركب الجند الابل للمحافظة على قابليتهم البدنية، وسار خالد في الطريق وكلما نزل منزلاً نحر عدداً من النوق فأخذ مافي اكراشها فسقاه الخيل ثم شرب الناس مما حملوا من الماء فلما كان اليوم الخامس نفذ الماء فخاف خالد على اصحابه من العطش وقال لرافع وهو ارمد: ماعندك فطلب رافع من الناس ان يبحثوا عن شجرة عوسج صغيرة في تلك المنطقة فلم يجدوا إلا جزءاً صغيراً من ساقها فأمر رافع أن يحفروا هناك فحفروا فظهرت عين للماء فشربوا حتى روى الناس فاتصلت بعد ذلك لخالد المنازل( )، وقد قال بعض العرب لخالد في هذا المسير: إن أنت أصبحت عند الشجرة الفلانية نجوت أنت ومن معك، وإن لم تدركها هلكت أنت ومن معك، فسار خالد بمن معه وسروا سروة عظيمة فأصبحوا عندها، فقال خالد: عند الصباح يحمد القوم السرى، فأرسلها مثلاً وهو أول من قالها ?( ).
وقد قال رجل من المسلمين في مسيرهم هذا مع خالد:
لله عينا رافعٍ أنّى اهتدى
فَوّزَ من قراقرٍ إلى نوى
خمساً إذا ماسارها الجيش بكى
ماسارها قبلك إنسيُّ أرى( )
وهذه القصة تدل على أن القائد المحنك لايبالي بالأخطار وانه اعمل الحيلة في سبيل الحصول على الماء لقطع الصحراء حتى وصل إلى غرضه. وفي اليوم الخامس وصل جيش خالد إلى سوى وهو اول تخوم الشام تاركاً وراءه حاميات الروم على الطرق الرئيسة العامة تواجه العراق وكانت حركته في قطع الصحراء بخمسة أيام اعجوبة من اعاجيب المخاطرة المحسوبة ذللتها ارادة القائد وايمانه واقدامه( ).
وصل خالد إلى (أدك) وهي أول حدود الشام فأغار على اهلها وحاصرهم فحررها صلحاً ثم نزل تدمر فامتنع اهلها وتحصنوا ثم طلبوا الامان فصالحهم وواصل سيره فأتى (القريتين) فقاتله اهلها فظفر بهم ثم قصد (حوارين) وصار إلى موضع يعرف بالثنية فنشر رايته وهي كانت لرسول الله ? تسمى العقاب فسمى ذلك الموضع بثنية العقاب( )، ولما مر بعذراء أباحها وغنم لغسان أمولاً عظيمة وخرج من شرقي دمشق، ثم سار حتى وصل إلى قناة بصرى فوجد الصحابة تحاربها فصالحه صاحبها وسلمها إليه، فكانت أول مدينة فتحت من الشام ولله الحمد، وبعث خالد بأخماس ماغنم من غسان مع بلال بن الحرث المزني إلى الصديق ثم سار خالد وأبو عبيدة ومرثد وشرحبيل إلى عمرو بن العاص -وقد قصده الروم بأرض العربا من المعور- فكانت واقعة اجنادين( ).
وهكذا نجح خالد بن الوليد في الوصول إلى الشام لمساندة الجيوش الإسلامية بعد مغامرة ومباغتة فذة في التاريخ العسكري الإنساني يقول اللواء محمود شيت خطاب عن ذلك: ... وعبور خالد للصحراء من الطريق الخطر مباغتة فذة في التاريخ العسكري لا اعرف لها مثيلا، ولست اعتقد ان عبور هانيبال للألب وعبور نابليون للألب أيضاً، ولاتفويز نابليون من صحراء سيناء أو قطع الجيش البريطاني لهذه الصحراء في الحرب العالمية الأولى يمكن أن تعتبر شيئاً إلى جانب مغامرة خالد، لأن عبور الجبال اسهل بكثير من عبور الصحراء لتيسر الماء في الجبال وعدم تيسره في الصحراء ولأن صحراء سيناء فيها كثير من الآبار والأماكن المأهولة وعدم تيسر ذلك في الصحراء التي قطعها خالد، فكان نجاح خالد في عبور الصحراء مباغتة كاملة للروم لم يكونوا يتوقعونها بتاتا( )، مما جعل حاميات المدن والمواقع التي صادفته في طريقه بين العراق وأرض الشام تستسلم لقوته بعد قتال طفيف أو بدون قتال لأنها لم تكن تتوقع أبداً ان تلاقي قوة جسيمة من المسلمين تظهر عليهم من هذا الاتجاه في هذا الوقت بالذات( ).
لقد تأثر القادة العسكريون على مرّ التاريخ وتوالي الأزمان بالعبقرية العسكرية الخالدية حتى قال عنه الجنرال الألماني (فون درغولتيس) مؤلف كتاب الأمة المسلحة قائد احدى الجبهات التركية الألمانية في خلال الحرب العالمية الأولى (انه أستاذي في فن الحرب)( ).
2-خبر المثنى بن حارثة بالعراق بعد ذهاب خالد:
كان المثنى شجاعاً مقداماً، شهماً غيوراً، وكان ميمون النقيبة، حسن الرأي، وكان راسخ العقيدة قوي الإيمان شديد الثقة بالله، بعيد النظر، يؤثر المصلحة العامة على مصلحته الخاصة، وكان يشارك أصحابه في السراء والضراء، وكان يمتلك موهبة أعطاء القرارات الصحيحة السريعة، وكان ذا إرادة قوية ثابتة، يتحمل المسؤولية الكاملة في أخطر الظروف والأحوال، يثق بقواته وتثق به قواته ثقة لاحدود لها، ويحبهم ويحبونه حباً لامزيد عليه ذا شخصية قوية نافذة فهو بحق كما يقول عنه عمر بن الخطاب: مؤمر نفسه( )، كانت له قابلية فائقة تعينه على أعباء القتال، وله ماض ناصع مجيد، وكان دائماً أول من يهاجم وآخر من ينسحب وكان خبيراً بمناطق العراق جريئاً على الفرس سريع الحركة، واسع الحيلة، وكان أول من اجترأ على الفرس بعد الإسلام وجرأ المسلمون عليهم وأبلى في حروب العراق بلاء لم يبله أحد وهو الذي رفع معنويات المسلمين وحطم معنويات الفرس( )، وقد وصف المثنى جنود الفرس فقال: قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب، ولمائة من العرب اليوم أشد علي من ألف من العجم، إن الله أذهب بأسهم وأوهن كيدهم، فلا يروعنّكم زهاء ترونه، ولاسواد ولاقسي فج ولانبال طوال، فانهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها كانوا كالبهائم اينما وجهتموها اتجهت( )، كان تعيين الصديق للمثنى على العراق في محله ويدل على معرفته بأقدار الرجال ومعادنهم، وعندما حان وقت رحيل خالد بجيشه إلى الشام خرج معه المثنى لوداعه ولما حانت لحظة الفراق قال له خالد: ارجع -رحمك الله- إلى سلطانك غير مقصّر ولاوانٍ( )، واستلم المثنى قيادة العراق بعد خالد، وما أن علم كسرى بذهاب خالد حتى حشد آلاف الجنود بقيادة (هرمز جاذويه) وكتب للمثنى يهدّد ويتوعد فقال: إني قد بعثت إليكم جنداً من وحش أهل فارس، وإنما هم رعاة الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إلا بهم( )، وأجابه المثنى بعقل وفطنة، ولم ينسَ شجاعته في الرد على هذا المجوسي، فكتب يقول في رسالة لكسرى: إنما أنت أحد رجلين، إما باغ، فذلك شرّ لك وخير لنا، وإما كاذب، فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وعند الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي، فإنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد لله الذي ردّ كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير( ) فجزع أهل فارس من هذا الكتاب ولاموا ملكهم على كتابه، واستهجنوا رأيه، وسار المثنى من الحيرة إلى بابل، ولما التقى المثنى وجيشهم بمكان عند عُدوة الصّراة الأولى( )، اقتتلوا قتالاً شديداً جداً، وأرسل الفرس فيلا بين صفوف الخيل ليفرق خيول المسلمين، فحمل عليه أمير المسلمين المثنى بن حارثة فقتله، وأمر المسلمين فحملوا، فلم تكن إلا هزيمة الفرس فقتلوهم قتلا ذريعاً وغنموا منهم مالا عظيماً، وفرّت الفرس حتى انتهوا إلى المدائن في شر حالة ووجدوا الملك قد مات( )، وعاد الاضطراب إلى بلاد فارس، وطارد المثنى أعداء الله، حتى بلغ أبواب المدائن ثم كتب إلى أبي بكر بانتصاره على الفرس، واستأذنه في الاستعانة بمن تابوا من أهل الردة، لكن انتظاره طال، وأبطأ عليه أبو بكر في الرد لتشاغله بأهل الشام ومافيه من حروب، فسار المثنى بنفسه إلى الصديق واستناب على العراق بشير بن الخصاصية، وعلى المسالح سعيد بن مرة العِجْلي( ) فلما وصل المدينة وجد أبا بكر ? على فراش المرض وقد شارف الموت، واستقبله أبو بكر واستمع إليه، واقتنع برأيه، ثم طلب عمر بن الخطاب فجاءه فقال له: اسمع ياعمر ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجوا أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسينّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولاتشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقدر رأيتني متوفَّى رسول الله وماصنعت ولم يُصَب الخلق بمثله... وإن فتح الله على أمراء الشام فاردُد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أهله وولاة أمره وحدّه، وهم أهل الضراوة بهم والجراءة عليهم( ).



المبحث الثاني
فتوحات الصديق بالشام


كان اهتمام المسلمين بالشام من زمن النبي ? حيث كتب إلى هرقل عظيم الروم كتابا يدعوه إلى الإسلام وكتب ? إلى الحارث بن أبي شمّر الغساني، ملك غسان بالبلقاء( ) من ارض الشام وعامل قيصر على العرب -يدعوه إلى الإسلام، فأدركته العزة بالإثم، فأراد أن يغزو رسول الله ?، فأتاه أمر من قيصر ينهاه عن ذلك وأرسل ? جيشاً بقيادة زيد بن حارثة فاستشهد في موته هو وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة وتولى القيادة بعدهم خالد بن الوليد الذي قام بمناورة عسكرية ناجحة تركت أثراً بعيداً في نفوس أهالي تلك المناطق، ونستطيع أن نقول أن النبي ? بتلك الغزوة وضع أسساً وقطع خطوة نحو القضاء على دولة الروم المتجبرة في بلاد الشام وهزّ هيبتها من قلوب العرب وحمّس المسلمين للإستعداد المعنوي والمادي لإتمام بقية الخطوات المباركة، بل قاد غزوة تبوك بنفسه ? ومن خلال الإحتكاك الميداني استطاع المسلمون أن يتعرفوا على حقيقة قوات الروم، ومعرفة أساليبهم في القتال، وأعطت تلك الغزوات الفرصة لأهالي بلاد الشام على أن يتعرفوا على أصول هذا الدين ومبادئه وأهدافه، فآمن كثير من أهالي تلك البلاد، واستمر الصديق على المنهج الذي وضعه رسول الله ? ولذلك أصرّ بعد وفاة النبي ? على إنفاذ جيش أسامة، ولما عقد الصديق الألوية من ذي القصة، عقد منها لواءً لخالد بن سعيد بن العاص، ووجهه إلى مشارف الشام، ثم أمره أن يكون رِدءاً للمسلمين بتيماء( )، لايفارقها إلا بأمره، ولايقاتل إلا من قاتله، فلبغ خبره هرقل -ملك الروم- فجهز جيشاً من العرب التابعين للروم، من بَهْراء، وسَليح، وكلب، ولخم، وجُذام، وغسان، فسار إليهم خالد بن سعيد، فلقيهم على منازلهم فافترقوا، وأرسل هو لأبي بكر بالخبر، فكتب إليه يأمره بالإقدام( ).
وأن يزحف على الروم قبل تنظيم صفوفهم ونصحه أن يحافظ على خط رجعته وان لايتوغل كثيراً في بلاد العدو، وجاء في جواب الخليفة له أن (اقدم ولاتحجم واستنصر بالله) فتقدم خالد حتى بلغ القسطل في طريق البحر الميت فهزم جيشاً من الروم على الشاطئ الشرقي للبحر ثم تابع مسيرته عند ذلك هاج الروم فجمعوا قواتاً تزيد على ماجمعوه في تيماء ورأى خالد تجمعهم فكتب إلى الخليفة يستمده ليتابع تقدمه فبعث إليه عكرمة بن أبي جهل بجيش البدال( ) كما بعث إليه الوليد بن عقبة بجموع اخرى فلما وصلت هذه القوات إلى خالد بن سعيد أمر بالهجوم على الروم واخذ طريقه إلى مرج الصفر وانحدر القائد الرومي ماهان بجيشه يستدرج جيوش المسلمين التي اتجهت إلى جنوب البحر الميت ووصلت إلى مرج الصفر الشرقي بحيرة طبرية، واغتنم الروم على المسلمين الفرصة واوقعوا بهم الهزيمة وصادف باهان سعيد بن خالد بن سعيد في كتيبة من العسكر فقتلهم وقتل سعيداً في مقدمتهم وبلغ خالد مقتل ابنه ورأى نفسه قد أحيط به فخرج هارباً في كتيبة من اصحابه على ظهور الخيل وقد نجح عكرمة في سحب بقية الجيش إلى حدود الشام( ).
أولاً: عزم أبي بكر على غزو الروم ومبشرات في الطريق:
كان أبو بكر يفكر في فتح الشام ويجيل النظر، ويقلب الرأي في ذلك، وبينما كان الصديق مشغولاً بذلك الأمر جاءه شرحبيل بن حسنة أحد قواد المسلمين في حروب الردة فقال: ياخليفة رسول الله أتحدث نفسك أنك تبعث إلى الشام جنداً؟ فقال: نعم قد حدثت نفسي بذلك وما اطلعت عليه أحداً، وماسألتني عنه إلا لشيء، قال: أجل، إني رأيت ياخليفة رسول الله فيما يرى النائم كأنك تمشي في الناس فوق خَرْشفة من الجبل- يعني مسلكاً وعراً- حتى صعدت قُنَّةً من القنات العالية فأشرفت على الناس ومعك أصحابك، ثم إنك هبطت من تلك القنات إلى أرض سهلة دمثة -يعني لينة- فيها الزرع والقرى والحصون، فقلت للمسلمين: شنوا الغارة على أعداء الله وأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة وأنا فيهم معي راية، فتوجهت بها إلى أهل قرية، فسألوني الأمان فأمنتهم، ثم جئت فأجدك قد انتهيت إلى حصن عظيم، ففتح الله لك وألقوا إليك السَّلَم، ووضع الله لك مجلساً فجلست عليه، ثم قيل لك: يفتح الله عليك وتُنصر فاشكر ربك، واعمل بطاعته، ثم قرأ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ?وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا?فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا?}(سورة النصر، آية:1-3) ثم انتبهت فقال له أبو بكر: نامت عينك، خيراً رأيت وخيراً يكون إن شاء الله، ثم قال: بشَّرت بالفتح، ونعيت إلى نفسي، ثم دمعت عينا أبي بكر وقال: أما الخرشفة التي رأيتنا فيها حتى صعدنا إلى القنة العالية فأشرفنا على الناس، فإنا نكابد من أمر هذا الجند والعدو مشقة ويكابدونه، ثم نعلو بعدو يعلو أمرنا، وأما نزولنا من القنّة العالية إلى الأرض السهلة الدمثة والزرع والعيون والقرى والحصون، فإنا ننزل إلى أمر أسهل مما كنا فيه من الخصب والمعاش، وأما قولي للمسلمين: شنُّوا على أعداء الله الغارة فإني ضامن لكم الفتح والغنيمة فإن ذلك دُنُوُّ المسلمين إلى بلاد المشركين وترغيبي إياهم على الجهاد والأجر والغنيمة التي تُقسم لهم، وقبولهم، وأما الراية التي كانت معك فتوجهت بها إلى قرية من قراهم ودخلتها فاستأمنوا فأمَّنتهم، فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك، وأما الحصن الذي فتح الله لي فهو ذلك الوجه الذي يفتح الله لي، وأما العرش الذي رأيتني عليه جالساً، فإن الله يرفعني ويضع المشركين، وقال الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}(سورة يوسف، آية:100) وأما الذي أمرني بطاعة الله وقرأ عليَّ السورة فإنه نعى إليَّ نفسي، وذلك أن النبي ? نعى الله إليه نفسه حين نزلت هذه السورة وعلم أن نفسه قد نُعيت إليه، ثم سالت عيناه، وقال: لآمرنّ بالمعروف ولأنهين عن المنكر، ولأجهَدنَّ فيمن ترك أمر الله، ولأجهزِّن الجنود إلى العادلين بالله -يعني المشركين به- في مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا: الله أحد أحد لاشريك له، أو يؤدُّوا الجزية عن يد وهم صاغرون، هذا أمر الله وسنة رسوله ?، فإذا توفاني الله عزوجل لايجدني الله عاجزاً ولاوانياً ولا في ثواب المجاهدين زاهداً( ). فهذه الرؤيا الصالحة من المبشرات التي حدث بها رسول الله ? حيث قال: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة( ). فهذه الرؤيا جاءت على قدر لتدفع الصديق إلى العزم على ماهمّ به وإعلان ما أضمره فدعا إلى عقد مجلس شورى بخصوص غزو الشام، فقد أخذ الصديق بالعزيمة والعمل والتوكل على الله واستأنس بالرؤية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:33 pm

ثانياً: مشورة أبي بكر في جهاد الروم واستنفار أهل اليمن:
1-مشورة أبي بكر في جهاد الروم:
لما أراد أبو بكر ? أن يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص،وأبا عبيدة بن الجراح، ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه، فقال: إن الله تبارك وتعالى لاتحصى نعمه، ولاتبلغ الأعمال جزاءها، فله الحمد كثيراً على ما اصطنع عندكم من جمع كلمتكم، وأصلح ذات بينكم وهداكم إلى الإسلام، ونفى عنكم الشيطان، فليس يطمع أن تشركوا بالله، ولا أن تتخذوا إلها غيره، فالعرب أمة واحدة، بنو أب وأم، وقد أردت أن استنفركم إلى الروم بالشام، فمن هلك هلك شهيداً وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش عاش مدافعاً عن الدين، مستوجباً على الله عزوجل ثواب المجاهدين، هذا رأيي الذي رأيت فليشر عليَّ كل امرئ بمبلغ رأيه، فقام عمر بن الخطاب ? فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي، ثم قال: الحمد لله، الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه، والله ما استبقنا إلى شئ من الخير إلا سبقتنا إليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،قد والله أردت لقاءك لهذا الرأي الذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصبت أصاب الله بك سبل الرشاد، سرِّب إليهم الخيل في إثر الخيل، وابعث الرجال تتبعها الرجال والجنود تتلوها الجنود، فإن الله عزوجل ناصر دينه، ومعز الإسلام وأهله ومنجز ماوعد رسوله. ثم إن عبدالرحمن بن عوف قام، فقال: ياخليفة رسول الله، إنها الروم وبنو الأصفر حدّ حديد، وركن شديد، والله ماأرى أن تقحم الخيل إقحاماً، ولكن تبعث الخيل، فتعبر في أدنى أرضهم، ثم تبعثها فتغير، ثم ترجع إليك، فإذا فعلوا ذلك مراراً أضروا بعدوهم، وغنموا من أرضهم، فقووا بذلك على قتالهم، ثم تبعث إلى أقاصي أهل اليمن، وإلى ربيعة ومضر فتجمعهم إليك، فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك، وإن شئت بعثت على غزوهم غيرك. ثم جلس وسكت الناس، فقال لهم أبو بكر: ماذا ترون؟ رحمكم الله. فقام عثمان بن عفان رضوان الله عليه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي، ?، ثم قال: رأيي أنك ناصح لأهل هذا الدين، عليهم شفيق فإذا رأيت رأيا علمته رشداً وصلاحاً وخيراً، فاعزم على إمضائه غير ظنين ولامتهم( )، فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد وجميع من حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار: صدق عثمان فيما قال، مارأيت من رأى فأمضه، فإنا سامعون لك مطيعون، لانخالف أمرك، ولانتهم رأيك عن دعوتك، فذكروا هذا وشبهه، وعلي بن أبي طالب ? في القوم لايتكلم فقال له أبو بكر: ماترى يا أبا الحسن؟
فقال: أرى أنك مبارك الأمر، ميمون النقيبة( )، وإنك إن سرت إليهم بنفسك، أو بعثت إليهم نُصرت إن شاء الله. فقال أبو بكر: بشرك الله بخير، فمن أين علمت هذا؟ قال: سمعت رسول الله ? يقول: لايزال هذا الدين ظاهراً على كل من ناوأه حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون( ) فقال أبو بكر: سبحان الله، ما أحسن هذا الحديث! لقد سررتني، سرّك الله في الدنيا والآخرة. ثم إن أبا بكر ? قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وذكره بما هو أهله، وصلى على النبي ? ثم قال: أيها الناس، إن الله قد أنعم عليكم بالإسلام، وأعزّكم بالجهاد وفضلكم بهذا الدين على أهل كل دين، فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام، فإني مؤمّر عليكم أمراء، وعاقد لهم عليكم، فأطيعوا ربكم، ولاتخالفوا أمراءكم ولتحسن نيتكم وسيرتكم وطعمتكم، فإن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون( ) ... وأمر أبو بكر بلالا، فنادى في الناس: أن انفروا إلى جهاد عدوكم! الروم بالشام( ).
من هذه المشورة تبين لنا منهج أبي بكر ? في مواجهة الأمور الكبيرة حيث لم يكن يبتُّ فيها برأي حتى يجمع أهل الحل والعقد فيستشيرهم ثم يصدر بعد ذلك عن رأي ممحص مدروس، وهذه هي سنة رسول الله ? كما مرّ معنا في السيرة النبوية، وحينما نتأمل في تفاصيل هذه المحاورة نجد أن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا على موافقة أبي بكر في غزو الروم، وإنما تنوعت وجهات نظر بعضهم في كيفية هذا الغزو، فكان رأي عمر إرسال الجيوش تلو الجيوش حتى تتجمع في الشام فتكون قوة كبيرة تستطيع أن تصمد للأعداء، وكان رأي عبدالرحمن بن عوف أن يبدأ الغزو بقوات صغيرة تغير على أطراف الشام ثم تعود إلى المدينة، حتى إذا تمَّ إرهاب العدو وإضعافه تبعث الجيوش الكبيرة، وقد أخذ أبو بكر برأي عمر في هذا الأمر واستفاد من رأي عبدالرحمن بن عوف فيما يتعلق بطلب المدد بالجيوش من قبائل العرب وخاصة أهل اليمن( ).
2-استنفار أهل اليمن:
كتب الصديق إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله وهذا هو نص الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم: من خليفة رسول الله إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن: سلام عليكم. فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد. فإن الله تعالى كتب على المؤمنين الجهاد، وأمرهم أن ينفروا خفافاً وثقالاً، ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والجهاد فريضة مفروضة والثواب عند الله عظيم. وقد استنفرنا المسلمين إلى جهاد الروم بالشام، وقد سارعوا إلى ذلك، وقد حسنت بذلك نيتهم، وعظمت حسنتهم، فسارعوا عباد الله إلى ماسارعوا إليه، ولتحسن نيتكم فيه فإنكم إلى إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة فإن الله تبارك وتعالى لم يرضى من عباده بالقول دون العمل، ولايزال الجهاد لأهل عداوته حتى يدينوا بدين الحق، ويقروا لحكم الكتاب، حفظ الله دينكم، وهدى قلوبكم، وزكى أعمالكم، ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين( ) وبعث الصديق هذا الكتاب مع أنس بن مالك ? وفي هذا الكتاب يظهر دور أبي بكر ? في حث المسلمين وجمعهم للجهاد في سبيل الله، وهو مايمكن أن يسمى بالتعبئة العامة( ).
ومن خطاب الصديق لأهل اليمن يتضح أن الجهاد من أجل تحقيق غرضين: تحقيق إسلام المسلمين لأن الله لايرضى لعباده بالقول دون العمل، ومقاتلة غير المسلمين حتى يدينوا بدين الحق ويقروا لحكم كتاب الله وهذا هو السبب الذي جعل أهل اليمن ينساحون من جميع أرجاء اليمن بأعداد هائلة ولم يصل إلى علمنا أن أحداً منهم خرج مستكرهاً، بل خرجوا طواعية وأقبلت جموعهم بنسائهم وأولادهم، وكانوا من أسرع المستجيبين للنداء حباً ورغبة في الجهاد، ويعبر عن هذا أنس بن مالك حامل رسالة الصديق إلى أهل اليمن والذي تنقل بين أحيائهم قبيلة قبيلة وجناحاً جناحاً يقرأ عليهم كتاب أبي بكر ويحثهم على الإسراع فقال: فكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع هذا القول يحسن الرد علي، ويقول: نحن سائرون وكأنا قد فعلنا، حتى انتهيت إلى ذي الكلاع فلما قرأت عليه الكتاب وقلت هذا المقال دعا بفرسه وسلاحه ونهض في قومه من ساعته ولم يؤخر ذلك وأمر بالعسكر فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن، وقد قام فيهم خطيباً فقال فيما قاله... ثم قد دعاكم إخوانكم الصالحون إلى جهاد المشركين واكتساب الأجر العظيم، فلينفر من أراد النفير معي الساعة( )، فعاد أنس بن مالك في حوالي 11 رجب 12هـ وبشَّرَ أبا بكر بقدوم القوم فقال: قد أتوك شُعثا غبراً أبطال اليمن، وشجعانها، وفرسانها وقد ساروا إليك بالذراري والحرم والأموال( )، ومالبث إلا أياماً حتى قدم ذو الكلاع الحميري وقومه في حوالي 16رجب 12هـ( )، ولم تكن هذه الاستجابة الفورية الراغبة خاصة بأهل (حمير)، بل كل من جاء من اليمن كان على نفس المستوى وعلى سبيل المثال فقد قدم من (همدان) أكثر من ألفي رجل وعليهم حمزة بن مالك الهمداني( )، وعندما قدم أهل اليمن على المدينة ودخلوا المسجد على أبي بكر، فلما سمعوا القرآن، أقشعرت جلودهم من خشية الله، وجاشت أنفسهم، وجعلوا يبكون خاشعين، فبكى أبو بكر وقال: هكذا كنا ثم قست القلوب( )، وعندما رأى ذو الكلاع الحميري الصديق وجده شيخاً نحيلاً، معروق الوجه، وعليه ثوب خشن ولاشيء يسطع من ثيابه!، لاشيء على الإطلاق غير الورع يفيئ وجهه الأبيض، وكان ذو الكلاع قدم على الصديق من اليمن ومن خلفه ومن حوله ألف عبد من الفرسان، وعلى رأسه التاج، وعلى حلته الجواهر المتلألئة، وبردته تسطع بخيوط الذهب المرصع باللآلي، والياقوت والمرجان، فلما شاهد ماعليه الصديق من اللباس والزهد والتواضع والنسك وماهو عليه من الوقار والهيبة تأثر ذو الكلاع ومن معه من السادة فذهبوا مذهب الصديق ونزعوا ماكان عليهم( )، وقد تأثر ذو الكلاع بالصديق وتزيّا بزيِّه حتى إنه رُئي يوما في سوق من أسواق المدينة، على كتفيه جلد شاة، ففزعت عشيرته، وقالوا له: فضحتنا بين المهاجرين والأنصار! قال: فأردتم أن أكون جباراً في الجاهلية، جباراً في الإسلام؟ لاها الله (أي لاوالله) لاتكون طاعة الرب إلا بالتواضع والزهد في هذه الدنيا( ).
وصنعت ملوك اليمن كما صنع ذو الكلاع الحميري، فتخلوا عن التيجان المثقلة بالجواهر، وتركوا حلل المخمل الموشي بخيوط الذهب والياقوت والدر والمرجان واشتروا من سوق المدينة ثيابا خشنة ووضع الصديق في بيت المال ماتخلوا عنه جميعاً من نفائس( ).
كان أبو بكر ? خير من تمثل بالإسلام في حياته بعد رسول الله وكان لسان حاله دعوة إلى الله تعالى، وأبلغ نصيحة تلك التي يشاهدها الناس من طريق العين، لا من طريق الأذن، وخير الناصحين من ينصح بأفعاله لا بأقواله.. فلما رأى ملوك اليمن أن أبا بكر خليفة رسول الله وصاحب الأمر والنهي في الجزيرة العربية يمشي في الأسواق، ويلبس العباءة والشملة، علموا أن هناك شيئاً أعظم من الثياب المزركشة والذهب واللآلئ، هو النفس العظيمة، فسعوا ليتشبهوا بأبي بكر، واستحيوا من الله والناس أن يقابلوا خليفة رسول الله بالتاج والبرود والحلي، وهو بعباءة، فقد صغرت عليهم نفوسهم وهانت، وهدأت ثورتها، وانطفأت سورتها، كما ينطفئ النجم الصغير، إذا واجه الشمس! رحم الله أبا بكر فقد كان عظيماً في تواضعه، متواضعاً في عظمته( ).
ثالثاً: عقد الصديق الألوية للقادة وتوجيه الجيوش:
عزم الصديق على تسيير الجيوش لبلاد الشام، فدعا الناس إلى الجهاد، وعقد الألوية لأربعة جيوش أرسلها لفتح الشام وهي:
1-جيش يزيد بن أبي سفيان:
وهو أول الجيوش التي تقدمت إلى بلاد الشام وكانت مهمته الوصول إلى دمشق وفتحها ومساعدة الجيوش الأربعة عند الضرورة وكان جيش يزيد أول الأمر ثلاثة آلاف ثم عززه الخليفة بالإمدادات حتى صار معه بحدود السبعة آلاف رجل، وقبل رحيل جيش يزيد أوصاه الخليفة أبو بكر وصية بليغة عالية المستوى تشتمل على حكم باهرة في مجالي الحرب والسلم، وشيّعه ماشياً وأوصاه بما يأتي: إني قد وليتك لأبلوك وأجرِّبك وأخَرجِّك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدُّهم توليا له، وأقرب الناس من الله أشدُّهم تقربا بعمله، وقد وليتك عمل خالد( )، فإياك وعبِّية الجاهلية( )، فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم، وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصلِّ الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها، وإذا قدم عليكم رسل عدوك فأكرمهم، وأقْلل لُبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولاترينَّهم فيروا خَلَكَ( )، ويعملوا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك( )، وامنع من قبَلَك من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم، ولاتجعل سرك لعلانتيك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تُصدق المشورة، ولاتخزُن عن المشير خبرك فتُوْتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار، وتنكشف عندك الأستار وأكثر حرسك، وبدِّدهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأحسن أدبه، وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل، واجعل النَّوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإنها أيسرهما لقربهما من النهار، ولاتَخَفْ من عقوبة المستحق، ولاتلجَّنَّ فيها، ولاتسرع إليها، ولاتتخذ لها مدفعا، ولاتغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولاتجسسّ عليهم فتفضحهم، ولاتكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم، ولاتجالس العبَّاثين، وجالس أهل الصدق والوفاء،واصدق اللقاء ولاتجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر، ويدفع النصر، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وماحبسوا أنفسهم له قال ابن الاثير وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعا لولاة الأمر( ) ومن فوائد هذه الوصية:
• أن الولايات والمناصب ليست حقا ثابتاً لأصحابها وإنما بقاؤهم فيها مرهون بالإحسان والنجاح في العمل، ومن واجب المسئول الأعلى أن يَعْزلهم إذا أساؤوا، وإن هذا الشعور يدفع صاحب العمل إلى مضاعفة الجهد في بذل الطاقة ليصل إلى مستوى أعلى من النجاح في العمل، أما إذا ضمن البقاء فإنه قد يميل إلى الكسل والاشتغال بمتاع الدنيا، فيخل بمسئوليته ويعرَّض من تحت ولايته إلى أنواع من الفساد والفوضى والنزاع.
• إن تقوى الله عزوجل هي أهم عوامل النجاح في العمل، لأن الله تعالى مطلع على ظاهر أعمال الناس وباطنهم، فإذا اتقوه في باطنهم فَحَريٌّ بهم أن يتقوه في ظاهرهم، وبذلك يتجنب الوالي كل مظاهر الفساد والإفساد، التي تكون عادة من الاستجابة للعواطف الجامحة التي لاتلتزم بتقوى الله تعالى.
• التحذير من التعصب للآباء والأجداد والأقوام، فإن التعصب لذلك قد يحمل الإنسان على الإنحراف على الطريق المستقيم، إذا كان ماعليه الآباء والأجداد مخالفاً للاستقامة، إضافة إلى أنه يضعف من الانتماء للرابطة الإسلامية الوحيدة وهي الأخوة في الله تعالى.
• الإيجاز في الموعظة فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا، فيضيع المقصود، ويغلب على السامع الإعجاب ببلاغة المتكلم إن كان بليغاً عن استيعاب مايقول والاستفادة من مواعظه، وإن لم يكن بليغاً فإن الملل يأخذ بالسامع فلايعي مايقول المتكلم.
• إذا أصلح المسئول نفسه وتفقد عيوبه وجعل من نفسه نموذجاً صالحاً للقدوة الحسنة فإن ذلك يكون سبباً في صلاح من هم تحت رعايته.
• الاهتمام بإقامة الصلاة كاملة مظهراً ومَخْبَراً، مَظْهَراً من ناحية إكمال أقوالها وأفعالها، ومَخْبَراً من ناحية الخشوع فيها وحضور القلب مع الله تعالى، فإن هذه الصلاة الكاملة يقام بها ذكر الله في الأرض، وتهذّب السلوك، وتقوِّي القلوب، وتبعث على ارتياح النفوس، وتعتبر ملاذاً للمسلم عند الشدائد.
• إكرام رسل العدو إذا قدموا، مع الاحتراس منهم، وعدم تمكينهم من معرفة واقع الجيش الإسلامي، فإكرامهم نوع من الدعوة إلى الإسلام فيما إذا عرف العالم مايتحلى به المسلمون من مكارم الأخلاق، ولكن لايصل هذا الإكرام إلى حد إطلاعهم على بطانة أمور المسلمين، بل ينبغي إطلاعهم على قوة جيش المسلمين ليُرهبوا بذلك أقوامهم( ).
• الاحتفاظ بالأسرار، وعدم التهاون بإفشائها، خاصة فيما يتعلق بأمور المسلمين العامة، فإن الحكيم يستطيع التصرف في الأمور وإن تغيرت وجوهها مادام سرُّه حبيساً في ضميره، فإذا أفشاه اختلطت عليه الأمور ولم يستطع التحكم فيها.
• إتقان المشورة أهم من النظر في نتائجها فإن المستشار وإن كان حصيف الرأي ثاقب الفكر فإنه لايستطيع أن يفيد من استشاره حتى ينكشف له أمره بغاية الوضوح، فإذا أخفى المستشير بعض تفاصيل القضية فإنه يكون قد جنى على نفسه، حيث قد يتضرر بهذه المشورة.
• أن على القائد وكل مسئول أن يكون مخالطاً لمن ولي أمرهم على مختلف طبقاتهم ليكون دقيق الخبرة بأمورهم، وفي هذا أكبر العون له على تصور مشكلاتهم والمبادرة بإيجاد الحلول لها، أما المسئول الذي يعيش في عزلة ولايختلط إلا بأفراد من كبار رعيته، فإنه لايصل إليه من المعلومات إلا من كان من طريق هؤلاء، وقد لايكشفون له الأمور بكل تفصيلاتها، وقد يحللون له الأمور على غير وجهها الصحيح.
• الاهتمام بأمر حراسة المسلمين خاصة من مكامن الخطر، واختبار الحراس الأمناء من ذوي النباهة، وعدم وضع الثقة الكاملة بهم، بل لابد من الرقابة عليهم حتى لايُؤتي المسلمون من قبلهم.
• أن يسلك المسئول في عقاب المخالف مسلكاً وسطا، فلايتهاون فيترك عقوبة المستحق، فإن ذلك يجرِّئه على مزيد من المخالفة، ويجرئ غيره على ارتكاب المخالفات، فتسود الفوضى وينفلت الأمر، ولايشتدُّ في العقوبة فينفِّر الرعية، ويدفعهم إلى التسخط والتحزب، بل تكون عقوبته بحكمة واتزان وبعد النظر والتروي بحيث تؤدي غرضها التربوي بدون إثارة ضجة، ولادفع إلى النقد والتسخط( ).
• أن يكون لدى المسئول يقظة وانتباه لكل مايجري في حدود المسئولية المناطة به حتى يشعر أفراد الرعية بأن هناك اهتماماً بأمورهم فيزيد المحسن إحساناً ويقتصر المسئ عن الإساءة، ولكن بدون تجسس عليهم فإن ذلك يعتبر فضيحة لهم، وقد ينقطع بذلك خيط العلاقة الذي يربط المسئول بأفراد رعيته، من المودة والإعجاب والشكر على الجميل، وهذا الخيط مادام قائماً فإنه يمنع أصحاب الجنوح من إرتكاب المخالفات التي تفسد المجتمع وتحدث الفوضى، فإذا انقطع ولم يكن هناك عاصم من تقوى الله تعالى فإن أهم الحواجز التي تحول دون الإنطلاق وراء الشهوات تكون قد تحطمت، ويصعب بعد ذلك علاج الأمور لأنها تحتاج الى قوة رادعة وهذه لها سلبياتها المعروفة.
• أن يحرص المسئول على مجالسة أهل الصدق والوفاء والعقول الراجحة، وإن سمع منهم مايكره أحياناً من النقد والتوجيه، فإن ذلك يعود عليه وعلى من استرعاه الله أمرهم بالنفع، وأن يجالس أصحاب اللهو والأهداف الدنيوية فإن هؤلاء وإن أنس بكلامهم وثنائهم فإنهم يحولون بينه وبين التفكير في الأمور الجادة، فلا يستفيق بعد ذلك إلا والنكبات قد حلت به وبمن ولي أمورهم.
• أن يصدق القائد في لقاء الأعداء وأن لايجبن، فإن جُبنه يسري على جنده فيقع بذلك الفشل والهزيمة، وفي غير الحرب أن يكون المسؤول شجاعاً في مواجهة المواقف، وأن لايضعف فيسري ضعفه على من هم تحت إدارته من العاملين، فيقل بذلك مستوى الأداء ويضعف الإنتاج.
• أن يتجنب القائد الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها هذا في مجال الحرب، وفي مجالات السلم أن يتجنب المسؤول أية استفادة دنيوية من علمه لا تحل له شرعاً، مثل أخذ الهدايا التي يقصد لها دفعها الاستفادة من المسؤول في مجانبة الحق، فإن ذلك من الغلول، والغلول كما جاء في هذه الوصية يقرب الى الفقر، ويدفع النصر.
• ومن هذه الفوائد تبين لنا عظمة هذه الوصية التي أوصى بها أبوبكر ? أحد قواده، وهي تبين لنا أنه كان يعيش بفكره مع قضايا المسلمين وأنه كان يتصور ماقد يواجهه قواده فيحاول تزويدهم بما ينفعهم في تلافي الوقوع في المشكلات، وحلها إذا وقعت، وهذه الوصية وأمثالها تسجِّل إضافة جديدة لمواقف أبي بكر المتعددة( ) الأنواع، فإذا تأملت إدارته للحكم وجدت رجلاً بارعاً في أمور السياسة، وإذا رأيت توجيهه للقادة العسكريين تجده رجلاً بارعاً في شؤون الحرب، وكأنه مع القادة في الميادين، وإذا رأيت رحمته وتأليفه للقلوب رأيت رجلاً بارعاً في الدعوة الى الله تعالى، فهو الرجل الرحيم بالمؤمنين، الرافع لشأن أهل البلاء والصدق منهم، الخبير بأهل الكفاءة والقدرة، القوي الحازم على أعداء الله من المنافقين والكافرين( ).
2- جيش شرحبيل بن حسنة:
حدد أبوبكر الصديق لمسير شرحبيل ثلاثة أيام بعد مسير يزيد بن أبي سفيان فلما مضى اليوم الثالث ودع أبوبكر شرحبيل وقال له: ياشرحبيل ألم تسمع وصيتي ليزيد بن أبي سفيان؟ قال: بلى، قال: فإني أوصيك بمثلها، وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن ليزيد، أوصيك بالصلاة في وقتها، وبالصبر يوم البأس حتى تظفر، أو تُقتل، وبعيادة المرضى وبحضور الجنائز، وذكر الله كثيراً على كل حال، فقال شرحبيل: الله المستعان وماشاء الله أن يكون كان( )، وكان جيش شرحبيل مابين ثلاثة آلاف الى أربعة آلاف وأمره أن يسير الى تبوك والبلقاء ثم بصرى وهي آخر مرحلة وتقدم شرحبيل نحو البلقاء حيث لم يلق مقاومة تذكر وكان يسير على الجناح الأيسر لجيش أبي عبيدة والجناح الأيمن لجيش عمرو بن العاص في فلسطين فأوغل في البلقاء حتى بلغ بصرى فأخذ يحاصرها فلم يوفق في فتحها لانها كانت من المراكز الحصينة( ).
3- جيش أبي عبيدة بن الجراح:
لما عزم الصديق على بعث أبي عبيدة بن الجراح بجيشه دعاه فودعه ثم قال له: اسمع سماع من يريد أن يفهم ماقيل له، ثم يعمل بما أمر به، إنك تخرج في إشراف الناس، وبيوتات العرب، وصلحاء المسلمين، وفرسان الجاهلية، كانوا يقاتلون إذ ذاك على الحمية، وهم اليوم يقاتلون على الحسبة، والنية الحسنة، أحسن صحبة من صحبك، وليكن الناس عندك في الحق سواء، واستعن بالله وكفى بالله معيناً، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً، أخُرج من غد إن شاء الله( )، وكان جيشه يترواح مابين 3-4 آلاف مجاهد وهدف ذلك الجيش حمص، سار أبو عبيدة من المدينة، ماراً بوادي القرى ثم اطلع الى الحجر (مدن صالح) ثم الى ذات منار ثم الى زيزا ومنها الى مأمؤاب فالتقى بقوة للعدو فقاتلهم ثم صالحوه فكان أول صلح عقد في الشام ثم واصل تقدمه نحو الجابية( )، وكان هذا الجيش الجناح الأيسر للجيش الأول، والجناح الأيمن للجيش الثاني( )، وكان في صحبة أبي عبيدة بن الجراح فارس من فرسان العرب المشهورين، قيس بن هبيرة بن مسعود المرادي فأوصى به الصديق أباعبيدة قبل سفره وقال له: إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف، فارس من فرسان العرب، ليس بالمسلمين غناء عن رأيه ومشورته وبأسه في الحرب فأدنه وألطفه وأره أنك غير مستغن عنه، ولا مستهين بأمره، فإنك تستخرج بذلك نصحيته لك وجهده وجدّه على عدوك، ودعا أبوبكر قيس بن هبيرة فقال: إن بعثتك مع ابي عبيدة الأمين، الذي إذا ظُلم لم يظلم، وإذا أسيء إليه غفر، وإذا قطع وصل، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، فلا تعصين له أمراً، ولا تخالفن له راياً، فإنه لن يأمرك إلا بخير، وقد أمرته أن يسمع منك، فلا تأمره إلا بتقوى الله، فقد كنا نسمع أنك شريف ذو بأس، سيّد مجرَّب في زمان الجاهلية الجهلاء، إذ ليس فيهم إلا الإثم، فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك في الاسلام على المشركين، وعلى من كفر بالله وعبد معه غيره فقد جعل الله في ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل، والعزّ للمسلمين، فقال قيس بن هبيرة: إن بقيتَ وأبقاك الله فسيبلغك عني من حيطتي على المسلم، وجهدي على الكافر ماتحب ويسرك ويرضيك، فقال له أبوبكر ?: إفعل ذلك، رحمك الله . قال، فلما بلغ أبابكر مبارزة قيس بن هبيرة البطرقين بالجابية وقتله إياهما قال: صدق قيس وبرّ، ووفى( ).
ونلحظ أن أبابكر ? يشحذ همة قيس بن هبيرة، وفجّر طاقاته الكامنة في نفسه، واستخرج منه أعلى ما أمكن من طاقة وصرفها في حماية الاسلام والجهاد في سبيله، ولا شك أن الثناء على العظماء والنبلاء بذكر فضائلهم يرفع من معنوياتهم، ويمنحهم قوة عالية تدفعهم الى التضحية والفداء( ).
4-جيش عمرو بن العاص:
وجّه الصديق عمرو بن العاص بجيش إلى فلسطين، وكان الصديق قد خيّره بين البقاء في عمله الذي أسنده إليه رسول الله وبين أن يختار له ماهو خير له في الدنيا والآخرة إلا أن يكون الذي هو فيه أحب إليه، فكتب إليه عمرو بن العاص: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي، بها والجامع لها، فانظر أشدّها وأخشاها وأفضلها، فارم به( )، فلما قدم المدينة أمره أبو بكر ? أن يخرج من المدينة وأن يعسكر حتى يندب معه الناس، وقد خرج معه عدد من أشراف قريش، منهم الحارث بن هشام وسهيل ابن عمرو وعكرمة بن أبي جهل، فلما أراد المسير خرج معه أبو بكر يشيعه وقال: ياعمرو إنك ذو رأي وتجربة بالأمور وبصر بالحرب، وقد خرجت مع أشراف قومك ورجال من صلحاء المسلمين وأنت قادم على إخوانك فلا تألُهم نصيحة ولاتدخر عنهم صالح مشورة، فرب رأي لك محمود في الحرب مبارك في عواقب الأمور، فقال عمرو بن العاص: ما أخْلَقَني أن أصدق ظنك، وأن لا أفيِّل رأيك( )، وخرج عمرو بقواته وكان تعداده يتراوح من 6-7 آلاف مجاهد وهدفها فلسطين وسلكت طريق لساحل البحر الأحمر حتى وادي عربه في البحر الميت، ونظم عمرو بن العاص قوة استطلاع مؤلفة من ألف مجاهد ودفعها باتجاه محور تقدم الروم ووضع على قيادتها عبدالله بن عمر بن الخطاب ? واصدمت هذه القوة بقوات الروم واستطاعت انتزاع النصر وتمزيق قوة العدو وعادت ببعض الأسرى فاستنطقهم عمرو بن العاص وعلم منهم أن جيش العدو بقيادة (رويس) يحاول مباغتة المسلمين بالقيام بالهجوم وعلى ضوء المعلومات الجديدة نظم عمرو قواته، وشن الروم هجومهم واستطاع المسلمون صده ونجحوا في رد قوات الروم وبعد ذلك شنوا هجومهم المضاد ودمروا قوة العدو، وارغموهم على الفرار وترك ميدان المعركة وتابع الفرسان المطاردة وانتهت المعركة بسقوط الألوف القتلى من الروم( ).
وأمر الصديق ? كل أمير أن يسلك طريقاً غير طريق الآخر، لما لحظ من ذلك من المصالح، وكأن الصديق اقتدى في ذلك بنبي الله يعقوب( )، حين قال لبنيه: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(سورة يوسف، آية:67).
رابعاً: تأزم الموقف في بلاد الشام:
كانت الجيوش المكلفة بفتح بلاد الشام تلاقي صعوبة في تنفيذ المهمات الموكلة إليها، فقد كانت تواجه جيوش الإمبراطورية الرومانية التي تمتاز بقوتها وكثرة عددها وقد بنت الحصون والقلاع للدفاع عن مراكز المدن واستخدمت اسلوب الكراديس في تنظيم جيوشها، لقد كان للروم في الشام جيشان كبيران احدهما في فلسطين والآخر في انطاكية وتمركز هذان الجيشان في ست مواضع على الشكل الآتي:
أ-انطاكية: وهي عاصمة الشام في العهد الرومي.
ب-قنسرين: وتقع بين حماة وحلب على مسافة 25كم جنوبي غربي حلب وهي حدود بلاد الشام التي تحاذي فارس في الشمال الغربي.
ت-حمص: ويمتد نفوذها العسكري حتى تدمر وصحراء الشام وهي حدود بلاد الشام التي تحاذي فارس من الشمال الشرقي.
جـ-عمان: قاعدة البلقاء وفيها قلعة محصنة.
د- اجنادين: قاعدة الروم العسكرية في جنوب فلسطين وعلى حدود بلاد العرب الشرقية والغربية وعلى حدود مصر.
هـ- قيسارية: في شمال فلسطين وتبعد عن حيفا 13كم ولاتزال انقاضها قائمة، أما مقر القيادة العامة فهي انطاكية أو حمص وعندما شهد قائد الروم هرقل الذي كان يشرف على الموقف بنفسه في (ايليا) توغل الجيوش الإسلامية اصدر اوامره الى قواته بالتوجه لتدمير هذه الجيوش وكانت خطة مواجهة الجيوش الإسلامية كالآتي:
-يتراجع الروم امام المسلمين ويتخلوا لهم عن الحدود الشامية الحجازية.
-تتجمع وحدات الجيش الأول في فلسطين بعد تقريرها بقيادة سرجون.
-تتجمع وحدات الجيش الثاني في انطاكيا بقيادة تيدور.
-تتحرك هذه الجيوش وتهاجم امراء الإسلام الأربعة الواحد بعد الآخر وذلك لتسهيل تصفية جيوش الإسلام على انفراد وعلى أساس هذه الخطة التي وضعها هرقل تحركت جيوش الروم وحسب الترتيب الآتي( ):
-توجيه اخاه تذارق في تسعين ألفا للقضاء على جيش عمرو بن العاص.
-توجيه بن توذر إلى يزيد بن أبي سفيان.
-توجيه القبقار بن ننطوس في ستين ألفا إلى جيش أبي عبيدة.
-الدارقص نحو شرحبيل بن حسنة( ).
استطاع المسلمون الحصول على المعلومات الدقيقة عن هذه الجيوش، ونواياها بكل تفاصيلها وعن تفاصيل الخطة الرومية التي كان قد وضعها هرقل لتدمير الجيوش الإسلامية كل على انفراد، وراسل قادة المسلمين الخليفة بالمدينة، فكتب أبو عبيدة إلى أبي بكر رضي الله عنهما يخبره بما بلغه مما جمع هرقل ملك الروم من الجموع وهذا نص كتاب أمين الأمة إلى الصديق: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله أبي بكر، خليفة رسول الله، من أبي عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنا نسأل الله أن يعز الإسلام وأهله عزاً متيناً، وأن يفتح لهم فتحاً يسيراً، فإنه بلغني أن هرقل ملك الروم نزل قرية من قرى الشام، تدعى أنطاكية وأنه بعث إلى أهل مملكته فحشرهم إليه، وأنهم نفروا إليه على الصعب والذلول( )، وقد رأيت أن أعلمك ذلك، فترى فيه رأيك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فكتب إليه أبو بكر ?: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كتابك، وفهمت ماذكرت فيه من أمر هرقل ملك الروم، فأما منزله بأنطاكية فهزيمة له ولأصحابه، وفتح من الله عليك وعلى المسلمين، وأما ماذكرت من حشره لكم أهل مملكته، وجمعه لكم الجموع، فإن ذلك ماقد كنا وكنتم تعلمون أنه سيكون منهم، وما كان قوم ليدعوا سلطانهم ويخرجوا من ملكهم بغير قتال، وقد علمت والحمد لله، قد غزاهم رجال كثير من المسلمين يحبون الموت حب عدوهم للحياة، ويرجون من الله في قتالهم الأجر العظيم، ويحبون الجهاد في سبيل الله أشد من حبهم أبكار نسائهم وعقائل اموالهم، الرجل منهم عند الفتح خير من ألف رجل من المشركين، فالقهم بجنودك، ولاتستوحش لمن غاب عنك من المسلمين فإن الله معك، وأنا مع ذلك مُمدُّك بالرجال حتى تكتفي ولاتريد أن تزداد إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته( ).
وكتب يزيد بن أبي سفيان إلى أبي بكر ? بنفس مضمون كتاب أبي عبيدة بن الجراح وردّ الصديق على يزيد رضي الله عنهم جميعاً وهذا نص الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه تحوُّل ملك الروم إلى أنطاكية، وأن الله القى الرعب في قلبه من جموع المسلمين، فإن الله -وله الحمد- قد نصرنا ونحن مع رسول الله بالرُّعب، وأمدنا بملائكته الكرام، وإن ذلك الدين الذي نصرنا الله به بالرعب، هو هذا الدين الذي ندعو الناس إليه اليوم، فوربك لايجعل الله المسلمين كالمجرمين، ولامن يشهد أن لا إله إلا الله كمن يعبد معه آلهة أخرين، ويدين بعبادة شتى، فإذا لقيتموهم فانهد إليهم بمن معك، وقاتلهم، فإن الله لن يخذلك، وقد نبأنا الله تبارك وتعالى أن الفئة القليلة مما تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنا مع ذلك مُمدُّك بالرجال في إثر الرجال، حتى تكتفوا ولاتحتاجوا إلى زيادة إنسان، إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله، وبعث الصديق بهذا الكتاب مع عبدالله بن قرْط الثمالي حتى قدم على يزيد فقرأه على المسلمين، ففرحوا به وسُرُّوا( )، وجاء كتاب من عمرو بن العاص بخصوص جموع الروم ورد عليه الصديق فقال: سلام عليك، أما بعد .. فقد جاءني كتابك تذكر ماجمعت الروم من الجموع، وإن الله لم ينصرنا مع نبيه ? بكثرة جنود، وقد كنا نغزو مع رسول الله ? ومامعنا إلا فَرَسان، وإن نحن إلا نتعاقب الإبل، وكنا يوم أحد مع رسول الله ومامعنا إلا فرس واحد، كان رسول الله يركبه، ولقد كان يظهرنا ويعيننا على من خالفنا، واعلم ياعمرو أن أطوع الناس لله أشدهم بغضاً للمعاصي، فأطع الله، ومر أصحابك بطاعته( )، وشرع الصديق في إمداد الجيوش الإسلامية ببلاد الشام، بالرجال، والسلاح، والخيول، ومايحتاجونه ودعا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وقال له: ياهاشم، إن من سعادة جدِّك، ووفاء حظك أنك أصبحت ممن تستعين به الأمة على جهاد عدوها من المشركين، وممن يثق الوالي بنصيحته ووفائه وعفافه وبأسه، وقد بعث إليّ المسلمون يستنصرون على عدوهم من الكفار، فسر إليهم فيمن تبعك، فإني نادب الناس معك، فاخرج حتى تقدم على أبي عبيدة أو يزيد، قال: لا، بل على أبي عبيدة، قال: فاقدم على ابي عبيدة. وقام أبو بكر ? في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن إخوانكم من المسلمين معافون، مدفوع عنهم، مصنوع لهم، وقد ألقى الله الرعب في قلوب عدوهم منهم، وقد اعتصموا بحصونهم، وأغلقوا أبوابها دونهم عليهم، وقد جاءتني رسلهم يخبرونني بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم حتى نزل قرية من قرى الشام في أقصى الشام، وقد بعثوا إليَّ يخبرونني أنه قد وجه إليهم هرقل جنداً من مكانه ذلك، فرأيت أن أمد إخوانكم المسلمين بجند منكم، يشدد الله بهم ظهورهم، ويكبت بهم عدوهم، ويلقي بهم الرعب في قلوبهم، فانتدبوا -رحمكم الله- مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، واحتسبوا في ذلك الأجر والخير، فإنكم إن نصرتم فهو الفتح والغنيمة وإن تهلكوا فهي الشهادة والكرامة ثم انصرف أبو بكر ? إلى منزله، ومال الناس على هاشم حتى كثروا عليه، فلما أتموا ألفاً أمره أبو بكر أن يسير، فجاءه فسلم عليه وودّعه، فقال له أبو بكر ?: ياهاشم، إنا إنما كنا ننتفع من الشيخ الكبير برأيه ومشورته وحسن تدبيره، وكنا ننتفع من الشاب بصبره وبأسه ونجدته، وإن الله-عزوجل- قد جمع لك الخصال كلها، وأنت حديث السن، مستقبل الخير، فإذا لقيت عدوك فاصبر وصابر، واعلم أنك لاتخطو خطوة، ولا تنفق نفقة ولايصيبك ظمأ ولانصب ولامخمصة في سبيل الله إلا كتب الله لك به عملاً صالحاً، إن الله لايضيع أجر المحسنين فقال هاشم: إن يرد الله بي خيراً يجعلني كذلك، وأنا أفعل ولاقوة إلا بالله، وأنا أرجو إن أنا لم أقْتَل أن أقْتُل، ثم أقْتَل إن شاء الله، فقال له عمه سعد بن أبي وقاص ?: يابن أخي، لاتطعن طعنة، ولاتضربن ضربة إلا وأنت تريد بها وجه الله، واعلم أنك خارج من الدنيا رشيداً، وراجع إلى الله قريباً، ولن يصحبك من الدنيا إلى الآخرة إلا قدم صدق قدّمته، أو عمل صالح أسلفته، فقال: أيْ عم، لاتخافن مني غير هذا، إني إذا لمن الخاسرين، إن جعلت حليَّ وارتحالي، وغدوي ورواحي، وسيفي وطعني برمحي، وضربي بسيفي رياء للناس ثم خرج من عند أبي بكر ? فلزم طريق أبي عبيدة حتى قدم عليه، فتباشر بمقدمه المسلمون، وسُرُّوا به( )، وبعد ذهاب هاشم بن عتبة بمدة، أمر أبو بكر بلالا، فنادى في الناس ألا انتدبوا أيها المسلمون مع سعيد بن عامر بن حذيم إلى الشام فانتدب معه سبعمائة رجل في أيام يسيرة، فلما أراد سعيد بن عامر الشخوص بالناس أتى بلال أبا بكر. فقال: ياخليفة رسول الله، إن كنت إنما اعتقتني لأقيم معك، وتمنعني مما أرجو لنفسي فيه الخير أقمت معك وإن كنت إنما اعتقتني لله لأملك نفسي وأضرب فيما ينفعني فخلّ سبيلي حتى أجاهد في سبيل ربي، فإن الجهاد أحب إليَّ من المقام... فقال له أبو بكر: أما إذا كان هواك في الجهاد فلم أكن لآمرك بالمقام، إنما كنت أريد للأذان، وإني لأجد لفراقك وحشة يابلال، فما بدَّ من التفرق فرقة لالقاء بعدها أبداً حتى يوم البعث، فاعمل عملاً صالحاً يابلال يكن زادك من الدنيا ويذكرك الله به ماحييت، ويحسن لك به الثواب إذا توفيت. فقال بلال: جزاك الله من وليّ نعمة وأخ في الإسلام خيراً، فوالله ما أمرك لنا بالصبر على طاعة الله والمداومة على الحق والعمل الصالح ببدع، وما أريد أن أؤذّن لأحد بعد رسول الله ? ثم خرج بلال مع سعيد بن عامر بن حذيم، وكان أبو بكر قد أمر سعيد بن عامر أن يسير حتى يلحق بيزيد بن أبي سفيان، فسار حتى لحقه، فشهد معه وقعة العَرَبة والداشنة( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:35 pm

وكانت وفود الجهاد تتوافد على المدينة ويقوم الصديق بتوجيهها إلى الجبهات، وكانت بعض الوفود من أهل القرى، فيهم جهل وجفاء فكان أهل المدينة من صحابة وتابعين يحتملون أذى بعض الوفود الذين لم يتلقوا تربية إسلامية كافية، ويرفعون أمر مايلاقونه منهم إلى خليفة رسول الله، ولم يذكر أنه حصل نزاع بينهم مع كثرة الوفود التي وفدت على المدينة، وكان أبو بكر الصديق قد ناشد المجتمع المدني( ) وقال لهم: نشدتك الله امرءاً مسلماً، سمع نشدي لما كفّ عن هؤلاء القوم ومن رأى لي عليه حقا فليحتمل ذرب( )، ألسنتهم، وعجلة يكرهها منهم مالم يبلغ ذلك الحد، فإن الله مهلك بهؤلاء أعداءنا، جموع هرقل والروم، وإنما هم إخوانكم فإن كانت منهم عجلة على أحد منكم فليحتمل ذلك، ألم يكن ذلك أصوب في الرأي وخيراً في المعاد من أن يُنتصر منهم؟
قال المسلمون: بلى
قال: فإنهم إخوانكم في الدين، وأنصاركم على الأعداء ولهم عليكم حق، فاحتملوا ذلك لهم، ثم نزل من على المنبر( ).
خامساً: توجيه خالد إلى الشام، ومعركة اجنادين واليرموك:
كانت قيادة الجيوش الإسلامية بالشام تتابع تطور حركة الجيوش الرومانية وشعر القادة بخطورة الموقف، فعقدوا مؤتمراً بالجولان وكتب أبو عبيدة إلى الخليفة يشرح له الموقف وفي الوقت نفسه قرروا الانسحاب من جميع الأراضي التي تم فتحها وتجمعوا في مكان واحد ليتمكنوا من احباط خطة الرومان واجبارهم على خوض معركة فاصلة تخوضها كل الجيوش الإسلامية وكان عمرو بن العاص اشار على القادة أن يكون التجمع باليرموك، وجاء رأي الصديق مطابقاً لرأي عمرو بن العاص( ) في اختيار مكان التجمع واتفقوا ان يتم الانسحاب مع تجنب الاشتباك مع العدو فانسحب ابو عبيدة من حمص وانسحب شرحبيل بن حسنة من الأردن وانسحب يزيد بن أبي سفيان من دمشق وأخذ عمرو بن العاص من الانسحاب تدريجياً من فلسطين( )، ولكنه لم يستطيع الانسحاب منها حتى نجده خالد بن الوليد قبل اليرموك، فظل يناور في بئر السبع لمتابعة الروم له وبذلك شن المسلمون هجوماً مضاداً فكانت معركة اجنادين( ).
عندما استلم الصديق رسالة أبي عبيدة وشرح له فيها الموقف امره بالانسحاب إلى اليرموك والتجمع هناك وقال له: بث خيلك في القرى والسوداء وضيق عليهم بقطع الميرة والمادة ولاتحاصروا المدائن حتى يأتيك امري، فإن ناهضوك فانهد لهم واستعن بالله عليهم فإنه ليس يأتيهم مدد إلا امددناك بمثلهم( ) وجاء في رواية: إن مثلكم لايؤتى من قلة، إنما يؤتى العشرة الآلاف إذا أوتوا من تلقاء الذنوب، فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين وليُصَلّ كل رجل منكم بأصحابه( )، وكان توجيه الصديق للجيوش بأن يجتمعوا ويكونوا عسكراً واحداً، وأن يلقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين وقال لهم: بأنكم أعوان الله، والله ناصر من نصره وخاذل من خذله( ).
ونرى من خلال رسائل الصديق بأنه وضع أساس النصر للجيوش بطاعتها لله أولا فالخذلان يأتي بالمعاصي والذنوب، وعمل الصديق على تجميع الجيوش في مكان واحد حتى لايستغل العدو فترة انتشارهم في البلاد لينهك قواهم الواحد بعد الآخر، كما أن تعيينه لليرموك دال على دراسة الصديق لجغرافية الأرض في عصره وإدراكه لمواقعها وهذا فقه حربي عظيم وفقه الله عزوجل له وقرر الصديق أن ينقل خالد بن الوليد بجيشه إلى الشام وأن يتولى قيادة الجيوش بها، فالأمر بالشام يحتاج إلى قائد يجمع بين قدرة أبي عبيدة، ودهاء عمرو، وحنكة عكرمة، وإقدام يزيد، وأن يكون صاحب قدرة عسكرية فائقة، مع قدرة على حسم الأمور، وصاحب دهاء وحيلة وإقدام، وصاحب حنكة ودراية مع دقة في تقدير المواقف وصاحب تجربة طويلة في المعارك( )، فوقع اختيار الصديق على خالد بن الوليد فكتب إليه بالعراق ونفذ ابن الوليد تعاليم الخليفة ووصل بجيشه إلى الشام بعد رحلة عبر الصحراء لم يذكر التاريخ شبيها لها وقد بينت ذلك، فكانت إمدادات الصديق تتواصل على الشام ويضع الخطط المتطورة ويرد على أساليب الأعداء التكتيكية والمعنوية والمادية التي كان هدفها اشغال الصديق عن هدفه حتى قال قادة الروم: والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا( )، وكان رد الصديق: والله لاشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد( )، وقد حققت توجيهات الصديق عدة أمور منها توحيد جيش المسلمين في الشام، وتوحيد قيادة هذا الجيش بأمرة خالد، وتحديد موقع اللقاء وهذا يؤكد وضوح الرؤية عند الخليفة أبي بكر في تحريك الجيوش، فكان عندما ارسلها من المدينة خرجت في طرق متباعدة نسبياً فكانت على شكل رؤوس حراب أو على شكل مروحة وهو عبارة مايعرف بحركة الانتشار في الجيوش الحديثة، وعندما حان وقت الاشتباك واللقاء الفاصل جمعها مع بعضها في موقع اختاره لها، فقد ظهرت قدرته البارعة في استعمال الجيوش وهو مااتفق على تسميته (بالاستراتيجية) في العلم العسكري الحديث( )، وكان الصديق كقائد عام للجيوش الإسلامية يحرص على حضوره المعنوي في ميدان القتال، بالأوامر، مع ماكانت تتميز به تلك الأوامر من تبصر وبعد نظر ونفاذ في البصيرة، وبداهة في فهم الوضع العسكري على أرض المعركة، وبالتالي سرعته في تحريك القوى وفقاً لهذا الوضع وبما يلائمه تمام الملاءمة، وحسن اختياره للقادة الذين كانوا، بفعل الثقة المتبادلة بينه وبينهم، يقرأون أفكاره ويحسون برغباته ونواياه، فتتجسد في مخيلتهم فكرة المناورة التي يعتزم تنفيذها، ويقومون بتنفيذها كما لو كان الخليفة ينفذها، وبواسطة هذه الوسائل، كان الخليفة يدير المعارك على الجبهات المختلفة كأنما هو حاضر في كل منها، بحيث يحس الجيش، قادة وجنوداً، كأن الخليفة نفسه معهم يقودهم ويوجههم، فيأتي عملهم مطابقاً تمام المطابقة لما يريد ويرغب، ووفقاً لأوامره وتوجيهاته( ).
وعندما أرسل الصديق إلى خالد يأمره بالتوجه إلى الشام وتولي الجيوش هناك، قام الصديق بإرسال رسالة إلى أبي عبيدة يخبره فيها بتولية خالد عليه ويأمره فيها بالسمع والطاعة وبين فيها سبب توليه خالد: أما بعد فإني قد وليت خالداً قتال الروم بالشام، فلا تخالفه واسمع له واطع أمره. فإني وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد والسلام عليك ورحمة الله وبركاته( )، وكانت رسالة خالد إلى أخيه أبي عبيدة قد قطعت المسافات من العراق إلى الشام واستقرت في قلبه الغني بالإيمان والزهد في هذه الدنيا الفانية وهذا نصها:
لأبي عبيدة بن الجراح من خالد بن الوليد. سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا، فقد آتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني فيه بالمسير إلى الشام، وبالمقام على جندها والتولّي على أمرها والله ماطلبت ذلك ولا أردته، ولاكتبت إليه فيه، وأنت رحمك الله على حالك الذي كنت به: لايُعصَى في أمرك ولايخالف رأيك، ولايقطع أمر دونك، فأنت سيد من سادات المسلمين لاينكر فضلك، ولايستغنى عن رأيك، تمّم الله مابنا وبك من نعمة الإحسان ورحمنا وإياك من عذاب النار. والسلام عليك ورحمة الله( )، وكان مع حامل الرسالة، خطابا من خالد موجهاً إلى المسلمين بالشام جاء فيه: ... أما بعد فإني أسأل الله الذي أعزنا بالإسلام وشرفنا بدينه، وأكرمنا بنبيه محمد ?، وفضلنا بالإيمان، رحمة من ربنا لنا واسعة، ونعمة منه علينا سابغة، أن يتم مابنا وبكم من نعمته، واحمدوا الله عباد الله يزدكم، وارغبوا إليه في تمام العافية يُدمْها لكم، وكونوا له على نعمه من الشاكرين.
وإن كتاب خليفة رسول الله أتاني يأمرني بالمسير إليكم، وقد شمّرت وانكمشت وكأن خيلي قد أطلَّت عليكم في رجال، فأبشروا بإنجاز موعود الله، وحسن ثوابه عصمنا الله وإياكم بالإيمان، وثبَّتنا وإياكم على الإسلام، ورزقنا وإياكم حسن ثواب المجاهدين والسلام عليكم( )، فلما قدم حامل الرسالتين عمرو بن الطفيل بن عمرو الأزدي على المسلمين وقرأ عليهم خطاب خالد بن الوليد وهم بالجابية، دفع إلى أبي عبيدة كتابه، فلما قرأه قال: بارك الله لخليفة رسول الله فيما رأى، وحيا الله خالداً بالسلام( ) إن هذا التعامل الرفيع بين هذين العظيمين يكشف لنا عن معاني الأخوة، المنبثقة عن التوحيد الصحيح والمحفوفة بسياج الأخلاق الحميدة التي كان يتصف بها صحابة رسول الله، فإن خالداً لم تتغير نفسه أو يشعر بعلو على إخوانه بسبب فتوحاته في العراق وثقة الخليفة به، بل يعترف بالفضل لأهله، ويعلن طاعته لأبي عبيدة بن الجراح الذي ولي الأمر من بعده، وفي مقابل ذلك نجد أبا عبيدة بن الجراح الذي يبارك هذا الأمر ويحيِّ خالداً، وهذا يدل على تجرد خالد وأبي عبيدة من حظوظ النفس وإيثارهم لمصلحة الأمة، وإرادتهم وجه الله في أعمالهم( )، وفي هذا درس عظيم لأبناء الأمة على مستوى الحكومات، والحركات، والشيوخ والدعاة، والقادة والزعماء في التعامل فيما بينهم عند التعيين أو العزل أو الفصل.
1-معركة اجنادين:
وصل خالد إلى الشام وفتح بصرى واجتمع بقادة المسلمين أبي عبيدة وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي معاوية، ودرس الموقف العسكري، واطلع على أدق تفاصيله، كما اطلع على موقف عمرو بن العاص الذي كان ينسحب بمحاذاة ضفة نهر الأردن لكي يلتقي بجيوش المسلمين الأخرى ومحاذراً الاشتباك بالجيش الرومي الذي كان يتعقبه وقد حاول قائد هذا الجيش أن يجر جيش عمرو للاشتباك معه في معركة فاصلة إلا أن عمرو كان تمام اليقظة والحذر وعلى علم تام بأنه ليس من مصلحته الاشتباك في مثل هذه المعركة لأن جيشه لم يكن يتجاوز السبعة آلاف بينما كان جيش الروم يزيد على سبعة آلاف وبعد أن درس خالد الموقف العسكري رأى أن أمامه خيارين فأما أن يسرع وينظم إلى جيش عمرو ويخوض واياه معركة فاصلة فيقضي على قوة الروم الكبيرة فيتعزز الموقف العسكري للجيش الإسلامي ويصون خط رجعته ويحمي جناحه الايسر ويثبت أقدام المسلمين في فلسطين وإما أن يقف مكانه ويوعز إلى عمرو بالانضمام إليه ثم ينتظر قوات الروم التي كانت تزحف نحوه من دمشق ليخوض معها معركة فاصلة، وقد فضل خالد أن يأخذ بالخيار الأول لأن التغلب على جيش الروم في فلسطين وتشتيته يحفظ للمسلمين خط رجعتهم ويعزز مركزهم، ويجعلهم في موقف يستطيعون معه تهديد الجيش الرومي ويجعلونه يتوقع حصول حركة التفاف من خلفه فيضطر للأخذ بتدابير خاصة للحماية تشغل جانباً من قواته فيصبح بذلك مدافعاً بعد أن كان مهاجماً فانحدر من اليرموك إلى سهل فلسطين بعدما أصدر أمره إلى عمرو بأن ينسحب متدرجاً جيش الروم حتى يصل جيش خالد فيطبقان عليه فارتد عمرو إلى اجنادين( )، وعندما وصلت قوات خالد أصبح جيش المسلمين بحدود ثلاثين ألف مقاتل، وكان وصول خالد في الوقت المناسب فما أن اصطدمت قوات عمرو بالروم حتى انقض خالد بقواته الرئيسة، وجرت معركة عنيفة وكان لمهارة القائدين خالد وعمرو العسكرية دور كبير في تحقيق النصر الحاسم، حيث تم توجيه قوة اقتحامية اخترقت صفوف العدو حتى وصلت إلى قائد الروم فقتلوه وبمقتل القائد انهارت مقاومة الروم وهربوا في اتجاهات مختلفة( ).
وقد كانت اجنادين اول المعارك الكبيرة في بلاد الشام بين المسلمين والروم فلما انتهى خبر الهزيمة إلى قيصر الروم هرقل وهو في حمص شعر بمدى الكارثة( )، وكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر ? بفتح الله عزوجل عليه وعلى المسلمين: لعبد الله أبي بكر خليفة رسول الله من خالد ابن الوليد، سيف الله المصبوب على المشركين، أما بعد، سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أخبرك أيها الصديق أنّا التقينا نحن والمشركون وقد جمعوا لنا جموعاً جمة كثيرة بأجنادين، وقد رفعوا صُلُبهم ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله، لايفرُّون حتى يُصنونا، أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعنّاهم بالرماح، ثم صرنا إلى السيوف، فقارعنهم في كل فج وشعب وغائط، فأحمد الله على إعزاز دينه، وإذلال عدوه، وحسن الصنع لأوليائه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فلما وصل الكتاب إلى أبي بكر رحمة الله عليه فرح به، وأعجبه، وقال: الحمد لله الذي نصر المسلمين، وأقر عيني بذلك( ).
2-اليرموك:
عادت بواكير النصر من وقعة اجنادين بعد الانتصار الكبير الذي حققه المسلمون في هذه الوقعة وهزيمة الروم واطمئن المسلمون إلى ماحققوه من نصر في اجنادين، واجتمعت جيوش المسلمين في اليرموك تنفيذا لأمر الخليفة الصديق، وتحركت جيوش الروم بقيادة تيدور ونزلت في منزل واسع الطعن واسع المطرد ضيق المهرب، فسارت حشود الروم حتى نزلوا الواقوصة قريباً من اليرموك.
-قوات الطرفين:
• المسلمون 40 ألف مقاتل وقيل 45 ألفا بقيادة خالد بن الوليد.
• الروم: يقدر عدد الروم بـ (240) الف بقيادة تيدور.
-قبل المعركة:
• المسلمون: وصل المسلمون بقيادة خالد بن الوليد باليرموك فعسكروا بها، حتى اجتمعت الروم مع امرائها على الضفة الجنوبية للنهر وقال عمرو بن العاص: (ابشروا ايها الناس فقد حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير)( ).
وخرج خالد بن الوليد باسلوب جديد لم يستخدمه العرب من قبل ذلك( ) فاستخدم اسلوب جديد وهو الكراديس، فخرج في ستة وثلاثين كردوساً إلى أربعين ورتب جيشه الترتيب الآتي:
-فرقاً وفيها من عشرة إلى عشرين كردوس ولها قائد وأمير.
-كراديس: الف مقاتل وله قائد وأمير( ).
وقسم جيشه إلى اربعين كردوساً وكما يلي:
فرقة القلب: مؤلفة من 18 كردوساً بقيادة أبو عبيدة بن الجراح ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو.
فرقة الميمنة مؤلفة من 10 كراديس بقيادة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة.
فرقة الميسرة: مؤلفة من 10 كراديس بقيادة يزيد بن أبي سفيان.
فرقة الطليعة (المقدمة) من الخيالة والمخافر الامامية ومهمتها المراقبة والاستطلاع والاحتفاظ على التماس مع العدو ولذلك تكون فرقة صغيرة وخفيفة.
فرقة المؤخرة: مؤلفة من 5000 مقاتل (5 كراديس) بقيادة سعيد بن زيد ومهمتها قيادة الظعن (الأمور الإدارية) وكان القاضي (أبو الدرداء) وعلى الاقباض عبدالله بن مسعود، ومهمته تأمين الأمور الإدارية والاعاشة وجمع الغنائم، والقاري المقداد بن الاسود وكان يدور على الناس ويقرأ سورة الأنفال وآيات الجهاد لرفع المعنويات، وخطيب الجيش أبو سفيان بن حرب وهو يطوف على الصفوف( ) يحث الجند على القتال، والقائد العام خالد بن الوليد في الوسط وحوله كبار الصحابة وأعد الجيش الإسلامي بقيادة خالد بن الوليد في الوسط لكل شيء عدته وأخذ كل قائد من القواد يمر على جنده ويحثهم على الجهاد والصبر والمصابرة ورأى قادة المسلمين ان هذه المعركة هي معركة يتوقف عليها نتائج كبرى، وانها الحاسمة وكان خالد يعلم انه: ان رد الروم إلى خندقهم فسيظل يردهم وان هزموه فلن يفلح بعدها. أي أن هزيمة الروم في هذه المعركة تعني هزيمتهم في أرض الشام كلها وتفتح ابواب الشام على مصراعيها للمسلمين دون حواجز ولاعراقيل والانطلاق منها إلى مصر، فآسيا وأوربا( ).
• التعبئة الإيمانية:
ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان، وعظ أبو عبيدة المسلمين، فقال: عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإن وعد الله حق، يامعشر المسلمين: اصبروا فان الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، ولاتبرحوا مصافكم، ولاتخطوا إليهم خطوة، ولاتبدوهم بالقتال وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم، حتى آمركم إن شاء الله تعالى. وخرج معاذ بن جبل على الناس، فجعل يذكرهم ويقول: يا أهل القرآن، ومستحفظي الكتاب وأنصار الهُدَى وأولياء الحق، إن رحمة الله لاتنال وجنته لاتدخل بالأماني، ولايؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق، ألم تسمعوا لقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ....} (سورة النور، آية:55) فاستحيوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فُرّاراً من عدوكم، وأنتم في قبضته، وليس لكم ملتحد من دونه، ولاعز بغيره وقال عمرو بن العاص: يا أيها المسلمون، غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب ويعاقب عليه، ويجزي بالإحسان إحساناً لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كَفْراً كَفْراً وقَصْراً قَصْراً فلا يهولنكم جموعهم ولاعددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشّدة تطايروا تطاير أولاد الحجل، وقال أبو سفيان: يامعشر المسلمين إنكم قد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين وامداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بازاء عدو كثير عدده شديد عليكم حَنَقُه وقد وترتموهم في أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وديارهم، والله لاينجيكم من هؤلاء القوم، ولايبلغ بكم رضوان الله غداً إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا، ولتكن هي الحصون. ثم ذهب إلى النساء فوصَّاهن( ) ثم عاد فنادى: يامعشر أهل الإسلام حضر ماترون فهذا رسول الله والجنة أمامكم والشيطان والنار خلفكم. ثم سار إلى موقفه( ) رحمه الله.
وقد وعظ الناس أبو هريرة فجعل يقول: سارعوا إلى الحور العين وجوار ربكم عزوجل في جنات النعيم، ما أنتم إلى ربكم في موطن بأحب إليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم وجعل أبو سفيان يقف على كل كردوس ويقول: الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك( ) قال رجل من نصارى العرب لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين!! فقال خالد: ويلك، أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لابعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر برأ من توجّيه وأنهم أضعفوا في العدد، وكان فرسه قد حفيَ واشتكى في مجيئه من العراق( ).
وجعل معاذ بن جبل كلما سمع أصوات القسيسين والرهبان يقول: اللهم زلزل أقدامهم،وارعب قلوبهم وأنزل علينا السكينة، وألزمنا كلمة التقوى، وحبب إلينا اللقاء، وارضنا بالقضاء( ).
5-الروم:
أقبلت الروم في خيلائها وفخرها قد سدت اقطار تلك البقعة سهلها ووعرها كأنهم غمامة سوداء يصيحون بأصوات مرتفعة، ورهبانهم يتلون الأنجيل ويحثونهم على القتال( )، ونزلت الروم الواقوصة قريباً من اليرموك وصار الوادي خندقاً عليهم وتعبأ الروم باستخدام اسلوب الكراديس في خطين كل خمسة في دائرة يفصل بينهما وبين الخمسة الأخرى فاصل ثم يأتي الخط الثاني وراء فرجات الخط الأول واتبع الروم في قتالهم الترتيب التالي:
-الرماة في المقدمة واجبهم أن ينشبوا القتال ثم الانسحاب إلى الوراء الاجنحة.
-الخيالة بالجناحين واجبهم حماية الرماة حتى انسحابهم من الخلف.
-الكراديس (المشاة) واجبهم الاقتحام.
قائد المقدمة جرجه.
قائد الجناحين ماهان والدراقص( ).
• المفاوضات قبل القتال:
ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان نحو جيش الروم، ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام، ونادوا إنما نريد أميركم لنجتمع به، فأذن لهم في الدخول على تَذَارِق وإذا هو جالس في خيمة من حرير. فقال الصحابة: لانستحل دخولها، فأمر لهم بفراش بسط من حرير، فقالوا: ولانجلس على هذه، فجلس معهم حيث أحبوا وتفاوضوا على الصلح، ورجع عنهم الصحابة بعدما دعوهم إلى الله عزوجل، فلم يتم ذلك( ).
وذكر الوليد بن مسلم، أن باهان طلب خالداً ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحة لهم. فقال باهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجَهْد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ماذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لادم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك. فقال أصحاب باهان: هذا والله ماكنا نحدث به عن العرب( ).
• إنشاب القتال:
لما تكامل الاستعداد، ولم تنجح المفاوضات تقدم خالد إلى عكرمة بن أبي جهل، والقعقاع بن عمرو -وهما على مجنبتي القلب- أن ينشبا القتال، فبدرا يرتجزان ودعوا إلى البِراز، وتنازل الأبطال، وتجاولوا وحمى الحرب وقامت على ساق.
هذا وخالد مع كردوس من الحماة الشجعان الأبطال بين يدي الصفوف، والأبطال يتصاولون بين يديه، وهو ينظر ويبعث إلى كل قوم من أصحابه بما يعتمدونه من الأفاعيل، ويدبر أمر الحرب أتم التدبير( ).
• إسلام أحد قادة الروم في ميدان المعركة:
وخرج جَرجَه أحد الأمراء الكبار من الصف واستدعى خالد بن الوليد فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة: ياخالد، أخبرني فاصدقني ولاتكذبني، فإن الحر لايكذب، ولاتخادعني فإن الكريم لايخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسلّه على أحد إلا هزمتهم؟ قال: لا، قال: فيم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعاً، ثم إن بعضنا صدّقه وتابعه وبعضنا كذّبه وباعده، فكنت فيمن كذّبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا، ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي: أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين( )، ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك فأنا أشد المسلمين على المشركين، فقال جرجة: ياخالد إلى ماتدعون؟ قال: إلى شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والاقرار بما جاء به من عند الله عزوجل. قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم. قال: فان لم يعطها قال: نؤذنه بالحرب، ثم نقاتله. قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا، ووضيعنا، وأولنا، وآخرنا. قال جرجة: فلِمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل مالكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة وبايعنا نبينا وهو حيّ بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى مارأينا، وسمع ماسمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا مارأينا، ولم تسمعوا ماسمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية، كان أفضل منا؟ فقال جَرجَة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال: تالله لقد صدقتك وأن الله ولي ماسألت عنه. فعند ذلك قلب جَرجَة الترس ومال مع خالد وقال: علمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه فسنّى عليه قِرْبة من ماء ثم صلى به ركعتين. وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حَمْلة فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية، عليهم عكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام( ).
• ميسرة الروم تحمل على ميمنة المسلمين:
تقدمت صفوف الروم واقبلت كقطع الليل للقيام بهجوم عام على الجيش الإسلامي وحملت ميسرتهم على ميمنة المسلمين فانكشف قلب الجيش الإسلامي من ناحية الميمنة واستطاع الروم احداث ثغرة في صفوف المسلمين والتسلل إلى مؤخرتهم فصاح معاذ بن جبل: ياعباد الله المسلمين إن هؤلاء شدوا للشد عليكم ولا والله لايردهم إلا صدق اللقاء والصبر في البلاء. ثم نزل عن فرسه وقال من أراد أن يأخذ فرسي ويقاتل عليه فليأخذه وآثر بذلك أن يقاتل راجلاً مع المشاة( )، وثبتت قبائل الأزد ومذحج، وحضرموت وخولان، حتى صدوا أعداء الله ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال، فزال المسلمون من الميمنة إلى القلب، وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر، وثبت صُوْر من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم، ثم تنادوا فتراجعوا حتى نَهْنَهوا من أمامهم من الروم، وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من الناس، واستقبل النساء من انهزم من سَرعان الناس يضربنهم بالخشب والحجارة. فتراجع إلى مواقفهم( ).
فقال عكرمة بن أبي جهل: قاتلت رسول الله في مواطن وأفر منكم اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عَمُّه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أُثْبِتوا جميعاً جراحاً، وقتل منهم خلق، منهم ضرار بن الأزور ?( ).
وقد ذكر الواقدي وغيره أنهم لما صرعوا من الجراح استسقوا ماء، فجئ إليهم بشربة ماء فلما قرّبت إلى أحدهم نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعاً ولم يشربها أحد منهم رضي الله عنهم أجمعين.
ويقال إن أول من قتل من المسلمين يومئذ شهيداً رجل جاء إلى أبي عبيدة فقال: إني قد تهيأت لأمري فهل لك حاجة إلى رسول الله ?: قال: نعم، تقرئه عني السلام وتقول: يارسول الله إنا قد وجدنا ماوعدنا ربنا حقا، قال: فتقدم هذا الرجل حتى قتل رحمه الله. وثبت كل قوم على رايتهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرحا، فلم تر يوم اليرموك إلا مُخّا ساقطا، ومعصماً نادراً، وكفاً طائرة من ذلك الموطن( ).
• ميمنة الروم تحمل على ميسرة المسلمين:
حملت ميمنة الروم بقيادة قناطر على ميسرة المسلمين حملة شديدة وكانت في ميسرة المسلمين قبائل كنانة، وقيس وخثم، وجذام وقضاعة وعاملة وغسان، فأزيلت عن مواضعها فانكشف قلب المسلمين من ناحية الميسرة، وركب الروم اكتاف من انهزم من المسلمين وتبعوهم حتى دخلوا معسكر المسلمين فاستقبلتهم نساء المسلمين بالحجارة واعمدة الخيام يضربنهم على وجوههم ويقلن لهم: أين عز الإسلام والامهات والازواج أين تفرون وتدعوننا للعلوج؟ فإذا زجرنهم خجل أحدهم من نفسه ورجع إلى القتال وقتلوا من الروم خلقاً كثيراً واستشهد في هذه المرحلة سعيد بن زيد، وحاولت ميسرة الروم مرة أخرى بشن الهجوم على ميمنة المسلمين: فشدوا على عمرو بن العاص وجنده في محاولة اختراق الصفوف لكي يقوموا بعملية التطويق، وقاتل عمرو وجنده عن مواضعهم إلا أن الروم تمكنوا من دخول معسكرهم ونزلت المسلمات من التل وأخذن يضربن وجوه الرجال المراجعين وقالت ابنة عمرو: قبح الله رجلا يفر عن حليلته، وقبح الله رجلا يفر عن كريمته، وقالت اخريات: لستم بعولتنا إن لم تمنعونا، وبذلك ارتدت إلى المسلمين عزائمهم ودخلوا القتال مرة أخرى وحمل المسلمون على الروم من جديد حتى أزاحوهم عن المواضع التي كسبوها( ).
• الحركة الافراجية والقضاء على مشاة الروم:
حمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة التي حملت على ميمنة المسلمين فأزلوهم إلى القلب، فقتل من الروم في حملته هذه ستة آلاف، ثم قال: والذي نفسي بيده لم يبقى عندهم من الصبر والجَلَد غير مارأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة الف فما وصل إليهم حتى انقضّ جميعهم، وحمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد، فانكشفوا وتبعهم المسلمون لايمتنعون منهم( )، وقامت ميمنة المسلمون بأغلاق المنافذ والثغرات في وجوه الروم وحصروا بين وادي اليرموك ونهر الزرقاء ودارت رحى المعركة وابلى المسلمون بها بلاءاً حسناً، واستطاع المسلمون أن يفصلوا فرسان الروم عن مشاتهم فحملوا على الروم وركبوا اكتافهم حتى ارهقوهم وبذلك اراد فرسان الروم مخرجاً لهم للفرار منه وبذلك امر خالد عمرو بن العاص بفسح المجال لهم في طريق الهرب ففعل ذلك وهرب فرسان الروم وبذلك تحرك مشاة الروم دون غطاء من خيالتهم فجاء المشاة إلى الخنادق وهم مقيدين بالسلاسل حتى صاروا كأنهم حائط وقد هدم وجاءهم المسلمون إلى خندقهم في ظلام الليل واخذ معظمهم ينهار بالوادي فإذا منهم شخص قتل سقط معه الجميع الذين كانوا مقيدين معه وقتل منهم المسلمون في هذه المرحلة خلقاً كثيراً قدر عددهم بمئة ألف وعشرون ألفا والناجون منهم قد انسحب منهم إلى فحل والقسم الآخر إلى دمشق داخل بلاد الشام( ).
وثبت يومئذ يزيد بن أبي سفيان، وقاتل قتالاً شديداً، وذلك أن أباه مرّ به فقال له: يابني عليك بتقوى الله والصبر، فإنه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إلا محقوقاً بالقتال، فكيت بك وبأشباهك الذين ولوا المسلمين؟ أولئك أحق الناس بالصبر والنصيحة، فاتق الله يابني ولايكونن أحد من أصحابك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب، ولا أجرأ على عدو الإسلام منك. فقال: أفعل إن شاء الله فقاتل يومئذ قتالاً شديداً وكان من ناحية القلب ?( )، وقال سعيد ابن المسيب عن أبيه قال: هدأت الأصوات يوم اليرموك فسمعنا صوتا يكاد يملأ المعسكر يقول: يانصر الله اقترب، الثبات الثبات يامعشر المسلمين، قال: فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد( )، وأخر الناس صلاتي العشاء حتى استقر الفتح( )، وأكمل خالد ليلته في خيمة تَذَارِق أخي هرقل-وهو أمير الروم كلهم يومئذ-( )، وهرب فيمن هرب وباتت الخيول تجول حول خيمة خالد يقتلون من مَرّ بهم من الروم حتى أصبحوا، وقتل تَذارِق وكان له ثلاثون سرادقاً، وثلاثون رواقاً من ديباج بما فيها من الفرش والحرير، فلما كان الصباح حازوا ماكان هنالك من الغنائم( )، وكان عدد شهداء المسلمين بثلاثة آلاف بينهم من صحابة النبي ? وشيوخ المسلمين وأقطابهم وممن استشهد من هؤلاء عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد وغيرهم( )، وكان عدد قتلى الروم بمائة وعشرون ألفا ثمانون ألف مقيد بالسلاسل واربعين الف مطلق سقطوا جميعهم في الوادي( )، لقد فرح المسلمون بهذا النصر العظيم، وعكّر ذلك الفرح وصول خبر وفاة الصديق حيث حزنوا عليه حزناً شديداً، وعوضهم الله تعالى بالفاروق رضي الله عنهم أجميعن( )، وقد كان البريد قد قدم بموت الصديق والمسلمون مصافو الروم فكتم خالد ذلك عن المسلمين لئلا يقع في صفوفهم وهن أو ضعف، فلما تم النصر وأصبحوا أجلى لهم الأمر، وكان الفاروق قد عين أبا عبيدة بن الجراح بدلا من خالد بن الوليد على جيوش الشام، وتقبل خالد أمر الفاروق برحابة صدر( )، وعزّى المسلمين في خليفة رسول الله وقال لهم: الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت، وكان أحب إليّ من عمر، والحمد لله الذي ولى عمر وكان أبغض إلي من أبي بكر وألزمني حبه( )، وتولى أبو عبيدة القيادة العامة لجيوش الشام.
ومما قيل من الأشعر في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو:
ألم تَرنا على اليرموك فُزنا
كما فُزنا بأيام العراق
وعذراء المدائن قد فتحنا
ومرجَ الصفرِ بالجرد العتاق( )
فتحنا قبلها بُصرى وكانت
محرمة الجناب لدى النعاق( )
قتلنا من أقام لنا وفينا
نهابُهُمُ بأسياف رقاق
قتلنا الروم حتى ما تساوى
على اليرموك معروق الوراق
فضضنا جمعهم لما استجالوا
على الواقوص بالبتر الرقاق( )
غداة تهافتوا فيها فصاروا
إلى أمرٍ يعضّلُ بالذواق( )
وقد أصاب هرقل هما وحزناً، لما أصاب جيشه في اليرموك ولما قدمت على أنطاكية فلول جيشه قال هرقل: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن. قال فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عمّا يرضى الله ونفسد في الأرض، فقال: أنت صدقتني( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:38 pm

المبحث الثالث
أهم الدروس والعبر والفوائد


أولاً: من معالم السياسة الخارجية في دولة الصديق:
رسمت خلافة الصديق ? أهدافاً في السياسة الخارجية، للدولة الإسلامية والتي كان من أهمها:
1-بذر هيبة الدولة في نفوس الأمم الأخرى:
فقد حققت سياسة الصديق هذا الهدف، بطرق عديدة منها:
أ-وصول أخبار الانتصارات التي أيد الله بها الأمة المسلمة في حروب الردة مما ساعد على وأد هذه الفتنة وتثبيت أركان الدولة، ومثل هذه الأخبار تصل إلى الدول المجاورة وبخاصة إذا كانت تتابع أنباء الدولة الإسلامية وترقب حركتها وترى فيها خطراً جديداً يهددها، وللفرس والروم في ذلك الوقت قدرة على معرفة الحوادث والأمور فلما وصلت أنباء المرتدين وثبات الناس على الدين أدركت الدولتان أن بنيان هذه الأمة الجديدة يستعصي على المؤامرات ويتجاوز المحن والابتلاءات، وهذا له وقعة في نشر هيبة دولة الإسلام.
ب-جيش أسامة: ظهر لجيش أسامة الذي أنفذه الصديق أثر بالغ في نشر هيبة الدولة الإسلامية، وقد جعل الروم يتساءلون عن الجيش الذي حاربهم وعاد منتصراً إلى عاصمة دولته فامتلأت قلوبهم فزعا حتى حشد هرقل عشرات الألوف من جيشه على الحدود، فقد نقلت تلك الأخبار إلى بلاد كسرى وتناقلها الناس مما كان له الأثر في هيبة المسلمين في قلوب هذه الدول( ).


-مواصلة الجهاد الذي أمر به النبي ?:
قام الصديق بمواصلة الجهاد لتأمين الدعوة ووصولها للناس، فجهز الجيوش وندب الناس للخروج إلى الجهاد في سبيل الله لنشر دعوة الحق، وإزاحة الطواغيت الذين رفضوا دعوة النبي ? لهم بالإسلام، وصمموا على حجب نور الحق عن شعوبهم، وقد خرج الناس يلبون هذه الدعوة الحبيبة إلى النفوس تحت لواء قادة أصحاب بلاء وجهاد في سبيل الله أمثال خالد، وأبي عبيدة، وعمرو، وشرحبيل، ويزيد رضي الله عنهم اختارهم خليفة محنك مجرب ذو ملكة عسكرية عجيبة صقلتها الظروف التي أحاطت به والأزمات الخطيرة التي أحدقت بأمته مما دفعه إلى العناية بهذه الناحية فاختار القواد أحسن اختيار وأمدهم بتوجيهاته وإرشاداته ففتحوا الشام والعراق في أقصر وقت ممكن وبأقل كلفة متاحة( ).
3-العدل بين الأمم المفتوحة والرفق بأهلها:
كانت السياسة الخارجية للصديق قائمة على بسط لواء العدل على الديار المفتوحة ونشر الأمن والطمأنينة بين أهلها حتى يحس الناس بالفرق بين دولة الحق ودولة الباطل، وحتى لايظن الناس أنه قد ذهب جبار ظالم ليحل مكانه من هو أشد منه أو مثله في ظلمه وجبروته، ووصى أبو بكر قواده بالرحمة والعدل، والإحسان إلى الناس، فإن المغلوب يحتاج إلى الرأفة، وتجنب مايثير فيه حمية القتال، وحافظ المسلمون الفاتحون على الإنسان والعمران فشاهدت الشعوب المفتوحة خلقاً جديداً في ذوق رفيع، وإنسانية صادقة، فقام ميزان الشريعة بين الأمم المغلوبة بالقسط، وانتشر نور الإسلام فأخذ يعد له مجامع القلوب، فسارعت الشعوب إلى اعتناق هذا الدين والإنضواء تحت لوائه، وكان جند الأعاجم من الفرس أو الروم إذا وطئوا أرضا دنسوها، ونشروا فيها الرعب والفزع وانتهكوا الحرمات مما قاسى منه الناس الويل والثبور وتناقلت الأجيال قصصه المرعبة والمفزعة جيلاً بعد جيل وقبيلاً إثر قبيل فلما جاء الإسلام ودخل جنده هذه الديار، فإذا بالناس يجدون العدل يبسط رداءه فوق رؤوسهم ويعيد إليهم آدميتهم التي انتزعها الظلم والطغيان، وقد حرص الصديق على هذه السياسة حرصا عظيما وكان يقوم أي عوج يظهر أو خطأ يقع روى البيهقي: أن الأعاجم كانوا إذا انتصروا على عدو استباحوا كل شيء من ملك أو أمير وكانوا يحملون رؤوس البشر إلى ملوكهم كبشائر للنصر وإعلان للفخر، فرأى أمراء المسلمين في حروب الروم أن يعاملوهم بنفس معاملتهم، فبعث عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة برأس (بنان) أحد بطارقة الشام إلى أبي بكر مع عُقبة بن عامر فلما قدم عليه أنكر ذلك فقال له عقبة: ياخليفة رسول الله إنهم يصنعون ذلك بنا فقال: أفيستنان بفارس والروم، لايحمل إلي رأس إنما يكفي الكتاب والخبر( ).
4-رفع الإكراه على الأمم المفتوحة:
من معالم السياسة الخارجية عند الصديق ? رفع الإكراه عن الأمم المفتوحة فلم يكره أحد من الأمم أو الشعوب على دينه بالقوة، وهو في هذا ينطلق من قول الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}(سورة يونس، آية:99). والمسلمون أرادوا من الفتوحات إزالة الطغاة وفتح الأبواب أمام الشعوب لترى نور الإسلام أما وقد أزيل كابوس الظلم عن الناس فليتركوا أحراراً ولايكرهوا على شيء طالما حافظوا على عهدهم مع المسلمين والذي كان يشمل في بنوده:
أ-أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ب-أن لايكون لهم مكان في بعض الوظائف كالجيش.
جـ-أن لايُكوِّنوا جهة معادية للإسلام في شعائره أو عباداته أو شريعته.
هـ-إذا غير أحدهم دينه السابق فلا يقبل منه إلا الإسلام.
وتقوم دولة الإسلام بتفسير الإسلام لهم عملياً ونظرياً بحيث يؤدي ذلك إلى إقتناعهم بهذا الدين ليدخلوا فيه عن رغبة فإن العقائد لاتستقر بالإكراه( ).
ثانيا: من معالم التخطيط الحربي عند الصديق:
إن المطالع للفتوحات في عهد الصديق ? يمكن له أن يستنتج خطوطاً رئيسة للخطة الحربية التي سار عليه وكيف تعامل هذا الخليفة العظيم مع سنة الأخذ بالأسباب؟ وكيف كانت هذه الخطة المحكمة عاملاً من عوامل نزول النصر والتمكين من الله عزوجل للمسلمين ومن هذه الخطوط مايلي:
1-عدم الإيغال في بلاد العدو حتى تدين للمسلمين:
كان الصديق ? حريصاً أشد الحرص على عدم الإيغال في بلاد العدو حتى تدين للمسلمين، وقد كان ذلك واضحاً تمام الوضوح في جبهات العراق والشام، ففي فتوح العراق، أرسل الصديق ? إلى خالد وعياض بتكليفهما بغزو العراق من جنوبه وشماله وجاء في الكتاب: وأيكما ماسبق إلى الحيرة فهو أمير على الحيرة فإذا اجتمعتما بالحيرة إن شاء الله وقد فَضَضتُما مسالح مابين العرب وفارس( )، وأمنتم أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليُقم بالحيرة أحدكم وليقتحكم الآخر على القوم وجالدوهم عما في أيديهم واستعينوا بالله واتقوه، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجتمعا لكم، ولاتؤثروا الدنيا فتسلبوهما واحذروا ماحذركم الله بترك المعاصي ومعاجلة التوبة، وإياكم والإصرار وتأخير التوبة( )، وهذا الكتاب الجليل يدل على فكر أبي بكر العالي وتخطيطه الدقيق، وقبل ذلك توفيق الله له، فقد جاء تخطيطه الحربي موافقاً تماماً لما اقتضته مصلحة الجيوش الإسلامية أثناء تطبيق هذه الخطة الحكيمة، وقد شهد ببراعة أبي بكر في التخطيط الحربي أخبر الناس بالحروب آنذاك وهو خالد بن الوليد، فإنه لما نهض للقيام بمهمة عياض في فتح شمال العراق ونزل بكربلاء واشتكى إليه المسلمون ماوقعوا فيه من التأذي بذُبابها الكثيف قال لعبدالله بن وثيمة: اصبر فإني إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فنُسكنها العرب فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم، وتجيئنا العرب آمنة وغير متعتعة، وبذلك أمرنا الخليفة، ورأيه يعدل نجدة الأمة( )، وقد سار على هذه الخطة بالعراق المثنى بن حارثة حيث يقول ذلك القائد الفذ: قاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب، ولاتقاتلوهم بعقر دارهم، فإن يظهر الله المسلمين فلهم ماوراءهم، وإن كانت الأخرى رجعوا إلى فئة ثم يكونون أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم( )، وأما في فتوحات الشام، فقد كانت الصحراء من خلف المسلمين حماية لهم ومع هذا كان المسلمون يتأكدون أولا من أن عدوهم قد انقطع أمله في مفاجأتهم من خلف ظهورهم، وأن يستولوا على مايقع بيمينهم وشمالهم من المدن والبلاد، وسدَّ كل ثغر بالمقاتلة، وقد كانت تلك القاعدة مرعية عندهم يحرصون عليها أشد الحرص( ).
2- التعبئة وحشد القوات:
عندما تولى الصديق الخلافة وضع من خطوط الإعداد الحربي: التعبئة وحشد القوات، وقد ناد المسلمين لحروب الردة ثم استنفرهم بعدها للفتوحات وأرسل الى أهل اليمن كتابه المعروف في ذلك( ).
3- تنظيم عملية الإمداد للجيوش:
حينما تطورت معارك الجبهة الشرقية ووجد قائدا الجبهة -خالد والمثنى- أنهما في حاجة الى مدد بشري لأن الطاقة التي معهما لاتستطيع تلبية المعركة في متطلباتها وواجباتها فكتبا إلى الصديق ? يلتمسان المدد فقال لهما: استنفرا من قاتل أهل الردة، ومن بقى على الإسلام بعد رسول الله ? ولايغزون أحد ارتد حتى أرى رأيي( ) وشرع في إمداد جبهات العراق والشام حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
4-تحديد الهدف من الحرب:
وضعت هذه النقطة في خطة الحرب الإسلامية في الفتوحات لتكون هدف العمليات الذي يسعى إليه الجميع، وقد وضع الصديق خطته في هذه القضية على أساس أن يعلم كل فرد مقاتل أن هدف المسلمين من هذه الفتوحات نشر الإسلام وتبليغه إلى الشعوب بإزالة الطواغيت الذين يحرمون شعوبهم من هذا الخير العميم، فقد كان القادة يعرضون على عدوهم قبل المعركة واحدة من ثلاث: الإسلام أو الجزية أو الحرب( ).
5-إعطاء الأفضلية لمسارح العمليات:
قاد الصديق ? بنفسه أولى العمليات الحربية ضد المرتدين، ونظم الجيوش لحربهم ولم يهمل بقية المسارح فوجه أسامة إلى الشام، والمثنى إلى العراق، وكرس جهود المسلمين في السنة الأولى للقضاء على الردة، وعندما تمت عملية إعادة توحيد الجزيرة وأصبح بالإمكان الانطلاق من قاعدة قوية ومأمونة، وجه ثقل العمليات إلى الجبهتين العراقية والشامية، وعندما احتاجت الجبهة الشامية إلى المدد، نقل الصديق محور ثقل الهجوم إلى الشام، ووجه خالداً إليه-وترك المثنى في الجبهة العراقية.
6-عزل ميدان المعركة:
عندما بدأ الصديق ? باستنفار القوات لحرب الروم والفرس أرسل خالد بن سعيد إلى تبوك بمهمة الى مناطق الحشد، ومحاور التقدم، وأمره أن يكون ردءاً للمسلمين، وعندما فشل في هذا الواجب وتجاوزه قام عكرمة بن أبي جهل به( ).
7-التطور في أساليب القتال:
كتب الصديق إلى أبي عبيدة عندما بلغه تقدم جيوش الروم وانضمام أهل دمشق إليهم مايلي: بث خيولك في القرى والسواد، وضيق عليهم الميرة والمادة، ولاتحاصرن المدائن حتى يأتيك أمري( )، وعندما دعمه بقوات كافية كتب له:فإن ناهضوك، فانهد لهم واستعن بالله عليه فإنه ليس يأتيهم مدد إلا أمددناك بمثلهم( ).
8-سلامة خطوط الاتصال مع القادة:
كانت خطوط الاتصال بين الصديق وقادة المعارك منظمة ومنتظمة بحيث تصل المكاتبات من القادة في أمان، وتصل ردود الخليفة في سرية تامة وسرعة متقدمة لاتسمح للعدو أن يفاجأ المسلمين بشيء لايتوقعونه، وهكذا كانت الخطط الحربية عند المسلمين محكمة دقيقة مما كان عاملاً من عوامل دحر الأعداء والتغلب عليهم بفضل الله في حركة الفتوح( ).
9-ذكاء الخليفة وفطنته:
امتازت الخطط الحربية الإسلامية في بداية الفتوحات بوجود العقل المدبر، ذي الفطنة والذكاء، والكياسة والفراسة، وهو الصديق وقد ساعد أبو بكر على فهمه الواسع للتخطيط العسكري طول ملازمته للنبي ?، فقد تربى على تعليمه وتوجيهاته، فكسب علوماً شتى، وخبرات متنوعة، فقام بعد رحيل رسول ? في مقام الخلافة خير قيام، فحمل البصيرة الواعية، وزود الجيش بالنصائح الغالية، وأرسل الإمدادات في أوقاتها تسعف المجاهدين، وتمدهم بالهمة والعزيمة الماضية( ).
ثالثا: حقوق الله، والقادة، والجنود من خلال وصايا الصديق:
1-حقوق الله:
بين الخليفة في توجيهاته للقادة والجنود حقوق الله تعالى، كمصابرة العدو، واخلاص قتالهم لله، وأداء الأمانة، وعدم الممالئة والمحاباة في نصرة دين الله.
أ-مصابرة العدو:
حين وجه أبو بكر ? عكرمة بن أبي جهل ? إلى عمان كان مما أوصاه به قوله: واتق الله فإذا لقيت العدو فاصبر( )، كما قال الصديق ? لهاشم بن عتبة بن أبي وقاص: عندما وجهه مدداً لجند الشام: إذا لقيت عدوك فاصبر وصابر واعلم أنك لاتخطو خطوة ولاتنفق نفقة ولايصيبك ظمأ ولامخمصة في سبيل الله إلا كتب الله لك به عملاً صالحاً إن الله لايضيع أجر المحسنين( ).
ب-أن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله:
فقد جاء في خطاب الصديق لخالد حين أمره بالذهاب للشام مايفيد هذا المعنى حيث ذكره بأن يجتهد ويخلص النية لله وحده، وحذره من العجب بالنفس والزهو والفخر فذلك حظ النفس الذي يفسد العمل على العامل ويرده في وجهه، كما حذره أن يدل ويمن على الله بالعمل الذي يعمله فإن الله هو المان به إذ التوفيق بيده سبحانه( ) وهذا بعض ماجاء في تلك الرسالة:... فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتم الله لك، ولايدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن وهو ولي الجزاء( ).
جـ-أداء الأمانة:
وقد كانت توجيهات الصديق لأمرائه وجنوده واضحة في وجوب أن يؤدوا الأمانة فيما حازوه من الغنائم ولايغل أحد منهم شيئاً بل يحمل جميعه إلى المغنم ليقسم بين جميع الغانمين ممن شهدوا الواقعة وكانوا على العدو يداً واحدة( )، وعلى سبيل المثال ماجاء في وصية الصديق ليزيد بن أبي سفيان في النهي عن الغلول( )، هذه بعض توجيهات الصديق مما يتعلق ببعض حقوق الله على القادة والجنود.
2-حقوق القائد:
وقد بين الخليفة الصديق حقوق القادة على الجنود والرعية، كالتزام طاعته، والمسارعة إلى امتثال أمره، وعدم منازعته في شيء من قسمة الغنائم وغير ذلك.
أ-التزام طاعته:
فعندما تولى أبو بكر ? بعد أن تولى الخلافة كان أول شيء نبه المسلمين إليه في خطاب التولية أنه سائر على نهج رسول الله ? كما ذكّر بالطاعة حيث قال: واعلموا أن ماأخلفتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها( )، والزم قادته بالطاعة لبعضهم فمن ذلك ماكتبه إلى المثنى بن حارثة الشيباني بقوله: إني قد بعثت إليك خالد بن الوليد إلى أرض العراق فاستقبله بمن معك من قومك ثم ساعده ووازره وكاتفه ولاتعصين له أمراً ولاتخالفوا له رأيا فإنه من الذين وصف الله تبارك وتعالى في كتابه فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا....}( ) (سورة الفتح، آية:29) كذلك أخذ أبو بكر ? يوصي في خلافته جيوش المسلمين المتجهة لفتح بلاد الشام بالطاعة فقال لهم: أيها الناس إن الله قد أنعم عليكم بالإسلام وأكرمكم بالجهاد وفضلكم بهذا الدين عن كل دين فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام فإني مؤمر عليكم أمراء وعاقد لكم ألوية فأطيعوا ربكم ولاتخالفوا أمراءكم لتحسن نيتكم وأشربتكم وأطعمتكم فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون( )، فكان جوابهم له بقولهم: أنت أميرنا ونحن رعيتك فمنك الأمر ومنا الطاعة فنحن مطيعون لأمرك وحيثما توجهنا نتوجه( )، وعندما عين الصديق خالد بن الوليد إدارة جيوش الشام طلب من أبي عبيدة بأن يسمع ويطيع لأمر خالد بن الوليد لفطنته وعلمه بالحرب، ولما وصل خالد بن الوليد للشام طلب من أبي عبيدة بن الجراح بأن يبعث إلى أهل كل راية ويأمرهم أن يطيعوه فدعا أبو عبيدة الضحاك بن قيس، فأمره بذلك فخرج الضحاك يسير في الناس طالبا منهم طاعة القائد الجديد لجيوش الشام خالد بن الوليد فيما يأمرهم به، فأجاب الناس بالسمع والطاعة( ).
ب-أن يفوضوا أمرهم إلى رأيه:
قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}(سورة النساء، آية:83). جعل الله تفويض الرعية الأمر إلى ولي الأمر سببا لحصول العلم وسداد الرأي، فإن ظهر لهم صواب خفي عليه بينوه له وأشاروا به عليه ولذلك ندب إلى المشاورة ليرجع بها إلى الصواب( )، وفي خلافة الصديق نرى أبا بكر ? كلف أمراء وقادة جيوشه بالتوجه إلى الشام، وفوض لهم أمر الجيوش حيث قال لهم: يا أبا عبيدة ويامعاذ وياشرحبيل، ويايزيد، أنتم من حماة هذا الدين وقد فوضت إليكم أمر هذه الجيوش فاجتهدوا في الأمر واثبتوا وكونوا يداً واحدة في مواجهة عدوكم( )، ثم أمر القادة بمراعاة أحوال الجنود وتقديم الإخلاص، والإتحاد حتى لاتختلف آراؤهم( )، وأضاف الصديق قائلاً: فإذا قدمتم البلد ولقيتم العدو واجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة بن الجراح وإن لم يلقكم أبو عبيدة وجمعتكم حرب فأميركم يزيد بن أبي سفيان( )، وهكذا فوض خليفة رسول الله ? إدارة العسكر إلى رأي أحد قادته ووكله إلى تدبيره حتى لاتختلف آراؤهم، وأكد على ذلك عندما قال لعمرو بن العاص: أنت أحد أمرائنا هناك فإن جمعتكم حرب فأميركم أبو عبيدة بن الجراح( )، وكان ذلك رأيه أيضاً مع قادة العراق حيث قال للمثنى بن حارثة: إني بعثت إليك خالد بن الوليد إلى أرض العراق... فما أقام معك فهو الأمير فإن شخص عنك فأنت على ماكنت عليه والسلام عليك( ).
جـ-المسارعة إلى امتثال أمره:
ففي حروب الردة كتب أبو بكر الصديق ? إلى خالد ابن الوليد في أمر مسيلمة الكذاب فقد أمره بالمسير إليه فجمع خالد بن الوليد أصحابه وقرأ عليهم الكتاب وسألهم الرأي فأجابوه بقولهم: الرأي رأيك وليس فينا أحد يخالف أوامرك( )، كما كتب الصديق ? لخالد بن الوليد أثناء مقامه بالعراق بالخروج في شطر الناس إلى الشام وأن يخلف على الشطر الباقي المثنى بن حارثة وقال له: لاتأخذ نجداً إلا خلفت له نجداً، فامتثل خالد للأمر وقسم الجند نصفين( )، وكتب إلى عمرو بن العاص بالسير من بلاد قضاعة إلى اليرموك، ففعل، وبعث بأبي عبيدة ويزيد وأمرهما بالإغارة وألا يوغلوا في بلاد الشام حتى لايكون وراءهم أحد من العدو، وقد استجاب القادة والجنود لتوجيهاته، وأوامر الصديق ?( ).
د-عدم منازعته في شيء من قسمة الغنائم:
سار أبو بكر ? في خلافته على نهج الرسول ? في تقسيم الغنائم، فبعد انتهاء خالد بن الوليد ? من معركة اليمامة كتب إلى الصديق ? يخبره بما فتح الله عليه وما أغنمه منهم فكتب إليه أبو بكر قائلاً: اجمع الغنائم والسبي وما أفاء الله عليك من مال بني حنيفة فأخرج من ذلك الخمس ووجه به إلينا ليقسم فيمن بحضرتنا من المسلمين وادفع إلى كل ذي حق حقه والسلام، وهذا ماكان يفعله جميع قادة أبي بكر ? في إدارتهم العسكرية في قسمة الغنائم ولم ينازعهم الجند في شيء من قسمتها والتسوية بينهم فيها( ).
3-حقوق الجند:
بين الصديق ? من خلال وصاياه ورسائله حقوق الجند، كاستعراضهم، وتفقد أحوالهم، والرفق بهم في السير، وأن يقيم عليهم العرفاء والنقباء، واختيار مواضع نزولهم لمحاربة العدو، وإعداد مايحتاج إليه الجند من زاد وعلوفة، والتعرف على أخبار العدو بالجواسيس الثقات لسلامة الجند، وتحريضهم على الجهاد، وتذكيرهم بثواب الله وفضل الشهادة، ومشاورة ذوي الرأي منهم، وأن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق، وأن ينهاهم عن الإشتغال عن الجهاد بتجارة وزراعة ونحوها( ) وإليك تفصيل بعض هذه النقاط:
أ-إستعراضهم وتفقد أحوالهم:
فقد رأينا ابو بكر الصديق ? عندما طرق المرتدين المدينة المنورة أخذ أهلها بحضور المسجد وقال لهم: إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة وإنكم لاتدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً وأدناهم منكم على بريد( )، وأخذ ? يعرض أصحابه ثم يعين منهم على أنفاق المدينة نفراً للحراسة( )، وعندما اجتمع جيش فتوح الشام عد أبو بكر ? على دابته حتى أشرف على الجيش فنظر إليهم وقد ملأوا الأرض فتهلل وجهه وأخذ يعرضهم قبل سيرهم ويوصيهم ويدعو لهم وعقد لهم الألوية ومشى معهم نحوا من ميلين( ).
ب-الرفق بالجند في السير:
فقد أوصى أبو بكر خالد بن الوليد في حروب الردة بالرفق بمن معه وأن يتخذ الأدلاء في مسيره( )، وأوصى سائر أمراء الردة بذلك( )، وفي فتوح العراق عندما عقد خالد بن الوليد معاهدة الصلح مع أهل أليس( )، وغيرهم كان من ضمن شروط المعاهدة يبذرقوا( ) المسلمين ويكونوا أدلاء وأعوانا لهم على الفرس لأنهم أعرف وأعلم بطرق بلادهم من غيرهم( )، وحين كلف أبو بكر ? خالد بن الوليد بالتوجه من العراق إلى الشام مدداً وعونا لهم دعا خالد الأدلاء وتشاور معهم حول سيرهم في طريق المفازة إلى الشام لأنه أسرع الطرق وأسرعها لنجدة إخوانه ثم رافقه منهم رافع بن عميرة الطائي دليلاً( )، وأوصى الصديق ? يزيد بن أبي سفيان عندما وجهه إلى الشام بقوله: إذا سرت فلا تضيق على نفسك ولاعلى أصحابك في مسيرك( )، وعندما جد الجند في السير ذكر أحدهم يزيد بوصية أبي بكر له بالرفق بهم في السير وأن يلتزم بها( ) كما أوصى الصديق عمرو بن العاص عندما وجهه إلى فلسطين بقوله له: وكن والداً لمن معك وأرفق بهم في السير فإن فيهم أهل ضعف( )، وقد امتثل قادة الصديق ? لأمره بالرفق بالجند في مسيرهم وأصبحوا لايسيرون إلى قتال الأعداء إلا ومعهم أدلاء يدلونهم على أسهل الطرق وأوفرها ماء وعشبا حتى يتمكنوا من مواصلة سيرهم نحو العدو، من غير إهدار لقوتهم أو تحطيم لمعنوياتهم( ).
ت-أن يجعل لكل طائفة شعاراً يتداعون به:
ففي بعثة جيش أسامة لقتال الروم كان شعارهم: يامنصور أمت( )، وفي حروب الردة عند مسير خالد بن الوليد نحو مسيلمة الكذاب باليمامة كان شعارهم يومئذ: يامحمداه، يامحمداه( )، وشعار تنوخ في فتوح العراق (يا آل عباد الله)( )، وفي فتوح الشام باليرموك نجد أن لكل قائد وقبيلة شعاراً مميزاً يميزها عن غيرها اتخذته ليستدل به عليها وكانوا يجهرون به عند القتال ويتعارفون به، فكان شعار أبي عبيدة: أمت أمت، وشعار خالد بن الوليد ومن معه: ياحزب الله، وشعار قبيلة عبس يالعبس، وشعار اليمن من أخلاط الناس ياأنصار الله، وشعار حمير الفتح، وشعار دارم والسكاسك (الصبر الصبر)، وشعار بني مراد يانصر الله انزل، فهذه كانت أبرز الشعارات في معركة اليرموك( ).
ث-أن يتصفحهم عند مسيرهم:
ومن وصايا أبي بكر الصديق ? لقواده حين بعث بهم في حروب الردة: وان يمنع أصحابه العجلة والفساد وألا يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ماهم، لئلا يكونوا عيوناً، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم( )، كما أمر قادته بعدم الإستعانة بالمرتدين في جهاد العدو وذلك احتراساً وحرصاً على سلامة جند المسلمين( )، كذلك أوصى الصديق ? قادة فتوح الشام بالحذر والحيطة والتيقظ من رسل العدو حتى لايتعرفوا على مابجيشهم من ثغرات، ومكامن ضعف وأمرهم بأن لايخالطوا العسكر ولايحدثوهم فمن ذلك قوله ليزيد بن أبي سفيان: وإذا قدمت عليك رسل عدوك فأكرم منزلتهم فإنه أول خبرك إليهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع من قبلك من محادثتهم وكن أنت الذي تلي كلامهم ولاتجعل سرك مع علانيتك فيمرج( ) عملك( ).
جـ-حراستهم من غرة يظفر بها العدو في مقامهم ومسيرهم:
وظهر ذلك عندما وضع الصديق الحرس على أنقاب المدينة خشية أن تطرقها بعض القبائل المرتدة، وحين وجه ? خالد بن الوليد إلى حرب أهل الردة حذره من البيات والغرة وقال له: واحترس من البيات فإن في العرب غرة( )، كما أوصى أمراء وقادة فتوح الشام بالإحتراس ونشر الحرس على العسكر لحفظهم من الأعداء وأن يقوموا بالتفتيش المفاجئ على الحرس حتى يتأكدوا من قيامهم بمهامهم المعدين لها فمن ذلك ماقاله ليزيد بن أبي سفيان: وأكثر حرسك وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك( )، وقال لعمرو بن العاص: وأمر أصحابك بالحرس ولتكن أنت بعد ذلك مطلعاً عليهم وأطل الجلوس بالليل على أصحابك، وأقم بينهم وأجلس معهم( )، وحذى قادة الصديق ? حذوه في إتخاذ الحرس على العسكر في مقامهم وسيرهم( ).
ح-إعداد مايحتاج إليه العسكر من زاد وعلوفة:
فقد كان الصديق ? يشتري الإبل والخيل والسلاح فيجعلها في سبيل الله( )، إلى جانب مايكسبه ويغنمه العسكر من العدو( )، وحينما كلف الصديق خالد بن الوليد بمحاربة المرتدين كان مما أوصاه به إذا دخل على أرض العدو أن لايسير إليهم إلا وهو مستظهر بالزاد( )، وكان قادة الصديق أثناء مصالحتهم للعدو يشترطون عليهم أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين بما يحل من طعامهم وشرابهم( )، وقد سمح أبو بكر ? لجند الشام أثناء ماأوصاهم بأنهم إذا عقروا شاة أو بعيراً للعدو لايعقرونها إلا للأكل( ).
خ-ترتيب الجند في مصاف الحرب:
استعمل قادة الصديق في معاركهم الحربية نظام الصف، والصفوف تزيد وتنقص بحسب مايقتضيه الموقف ويراه القائد في ميدان القتال( ) إلا أن خالد بن الوليد في معركة اليرموك أدخل نظام الكراديس في أعينهم وذلك لأن نظام الكراديس عبارة عن مجموعة من الجند تقف في صفوف لاتكون منفصلة عن الأخرى بينهما مسافات متباعدة مما يسهل ذلك عليها عملية الحركة وزيادة الانتشار فمن قول خالد للجند لإستخدامه لنظام الكراديس: إن عدوكم قد كثر وطغى وليس من التعبئة تعبئة أكثر في رأي العين من الكراديس( )، فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة وعليها يزيد بن أبي سفيان وهكذا حيث خرج في ستة وثلاثين كردوساً إلى الأربعين، وخرج في تعبئة لم تعبئها العرب قبل ذلك ووزع المهام الإدارية بين القيادة( )، إلا أن نظام الصف ظل قائماً ومعمولاً به في النظام الحربي الإسلامي بعد اليرموك( ).
د-تحريضهم على القتال:
كان الصديق ? يحرّض المجاهدين على القتال ويقوي نفوسهم بما يشعرهم من الظفر ويذكر لهم أسباب النصر ليقل العدو في أعينهم فيكونوا عليه أجرأ وبالجرأة يسهل الظفر( )، فقد حرض وحض أبو بكر خالد بن الوليد على القتال بقوله: احرص على الموت توهب لك الحياة( )، وعندما عقد الألوية لجيوش الشام أخذ يحرضهم ويحضهم على الجهاد في سبيل الله ويوصيهم، ويدعو لهم بالنصر على الأعداء( ).
ذ-أن يذكرهم بثواب الله وفضل الشهادة:
فمما قاله أبو بكر الصديق ? في تلك الجيوش المتوجهة إلى الشام قوله: ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سيبل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به هي التجارة التي دل عليها ونجى بها من الخزي وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة( ).
ر-أن يشاور ذوي الرأي منهم:
وهذا مافعله الصديق في حروب الردة، وفتوحات الشام، وكثير من القضايا الفقهية والمستجدات التي تحدث في المجتمع المسلم، وقد طلب من القادة أن يتناصحوا ويتشاورا( ) وقد كان الصديق قدوة في ذلك، ففي حروب الردة دعا عمرو بن العاص وقال له ياعمرو إنك ذو رأي في قريش وقد تنبأ طليحة فما ترى واستشاره ثم سأله عن خالد بن الوليد عند اختياره لقيادة الجند فأجابه يسوس للحرب نصير للموت له أناة القطاة ووثوب الأسد فعقد له( )، وسار خالد بن الوليد لما كلف به وأخذ يستشير من معه لإعداد الخطة لمحاربة المرتدين ويخبر القيادة العليا بما استقر عليه رأي الجند( )، وحين أراد أبو بكر ? أن يغزو الروم ويعد الجيوش لفتح بلاد الشام شاور في ذلك جماعة من أصحاب رسول الله وبعد أن أخذ رأيهم وما أجمعوا عليه أمر الجند بالتجهيز للتوجه لما أمروا به( )، وكان مما أوصى به الصديق ? أمراء وقادة جند الشام بأن يعملوا بالمشورة، فمن ذلك ماقاله ليزيد بن أبي سفيان: هذا ربيعة بن عامر( ) من ذوي العلاء والمفاخر قد علمت صولته وقد ضممته إليك وأمرتك عليه فاجعله في مقدمتك وشاوره في أمرك ولاتخالفه( )، قال يزيد حباً وكرامة، وأضاف أبو بكر ? قائلاً: إذا سرت فلا تضيق على نفسك ولا على أصحابك في مسيرك ولاتغضب على قومك ولا على أصحابك وشاورهم في الأمر واستعمل العدل( ) كما قال ليزيد: وإذا استشرت فاصدق الخبر تصدق لك المشورة، ولاتكتم المستشار فتؤتى من قبل نفسك( )، إلى غير ذلك مما قاله ليزيد بن أبي سفيان حول مبدأ الشورى والإلتزام بها وقد أوصى أمراء جند الشام بما لايخرج عن ذلك( )، وامتثل قادة الصديق بما أمروا به من إجراء المشورة فيما بينهم فقد قال أبو عبيدة بن الجراح لعمرو بن العاص: ياعمرو لرب يوم لك قد شهدته فبورك فيه للمسلمين برأيك ومحضرك وإنما أنا رجل منكم ولست وإن كنت الوالي عليكم بقاطع أمراً دونكم فاحضرني رأيك في كل يوم بما ترى فإنه ليس بي عنك غنى( ) هذا بالإضافة إلى طلب القادة في أرض المعركة من القيادة العليا المركزية المشورة فيما أشكل عليهم من أمور الإدارة العسكرية لمرحلة وضع الخطط الحربية والتنفيذ ومعاملة الأسرى( ).
ز-أن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق:
فقد كان أبو بكر ? يوصي قادته بذلك، فحين بعث عمرو بن العاص إلى أرض فلسطين قال له: اتق الله في سرك وعلانيتك واستحيه في خلواتك فإنه يراك في عملك وقد رأيت تقدمي لك على من هو أقدم منك سابقة وأقدم حرمة فكن من عمال الآخرة وأرد بعملك وجه الله وكن والداً لمن معك والصلاة ثم الصلاة أذن بها إذا دخل وقتها ولاتصل صلاة إلا بأذان يسمعه أهل العسكر واتق الله إذا لقيت العدو والزم أصحابك قراءة القرآن وأنههم عن ذكر الجاهلية وماكان منها فإن ذلك يورث العداوة بينهم، وأعرض عن زهرة الدنيا حتى تلتقي بمن مضى من سلفك وكن من الأئمة الممدوحين في القرآن إذ يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(سورة الأنبياء، آية:73) ( ).
هذه أهم حقوق الله، والقادة والجند، التي تحدث عنها الصديق في وصاياه ورسائله لقادته ?.
رابعاً: السر في اكتساح المسلمين لقوات الفرس والروم:
إن المتأمل في حركة الفتح الإسلامي يرى توفيق الله تعالى لجيوش الخليفة أبي بكر ?، فقد اندفعت تلك الجيوش المظفرة نحو العراق والشام واستطاعت أن تكسر شوكة الرومان والفرس وتفتح تلك الديار في وقت قياسي في تاريخ الحروب والسبب في سرعة هذا الفتح، عوامل تتعلق بالمسلمين الفاتحين، وأخرى ترجع إلى الأمم التي فتح المسلمون ديارهم، فمن العوامل التي تتعلق بالمسلمين:
1-إيمان المسلمين بالحق الذي يقاتلون من أجله.
2-يقين المسلمين بربهم في قضيتي الرزق والأجل والقضاء والقدر.
3-تأصل الصفات الحربية في المسلمين.
4-سماحة المسلمين وعدالتهم مع الشعوب.
5-رحمة المسلمين في تقدير الجزية والخراج ووفائهم بعهودهم.
6-ثروة المسلمين الواسعة من الرجال والقواد العظام.
7-إحكام الخطة الحربية الإسلامية( ).
وأما الأسباب التي تتعلق بالبلاد المفتوحة فأهمها، ضعف الروم والفرس، فقد ضعفوا وانتشر بينهم الظلم وعم الفساد، ودب فيهم سوء الأخلاق، وأصابت حضارتهم الشيخوخة، وقضى عليها إسراف ملوكها، وانحرفوا عن منهج الله، ومضت فيهم سننه التي لاترحم ولاتجامل ولاتتبدل وأما المسلمون، فقد أكرمهم الله بمنهجه فساروا عليه وأخذوا بأسباب التمكين وحققوا شروطه، وتعاملوا مع سنن الله في الشعوب، وبناء الدول، وإصلاح المجتمعات ولايفهم من كلامي أن ضعف الروم والفرس سهل السبيل أمام المسلمين بشكل كبير، فرغم ضعف الدولتين بسبب العوامل السابقة إلا أنه لم يمنعها من الإعداد الهائل لملاقاة المسلمين فجهزتا مئات الآلاف من الجند المدربين الذين يفوقون جند المسلمين عدداً وعدة، كما أنهما أبرزتا أسلحة غير معهودة عند المسلمين كالفيلة والكلاليب المحماة التي كانوا يرسلونها من خلف الحصون يصطادون بها من تقع عليه من المسلمين، كما أن الظن بأن الروم استهانوا بالمسلمين ولم يستعدوا لهم يدفعه الكلام السابق وترده رواية ابن عساكر: أن هرقل جمع بطارقته وهو بحمص وقال لهم: هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن تقبلوه مني!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر فتغير عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم تكلم، قال أخوه: ابعث رباطا إلى البلقاء فبعث رباطا واستعمل عليه رجلاً من أصحابه فلم يزل حتى تقدمت الجيوش إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:39 pm

المبحث الرابع
استخلاف الصديق لعمر بن الخطاب ووفاته


أولاً: استخلافه لعمر:
في شهر جمادي الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية مرض الخليفة أبو بكر ?، واشتد به المرض( ) فلما ثقل واستبان له من نفسه -جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ماقد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم فأمَّروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمرتم في حياة منِّي كان أجدر أن لاتختلفوا بعدي( ).
وقد قام أبو بكر ? بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم:
1-استشارة أبي بكر كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار:
وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا ياخليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبدالرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ماتسألني عن أمرإلا وأنت أعلم به مني: فقال أبو بكر: وإن فقال عبدالرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان. فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبدالله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ماعَدَتْك ثم دعا أسيد بن حضير فقال له: مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيدالله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر ماأنت قائل لرَبِّك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّدَ من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خيْرَ أهْلكَ( ).
وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه( ).
2-ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد فكان نص العهد:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ماعهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني أستخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عَدَلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ مااكتسب، والخير أردت ولاأعلم الغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}( ) (سورة الشعراء، آية:227).
إن عمر هو نصح أبي بكر الأخير للأمة، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى وفي قومه فاقة قديمة يعرفها، فإذا ماأطلوا لها استشرفتهم شهواتها، فنكلت بهم واستبدت، وذاك ماحذرهم رسول الله ? إياه( )، قال رسول الله ?: فوالله لا الفقر اخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم( ). لقد أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم ? بدوء ناجع.. جبل شاهق، إذا مارأته الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة، إنه الرجل الذي قال فيه النبي ?: أيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان سالكا فجاً قط إلا سلك فجّاً غير فجّك( ). إن الأحداث الجسام التي مرت بالأمة، قد بدأت بقتل عمر، هذه القواصم خير شاهد على فراسة أبي بكر وصدق رؤيته في العهد لعمر، فعن عبدالله بن مسعود ? قال: أفرس الناس ثلاثة صاحبة موسى التي قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وصاحب يوسف حيث قال: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وأبو بكر حين استخلف عمر( )، فقد كان عمر هو سد الأمة المنيع الذي حال بينها وبين أمواج الفتن( ).
3-أنه أخبر عمر بن الخطاب بخطواته القادمة فقد دخل عليه عمر فعرّفه أبو بكر بما عزم فأبى أن يقبل، فتهدده أبو بكر بالسيف فما كان أمام عمر إلا أن يقبل( ).
4-أنه أراد إبلاغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لايحصل أي لبس فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بما استخلف عليكم، فإني والله ماألوت من جهد الرأي، ولاوليت ذات قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا( ).
5-أنه توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم، وأحرصهم على ماأرشدهم، وقد حضرني من أمرك ماحضر، فاخلفني فيهم فهم عبادك( ).
6-أنه كلف عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه بختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر، دون أي آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به( ).
7-البيعة لعمر بن الخطاب قبل أن يتوفى أبو بكر الصديق، فبعد أن قُرِءَ العهد على الناس ورضوا به أقبلوا عليه وبايعوه( )، ولم تتم بيعة بعد الوفاة بل باشر عمر بن الخطاب أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر ?( )، ويلحظ الباحث أنّ عمر ولي الخلافة باتفاق أصحاب الحل والعقد وإرادتهم فهم الذين فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه، وأمضوه ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب (الطبيعيون) عن هذه الأمة، وإذن فلم يكن استخلاف عمر ? إلا على أصح الأساليب الشورية وأعدلها( ).
إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار خليفته من بعد لاتتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه( ). وهكذا تم عقد الخلافة لعمر ? بالشورى والاتفاق، ولم يرد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة( ).
8-وصية الصديق لعمر بن الخطاب:
فقد اختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده( )، وقد جاء في الوصية: اتق الله ياعمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لايقبله بالليل، وعملاً بالليل لايقبله بالنهار، وأنه لايقبل نافلة حتى تُؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحُقَّ لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لاألحق بهم، وإن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وردّ عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لأرجو أن لاأكون مع هؤلاء، ليكون العبد راغباً راهباً، لايتمنى على الله ولايقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلايك غائب أبغض إليك من الموت ولستَ تُعجزه( ).
ثانيا: وحان وقت الرحيل:
قالت عائشة رضي الله عنها: أول مابُدئ مرض أبي بكر أنه اغتسل، وكان يوماً بارداً فحُمّ خمسة عشرة يوماً لايخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بالصلاة، وكانوا يعودونه، وكان عثمان ألزمهم له في مرضه( )، ولما اشتد به المرض قيل له: ألا تدعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني فقال إني فعال لما أريد( )، وقالت عائشة رضي الله عنها قال أبو بكر: انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي. فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح( ) كان يسقي بستاناً له. فبعثنا بهما إلى عمر، فبكى عمر وقال: رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعباً شديداً( ).
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه، دخلت عليه وهو يعالج مايعالج الميت ونفسه في صدره فتمثلت هذا البيت:
لعمرك مايغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فنظر إليّ كالغضبان، ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(سورة ق، آية:19). ثم قال: ياعائشة: إنه ليس أحد من أهلي أحب إليَّ منك، وقد كنت نحلتك حائطاً( )، وإن في نفسي منه شيئاً فردِّيه الى الميراث. قالت: نعم فرددته. وقال ?: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن الى عمر، وابرئي منهن ففعلت، فلما جاء الرسول الى عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض، ويقول: رحم الله أبابكر، لقد أتعب من بعده، رحم الله أبابكر، لقد أتعب من بعده، رحم الله أبابكر، لقد أتعب من بعده( ). وقد جاء في رواية: أن أبابكر لما حضرته الوفاة قال: إن عمر لم يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلاف درهم، وان حائطي الذي بمكان كذا فيها، فلما توفي ذكر ذلك لعمر فقال: يرحم الله أبابكر، لقد أحب أن لايدع لأحد بعده مقالاً( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:41 pm

ويظهر من هذه المواقف ورع الصديق في المال العام، فقد ترك هذا الخليفة العظيم تجارته وتخلى عن ذرائع كسبه اشتغالاً عنها بأمور المسلمين وقياماً بوظائف الخلافة فيضطر الى أخذ نفقته من بيت المال بما لايزيد عن الحاجة الى سد الجوع وستر العورة، ثم هو يؤدي للمسلمين خدمة هيهات أن تؤدي حقها الخزائن ولما أشرف على وفاته، وعنده فضلة من مال المسلمين وهي ذلك المتاع الحقير، يأمر بردها الى المسلمين ليلقى ربه آمناً مطمئناً، نزيه القلب، طاهر النفس، خفيف الحمل إلا من التقوى، فارغ اليدين إلا من الايمان، إن في هذا لبلاغاً وانها لموعظة لقوم يعقلون( ). كما أن ماقام به من الوصية بتعويض بيت مال المسلمين بأرضه المذكورة مقابل ماأنفق على نفسه وعياله منه، وكان ورعاً منه ورغبة في أن يكون عمله في الولاية تطوعا وخالصاً لله تعالى بعيداً عن أي حظ من حظوظ الدنيا.
وقد استمر مرض أبي بكر مدة خمسة عشر يوماً حتى كان يوم الإثنين ليلة الثلاثاء في الثاني والعشرين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة، قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن أبا بكر قال لها: في أي يوم مات رسول الله ?؟ قالت في يوم الإثنين، قال: إني لأرجو فيما بيني وبين الليل، قال: ففيم كفنتموه؟
قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص، ولاعمامة فقال أبو بكر: انظري ثوبي هذا فيه ردع زعفران أو مشق فاغسليه واجعلي معه ثوبين آخرين( )، فقيل له قد رزق الله وأحسن نكفنك في جديد، قال: إن الحي هو أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه عن الميت، إنما يصير الميت إلى الصديد، وإلى البلى( )، وقد أوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، وأن يدفن بجانب رسول الله ?، وكان آخر ماتكلم به الصديق في هذه الدنيا قول الله تعالى:{ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}( ) (سورة يوسف، آية:101).
وارتجّت المدينة لوفاة أبي بكر الصديق، ولم تر المدينة منذ وفاة الرسول يوماً، أكثر باكياً، وباكية من ذلك المساء الحزين وأقبل علي بن أبي طالب مسرعاً، باكياً، مسترجعاً ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر فقال: رحمك الله يا أبا بكر.. كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلاماً، وأخلصهم يقيناً، وأشدهم لله يقيناً، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله عزوجل، وأحوطهم على رسول الله ?، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هدياً وسمتاً، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإسلام أفضل الجزاء. صدقت رسول الله ? حين كذبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سماك الله في تنزيله، صديقاً فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(سورة الزمر، آية:33). واسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين صاحبه في الغار، والمُنَّزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسن الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر مالم يقم به خليفة نبي، ونهضت حين وهن أصحابه وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله إذ وهنوا، وكنت كما قال رسول الله ضعيفاً في بدنك قوياً في أمر الله تعالى، متواضعاً في نفسك عظيماً عند الله تعالى، جليلاً في أعين الناس كبيراً في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز، ولالقائل فيك مهمز، ولالمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه القريب والبعيد عنك في ذاك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عزوجل، وأتقاهم ... شأنك الحق والصدق والرفق قولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، اعتدل بك الدين وقوي بك الإيمان وظهر أمر الله، فسبقت -والله- سبقاً بعيداً، واتعبت من بعدك إتعاباً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون رضينا عن الله عزوجل قضاءه وسلمنا له أمره، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً، كنت للدين عزاً، وحرزاً وكهفاً فألحقك الله عزوجل بنبيك محمد ?، ولاحرمنا أجرك، ولاأضلنا بعدك، فسكت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم وقالوا: صدقت( ) وجاء في رواية: إن علياً قال عندما دخل على أبي بكر بعدما سُجِّي أنه قال: ماأحد ألقى الله بصحيفته أحب إليّ من هذا المُسَجَّى( ) هذا وقد توفي الصديق رحمه الله وهو ابن ثلاث وستين سنة ... مجمع على ذلك في الروايات كلها، استوفى سن رسول الله، وغسلته زوجه أسماء بنت عميس، وكان قد أوصى بذلك( )، ودفن جانب رسول الله، وقد جعل رأسه عند كتفي رسول الله( )، وصلى عليه خليفته عمر بن الخطاب، ونزل قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبدالرحمن، وألصق اللحد بقبر رسول الله ?( ).
وهكذا خرج أبو بكر الصديق من هذه الدنيا بعد جهاد عظيم في سبيل نشر دين الله في الآفاق، وستظل الحضارة الإنسانية مدينة لهذا الشيخ الجليل الذي حمل لواء دعوة الرسول بعد وفاته وحمى غرسه عليه الصلاة والسلام، وقام برعاية بذور العدل والحرية، وسقاها أزكى دماء الشهداء، فأتت من كل الثمرات عطاء جزيلاً، حقق عبر التاريخ تقدماً عظيماً في العلوم والثقافة والفكر، وستظل الحضارة مدينة للصديق لأنه بجهاده الرائع، وبصبره العظيم حمى الله به دين الإسلام في ثباته في الردة ونشر الله به الإسلام في الأمم والدول والشعوب بحركة الفتوحات العظيمة التي لم يشهد لها التاريخ مثيل وأختم هذا الكتاب بقول أبي محمد عبدالله القحطاني الأندلسي:
قل إن خير الانبياء محمد
وأجلَّ من يَمشي على الكُثبان
وأجلَّ صَحْبِ الرُّسل صَحْب محمدٍ
وكذاك أفضل صحبه العمران( )
رجلان قد خُلقا لنصر محمد
بدمي ونفسي ذانك الرجلان
فهما اللّذان تظاهرا لنبيِّنا
في نصره وهما له صهران
بنتاهما أسن نساء نبينا
وهما له بالوحي صاحبتان
أبواهما أسْنَى صحابة أحمد
ياحبَّذا الأبوان والبنتان
وهما وزيره اللَّذان هُما هما
لفضائل الأعمال مُستَبِقانِ
وهما لأحمد ناظره وسمعه
وبقربه في القبر مُضطَجعَان
كانا على الإسلام اشفق أهله
وهما لدين محمد جَبَلانِ
أصفاهما أقواهُما أخشاهما
أتقاهما في السِّرِّ والإعلان
آسناهما أزكاهما أعلاهما
أوفاهما في الوزن والرُّجحان
صديق أحمد صاحب الغار الذي
هو في المغارة والنبيُّ اثنان
أعني أبا بكر الذي لم يختلف
من شرعنا في فضله رجلان
هو شيخ أصحاب النبي وخيرهم
وامامهم حقَّا بلا بطلان
وأبو المطهرة التي تنزيهها
قد جاءنا في النور والفرقان( )

(وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين)
(سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك)



الخلاصة

1-إن سيرة الخلفاء الراشدين وتاريخهم المجيد من أقوى مصادر الإيمان والعاطفة الإسلامية الصحيحة التي لاتزال هذه الأمة تقتبس منها شعلة الإيمان، وتحمل زاد الدعوة فتشعل أنوار الحق في قلوب الناس حتى لاتنطفئ بريح الهدم التي يوجهها أعداء الأمة ضد دعوتها وتاريخها.
2-إن المسلمين -بل الإنسانية كلها- أشد ماكانوا اليوم حاجة إلى معرفة فضائل أصحاب رسول الله ?، وكرم معدنهم، وأثر تربية رسول الله فيهم وماكانوا عليه من علو المنزلة التي صاروا بها الجيل المثالي الفذ في تاريخ البشر.
3-لقد تعرّض التاريخ الإسلامي في عمومه وتاريخ صدر الإسلام على الخصوص للتزوير والتشكيك والتحريف، والبتر والزيادة، وسوء التأويل من الروافض والمستشرقين والنصارى واليهود والعلمانيين، ولذلك أصبح من الفروض الكفائية على الأمة تصحيح الحقائق، فعلى كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام أن يعتبر ذلك من أفضل العبادات، وأن يبادر له ويجتهد فيه، مااستطاع حتى يكون أمام أبناء الأمة مثال صالح من سلفهم يقتدون به ويجددون عهده، ويصلحون من سيرتهم بالسير على منهجهم.
4-إن سيرة الصديق مليئة بالدروس والعبر، فهو أعظم شخصية في الإسلام بعد النبي ?، فقد كان هذا الصحابي الجليل قد اتصف بمكارم الأخلاق، والصفات الحميدة، منذ الجاهلية، فلم يعرف عنه أنه سجد لصنم، أو شرب الخمر،.
5-كان الصديق ? عالماً بالأنساب وكانت له مزية حببته إلى قلوب العرب وهي أنه لم يكن يعيب الأنساب، ولايذكر المثالب بخلاف غيره، فقد كان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما فيها من خير وشر، وقد اشتهر بالتجارة، وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم عرف به في الجاهلية.
6-كان أبو بكر كنزاً من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله إياه جعله من الموطئين أكنافاً من الذين يألفون ويؤلفون.
7-كان تحرك الصديق ? في الدعوة إلى الله يوضح صورة من صور الإيمان بهذا الدين، والاستجابة لله ورسوله صورة المؤمن الذي لايقر له قرار، ولايهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ماآمن به.
8-تعرّض الصديق للإبتلاء، فقد أوذي أبو بكر الصديق وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وحمل إلى بيته.
9-من صفات الصديق التي تميز بها: الجرأة والشجاعة، فقد كان لايهاب أحداً في الحق، ولاتأخذه لومة لائم في نصرة دين الله والعمل له والدفاع عن رسوله ?.
10-ساهم الصديق في سياسة فك رقاب المسلمين المعذبين واصبح هذا المنهج من ضمن الخطة التي تبنتها القيادة الإسلامية لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين فدّعم الدعوة بالمال والرجال والأفراد فراح يشتري العبيد والإماء المملوكين من المؤمنين والمؤمنات وأعتقهم لوجه الله.
11-استخدم الصديق ? علم الأنساب كوسيلة من وسائل الدعوة ولذلك كان مرافقاً لرسول الله أثناء دعوته للقبائل في أسواق العرب في المواسم.
12-رافق الصديق ? رسول الله في هجرته إلى المدينة فكان الساعد الأيمن لرسول الله منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته ?، فكان ? ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة: حكمة وإيماناً، ويقيناً، وعزيمة، وتقوى وإخلاصاً، فأثمرت هذه الصحبة، صلاحاً وصدِّيقية، ذكراً ويقظة حُباً وصفاء عزيمة وتصميماً، إخلاصاً وفهماً، فوقف مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله ? في سقيفة بني ساعدة وغيرها من المواقف كبعث جيش أسامة، وحروب الردة، فأصلح مافسد وبني ماهُدم، وجمع ماتفرق، وقوّم ماانحرف.
13-شهد أبو بكر مع النبي ? المشاهد كلها، ولم يفته منها مشهد، وثبت مع رسول الله يوم أحد حين انهزم الناس، ودفع إليه النبي ? رايته العظمى يوم تبوك وكانت سوداء.
14-كانت حياة الصديق في المجتمع المدني مليئة بالدروس والعبر وتركت لنا نموذجاً حياً لفهم الإسلام وتطبيقه في دنيا الناس، وقد تميزت شخصية الصديق بصفات عظيمة ومدحه رسول الله في أحاديث كثيرة وبين فضله وتقدمه على كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
15-كان إيمان الصديق بالله عظيماً، فقد فهم حقيقة الإيمان، وتغلغلت كلمة التوحيد في نفسه وقلبه وانعكست آثارها على جوارحه وعاش بتلك الآثار في حياته، فتحلى بالأخلاق الرفيعة وتطهر من الأخلاق الوضيعة وحرص على التمسك بشرع الله والاقتداء بهديه ?، وكان إيمانه بالله باعثاً له على الحركة والهمة والنشاط، والسعي والجهد والمجاهدة، والجهاد والتربية، والاستعلاء والعزة، وكان في قلبه من اليقين والإيمان شيء عظيم لايساويه فيه أحد من الصحابة.
16-كان الصديق من أعلم الناس بالله وأخوفهم له، وقد اتفق أهل السنة على أن أبا بكر أعلم الأمة، وحكي الإجماع على ذلك غير واحد، وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم والفضل ملازمته للنبي ?، فقد كان أدوم إجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً، وكان يسمر عند النبي ? بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين، وقد استعمله النبي ? على أول حجة حجت من مدينة النبي ? وعلم المناسك أدق مافي العبادات، ولولا سعت علمه لم يستعمله، وكذلك الصلاة استخلفه عليها ولولا علمه لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لافي حج ولافي صلاة، وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ماروي فيها، وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم في كتابة ماهو متقدم منسوخ، فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة، ولم يحفظ له قول يخالف فيه نصاً، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم.
17-لما مات رسول الله ? اضطرب الناس، فثبت الله الأمة بالصديق، فوقف موقفه العظيم وقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت، وظهر موقفه العظيم في سقيفة بني ساعدة حيث استطاع أن يقنع الأنصار بما رآه هو الحق من غير أن يعرّض المسلمين للفتنة فأثنى على الأنصار ببيان فضلهم من الكتاب والسنة، والثناء.
18-بايع سعد بن عبادة الصديق بالخلافة في أعقاب النقاش الذي دار في سقيفة بني ساعدة إذ أنه نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالخلافة، وكان ابن عمه بشير بن سعد الأنصاري أول من بايع الصديق بالخلافة في اجتماع السقيفة ولم يثبت النقل الصحيح أية أزمات لابسيطة ولاخطيرة، ولم يثبت أي انقسام أو فرق لكل منها مرشح يطمع في الخلافة كما زعم بعض كتاب التاريخ، ولكن الأخوة الإسلامية ظلت كما هي، بل ازدادت توثقاً كما يثبت النقل الصحيح.
19-وردت آيات كريمة وأحاديث نبوية شريفة أشارت إلى خلافة الصديق وأجمع أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي ? أبو بكر الصديق لفضله وسابقته ولتقديم النبي ? إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي ? مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة فأجمعوا على تقديمه في الخلافة.
20-الخلافة الإسلامية هي المنهج الذي اختارته الأمة الإسلامية وأجمعت عليه طريقة وأسلوباً للحكم، تنظم من خلاله أمورها وترعى مصالحها، وقد ارتبطت نشأة الخلافة بحاجة الأمة لها واقتناعها بها، ومن ثم كان إسراع المسلمين في اختيار خليفة لرسول الله ?، فالخلافة هي نظام حكم المسلمين وقد استمدت أصولها من دستور المسلمين، من القرآن الكريم ومن سنة النبي ?، وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلافة الإسلامية فقالوا بالشورى والبيعة وهما أصلان قد أشير إليهما في القرآن الكريم.
21-تحدث العلامة أبو الحسن الندوي عن شروط خلافة النبي، ومتطلباتها، وقد أثبت بالأدلة والحجج من خلال سيرة الصديق بأن أبا بكر كانت شروط خلافة النبي متحققة فيه.
22-بعد البيعة العامة للصديق ألقى خطبة على الأمة، تعتبر من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها فقد بين فيها منهجه لقيادة الدولة، وقرّر فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد.
23-أراد الصديق ? أن ينفذ السياسة التي رسمها لدولته واتخذ من الصحابة الكرام أعواناً يساعدونه على ذلك فجعل أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة (وزير المالية) فأسند إليه شؤون بيت المال، وتولى عمر بن الخطاب القضاء (وزارة العدل) وباشر الصديق القضاء بنفسه أيضا، وتولى زيد بن ثابت الكتابة (وزير البريد والمواصلات) وأحياناً يكتب له من يكون حاضراً من الصحابة كعلي بن أبي طالب، أو عثمان بن عفان رضي الله عنهم وأطلق المسلمون على الصديق لقب خليفة رسول الله، ورأى الصحابة ضرورة تفريغ الصديق لمنصب الخلافة وتكفلت الأمة بنفقاته الخاصة.
24-عاش الصديق بين المسلمين كخليفة لرسول الله، فكان لايترك فرصة تمر إلا علم الناس وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فكانت مواقفه تشع على من حوله من الرعية بالهدى والإيمان والأخلاق.
25-يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه، فكان العهد الراشدي عامة والجانب القضائي خاصة، امتداداً للقضاء في العهد النبوي مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ماثبت في العهد النبوي، وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه.
26-كان أبو بكر يستعمل الولاة في البلدان المختلفة ويعهد إليهم بالولاية العامة في الإدارة والحكم والإمامة، وجباية الصدقات، وسائر أنواع الولايات، وكان ينظر إلى حسن اختيار الرسول للأمراء والولاة على البلدان فيقتدي به في هذا العمل، ولهذا نجده قد أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول وهم على ولايتهم، ولم يعزل أحداً منهم إلا ليعينه في مكان آخر أكثر أهمية من موقعه الأول ويرضاه كما حدث لعمرو بن العاص، وكانت مسؤوليات الولاة في عهد أبي بكر الصديق بالدرجة الأولى امتداداً لصلاحيتهم في عصر الرسول ? خصوصاً الولاة الذين سبق تعيينهم أيام الرسول ?.
27-وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي على مبايعة الصديق رضي الله عنهما وكذا تأخر الزبير بن العوام وجُلّ هذه الأخبار ليس بصحيح إلا مارواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله، فقد كان انشغال جماعة من المهاجرين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب بأمر جهاز رسول الله من تغسيل، وتكفين وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول، وهو يوم الثلاثاء.
28-عندما سئل الصديق عن ميراث رسول الله قال للسيدة فاطمة والعباس عم النبي ? سمعت رسول الله يقول: لانورث ماتركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال وفي رواية قال أبو بكر ? ... لست تاركاً شيئاً كان رسول الله ? يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ، ومن الثابت تاريخياً أن أبا بكر دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقهم في فئ رسول الله في المدينة، ومن أموال فدك وخمس خيبر، إلا أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله.
29-بين الصديق في خطبته ? طبيعة خليفة رسول الله وأنه ليس خليفة عن الله، بل عن رسوله ?، وأنه بشر غير معصوم لايطيق ماكان رسول الله ? بنبوته ورسالته، فهو في سياسته متبع وليس بمبتدع.
30-من الدروس والعبر في بعث جيش أسامة ?، أن الأحوال تتغير وتتبدل والشدائد لاتشغل أهل الإيمان عن أمر الدين، والمسيرة الدعوية لاترتبط بأحد، ووجوب اتباع النبي ?، وحدوث الخلاف بين المؤمنين ورّده إلى الكتاب والسنة، وجعل الدعوة مقرونة بالعمل ومكانة الشباب في خدمة الإسلام، وروعة الآداب الإسلامية في الجهاد، وتحقيق جيش أسامة لأهدافه، فقد ضعفت جبهة الردة في الشمال وأصبحت من أضعف الجبهات.
31-إن الردة التي قامت بها القبائل العربية بعد وفاة رسول الله لها أسباب منها، هول الصدمة بموت رسول الله، ورقة الدين والسقم في فهم نصوصه، والحنين إلى الجاهلية، ومقارفة موبقاتها، والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، والعصبية القبلية، والطمع في الملك، والتكسب بالدين والشح بالمال، والتحاسد، والمؤثرات الأجنبية، كدور اليهود والنصارى والمجوس.
32-وأما أصناف الردة، فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلاً، وعاد إلى الوثنية، وعبادة الأصنام، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من عاد إلى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة، ولكنه امتنع عن أداء الزكاة، ومنهم من شمت بموت الرسول وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من تكون الدبرة وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير.
33-كان موقف الصديق ? من المرتدين لاهوادة فيه ولامساومة فيه ولاتنازل، يرجع إليه الفضل الأكبر-بعد الله تعالى- في سلامة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية ومحاولة نقض عرى الإسلام عروة عروة، موقف الانبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى أبو بكر حقّها واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث الله الأرض وأهلها.
34-إن من الحقائق الأساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة لكل الناس كشمولها الجغرافي، بل إن هناك قادة وقبائل وافراد وجماعات وأفراد تمسكوا بدينهم في كل منطقة.
35-في حروب الردة باليمن ظهرت صورتان مختلفتان للنساء، صورة المرأة الطاهرة العفيفة التي تقف مع الإسلام وتحارب الرذيلة وتقف مع المسلمين لكبح جماح شياطين الإنس والجن، مثل (آزاد) الفارسية زوج شهر بن باذان، وابنة عم فيروز الفارسي، وصورة أخرى كالحة مظلمة وهي ماقامت به بعض بنات اليمن من يهود ومن لف لفهم في حضرموت، فقد طرن فرحاً بموت رسول الله، فأقمن الليالي الحمراء مع المجان والفساق، يشجعن على الرذيلة ويزرين بالفضيلة، فقد رقص الشيطان فيها معهنّ وأتباعه طربا لنكوص الناس عن الإسلام والدعوة إلى التمرد عليه وحرب أهله.
36-كان بعض أهل اليمن لهم مواقف عظيمة في الثبات على الحق والدعوة إلى الإسلام وتحذير قومهم من خطورة الردة، ومن هؤلاء كان مران بن ذي عمير الهمداني أحد ملوك اليمن، وعبدالله بن مالك الأرحبي وكان من أصحاب النبي ? وشرحبيل بن السِّمط وابنه في بني معاوية من كندة.
37-بعد حروب الردة تجمعت اليمن تحت قيادة مركزية عاصمتها المدينة المنورة، وقسم اليمن إلى أقسام إدارية لاوحدات قبلية، فقد قسم إلى ثلاثة أقسام إدارية، صنعاء والجند وحضرموت، ولم تعد العصبية القبلية أساساً في الزعامة أو في التولية ولم تعد القبلية سوى وحدة عسكرية لاسياسية، وأصبحت المقاييس المعتبرة هي المقاييس الإيمانية، التقوى والإخلاص والعمل الصالح.
38-كان لهزيمة طليحة الأسدي في معركة بزاخه أثر كبير في رجوع كثير من القبائل إلى حظيرة الإسلام، فقد أقبلت بنو عامر بعد هزيمة بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا منه فبايعهم خالد على مابايع عليه أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيئ.
39-إن مقتل مالك بن نويرة بسبب كبره وتردده، فقد بقى للجاهلية في نفسه نصيب ولذلك ماطل في التبعية للقائم بأمر الإسلام بعد رسول الله، وفي تأدية حق بيت مال المسلمين عليه، المتمثل بالزكاة.
40-قام الصديق بالتحقيق في مقتل ابن نويرة وانتهى إلى براءة ساحة خالد من تهمة قتل مالك بن نويرة، فقد كان الصديق في هذا الشأن أكثر إطلاعاً على حقائق الأمور، وابعد نظراً في تصريفها من بقية الصحابة، لأنه الخليفة وإليه تصل الأخبار.
41-إن من كمال الصديق توليته لخالد واستعانته به، لأنه كان شديداً ليعتدل به أمره، ويخلط الشدة باللين، فإن مجرد اللين يفسد، ومجرد الشدة تفسد، فكان يقوم باستشارة عمر وباستنابة خالد وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله.
42-كان للمثنى بن حارثة دور كبير في إخماد فتنة البحرين والوقوف بقواته بجانب العلاء الحضرمي، وقد سار بجنوده من البحرين شمالاً ووضع يده على القطيف وهجر حتى بلغ مصب دجلة وقضى في سيره على قوات الفرس وعمالهم وقد كانت أخباره تصل إلى الصديق، وسأل عنه أصحابه فقال له قيس بن عاصم المنقري: هذا رجل غير خامل الذكر ولامجهول النسب ولاذليل العماد هذا المثنى بن حارثة الشيباني.
44-تعتبر هزيمة بني حنيفة في اليمامة أمام جيوش خالد قاصمة الظهر لحركة الردة، وكان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر ? بمشورة عمر بن الخطاب ? بجمع القرآن من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال، وأسند الصديق هذا العمل العظيم والمشروع الحضاري الضخم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري ?.
45-تحققت شروط التمكين ولوازمه كلها في عهد الصديق والخلفاء الراشدين من بعده وكان للصديق الفضل بعد الله في تذكير الأمة بهذه الشروط ولذلك رفض طلب الأعراب في وضع الزكاة عنهم، وأصّر على بعث جيش أسامة، والتزم بالشرع كاملاً ولم يتنازل عن صغيرة ولاكبيرة.
46-كان إعداد الصديق في حروب الردة شاملاً معنوياً ومادياً، فجيش الجيوش، وعقد الألوية، واختار القادة لحروب الردة، وراسل المرتدين، وحرّض الصحابة على قتالهم وجمع السلاح والخيل والإبل وجهز الغزاة، وحارب البدع، والجهل، والهوى، وحكّم الشريعة وأخذ بأصول الوحدة والاتحاد والاجتماع، وأخذ بمبدأ التفرغ وساهم في إحياء مبدأ التخصص، فخالد لقيادة الجيوش، وزيد بن ثابت لجمع القرآن، وأبو برزة الأسلمي للمراسلات الحربية واهتم بالجانب الأمني والإعلامي، وغير ذلك من الأسباب.
47-تظهر آثار تحكيم شرع الله في عصر الصديق في تمكين الله للصحابة، فقد حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسهم وأهليهم وأخلصوا لله في تحاكمهم إلى شرعه، فالله سبحانه وتعالى قواهم وشد أزرهم ونصرهم على المرتدين، ورزقهم الأمن والاستقرار.
48-كان الجهاد الذي خاضه الصحابة في حروب الردة إعداداً ربانياً للفتوحات الإسلامية حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات، وتفجرت الطاقات، واكتشفت قيادات ميدانية وتفنن القادة في الأساليب والخطط الحربية، وبرزت مؤهلات الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقاً والتفاني عظيماً.
49-توحدت شبه الجزيرة العربية -بفضل الله- ثم جهاد الصحابة مع الصديق -تحت راية الإسلام لأول مرة في تاريخها بزوال الرؤوس أو انتظامها ضمن المد الإسلامي، وبسطت عاصمة الإسلام -المدينة- هيمنتها على ربوع الجزيرة وأصبحت الأمة تسير وراء زعيم واحد بمبدأ واحد، بفكرة واحدة، فكان الانتصار انتصاراً للدعوة الإسلامية ولوحدة الأمة بتضامنها وتغلبها على عوامل التفكك والعصبية كما كانت برهاناً على أن الدولة الإسلامية بقيادة الصديق قادرة على التغلب على أعنف الأزمات.
50- اثبتت أحداث التاريخ أن أية محاولة للتمرد على دين الاسلام سواء أقام بها فرد أم جماعة، أم دولة إنما هي محاولة يائسة مآلها الإخفاق الذريع والخيبة الشنيعة، لأن التمرد، إنما هو تمرد على أمر الله المتمثل بكتابه الذي تكفل بحفظه، وحفظ جماعة تلتف حوله، وتقيمه في نفوسها وواقعها مدى الدهر، وبحكمه القاضي بالعاقبة للمتقين، وبالمن على المستضعفين أن يديل لهم من الظالمين.
51- ماإن انتهت حروب الردة واستقرت الأمور في الجزيرة العربية التي كانت ميداناً لها حتى شرع الصديق في تنفيذ خطة الفتوحات التي وضع معالمها رسول الله ?، فجيش الجيوش لفتح العراق والشام.
52- إن الأوامر التي وجهها الصديق الى قادة فتوح العراق (خالد وعياض) تشير الى الحس الاستراتيجي المتقدم الذي كان يملكه الصديق ?، فقد أعطى جملة تعليمات عسكرية استراتيجية منها وتكتيكية، فحدد لكل من القائدين المسلمين جغرافياً، منطقة للدخول الى العراق، كأنما هو يمارس القيادة من غرفة العلميات بالحجاز، وقد بسطت أمامه خارطة العراق بكل تضاريسها ومسالكها.
53- خاض خالد في العراق عدة معارك كانت السبب في فتح العراق، كمعركة ذات السلاسل، ومعركة المذار، الولجة، أليس، فتح الحيرة، الأنبار، عين التمر، دومة الجندل، وقعة الحصيد، وقعة المصيخ، وقعة الفراض.
54- عزم الصديق على فتح الشام فستشار كبار الصحابة ثم استنفر أهل اليمن للجهاد وعقد الألوية للقادة وأرسل أربعة جيوش لبلاد الشام وكان قادة الجيوش كل من ، يزيد بن أبي سفيان ، أبي عبيدة بن الجراح، عمرو بن العاص، شرحبيل بن حسنة.
55- كانت الجيوش المكلفة بفتح الشام تلاقي صعوبة في تنفيذ المهمات الموكلة إليها، فقد كانت تواجه جيوش الامبراطورية الرومانية التي تمتاز بقوتها وكثرة عددها فراسلوا الصديق وأعلموه بوضعهم الحرج، فأمر الصديق الجيوش بالإنسحاب الى اليرموك والتجمع هناك، وأمر خالد بالسير بنصف جيش العراق نحو جبهات الشام وأمره بقيادة الجيوش هناك.
56- استطاع خالد بن الوليد أن يحقق انتصارات عظيمة على جيوش الشام من أهمها معركة اجنادين واليرموك.
57- يمكن للباحث أن يستنبط أهم معالم السياسة الخارجية في دولة الصديق وهي، بذر هيبة الدولة في نفوس الأمم الأخرى، مواصلة الجهاد الذي أمر به الرسول ?، العدل بين الأمم المفتوحة والرفق بأهلها، رفع الإكراه عن الأمم المفتوحة، وإزالة الحواجز البشري بينهم وبين الاسلام.
58- إن المطالع للفتوحات في عهد الصديق ? يمكن له أن يستنتج خطوط رئيسية للخطة الحربية التي سار عليها، وكيف تعامل هذا الخليفة العظيم مع سنّة الأخذ بالأسباب؟ وكيف كانت هذه الخطة المحكمة عاملاً من عوامل نزول النصر والتمكين من الله عز وجل للمسلمين ومن هذه الخطوط مايلي: عدم الإيغال في بلاد العدو حتى تدين للمسلمين، التعبئة وحشد القوات، تنظيم عملية الإمداد للجيوش، تحديد الهدف من الحرب، إعطاء الأفضلية لمسارح العمليات، عزل ميدان المعركة، التطور في أساليب القتال، سلامة خطوط الاتصال مع القادة، ذكاء الخليفة وفطنته.
59- بين الصديق في توجيهاته للقادة والجنود حقوق الله تعالى، كمصابرة العدو، وأخلاص قتالهم لله، وأداء الأمانة، وعدم الممالئة والمحاباة في نصر دين الله، ووضع حقوق القادة على الجنود والرعية، كالتزام طاعته، والمسارعة الى امتثال أمره، وعدم مسارعته في شيء من قسمة الغنائم وغير ذلك من الحقوق وفصل الصديق ? من خلال وصاياه ورسائله في حقوق الجند، كستعراضهم، وتفقد أحوالهم، والرفق بهم في السير، وأن يقيم عليهم العرفاء والنقباء، واختيار مواضع نزولهم لمحاربة العدو، وإعداد مايحتاج إليه الجند من زاد وعلوفة، والتعرف على أخبار العدو بالجواسيس الثقات لسلامة الجند، وتحريضهم على الجهاد، وتذكريهم بثواب الله وفضل الشهادة، ومشاورة ذوي الرأي منهم، وأن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق، وأن ينهاهم عن الإشتغال عن الجهاد بزراعة أو تجارة، وكل هذه الحقوق قد استخرجت من رسائله ووصاياه للقادة.
60- إن المتأمل في حركة الفتح الاسلامي يرى توفيق الله تعالى لجيوش الخليفة أبي بكر ?، فقد استطاعت تلك الجيوش المظفرة أن تكسر شوكة الرومان والفرس وفتح تلك الديار في وقت قياسي في تاريخ الحروب ومن أهم أسباب تلك الفتوح؛ إيمان المسلمين بالحق الذي يقاتلون من أجله، تأصل الصفات الحربية في المسلمين، سماحة المسلمين وعدالتهم مع تلك الشعوب، رحمة المسلمين في تقدير الجزية والخراج ووفائهم بعهودهم، ثروة ا لمسلمين الواسعة من الرجال والقادة العظام، إحكام الخطة الاسلامية الحربية وغير ذلك من الأسباب.
61- عندما نزل المرض بالصديق وأشرف على الموت قام بعدة إجراءات عملية لتتم عملية اختيار الخليفة القادم وهي: استشار كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وبعد أن تم ترشيح الصديق لعمر ووافق معظم الصحابة على ذلك كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأمصار، وأخبر عمر بن الخطاب بخطواته القادمة وعرّفه ماعزم عليه وألزمه بذلك، وابلغ الناس بلسانه وأعيا مدركاً حتى لايحصل أي لبس، وتوجه بالدعاء الى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وكلف عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موته، وقام بتوجيه الفاروق عندما اختلى به.
62- إن الخطوات التي سار عليها أبوبكر الصديق في اختيار خليفته من بعده لاتتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه، وهكذا تم عقد الخلافة لعمر ? بالشورى والاتفاق ولم يرد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة.
63- خرج أبوبكر الصديق من هذه الدنيا بعد جهاد عظيم في سبيل نشر دين الله في الآفاق وستظل الحضارة الانسانية مدينة لهذا الشيخ الجليل الذي حمل لواء دعوة الرسول ? بعد وفاته وحمى غرسه عليه الصلاة والسلام، وقام برعاية بذور العدل والحرية وسقاها أزكى دماء الشهداء، فآتت من كل الثمرات عطاءً جزيلاً حقق عبر التاريخ تقدماً عظيماً في العلوم والثقافة والفكر، وستظل الحضارة مدينة للصديق، لأنه بجهاد الرائع، وبصبره العظيم حمى الله به دين الاسلام في ثباته في الردة ونشر اللله به الاسلام في الأمم والدول والشعوب بحركة الفتوحات العظيمة.
64- إن هذا المجهود المتواضع قابل للنقد والتوجيه وماهي إلا محاولة متواضعة هدفها معرفة حقيقة عصر الخلافة الراشدة لكي نستفيد منها في حركتنا المستمرة لتحكيم شرع الله ونشر دعوته في دنيا الناس وبيني وبين الناقد قول الشاعر:
إن تجد عيباً فسد الخللا
جلّ من لا عيب فيه وعلا
وأسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل هذا الجهد قبولاً حسناً وأن يبارك فيه وأن يجعله من أعمالي الصالحة التي أتقرب بها إليه وأن لايحرمني ولا إخواني الذين أعانوني على أكماله من الأجر والمثوبة ورفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة الحشر، الاية:10) وبقول الشاعر ابن الوردي لابنه:
اطلب العلم ولا تكسل فما
أبعد الخير على أهل الكسل
احتفل للفقه في الدين ولا
تشتغل عنه بمال وَحَولْ
واهجر النوم وحَصِّله فمن
يعرف المطلوب يحقر مابذل
لاتقل قد ذهبت اربابه
كل من سار على الدرب وصلْ
(سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)
(وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:42 pm

فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب



مقدمة



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102) ? (آل عمران،أية:102)
? يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1) ? (النساء،الآية:1)
? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) ?
(الأحزاب،الآية:70-71 ).

أما بعد :
هذا الكتاب ( الفاروق عمر بن الخطاب شخصيته وعصره )
يرجع الفضل في كتابته إلى المولى عز وجل ثم إلى مجموعة خيرة من العلماء والشيوخ والدعاة الذين شجعوني على المضي في دراسة عصر الخلفاء الراشدين حتى إن أحدهم قال لي: لقد أصبحت هناك فجوة بين أبناء المسلمين وذلك العصر، وحدث خلط في ترتيب الأوليات حيث صار الكثير من أبناء المسلمين يلمون بسيرة الدعاة والعلماء والمصلحين أكثر من إلمامهم بسيرة الخلفاء الراشدين، وأن ذلك العصر غني بالجوانب السياسية، والتربوية، والإعلامية، والأخلاقية، والاقتصادية، والفكرية، والجهادية والفقهية التي نحن في أشد الحاجة إليها ، ونحتاج أن نتتبع مؤسسات الدولة الاسلامية، وكيف تطورت مع مسيرة الزمن، كالمؤسسة القضائية والمالية ونظام الخلافة والمؤسسة العسكرية، وتعيين الولاة وما حدث من اجتهادات في ذلك العصر عندما احتكت الأمة الإسلامية بالحضارة الفارسية، والرومانية، وطبيعة حركة الفتوحات الإسلامية .
كانت بداية هذا الكتاب فكرة أراد الله لها أن تصبح حقيقة، فأخذ الله بيدي وسهل لي الأمور وذلل الصعاب، وأعانني على الوصول للمراجع والمصادر والفضل لله تعالى الذي أعانني على ذلك .
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر وهي متناثرة في بطون الكتب والمصادر والمراجع سواء كانت تاريخية أو حديثية أو فقهية أو أدبية أو تفسيرية أو كتب التراجم والجرح والتعديل فقمت بدراستها حسب وسعي وطاقتي فوجدت فيها مادة تاريخية غزيرة يصعب الوقوف على حقيقتها في الكتب التاريخية المعروفة والمتداولة، فقمت بجمعها وترتيبها وتوثيقها وتحليلها، وقد طبع الكتاب الأول عن الصديق رضي الله عنه وقد سميته (أبو بكر الصديق شخصيته وعصره).
وبفضل الله انتشر هذا الكتاب في المكاتب العربية والمعارض الدولية ووصل إلى كثير من القراء والدعاة والعلماء وطلاب العلم، وعوام المسلمين، فشجعوني على الاستمرار في دراسة عصر الخلفاء الراشدين ومحاولة تبسيطه وتقديمه للأمة في أسلوب يلائم العصر .
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين ملئ بالدروس والعبر، فإذا أحسنا عرضه وابتعدنا عن الروايات الضعيفة والموضوعة وعن كتب المستشرقين وأذنابهم من العلمانيين والروافض وغيرهم، واعتمدنا منهج أهل السنة في الدراسة نكون قد أسهمنا في صياغته بمنظور أهل السنة، وتعرفنا على حياة وعصر من قال الله فيهم? وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100) ? (التوبة،آية:100).
وقال تعالى : ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ? (الفتح،الآية:29) .
وقال فيهم رسول الله ? : (( خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ….))( )
وقال فيهم عبدالله بن مسعود ? : من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي
لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد ? كانوا والله أفضل هذه الأمة ،وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم( )، فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم ورووا السنن والآثار عن رسول الله ? ، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والجهاد، وحركة الفتوحات والتعامل مع الشعوب والأمم ، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح وهدي رشيد وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس ، وتستمد من ذلك العصر ما يغذي الأرواح، ويهذب النفوس، وينور العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العبر، وينضج الأفكار ويجد الدعاة والعلماء والشيوخ وأبناء الأمة ما يعينهم على إعداد الجيل المسلم وتربيته على منهاج النبوة ويتعرفوا على معالم الخلافة الراشدة وصفات قادتها وجيلها، وخصائصها وأسباب زوالها فهذا الكتاب الثاني عن عصر الخلفاء الراشدين يتحدث عن الفاروق عمر بن الخطاب ويتناول شخصيته وعصره ، فهو الخليفة الثاني وأفضل الصحابة الكرام بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً وقد حثنا رسول الله ? وأمرنا باتباع سنتهم والاهتداء بهديهم قال رسول الله ?:عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي( )فعمر ? خير الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر الصديق? وقد قال فيهما رسول الله ? : اقتدوا باللذين من بعدي ،أبي بكر وعمر( ). وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة في فضائل الفاروق? فقد قال رسول الله ? : لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر( ) وقال رسول الله ? : أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب ( )، فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له( ) ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقريا يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن( )وقد قال عمرو بن العاص? : قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة، قلت: يا رسول الله من الرجال؟ قال : أبوها قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب ثم عد رجالاً( ).
إن حياة الفاروق عمر بن الخطاب ? صفحة مشرقة من التاريخ الإسلامي الذي بهر كل تاريخ وفاقه والذي لم تحوِ تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى من الشرف والمجد والإخلاص والجهاد والدعوة في سبيل الله ولذلك قمت بتتبع أخباره وحياته وعصره في المصادر والمراجع واستخرجتها من بطون الكتب وقمت بترتيبها وتنسيقها وتوثيقها وتحليلها لكي تصبح في متناول الدعاة والخطباء والعلماء والساسة ورجال الفكر وقادة الجيوش وحكام الأمة وطلاب العلم وعامة الناس لعلهم يستفيدون منها في حياتهم ويقتدون بها في أعمالهم فيكرمهم الله بالفوز في الدراين.
لقد تتبعت حياة الفاروق منذ ولادته حتى استشهاده فتحدثت عن نسبه وأسرته وحياته في الجاهلية وعن إسلامه وهجرته وعن أثر القرآن الكريم وملازمته للنبي? في تربيته وصياغة شخصيته الإسلامية العظيمة وتكلمت عن مواقفه في الغزوات وفي المجتمع المدني في حياة الرسول ? والصديق ? وبينت قصة استخلافه ووضحت قواعد نظام حكمه كالشورى واقامة العدل والمساواة بين الناس واحترامه للحريات وأشرت إلى أهم صفات الفاروق وحياته مع أسرته واحترامه لأهل البيت وإلى حياته في المجتمع بعدما أصبح خليفة المسلمين كاهتمامه ورعايته لنساء المجتمع وحفظه لسوابق الخير لرعيته وحرصه على قضاء حوائج الناس وتربيته لبعض زعماء المجتمع وإنكاره لبعض التصرفات المنحرفة واهتمامه بصحة الرعية ونظام الحسبة. وبالأسواق والتجارة وحرصه على تحقيق مقاصد الشريعة في المجتمع كحماية جانب التوحيد ومحاربة الزيغ والبدع واهتمامه بأمر العبادات وحماية أعراض المجاهدين .
وتحدثت عن اهتمام الفاروق بالعلم وعن تتبعه للرعية بالتوجيه والتعليم في المدينة وجعله المدينةَ داراً للفتوى والفقه ومدرسة تخرج منها العلماء والدعاة والولاة والقضاة وبينت الأثر العمري في مدارس الأمصار كالمدرسة المكية والمدنية والبصرية والكوفية والشامية والمصرية فقد اهتم الفاروق بالكوادر العلمية المتخصصة وبعثها إلى الأمصار وأرشد القادة والأمراء مع توسع حركة الفتوحات إلى إقامة المساجد في الأقاليم المفتوحة لتكون مراكز للدعوة والتعليم والتربية ونشر الحضارة الإسلامية فقد كانت المساجد هي المؤسسات العلمية الأولى في الإسلام ومن خلالها تحرك علماء الصحابة لتعليم الشعوب الجديدة التي دخلت في الإسلام طواعية بدون ضغط أو إكراه وقد وصلت المساجد التي تقام فيها الجمعة في دولة عمر ? إلى اثني عشر ألف مسجد وقد كانت المؤسسات العلمية خلف مؤسسة الجيش التي قامت بفتح العراق وإيران والشام ومصر وبلاد المغرب وقد قاد هذه المؤسسات كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة تربت على يدي رسول الله ? في المدينة وقد استفاد الفاروق من هذه الطاقات فأحسن توجيهها ووضعها في محلها فأسست تلك الطاقات الكوادر للحركة العلمية والفقهية التي كانت مواكبة لحركة الفتح وتكلمت عن اهتمام الفاروق بالشعر والشعراء فقد كان عمر ? أكثر الخلفاء الراشدين ميلاً لسماع الشعر وتقويمه كما كان أكثرهم تمثلاً به حتى قيل: كان عمر بن الخطاب لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيتاً من الشعر وقد برع الفاروق في النقد الأدبي وكانت له مقاييس يحتكم إليها في تفضيله أو إيثاره نصاً على نص أو تقديمه شاعراً على غيره ومن هذه المقاييس سلامة العربية وأنس الألفاظ والبعد عن المعاضلة والتعقيد والوضوح والابانة وأن تكون الألفاظ بقدر المعاني وجمال اللفظة في موقعها وحسن التقسيم وكان? يمنع الشعراء من قول الهجاء أو ما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية واستخدم أساليب متعددة في تأديبهم منها أنه أشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم حتى قال ذلك الشاعر :

وأخذت أطراف الكلام فلم تدع
شتماً يضر ولا مديحاً ينفع

ومنعتني عرض البخيل فلم يخف
شتمي فأصبح آمناً لا يفزع


وتحدثت عن التطور العمراني وإدارة الأزمات في عهد عمر فبينت اهتمام الفاروق بالطرق ووسائل النقل البري والبحري وإنشاء الثغور والأمصار كقواعد عسكرية ومراكز إشعاع حضاري، وتكلمت عن نشأة المدن الكبرى في عهد عمر كالبصرة والكوفة والفسطاط، وسرت،وعن الاعتبارات العسكرية والاقتصادية التي وضعها الفاروق عند إنشاء المدن، وعن الأساليب التي اتخذها عمر في مواجهة عام الرمادة، وكيف جعل من نفسه للناس قدوة؟ وعن معسكرات اللاجئين في تلك السنة، وعن الاستعانة بأهل الأمصار، والاستعانة بالله وصلاة الاستسقاء، وعن بعض الاجتهادات الفقهية في عام الرمادة، كوقف إقامة حد السرقة، وتأخير دفع الزكاة في ذلك العام.
وأشرت إلى عام الطاعون وموقف الفاروق من هذا الوباء الذي كان سبباً في وفاة كبار قادة الجيش الإسلامي بالشام، وقد مات أكثر من عشرين ألفاً من المسلمين بسبب الطاعون، واختلت الموازين وضاعت المواريث، فذهب الفاروق إلى الشام وقسم الأرزاق وسمى الشواتي والصوائف وسد ثغور الشام ومسالحها وولى الولاة، ورتب أمور الجند والقادة والناس، وورّث الأحياء من الأموات.
ووضحت دور الفاروق في تطوير المؤسسة المالية والقضائية فتحدثت عن المؤسسة المالية، وعن مصادر دخل الدولة في عهد عمر رضي الله عنه، كالزكاة والجزية، والخراج، والعشور، والفيء والغنائم، وعن بيت مال المسلمين وتدوين الدواوين، وعن مصارف الدولة في عهد عمر وعن اجتهاد الفاروق في مسألة أرض الخراج وعن إصدار النقود الإسلامية، وبينت دور الفاروق في تطوير المؤسسة القضائية، وتكلمت عن أهم رسائل عمر إلى القضاة، وعن تعيين القضاة، ومرتباتهم وصفاتهم وما يجب عليهم، وعن مصادر الأحكام القضائية، والأدلة التي يعتمد عليها القاضي، وعن اجتهادات الفاروق القضائية كحكم تزوير الخاتم الرسمي للدولة، ورجل سرق من بيت المال بالكوفة، ومن جهل تحريم الزنا، وغيرها من الأحكام القضائية والفقهية ، وعن فقه عمر في التعامل مع الولاة، فبينت أقاليم الدولة في عهد عمر وأسماء من تولى إمارة الأقاليم في عصره، وعن أهم قواعد عمر في تعيين الولاة وشروطه عليهم ، وعن صفات ولاة عمر، وعن حقوق الولاة وواجباتهم، وعن متابعة الفاروق للولاة ومحاسبتهم، وعن تعامل الفاروق مع شكاوى الرعية في الولاة، وعن أنواع العقوبات التي أنزلها الفاروق بالولاة، وعن قصة عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعن عزله في المرتين الأولى والثانية، ومجمل أسباب عزله، وعن موقف المجتمع الإسلامي من قرار العزل، وعن موقف خالد بن الوليد من ذلك القرار وماذا قال عن الفاروق وهو على فراش الموت.
ووصفت فتوح العراق وإيران والشام ومصر وليبيا في عهد الفاروق ووقفت مع الدروس والعبر والفوائد والسنن في تلك الفتوح، وسلطت الأضواء على الرسائل التي كانت بين الفاروق وقادة جيوشه واستخرجت منها مادة علمية تربوية في توجيه الشعوب وبناء الدول، وتربية المجتمعات وترشيد القادة ، وفنون القتال، واستنبطت من رسائل عمر إلى القادة حقوق الله كمصابرة العدو، وأن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله ، وأداء الأمانة وعدم المحاباة في نصر دين الله، وحقوق القادة، كالتزام طاعتهم، وامتثال أوامراهم، وحقوق الجند، كاستعراضهم وتفقد أحوالهم، والرفق بهم في السير، وتحريضهم على القتال…إلخ.
وتكلمت عن علاقة عمر مع الملوك وعن نتائج الفتوحات العمرية وعن الأيام الأخيرة في حياة الفاروق وعن فهمه لفقه القدوم على الله الذي كان مهيمناً على نفسه ومتغلغلاً في قلبه منذ إسلامه حتى استشهاده ـ لقد حاولت في هذا الكتاب أن أُبين كيف فهم الفاروق الإسلام وعاش به في دنيا الناس، وكيف أثر في مجريات الأمور في عصره، وتحدثت عن جوانب شخصيته المتعددة السياسية، والعسكرية، والإدارية والقضائية، وعن حياته في المجتمع لمَّا كان أحد رعاياه وبعد أن تولى الخلافة بعد الصديق، وركّزت على دوره في تطوير المؤسسات المالية والقضائية والإدارية والعسكرية.
إن هذا الكتاب يبرهن على عظمة الفاروق ، ويثبت للقارئ بأنه كان عظيماً بإيمانه، عظيماً بعلمه، عظيماً بفكره عظيماً ببيانه، عظيماً بخلقه ـ عظيماً بآثاره ـ فقد جمع الفاروق العظمة من أطرافها وكانت عظمته مستمدة من فهمه وتطبيقه للإسلام وصلته العظيمة بالله واتباعه لهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
إن الفاروق من الأئمة الذي يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذا الحياة، فسيرته من أقوى مصادر الإيمان، والعاطفة الإسلامية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين، فما أحوج الأمة الإسلامية إلى الرجال الأكفاء الذي يقتدون بالصحابة الكرام ويجسّدون المعاني السامية ـ فيحيونها بتضحيات يراها الناس ويحسُّون بها، فإن تاريخ الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام يظل مذكراً للأمة عبر الأجيال، ويكون الانتفاع به بالتأسيِّ بأولئك العظماء وتطبيق تلك المواقف الكريمة من عظماء الرجال الذي يشاركون أفراد الأمة في ظروف الحياة المعاصرة حتى لا يظن ظان أن هذه المواقف والدروس والعبر، إنما كانت في عصور ملائمة لوجودها وأن تكرارها يتطلب ظروفاً حياتية مشابهة والحقيقة تقول إنه كلما قويَ المحرك الإيماني واتضح فقه القدوم على الله وحرص المسلمون على العمل به، فإن الله يتكفل بنصر أوليائه وتسخير ظروف الحياة لصالحهم.
هذا وقد اجتهدت في دارسة شخصية الفاروق وعصره حسب وسعي وطاقتي، غير مدع عصمة، ولا متبرئ من زلة ووجه الله العظيم لا غيره قصدت، وثوابه أردت، وهو المسؤول في المعونة عليه، والانتفاع به إنه طيب الأسماء، سميع الدعاء.

هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة السابعة وخمس دقائق صباحاً بتاريخ 13 رمضان 1422هـ ـ الموافق 28/نوفمبر/ 2001م والفضل لله من قبل ومن بعد، واسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده ـ قال تعالى:? مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2) ? (فاطر،آية:2).
ولايسعني في نهاية هذه المقدمة إلا أن أقف بقلب خاشع منيب بين يدى الله عز وجل، معترفاً بفضله وكرمه وجوده، فهو المتفضل وهو المكرم وهو المعين وهو الموفِّق ، فله الحمد على ما منّ به عليّ أولاً وآخراً، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذي أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه قال تعالى:? رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19) ? (النمل،آية:19)

سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:46 pm

فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب



مقدمة



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102) ? (آل عمران،أية:102)
? يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1) ? (النساء،الآية:1)
? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) ?
(الأحزاب،الآية:70-71 ).

أما بعد :
هذا الكتاب ( الفاروق عمر بن الخطاب شخصيته وعصره )
يرجع الفضل في كتابته إلى المولى عز وجل ثم إلى مجموعة خيرة من العلماء والشيوخ والدعاة الذين شجعوني على المضي في دراسة عصر الخلفاء الراشدين حتى إن أحدهم قال لي: لقد أصبحت هناك فجوة بين أبناء المسلمين وذلك العصر، وحدث خلط في ترتيب الأوليات حيث صار الكثير من أبناء المسلمين يلمون بسيرة الدعاة والعلماء والمصلحين أكثر من إلمامهم بسيرة الخلفاء الراشدين، وأن ذلك العصر غني بالجوانب السياسية، والتربوية، والإعلامية، والأخلاقية، والاقتصادية، والفكرية، والجهادية والفقهية التي نحن في أشد الحاجة إليها ، ونحتاج أن نتتبع مؤسسات الدولة الاسلامية، وكيف تطورت مع مسيرة الزمن، كالمؤسسة القضائية والمالية ونظام الخلافة والمؤسسة العسكرية، وتعيين الولاة وما حدث من اجتهادات في ذلك العصر عندما احتكت الأمة الإسلامية بالحضارة الفارسية، والرومانية، وطبيعة حركة الفتوحات الإسلامية .
كانت بداية هذا الكتاب فكرة أراد الله لها أن تصبح حقيقة، فأخذ الله بيدي وسهل لي الأمور وذلل الصعاب، وأعانني على الوصول للمراجع والمصادر والفضل لله تعالى الذي أعانني على ذلك .
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر وهي متناثرة في بطون الكتب والمصادر والمراجع سواء كانت تاريخية أو حديثية أو فقهية أو أدبية أو تفسيرية أو كتب التراجم والجرح والتعديل فقمت بدراستها حسب وسعي وطاقتي فوجدت فيها مادة تاريخية غزيرة يصعب الوقوف على حقيقتها في الكتب التاريخية المعروفة والمتداولة، فقمت بجمعها وترتيبها وتوثيقها وتحليلها، وقد طبع الكتاب الأول عن الصديق رضي الله عنه وقد سميته (أبو بكر الصديق شخصيته وعصره).
وبفضل الله انتشر هذا الكتاب في المكاتب العربية والمعارض الدولية ووصل إلى كثير من القراء والدعاة والعلماء وطلاب العلم، وعوام المسلمين، فشجعوني على الاستمرار في دراسة عصر الخلفاء الراشدين ومحاولة تبسيطه وتقديمه للأمة في أسلوب يلائم العصر .
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين ملئ بالدروس والعبر، فإذا أحسنا عرضه وابتعدنا عن الروايات الضعيفة والموضوعة وعن كتب المستشرقين وأذنابهم من العلمانيين والروافض وغيرهم، واعتمدنا منهج أهل السنة في الدراسة نكون قد أسهمنا في صياغته بمنظور أهل السنة، وتعرفنا على حياة وعصر من قال الله فيهم? وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100) ? (التوبة،آية:100).
وقال تعالى : ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ? (الفتح،الآية:29) .
وقال فيهم رسول الله ? : (( خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ….))( )
وقال فيهم عبدالله بن مسعود ? : من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي
لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد ? كانوا والله أفضل هذه الأمة ،وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم( )، فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم ورووا السنن والآثار عن رسول الله ? ، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والجهاد، وحركة الفتوحات والتعامل مع الشعوب والأمم ، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح وهدي رشيد وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس ، وتستمد من ذلك العصر ما يغذي الأرواح، ويهذب النفوس، وينور العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العبر، وينضج الأفكار ويجد الدعاة والعلماء والشيوخ وأبناء الأمة ما يعينهم على إعداد الجيل المسلم وتربيته على منهاج النبوة ويتعرفوا على معالم الخلافة الراشدة وصفات قادتها وجيلها، وخصائصها وأسباب زوالها فهذا الكتاب الثاني عن عصر الخلفاء الراشدين يتحدث عن الفاروق عمر بن الخطاب ويتناول شخصيته وعصره ، فهو الخليفة الثاني وأفضل الصحابة الكرام بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً وقد حثنا رسول الله ? وأمرنا باتباع سنتهم والاهتداء بهديهم قال رسول الله ?:عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي( )فعمر ? خير الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر الصديق? وقد قال فيهما رسول الله ? : اقتدوا باللذين من بعدي ،أبي بكر وعمر( ). وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة في فضائل الفاروق? فقد قال رسول الله ? : لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر( ) وقال رسول الله ? : أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب ( )، فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له( ) ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقريا يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن( )وقد قال عمرو بن العاص? : قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة، قلت: يا رسول الله من الرجال؟ قال : أبوها قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب ثم عد رجالاً( ).
إن حياة الفاروق عمر بن الخطاب ? صفحة مشرقة من التاريخ الإسلامي الذي بهر كل تاريخ وفاقه والذي لم تحوِ تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى من الشرف والمجد والإخلاص والجهاد والدعوة في سبيل الله ولذلك قمت بتتبع أخباره وحياته وعصره في المصادر والمراجع واستخرجتها من بطون الكتب وقمت بترتيبها وتنسيقها وتوثيقها وتحليلها لكي تصبح في متناول الدعاة والخطباء والعلماء والساسة ورجال الفكر وقادة الجيوش وحكام الأمة وطلاب العلم وعامة الناس لعلهم يستفيدون منها في حياتهم ويقتدون بها في أعمالهم فيكرمهم الله بالفوز في الدراين.
لقد تتبعت حياة الفاروق منذ ولادته حتى استشهاده فتحدثت عن نسبه وأسرته وحياته في الجاهلية وعن إسلامه وهجرته وعن أثر القرآن الكريم وملازمته للنبي? في تربيته وصياغة شخصيته الإسلامية العظيمة وتكلمت عن مواقفه في الغزوات وفي المجتمع المدني في حياة الرسول ? والصديق ? وبينت قصة استخلافه ووضحت قواعد نظام حكمه كالشورى واقامة العدل والمساواة بين الناس واحترامه للحريات وأشرت إلى أهم صفات الفاروق وحياته مع أسرته واحترامه لأهل البيت وإلى حياته في المجتمع بعدما أصبح خليفة المسلمين كاهتمامه ورعايته لنساء المجتمع وحفظه لسوابق الخير لرعيته وحرصه على قضاء حوائج الناس وتربيته لبعض زعماء المجتمع وإنكاره لبعض التصرفات المنحرفة واهتمامه بصحة الرعية ونظام الحسبة. وبالأسواق والتجارة وحرصه على تحقيق مقاصد الشريعة في المجتمع كحماية جانب التوحيد ومحاربة الزيغ والبدع واهتمامه بأمر العبادات وحماية أعراض المجاهدين .
وتحدثت عن اهتمام الفاروق بالعلم وعن تتبعه للرعية بالتوجيه والتعليم في المدينة وجعله المدينةَ داراً للفتوى والفقه ومدرسة تخرج منها العلماء والدعاة والولاة والقضاة وبينت الأثر العمري في مدارس الأمصار كالمدرسة المكية والمدنية والبصرية والكوفية والشامية والمصرية فقد اهتم الفاروق بالكوادر العلمية المتخصصة وبعثها إلى الأمصار وأرشد القادة والأمراء مع توسع حركة الفتوحات إلى إقامة المساجد في الأقاليم المفتوحة لتكون مراكز للدعوة والتعليم والتربية ونشر الحضارة الإسلامية فقد كانت المساجد هي المؤسسات العلمية الأولى في الإسلام ومن خلالها تحرك علماء الصحابة لتعليم الشعوب الجديدة التي دخلت في الإسلام طواعية بدون ضغط أو إكراه وقد وصلت المساجد التي تقام فيها الجمعة في دولة عمر ? إلى اثني عشر ألف مسجد وقد كانت المؤسسات العلمية خلف مؤسسة الجيش التي قامت بفتح العراق وإيران والشام ومصر وبلاد المغرب وقد قاد هذه المؤسسات كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة تربت على يدي رسول الله ? في المدينة وقد استفاد الفاروق من هذه الطاقات فأحسن توجيهها ووضعها في محلها فأسست تلك الطاقات الكوادر للحركة العلمية والفقهية التي كانت مواكبة لحركة الفتح وتكلمت عن اهتمام الفاروق بالشعر والشعراء فقد كان عمر ? أكثر الخلفاء الراشدين ميلاً لسماع الشعر وتقويمه كما كان أكثرهم تمثلاً به حتى قيل: كان عمر بن الخطاب لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيتاً من الشعر وقد برع الفاروق في النقد الأدبي وكانت له مقاييس يحتكم إليها في تفضيله أو إيثاره نصاً على نص أو تقديمه شاعراً على غيره ومن هذه المقاييس سلامة العربية وأنس الألفاظ والبعد عن المعاضلة والتعقيد والوضوح والابانة وأن تكون الألفاظ بقدر المعاني وجمال اللفظة في موقعها وحسن التقسيم وكان? يمنع الشعراء من قول الهجاء أو ما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية واستخدم أساليب متعددة في تأديبهم منها أنه أشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم حتى قال ذلك الشاعر :

وأخذت أطراف الكلام فلم تدع
شتماً يضر ولا مديحاً ينفع

ومنعتني عرض البخيل فلم يخف
شتمي فأصبح آمناً لا يفزع


وتحدثت عن التطور العمراني وإدارة الأزمات في عهد عمر فبينت اهتمام الفاروق بالطرق ووسائل النقل البري والبحري وإنشاء الثغور والأمصار كقواعد عسكرية ومراكز إشعاع حضاري، وتكلمت عن نشأة المدن الكبرى في عهد عمر كالبصرة والكوفة والفسطاط، وسرت،وعن الاعتبارات العسكرية والاقتصادية التي وضعها الفاروق عند إنشاء المدن، وعن الأساليب التي اتخذها عمر في مواجهة عام الرمادة، وكيف جعل من نفسه للناس قدوة؟ وعن معسكرات اللاجئين في تلك السنة، وعن الاستعانة بأهل الأمصار، والاستعانة بالله وصلاة الاستسقاء، وعن بعض الاجتهادات الفقهية في عام الرمادة، كوقف إقامة حد السرقة، وتأخير دفع الزكاة في ذلك العام.
وأشرت إلى عام الطاعون وموقف الفاروق من هذا الوباء الذي كان سبباً في وفاة كبار قادة الجيش الإسلامي بالشام، وقد مات أكثر من عشرين ألفاً من المسلمين بسبب الطاعون، واختلت الموازين وضاعت المواريث، فذهب الفاروق إلى الشام وقسم الأرزاق وسمى الشواتي والصوائف وسد ثغور الشام ومسالحها وولى الولاة، ورتب أمور الجند والقادة والناس، وورّث الأحياء من الأموات.
ووضحت دور الفاروق في تطوير المؤسسة المالية والقضائية فتحدثت عن المؤسسة المالية، وعن مصادر دخل الدولة في عهد عمر رضي الله عنه، كالزكاة والجزية، والخراج، والعشور، والفيء والغنائم، وعن بيت مال المسلمين وتدوين الدواوين، وعن مصارف الدولة في عهد عمر وعن اجتهاد الفاروق في مسألة أرض الخراج وعن إصدار النقود الإسلامية، وبينت دور الفاروق في تطوير المؤسسة القضائية، وتكلمت عن أهم رسائل عمر إلى القضاة، وعن تعيين القضاة، ومرتباتهم وصفاتهم وما يجب عليهم، وعن مصادر الأحكام القضائية، والأدلة التي يعتمد عليها القاضي، وعن اجتهادات الفاروق القضائية كحكم تزوير الخاتم الرسمي للدولة، ورجل سرق من بيت المال بالكوفة، ومن جهل تحريم الزنا، وغيرها من الأحكام القضائية والفقهية ، وعن فقه عمر في التعامل مع الولاة، فبينت أقاليم الدولة في عهد عمر وأسماء من تولى إمارة الأقاليم في عصره، وعن أهم قواعد عمر في تعيين الولاة وشروطه عليهم ، وعن صفات ولاة عمر، وعن حقوق الولاة وواجباتهم، وعن متابعة الفاروق للولاة ومحاسبتهم، وعن تعامل الفاروق مع شكاوى الرعية في الولاة، وعن أنواع العقوبات التي أنزلها الفاروق بالولاة، وعن قصة عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعن عزله في المرتين الأولى والثانية، ومجمل أسباب عزله، وعن موقف المجتمع الإسلامي من قرار العزل، وعن موقف خالد بن الوليد من ذلك القرار وماذا قال عن الفاروق وهو على فراش الموت.
ووصفت فتوح العراق وإيران والشام ومصر وليبيا في عهد الفاروق ووقفت مع الدروس والعبر والفوائد والسنن في تلك الفتوح، وسلطت الأضواء على الرسائل التي كانت بين الفاروق وقادة جيوشه واستخرجت منها مادة علمية تربوية في توجيه الشعوب وبناء الدول، وتربية المجتمعات وترشيد القادة ، وفنون القتال، واستنبطت من رسائل عمر إلى القادة حقوق الله كمصابرة العدو، وأن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله ، وأداء الأمانة وعدم المحاباة في نصر دين الله، وحقوق القادة، كالتزام طاعتهم، وامتثال أوامراهم، وحقوق الجند، كاستعراضهم وتفقد أحوالهم، والرفق بهم في السير، وتحريضهم على القتال…إلخ.
وتكلمت عن علاقة عمر مع الملوك وعن نتائج الفتوحات العمرية وعن الأيام الأخيرة في حياة الفاروق وعن فهمه لفقه القدوم على الله الذي كان مهيمناً على نفسه ومتغلغلاً في قلبه منذ إسلامه حتى استشهاده ـ لقد حاولت في هذا الكتاب أن أُبين كيف فهم الفاروق الإسلام وعاش به في دنيا الناس، وكيف أثر في مجريات الأمور في عصره، وتحدثت عن جوانب شخصيته المتعددة السياسية، والعسكرية، والإدارية والقضائية، وعن حياته في المجتمع لمَّا كان أحد رعاياه وبعد أن تولى الخلافة بعد الصديق، وركّزت على دوره في تطوير المؤسسات المالية والقضائية والإدارية والعسكرية.
إن هذا الكتاب يبرهن على عظمة الفاروق ، ويثبت للقارئ بأنه كان عظيماً بإيمانه، عظيماً بعلمه، عظيماً بفكره عظيماً ببيانه، عظيماً بخلقه ـ عظيماً بآثاره ـ فقد جمع الفاروق العظمة من أطرافها وكانت عظمته مستمدة من فهمه وتطبيقه للإسلام وصلته العظيمة بالله واتباعه لهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
إن الفاروق من الأئمة الذي يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذا الحياة، فسيرته من أقوى مصادر الإيمان، والعاطفة الإسلامية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين، فما أحوج الأمة الإسلامية إلى الرجال الأكفاء الذي يقتدون بالصحابة الكرام ويجسّدون المعاني السامية ـ فيحيونها بتضحيات يراها الناس ويحسُّون بها، فإن تاريخ الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام يظل مذكراً للأمة عبر الأجيال، ويكون الانتفاع به بالتأسيِّ بأولئك العظماء وتطبيق تلك المواقف الكريمة من عظماء الرجال الذي يشاركون أفراد الأمة في ظروف الحياة المعاصرة حتى لا يظن ظان أن هذه المواقف والدروس والعبر، إنما كانت في عصور ملائمة لوجودها وأن تكرارها يتطلب ظروفاً حياتية مشابهة والحقيقة تقول إنه كلما قويَ المحرك الإيماني واتضح فقه القدوم على الله وحرص المسلمون على العمل به، فإن الله يتكفل بنصر أوليائه وتسخير ظروف الحياة لصالحهم.
هذا وقد اجتهدت في دارسة شخصية الفاروق وعصره حسب وسعي وطاقتي، غير مدع عصمة، ولا متبرئ من زلة ووجه الله العظيم لا غيره قصدت، وثوابه أردت، وهو المسؤول في المعونة عليه، والانتفاع به إنه طيب الأسماء، سميع الدعاء.

هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة السابعة وخمس دقائق صباحاً بتاريخ 13 رمضان 1422هـ ـ الموافق 28/نوفمبر/ 2001م والفضل لله من قبل ومن بعد، واسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده ـ قال تعالى:? مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2) ? (فاطر،آية:2).
ولايسعني في نهاية هذه المقدمة إلا أن أقف بقلب خاشع منيب بين يدى الله عز وجل، معترفاً بفضله وكرمه وجوده، فهو المتفضل وهو المكرم وهو المعين وهو الموفِّق ، فله الحمد على ما منّ به عليّ أولاً وآخراً، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذي أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه قال تعالى:? رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19) ? (النمل،آية:19)

سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:47 pm

الفصل الأول
عمر رضي الله عنه بمكة

المبحث الأول: اسمه ونسبه وكنيته وصفته وأسرته وحياته في الجاهلية:

أولاً: اسمه ونسبه وكنيته وألقابه:
هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزَّى بن رياح بن عبد الله بن قرُط بن رَزاح بن عدي بن كعب بن لؤي( )، بن غالب القرشي العدوي( )، يجتمع نسبه مع رسول الله ? في كعب بن لؤي بن غالب( )، ويكنى أبا حفص( )، ولقب بالفاروق( )، لأنه أظهر الإسلام بمكة ففرّق الله به بين الكفر والإيمان( ).

ثانياً: مولده وصفته الخَلْقية:
ولد عمر رضي الله عنه بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة( ) وأما صفته الخَلْقية، فكان رضي الله عنه، أبيض أمهق، تعلوه حمرة، حسن الخدين والأنف والعينين، غليظ القدمين والكفين، مجدول اللحم، وكان طويلاً جسيماً أصلع، قد فرع الناس، كأنه راكب على دابة، وكان قوياً شديداً، لا واهناً ولا ضعيفاً( )، وكان يخضب بالحناء، وكان طويل السَّبلة( ) وكان إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع( ).

ثالثاً: أسرته:
أما والده، فهو الخطاب بن نفيل، فقد كان جد عمر نفيل بن عبد العزى ممن تتحاكم إليه قريش( )، وأما والدته فهي حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، وقيل بنت هاشم أخت أبي جهل( )، والذي عليه أكثر المؤرخين هو أنها بنت هاشم ابنة عم أبي جهل بن هشام( )، وأما زوجاته وأبناؤه وبناته؛ فقد تزوج في الجاهلية زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، فولدت له عبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة، وتزوج مليكة بنت جرول، فولدت له عبيد الله، فطلقها في الهدنة، فخلف عليها أبو الجهم بن حذيفة، وتزوج قُرَيْبة بنت أبي أمية المخزومي، ففارقها في الهدنة، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر، وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد زوجها عكرمة بن
أبي جهل حين قتل في الشام( )، فولدت له فاطمة، ثم طلقها وقيل لم يطلقها( )، وتزوج جميلة بنت( ) عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح من الأوس، وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر( )، ولما قتل عمر تزوجها بعده الزبير بن العوام رضي الله عنه، ويقال هي أم ابنه عياض، فالله أعلم.
وكان قد خطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق، وهي صغيرة وراسل فيها عائشة فقالت أمُّ كلثوم: لا حاجة لي فيه، فقالت عائشة أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إنه خشن العيش، فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص، فصدّه عنها ودلّه على
أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله ?، وقال: تعلق منها بسبب من رسول الله ?، فخطبها من علي فزوجه أياها فأصدقها عمر رضي الله عنه أربعين ألفاً، فولدت له زيداً ورقية( )، وتزوج لُهْيَة امرأة من اليمن فولدت له عبد الرحمن الأصغر، وقيل الأوسط. وقال الواقدي: هي أم ولد وليست بزوجة( )، قالوا: وكانت عنده فكيهة أم ولد، فولدت له زينب قال الواقدي: وهي أصغر ولده( )، فجملة أولاده رضي الله عنه ثلاثة عشر ولداً، وهم زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأوسط، وعبد الرحمن الأصغر، وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقية، وزينب، وفاطمة رضي الله عنهم، ومجموع نسائه اللاتي تزوجهن في الجاهلية والإسلام ممن طلقهن أو مات عنهن سبع( )، وكان رضي الله عنه يتزوج من أجل الانجاب، والإكثار من الذرية، فقد قال رضي الله عنه: ما آتي النساء للشهوة، ولولا الولد، ما باليت ألا أرى امرأة بعيني( )، وقال رضي الله عنه: إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبحه وتذكره( ).

رابعاً: حياته في الجاهلية:
أمضى عمر في الجاهلية شطراً من حياته، ونشأ كأمثاله من أبناء قريش، وامتاز عليهم بأنه كان ممن تعلموا القراءة وهؤلاء كانوا قليلين جداً( )، وقد حمل المسؤولية صغيراً، ونشأ نشأة غليظة شديدة، لم يعرف فيها ألوان الترف، ولا مظاهر الثروة ودفعه أبوه الخطاب في غلظة وقسوة إلى المراعي يرعى إبله، وتركت هذه المعاملة القاسية من أبيه أثراً سيئاً في نفس عمر رضي الله عنه، فظل يذكرها طيلة حياته، فهذا عبد الرحمن بن حاطب يحدثنا عن ذلك فيقول: كنت مع عمر بن الخطاب بضجنان( )، فقال: كنت أرعى للخطاب بهذا المكان، فكان فظاً غليظاً فكنت أرعى أحياناً وأحتطب أحياناً.. ( ) ولأن هذه الفترة كانت قاسية في حياة عمر، فإنه كان يكثر من ذكرها فيحدثنا سعيد بن المسيب رحمه الله قائلاً: حجّ عمر، فلما كان بضجنان قال: لا إله إلا الله العلي العظيم، المعطي ما شاء، لمن شاء. كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي، في مدرعة صوف، وكان فظاً، يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت ليس بيني وبين الله أحد، ثم تمثل:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويُردى المال والولد

لم تُغن عن هرمز يوماً خزائنه
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
والإنس والجن فيما بينها بردُ

أين الملوك التي كانت نواهلها
من كل أوب إليها راكب يفد

حوضاً هنالك، مورود بلا كذب
لابد من ورده يوماً كما وردوا( )


ولم يكن ابن الخطاب رضي الله عنه يرعى لأبيه وحده بل كان يرعى لخالات له من بني مخزوم وذكر لنا ذلك عن عمر رضي الله عنه نفسه حين حدثته نفسه يوماً وهو أمير المؤمنين أنه أصبح أميراً للمؤمنين فمن ذا أفضل منه... ولكي يُعرِّف نفسه قدرها – كما ظن – وقف يوماً بين المسلمين يعلن أنه لم يكن إلا راعي غنم، يرعى لخالات له من بني مخزوم يقول محمد بن عمر المخزومي عن أبيه: نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس، وكبروا، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم قال: أيها الناس.. لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر أو الزبيب، فأظل يومي
وأي يوم!!
ثم نزل، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمّأت نفسك – عبْتَ – فقال: ويحك يا ابن عوف!! إني خلوت فحدثتني نفسي، قال: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟!
فأردت أن أعرفها نفسها وفي رواية: إني وجدت في نفسي شيئاً، فأردت أن أطأطئ منها( ).
ولا شك أن هذه الحرفة – الرعي – التي لازمت عمر بن الخطاب في مكة قبل أن يدخل الإسلام قد أكسبته صفات جميلة كقوة التحمل، والجلد وشدة البأس، ولم يكن رعي الغنم هو شغل ابن الخطاب في جاهليته( )، بل حذق من أول شبابه ألواناً من رياضة البدن، فحذق المصارعة، وركوب الخيل والفروسية، وتذوق الشعر ورواه( )، وكان يهتم بتاريخ قومه وشؤونهم، وحرص على الحضور في أسواق العرب الكبرى، كـ ((عكاظ)) و((مجنة)) و((ذي المجاز)) واستفاد منها في التجارة ومعرفة تاريخ العرب وما حدث بين القبائل من وقائع ومفاخرات ومنافرات حيث تعرض تلك الأحداث في إطار آثار أدبية يتناولها كبار الأدباء بالنقد على مرأى ومسمع من ملء القبائل وأعيانها مما جعل التاريخ العربي عرضاً دائم الحركة لا ينسدل عليه ستار النسيان، وربما تطاير شرر الحوادث فكانت الحرب وكانت عكاظ – بالذات – سبباً مباشراً في حروب أربع سميت حروب الفجار( ).
واشتغل عمر رضي الله عنه بالتجارة وربح منها ما جعله من أغنياء مكة، وكسب معارف متعددة من البلاد التي زارها للتجارة، فرحل إلى الشام صيفاً وإلى اليمن شتاءً( ) واحتل مكانةً بارزة في المجتمع المكي الجاهلي، وأسهم بشكل فعَّال في أحداثه، وساعده تاريخ أجداده المجيد، فقد كان جده نفيل بن عبدالعزى تحتكم إليه قريش في خصوماتها( )، فضلاً عن أن جده الأعلى كعب بن لؤي كان عظيم القدر والشأن عند العرب، فقد أرّخوا بسنة وفاته إلى عام الفيل( )، وتوارث عمر عن أجداده هذه المكانة المهمة التي أكسبته خبرة ودراية ومعرفة بأحوال العرب وحياتهم، فضلاً عن فطنته وذكائه، فلجأوا إليه في فض خصوماتهم، يقول ابن سعد (( إن عمر كان يقضي بين العرب في خصوماتهم قبل الإسلام )) ( ).
وكان رضي الله عنه، رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قوياً، حليماً، شريفاً، قوي الحجة، واضح البيان، مما أهله لأن يكون سفيراً لقريش، ومفاخراً ومنافراً لها مع القبائل( )، قال ابن الجوزي: كانت السفارة إلى عمر بن الخطاب، إن وقعت حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً، أو نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر، بعثوه منافراً ومفاخراً، ورضوا به رضي الله عنه( ).
وكان يدافع عن كل ما ألفته قريش من عادات وعبادات ونظم وكانت له طبيعة مخلصة تجعله يتفانى في الدفاع عما يؤمن به، وبهذه الطبيعة التي جعلته يشتد في الدفاع عما يؤمن به، قاوم عمر الإسلام في أول الدعوة، وخشي عمر أن يهز هذا الدين الجديد النظام المكي الذي استقر، والذي يجعل لمكة بين العرب مكاناً خاصاً، ففيها البيت الذي يُحَجّ إليه والذي جعل قريشاً ذات مكانة خاصة عند العرب، والذي صار لمكة ثروتها الروحية، وثروتها المادية، فهو سبب ازدهارها، وغنى سراتها ولهذا قاوم سراة مكة هذا الدين، وبطشوا بالمستضعفين من معتنقيه وكان عمر من أشد أهل مكة بطشاً بهؤلاء المستضعفين( ).
ولقد ظل يضرب جارية أسلمت، حتى عيت يداه، ووقع السوط من يده، فتوقف إعياء، ومر أبو بكر فرآه يعذب الجارية، فاشتراها منه وأعتقها( ).
لقد عاش عمر في الجاهلية وسبر أغوارها، وعرف حقيقتها، وتقاليدها وأعرافها ودافع عنها بكل ما يملك من قوة ولذلك لما دخل في الإسلام عرف جماله وحقيقته وتيقن الفرق الهائل بين الهدى والضلال والكفر والإيمان والحق والباطل ولذلك قال قولته المشهورة: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية( ).

المبحث الثاني: إسلامه وهجرته:

أولاً: إسلامه:
كان أول شعاعة من نور الإيمان لامست قلبه، يوم رأى نساء قريش يتركن بلدهن ويرحلن إلى بلد بعيد عن بلدهن بسبب ما لقين منه ومن أمثاله، فرق قلبه، وعاتبه ضميره، فرثى لهن، وأسمعهن الكلمة الطيبة التي لم يكنّ يطمعن أن يسمعن منه مثلها( ).
قالت أم عبد الله بنت حنتمة: لما كنا نرتحل مهاجرين إلى الحبشة، أقبل عمر حتى وقف عليّ، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت نعم، والله لنخرجنّ في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً. فقال عمر: صحبكم الله. ورأيت منه رقة لم أرها قط. فلما جاء عامر بن ربيعة وكان قد ذهب في بعض حاجته وذكرت له ذلك فقال: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قلت له: نعم فقال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب( ).
لقد تأثر عمر من هذا الموقف وشعر أن صدره قد أصبح ضيقاً حرجاً؛ فأي بلاء يعانيه أتباع هذا الدين الجديد، وهم على الرغم من ذلك صامدون! ما سر تلك القوة الخارقة؟ وشعر بالحزن وعصر قلبه الألم( )، وبعد هذه الحادثة بقليل أسلم عمر رضي الله عنه وبسبب دعوة رسول الله ?، فقد كانت السبب الأساسي في إسلامه فقد دعا له بقوله: اللهم أعزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبهما إليه عمر( )، وقد ساق الله الأسباب لإسلام عمر رضي الله عنه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مرّ به رجل جميل، فقال عمر: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم. عليّ بالرجل، فدُعي له، فقال له ذلك. فقال: ما رأيت كاليوم استُقبل به رجلٌ مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني.
قال: كنت كاهنهم في الجاهلية.
قال: فما أعجب ما جاءتك به جنِّيَّتُك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها( )، ويأسها من بعد إنكاسها( )، ولحوقها بالقلاص، وأحلاسها( ).
قال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبح، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح( )، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنا( ) أن قيل: هذا نبي( ) وقد ورد في سبب إسلام الفاروق رضي الله عنه الكثير من الروايات، ولكن بالنظر إلى أسانيدها من الناحية الحديثية فأكثرها لا يصح( )، ومن خلال الروايات التي ذكرت في كتب السيرة والتاريخ يمكن تقسيم إسلامه والصدع به إلى عناوين منها.

1- عزمه على قتل رسول الله:
كانت قريش قد اجتمعت فتشاورت في أمر النبي ? فقالوا: أي رجل يقتل محمداً؟ فقال عمر بن الخطاب: أنا لها، فقالوا: أنت لها يا عمر، فخرج في الهاجرة، في يوم شديد الحر، متوشحاً سيفه يريد رسول الله ورهطاً من أصحابه، فيهم
أبو بكر وعلي وحمزة رضي الله عنهم في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله ? بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، وقد ذكروا له أنهم اجتمعوا في دار الأرقم في أسفل الصفا. فلقيه نُعَيم بن عبد الله النّحّام. فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله. قال له نُعَيم: لبئس الممشى مشيت يا عمر، ولقد والله غرّتك نفسك من نفسك، ففرّطت وأردت هلكة بني عديّ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ فتحاورا حتى علت أصواتهما، فقال عمر: إني لأظنك قد صبوت ولو أعلم ذلك لبدأت بك، فلما رأى النَّحَّام أنه غير مُنْتَه قال: فإني أخبرك أن أهلك وأهل ختَنك قد أسلموا وتركوك وما أنت عليه من ضلالتك، فلما سمع مقالته قال: وأيهم؟ قال: خَتَنك وابن عمك وأختك( ).

2- مداهمة عمر بيت أخته وثبات فاطمة بنت الخطاب أمام أخيها:
لما سمع عمر أن أخته وزوجها قد أسلما احتمله الغضب وذهب إليهم فلما قرع الباب قالوا: من هذا؟ قال: ابن الخطاب. وكانوا يقرؤون كتاباً في أيديهم، فلما سمعوا حس عمر قاموا مبادرين فاختبئوا ونسوا الصحيفة على حالها، فلما دخل ورأته أخته عرفت الشر في وجهه، فخبأت الصحيفة تحت فخذها قال: ما هذه الْهَيْنَمَة والصوت الخفي التي سمعته عندكم؟ (( وكانوا يقرؤون طه )) فقالا: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما، فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه سعيد وبطش بلحيته فتواثبا، وكان عمر قوياً شديداً، فضرب بسعيد الأرض ووطئه وطأ ثم جلس على صدره، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عدو الله، أتضربني على أن أوحّد الله؟ قال: نعم. قالت: ما كنت فاعلاً فأفعل، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لقد أسلمنا على رغم أنفك، فلما سمعها عمر ندم وقام عن صدر زوجها، فقعد، ثم قال: أعطوني هذه الصحيفة التي عندكم فأقرأها، فقالت أخته: لا أفعل. قال: ويحك قد وقع في قلبي ما قلت، فأعطينيها أنظر إليها، وأعطيك من المواثيق أن لا أخونك حتى تحرزيها حيث شئت. قالت: إنك رجس فـ? لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ? فقم فاغتسل أو توضأ، فخرج عمر ليغتسل ورجع إلى أخته فدفعت إليه الصحيفة وكان فيها طه وسور أخرى فرأى فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
فلما مرّ بالرحمن الرحيم ذعر، فألقى الصحيفة من يده، ثم رجع إلى نفسه فأخذها فإذا فيها: ? طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى(3) تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرض وَالسَّمَواتِ الْعُلاَ(4) الرحمن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5) لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7) اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى(Cool ?. (طه،الآيات:1-Cool
فعظمت في صدره. فقال: من هذا فرّت قريش؟ ثم قرأ. فلما بلغ إلى قوله تعالى: ? إنّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ? (طه،الآيات:14،15،16).
قال: ينبغي لمن يقول هذا أن لا يُعبد معه غيره دلوني على محمد( ).

3- ذهابه لرسول الله وإعلان إسلامه:
فلما سمع خبّاب رضي الله عنه ذلك خرج من البيت وكان مختفياً وقال أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون قد سبقت فيك دعوة رسول الله ? يوم الإثنين:
(( اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب )) ( ).
قال: دلوني على مكان رسول الله، فلما عرفوا منه الصدق قالوا: هو في أسفل الصفا. فأخذ عمر سيفه فتوشّحه ثم عمد إلى رسول الله وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته وَجِلوا ولم يجترئ أحد منهم أن يفتح له، لما قد علموا من شدته على رسول الله ?، فلما رأى حمزة رضي الله عنه وجَلَ القوم قال: مالكم؟ قالوا عمر بن الخطاب قال: عمر بن الخطاب؟ افتحوا له، فإن يرد الله به خيراً يُسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله عليناً هيناً، ففتحوا، وأخذ حمزة ورجل آخر بعضديه حتى أدخلاه على رسول الله ?، فقال أرسلوه( )، ونهض إليه رسول الله ? وأخذ بحجزته( )، وبجمع ردائه ثم جبذه جَبْذَة شديدة، وقال: ما جاء بك
يا ابن الخطاب؟ والله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال له عمر:
يا رسول الله جئتك أؤمن بالله وبرسوله وبما جئت به من عند الله، قال: فكبّر رسول الله ? فعرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب رسول الله من مكانهم وقد عزّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله، وينتصفون بهما من عدوهم( ).

4- حرص عمر على الصدع بالدعوة وتحمله الصعاب في سبيلها:
دخل عمر في الإسلام بإخلاص متناهٍ، وعمل على تأكيد الإسلام بكل ما أوتي من قوة، وقال لرسول الله ?: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال ?: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق، إن متّم وإن حييتم. قال: ففيمَ الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لَتَخرجنّ وكان الرسول ? على (ما يبدو) قد رأى أنه قد آن الأوان للاعلان، وأن الدعوة قد غدت قوية تستطيع أن تدفع عن نفسها، فأذن بالاعلان، وخرج ? في صفَّيْن، عمر في أحدهما، وحمزة في الآخر ولهم كديد ككديد الطحين( )، حتى دخل المسجد، فنظرت قريش إلى عمر وحمزة فأصابتهم كآبة لم تصبهم قط وسمّاه رسول الله ? يومئذ الفاروق( ).
لقد أعز الله الإسلام، والمسلمين بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان رجلاً ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره وامتنع به أصحاب رسول الله ? وبحمزة( ).
وتحدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشركي قريش: فقاتلهم حتى صلى عند الكعبة( )، وصلى معه المسلمون، وحرص عمر رضي الله عنه على أذية أعداء الدعوة بكل ما يملك، ونتركه يحدثنا عن ذلك بنفسه قال رضي الله عنه: كنت
لا أشاء أن أرى رجلاً من المسلمين، فذهبت إلى خالي أبي جهل – وكان شريفاً فيهم – فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت ابن الخطاب . فخرج إليّ فقلت: أعلمت أني قد صبوت؟ قال: فعلت؟ قلت: نعم. قال: لا تفعل. قلت: بلى‍! قال: لا تفعل ثم دخل وأجاف الباب (أي رده) دوني وتركني. قلت: ما هذا بشيء. فذهبت إلى رجل من أشراف قريش فقرعت عليه بابه، فقيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب فخرج إليّ، فقلت: أشعرت أني صبوت؟ قال: أفعلت؟ قلت: نعم. قال: لا تفعل، ودخل فأجاف الباب دوني، فقلت: ما هذا بشيء، فقال لي رجل: أتحب أن يُعلم إسلامك؟ قلت: نعم. قال: إذا جلس الناس في الحِجْر، جئتَ إلى ذلك الرجل (جميل بن معمر الجمحي) فجلست إلى جانبه وقلت: أعلمت أني صبوت؟ فلما جلس الناس في الحِجْر فعلت ذلك، فقام فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ. وثار إليّ الناس يضربونني وأضربهم( ) . وفي رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له جميل بن معمر الجُمحي. فخرج إليه وأنا معه أتبع
أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كلّما رأيت وسمعت. فأتاه فقال: يا جميل إني قد أسلمت فوالله ما ردّ عليه كلمة حتى قام يجرّ رداءه، وتبعه عمر واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش: وهم في أنديتهم حول الكعبة ألا إنَّ عمر بن الخطاب قد صبأ. وعمر يقول من خلفه: كذب ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فثاروا إليه، فوثب عمر على عتبة بن ربيعة، فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عُتبة يصيح، فتنحى الناس عنه، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلسها بالكفر فأظهر فيها الإيمان( )، وما زال يقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم وفتر عمر وجلس، فقاموا على رأسه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا، أو تركناها لكم. فبينما هم كذلك إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص مُوّشّى، قال: ما بالكم؟ قالوا: ابن الخطاب قد صبأ. قال: فمه؟ امرؤا اختار ديناً لنفسه، أتظنون أن بني عديّ يُسلمون إليكم صاحبهم، فكأنما كانوا ثوباً انكشف عنه، فقلت له بالمدينة: يا أبت من الرجل ردّ عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل السهمي( ).

5- أثر إسلامه على الدعوة:
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلي، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا، فصلينا وطفنا( ). وقال أيضاً: كان إسلام عمر فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى تركونا نصلي( ) وقال صهيب بن سنان:
لما أسلم عمر بن الخطاب، ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت وانتصفنا ممن غلظ علينا ورددنا عليه( ).
ولقد صدق في عمر رضي الله عنه قول القائل:

أعني به الفاروق فرّق عنوةً
بالسيف بين الكفر والإيمان

هو أظهر الإسلام بعد خفائه
ومحا الظلام وباح بالكتمان( )


6- تاريخ إسلامه وعدد المسلمين يوم أسلم:
أسلم عمر رضي الله عنه في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة، وهو ابن سبع وعشرين سنة( )، وكان إسلامه بعد إسلام حمزة رضي الله عنه بثلاثة أيام( )، وكان المسلمون يومئذ تسعة وثلاثين: قال عمر رضي الله عنه: لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله ? إلا تسعة وثلاثون رجلاً فكملتهم أربعين، فأظهر الله دينه، وأعز الإسلام، (وروي) أنهم كانوا أربعين أو بضعة وأربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، ولكن عمر لم يكن يعرفهم كلهم لأن غالب من أسلم كان يخفي إسلامه خوفاً من المشركين، ولا سيما عمر فقد كان عليهم شديداً فذكر أنه أكملهم أربعين ولم يذكر النساء لأنه لا إعزاز بهن لضعفهن( ).

ثانياً: هجرته:
لما أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية يقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة، تقلد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهماً، واختصر عنزته( )، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام، فصلى متمكناً، ثم وقف على الحلق واحدة، واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس( )، من أراد أن تثكله أمه، ويوتم ولده، أو يرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي. قال عليُّ رضي الله عنه: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم، وأرشدهم ومضى لوجهه( ).
وكان قدوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المدينة قبل مقدم النبي ? إليها، وكان معه من لحق به من أهله وقومه، وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمي، زوج ابنته حفصة، وابن عمه سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وواقد بن عبد الله التميمي، حليف لهم، وخولى بن أبي خولى، ومالك بن أبي خولى، حليفان لهم من بني عجل وبنو البكير، وإياس وخالد، وعاقل، وعامر، وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر في بني عمرو بن عوف بقباء( ).
يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أبي مكتوم، وكانوا يُقرئون الناس، فقدم بلال، وسعد، وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفراً من اصحاب النبي ?، ثم قدم النبي ?، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله ?( ).
وهكذا ظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خدمة دينه وعقيدته بالأقوال والأفعال لا يخشى في الله لومة لائم وكان رضي الله عنه سنداً ومعيناً لمن أراد الهجرة من مسلمي مكة حتى خرج، ومعه هذا الوفد الكبير من أقاربه وحلفائه، وساعد عمر رضي الله عنه غيره من أصحابه الذين يريدون الهجرة وخشي عليهم من الفتنة والابتلاء في أنفسهم( )، ونتركه يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب( )، من أضاءة( ) بني غفار، فوق سَرِف( )، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حُبس فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التَّناضب، وحُبس عنا هشام، وفُتن فافتتن( )، فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عيّاش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخوهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله ? بمكة، فكلّماه وقالا: إن أمك نذرت أن لا يمسّ رأسها مُشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقّ لها، فقلت له: عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظللت. قال: أبرُّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه. قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليُّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول( )، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تُعقبني( ) على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ، وأناخ، ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن( ). قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله ? المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: ? قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ
لاَ تَشْعُرُونَ(55) ? (الزمر، الآيات: 53-55).
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى( )، أصَعَّد بها فيه، وأصَوَّبُ، ولا أفهمها حتى قلت: اللهمّ فهِّمنيها، قال: فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا. قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله وهو بالمدينة( ).
هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر رضي الله عنه خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيداً عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه ولا ينتظرانه، لأنه قد حبس، وكما توقعوا، فقد حبس هشام بن العاص رضي الله عنه بينما مضى عمر وعياش بهجرتهما ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالمين( ) إلا أن قريشاً صممت على متابعة المهاجرين ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها
أبو جهل، والحارث وهما أخوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئن إليهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جلياً عندما أظهر موافقته على العودة معهم، كما تظهر الحادثة الحس الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به عمر رضي الله عنه، حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف( ) كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام فعمر يضحي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته،?ولكن غلبت عياش عاطفته نحو أمه، وبره بها ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله الذي هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر رضي الله عنه وماله قائم في مكه لم يمس، غير أن أفق عمر رضي الله عنه كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين( ).
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفاً ولا عدلاً من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي فنزل قول الله تعالى:? قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ …? وما أن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق رضي الله عنه فبعث بها إلى أخويه الحميمين عياش وهشام ليجددا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر. أي سمو عظيم عند ابن الخطاب رضي الله عنه. لقد حاول مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله على أن لا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يتشفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه من مكة وإلى كل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي( ).
هذا وقد نزل عمر بالمدينة، وأصبح وزير صدق لرسول الله ?، وآخى النبي ? بينه وبين عويم بن ساعدة( )، وقيل بينه وبين عتبان بن مالك( ) وقيل بينه وبين معاذ بن عفراء( ) وقد علق ابن عبد الهادي على ذلك وقال: لا تناقض بين الأحاديث ويكون رسول الله ? قد آخى بينه وبين كل أولئك في أوقات متعددة، فإنه ليس بممتنع أن يؤاخي بينه وبين كل أولئك في أوقات متعددة( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:49 pm

الفصل الثاني
التربية القرآنية والنبوية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه

المبحث الأول: حياة الفاروق مع القرآن الكريم:

أولاً: تصوره عن الله والكون والحياة والجنة والنار والقضاء والقدر:
- كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عمر بن الخطاب وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، فهو المصدر الوحيد للتلقي، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج والفكرة المركزية التي يتربى عليها الفرد المسلم والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، فكانت للآيات الكريمة التي سمعها عمر من رسول الله ? مباشرة أثرها في صياغة شخصية الفاروق الإسلامية، فقد طهّرت قلبه، وزكت نفسه، وتفاعلت معها روحه، فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته( ).
فقد عرف الفاروق من خلال القرآن الكريم من هو الإله الذي يجب أن يعبده، وكان النبي ? يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة فقد حرص ? أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركاً أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة الفاروق إلى الله، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي ?.
- فالله سبحانه وتعالى منزه عن النقائص موصوف بالكمالات التي لا تتناهى فهو سبحانه ( واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ).
- وأنه سبحانه خالق كل شيء ومالكه ومدبره ? إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ? (الأعراف،آية:54).
- وأنه تعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود دقت أو عظمت ظهرت أو خفيت ? وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53) ? (النحل،آية:53).
- وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا ما يخفي الإنسان وما يعلن.
- وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب: ? مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18) ? (ق، آية:18).
- وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون، وما يهوون ليعرف الناس معادنهم، ومن منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهراً وباطنا، فيكون جديراً بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط فلا يساوي شيئاً، ولا يسند إليه شيء: ? الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2) ?.
- وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه، ولاذ بحماه ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر ? إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ(196) ? (الأعراف،آية:196).
- وأنه سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه ويوحدوه فلا يشركوا به شيئاً ? بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(66) ? (الزمر، آية:66).
- وأنه سبحانه حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن الكريم( ).
وأما نظرته للكون فقد استمدها من قول الله تعالى:? قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12) ? (فصلت:9-12).
وأما هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير قال تعالى: ? إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24) ? (يونس،آية:24).
وأما نظرته إلى الجنة، فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة التي وصفتها، فأصبح حاله ممن قال الله تعالى فيهم: ? تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17) ? (السجدة،آية:16،17).
وأما تصوره للنار فقد استمده من القرآن الكريم، فأصبح هذا التصور رادعاً له في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله فيرى المتتبع لسيرة الفاروق عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشدة خوفه من عذاب الله وعقابه، فقد خرج رضي الله عنه ذات ليلة في خلافته يعسُّ بالمدينة، فمرّ بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائماً يصلي، فوقف يسمع قراءته، فقرأ: ? وَالطُّورِ(1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ(2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ(3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ(4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ(5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ(6) ? إلى أن يبلغ ? إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ(7) ? (الطور،آية:7). قال: قسم ورب الكعبة حق. فنزل عن حماره، فاستند إلى حائط، فمكث ملياً، ثم رجع إلى منزله، فمرض شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه( ).
وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمده من كتاب الله وتعليم رسول الله له، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه من كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء ? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(61) ? (يونس، آية:61). وأن الله قد كتب كل شيء كائن ? إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12) ? (يس،آية:12). وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة ? وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَواتِ وَلاَ فِي الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44) ? (فاطر،آية:44). وأن الله خالق لكل شيء ? ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) ? (الأنعام،آية:102).
وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر، ثمار نافعة ومفيدة ظهرت في حياته وسنراها بإذن الله تعالى في هذا الكتاب وعرف من خلال القرآن الكريم حقيقة نفسه وبني الإنسان وأن حقيقة الإنسان ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة( ) فقال تعالى: ? الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأنسَانِ مِنْ طِينٍ(7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(Cool ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(9) ? (السجدة،آية:7-9).وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده، وأكرمه بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة، ومنحه العقل والنطق والتمييز وسخر الله له ما في السماء والأرض، وفضله الله على كثير من خلقه، وكرمه بإرساله الرسل له، وأن من أروع مظاهر تكريم المولى عز وجل سبحانه للإنسان أن جعله أهلاً لحبه ورضاه ويكون ذلك باتباع النبي ? الذي دعا الناس إلى الإسلام لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة قال تعالى: ? مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97) ? (النحل،آية:97).
وعرف عمر رضي الله عنه حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، يوسوس له بالمعصية ويستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعيناً بالله على عدوه إبليس وانتصر عليه في حياته، كما سترى من سيرته، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم؛ أن آدم هو أصل البشر، وجوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة، وتعلم من خطيئة آدم ضرورة توكل المسلم على ربه، وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع الصحابة لقول الله تعالى: ? وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلأنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا(53) ? (الإسراء،آية:53). وسار على منهج رسول الله في تزكية أصحابه لأرواحهم وتطهير قلوبهم بأنواع العبادات وتربيتهم على التخلق بأخلاق القرآن الكريم.
لقد أكرم المولى عز وجل عمر بن الخطاب بالإسلام الذي قدم له عقيدة صحيحة صافية خلفت عقيدته الأولى، وقضت في نفسه عليها فانهارت أركان الوثنية، فلا زلفى لوثن، ولا بنات لله، ولا صهر بين الجن والله، ولا كهانة تحدد للمجتمع مساره، وتقذف به في تيه التشاؤم والطيرة ولا عدم بعد الموت( )، انتهى ذلك كله وخلفته عقيدة الإيمان بالله وحده مصفَّاة من الشرك، والولد والكهانة والعدم بعد الحياة الدنيا، ليحل الإيمان بآخرة ينتهي إليها عمل الإنسان في تقويم مجزي عليه، انتهى عبث الجاهلية في حياة بلا بعث ولا مسؤولية أمام الديان وخلفتها عقيدة الإيمان باليوم الآخر ومسؤولية الجزاء وانصهر عمر بكليته في هذا الدين وأصبح الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وعبد الله وحده في إحسان كأنما يراه( )، وتربى عمر على القرآن الكريم وتنقل به من تشريع إلى آداب، ومن تاريخ إلى حكمة، في عطاء مسترسل كريم، مع توفيق من الله تعالى له في العيش مع القرآن الكريم الذي أثر في عقله وقلبه ونفسه وروحه وانعكست ثمار تلك المعايشة على جوارحه، وكان سبب ذلك – بعد توفيق الله له – تتلمذه على يدي رسول الله( ).


ثانياً: موافقات عمر للقرآن الكريم، وإلمامه بأسباب النزول وتفسيره لبعض الآيات:

1- موافقات عمر للقرآن الكريم:
كان عمر من أكثر الصحابة شجاعة وجرأة، فكثيراً ما كان يسأل الرسول ? عن التصرفات التي لم يدرك حكمها، كما كان رضي الله عنه يبدي رأيه واجتهاده بكل صدق ووضوح ومن شدة فهمه واستيعابه لمقاصد القرآن الكريم نزل القرآن الكريم موافقاً لرأيه رضي الله عنه في بعض المواقف، قال عمر رضي الله عنه: وافقت الله تعالى في ثلاث، أو وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مُصلّى، فأنزل الله تعالى ذلك، وقلت: يا رسول الله، يدخل عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله تعالى آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي ? بعض أزواجه، فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول الله ? ما يعظ نساءه، حتى تعظهن أنت( )؟ فأنزل الله: ? عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا(5) ? (التحريم،آية:5).

2- ومن موافقته في ترك الصلاة على المنافقين:
قال عمر: لما توفي عبد الله بن أبي دُعي رسول الله ? للصلاة عليه، فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله: أعلى عدوّ الله عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا: كذا وكذا، والقائل يوم كذا: كذا وكذا أعدد أيامه الخبيثة ورسول الله ? يبتسم حتى إذا أكثرت عليه، قال: أخر عني
يا عمر، إني خيّرت فاخترت: قد قيل لي:? اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(80) ? (التوبة،آية:80). فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له زدت. ثم صلى عليه ومشى معه على قبره حتى فرغ منه، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: ? وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ? (التوبة،آية:84). فما صلى رسول الله ? بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل( ).

3- موافقته في أسرى بدر:
قال عمر - رضي الله عنه - : لما كان يوم بدر وهزم الله المشركين فقتل منهم سبعون وأسر سبعون، استشار رسول الله أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، فقال لي: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقلت: أرى أن تمكنني من فلان – قريب لعمر – فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل( )، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم، وقادتهم. فلم يهوَ رسول الله ? ما قلت، فأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد غدوت إلى النبي ? فإذا هو قاعد وأبو بكر، وهما يبكيان، فقلت
يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال النبي ?: للذي عَرَضَ عليَّ أصحابك: (( من الفداء، لقد عُرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة )) - لشجرة قريبة - فأنزل الله تعالى: ? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ? إلى قوله ? عَذَابٌ عَظِيمٌ(68) ? (الأنفال،آية:68)، فلما كان من العام المقبل قتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله وكُسِرَت رباعيته( )، وهشمت البيضة( )، على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله تعالى: ? أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ? بأخذكم الفداء ? إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(165) ? (آل عمران،آية:165) ( ).

4- موافقته في الاستئذان:
أرسل النبي ? غلاماً من الأنصار إلى عمر بن الخطاب. وقت الظهيرة ليدعوَه، فدخل عليه وكان نائماً وقد انكشف بعض جسده، فقال: اللهم حرّم الدخول علينا في وقت نومنا وفي (رواية) قال: يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان( ) فنزلت ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ? (النور،آية:58) ( ).

- عمر ودعاؤه في تحريم الخمر:
لما نزل قول الله تعالى: ? يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ? (البقرة،آية:219). قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في النساء? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ? (النساء،آية:43) فكان منادي النبي ? إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ? فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(91) ? (المائدة،آية:91). قال عمر: انتهينا، انتهينا( )، وهكذا خضع تحريم الخمر لسنة التدريج وفي قوله? فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(91) ? فهم عمر من الاستفهام الاستنكاري بأن المراد به التحريم، لأن هذا الاستفهام أقوى وأقطع في التحريم من النهي العادي، ففي ألفاظ الآية وتركيبها وصياغتها تهديد رهيب واضح كالشمس في التحريم( ).

- إلمامه بأسباب النزول:
حفظ عمر القرآن كله( )، في الفترة التي بدأت بإسلامه، وانتهت بوفاة الرسول ? وقد حفظه مع أسباب التنزيل إلا ما سبق نزوله قبل إسلامه، فذلك مما جمعه جملة ولا مبالغة إذا قلنا: أن عمر كان على علم بكثير من أسباب التنزيل، وبخاصة في الفترة الإسلامية من حياته، ثم لشدة اتصاله بالتلقي عن رسول الله ? ثم هو قد حفظ منه ما فاته، فإن يلم بأسباب النزول والقرآن بكر التنزيل، والحوادث
لا تزال تترى فذلك أمر يسير( ).
وقد كان عمر سبباً في التنزيل لأكثر من آية، بعضها متفق على مكيته، وبعضها مدني، بل كان بعض الآيات يحظى من عمر بمعرفة زمانه ومكانه على وجه دقيق، قال عن الآية الكريمة ? … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الأسْلاَمَ دِينًا… ? (المائدة،آية:3) والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله والساعة التي نزلت فيها على رسول الله عشية عرفة في يوم الجمعة( )، وقد كان عمر – وحده أو مع غيره – سبباً مباشراً في تنزيل بعض الآيات منها، قول الله تعالى:? أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ
لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(22) ? (التوبة،آبة:19-22).
وفي الصحيح: أن رجلاً قال: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، فقال علي بن أبي طالب: الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كله. فقال عمر بن الخطاب: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله. ولكن إذا قضيت الصلاة. سألته عن ذلك، فسأله، فأنزل الله هذه الآية، فبين لهم أن الإيمان والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام والحج والعمرة والطواف ومن الإحسان إلى الحجاج، بالسقاية، ولهذا قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود( ).

- سؤاله لرسول الله ? عن بعض الآيات:
كان عمر رضي الله عنه يسأل رسول الله ? عن بعض الآيات وأحياناً أخرى يسمع صحابياً يستفسر من رسول الله عن بعض الآيات فيحفظها ويعلمها لمن أراد من طلاب العلم، فعن يَعْلى بن أمية، قال: سألت عمر بن الخطاب، قلت:? فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ
كَفَرُوا ? (النساء،آية:101)، وقد أمن الله الناس( )؟! فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله ? عن ذلك، فقال: صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته( )، وقد سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية:? وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ? (الأعراف،آية:172)، فقال عمر: سمعت رسول الله ? سُئل عنها، فقال رسول الله ?: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، واستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله ?: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عملٍ من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار( ).
ولما نزل قول الله تعالى: ? سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45) ? (القمر،آية:45). قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ? يثبت في الدرع وهو يقول: ? سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ? فعرفت تأويلها يومئذ( ).

- تفسير عمر لبعض الآيات وبعض تعليقاته:
كان عمر يتحرّج في تفسير القرآن برأيه ولذلك لما سئل عن قوله تعالى
? وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ? قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله ? يقوله
ما قلته، قيل: ? فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا ?. قال: السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله ? يقوله ما قلته، قيل:? فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ?؟ قال: السفن، ولولا أني سمعت رسول الله يقوله ما قلته، قيل:? فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ?؟ قال: هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله ? يقوله ما قلته( )، وكان رضي الله عنه له منهج في تفسيره للآيات، فإنه رضي الله عنه إذا وجد لرسول الله تفسيراً أخذ به، وكان هو الأفضل مثل ما مرّ معنا من تفسيره وإذا لم يجد طلبه في مظانه عند بعض الصحابة مثل: ابن عباس، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود ومعاذ وغيرهم - رضي الله عنهم _ وهذا مثال على ذلك؛ فقد قال عمر رضي الله عنه يوماً لأصحاب النبي?: فيم ترون هذه الآية نزلت ? أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الأيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(266) ? (البقرة،آية:266)، قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أولا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله( )، وفي رواية قال ابن عباس: عني بها العمل، ابن آدم أفقر ما يكون إلى جنته إذا كبر سنه وكثر عياله، وابن آدم أفقر ما يكون إلى عمله يوم يبعث، فقال عمر: صدقت يا ابن أخي( ).
وكانت له بعض التعليقات على بعض الآيات مثل قوله تعالى:? الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ(157) ? (البقرة،آية:156،157). فقال: نعم العدلان ونعم العلاوة( )، ويقصد بالعدلين الصلاة والرحمة والعلاوة الاهتداء( ).
وسمع القارئ يتلو قول الله تعالى: ? يَاأَيُّهَا الأنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) ? (الانفطار،آية:6). فقال عمر: الجهل( ). وفسر قول الله تعالى: ? وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7) ? (التكوير،آية:7). بقوله: الفاجر مع الفاجر والطالح مع الطالح( )، وفسر قول الله تعالى: ? تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ? (التحريم،آية:Cool. بقوله: أن يتوب ثم لا يعود، فهذه التوبة الواجبة التامة( )، وذات يوم مر بدير راهب فناداه يا راهب فأشرف الراهب، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي فقيل له يا أمير المؤمنين: ما يبكيك من هذا؟ قال ذكرت قول الله عز وجل في كتابه ? عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4) ? (الغاشية،آية:4،3). فذاك الذي أبكاني( )، وفسر الجبت بالسحر، والطاغوت بالشيطان في قوله تعالى:? يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ?( ) (النساء،آية:51).

المبحث الثاني: ملازمته لرسول الله ?:

كان عمر رضي الله عنه واحداً من المكيين الذين قرأوا وكتبوا في مجتمعه الأمي، وهذا دليل على شغفه بالعلم منذ صغره، وسعيه ليكون واحداً من القلة القليلة، الذين محوا أميتهم، وهذبوا أنفسهم، وتبوأوا مكانة مرموقة في عصر الرسالة، لمجموعة مقومات، لعل منها إلمامه بالقراءة والكتابة وهو حدث له قيمته آنذاك وقد تلقى عمر دروسه الأولى، وتعلم القراءة والكتابة على يدي حرب بن أمية والد أبي سفيان( )، وقد أهلته هذه الميزة، لأن يثقف نفسه بثقافة القوم آنذاك، وإن كنا نجزم أن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عمر وصقل مواهبه، وفجر طاقاته وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله ? وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عمر لازم الرسول ? في مكة بعد إسلامه كما لازمه كذلك في المدينة المنورة – حيث سكن العوالي – وهي ضاحية من ضواحي المدينة، وإن كانت قد اتصلت بها الآن وأصبحت ملاصقة لمسجد الرسول، حيث امتد العمران، وتوسعت المدينة، وزحفت على الضواحي، في هذه الضاحية نظم عمر نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد كان لا يفوته علم من قرآن، أو حديث أو أمر أو حدث أو توجيه قال عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد – وهي من عوالي المدينة – وكنا نتناوب النزول على رسول الله ? ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك( ).
وهذا الخبر يوقفنا على الينبوع المتدفق، الذي استمد منه عمر علمه وتربيته وثقافته، وهو كتاب الله الحكيم، الذي كان ينزل على رسول الله ? منجماً على حسب الوقائع والأحداث، وكان الرسول يقرأه على أصحابه، الذين وقفوا على معانيه، وتعمقوا في فهمه، وتأثروا بمبادئه، وكان له عميق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم وكان عمر واحداً من هؤلاء الذين تأثروا بالمنهج القرآني في التربية والتعليم، وعلى كل دارس لتاريخ عمر وحياته أن يقف وقفة متأملة أمام هذا الفيض الرباني الصافي، الذي غذى المواهب وفجر العبقريات، ونمى ثقافة القوم، ونعني به القرآن الكريم، وقد حرص عمر منذ أسلم على حفظ القرآن وفهمه وتأمله، وظل ملازماً للرسول يتلقى عنه ما أنزل عليه، حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره، وقد أقرأه الرسول ? بعضه وحرص على الرواية التي أقرأه بها الرسول( ) وكان لعمر أحياناً شرف السبق إلى سماع بعض آياته فور نزوله كما عني بمراجعة محفوظه منه( )، فقد تربى عمر رضي الله عنه على المنهج القرآني وكان المربي له ? وكانت نقطة البدء في تربية عمر هي لقاءه برسول الله ?، فحدث له تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي ? فخرج من دائرة الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان، وطرح الكفر، وقوي على تحمل الشدائد، والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة، كانت شخصية رسول الله ? المحرك الأول للإسلام، وشخصيته ? تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض والعظمة دائماً تحب، وتحاط من الناس بالاعجاب، ويلتف حولها المعجبون يلتصقون بها التصاقاً بدافع الاعجاب والحب، ولكن رسول الله ? يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بعد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يُحب العظماء من الناس، ولكن أيضاً لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول ? البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئاً واحداً في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية. حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك.
كان هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه( )، لقد حصل للصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله ? وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، يقول سيد قطب عن تلك التزكية: إنها لتزكية، وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول ?. تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، وتطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال، إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة، ولحياة السريرة، ولحياة الواقع، تزكية ترتفع بالانسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ العلوي الكريم( ).
لقد تتلمذ عمر رضي الله عنه على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس قال تعالى:? لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ(164) ? (آل عمران،آية:164).
وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم في غزواته، وسلمه وأصبح لعمر رضي الله عنه علم واسع ومعرفة غزيرة بالسنة النبوية المطهرة، التي أثرت في شخصية عمر وفقهه ولازم رسول الله ? واستمع من رسول الله وتلقى عنه وكان إذا جلس في مجلس النبوة لم يترك المجلس حتى ينفض، كما كان حريصاً على أن يسأل الرسول? عن كل ما تجيش به نفسه، أو يشغل خاطره( )، لقد استمد من رسول الله علماً وتربية، ومعرفة بمقاصد هذا الدين العظيم وخصه رسول الله ? برعايته، وشمله بتسديده، ولقد شهد له رسول الله ? بالعلم، فقد قال ?: بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظافري، ثم أعطيت فضلي يعني عمر.
قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم( ).
قال ابن حجر: والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول
الله ?( ).
وهذه المعرفة لا يمكن تَأتِّيها إلا لمن كان راسخ القدم في التزود بما يعينه على فهم كتاب الله، وسنة نبيه، وسبيله في ذلك: التعمّق في فهم اللغة وآدابها، والتمرس في معرفة أساليبها، والتزود في كل ما يساعد على فهمها من معارف وخبرات، وكذلك كان عمر رضي الله عنه( )، ولقد جمع بين رسول الله ? وبين عمر حب شديد، والحب عامل هام في تهيئة مناخ علمي ممتاز بين المعلم وبين تلميذه، يأتي بخير النتائج العلمية والثقافية، لما له من عطاء متجدد وعمر قد أحب رسول الله ? حباً جماً، وتعلق فؤاده به، وقدم نفسه فداء له، وتضحية في سبيل نشر دعوته، فقد جاء في الحديث أن رسول الله ? قال: (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين( ). فقال له عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل أحد إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك )) فقال: فأنت أحب إلي من نفسي قال: الآن يا عمر( ).
واستأذن عمر يوماً إلى عمرة فقال له ?: (( لا تنسنا يا أخي في دعائك( ) )). فقال عمر: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: يا أخي( ).
وهذا الحب السامي الشريف هو الذي جعل عمر يلازم الرسول ? في جميع غزواته، وقد أمده ذلك بخبرة ودربة ودراية بشؤون الحرب، ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها، كما أن ملازمته للرسول ? وكثرة تحدثه معه، قد طبعه على البلاغة والبيان والفصاحة وطلاقة اللسان، والتفنن في أوجه القول( ) وفي النقاط القادمة سنبين بإذن الله تعالى مواقفه في الميادين الجهادية مع رسول الله، وبعض الصور من حياته الاجتماعية بالمدينة في حياة النبي ?.
أولاً: عمر رضي الله عنه في ميادين الجهاد مع رسول الله ?:
اتفق العلماء على أن عمر رضي الله عنه شهد بدراً، وأحداً، والمشاهد كلها مع رسول الله ولم يغب عن غزوة غزاها رسول الله ?( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:53 pm

1- غزوة بدر:
شارك عمر رضي الله عنه في غزوة بدر، وعندما استشار رسول الله ? أصحابه قبل المعركة، تكلم أبو بكر رضي الله عنه أول من تكلم، فأحسن الكلام، ودعا إلى قتال الكافرين، ثم الفاروق عمر رضي الله عنه فأحسن الكلام، ودعا إلى قتال الكافرين( )، وكان أول من استشهد من المسلمين يوم بدر مِهجع( ) مولى عمر رضي الله عنه( )، وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاله العاص بن هشام( ) ضارباً بالقرابة عرض الحائط أمام رابطة العقيدة، بل كان يفخر بذلك تأكيداً لهذه الفكرة وبعد انتهاء المعركة أشار بقتل أسارى المشركين، وفي تلك الحادثة دروس وعبر عظيمة قد ذكرتها في كتابي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، وعندما وقع العباس عمّ النبي في الأسر حرص عمر على هدايته وقال له: يا عباس أسلم، فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك( )، وكان من بين الأسرى خطيب قريش سهيل بن عمرو، فقال لرسول الله: يا رسول الله، دعني أنتزع ثنيتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً، فقال رسول الله ?: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، وإن عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه( )، وهذا ما حدث فعلاً بعد وفاة رسول الله ? إذ هم عدد من أهل مكة بالرجوع عن الإسلام، حتى خافهم والي مكة عتاب بن أسيد فتوارى، فقام سهيل بن عمرو، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة النبي وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة فمن رابنا ضربنا عنقه فتراجع الناس عن رأيهم( ) وحدثنا عمر عن حديث سمعه من رسول الله عندما خاطب مشركي مكة الذي قتلوا ببدر، فعن أنس قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءَيْنا الهلال، وكنتُ حديدَ البصر فرأيته، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ قال: سأراه وأنا مُستلقٍ على فراشي، ثم أخذ يُحدثنا عن أهل بدر، قال: إن كان رسول الله ? لَيُرينا مصارعهم بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غداً، إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، قال: فجعلوا يُصرعون عليها، قال: قلت: والذي بعثك بالحق، ما أخطؤوا تِيكَ، كانوا يُصرَعون عليها ثم أمر بهم فطُرحُوا في بئر، فانطلق إليهم، فقال: (( يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وَعَدكم الله حقاً، فإني وجدت ما وعدني الله حقاً )) قال عمر: يا رسول الله، اتكلم قوماً قد جَيَّفوا؟ قال: ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يُجيبوا( )، وعندما جاء عمير بن وهب إلى المدينة قبل إسلامه في أعقاب بدر يريد قتل رسول الله ?، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحاً سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر وهو الذي حرش بيننا، وحرزنا للقوم يوم بدر. ثم دخل على رسول الله ? فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه. قال: فأدخله عليّ، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة( ) سيفه في عنقه فلببه( )، بها وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله ? فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله فلما رآه رسول الله وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: أرسله
يا عمر، أدن يا عمير. فدنا ثم قال: انعموا صباحاً وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله: أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة( ).فقال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئاً قال أصدقني، ما الذي جئت له، قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك لرسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله ?: فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا( ).
ومن خلال هذه القصة يظهر الحس الأمني الرفيع الذي تميز به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد انتبه لمجيء عمير بن وهب وحذّر منه، وأعلن أنه شيطان ما جاء إلا لشر، فقد كان تاريخه معروفاً لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة وهو الذي حرّض على قتال المسلمين في بدر، وعمل على جمع المعلومات عن عددهم، ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب لحماية الرسول فمن جهته فقد أمسك بحمالة سيف عمير الذي في عنقه بشده فعطله عن إمكانية استخدامه سيفه للاعتداء على الرسول ? وأمر نفراً من الصحابة بحراسة النبي ?( ).

2- غزوة أحد، وبني المصطلق والخندق:
من صفات الفاروق الجهادية: علو الهمة، وعدم الصغار، والترفع عن الذلة حتى ولو بدت الهزيمة تلوح أمامه، كما حدث في غزوة أحد، ثانية المعارك الكبرى التي خاضها رسول الله ?، فعند ما وقف أبو سفيان في نهاية المعركة وقال أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله ? لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن أبي قحافة، فقال لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء القوم قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل( )، فقال النبي ? أجيبوه. قالوا ما تقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي ?: أجيبوه قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مُثلة لم آمر بها ولم تَسُؤني( ) ، وفي رواية قال عمر: ( لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار( ). فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر، لقول ابن قمئة لهم: إني قد قتلت محمداً( ) . كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله وأبي بكر وعمر دلالة واضحة على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم لأنه في علمهم أنهم أهل الإسلام وبهم قام صرحه وأركان دولته وأعمدة نظامه، ففي موتهم يعتقد المشركون أنه
لا يقوم الإسلام بعدهم، وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولا تصغيراً له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر وردوا عليه بشجاعة( ) .
وفي غزوة بني المصطلق كان للفاروق موقف متميز، ونترك شاهد عيان يحكي لنا ما شاهده، قال جابر بن عبد الله الأنصاري: كنا في غزاة فكسع( ) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري:
يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك
عبد الله ابن أبي فقال: فعلوها:؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمع ذلك عمر فأتى النبي ? فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فبلغ النبي ? فقال عمر: كلام فيه نقص فقال ذلك فقال: يا رسول الله: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه( )، وفي رواية قال عمر بن الخطاب: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله ?: فكيف ياعمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا. ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله ? يرتحل فيها، فارتحل الناس( ) ومن مثل هذه المواقف والتوجيهات النبوية استوعب عمر رضي الله عنه فقه المصالح والمفاسد، فهذا الفقه يظهر في قوله?: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه( )، إنها المحافظة التامة على السمعة السياسية، ووحدة الصف الداخلية، والفرق كبير جداً بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمد محمداً، ويؤكدون على ذلك بلسان قائدهم الأكبر أبي سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً( )، وبين أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ولا شك أن وراء ذلك محاولات ضخمة ستتم في محاولة الدخول إلى الصف الداخلي في المدينة من العدو بينما هم يائسون الآن من قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتلك التضحيات( ) وفي غزوة الخندق يروي جابر فيقول: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسُبُّ كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب، قال النبي ?: (( وأنا والله ما صليتها، فنزلنا مع النبي ? بُطحان( )، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم بعدها المغرب( ).
3- صلح الحديبية، وسريه إلى هوازن، وغزوة خيبر:
وفي الحديبية دعا رسول الله ? عمر ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء به، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي لها وغلظتي عليها، ولكني أدلُّك على رجل أعزّ بها مني، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله ? عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته( )، وبعد الاتفاق على معاهدة الصلح وقبل تسجيل وثائقها ظهرت بين المسلمين معارضة شديدة وقوية لهذه الاتفاقية، وخاصة في البندين اللذين يلتزم النبي بموجبهما بردّ ما جاء من المسلمين لاجئاً، ولا تلتزم قريش برد ما جاءها من المسلمين مرتداً، والبند الذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، وقد كان أشد الناس معارضة لهذه الاتفاقية وانتقاداً لها، عمر بن الخطاب، وأسيد بن حضير سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلناً معارضته لهذه الاتفاقية وقال لرسول الله ?: ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه( )، وفي رواية: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني( )، قلت أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر: أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة إلزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيعه الله( )، وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثرة عاد الصحابة إلى تجديد المعارضة للصلح، وذهبت مجموعة منهم إلى رسول الله ? بينهم عمر بن الخطاب لمراجعتة، وإعلان معارضتهم مجدداً للصلح إلا أن النبي ? بما أعطاه الله من صبر وحكمة وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصلح، وأنه في صالح المسلمين وأنه نصر لهم( )، وأن الله سيجعل للمستضعفين من أمثال أبي جندل فرجاً ومخرجاً، وقد تحقق ما أخبر به?، وقد تعلم عمر رضي الله عنه من رسول الله احترام المعارضة النزيهة ولذلك نراه في خلافته يشجع الصحابة على إبداء الآراء السليمة التي تخدم المصلحة العامة( )، فحرية الرأي مكفولة في المجتمع الإسلامي وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقداً لموقف حاكم من الحكام أو خليفة من الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن والأمان دون إرهاب أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر، ونفهم من معارضة عمر لرسول
الله ? أن المعارضة لرئيس الدولة في رأي من الآراء وموقف من المواقف ليست جريمة تستوجب العقاب، ويغيب صاحبها في غياهب السجون( ).
لم يكن ذلك الموقف من الفاروق شكّاً أو ريبة فيما آلت إليه الأمور، بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثّاً على إذلال الكفار، لما عرف من قوته في نصرة الإسلام( )، وبعد ما تبينت له الحكمة قال عن موقفه بالحديبية: ما زلت أتصدق، وأصوم، وأصلي، وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً( ).
وفي شعبان سنة 7 من الهجرة بعث رسول الله عمر بن الخطاب إلى تربة في ثلاثين رجلاً إلى عُجزِ( ) هوازن بتربة وهي بناحية القبلاء( )، على أربع مراحل من مكة( )، فخرج، وخرج معه دليل من بني هلال( )، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحداً فانصرف راجعاً إلى المدينة رضي الله عنه( ) وفي رواية: قال له الدليل الهلالي: هل لك في جمع آخر تركته من خَشْعَمَ سائرين قد أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: لم يأمرني رسول الله بهم، إنما أمرني أن أعْمَدَ لقتال هوازن بتُربة( )، وهذه السرية تدلنا على ثلاث نتائج عسكرية:
الأولى: أن عمر أصبح مؤهلاً للقيادة إذ لولا ذلك لما ولاه النبي الكريم ? قيادة سرية من سرايا المسلمين تتجه إلى منطقة بالغة الخطورة وإلى قبيلة من أقوى القبائل العربية وأشدها شكيمة.
والثانية: أن عمر الذي كان يكمن نهاراً ويسير ليلاً، مشبع بمبدأ المباغتة، أهم مبادئ الحرب على الإطلاق، مما جعله يباغت عدوه ويجبره على الفرار، وبذلك انتصر بقواته القليلة على قوات المشركين الكثيرة.
والثالثة: أن عمر ينفذ أوامر قائدة الأعلى نصاً وروحاً، ولا يحيد عنها، وهذا هو روح الضبط العسكري وروح الجندية في كل زمان ومكان( ) .
وفي غزوة خيبر عندما نزل رسول الله بحضرة أهل خيبر أعطى رسول الله اللواء( ) عمر بن الخطاب، فنهض معه من نهض من الناس، فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله ?، فقال رسول الله لأعطين اللواء غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما كان غداً تصدر( ) لها أبو بكر، وعمر، فدعا علياً، وهو أرمد( ) ، فتفل في عينيه وأعطاه اللواء، ونهض معه من الناس من نهض فتلقى أهل خيبر فإذا مرحب يرجز ويقول:

قد علمت خيبر أني مرحب
أطعن أحياناً وحيناً أضرب
شاك السلاح بطل مجرب
إذا الليوث أقبلت تلهب

فاختلف هو وعلي – رضي الله عنه – فضربه علي على هامته حتى عضى السيف منه بيضتي( ) رأسه، وسمع أهل المعسكر صوت ضربته، فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله لهم وله.
وعندما أقبل في خيبر نفر من أصحاب النبي ?، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله ?: كلا، إني رأيته في النار في بردة غلَّها، أو عباءة ثم قال رسول الله ?:
يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس: أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال: فخرجت فناديت: ألا أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون( ).

4- فتح مكة وغزوة حنين وتبوك:
لما نقضت قريش صلح الحديبية بغدرها، خشيت من الخطر القادم من المدينة، فأرسلت أبا سفيان ليشد العقد ويزيد في المدة، فقدم على رسول الله فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ولكن بدون جدوى، وخرج حتى أتى رسول الله فكلمه فلم يردّ عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكلمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به( )، وعندما أكمل النبي ? استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم فيه بنبأ تحرك النبي ? إليهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أطلع نبيه ? عن طريق الوحي على هذه الرسالة، فقضى ? على هذه المحاولة في مهدها، فأرسل النبي ? علياً والمقداد فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب فسلمته لهم ثم استدعي حاطب رضي الله عنه للتحقيق فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش -يقول- كنت حليفا ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله ?: إما إنه قد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله، دعني اضرب عنق هذا المنافق، فقال ?، إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم( ) ومن الحوار الذي تم بين الرسول ? وعُمر بن الخطاب في شأن حاطب يمكن أن نستخرج بعض الدروس والعبر منها.
- حكم الجاسوس القتل، فقد أخبر عمر بذلك ولم ينكر عليه الرسول ? ولكن منع من إيقاع العقوبة بسبب كونه بدرياً.
- شدة عمر في الدين: لقد ظهرت هذه الشدة في الدين حينما طالب بضرب عنق حاطب.
- الكبيرة لا تسلب الإيمان: إن ما ارتكبه حاطب كبيرة وهي التجسس ومع هذا ظل مؤمنا.
- لقد أطلق عمر على حاطب صفة النفاق بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الاصطلاحي في عهده ?. إذ النفاق إبطان الكفر والتظاهر بالإسلام، وإنما الذي أراده عمر، إنه أبطن خلاف ما أظهر إذ أرسل كتابه الذي يتنافى مع الإيمان الذي خرج يُجاهد من أجله ويبذل دمه في سبيله( ).
- تأثر عمر من رد الرسول ? فتحول في لحظات من رجل غاضب ينادي بإجراء العقوبة الكبيرة على حاطب إلى رجل يبكي من الخشية والتأثر ويقول: الله ورسوله أعلم، ذلك لأن غضبه كان لله ورسوله فلما تبين له أن الذي يرضي الله تعالى ورسوله ? غير ما كان يراه غض النظر عن ذلك الخطأ ومعاملة صاحبه بالحسنى تقديراً لرصيده في الجهاد واستجاب( ).
وعندما نزل رسول الله بمر الظهران وخشي أبو سفيان على نفسه وعرض عليه العباس عمّ رسول الله طلب الأمان من رسول الله فوافق على ذلك يقول العباس بن عبد المطلب قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله ? في الناس واصباح قريش والله، قال فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله ? وأنا عليها قالوا: عم رسول الله على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إليّ فلما رأى
أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله ? ودخل عليه عمر فقال:
يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال قلت: يا رسول الله إني قد أجرته، فلما أكثر عمر من شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله أن لو كان من بني عدي ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال عمر: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال ?: إذهب به ياعباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به( )، فهذا موقف عمر –رضى الله عنه- وهو يرى عدو الله يمر بقوات المسلمين، محتمياً بظهر العباس عم النبي ? وقد بدا ذليلاً خائفاً، فيود عمر –رضي الله عنه- أن يضرب عنق عدو الله قربى إلى الله تعالى وجهاداً في سبيله، ولكن الله تعالى قد أراد الخير بأبي سفيان فشرح صدره للإسلام، فحفظ دمه ونفسه( ).
وفي غزوة حنين، باغت المشركون جيش المسلمين وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وإنحاز رسول الله ? ذات اليمين ثم قال: أين أيها الناس؟ هلموا إليّ أنا رسول الله: أنا محمد بن عبد الله، فلم يسمع أحد، وحملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس إلا أنه بقي مع رسول الله نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وكان فيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن
أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وابنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه، وربيعة بن الحارث وغيرهم( )، ويحكي أبو قتادة عن موقف عمر في هذه الغزوة فيقول: خرجنا مع رسول الله عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فضربته من ورائه على عاتقه( )، بسيف فقطعت الدرع، وأقبل عليّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ فقال: أمر الله، ثم رجعوا( ).
قال تعالى عن هذه الغزوة: ? لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)?? (التوبة الآية: 25) فلما تاب الله تعالى على المؤمنين بعد أن كادت الهزيمة تلحق بهم نصر الله أولياءه، بعد أن أفاؤوا إلى نبيهم واجتمعوا حوله، فأنزل الله سكينته ونصره على جنده وقال تعالى يقص علينا ذلك:? ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26) ? (التوبة، آية 26).
وبعد معركة حنين عاد المسلمون إلى المدينة وبينما هم يمرون بالجعرانة( )، كان رسول الله يقبض الفضة من ثوب بلال رضي الله عنه ويعطي الناس، فأتى رجل وقال لرسول الله: يا محمد، اعدل، قال رسول الله: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعني يا رسول الله، فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم( )، يمرقون منه كما يمرق السهم( ) من الرمية( )، ففي هذا الموقف منقبة عظيمة لعمر رضي الله، فهو
لا يصبر إذا انتهكت أمامه المحارم، فقد اعتدي على مقام النبوة والرسالة، فما كان من الفاروق إن أسرع قائلاً: دعني يا رسول الله، أقتل هذا المنافق. هذا هو رد الفاروق أمام من ينتهكون قدسية النبوة والرسالة( )، وفي الجعرانة لبّى عمر رضي الله عنه رغبة يعلى بن أمية التميمي الصحابي المشهور في رؤية رسول الله حين ينزل عليه الوحي، فعن صفوان بن يعلى، أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله ? حين ينزل( ) عليه قال: فبينما النبي ? بالجعرانة( )، وعليه ثوب قد أُظلَّ به، معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جُبَّة متضمِّخٌ( )، بطيب، فقال:
يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ فأشار عمر على يعلى بيده، أن تعالَ فجاء يعلى فإذا النبي ? مُحمَرُّ الوجه، يغط( ) كذلك ساعة، ثم سُرِّي عنه قال: أين الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبّةُ فاترعها، ثم ضع في عمرتك كما تضع في حجك( ) وأما في غزوة تبوك فقد تصدق بنصف ماله، وأشار على رسول الله بالدعاء للناس بالبركة عندما أصاب الناس مجاعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما كان في غزوة تبوك( )، أصاب الناس مجاعة، فقالوا يا رسول الله لو أذنت فذبحنا نواضحنا( )، فأكلنا وادَّهنَّا، فقال لهم رسول الله: افعلوا، فجاء عمر فقال يا رسول إنهم إن فعلوا قل الظّهر، ولكن ادعهم فليأتوا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف الذرة، والآخر بكف التمر، والآخر بالكسرة، حتى اجتمع من ذلك على النطع شيء يسير، ثم دعا ? بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملأوه وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة، فقال رسول الله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك، فيحجب عن الجنة( ).
هذه بعض المواقف العمرية التي شاهدها مع رسول الله ? ولا شك أن الفاروق قد استوعب الدروس والعبر والفقه الذي حدث في غزوات رسول الله ? وأصبحت له زاداً انطلق به في ترشيد وقيادة الناس بشرع الله تعالى.

ثانياً: من مواقفه في المجتمع المدني:
كان عمر شديد الحرص على ملازمة رسول الله وكان رضي الله عنه إذا جلس إلى رسول الله لم يترك المجلس حتى ينفض، فهو واحد من الجمع القليل الذي لم يترك رسول الله ? وهو يخطب حين قدمت عير إلى المدينة( )، وكان يجلس في حلقات ودروس ومواعظ رسول الله نشطاً يستوضح، ويستفهم، ويلقي الأسئلة بين يدي رسول الله في الشؤون الخاصة والعامة( )، ولذلك فقد روى عن النبي ? خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثاً( )، وفي رواية: خمسمائة وسبعة وثلاثين حديثاً( )، اتفق الشيخان في صحيحيهما على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بواحد وعشرين( )، والبقية في كتب الأحاديث الأخرى( )، وقد وفقه الله إلى رواية أحاديث لها قيمتها الأولوية في حقيقة الإيمان والإسلام والإحسان والقضاء والقدر، وفي العلم والذكر والدعاء وفي الطهارة والصلاة والجنائز، والزكاة والصدقات، والصيام، والحج، وفي النكاح والطلاق والنسب، والفرائض، والوصايا والاجتماع، وفي المعاملات والحدود، وفي اللباس والأطعمة والأشربة والذبائح، وفي الأخلاق والزهد والرقاق والمناقب والفتن والقيامة، وفي الخلافة والإمارة والقضاء، وقد أخذت هذه الأحاديث مكانها في مختلف العلوم الإسلامية، ولا تزال رافداً يمد هذه العلوم( )، وإليك بعض المواقف التعليمية والتربوية والاجتماعية من حياة الفاروق مع رسول الله في المدينة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:55 pm

1- رسول الله ? يسأل عمر عن السائل:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أخبرني عمر بن الخطاب أنهم بينما هم جلوس – أو قعود – عند النبي ?، جاءه رجل يمشي، حسن الوجه، حسن الشعر، عليه ثياب بياض، فنظر القوم بعضهم إلى بعض: ما نعرف هذا، وما هذا بصاحب سفر. ثم قال: يا رسول الله، آتيك؟ قال: نعم. فجاء فوضع ركبتيه عند ركبتيه، ويديه على فخذيه، فقال: ما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت. قال: فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، والجنة والنّار، والبعث بعد الموت، والقدر كلِّه. قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعمل لله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فمتى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السَّائل. قال: فما أشراطها؟ قال: إذا العُراة الحفاة العالة رعاء الشاء تطاولوا في البنيان، ووَلَدت الإماء أربابهنَّ( ). قال: ثم قال عليَّ الرّجُلَ، فطلبوه فلم يروا شيئاً، فمكث يومين أو ثلاثة، ثم قال: يا ابن الخطاب أتدري من السائل عن كذا وكذا؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك جبريل جاءكم يعلمكم دينكم( ).
وهذا الحديث يبين أن الفاروق تعلم معاني الإسلام والإيمان والإحسان بطريقة السؤال والجواب من أفضل الملائكة وأفضل الرسل.

2- إصابة رأيه رأي رسول الله ?:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا قعوداً حول رسول الله ? ومعنا أبو بكر وعمر، في نفر. فقام رسول الله ? من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا، وقمنا، فكنت أوّل من فزع فخرجت أبتغي رسول الله ? حتى أتيت حائطاً( ) للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له باباً فلم أجد، فإذا ربيع( ) يدخل في جوف حائط من بئر خارجة فاحتفزت( ) فدخلت على رسول الله فقال أبو هريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين ظهرينا، فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقطع دوننا، ففزعنا، وكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي. فقال: يا أبا هريرة – وأعطاني نعليه – اذهب بنعلي هاتين فمن لقيته من وراء الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة. وكان أول من لقيت عمر، فقال: ما هذان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هذان نعلا رسول الله ? بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشرته بالجنة. فضرب عمر بين ثديَيَّ بيده، فخررت لأستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة فرجعت إلى رسول الله ? فأجهشت بالبكاء وركبني( ) عمر. وإذا هو على أثري فقال رسول الله ?: مالك يا أبا هريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني( ) به فضرب بين ثدييَّ ضربة فخررت لإستي، فقال: ارجع فقال رسول الله ?: يا عمر ما حملك على ما فعلت؟ فقال: يا رسول الله، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً به قلبه بَشَّرَهُ بالجنة؟ قال: نعم. قال: فلا تفعل؛ فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. فقال رسول الله ?: فخلِّهِم( ).

3- حرص رسول الله على توحيد مصدر تلقي الصحابة:
عن جابر بن عبد الله أن النبي ? رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: أمتهوكون( ) يا بن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيا‌ً ما وسعه إلا اتباعي وفي رواية: أن لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم( ).

4- رسول الله يتحدث عن بدءِ الخلق:
عن طارق بن شهاب قال سمعت عمر رضي الله عنه يقول قام فينا النبي ? مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه( ). وهذا الحديث يدخل ضمن فقه القدوم على الله الذي فهمه عمر من رسول الله.

5- نهي رسول الله عن الحلف بالآباء وحثه على التوكل على الله:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله ? نهى عنها، ولا تكلمت بها ذاكراً ولا آثراً( )، وسمع عمر رضي الله عنه نبي الله يقول: لو أنكم توكَّلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً( ).

6- رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً:
عن أبي موسى قال: سئل النبي ? عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس. سلوني عمّا شئتم، قال رجل: من أبي؟ قال: أبوك حذافة فقام آخر، من أبي؟ قال: أبوك سالم مولى شيبة( )، فلما رأى عمر ما في وجهه، قال: يا رسول الله إنا نتوب إلى الله عز وجل( )، وفي رواية: فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، فسكت( ).

7- لا ونعمةَ عينٍ بل للناس عامة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال: امرأة جاءت تبايعه فأدخلها الدولج( ) فأصبت منها ما دون الجماع؟ فقال: ويحك لعلها مُغيبة( ) في سبيل الله؟ ونزل القرآن:? وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ(114) ? (هود،آية:114). فقال: يا رسول الله إلي خاصة أم للناس عامة، فضرب صدره
– يعني عمر – بيده، وقال: لا، ولا نعمة عين بل للناس عامة: فقال رسول الله ?: صدق عمر( ).

8- حكم العائد في صدقته:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فأردت أن أبتاعه وظننت أنه بائعه برخص، فقلت: حتى أسأل رسول الله ? فقال: لا تبتعه، وإن أعطاكه بدرهم، فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه( ).


9- من صدقاته ووقفه:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله ? وكان يقال له: ثمغ، وكان به نخل، فقال عمر: يا رسول الله إني استفدت مالاً، وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به، فقال النبي ?: تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمر. فتصدق به عمر، فصدقته تلك في سبيل الله، وفي الرقاب، والمساكين، والضيف وابن السبيل، ولذوي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف، أو يؤكل صديقه غير متمولٍ به( )، وفي رواية: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي ? فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط. أنفس منه، كيف تأمرني به؟ قال:إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء وذوي القربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أويطعم صديقاً غير متموِّل فيه( )، فهذا الموقف العمري فيه فضيلة ظاهرة للفاروق رضي الله عنه ورغبته في المسارعة للخيرات، وإيثاره الحياة الآخرة على الحياة الفانية.
10- هدية نبوية لعمر بن الخطاب وأخرى لابنه:
عن ابن عمر قال: رأى عمر على رجل حلة من استبرق، فأتى بها إلى النبي ? فقال: يا رسول الله اشتر هذه فالبسها لوفد الناس إذا قدموا عليك. قال: إنما يلبس الحرير من لا خلاق له. فمضى من ذلك ما مضى، ثم إن النبي ? بعث إليه بحلة، فأتى بها النبي ? فقال: بعثت إلي بهذه، وقد قلت في مثلها أو قال في حُلة عطارد( ) ما قلت؟ قال: إنما بعثت إليك لتصيب بها مالاً( ) وفي رواية: … فكساها عمر أخاً له بمكة قبل أن يسلم( )، وأما هدية النبي ? لابن عمر، فعن عبد الله بن عمر قال: كنا مع النبي ? في سفر، فكنت على بكر صعب( ) لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، فقال النبي ? لعمر: بعنيه. قال: هو لك يا رسول الله قال: بعنيه: فباعه من رسول الله ? فقال النبي ?: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت( ).

11- تشجيعه لابنه وبشرى لابن مسعود:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن رسول الله ? قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنّها النخلة، قال عبد الله: فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها. فقال رسول الله ?: هي النخلة. قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في
نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا( ). وأما بشرى عمر لابن مسعود، فقد روى عمر رضي الله عنه أنه سمر في بيت أبي بكر مع رسول الله في أمور المسلمين، فخرج رسول الله، وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلِّي في المسجد، فقام رسول الله ? يستمع قراءته فلما كدنا أن نعرفه، قال رسول الله ?: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد. قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله يقول له: سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ. قال عمر: قلت: والله لأغدون إليه فلأبشرنه، قال فغدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه فبشره، ولا والله ما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه( ).

12- حذره من الابتداع:
عن المسور بن مخرمة( )، وعبد الرحمن بن عبد القاريّ أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله ? فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤُها على حروف كثيرة، لم يُقرئنيها رسول الله ? فكدت أُساوره( ) في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، فلببته( )، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله ?، فقلت له: كذبت، فوالله إنّ رسول الله ? لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك فانطلقت به إلى رسول الله ? أقوده، فقلت له: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ الفرقان على حروف لم تُقرئنيها، وإنك أقرأتني سورة الفرقان، قال: يا هشام اقرَأها. فقرأها القراءة التي سمعته، فقال رسول الله: هكذا أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرات القراءة التي أقرأنيها، فقال رسول الله ?: هكذا أنزلت. ثم قال رسول الله: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه( ).

13- خذ ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل:
عن عبد الله بن عمر قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قد كان رسول الله يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر مني حتى أعطاني مرة مالاً. فقلت: أعطه من هو أفقر مني. فقال رسول الله ? خذه، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك( ).

14- دعاء رسول الله لعمر رضي الله عنه:
رأى النبي ? على عمر ثوباً وفي رواية قميصاً أبيض فقال: أجديد ثوبك أم غسيل؟ فقال: بل غسيل، فقال: البس جديداً، وعش حميداً، ومُت شهيداً( ).

15- لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركن فيها:
عن جابر بن عبد الله: أن أباه تُوُفِّي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله ? ليشفع له إليه، فجاء رسول الله ? فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى فدخل رسول الله ? النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: جُدَّ له، فأوف له الذي له، فجده بعد ما رجع رسول الله فأوفاه ثلاثين وسقاً( )، وفضلت له سبعة عشر وسقاً، فجاء جابر رسول الله ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال: أخبر بذلك ابن الخطاب، فذهب جابر إلى عمر فأخبره فقال له عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركن فيها( ).

16- زواج حفصة بنت عمر رضي الله عنهما من رسول الله:
قال عمر رضي الله عنه: حين تأيمت( ) حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله ? فتوفي في المدينة، فقال عمر: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر، قال: قلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبث لياليَ، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر رضي الله عنه فلم يرجع إليَّ شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان بن عفان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله ? فأنكحتها إياه فلقيني
أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال عمر: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله ? قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ? ولو تركها رسول الله لقبلتها( ) .

ثالثاً: موقف عمر رضي الله عنه من خلاف رسول الله مع أزواجه:
عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي ?، اللتين قال الله تعالى: ? إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ? (التحريم: 4) حتى حجَّ عمر وحججت معه، فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت، يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي ? اللتان قال الله تعالى: ? إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ?؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس: قال الزهري: كره، والله
ما سأله عنه ولم يكتمه عنه – قال هي حفصة وعائشة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، قال: فتغضبت( ) يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فو الله إن أزواج النبي ? ليراجعنه، وتهجره إحداهنَّ اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله ?؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكنَّ وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب عليها لغضب رسول الله ? فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئاً، وسليني ما بدا لك،
ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله ? منك - يريد
عائشة -: قال وكان لي جار من الأنصار، وكنّا نتناوب النّزول إلى رسول الله ?، فينزل يوماً، وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، قال: وكنا نتحدث أن غسّان تُنْعلُ الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوماً، ثم أتاني عشاءً فضرب بابي، ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم. فقلت: وماذا، أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأطول، طلق الرّسول نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائناً. حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت أطلقكن رسول الله؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة: فأتيت غلاماً له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إليَّ، فقال: قد ذكرتُك له فصَمتَ، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلاً، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليَّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فوليت مدبراً، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أذن لك. فدخلت، فسلمت على رسول الله ?، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال؟ لا. فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فتغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله ? ليُراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله ?، فقلت:
يا رسول الله، فدخلت على حفصة، فقلت: لا يغرَّنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحبَّ إلى رسول الله ? منك، فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم. فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرُدُّ البصرَ إلا أهبة( ) ثلاثة، فقلت: ادع يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وُسِّع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالساً، ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن
لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل( ).
هذا ما تيسر جمعه وترتيبه من حياة الفاروق في المجتمع المدني ولقد نال عمر رضي الله عنه أوسمة رفيعة من رسول الله ? بينت فضله ودينه وعلمه رضي الله عنه وسنتحدث عنها بإذن الله.

رابعاً: شيء من فضائله ومناقبه:
إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يلي أبا بكر الصديق في الفضل فهو أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته رضي الله عنه وهو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة( )، وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة بفضائل الفاروق رضي الله عنه ومنها:
1- إيمانه وعلمه ودينه:
فقد جاء في منزلة إيمانه رضي الله عنه ما رواه عبد الله بن هشام أنه قال: كنا مع النبي ? وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي ?: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليّ من نفسي. فقال النبي ?: الآن يا عمر( ). وأما علمه فقد قال رسول الله ?: بينما أنا نائم شربت – يعني اللبن – حتى أنظر إني الرّي يجري في ظفري أو في أظفاري، ثم ناولت عمر. فقالوا: فما أولته قال العلم( ). وجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سبباً للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي وفي الحديث فضيلة – ومنقبة لعمر رضي الله عنه – وإن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره.. والمراد بالعلم – في الحديث – سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله ? واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر في طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف عليُّ فما ازداد الأمر إلا اختلافاً والفتن إلا انشاراً، وأما دينه، فقد قال رسول الله ?: بينما أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض على عمر وعليه قميص اجتره. قالوا فما أولته
يا رسول الله؟ قال: الدين( ).

2- هيبة عمر وخوف الشيطان منه:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله ? وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى فدخل عمر ورسول الله يضحك. فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله فقال النبي ?: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله ثم قال عمر يا عدوات أنفسهن، أتهبنني
ولا تهبن رسول الله ? فقلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله ? فقال رسول الله ?: إيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً( ) قط إلا سلك فجاً آخر( ) هذا الحديث فيه بيان فضل عمر رضي الله عنه وأنه من كثرة التزامه الصواب لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه( ).
قال ابن حجر: فيه فضيلة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، فإن قيل عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ: إن الشيطان
لا يلقى عمر منذ أسلم إلا فر لوجهه. وهذا دال على صلابته في الدين، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض، وقال النووي: هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه: وقال عياض: يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل وأن عمر فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد فخالف كل
ما يحبه الشيطان قال ابن حجر والأول أولى( ).

3- ملهم هذه الأمة:
قال رسول الله ?: لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر( ) هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة للفاروق رضي الله عنه وقد اختلف العلماء في المراد بالمحدَّث. فقيل: المراد بالمحدث: الملهم. وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مكلم أي: تكلمه الملائكة بغير نبوة.. بمعنى أنها تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام. وفسره بعضهم بالتفرس( ).
قال ابن حجر: والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي ? من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها ووقع له بعد النبي ? عدة إصابات( ) وكون عمر رضي الله عنه اختص بهذه المكرمة العظيمة وانفرد بها دون من سواه من الصحابة لا تدل على أنه أفضل من الصديق رضي الله عنه( )، قال ابن القيم: ولا تظن أن تخصيص عمر رضي الله عنه بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيم الخبير( ).

4- لم أر عبقرياً يفري فريه:
قال رسول الله ?: رأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب( )، فجاء
أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له( )، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن( )، وهذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه تضمنها قوله ?: فجاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً… الحديث ومعنى: استحالت صارت وتحولت من الصغر إلى الكبر وأمّا ((العبقري)) فهو السيد وقيل: الذي ليس فوقه شيء ومعنى ((ضرب الناس بعطن)) أي أرووا إبلهم ثم آووا إلى عطنها وهو الموضع الذي تساق إليه بعد السقي لتستريح وهذا المنام الذي رآه النبي ? مثال واضح لما جرى للصديق وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما فقد حصل في خلافة الصديق قتال أهل الردة وقطع دابرهم وأشاع الإسلام رغم قصر مدة خلافته فقد كانت سنتين وأشهراً فوضع الله فيها البركة وحصل فيها من النفع الكثير ولما توفي الصديق خلفه الفاروق فاتسعت رقعة الإسلام في زمنه وتقرر للناس من أحكامه ما لم يقع مثله فكثر انتفاع الناس في خلافة عمر لطولها فقد مصر الأمصار ودون الدواوين وكثرت الفتوحات والغنائم.. ومعنى قوله ?: فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه: أي لم أر سيداً يعمل عمله ويقطع قطعه ومعنى قوله ?: حتى ضرب الناس بعطن، قال القاضي عياض ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعاً لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر ((وضرب الناس بعطن)). لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما( ).

5- غيرة عمر رضي الله وبشرى رسول الله له بقصر في الجنة:
قال رسول الله ?: رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طليحة
وسمعت خشفة فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت. لمن هذا؟ فقالوا: لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك. فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار( )، وفي رواية قال رسول الله ?: بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر فذكرت غيرته فوليت مدبراً. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله( )؟ هذان الحديثان اشتملا على فضيلة ظاهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أخبر النبي ? برؤيته قصراً في الجنة للفاروق وهذا يدل على منزلته عند الله تعالى( ).

6- أحب أصحاب رسول الله إليه بعد أبي بكر:
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: قلت يا رسول الله، أيُّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة قلت: يا رسول الله، من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب ثم عدّ رجالاً( ).

7- بشرى لعمر بالجنة:
عن أبي موسى الأشعري قال: كنت مع النبي ? في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح فقال النبي ?: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا أبو بكر فبشرته بما قال رسول الله ?: فحمد الله ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي ?: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي ? فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي افتح له وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله ? فحمد الله، ثم قال: الله المستعان( ).

خامساً: موقف عمر في مرض رسول الله ووفاته:

1- في مرض رسول الله:
قال عبد الله بن زمعة: لما مرض رسول الله ? دخل عليه بلال – رضي الله عنه – يدعوه إلى الصلاة، فقال ?: مروا من يصلي بالناس. قال: فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائباً، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، قال: فقام، فلما كبر سمع رسول الله ? صوته، وكان عمر رجلاً مجهراً، قال: فقال رسول الله ?: فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون، فأبى الله ذلك والمسلمون. قال، فبعث إلى
أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس، قال: قال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر:
ويحك !! ماذا صنعت بي يا ابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمر بذلك ولولا ذلك ما صليت بالناس، قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله ? بذلك، ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس( ) ، وقد روى ابن عباس بأنه: لما اشتد بالنبي ? وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. قال عمر رضي الله عنه: إن النبي ? غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا! فاختلفوا وكثر اللّغط قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ? وبين كتابه( ) . وقد تكلم العلماء على هذا الحديث بما يشفي العليل ويروي الغليل، وقد أطال النفس في الكلام عليه النووي في شرح مسلم فقال: اعلم أن النبي ? معصوم من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها. مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سُحر ? حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن يفعله، ولم يصدر منه ? في هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام التي قررها، فإذا علمت ما ذكرناه فقد اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي ? به. فقيل: أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع فيه نزاع وفتن، وقيل: أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها، ويحصل الإتفاق على المنصوص عليه، وكان النبي ? هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول، وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره. لأنه خشي أن يكتب ? أموراً ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة عليها، لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها. فقال عمر: حسبنا كتاب الله، لقوله تعالى:
? مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ?(الأنعام، آية:38). وقوله: ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ? (المائدة،آية:3). فعلم أن الله تعالى أكمل دينه، فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله ?، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه، قال الخطابي: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله ?، أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال. لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله ? من الوجع وقرب الوفاة، مع ما اعتراه مع الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين. وقد كان أصحابه ? يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف، وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش. فأما إذا أمر النبي? بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم( ) . وقال القاضي: قوله: أهجر رسول الله ?، هكذا هو في صحيح مسلم وغيره: أهجر؟ على الاستفهام وهو أصح من رواية من روى هجر يهجر. لأن هذا كله لا يصح منه ?. لأن معنى هجر هذى. وإنما جاء هذا من قائله استفهاماً للإنكار على من قال: لا تكتبوا. أي لا تتركوا أمر رسول الله ? وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه، لأنه ? لا يهجر، وقول عمر رضي الله عنه: حسبنا كتاب الله، رداً على ما نازعه، لا على من أمر النبي ?( )، وعلق الشيخ علي الطنطاوي على ذلك فقال: والذي أراه أن عمر قد تعود خلال صحبته الطويلة للرسول أن يبدي له رأيه لما يعلم من إذنه له بذلك ولرضاه عنه، وقد مر من أخبار صحبته، مواقف كثيرة كان يقترح فيها على رسول الله أموراً، ويطلب منه أموراً، ويسأله عن أمورٍ، فكان الرسول ? يقره على ما فيه الصواب، ويرده عن الخطأ، فلما قال الرسول ?: ائتوني أكتب لكم كتاباً، اقترح عليه عمر على عادته التي عوده الرسول، أن يكتفي بكتاب الله، فأقره الرسول ?، ولو كان يريد الكتابة، لأسكت عمر، ولأمضى ما يريد( ).

2- موقفه يوم قبض الرسول ?:
لما بلغ الناس خبر وفاة رسول الله ? حدثت ضجة كبيرة، فقد كان موت الرسول صدمة لكثير من المسلمين خاصة ابن الخطاب، حدثنا عن ذلك الصحابي الجليل
أبو هريرة – رضي الله عنه – حيث قال: لما توفي رسول الله قام عمر بن الخطاب فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله
ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله ? كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله ? قد مات( )، وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد – حين بلغه الخبر – وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة رضي الله عنها ورسول الله ? مسجى في ناحية البيت، عليه بردة حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله ? ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً، قال: ثم رد البردة على وجه رسول الله ?، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال:
على رسلك يا عمر، أنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت، أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا قول الله تعالى: ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144) ? (آل عمران،آية:144).
قال أبو هريرة: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها
أبو بكر يومئذ، قال: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم، قال: فقال أبو هريرة: قال عمر: فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات( ).


المبحث الثالث: عمر رضي الله عنه في خلافة الصديق:

أولاً: مقامه في سقيفة بني ساعدة ومبايعته للصديق:
عقب وفاة النبي ? اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم،، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله
لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة. فقال عمر: بل نبايعك أنت، وأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس( )، فرضي الله عن عمر وأرضاه، فإنه عندما ارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللغط، وخشي عمر الاختلاف، ومن أخطر الأمور التي خشيها عمر أن يُبْدأ بالبيعة لأحد الأنصار فتحدث الفتنة العظيمة؛ لأنه ليس من اليسير أن يبايع أحد بعد البدء بالبيعة لأحد الأنصار، فأسرع عمر رضي الله عنه إخماداً للفتنة( )، وقال للأنصار:
يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله ? أمر أبا بكر أن يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر( )، ثم بادر رضي الله عنه وقال لأبي بكر: ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، وبايعه المهاجرون، ثم الأنصار( ).
وعندما كان يوم الثلاثاء جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده إليّ رسول الله ?، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله ? سيُدبّر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله ?، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله ?، ثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا فبايع الناس أبا بكر بيعته العامة بعد بيعة السقيفة( )، فكان عمر رضي الله عنه يذود ويقوي، ويشجع الناس على بيعة أبي بكر حتى جمعهم الله عليه، وأنقذهم الله من الاختلاف والفرقة والفتنة، فهذا الموقف الذي وقفه عمر مع الناس من أجل جمعهم على إمامة أبي بكر، موقف عظيم من أعظم مواقف الحكمة التي ينبغي أن تسجل بماء الذهب( ).
لقد خشي أن يتفرق أمر المسلمين وتشب نار الفتن فأخمدها بالمبادرة إلى مبايعة أبي بكر، وتشجيع الناس على المبايعة العامة فكان عمله هذا سبباً لنجاة المسلمين من أكبر كارثة كانت تحل بهم لولا يمن نقيبته وصحة نظره بعد معونة الله تعالى( ).

ثانياً: مراجعته لأبي بكر في محاربة مانعي الزكاة وإرسال جيش أسامة:
قال أبو هريرة رضي الله عنه: لما توفي رسول الله ? وكان أبو بكر بعده. وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله ?: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا( ) ، كانوا يؤدونها إلى رسول الله ? لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله – عز وجل – قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق( )، وعندما اقترح بعض الصحابة على
أبي بكر بأن يبقى جيش أسامة حتى تهدأ الأمور أرسل أسامة من معسكره من الجرف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال: إن معي وجوه المسلمين وجلتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله، وحرم رسول الله، والمسلمين أن يتخطفهم المشركون( )، ولكن أبا بكر خالف ذلك وأصرّ على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج، وطلبت الأنصار رجلاً أقدم سناً من أسامة يتولى أمر الجيش وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدث الصديق في ذلك فقال عمر رضي الله عنه، فإن الأنصار تطلب رجلاً أقدم سناً من أسامة رضي الله عنه فوثب أبو بكر رضي الله عنه وكان جالساً وأخذ بلحية عمر رضي الله عنه وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله وتأمرني أن أعزله( )، فخرج عمر رضي الله عنه إلى الناس فقالوا: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله( ).

ثالثاً: عمر ورجوع معاذ من اليمن، وفراسة صادقة في أبي مسلم الخولاني، ورأيه في تعيين إبان بن سعيد على البحرين:

1- عمر ورجوع معاذ من اليمن:
مكث معاذ بن جبل باليمن في حياة رسول الله ? وكان له جهاده الدعوي وكذلك ضد المرتدين، وبعد وفاة رسول الله قدم إلى المدينة، فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيشه وخذ سائره منه. فقال أبو بكر: إنما بعثه النبي ? ليجبره ولست بآخذ منه شيئاً إلا أن يعطيني، ورأى عمر أن أبا بكر رضي الله عنهما لم يأخذ برأية، ولكن عمر مقتنع بصواب رأيه، فذهب إلى معاذ لعله يرضى، فقال معاذ: إنما بعثني رسول الله ? ليجبرني ولست بفاعل، إن عمر لم يذهب إلى أبي بكر مستعدياً، ولكنه كان يريد الخير لمعاذ وللمسلمين، وهاهو معاذ يرفض نصيحة عمر ويعلم عمر أنه ليس بصاحب سلطان على معاذ فينصرف راضياً، لأنه قام بواجبه من النصيحة، ولكن معاذاً رأى بعد رفضه نصيحة عمر ما جعله يذهب إليه قائلاً: قد أطعتك، وإني فاعل ما أمرتني به فإني رأيت في المنام أني في خوضة ماء قد خشيت الغرق فخلصتني منه يا عمر. ثم ذهب معاذ إلى أبي بكر رضي الله عنهما فذكر ذلك كله له وحلفه أنه لا يكتمه شيئاً، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا
لا آخذ شيئاً قد وهبته لك. فقال عمر رضي الله عنه: هذا حين حل وطاب( ) ، وقد جاء في رواية: أن أبا بكر قال لمعاذ: ارفع حسابك فقال معاذ: أحسابان حساب الله وحساب منكم؟ والله لا ألي لكم عملاً أبداً( ).

2- فراسة صادقة في أبي مسلم الخولاني:
كان عمر رضي الله عنه يتمتع بفراسة يندر وجودها في هذه الحياة فقد روى الذهبي: أن الأسود العنسي تنبأ باليمن – ادعى النبوة – فبعث إلى أبي مسلم الخولاني، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضره … فقيل للأسود: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك، فأمره بالرحيل،فقدم المدينة، فأناخ في راحلته، ودخل المسجد فبصر به فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من اليمن قال: وما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثُوَب. قال نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فأعتنقه عمر، وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصديق، فقال: الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أراني في أمة محمد ? من صنُع به كما صُنع بإبراهيم الخليل( ).

3- رأيه في تعيين أبان بن سعيد على البحرين:
انتهج أبو بكر رضي الله عنه خط الشورى في تعيين الأمراء، فقد ورد أنه شاور أصحابه فيمن يبعث إلى البحرين، فقال له عثمان: ابعث رجلاً قد بعثه رسول الله، فقدم عليه( ) ، بإسلامهم وطاعتهم، وقد عرفوه وعرفهم، وعرف بلادهم يعني العلاء بن الحضرمي، فأبى ذلك عمر عليه، وقال: أكره إبان بن سعيد بن العاص، فإنه رجل قد حالفهم، فأبى أبو بكر أن يكرهه وقال: لا أكره رجلاً يقول:
لا أعمل لأحد بعد رسول الله وأجمع أبو بكر بعثة العلاء بن الحضرمي إلى البحرين( ) .

رابعاً: رأي عمر في عدم قبول دية قتلى المسلمين، واعتراضه على إقطاع الصديق للأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن:

1- رأي عمر في عدم قبول دية قتلى المسلمين في حروب الردة:
جاء وفد بُزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح، فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال تنزع منكم الحلقة والكراع، ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا، وتَدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقواماً يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله ? والمهاجرين أمراً يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب، فقال: قد رأيت رأياً سنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم وتردّون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلت فقتلت على أمر الله، أجورها على الله ليس لها ديات. فتبايع القوم على ما قال عمر( ) .

2- اعتراضه على إقطاع الصديق للأقرع بن حابس وعينيه بن حصن:
جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر – رضي الله عنه – فقالا:
يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا، إن كانت أرضاً سبخة لا ينتفع بها؟ قالوا: نرى أن تقطعهما إياها، لعل الله ينفع بها بعد اليوم. فأقطعهما إياها، وكتب لهما بذلك كتاباً، وأشهد عمر، وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر يشهدانه، فوجداه قائماً يهنأ( ) بعيراً له، فقالا: إن أبا بكر أشهدك على ما في الكتاب فنقرأ عليك أو تقرأ؟ فقال: أنا على الحال الذي تريان، فإن شئتما فاقرءا وإن شئتما فانظرا حتى فرغ، فأقرأ عليكما قالا: بل نقرأ فقرءا فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل عليه فمحاه، فتذمرا، وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا فأجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر: فقال:لا بل هو لو كان شاء. فجاء عمر – وهو مغضب – فوقف على أبي بكر فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين أرض هي لك خاصة أم للمسلمين عامة. قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال: استشرت هؤلاء الذين حولي فأشاروا علي بذلك. قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضي. فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد كنت قلت لك إنك على هذا أقوى مني، ولكن غلبتني( ).
هذه الواقعة دليل لا يقبل الشك أن حكم الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين كان يقوم على الشورى، فهي تظهر لنا خليفة رسول الله ?، حريصاً على استشارة المسلمين في الصغير والكبيرة، وما كان ليبرم أمراً دون مشورة إخوانه( ).
إن الخبر السالف الذكر يؤكد لنا أن خليفة رسول الله رضي الله عنه كان يمضي الشورى في كل شأن من شؤون المسلمين، بل وكان ينزل عن رأيه، وهو من هو رضي الله عنه، إنها صورة للشورى الحقيقية المنضبطة مع أوامر الله، مع الحلال والحرام، لا الشورى المزيفة التي تجري تحت قباب مجالس دستورية لم تجن من ورائها الشعوب إلا المرارة والاستبداد والظلم والضياع( ).

خامساً: جمع القرآن الكريم:
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر رضي الله عنه بمشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال( )، وأسند الصديق هذا العمل العظيم إلى الصحابي زيد بن ثابت الأنصاري، قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: بعث إليّ أبو بكر رضي الله عنه لمقتل أهل اليمامة( )، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر( ) يوم اليمامة بقراء القرآن الكريم، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن( )، كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ?؟!! فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال
أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ?، فتتبع القرآن فاجمعه( ). قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ مما كلفني به من جمع القرآن( ).
ونستخلص من واقعة جمع القرآن الكريم بعض النتائج منها:
1- إن جمع القرآن الكريم جاء نتيجة الخوف على ضياعه نظراً لموت العديد من القراء في حروب الردة، وهذا يدل على أن القراء والعلماء كانوا وقتئذ أسرع الناس إلى العمل والجهاد لرفع شأن الإسلام والمسلمين بأفكارهم وسلوكهم وسيوفهم فكانوا خير أمة أخرجت للناس ينبغي الاقتداء بهم لكل من جاء بعدهم.
2- إن جمع القرآن تم بناء على المصلحة المرسلة ولا أدل على ذلك من قول عمر لأبي بكر حين سأله كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ?: إنه والله خير وفي بعض الروايات أنه قال له: إنه والله خير ومصلحة للمسلمين، وهو نفس
ما أجاب به أبو بكر زيد بن ثابت حين سأل نفس السؤال وسواء صحت الرواية التي جاء فيها لفظ المصلحة أو لم تصح، فإن التعبير بكلمة خير، يفيد نفس المعنى، وهو مصلحة المسلمين في جمع القرآن، فقد كان جمع القرآن مبنياً على المصلحة المرسلة أول الأمر ثم انعقد الإجماع على ذلك بعد أن وافق الجميع بالإقرار الصريح أو الضمني وهذا يدل على أن المصلحة المرسلة يصح أن تكون سنداً للإجماع بالنسبة لمن يقول بحجيتها كما هو مقرر في كتب أصول الفقه.
3- وقد اتضح لنا من هذه الواقعة كذلك كيف كان الصحابة يجتهدون في جو من الهدوء يسوده الود والاحترام، هدفهم الوصول إلى ما يحقق الصالح العام لج
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:57 pm

الفصل الثالث
استخلاف الصديق للفاروق، وقواعد نظام حكمه، وحياته في المجتمع

المبحث الأول: استخلاف الصديق للفاروق وقواعد نظام حكمه:

أولاً: استخلاف الصديق للفاروق:
لما اشتد المرض بأبي بكر جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمرتم في حياتي كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي( ) وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني: فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان. فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبر به، فقال: على ذلك
يا أبا عبد الله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدتك ثم دعا أسيد بن حضير فقال له: مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته فقال لأبي بكر ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفونني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك( ) وبين لهم سبب غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه( ) ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد فكان نص العهد بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ
ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب? وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227) ? (الشعراء،آية:227)
إن عمر هو نصح أبي بكر الأخير للأمة، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى وفي قومه فاقة قديمة يعرفها، فإذا ما أطلوا لها استشرفوا شهواتها، فنكلت بهم واستبدت، وذاك ما حذرهم رسول الله ? إياه( ) ، قال رسول الله ?: فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم( )، لقد أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم رضي الله عنه بدواء ناجح … جبل شاهق، إذا ما رأته الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة، إنه الرجل الذي قال فيه النبي ?: إيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك( ). إن الأحداث الجسام التي مرت بالأمة، قد بدأت بقتل عمر، هذه القواصم خير شاهد على فراسة أبي بكر وصدق رؤيته في العهد لعمر، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أفرس الناس ثلاثة صاحبة موسى التي قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وصاحب يوسف حيث قال:أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، وأبو بكر حين استخلف عمر( ) ، فقد كان عمر هو سد الأمة المنيع الذي حال بينها وبين أمواج الفتن( ) .
هذا وقد أخبر عمر بن الخطاب بخطواته القادمة فقد دخل عليه عمر فعرفه أبو بكر بما عزم فأبى أن يقبل، فتهدده أبو بكر بالسيف فما كان أمام عمر إلا أن يقبل( ) ، وأرد الصديق أن يبلغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بمن استخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا( ) وتوجه الصديق بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم، وأحرصهم على
ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر، فأخلفني فيهم فهم عبادك( ).
وكلف أبو بكر عثمان رضي الله عنه: بأن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر، دون أي آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به( )، فبعد أن قرأ العهد على الناس ورضوا به أقبلوا عليه وبايعوه( )، واختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده( )، وقد جاء في الوصية: اتق الله ياعمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تُؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم، وإن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وردّ عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت ولست تُعجزه( ).
وباشر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر رضي الله عنه( ).
ويلحظ الباحث: أن ترشيح أبي بكر الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب، لم يأخذ قوته الشرعية، ما لم يستند لرضا الغالبية بعمر وهذا ما تحقق حين طلب أبو بكر من الناس أن يبحثوا لأنفسهم عن خليفة من بعده، فوضعوا الأمر بين يديه، وقالوا له، رأينا إنما هو رأيك( )، ولم يقرر أبو بكر الترشيح إلا بعد أن استشار أعيان الصحابة فسأل كل واحد على انفراد، ولما ترجح لديه اتفاقهم أعلن ترشيحه لعمر، فكان ترشيح
أبي بكر صادراً عن استقراء، لآراء الأمة من خلال أعيانها، على أن هذا الترشيح
لا يأخذ قوته الشرعية إلا بقبول الأمة به، ذلك أن اختيار الحاكم حق للأمة، والخليفة يتصرف بالوكالة عن الأمة. ولا بد من رضا الأصيل، ولهذا توجه أبو بكر إلى الأمة: أترضون بمن استخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهدي الرأي ولا وليت ذا قرابة، وأني قد استخلفت عمر بن الخطاب. فأسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا( )، وفي قول أبي بكر أترضون بمن استخلف عليكم، إشعار بأن الأمر للأمة وأنها هي صاحبة العلاقة والاختصاص( ).
إن عمر رضي الله عنه ولي الخلافة باتفاق أهل الحل والعقد وإرادتهم فهم الذين فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه، وأمضوه ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب (الطبيعيون) عن هذه الأمة، وإذن فلم يكن استخلاف عمر رضي الله عنه إلا على أصح الأساليب الشورية وأعدلها( ).
إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار خليفته من بعده
لا تتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه( )، وهكذا تم عقد الخلافة لعمر رضي الله عنه بالشورى والاتفاق، ولم يورد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طول عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة( ).

ثانياً: النصوص الشرعية التي أشارت إلى أحقية خلافة الفاروق:

1- في نص القرآن الكريم دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله تعالى قال مخاطباً نبيَّه ? في الأعراب: ? فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا ?(التوبة،آية:83). وكان نزول براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك( ) التي تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم في سورة براءة ولم يغز عليه الصلاة والسلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات ? وقال تعالى أيضاً: ? سَيَقُولُ الْمُخَلَّفونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ?? فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله ? بعد تبوك لهذا، ثم عطف سبحانه وتعالى عليهم أثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله ? فقال تعالى:
? قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(16) ? (الفتح،آية:16-17). فأخبر تعالى أنه سيدعوهم غير النبي إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم( ).
قال أبو محمد بن حزم: وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله ? إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس، وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك( ). فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم( ).

2- قال رسول الله ?: أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن( ).
هذا الحديث تضمن الإشارة إلى خلافة الشيخين رضي الله عنهما، كما تضمن الإشارة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإلى كثرة الفتوح وظهور الإسلام في زمنه فهذا المنام النبوي مثال واضح لما حصل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما وكل ذلك مأخوذ عن المصطفى ? وآثار صحبته فقد كان ? هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام حيث قرر قواعد الدين ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأنزل الله تعالى عليه قوله:? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الأسْلاَمَ دِينًا ? (المائدة،آية:3).
ولما التحق ? بالرفيق الأعلى خلفه أبو بكر رضي الله عنه على الأمة سنتين وأشهراً وهو المراد بقوله ?: ((ذنوباً أو ذنوبين)) وهذا شك من الراوي والمراد ذنوبان كما جاء التصريح بذلك في رواية أخرى( ) وقد حصل في خلافته رضي الله عنه قتال المرتدين وقطع دابرهم وأشاع رقعة الإسلام في زمنه أكثر وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله لطول ولايته واتساع بلاد الإسلام وكثرة الأموال من الغنائم وغيرها فالحديث اشتمل على أحقية خلافة عمر رضي الله عنه وصحتها وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها( ).

3- عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي ? جلوساً فقال: إني لا أدري
ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر وتمسكوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه( )، دل هذا الحديث دلالة صريحة على أحقية خلافة عمر رضي الله عنه فقوله ?: اقتدوا باللذين. بفتح الذال أي الخليفتين اللذين يقومان من بعدي أبو بكر وعمر، فأمره ? بطاعتهما. يتضمن الثناء عليهما لكونهما أهلاً لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه المؤذن بحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وإيماء لكونهما الخليفتين من بعده وسبب الحث على الاقتداء بالسابقين الأولين ما فطروا عليه من الأخلاق المرضية والطبيعة القابلة للخير ولذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء وصار أفضل الخلق بعدهم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين( ).

4- قال رسول الله ?: (( بينما أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب )) قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم( ).
ففي هذا الحديث إشارة إلى أحقية خلافة عمر رضي الله عنه: والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله ? واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة
أبي بكر كانت قصيرة فلم تكثر فيها الفتوح التي هي من أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها – مع طول مدته – الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافاً، والفتن إلا انتشاراً( )، فالحديث فيه إشارة واضحة إلى أحقية خلافة الفاروق رضي الله عنه( ).

5- عن أبي بكر أن النبي ? قال ذات يوم: من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله ?( ).
في هذا الحديث إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الفضل، فأفضلهم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين كما أن الحديث تضمن الإشارة إلى أحقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي الخلافة بعد الصديق رضي الله عنه وقوله في الحديث: فرأينا الكراهية في وجه رسول الله ? وذلك لما علم ? من أن تأويل رفع الميزان انحطاط رتبة الأمور وظهور الفتن بعد خلافة عمر( ).

6- عن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلاً أتى رسول الله ? فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظللة تنطف( ) السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون( ) منها: فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل. فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي ?: اعبرها قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت! قال رسول الله ? أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً. قال: فوالله
يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت. قال: لا تقسم( ). تضمن هذا الحديث الإشارة إلى أحقية خلافة عمر رضي الله عنه ووجه ذلك أن قوله في الحديث: ثم أخذ به رجل آخر فعلا به. هو أبو بكر رضي الله عنه وقوله ثانياً: ثم أخذ به رجل آخر فانقطع إشارة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه( ).

7- عن أنس رضي الله عنه قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله ? فقالوا: سل لنا رسول الله ? إلى من ندفع صدقاتنا بعدك قال: فأتيته فسألته فقال: إلى أبي بكر. فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بأبي بكر حدث فإلى من؟ فأتيته فسألته فقال: إلى عمر، فأتيته فأخبرتهم( )…
اشتمل هذا الحديث على الإشارة إلى أحقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي أمر المسلمين بعد وفاة الصديق رضي الله عنه( ).

8- ومما دل على أحقية خلافته رضي الله عنه اجتماع الصحابة على أنهم لا يقدمون إلا أفضلهم وأخيرهم مع قول أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فيه، فأما قول
أبي بكر رضي الله عنه فيه فهو قوله: اللهم أمرت عليهم خير أهلك( )، وأما قول علي رضي الله عنه فهو ما رواه البخاري عن محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن
أبي طالب قال: قلت لأبي أي الناس خير بعد رسول الله: قال أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر وخشيت أن يقول: عثمان. قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين( )، فهذه الأحاديث التي ذكرتها فيها الدلالة الواضحة على أحقية عمر رضي الله عنه( ).
قال السفاريتي رحمه الله: أعلم أن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه مرتبة ولازمة لأحقية خلافة الصديق الأعظم أبي بكر رضي الله عنه وقد قام الإجماع وإشارات الكتاب والسنة على أحقية خلافته فما ثبت للأصل الذي هو الصديق من أحقية الخلافة يثبت لفرعه الذي هو عمر بن الخطاب فيها فلا مطمع لأحد من فرق الضلال في الطعن والنزاع في أحقية الخلافة وقد علم أهل العلم علماً باتاً ضرورياً أن الصحابة الكرام أجمعوا على تولية الصديق الخلافة ومن شذ لا يقدح في ذلك من غير مرية( ).

ثالثاً: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه:
وقد نقل إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم على خلافة عمر طائفة من أهل العلم الذي يعتمد عليهم في النقل منهم:

1- روى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت على عمر حين طعن. فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله ? حين خذله الناس، وقبض رسول الله ? وهو عنك راض ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقتلت شهيداً فقال: أعد علي فأعدت عليه فقال: والله الذي لا إله غيره لو أن لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 9:58 pm

- وقال أبو نعيم الأصبهاني مبيناً الإجماع على خلافة الفاروق رضي الله عنه: لما علم الصديق رضي الله عنه من فضل عمر رضي الله عنه ونصيحته وقوته على ما يقلده وما كان يعينه عليه من أيامه من المعونة التامة لم يكن يسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله تعالى أن يعدل هذا الأمر عنه إلى غيره، ولما كان يعلم من أمر شأن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يعرفون منه ما عرفه ولا يشكل عليهم شيء من أمره فوض إليهم ذلك فرضي المسلمون ذلك وسلموه، ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه، ولم يتابعوه كاتباعهم أبا بكر رضي الله عنهم فيما فرض الله عليه الاجتماع وأن إمامته وخلافته ثبتت على الوجه الذي ثبت للصديق، وإنما كان الدليل لهم على الأفضل والأكمل فتبعوه على ذلك مستسلمين له راضين به( ).

3- وقال أبو عثمان الصابوني بعد ذكره خلافة الصديق باختيار الصحابة وإجماعهم عليه قال: ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله
سبحانه بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه وعده( ).

4- وقال النووي في معرض ذكره لإجماع الصحابة على تنفيذ عهد الصديق بالخلافة
لعمر حيث قال: أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر( ).

5- وقال ابن تيمية: وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماماً لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم( ).

6- وقال شارح الطحاوية: وتثبتت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه( ).
ومن هذه النقول التي تقدم ذكرها تبين أن خلافة عمر رضي الله عنه تمت بإجماع أصحاب رسول الله ? حيث تلقوا عهد أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة لعمر بالقبول والتسليم ولم يعارض في ذلك أحد وكذا أجمعت الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة على ما أجمع عليه أصحاب رسول الله ولم يخالفهم إلا من لا يعتد بخلافه ممن ابتلي ببعض أصحاب رسول الله ? كالشيعة الرافضة ومن جرى في ركابهم ممن فتن بهم فإن اعترض معترض على إجماع الصحابة المتقدم ذكره بما رواه ابن سعد وغيره من أن بعض الصحابة سمعوا بدخول عبد الرحمن بن عوف وعثمان على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلاف عمر علينا؟ وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك من وراءك( )، والجواب عن هذا الانكار الصادر إن صح من هذا القائل ليس عن جهالة لتفضيل عمر بعد أبي بكر واستحقاقه للخلافة، وإنما كان خوفاً من خشونته وغلظته لا اتهاماً له في قوته وأمانته( ).

رابعاً: خطبة الفاروق لما تولى الخلافة:
اختلف الرواة في أول خطبة خطبها الفاروق عمر، فقال بعضهم، إنه صعد المنبر فقال: اللهم إني شديد فليِّنِّي، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخِّني( )، وروي إن أول خطبة كانت قوله: إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم بعد صاحبيّ، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن أهل الجزء – يعني الكفاية – والأمانة، والله لئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلنّ بهم، فقال من شهد خطبته ورواها عنه: فوالله ما زاد على ذلك حتى فارق الدنيا( )، وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر وهمّ أن يجلس مكان أبي بكر فقال: ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر. فنزل مرقاة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اقرؤوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم؛ إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف( ).
ويمكن الجمع بين هذه الروايات إذا افترضنا أن عمر ألقى خطبته أمام جمع من الحاضرين فحفظ بعضهم منها جزءاً فرواه، وحفظ آخر جزءاً غيره فذكره، وليس من الغريب أن يمزج الفاروق في أول خطبة له بين البيان السياسي، والإداري والعظة الدينية، فذلك نهج هؤلاء الأئمة الأولين الذين لم يروا فارقاً بين تقوى الله والأمر بها وسياسة البشر تبعاً لمنهجه وشريعته، كما أنه ليس غريباً على عمر أن يراعي حق سلفه العظيم أبي بكر فلا يجلس في موضع كان يجلس فيه فيساويه بذلك في أعين الناس، فراجع عمر نفسه رضي الله عنه ونزل درجة عن مكان الصديق رضي الله عنه( )، وفي رواية أخرى أنه بعد يومين من استخلافه تحدث الناس فيما كانوا يخافون من شدته، وبطشه، وأدرك عمر أنه لابد من تجليه الأمر بنفسه، فصعد المنبر وخطبهم فذكر بعض شأنهم مع النبي ? وخليفته، وكيف أنهما توفيا وهما عنه راضيان، ثم قال: … ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه حتى أضع خدّه على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق. وإني بعد شدتي تلك أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف، ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها؛ لكم علي أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى وأسُدّ ثغوركم، ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمّركم( ) في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم( )، وجاء في رواية: إنما مثل العرب مثل أنف اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق( ).
وفي هذه الروايات لخطبة عمر رضي الله عنه لما ولي الخلافة يتضح منهجه في الحكم الذي
لم يجد عنه، وأبرز ملامحه:

1- أنه ينظر إلى الخلافة على أنها ابتلاء ابتلي به سيحاسب على أداء حقه؛ فالحكم عند الراشدين تكليف وواجب وابتلاء، وليس جاهاً وشرفاً واستعلاء.

2- وهذا الاستخلاف يتطلب منه أن يباشر حمل أعباء الدولة فيما حضره من أمرها، وأن يولي على الرعية التي غابت عنه أفضل الأمراء وأكفأهم، غير أن ذلك – فيما يرى عمر – ليس كافياً لإبراء ذمته أمام الله تعالى؛ بل يرى أن مراقبة هؤلاء العمال والولاة فرض لا فكاك منه، فمن أحسن منهم زاده إحساناً، ومن أساء عاقبه ونكّل به( )، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله عن حديثنا مؤسسة الولاة، وفقه الفاروق في تطويرها.

3- إن شدة عمر التي هابها الناس سيخلصها لهم ليناً ورحمة، وسينصب لهم ميزان العدل، فمن ظلم وتعدى فلن يجد إلا التنكيل والهوان (( ولست أدع أحداً يظلم أحد ويتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض… )) أما من آثر القصد والدين والعفاف فسيجد من الرحمة ما لا مزيد عليه؛ أضع خدي لأهل العفاف( )، وسيتّضح عدل عمر رضي الله عنه في رعيته من خلال المواقف واهتمامه بمؤسسة القضاء وتطويرها بحيث سيطر العدل على كل ولايات الدولة.

4- وتكفل الخليفة بالدفاع عن الأمة ودينها وأن يسد الثغور ويدفع الخطر، غير أن ذلك لن يتم بظلم المقاتلين، فلن يحبسهم في الثغور إلى حد لا يطيقونه، وإن غابوا في الجيوش فسيرعى الخليفة وجهازه الإداري أبناءهم وأسرهم( )، ولقد قام الفاروق بتطوير المؤسسة العسكرية وأصبحت قوة ضاربة لا مثيل لها على مستوى العالم في عصره.

5- وتعهد الخليفة بأداء الحقوق المالية للرعية كاملة … من خراج وفيء، لا يحتجن منه شيئاً ولا يضعه في غير محله، بل سيزيد عطاياهم وأرزاقهم باستمرار الجهاد والغزو والحض على العمل وضبط الأداء المالي للدولة( ) ، وقد قام بتطوير المؤسسة المالية، وضبط مصادر بيت المال وأوجه الإنفاق في الدولة.

6- وفي مقابل ذلك يطالب الرعية بأداء واجبها من النصح لخليفتها والسمع والطاعة له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يشيع الرقابة الإسلامية في المجتمع.

7- ونبه إلى أنه لا يعين على ذلك إلا بتقوى الله ومحاسبة النفس واستشعار المسؤولية في الآخرة( ).

8- علق الشيخ عبد الوهاب النجار على قول عمر رضي الله عنه: إنما مثل العرب كمثل جمل آنف بقوله:الجمل الآنف: هو الجمل الذلول المواتي الذي يأنف من الزجر والضرب ويعطي ما عنده من السير عفواً سهلاً وهذا تشخيص حسن للأمة الإسلامية لعهده فإنها كانت سامعة مطواعة إذا أمرت ائتمرت، وإذا نهيت انتهت. ويتبع ذلك المسؤولية الكبرى على قائدها فإنه يجب عليه أن يرتاد لها ويصدر في شأنه بعقل، ويورد بتمييز حتى لا يورطها في خطر، ولا يقحمها في مهلكة،
ولا يعمل شأنها إهمالاً يكون من ورائه البطر. وقد أراد بالطريق: الطريق الأقوم الذي لا عوج فيه. وقد برَّ بما أقسم به( ).

9- سنة الله في الفظاظة والغلظة والرفق: مضت سنة الله في أحوال الناس واجتماعهم وفي إقبالهم على الشخص واجتماعهم عليه وقبولهم منه وسماعهم قوله وأنسهم به، أن ينفضوا عن الفظ الغليظ القلب حتى ولو كان ناصحاً مريداً للخير لهم حريصاً على ما ينفعهم( ) وقد دل على هذا قول الله تعالى:? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ … ? (آل عمران، آية:159). ولذلك كان دعاء الفاروق لما تولى الخلافة: اللهم إني شديدٌ فليني، وقد استجاب الله هذا الدعاء، وامتلأت نفس عمر بالعطف والرحمة واللين وأصبحت من صفاته بعد توليته الخلافة، فقد عرف الناس عمر في عهدي الرسول وأبي بكر شديداً حازماً، وصوره لنا التاريخ على أنه الشخص الوحيد الذي مثل منذ دخل الإسلام حتى تولى الخلافة دور الشدة والقوة بجانب الرسول ? وبجانب أبي بكر، حتى آلَ إليه الأمر انقلب رخاء ويسيراً ورحمة( ).

10- كانت البيعة العامة في سيرة الخلفاء الراشدين مقيدة بأهل المدينة دون غيرهم. وربما حضرها وعقدها الأعراب والقبائل التي كانت محيطة بالمدينة، أو نازلة فيها، أما بقية الأمصار، فكانت تبعاً لما يتقرر في مدينة الرسول، وهذا لا يطعن بالبيعة، ولا يقلل من شرعيتها، لأن جمع المسلمين من كل الأقطار والأمصار كان أمراً مستحيلاً، ولا بد للدولة من قائم بها، ولا يمكن أن تعطل مصالح الخلق، أضف إلى ذلك أن الأمصار الأخرى قد أيدت في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ما جرى في المدينة، تأييداً صريحاً أو ضميناً، ولا شك أن الأساليب التي لجأ إليها الناس في صدر الإسلام كانت تجارب تصب في حقل تطوير الدولة ومؤسساتها( ) .

11- المرأة والبيعة: لم أجد أثناء البحث إشارة إلى أن المرأة قد بايعت في زمن أبي بكر وعمر وفي عصر الخلفاء الراشدين، ولم تشر كتب السياسة الشرعية القديمة إلى حق المرأة أو واجبها في البيعة – على حد علمي القاصر – والظاهر أن البيعة قد اقتصرت في معظم عصور التاريخ الإسلامي على الرجال دون النساء، فلا الرجال دعوها إليها، ولا هي طالبت بها، واعتبر تغيب المرأة عن البيعة أمراً طبيعياً، إلى درجة أن علماء الحقوق الدستورية الإسلامية لم يشيروا إليها في قليل ولا كثير غير أن هذا الواقع التاريخي والفقهي لا يغير من حقيقة الحكم الشرعي شيئاً، فليس في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، وهما المصدران الرئيسيان للشريعة، ما يمنع المرأة من أن تشارك الرجل في البيعة( ).
12- رد سبايا العرب: كان أول قرار اتخذه عمر في دولته رد سبايا أهل الردة إلى عشائرهم حيث قال: كرهت أن يكون السبي سنة في العرب( ) ، وهذه الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً أنهم أمام شريعة الله سواء، وأنه لا فضل لقبيلة على قبيلة إلا بحسن بلائها وما تقدمه من خدمات للإسلام والمسلمين، وتلت تلك الخطوة خطوة أخرى هي السماح لمن ظهرت توبتهم من أهل الردة بالاشتراك في الحروب ضد أعداء الإسلام، وقد أثبتوا شجاعة في الحرب وصبراً عند اللقاء، ووفاءً للدولة لا يعدله وفاء( ) .

13- تجذر منصب الخلافة في قلب الأمة وأصبح رمزاً للوحدة ولقوة المسلمين، ويرى الباحث القدرة الفائقة التي كان يتمتع به الصحابة الكرام، ومدى الأصالة في أعمالهم بحيث أن ما أقاموه في سويعات قليلة من نفس يوم وفاة الرسول? احتاج هدمه إلى ربع قرن في المخطط البريطاني، رغم أن البريطانيين أنفسهم كانوا يطلقون على الخلافة في تلك الفترة الرجل العجوز، فأي شموخ هذا لتلك الخلافة، وأي رسوخ لها حيث تحتاج لهدمها - وبعد أن أصبحت شكلاً لا موضوعاً‌ - ربع قرن كامل، وبعد حياة استمرت قروناً من الزمن( ).

14- الفرق بين الملك والخليفة: قال عمر رضي الله عنه: والله ما أدري أخليفة أم ملك، فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم، فقال له قائل: إن بينهما فرقا، إن الخليفة لا يأخذ إلا حقاً، ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس، فيأخذ من هذا أو يعطي هذا، فسكت عمر( ) ، وفي رواية: أن عمر سأل سلمان الفارسي: أملك أنا أم خليفة؟ فقال سلمان: إن أنت جبيت من الأرض درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير موضعه فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر( ) .

خامساً: الشورى:
إن من قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشورى قال تعالى:? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159) ? (آل عمران، آية:159).
وقال تعالى: ? وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38) ? (الشورى، آية:28). لقد قرنت الآية الكريمة الشورى بين المسلمين بإقامة الصلاة، فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة، وحكم الصلاة واجبة شرعاً، فكذلك الشورى واجبة شرعاً( )، وقد اعتمد عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى في دولته، فكان رضي الله عنه لا يستأثر بالأمر دون المسلمين ولا يستبد عليهم في شأن من الشؤون العامة، فإذا نزل به أمر لا يبرمه حتى يجمع المسلمين ويناقش الرأي معهم فيه ويستشيرهم.
ومن مأثور قوله: لا خير في أمر أبرم من غير شورى( ) ، وقوله الرأي الفرد كالخيط السحيل والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض( ) ،وقوله: (( شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل)) ( ) ، وقوله: الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا يقطع مرشداً( )، وقوله: يحق على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم، فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعاً لهم، ومن أقام بهذا الأمر تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعاً لهم( )، وكان يحث قادة حربه على الشورى، فعندما بعث أبا عبيد الثقفي لمحاربة الفرس بالعراق قال له: أسمع وأطع من أصحاب النبي ? وأشركهم في الأمر وخاصة من كان منهم من أهل بدر( )، وكان يكتب إلى قادته بالعراق يأمرهم أن يشاوروا في أمورهم العسكرية عمرو بن معديكرب وطلحة الأسدي قائلاً: استشيروا واستعينوا في حربكم بطلحة الأسدي وعمرو بن معديكرب ولا تولهما من الأمر شيئاً فإن كل صانع أعلم بضاعته( )، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص: وليكن عندك من العرب أول من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك وليس عيناً لك( )، ومما قاله عمر رضي الله عنه لعتبة بن غزوان حين وجهه إلى البصرة: قد كتبت إلى العلاء الحضرمي( )، أن يمدك بعرفجة بن هرشمة( )، وهو ذو مجاهدة للعدو ومكايدته فإذا قدم عليك فاستشره وقربه( )، وكان مسلك الفاروق في الشورى جميلاً: فإنه كان يستشير العامة أول أمره فيسمع منهم، ثم يجمع مشايخ أصحاب رسول الله وأصحاب الرأي منهم ثم يفضي إليهم بالأمر ويسألهم أن يخلصوا فيه إلى رأي محمود، فما استقر عليه رأيهم أمضاه: وعمله هذا يشبه الأنظمة الدستورية في كثير من الممالك النظامية إذ يعرض الأمر على مجلس النواب مثلاً ثم بعد أن يقرر بالأغلبية يعرض على مجلس آخر يسمى في بعضها مجلس الشيوخ وفي بعضها مجلس اللوردات فإذا انتهى المجلس من تقريره أمضاه الملك. والفرق بين عمل عمر وعمل هذه الممالك أن هنا الأمر كان اجتهاداً منه وبغير نظام متبع أو قوانين مسنونة( )، وكثيراً ما كان عمر يجتهد في الشيء ويبدي رأيه فيه ثم يأتي أضعف الناس فيبين له وجه الصواب وقوة الدليل فيقبله ويرجع عن خطأ ما رأى إلى صواب ما استبان له( )، وقد توسع نطاق الشورى في خلافة عمر رضي الله عنه لكثرة المستجدات والأحداث وامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم متباينة فولدت مشكلات جديدة احتاجت إلى الاجتهاد الواسع مثل معاملة الأرض المفتوحة وتنظيم العطاء وفق قواعد جديدة لتدفع أموال الفتوح على الدولة، فكان عمر يجمع للشورى أكبر عدد من الصحابة الكبار( )، وكان لأشياخ بدر لهم مكانتهم الخاصة في الشورى لفضلهم وعلمهم وسابقتهم إلا أن عمر رضي الله عنه أخذ يشوبهم بشباب، فإنهم على دربهم ماضون لأجلهم ورحمة ربهم ومغفرته والدولة لابد لها من تجديد رجالاتها وكان عمر العبقري الفذ قد فطن إلى هذه الحقيقة فأخذ يختار من شباب الأمة من علم منهم علماً وورعاً وتقى فكان عبد الله بن عباس من أولهم، وما زال عمر يجتهد متخيراً من شباب الأمة مستشارين له متخذاً القرآن فيصلاً في التخير حتى قال عبد الله بن عباس: وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً( )، وقد قال الزهري لغلمان أحداث: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم( ). وقال محمد بن سيرين: إن كان عمر رضي الله عنه ليستشير في الأمر حتى إن كان ليستشير المرأة فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذه وقد ثبت أنه استشار مرة أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها( ) وقد كان لعمر رضي الله عنه خاصة من علية الصحابة وذوي الرأي، منهم العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، وكان لا يكاد يفارقه في سفر
ولا حضر وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب( )، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت( )، ونظرائهم فكان يستشيرهم ويرجع إلى رأيهم( )، وكان المستشارون يبدون آراءهم بحرية تامة وصراحة كاملة، ولم يتهم عمر رضي الله عنه أحداً منهم في عدالته وأمانته، وكان عمر رضي الله عنه يستشير في الأمور التي لا نص فيها من كتاب وسنة وهو يهدف إلى معرفة إن كان بعض الصحابة يحفظ فيها نصاً من السنة، فقد كان بعض الصحابة يحفظ منها ما لا يحفظه الآخرون، وكذلك كان يستشير في فهم النصوص المحتملة لأكثر من معنى لمعرفة المعاني والأوجه المختلفة، وفي هذين الأمرين قد يكتفي باستشارة الواحد أو العدد القليل، وأما في النوازل العامة فيجمع الصحابة، ويوسع النطاق ما استطاع كما فعل عند وقوع الطاعون بأرض الشام متوجهاً إليها( )، وبلغ عمر خبره فوافاه الأمراء بسرغ موضع قرب الشام وكان مع عمر المهاجرون والأنصار، فجمعهم مستشيراً، أيمضي لوجهه، أم يرجع؟ فاختلفوا عليه: فمن قائل: خرجت لوجه الله فلا يصدنك عنه هذا. ومن قائل: إنه بلاء وفناء، فلا نرى أن تقدم عليه. ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش، فلم يختلفوا عليه، بل أشاروا بالعودة، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر( ). فقال
أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟. فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدواتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف، فجاءهم، وقال: إن النبي ? قال: إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً منه( )، وكانت مجالات الشورى في عهد عمر متعددة منها في المجال الإداري والسياسي كاختيار العمال والأمراء، والأمور العسكرية، ومنها في المسائل الشرعية المحضة، كالكشف في الحكم الشرعي من حيث الحل والحرمة والمسائل القضائية( ) وستتضح مجالات الشورى وتطبيقاتها وبحث عمر رضي الله عنه عن الدليل الأقوى من خلال هذا البحث كل في موضعه بإذن الله تعالى، والذي نحب أن نؤكد عليه أن الخلافة الراشدة كانت قائمة على مبدأ الشورى المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله ? ولم تكن في عهد عمر فلتة استنبطها ولا بدعة أتى بها ولكنها قاعدة من قواعد المنهج الرباني.

سادساً: العدل والمساواة:
إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم ومن أهم هذه القواعد العدل والمساواة، ففي خطاب الفاروق للأمة أقر هذه المبادئ، فعدالته ومساواته تظهر في نص خطابه الذي ألقاه على الأمة يوم توليه منصب الخلافة؛ ولا شك أن العدل في فكر الفاروق هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل.
إن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد اجتمعت الأمة على وجوب العدل( )، قال الفخر الرازي أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل( ) .
وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية فإنّ من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بكافة أشكاله وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل التي من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إليه، وهذا
ما فعله الفاروق في دولته، فقد فتح الأبواب على مصاريعها لوصول الرعية إلى حقوقها، وتفقد بنفسه أحوالها، فمنعها من الظلم المتوقع عليها، وأقام العدل بين الولاة والرعية، في أبهى صورة عرفها التاريخ فقد كان يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق ولا يهمه أن يكون المحكوم عليهم من الأقرباء أو الأعداء، أو الأغنياء أو الفقراء، قال تعالى: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(Cool ? (المائدة، آية:Cool.
لقد كان الفاروق قدوة في عدله أسر القلوب وبهر العقول، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام به تفتح قلوب الناس للإيمان، وقد سار على ذات نهج الرسول ?، فكانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير لا تكاد تصدقه العقول حتى اقترن اسمه بالعدل وبات من الصعب جداً على كل من عرف شيئاً يسيراً من سيرته أن يفصل ما بين الاثنين، وقد ساعده على تحقيق ذلك النجاح الكبير عدة أسباب ومجموعة من العوامل منها:
1- أن مدة خلافته كانت أطول من مدة خلافة أبي بكر بحيث تجاوزت عشر سنوات في حين اقتصرت خلافة أبي بكر على سنتين وعدة شهور فقط.
2- إنه كان شديد التمسك بالحق حتى إنه كان على نفسه وأهله أشد منه على الناس كما سنرى.
3- أن فقه القدوم على الله كان قوياً عنده لدرجة أنه كان في كل عمل يقوم به يتوخى مرضاة الله قبل مرضاة الناس ويخشى الله ولا يخشى أحداً من الناس.
4- أن سلطان الشرع كان قوياً في نفوس الصحابة والتابعين بحيث كانت أعمال عمر تلقى تأييداً وتجاوباً وتعاوناً من الجميع( ).
5- وهذه بعض مواقفه في إقامته للعدل والقسط بين الناس فقد حكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه، أخرج الإمام مالك( ) من طريق سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق( ) ، وكان رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فارضوه، فاقتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين( ) ولو لم يرضوه لأقاده( ) رضي الله عنه.
وجاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلاً:
يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم، قال عذت معاذا قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه: فقدم عمر فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين؟ قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني( ).
لقد قامت دولة الخلفاء الراشدين على مبدأ العدل وما أجمل ما قاله ابن تيمية: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، … بالعدل تستصلح الرجال وتستغزر الأموال( ).
وأما مبدأ المساواة الذي اعتمده الفاروق في دولته، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام قال تعالى:? يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13) ? (الحجرات، آية:13).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع

سواء( )، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهد وهذه بعض المواقف التي جسدت مبدأ المساواة في دولته:
- أصاب الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة (جدب) بالمدينة وما حولها، فكانت تسقي إذا ريحت( ) تراباً كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى (حلف) عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحي الناس من أول الحياء، فقدمت السوق عُكَّة من سمن، ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن، فاتبعناهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً، وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم( )، هذا موقف أمير المؤمنين عام القحط الذي سمي عام الرمادة، ولم يختلف موقفه عام الغلاء، فقد: أصاب الناس سنة غلاء، فغلا السمن، فكان عمر يأكل الزيت، فتقرقر بطنه، فيقول: قرقر ما شئت، فو الله
لا تأكل السمن حتى يأكله الناس( )، ولم يقتصر مبدأ المساواة في التطبيق عند خلفاء الصدر الأول على المعاملة الواحدة للناس كافة، وإنما تعداه إلى شؤون المجتمع الخاصة، ومنها ما يتعلق بالخادم والمخدوم، فعن ابن عباس أنه قال: قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصنع له صفوان بن أمية طعاماً، فجاؤوا بجفنه يحملها أربعة، فوضعت بين يدي القوم يأكلون وقام الخُدّام فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل، ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين( )، وكذلك فإن عمر رضي الله عنه لم يأكل من الطعام ما لا يتيسر لجميع المسلمين، فقد كان يصوم الدهر، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبز قد ثُرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً( )، فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به، فإذا قديد من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز( ) ولم يكن عمر ليطبق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلمه لعماله في الأقاليم، حتى في مسائل الطعام والشراب( ) فعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان أتى بالخبيص، فلما أكله وجد شيئاً حلواً طيباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثم حملهما على بعير مع رجلين، فسرّح بهما إلى عمر. فلما قدما عليه فتحهما، فقال: أي شيء هذا؟ قالوا: خبيص فذاقه، فإذا هو شيء حلو. فقال: أكل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: أما لا فارددهما. ثم كتب إليه: أما بعد، فإنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك. أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك( ).
ومن صور تطبيق المساواة بين الناس ما قام به عمر عندما جاءه مال فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس، حتى خلص إليه، فعلاه بالدِّرة وقال إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابك( )، فإذا عرفنا أن سعداً كان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأنه فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد الستة الذين عينهم للشورى، لأن رسول الله ? مات وهو راضٍ عنهم، وأنه كان يقال له فارس الإسلام … عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق المساواة( )، ويروي
ابن الجوزي أن عمرو بن العاص، أقام حد الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أن عمرو بن العاص أقام الحد على ابن الخليفة في البيت، فلما بلغ الخبز عمر، كتب إلى عمرو ابن العاص: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاص: عجبت لك يا ابن العاص ولجرأتك عليّ، وخلاف عهدي. أما إني قد خالفت فيك أصحاب بدر ممن هو خير منك، واخترتك لجدالك عني، وإنفاذ عهدي، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع( )، وقد تم إحضاره إلى المدينة وضربه الحد جهراً، روى ذلك ابن سعد وأشار إليه ابن الزبير، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولاً( )، وهكذا نرى المساواة أمام الشريعة في أسمي درجاتها، فالمتهم هو ابن أمير المؤمنين، ولم يعفه الوالي من العقاب، ولكن الفاروق وجد أن ابنه تمتع ببعض الرعاية، فآلمه ذلك أشد الألم، وعاقب واليه – وهو فاتح مصر – أشد العقاب وأقساه. وأنزل بالابن ما يستحق من العقاب، حرصاً على حدود الله، ورغبة في تأديب ابنه وتقويمه وإذا كان هذا منهجه مع أقرب الناس عنده فما بالك بالآخرين؟( ) ومن الأمثلة التاريخية الهامة التي يستدل بها المؤلفون على عدم الهوادة في تطبيق المساواة، ما صنعه عمر مع جبلة بن الأيهم وهذه هي القصه: كان جبلة آخر أمراء بني غسان من قبل هرقل، وكان الغساسنة يعيشون في الشام تحت إمرة دولة الروم، وكان الروم يحرضونهم دائماً على غزو الجزيرة العربية، وخاصة بعد نزول الإسلام. ولما انتشرت الفتوحات الإسلامية، وتوالت انتصارات المسلمين على الروم، أخذت القبائل العربية في الشام – تعلن إسلامها بدا للأمير الغساني أن يدخل الإسلام هو أيضاً، فأسلم وأسلم ذووه معه. وكتب إلى الفاروق يستأذنه في القدوم إلى المدينة، ففرح عمر بإسلامه وقدومه، فجاء إلى المدينة وأقام بهازمنا والفاروق يرعاه ويرحب به، ثم بدا له أن يخرج إلى الحج، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحله، وغضب الأمير الغساني لذلك – وهو حديث عهد بالإسلام – فلطم لطمة قاسية هشمت أنفه، وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ماحل به وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقر بما حدث فقال له عمر: ماذا دعاك يا جبلة لأن تظلم أخاك هذا فتهشم أنفه؟
فأجاب بأنه قد ترفق كثيراً بهذا البدوي (وأنه لولا حرمة البيت الحرام لأخذت الذي فيه عيناه).
فقال له عمر : لقد أقررت، فأما أن ترضي الرجل وإما أن اقتص له منك.
وزادت دهشة جبلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري وقال: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟
فقال عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما.
فقال الأمير الغساني: لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
فقال الفاروق: دع عنك هذا فإنك إن لم ترضِ الرجل اقتصصت له منك.
فقال جبلة: إذا أتنصر.
فقال عمر: إن تنصرت ضربت عنقك، لأنك أسلمت فإن ارتددت قتلتك( ).
وهنا أدرك جبلة أن الجدال لا فائدة منه، وأن المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من الفاروق أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكر جبلة بن الأيهم ووصل إلى قرار، وكان غير موفق في قراره، فقد آثر أن يغادر مكة هو وقومه في جنح الظلام وفر إلى القسطنطينية، فوصل إليها متنصراً، وندم بعد ذلك على هذا القرار أشد الندم، وصاغ ذلك في شعر جميل ما زال التاريخ يردده ويرويه وفي هذه القصة نرى حرص الفاروق على مبدأ المساواة أمام الشرع، فالإسلام قد سوى بين الملك والسوقة، ولا بد لهذه المساواة أن تكون واقعاً حياً وليس مجرد كلمات توضع على الورق أو شعار تردده الألسنة( ).
لقد طبق عمر رضي الله عنه مبدأ المساواة الذي جاءت به شريعة رب العالمين وجعله واقعاً حياً يعيش ويتحرك بين الناس، فلم يتراجع أمام عاطفة الأبوة، ولم ينثنِ أم ألقاب النبالة، ولا تضيع أمام اختلاف الدين أو مجاملة الرجال الفاتحين، لقد كان ذلك المبدأ العظيم واقعاً حياً، شعر به كل حاكم ومحكوم، ووجده كل مقهور وكل مظلوم( ) لقد كان لتطبيق مبدأ المساواة أثره في المجتمع الراشدي فقد أثر الشعور بها على نفوس ذلك الجيل فنبذوا العصبية التقليدية، من الادعاء بالأولية والزعامة، والأحقية بالكرامة، وأزالت الفوارق الحسبية الجاهلية، ولم يطمع شريف في وضيع، ولم ييأس ضعيف من أخذ حقه، فالكل سواء في الحقوق والواجبات، لقد كان مبدأ المساواة في المجتمع الراشدي نوراً جديداً أضاء به الإسلام جنبات المجتمع الإسلامي وكان لهذا المبدأ الأثر القوي في إنشائه( ).

سابعاً: الحريات:
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ويقضى هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس، جميع الناس دعوة واسعة وعريضة قلما تشتمل على مثلها دعوة في التاريخ، وكانت أول دعوة أطلقها في هذا المجال هي دعوته الناس في العديد من الآيات القرآنية لتوحيد الله والتوجه له بالعبادة وحده دون سائر الكائنات والمخلوقات، وفي دعوة التوحيد هذه كل معاني الحرية والاستقلال لبني الإنسان، أضف إلى ذلك أنّ الإسلام عرف الحرية بكل معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها، فتارة تكون فعلاً إيجابياً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتارة فعلاً سلبياً كالامتناع عن إكراه أحد في الدخول في الدين، وفي أحيان كثيرة يختلط معناها بمعنى الرحمة، والعدل والشورى والمساواة لأن كل مبدأ من هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام لا يستقيم أمره ولا يمكن تحقيقه إلا بوجود الحرية، وقد أسهم مبدأ الحرية مساهمة فعالة إبان حكم الخلفاء الراشدين خاصة بانتشار الدين الإسلامي، وبتسهيل فتوحات المسلمين واتساع رقعة دولتهم لأن الإسلام كرم الإنسان وكفل حرياته على أوسع نطاق ولأن النظم السياسية الأخرى السائدة آنذاك في دولة الروم والفرس كانت أنظمة استبدادية وتسلطية، وفئوية قاسى بسببها الرعايا وبصورة خاصة المناوئون السياسيون والأقليات الدينية أشد درجات الكبت والاضطهاد والظلم، فعلى سبيل المثال كانت دولة الروم تفرض على الآخذين بالمذهب اليعقوبي ولا سيما في مصر والشام أن يدينوا بالمذهب الملكاني (دينها الرسمي) وكم أخذ المخالفون بالمشاعل توقد نيرانها ثم تسلط على أجسامهم حتى يحترقوا ويسيل الدهن من جوانبهم على الأرض، والجبابرة القساة يحملونهم حملاً على الإيمان بما أقره مجمع مقدونية أو يضعونهم في كيس مملوء بالرمال ثم يلقون بهم في أعماق البحار. وكذلك كانت دولة فارس في مختلف العصور تضطهد معتنقي الملل السماوية ولا سيما المسيحيين بعد ازدياد القتال عنفاً بينها وبين دولة الروم، وأما في الإسلام في زمن رسول الله، وعصر الخلفاء الراشدين، فقد كانت الحريات العامة المعروفة في أيامنا معلومة ومصانة تماماً( )، وإليك بعض التفصيل عن الحريات في زمن الفاروق رضي الله عنه:

1
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:00 pm

1- حرية العقيدة الدينية:
إن دين الإسلام لم يكره أحداً من الناس على اعتناقه، بل دعا إلى التفكر والتأمل في كون الله ومخلوقاته وفي هذا الدين وأمر اتباعه أن يجادلوا الناس بالتي هي أحسن، قال تعالى: ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ? (البقرة،آية:256). وقال تعالى: ? فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ ? (الشورى،آية:48). وقال تعالى: ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125) ? (النحل،آية:125).
وقال تعالى: ? وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46) ? (العنكبوت،آية:46). والآيات في ذلك كثيرة ولذلك نجد الفاروق في دولته حرص على حماية الحرية الدينية ونلاحظ بأن عمر سار على هدي النبي والخليفة الراشد أبي بكر في هذا الباب فقد: أقرّ أهل الكتاب على دينهم؛ وأخذ منهم الجزية وعقد معهم المعاهدات كما سيأتي تفصيله، وخططت معابدهم ولم تهدم وتركت على حالها وذلك لقول الله تعالى: ? وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ? (الحج،آية:40).
فحركة الفتوحات في عهد الفاروق التي قام بها الصحابة تشهد على احترام الإسلام للأديان الأخرى، وحرص القيادة العليا على عدم إكراه أحد في الدخول في الإسلام، حتى إن الفاروق نفسه جاءته ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده فقال لها: أسلمي تسلمي؛ إن الله بعث محمداً بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت إليَّ أقرب، فقضى حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام، فاستغفر الله مما فعل وقال: اللهم إني أرشدت ولم أكره( )، وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني اسمه (أشق) حدّث فقال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبيت فقال: (لا إكراه في الدين). فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال: اذهب حيث شئت( )، وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم وبيوتهم، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الشريعة الإسلامية حفظت لهم حق الحرية في الاعتقاد، وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا (القدس) ونص فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم وكنائسهم( )،وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه؛ بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم وأكد ذلك العهد بقوله: على ماضي هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين( )، وقد اتفق الفقهاء( )، على أن لأهل الذمة
لهم ممارسة شعائرهم الدينية وأنهم لا يمنعون من ذلك مالم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلاناً وجهراً كإخراجهم الصلبان يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم( ).
يقول الشيخ الغزالي عن كفالة الإسلام لحرية المعتقد إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض، لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما صنع الإسلام( ).
لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع ولخص سياسته حيال النصارى واليهود بقوله: وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدوهم بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم( ).
وقد ثبت عن عمر أنه كان شديد التسامح مع أهل الذمة، حيث كان يعفيهم من الجزية عندما يعجزون عن تسديدها، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: أن عمر – رضي الله عنه – مر بباب قوم وعليه سائل يسأل – شيخ كبير ضرير البصر – فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي، قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل( )، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه( )، وقد كتب إلى عماله معمّماً عليهم هذا الأمر( ) وهذه الأفعال تدل على عدالة الإسلام وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرفق برعاياها ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرية الدينية معلماً بارزاً في عصر الخلافة الراشدة، مكفولة من قبل الدولة، ومصانه بأحكام التشريع الرباني.

2- حرية التنقل أو حرية الغدو والرواح:
حرص الفاروق على هذه الحرية حرصاً شديداً ولكنه قيدها في بعض الحالات الاستثنائية التي استدعت ضرورة لذلك، أما الحالات الاستثنائية التي جرى فيها تقييد حرية التنقل أو حرية المأوى فهي قليلة جداً، ويكفينا أن نشير إلى الحالتين نظراً لأهميتها:
أ‌- أمسك عمر كبار الصحابة في المدينة ومنعهم من الذهاب إلى الأقطار المفتوحة إلا بإذن منه أو لمهمة رسمية كتعيين بعضهم ولاة أو قادة للجيوش وذلك حتى يتمكن من أخذ مشورتهم والرجوع إليها فيما يصادفه من مشاكل في الحكم ويحول في الوقت نفسه دون وقوع أية فتنة أو انقسام في صفوف المسلمين في حال خروجهم للأمصار واستقرارهم فيها( )، فقد كان من حكمته السياسية ومعرفته الدقيقة لطبائع الناس ونفسيتهم، أنه حصر كبار الصحابة في المدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد( )، وكان يعتقد أنه إذا كان التساهل في هذا الشأن، نجمت الفتنة في البلاد المفتوحة، والتفَّ الناس حول الشخصيات المرموقة، وثارت حولها الشبهات، وكثرت القيادات والرايات، وكان من أسباب الفوضى( )، لقد خشي عمر رضي الله عنه: من تعدد مراكز القوى السياسية والدينية داخل الدولة الإسلامية، حيث يصبح لشخص هذا الصحابي الجليل أو ذاك هالة من الإجلال والاحترام على رأيه، ترقى به إلى مستوى القرار الصادر من السلطة العامة، وتجنباً لتعدد مراكز القوى، وتشتت السلطة، فقد رأى عمر إبقاء كبار الصحابة، داخل المدينة يشاركونه في صناعة القرار، ويتجنبون فوضى الاجتهاد الفردي، ولولا هذا السند الشرعي لكان القرار الصادر عن عمر – رضي الله عنه – غير مجد ولا ملزم لافتقاده لسببه الشرعي الذي يسوغه؛ إذ التصرف على الرعية منوط بالمصلحة( ).
ب‌- وأما الحالة الثانية فقد حصلت عندما أمر عمر بإجلاء نصارى نجران ويهود خيبر من قلب البلاد العربية إلى العراق والشام وسبب ذلك أن يهود خيبر ونصارى نجران لم يلتزموا بالعهود والشروط التي أبرموها مع رسول الله ? وجددوها مع الصديق، فقد كانت مقرات يهود خيبر ونصارى نجران أوكاراً للدسائس والمكر فكان لا بد من إزالة تلك القلاع الشيطانية، وإضعاف قواتهم، أما بقية النصارى واليهود، كأفراد فقد عاشوا في المجتمع المدني يتمتعون بكافة حقوقهم، روى البيهقي في سننه وعبد الرزاق بن همام الصنعاني في مصنفه عن ابن المسيب وابن شهاب: أن رسول الله –?- قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب. قال مالك، قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حتى أتاه الثلج واليقين عن رسول الله ? أنه قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، فأجلى يهود خيبر. قال مالك: قد أجلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يهود نجران وفدك( ).
لقد كانت نبوة النبي ? بالنسبة للصحابة يقيناً ولذلك لم يستطع اليهود
ولا نصارى نجران أن يلتزموا بعهودهم مع المسلمين لشدة عداوتهم وبغضهم وحسدهم للإسلام والمسلمين، فاليهود في خيبر كان من أسباب إجلائهم ما رواه ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: لما فدع( ) أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيباً فقال: إن رسول الله – ? – عامل يهود خيبر على أموالهم وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيره هم عدونا وتهمتنا وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني الحقيق فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا – محمد ? – وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله – ? -: كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك( )، ليلة بعد ليلة؟ فقال: كان ذلك هزيلة من أبي القاسم فقال: كذبت ياعدو الله. فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك( ) لقد غدر اليهود ونقضوا عهودهم، فكان طبيعياً أن يخرجوا من جزيرة العرب تنفيذاً لوصية رسول الله فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحا، وأما نصارى نجران فلم يلتزموا بالشروط والعهود التي أبرموها مع رسول الله ?، وجددوها مع الصديق؛فأخلوا ببعضها وأكلوا الربا وتعاملوا به، فأجلاهم الفاروق من نجران إلى العراق وكتب لهم: أما بعد .. فمن وقع به من أمراء الشام أو العراق فليوسعهم خريب الأرض( )، وما اعتملوا من شيء فهو لهم لوجه الله وعقب من أرضهم (( فأتوا العراق فاتخذوا النجرانية وهي قرية بالكوفة( )، وذكر أبو يوسف أن الفاروق خاف من النصارى على المسلمين( )، وبذلك تتجلى سياسة الفاروق فيما فعل من إخراجهم بعد توفر أسباب أخرى إضافة إلى وصية رسول الله ?، ويتجلى فقه الفاروق في توجيه الضربات المركزة إلى مقرات اليهود في خيبر، والنصارى في نجران بعد أن وجد المبررات اللازمة لإخراجهم من جزيرة العرب بدون ظلم أو عسف أو جور، وهكذا منع أوكار الدسائس والمكر من أن تأخذ نفساً طويلاً للتخطيط من أجل القضاء على دولة الإسلام الفتية.

3- حق الأمن، وحرمة المسكن، وحرية الملكية:
إن الإسلام أقر حق الأمن في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، قال تعالى:? فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ? (البقرة، آية:193). وقال أيضاً: ? فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ? (البقرة، آية194). وقد عرف الإسلام أيضاً حق الحياة الذي هو أوسع من حق الأمن، لأن هذا الأخير يتضمن فعلاً سلبياً من جانب الدولة يعبر عنه بالامتناع عن الاعتداء أو التهديد في حين أن حق الحياة يتضمن علاوة على ذلك فعلاً إيجابياً وهو حماية الإنسان ودمه من أي اعتداء أو تهديد ويجعل هذه الحماية مسؤولية عامة ملقاة على عاتق الناس كافة، لأن الاعتداء بدون حق على أحدهم هو بمثابة الاعتداء عليهم جميعاً( )، قال تعالى: ? مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ? (المائدة،آية:32). ومن المنطلق القرآني والممارسة النبوية تكفل الفاروق في عهده للأفراد بحق الأمن وحق الحياة وسهر على تأمينهما وصيانتهما من أي عبث أو تطاول وكان الفاروق رضي الله عنه يقول: (إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم ويشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكن استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم فمن ظلمه عامله بمظلمة فليرفعها إليَّ حتى أقصه منه( )، وجاء عن عمر أيضاً قوله: ليس الرجل بمأمون على نفسه أن أجعته أو أخفته أو حبسته أن يقر على نفسه( )، وقوله هذا يدل على عدم جواز الحصول على الإقرار والاعتراف من مشتبه به في جريمة تحت الضغط أو التهديد سواء أكانت الوسيلة المستعملة بذلك مادية (كحرمانه من عطائه أو مصادرة أمواله) أو معنوية (كاللجوء إلى تهديده أم تخويفه بأي نوع من العقاب) وجاء في كتابه لأبي موسى الأشعري بصفته قاضياً: واجعل للمدعي حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا وجهت عليه القضاء فإن ذلك أنفى للشك)( ) وهذا القول يدل على أن حق الدفاع كان محترماً ومصاناً( )، وفيما يتعلق بحرمة المسكن، فإن الله سبحانه حرم دخول البيوت والمساكن بغير موافقة أهلها أو بغير الطريقة المألوفة لدخولها، فقال سبحانه بهذا الشأن? لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27) 0فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ? (النور، آية: 27-28).
وقال أيضاً?? وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ? (البقرة: 189)، كما قال:
?ولا تَجسَّسُوا ? وقد كانت حرمة المسكن مكفولة ومصانة في عهد الفاروق وعصر الخلفاء الراشدين( )، وأما حرية الملكية فقد كانت مكفولة ومصانة في عصر الراشدين ضمن أبعد الحدود التي تقرها الشريعة الإسلامية في هذا المجال فحين اضطر عمر رضي الله عنه، لأسباب سياسية وحربية بإجلاء نصارى نجران ويهود خيبر من قلب شبه الجزيرة العربية، إلى العراق والشام أمر بإعطائهم أرضاً كأرضهم في الأماكن التي انتقلوا إليها احتراماً منه وإقراراً لحق الملكية الفردية الذي يكفله الإسلام لأهل الذمة مثلما يكفله للمسلمين( )، وعندما اضطر عمر إلى نزع ملكية بعض الدور من أجل العمل على توسيع المسجد الحرام في مكة، ولم يكن دفعه للتعويض العادل إلا اعترافاً منه وإقراراً بحق الملكية الفردية التي لا يجوز مصادرتها حتى في حالة الضرورة إلا بعد إنصاف أصحابها( )، وحرية الملكية لم تكن في عهد الراشدين مطلقة وإنما هي مقيدة بالحدود الشرعية وبمراعاة المصلحة العامة، فقد روي أن بلالاً بن الحارث المزني جاء إلى رسول الله ? يطلب منه أن يستقطعه أرضاً، فأقطعه أرضاً طويلة عريضة، فلما آلت الخلافة إلى عمر رضي الله عنه، قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله ? أرضاً طويلة عريضة فقطعها لك، وإن رسول الله ? لم يكن يمنع شيئاً يسأله، وأنت لا تطيق ما في يدك فقال أجل: فقال عمر: فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق وما لم تقو عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال لا أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله ?، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ عمر ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين( ) وهنا يدل على أن الملكية الفردية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصلحة الجماعة فإن أحسن المالك القيام بما يتطلبه معنى الاستخلاف في الرعاية والاستثمار فليس لأحد أن ينازعه ملكه، وإلا فإن لولي الأمر أن يتصرف بما يحول دون إهماله( ).

4- حرية الرأي:
كفل الإسلام للفرد حرية الرأي كفالة تامة، وقد كانت هذه الحرية مؤمنة ومصانة في عهد الخلفاء الراشدين، فكان عمر رضي الله عنه يترك الناس يبدون آراءهم السديدة ولا يقيدهم ولا يمنعهم من الإفصاح عما تكنه صدورهم( )، ويترك لهم فرصة الاجتهاد في المسائل التي لا نص فيها، فعن عمر أنه لقي رجلاً فقال: ما صنعت؟ قال؟ قضى علي وزيد بكذا قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه ? لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك ما قال علي وزيد( )، وهكذا ترك الفاروق الحرية للصحابة يبدون آراءهم في المسائل الاجتهادية ولم يمنعهم من الاجتهاد ولم يحملهم على رأي معين( )، وكان النقد أو النصح للحاكم في عهد الفاروق والخلفاء الراشدين مفتوحاً على مصراعيه، فقد قام الفاروق رضي الله عنه يخطب فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه، فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه( )، وقد جاء في خطبة عمر لما تولى الخلافة: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة( )، واعتبر الفاروق ممارسة الحرية السياسية البناءة (النصيحة) تعد واجباً على الرعية ومن حق الحاكم أن يطالب بها: أيها الرعية إن لنا عليكم حقاً: النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير( )، وكان يرى أن من حق أي فرد في الأمة أن يراقبه ويقوم اعوجاجه ولو بحد السيف إن هو حاد عن الطريق، فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه( )، وكان يقول: أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي( )، وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تهيباً مني( )، وجاءه يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: اتق الله يا عمر: فغضب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها( )، ووقف ذات يوم يخطب في الناس فما كاد يقول: (أيها الناس اسمعوا وأطيعوا) حتى قاطعه أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر، فقال عمر بهدوء: لم يا عبد الله؟ قال: لأن كلاً منا أصابه قميص واحد من القماش لستر عورته. فقال له عمر: مكانك، ثم نادى ولده عبد الله بن عمر، فشرح عبد الله أنه قد أعطى أباه نصيبه من القماش ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصحابة وقال الرجل في احترام وخشوع: الآن السمع والطاعة يا أمير المؤمنين( ) وخطب ذات يوم، فقال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي القصة –يعني يزيد بن الحصين- فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة معترضة على ذلك: ما ذاك لك قال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى قال: ? وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(20) ? (النساء،آية:20). فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ( )، وجاء في رواية: أنه قال: اللهم غفراً كل إنسان أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مئة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب وطابت به نفسه فليفعل( ) وليست حرية الرأي مطلقة في نظر الشريعة فليس للإنسان أن يفصح في كل ما يشاء، بل هي مقيدة بعدم مضرة الآخرين بإبداء الرأي، سواء كان الضرر عاماً أو خاصاً، ومما منعه عمر رضي الله عنه وحظره وقيده.

أ‌) الآراء الضالة المضلة في الدين واتباع المتشابهات: ومن ذلك قصة النبطي الذي أنكر القدر بالشام( ) فقد اعترض على عمر –رضي الله عنه- وهو يخطب بالشام حينما قال عمر: ومن يضلل الله فلا هادي له، فاعترض النبطي منكراً للقدر، قائلاً: إن الله لا يضل أحداً! فهدده عمر بالقتل إن أظهر مقولته القدرية مرة أخرى( )، وعن السائب بن يزيد أنه قال: أتى رجل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين: ? وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا(1) فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا(2) ? (الذاريات،آية:21) فقال عمر –رضي الله عنه- أنت هو؟ فقام إليه وحسر( )، عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه، واحملوه على قِتْب( )، ثم اخرجوا حتى تقدموا به بلاده، ثم ليقم خطيباً ثم ليقل: إن صبيغاً( )،ابتغى العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك( ).

ب) والوقوع في أعراض الناس بدعوى الحرية:
وقد حبس عمر –رضي الله عنه- الحطيئة( ) من أجل هجائه الزبرقان بن بدر( ) بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي( )
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسين( ) وقد توعد عمر الحطيئة بقطع لسانه إذا تمادى في هجو المسلمين ونهش أعراضهم، وقد استعطفه الحطيئة وهو في سجنه بشعر منه قوله:

ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
أنت الأمير الذي من بعد صاحبه
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر فاغفر عليك سـلام الله يا عمر
ألقى إليك مقاليد النهى البشـر

فرق له قلب عمر وخلى سبيله، وأخذ عليه ألا يهجو أحداً من المسلمين( )، وقد ورد أن الفاروق اشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بمبلغ ثلاثة آلاف درهم حتى قال ذلك الشاعر:

أخذت أطراف الكلام فلم تدع
ومنعتني عرض البخيل فلم يخف
شتما يضر ولا مديحاً ينفع
شتمي وأصبح آمنا لا يفزع( )

5- رأي عمر في الزواج بالكتابيات:
لما علم عمر رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية كتب إليه: خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن: وفي رواية إني أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات( ).
قال أبو زهرة: (يجب أن نقرر هنا أن الأولى للمسلم ألا يتزوج إلا مسلمة لتمام الألفة من كل وجه ولقد كان عمر –رضي الله عنه- ينهى عن الزواج بالكتابيات إلا لغرض سام كارتباط سياسي يقصد به جمع القلوب وتأليفها أو نحو
ذلك ...) ( ).
لقد بين المولى عز وجل في كتابه بأن الزواج بالمؤمنة ولو كانت أمة أولى من الزواج بالمشركة ولو كانت حرة قال تعالى: ? وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221) ? (البقرة،آية:221)، ففي هذه الآيات الكريمة ينهى الحق سبحانه وتعالى عن الزواج بالمشركات حتى يؤمن بالله ويصدقن نبيه، وحكم بأفضلية الأمة المؤمنة بالله ورسوله -وإن كانت سوداء رقيقة الحال- على المشركة الحرة وإن كانت ذات جمال وحسب ومال، ويمنع في المقابل المؤمنات من الزواج بالمشركين ولو كان المشرك أحسن من المؤمن في جماله وماله وحسبه( )، وإذا كان الزواج بالمشركة حراماً بنص هذه الآية فإن الزواج بالكتابية جائز بنص آخر وهو قوله تعالى:
? وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?? (المائدة،آية:5) وهو نص مخصص للعموم في النص الأول، هذا هو رأي الجمهور( )، إلا أنهم قالوا إن الزواج بالمسلمة أفضل، هذا فيما إذا لم تكن هنالك مفاسد تلحق الزوج أو الأبناء أو المجتمع المسلم، أما إن وجدت مفاسد فإن الحكم هو المنع، وهذا ماذهب إليه بعض العلماء المعاصرين( )، وهو رأي سبق إليه عمر بن الخطاب: إذ هو أول من منع الزواج بالكتابيات مستنداً في ذلك إلى حجتين:
أ‌- لأنه يؤدي إلى كساد الفتيات المسلمات وتعنيسهن.
ب‌- لأن الكتابية تفسد أخلاق الأولاد المسلمين ودينهم وهما حجتان كافيتان في هذا المنع، إلا أنه إذا نظرنا إلى عصرنا فإننا سنجد مفاسد أخرى كثيرة استجدت تجعل هذا المنع أشد( )، وقد أورد الأستاذ جميل محمد مبارك مجموعة من هذه المفاسد منها:
أ‌- قد تكون للزوجة من أهل الكتاب مهمة التجسس على المسلمين.
ب‌- دخول عادات الكفار إلى بلاد المسلمين.
ت‌- تعرض المسلم للتجنس بجنسية الكفار.
ث‌- جهل المسلمين المتزوجين بالكتابيات مما يجعلهم عجينة سهلة التشكيل في يد الكتابيات.
ج‌- شعور المتزوجين بالكتابيات بالنقص وهو أمر أدى إليه الجهل بدين الله( ).

وهي مفاسد كافية للاستدلال على حرمة الزواج بالكتابية في عصرنا.
إن القيود التي وضعها عمر على الزواج بالكتابيات تنسجم مع المصالح الكبرى للدولة والأهداف العظمى للمجتمعات الإسلامية، فقد عرفت الأمم الواعية ما في زواج أبنائها بالأجنبيات من المضار، وما يجلبه هذا الزواج من أخطار تعيب الوطن عفواً أو قصداً، فوضعت لذلك قيوداً وبالذات للذين يمثلونها في المجالات العامة، وهو احتياط له مبرراته الوجيهة، فالزوجة تعرف الكثير من أسرار زوجها إن لم تكن تعرفها كلها، على قدر ما بينهم من مودة وانسجام، ولقد كان لهذه الناحية من اهتمام عمر رضي الله عنه مقام الأستاذية الحازمة الحاسبة لكل من جاء بعده كحاكم على مر الزمان، إن الزواج من الكتابيات فيه مفاسد عظيمة، فإنهن دخيلات علينا ويخالفننا في كل شيء، وأكثرهن يبقين على دينهن، فلا يتذوقن حلاوة الإسلام وما فيه من وفاء وتقدير للزوج، قدر عمر كل ذلك بفهمه لدينه، وبصائب تقديره، لطبائع البشر، وبحسن معرفته لما ينفع المسلمين وما يضرهم، فأصدر فيه أوامره وعلى الفور وفي حسم( ) لقد كانت الحرية في العهد الراشدي مصونة ومكفولة ولها حدودها وقيودها ولذلك ازدهر المجتمع وتقدم في مدار الرقي، فالحرية حق أساسي للفرد والمجتمع، يتمتع بها في تحقيق ذاته وإبراز قدراته، وسلب الحرية من المجتمع سلب لأهم مقوماته فهو أشبه بالأموات.
إن الحرية في الإسلام إشعاع داخلي ملأ جنبات النفس الإنسانية بارتباطها بالله، فارتفع الإنسان بهذا الارتباط إلى درجة السمو والرفعة، فأصبحت النفس تواقة لفعل الصالحات والمسارعة في الخيرات ابتغاء رب الأرض والسماوات، فالحرية في المجتمع الإسلامي دعامة من دعائمه تحققت في المجتمع الراشدي في أبهى صور انعكست أنوارها على صفحات الزمان( ).

ثامناً: نفقات الخليفة، والبدء بالتاريخ الهجري ولقب أمير المؤمنين:

1- نفقات الخليفة:
لما كانت الخلافة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن من يتولاها ويحسن فيها فإنه يرجى له مثوبته، وجزاؤه عند الله سبحانه وتعالى، فإنه يجازي المحسن، بإحسانه، والمسيء بإساءته( )، قال تعالى: ? فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ(94) ? (الأنبياء،آية:94) ذلك بالنسبة للجزاء الأخروي، وأما بالنسبة للجزاء الدنيوي فإن الخليفة الذي يحجز منافعه الصالحة للأمة، ويعمل على أداء الواجب نحوها يستحق عوضاً على ذلك، إذ أن المنافع إذا حجزت قوبلت بعوضين( )، فالقاعدة الفقهية أن كل محبوس لمنفعة غيره يلزمه نفقته، كمفت وقاض ووال( )، وأخذ العوض على تولي الأعمال مشروع بإعطاء النبي ? العمال( ) لمن ولاه عملاً( ) ولما ولي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد
أبي بكر مكث زماناً، لا يأكل من بيت المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، لم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته، لأنه اشتغل عنها بأمور الرعية، فأرسل إلى أصحاب رسول الله فاستشارهم في ذلك فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل( )، وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وقد بين عمر حظه من بيت المال فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف( )، وجاء في رواية أن عمر خرج على جماعة من الصحابة فسألهم
ما ترونه يحل لي من مال الله؟ أو قال: من هذا المال؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم بذلك منا، قال إن شئتم أخبرتكم ما أستحل منه، ما أحج وأعتمر عليه من الظهر، وحلتي في الشتاء وحلتي في الصيف، وقوت عيالي شبعهم، وسهمي في المسلمين، فإنما أنا رجل من المسلمين، قال معمر: وإنما كان الذي يحج عليه ويعتمر بعيراً واحداً( )، وقد ضرب الخليفة الراشد الفاروق للحكام أروع الأمثلة في أداء الأمانة فيما تحت أيديهم، فقد روى أبو داود عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: ذكر عمر بن الخطاب يوماً الفيء فقال: ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسول الله ? فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته( )، وعن الربيع بن زياد الحارثي أنه وفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعجبته هيئته ونحوه، فقال: يا أمير المؤمنين إن أحق الناس بطعام لين، ومركب لين، وملبس لين لأنت -وكان أكل طعاماً غليظاً- فرفع عمر جريدة كانت معه فضرب بها رأسه، ثم قال: أما والله ما أراك أردت بها الله، ما أردت بها إلا مقاربتي، وإن كنت لعلّها: لأحسب أن فيك خيراً، ويحك هل تدري مثلي ومثل هؤلاء؟ قال: وما مثلك ومثلهم، قال مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل يحل له أن يستأثر منها بشيء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال فذلك مثلي ومثلهم( )، وقد استنبط الفقهاء من خلال الهدى النبوي والعهد الراشدي مجموعة من الأحكام تتعلق بنفقات الخليفة منها:
أ‌- أنه يجوز للخليفة أن يأخذ عوضاً عن عمله، وقد نص النووي( )، وابن العربي( )، والبهوتي( )، وابن مفلح( ) على جواز ذلك.
ب‌- وأن الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد أخذا رزقاً على ذلك.
ث- وأن أخذ الرزق هو مقابل انشغالهما في أمور المسلمين كما قاله
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
ت‌- وأن الخليفة له أن يأخذ ذلك سواء كان بحاجة إليه أولا، ويرى ابن المنير( )، أن الأفضل له أن يأخذ، لأنه لو أخذ كان أعون في عمله مما لو ترك، لأنه بذلك يكون مستشعراً بأن العمل واجب عليه( ).

2- بدء التاريخ:
يعد التاريخ بالهجرة تطوراً له خطره في النواحي الحضارية، وكان أول من وضع التاريخ بالهجرة عمر، ويحكى في سبب ذلك عدة روايات، فقد جاء عن ميمون بن مهران أنه قال: دُفع إلى عمر رضي الله عنه صَكٌ محله في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الذي مضى أو الذي هو آت أو الذي نحن فيه، ثم جمع أصحاب رسول الله ? فقال لهم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الروم فقيل: إنه يطول وإنهم يكتبون من عند ذي القرنين، فقال قائل: اكتبوا تاريخ الفرس قالوا: كلما قام ملك طرح ما كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه أقام عشرة سنين فكتب أو كتب التاريخ على هجرة رسول الله ?( )، وعن عثمان بن عبيد الله( )، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: جمع عمر بن الخطاب المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فقال: متى نكتب التاريخ؟ فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: منذ خرج النبي ? من أرض الشرك، يعني من يوم هاجر، قال: فكتب ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه( )، وعن ابن المسيب قال: أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من المحرم بمشورة على بن أبي طالب رضي الله عنه( )، وقال أبو الزناد( ): استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة( )، وروى ابن حجر في سبب جعلهم بداية التاريخ في شهر محرم وليس في ربيع الأول الشهر الذي تمت فيه هجرة النبي ? أن الصحابة الذين أشاروا على عمر وجدوا أن الأمور التي يمكن أن يؤرخ بها أربعة، هي مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، ووجدوا أن المولد والمبعث لا يخلو من النزاع في تعيين سنة حدوثه، وأعرضوا عن التأريخ بوفاته لما يثيره من الحزن والأسى عند المسلمين، فلم يبق إلا الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرم، إذ وقعت بيعة العقبة الثانية في ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال محرم، فناسب أن يُجعل مبتدأ.. ثم قال ابن حجر: وهذا أنسب ما وقعت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم( ).
وبهذا الحدث الإداري المتميز أسهم الفاروق في إحداث وحدة شاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى في شبه الجزيرة، حيث ظهرت وحدة العقيدة بوجود دين واحد، ووحدة الأمة بإزالة الفوارق، ووحدة الاتجاه باتخاذ تاريخ واحد، فاستطاع أن يواجه عدوه وهو واثق من النصر( ).

3- لقب أمير المؤمنين:
لما مات أبو بكر رضي الله عنه وكان يدعى خليفة رسول الله ? فقال المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة رسول الله ? فيطول هذا، ولكن أجمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يُدْعى به من بعده من الخلفاء، فقال بعض أصحاب رسول الله ?: نحن المؤمنون وعمر أميرنا، فدعي عمر أمير المؤمنين فهو أول من سمي بذلك( )، وعن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سأل
أبا بكر ابن سليمان بن أبي خيثمة( )، لم كان أبو بكر رضي الله عنه يكتب من
أبي بكر خليفة رسول الله ?؟ ثم كان عمر رضي الله عنه يكتب بعده: من عمر بن الخطاب خليفة أبي بكر ومن أول من كتب أمير المؤمنين فقال: حدثتني جدتي الشفاء( )، وكانت من المهاجرات الأول، وكان عمر إذا دخل السوق دخل عليها قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عامل بالعراق( )، أن ابعث إلي برجلين جلدين نبيلين، أسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه صاحب العراقين بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقدما المدينة فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثم دخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص، فقالا له: (ياعمرو استأذن لنا على أمير المؤمنين، فدخل عمرو فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال له عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا بن العاص؟ لتخرجن مما قلت: قال: نعم، قدم لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين فقلت: أنتما والله أصبتما اسمه، إنه أمير ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من ذلك اليوم( )، وفي رواية: أن عمر رضي الله عنه قال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم فهو سمى نفسه( )، وبذاك يكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أول من سمي بأمير المؤمنين
وأنه لم يسبق إليه، وإذا نظر الباحث في كلام أصحاب النبي ? رأى أن جميعهم قد اتفقوا على تسميته بهذا الاسم وسار له في جميع الأقطار في حال ولايته( ).

المبحث الثاني: صفات الفاروق، وحياته مع أسرته، واحترامه لأهل البيت:

أولاً: أهم صفات الفاروق:
إن مفتاح شخصية الفاروق إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر وكان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، وسلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، فقد حقق شروط كلمة التوحيد، من العلم واليقين، والقبول، والانقياد، والإخلاص والمحبة وكان على فهم صحيح لحقيقة الإيمان وكلمة التوحيد فظهرت آثار إيمانه العميق في حياته والتي من أهمها:

1- شدة خوفه من الله تعالى بمحاسبته لنفسه:
كان رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النار، فإن حرّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامها حديد( )، وجاء ذات يوم أعرابي، فوقف عنده وقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة
جهِّز بُنيَّاتي وأمهنَّه

أقسـم باللـه لتـفعـلـنه
قال: فإن لم أفعل ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
أقسـم أنـي سـوف أمضـينه
قال: فإن مضيت ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
والله عن حالي لتسألنه
والواقف المسئول بينهنّه
ثمّ تكون المسألات ثمّه
إما إلى نار وإما جنة

فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، والله ما أملك قميصاً غيره( )، وهكذا بكى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بكاءً شديداً تأثراً بشعر ذلك الأعرابي الذي ذكّره بموقف الحساب يوم القيامة، مع أنه لا يذكر أنه ظلم أحداً من الناس، ولكنه لعظيم خشيته وشدة خوفه من الله تعالى تنهمر دموعه أمام كل من يذكّره بيوم القيامة( )، وكان رضي الله عنه من شدة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإذا خيل إليه أنه أخطأ في حق أحد طلبه، وأمره بأن يقتص منه، فكان يقبل على الناس يسألهم عن حاجاتهم، فإذا أفضوا إليه بها قضاها، ولكنه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشكاوى الخاصة إذا تفرغ لأمر عام، فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامة( )، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعني على فلان، فإنه ظلمني، فرفع عمر الدرة، فخفق بها رأس الرجل، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم، حتى إذا اشتغل بأمور المسلمين أتيتموه، فانصرف الرجل متذمراً، فقال عمر علَيَّ بالرجل: فلما أعادوه ألقى عمر بالدرة إليه، وقال، أمسك الدرة، واخفقني كما خفقتك قال الرجل: لا يا أمير المؤمنين، أدعها لله ولك قال عمر: ليس كذلك: إما أن تدعها لله وإرادة ما عنده من الثواب، أو تردها عليّ، فأعلم ذلك، فقال الرجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين، وانصرف الرجل، أما عمر فقد مشى حتى دخل بيته( ) ومعه بعض الناس منهم الأحنف بن قيس الذي حدثنا عمّا رأى: ... فافتتح الصلاة فصلى ركعتين ثم جلس، فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجل يستعديك، فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه خير أهل الأرض( )، وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر رضي الله عنه وأنا في السوق، وهو مار في حاجة، ومعه الدرة، فقال: هكذا أمِطْ( ) عن الطريق يا سلمة، قال: ثم خفقني بها خفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطريق، فسكت عني حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة أردت الحج العام؟ قلت نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتى دخل بيته، فأخرج كيساً في ست مائة درهم فقال: يا سلمة استعن بهذه واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك عام أول، قلت والله يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها حتى ذكرتنيها قال: والله ما نسيتها بعد( )، وكان رضي الله عنه يقول في محاسبة النفس ومراقبتها: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر ? يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(18) ? ( )، وكان من شدة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: لو مات جدْي بطف( ) الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر( )، وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قتب يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: بعير ندَّ( ) من إبل الصدقة أطلبه فقلت: أذللت الخلفاء بعدك، فقال يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي بعث محمداً بالنبوة لو أن عناقاً( ) أخذت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة( )، وعن أبي سلامة قال: انتهيت إلى عمر وهو يضرب رجالاً ونساء في الحرم على حوض يتوضئون منه، حتى فرق بينهم، ثم قال: يا فلان، قلت: لبيك، قال لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء، قال: ثم اندفع فلقيه علي رضي الله عنه فقال: أخاف أن أكون هلكت قال: وما أهلكك؟ قال ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله –عز وجل- قال: يا أمير المؤمنين أنت راع من الرعاة، فإن كنت على نصح وإصلاح فلن يعاقبك الله، وإن كنت ضربتهم على غش فأنت الظالم( )، وعن الحسن البصري أنه قال: بينما عمر رضي الله عنه يجول في سكك المدينة إذ عرضت له هذه الآية ? وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ? فانطلق إلى أبي بن كعب فدخل عليه بيته وهو جالس على وسادة فانتزعها أبي من تحته وقال: دونكها يا أمير المؤمنين قال: فنبذها برجله وجلس، فقرأ عليه هذه الآية وقال: أخشى أن أكون أنا صاحب الآية، أوذي المؤمنين، قال: لا تستطيع إلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر وتنهى فقال عمر: قد قلت والله أعلم( )، وكان عمر رضي الله عنه ربما توقد النار ثم يدلي يده فيها، ثم يقول: ابن الخطاب هل لك على هذا صبر( ).
وعندما بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر رضي الله عنه بقباء كسرى، وسيفه ومنطقته، وسراويله، وقميصه، وتاجه، وخفيه، نظر عمر في وجوه القوم فكان أجسمهم وأمدهم قامة سراقة بن جعثم المدلجي، فقال: يا سراقة قم فالبس فقام فلبس وطمع فيه، فقال له عمر: أدبر فأدبر ثم قال: أقبل فأقبل ثم قال: بخ بخ، أعرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى، وسراويله، وسيفه، ومنطقته، وتاجه، وخفاه، رب يوم يا سراقة بن مالك لو كان عليك فيه من متاع كسرى كان شرفاً لك ولقومك انزع فنزع سراقة، فقال عمر، إنك منعت هذا رسولك ونبيك وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ثم أعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي ثم بكى حتى رحمه من عنده ثم قال لعبد الرحمن: أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي( ) ومواقفه في هذا الباب كثيرة جداً.

1- زهده:
فهم عمر رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين ? ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهراً وباطناً، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق:
أ- اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبي ?: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل( ).
ب- وأن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله -تبارك وتعالى- إذ يقول النبي ? لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء( )، (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً، أو متعلماً) ( ).
ج- وأن عمرها قد قارب على الانتهاء، إذ يقول ? بعثتُ أنا والساعة كهاتين بالسبّابة والوسطى( ).
د- وأن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون:? يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الأخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ(39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(40) ? (غافر،آية:39، 40) ( )، كانت الحقائق قد استقرت في قلب عمر فترفع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها وإليك شيئاً من مواقفه التي تدل على زهده في هذه الفانية، فعن
أبي الأشهب( ) قال: مرّ عمر رضي الله عنه على مزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذوا بها، فقال: هذه دنياكم التي تحرصون عليها، وتبكون عليها( ).
وعن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب كان يقول: والله ما نعبأ بلذات العيش أن نأمر بصغار المعزى أن تسمط( ) لنا، ونأمر بلباب( ) الخبز فيخبز لنا، ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان( ) حتى إذا صار مثل عين اليعقوب( )، أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقي طيباتنا، لأنا سمعنا الله يقول: ? أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا ? (الأحقاف،آية:20)، وعن أبي عمران الجوني قال: قال عمر بن الخطاب لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه، ولكنا ندعه ليوم ? يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ
حَمْلَهَا ? (الحج،آية:2)، وقد قال عمر رضي الله عنه: نظرت في هذا الأمر، فجعلت إن أردت الدنيا أضرّ بالآخرة، وإن أردت الآخرة أضر بالدنيا، فإذا كان الأمر هكذا، فأضر بالفانية( )، وقد خطب رضي الله عنه الناس، وهو خليفة، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة( )، وطاف ببيت الله الحرام وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة، إحداهن بأدم أحمر( )، وأبطأ على الناس يوم الجمعة، ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه، وقال: إنما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يغسل، ولم يكن لي ثوب غيره( )، وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجاً من المدينة إلى مكة، إلى أن رجعنا، فما ضرب له فسطاطاً( )، ولا خباء، كان يلقى الكساء( ) والنطع( )، على الشجرة فيستظل تحته( )، هذا هو أمير المؤمنين الذي يسوس رعية من المشرق والمغرب يجلس على التراب وتحته رداءٌ كأنه أدنى الرعية، أو من عامّة الناس، ودخلت عليه مرة حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد رأت ما هو فيه من شدة العيش والزهد الظاهر عليه فقالت: إن الله أكثر من الخير، وأوسع عليك من الرزق، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك، ولبست ثياباً ألين من ثوبك؟ قال: سأخصمك إلى نفسك( )، فذكر أمر رسول الله ? وما كان يلقى من شدة العيش، فلم يزل يُذكرها ما كان فيه رسول الله ? وكانت معه حتى أبكاها، ثم قال: إنه كان لي صاحبان سلكا طريقاً، فإن سلكت الشديد، لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرخي( ).
لقد بسطت الدنيا بين يدي عمر رضي الله عنه وتحت قدميه، وفتحت بلاد الدنيا في عهده، وأقبلت إليه الدنيا راغمة، فما طرف لها بعين، ولا اهتز لها قلبه، بل كان كل سعادته، في إعزاز دين الله، وخضد شوكة المشركين، فكان الزهد صفة بارزة في شخصية الفاروق( )، يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: والله ما كان عمر بن الخطاب بأقدامنا هجرة، وقد عرفت بأي شيء فضلنا، كان أزهدنا في الدنيا( ).

2- ورعه:
ومما يدل على ورعه رضي الله عنه ما أخرجه أبو زيد عمر بن شبة من خبر معدان بن أبي طلحة اليعمري أنه قدم على عمر رضي الله عنه بقطائف وطعام، فأمر به فقسم، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لم أرزقهم ولن أستأثر عليهم إلا أن أضع يدي في طعامهم، وقد خفت أن تجعله ناراً في بطن عمر، قال معدان: ثم لم أبرح حتى رأيته اتخذ صحفة من خالص ماله فجعلها بينه وبين جفان العامة، فأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يرغب في أن يأكل مع عامة المسلمين لما في ذلك من المصالح الاجتماعية، ولكنه يتحرج من أن يأكل من طعام صنع من مال المسلمين العام، فيأمر بإحضار طعام خاص له من خالص ماله، وهذا مثال رفيع في العفة والورع إذ أن الأكل من مال المسلمين العام معهم ليس في
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:02 pm

الفصل الرابع
المؤسسة المالية والقضائية وتطويرها في عهد عمر رضي الله عنه

المبحث الأول: المؤسسة المالية:

أولاً: مصادر دخل الدولة في عهد عمر رضي الله عنه:
نظر المسلمون في العصر الراشدي إلى المال بكل أشكاله وأنواعه بأنه مال الله، وبأن الإنسان مستخلف فيه، يتصرف فيه بالشروط التي وضعها المولى عز وجل، والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة في كل أمر يتعلق بالمال وإنفاقه فيقول:? آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ? (الحديد،آية:7)، ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ? (البقرة،آية:254)، وقوله تعالى يتحدث عن البر وهو جماع الخير
? وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ? (البقرة،آية:137) وإيتاء المال اعتراف من المسلم -ابتداء- بأن المال الذي في يده هو رزق الله له:??وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ? لأنه خلقه هو، ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق انبثق البر بعباد الله( )، وعلى هذا الأساس الإيماني نظر الفاروق إلى مال الدولة التي توسعت مواردها في عصره، حيث فتحت الدولة بلداناً واسعة، وخضعت لحكمها شعوب كثيرة، فنظم علاقة الدولة مع هذه الشعوب، فمنهم من دخل في حكم الدولة صلحاً، ومنهم من دخل في حكمها كرهاً، وتبعاً للفتح آلت إليها أرض غلبت عليها عنوة (بقوة السلاح)، وأراضٍ صالح أصحابها، وأرضٌ جلا عنها مالكوها أو كانت ملكاً لحكام البلاد السابقين ورجالهم، ومن شعوب هذه البلاد كتابيون (أهل كتاب كاليهود والنصارى) نظم الفاروق طريقة التعامل معهم وفق شرع الله المحكم، وقد قام عمر رضي الله عنه بتطوير النظام المالي في دولته سواء في الموارد أو الإنفاقات أو ترتيب حقوق الناس من خلال نظام الدواوين، وقد أخذت موارد الدولة تزداد في عصر عمر رضي الله عنه، وشرع في تطويرها، ورتب لها عمالاً للإشراف عليها فكانت أهم مصادر الثروة في عهده: الزكاة، والغنائم، والفيء، والجزية، والخراج، وعشور التجار، فعمل الفاروق على تطوير هذه المصادر واجتهد في قضايا وفق مقاصد الشريعة التي وضعت لمصالح العباد، فقد أخذت الدولة تستجد فيها ظروف لم تكن موجودة في عهد رسول الله ?( )، وكان عمر رضي الله عنه منفذاً للكتاب والسنة تنفيذا عبقرياً، لا يستأثر بالأمر دون المسلمين، ولا يستبد بالرأي في شأن من الشئون، فإذا نزل به أمر جمع المسلمين يستشيرهم ويعمل بآرائهم( )، وأما أهم مصادر الثروة في عهد الفاروق فهي الآتي:

1- الزكاة:
هي الركن الاجتماعي البارز في أركان الإسلام، وأول تشريع سماوي إسلامي، فرض في أموال أغنياء المسلمين، لتؤخذ منهم، وترد إلى الفقراء، بحسب أنصبتها المعروفة في الزروع والثمار، والذهب والفضة وعروض التجار والماشية، ليكون هناك نوع من التضامن والتكافل الاجتماعي، والمحبة والألفة بين الأغنياء والفقراء، فالزكاة تكليف يتصل بالمال، والمال كما يقولون عصب الحياة، فمن الناس سعيد بالمال ومنهم شقي به، وهذه سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ونظراً لما للمال من أثر في حياة الناس فقد عني الإسلام بأمره أشد العناية، واهتم بالزكاة غاية الاهتمام ووضع لها نظاماً دقيقاً حكيماً رحيماً، يؤلف بين القلوب( )، ولذلك سار الفاروق على نهج رسول الله ? وأبي بكر، فقام بتنظيم مؤسسة الزكاة، وتطويرها، فأرسل المصدّقين لجمع الزكاة في أرجاء الدولة الإسلامية بعد أن أسلم الكثير من سكان البلاد المفتوحة، وكان العدل في جباية الأموال، صفة الخلافة الراشدة دون الإخلال بحقوق بيت المال، وقد أنكر الفاروق على عامل من عمال الزكاة أخذه لشاة كثيرة اللبن ذات ضرع عظيم قائلاً: ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس( )، وقد جاء ناس من أهل الشام إلى عمر، فقالوا: إنا قد أصبنا أموالاً وخيلاً ورقيقاً نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور قال عمر: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله، واستشار أصحاب رسول الله ?، وفيهم عليُّ، فقال عليّ: هو حسن، إن لم يكن جزية راتبة يؤخذون بها بعدك( )، وقد ذكر الدكتور أكرم ضياء العمري: أن الصحابة اقترحوا على عمر فرض الزكاة على الرقيق والخيل بعد ما توسعت ملكية الرقيق والخيل في أيدي المسلمين، فعدّ عمر الرقيق والخيل من أموال التجارة وفرض على الرقيق الصبيان والكبار ديناراً (عشرة دراهم) وعلى الخيل العربية عشرة دراهم وعلى البراذين (الخيل غير العربية) خمسة دراهم، ويفهم أنه لم يفرض الزكاة في رقيق الخدمة والخيل المعدة للجهاد لأنها ليست من عروض التجارة، بل إنه عوض من يدفع زكاتهما كل شهرين جربين (حوالي 209 كيلو غرام من القمح) وهو أكثر قيمة في الزكاة وذلك لحديث رسول الله ?: ليس على المسلم في فرسه ولا عبده صدقة( )، وقد أخذ من الركاز (المال المدفون) -إذا عثر عليه- الخمس، وحرص على تداول الأموال وتشغيلها لئلا تذهب بها الزكاة مع تعاقب الأعوام( )، فكان عنده مال ليتيم فأعطاه للحكم بن العاص الثقفي ليتجر به( )، إذ لم يجد عمر وقتاً للتجارة لانشغاله بأمور الخلافة، وعندما صار الربح وفيراً من عشرة آلاف درهم إلى مائة ألف شك عمر في طريقة الكسب، ولما علم أن التاجر استغل صلة اليتيم بعمر رفض جميع الربح واسترد رأس المال حيث اعتبر الربح خبيثاً( )، فهو يعمل بمبدأ فرضه على ولاته وهو رفض استغلال مواقع المسؤولية في الدولة، ومن هنا قاسم الولاة ثروتهم إذا نمت بالتجارة( )، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن الولاة بإذن الله تعالى، وقد أخذ عمر في زكاة الزروع العشر فيما سقته الأمطار والأنهار ونصف العشر فيما سقي بالآلة( )، وهو الموافق للسنة، وكان يوصي بالرفق بأصحاب البساتين عند تقدير الحاصل من التمر( )، وأخذ زكاة عشرية من العسل إذا حمت الدولة وادي النحل لمستثمره( )، وقد كثرت الحنطة في خلافته، فسمح بإخراج زكاة الفطر من الحنطة بنصف وزن ما كانوا يؤدونه قبل خلافته من الشعير أو التمر أو الزبيب( )، وهذا فيه تيسير على الناس، وقبول للمال الأنفس في الزكاة وإن تفاوت الجنس( )، وأما بخصوص مقادير أموال الزكاة التي كانت تُجنى كل عام فأمر غير معروف، والإشارات التي تذكر بعض الأرقام إشارات جزئية وغير دقيقة، ولا تنفع في إعطاء تقدير كلي، وقد قيل إن عمر بن الخطاب حمى أرض الربذة لنعم الصدقة، وكان يحمل عليها في سبيل الله، وكان مقدار ما يحمل عليه كل عام في سبيل الله أربعين ألفاً من الظهر( )، وأما الموظفون الذين أشرفوا على هذه المؤسسة فقد ذكرت المصادر أسماء عدد منهم في خلافة عمر رضي الله عنه وهم، أنس بن مالك، وسعيد بن أبي الذباب على السراة وحارث بن مضرب العبدي، وعبد الله بن الساعدي، وسهل بن أبي حثمة، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ومعاذ بن جبل على بني كلاب، وسعد الأعرج، على اليمن، وسفيان بن عبد الله الثقفي كان والياً على الطائف فكان يجبي زكاتها( ).

2- الجزية:
هي الضريبة التي تفرض على رؤوس من دخل ذمة المسلمين من أهل الكتاب( )، وقيل هي الخراج المحمول على رؤوس الكفار إذلالاً لهم (وصغاراً) ( ) لقوله تعالى: ? قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29) ? (التوبة،آية:29).
وتؤخذ الجزية من أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى وهو إجماع لا خلاف فيه ومن لهم شبهة كتاب: وهم المجوس، وقد حار عمر رضي الله عنه في أمرهم في أول الأمر، أيأخذ منهم الجزية؟ أو لا يأخذها؟ حتى قطع عبد الرحمن بن عوف حيرته حين حدّثه أن رسول الله ? أخذها من مجوس هجر( )، فقد روى ابن أبي شيبة وغيره أن عمر كان بين القبر والمنبر فقال: ما أدري ما أصنع بالمجوس، وليسوا بأهل كتاب، فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله ? يقول: سُنوا بهم سُنة أهل الكتاب( )، وفي حديث آخر أن عمر لم يرد أن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر( )، وقد علل العلماء أخذها من المجوس بأنهم كانوا في الأصل أهل كتاب، وإنما طرأت عليهم عبادة النار بعد ذلك، وعندئذ أخذها من أهل السواد( ) وأخذها من مجوس فارس وكتب لجزء بن معاوية: انظر مجوس من قِبَلك فخذ منهم الجزية فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله أخذها من مجوس هجر( )، وهي تجب على الرجال الأحرار العقلاء، ولا تجب على امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا عبد لأنهم أتباع وذراري، كما أن الجزية لا تؤخذ من المسكين الذي يتصدق عليه ولا من مقعد، والمقعد والزَّمِن إذا كان لهما يسار أخذت منهما وكذلك الأعمى وكذلك المترهبون الذين في الديارات إذا كان لهم يسار أخذ منهم، وإن كانوا مساكين يتصدّق عليهم أهل اليسار لم يؤخذ منهم( )، وتسقط الجزية، بالموت، فإذا مات من تجب عليه الجزية سقطت الجزية، لأن الجزية واجبة على الرؤوس، فإذا فاتت الرؤوس بالموت سقطت، وبالإسلام، فإذا أسلم من فرضت عليه الجزية، سقطت عنه بإسلامه، فقد أسلم رجلان من أهل أليس، فرفع عنهما جزيتهما( )، وأسلم الرقيل دهقان النهرين ففرض له عمر في ألفين ووضع عن رأسه الجزية( )، ومن الجدير بالذكر أن الجزية تسقط عن العام الذي أسلم فيه الذمي، سواء كان إسلامه في أوله أو في وسطه أو في آخره، قال عمر: إن أخذ الجزية الجابي بكفه ثم أسلم صاحبها ردها عليه( )، وتسقط بالافتقار، فإذا افتقر الذمي بعد غنى وأصبح غير قادر على دفع الجزية سقطت عنه الجزية وقد أسقطها عمر عن الشيخ الكبير الضرير البصر عندما رآه يسأل الناس( ) وفرض له ما يعوله من بيت المال، وتسقط عند عجز الدولة عن حماية الذميين، لأن الجزية ما هي إلا ضريبة على الأشخاص القاطنين في أقاليم الدولة الإسلامية، وتدفع هذه الضريبة في مقابل انتفاعهم بالخدمات العامة للدولة، علاوة على أنها نظير حمايتهم والمحافظة عليهم وبدل عدم قيامهم بواجب الدفاع عن الدولة ومواطنيها( )، ومن الأدلة على أن الجزية في مقابل الحماية، ما قام به أبو عبيدة بن الجراح، حينما حشد الروم جموعهم على حدود البلاد الإسلامية الشمالية، فكتب أبو عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا
ما جمع لنا من الجموع وأنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم أموالهم التي جبيت منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم (أي الروم) فلو كانوا هم ما ردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئاً( )، كما تسقط إذا قاموا هم بعبء الدفاع بتكليف من الدولة كما حدث في العهد الذي وقعه سراقة بن عمرو مع أهل طبرستان بعد أن وافقه عمر على ذلك( ).
وأما قيمتها فقد كانت غير محددة واختلفت من إقليم لآخر بحسب قدرة الناس، وظروف الإقليم، فقد وضع على أهل السواد، ثمانية وأربعين درهماً، وأربعة وعشرين درهماً، بحسب حال كل واحد من اليسار، يؤخذ ذلك منهم كل سنة، وإن جاءوا بعرض قبل منهم مثل الدواب والمتاع وغير ذلك ويؤخذ منهم بالقيمة( )، وجعل على أهل الشام أربعة دنانير وأرزاق المسلمين من الحنطة مدين وثلاثة أقساط من زيت لكل فرد، وعلى أهل الفضة أربعين درهماً وخمسة عشر صاعاً لكل إنسان وعلى أهل مصر دينارين لكل حالم إلا أن يكون فقيراً( )، وأما أهل اليمن فقد خضعت للإسلام في عهد النبوة، وفرضت الجزية على كل رجل دينار أو عدله معافر، وتشير روايات ضعيفة إلى بقاء هذه الجزية على أهل اليمن دون تغير في خلافة عمر ورغم ضعفها فإنها تتفق مع سياسة عمر في مراعاة أحوال الرعية، وعدم تغيير الإجراءات النبوية( )، فالجزية كانت تختلف بحسب يسار الناس وبحسب غنى الإقليم كذلك، وكانت تخضع للاجتهاد بما يكون من طاقة أهل الذمة بلا حمل عليهم ولا إضرار( )، وكان عمر يأمر جباة الجزية بأن يرفقوا بالناس في جبايتها، وعندما أتي عمر بمال كثير فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله، ما أخذنا إلا عفواً صفواً، قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني( )، ومن أشهر الموظفين في هذه المؤسسة عثمان بن حنيف، وسعيد بن حذيم، وولاة الأمصار كعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم.
وقد نظمت الجزية بمجموعة من الأحكام والقوانين استمدها الفقهاء والمشرعون من نصوص القرآن والسنة وعمل الخلفاء الراشدين ودلت تلك الأحكام على أن مؤسسة الجزية من مصادر الدولة الإسلامية، كما أن لها صفة سياسية، فدفع أهل الذمة للدولة دليل على إخلاصهم لها وخضوعهم لأحكامها وقوانينها والوفاء بما عاهدوا عليه( )، ويذهب الأستاذ حسن الممّي بأن مؤسسة الجزية لها صبغة سياسية أكثر منها صبغة مالية( )، والحقيقة أن هذه المؤسسة جمعت بين الصبغتين وهي من مصادر الثروة في الدولة الإسلامية.

- أخذ عمر الصدقة مضاعفة من نصارى تغلب:
كان بعض عرب الجزيرة من النصارى قد رفضوا دفع الجزية لكونهم يرونها منقصة ومذمة، فبعث الوليد برؤساء النصارى وعلمائهم إلى أمير المؤمنين فقال لهم: أدُّوا الجزية. فقالوا لعمر: أبلغنا مأمننا، والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم والله لتفضحُنَّا من بين العرب، فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم فيمن خالف وافتضح من عرب الضاحية، والله لتؤدنَّه وأنتم صَغَرة قَمأَة (يعني حقيرين) ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم، ثم لأسبينكم قالوا: فخذ منا شيئاً ولا تسمه جزاء، فقال: أما نحن فنسميه جزاء وسموه أنتم ما شئتم، فقال له علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين ألم يُضْعِف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال: بلى، وأصغى إليه فرضي به منهم جزاء، فرجعوا على ذلك( )، ومن هذا الخبر نأخذ درساً في معاملة المتكبرين من الأعداء الذين يخاطبون المسلمين بعزة وأنفة ويهددون باللجوء إلى دول الكفر، فنجد أمير المؤمنين خاطبهم بعنف وحقّرهم وهددهم إذا لجأوا إلى الكفار بالسعي في إحضارهم ومعاملتهم كمعاملة الحربيين من سبي ذراريهم ونسائهم، وهذا أشد عليهم كثيراً من دفع الجزية، فهذا الجواب القوي أزال ما في رؤوسهم من الكبرياء والتعاظم فرجعوا متواضعين يطلبون من أمير المؤمنين أن يوافق على أخذ ما يريد من غير أن يُسمِّي ذلك جزية، وهنا تدخل علي رضي الله عنه وكان لرأيه مكانة عند عمر لفقهه في الدين، فأشار عليه بأن يُضعِف الصدقة كما فعل سعد بن أبي وقاص بأمثالهم، فقبل ذلك أمير المؤمنين تألفاً لهم ومنعاً من محاولة اللجوء إلى دول الكفر، وقد أصبح هذا الرأي مقبولاً حينما وقع موقعه، وذلك بعد ما أزال أمير المؤمنين ما في نفوسهم من العزة والكبرياء، فأما لو قبل ذلك منهم في بداية العرض فإنهم سيعودون بكبريائهم ولا يؤمن منهم بعد ذلك أن ينقضوا العهد ويسيئوا إلى المسلمين( ).
وقد جاء في رواية عن قصة بني تغلب، بأنهم دعوا إلى الإسلام فأبوا، ثم إلى الجزية فلم يطمئنوا إليها، وولوا هاربين يريدون اللحاق بأرض الروم، فقال النعمان بن زرعة لعمر: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال إنما هم أصحاب حروث ومواشي، ولهم نكاية في العدو فلا تعن عدوك عليك بهم قال: فصالحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على أن ضاعف عليهم الصدقة( ).. وقال: هي جزية وسموها ما شئتم( )، فقال بنوا تغلب: أما إذا لم تكن جزية كجزية الأعلج فإنا نرضى ونحفظ ديننا( )، والسر في قبول الخليفة عمر رضي الله عنه، الصدقة من بني تغلب وهل تعد صدقة أم جزية؟ يرجع إلى أن الاختلاف في التسمية أمر قد تسوهل فيه ورضي الخليفة به مادام في ذلك المصلحة العامة، والذي دفعه إلى ذلك خشية انضمام بني تغلب إلى الروم وما كان يرجوه من إسلامهم ليكونوا عوناً للمسلمين على أعدائهم ولأن هؤلاء قوم من العرب لهم من العزة والأنفة ما يبرر حفظ كرامتهم وأن ما يرد إلى بيت المال من أموالهم خير للمسلمين وأجدى على خزانة الدولة من هربهم وانضمامهم إلى صفوف الروم( )، أما من ناحية هل هي صدقة أم جزية؟ فهي جزية لأنها تصرف في مصارف الخراج ولأن الصدقة لا تجب على غير المسلمين، ولأن الجزية في نظير الحماية وكان بنو تغلب في حماية المسلمين، وفي الوقت نفسه يمكننا أن نقول إنّها ليست بجزية عملياً، لأن ما فرض على نصارى بني تغلب كان على الأموال التي تفرض عليها الزكاة، فكل شيء على المسلمين فيه زكاة كالزروع والثمار والماشية والنقدين.. فهو عليهم مضاعف يؤخذ من النساء كما يؤخذ من الرجال ولم يكن على الأشخاص وهذا ينافي معنى الجزية عرفاً( )، والمهم في كلتا الحالتين باعتبارها صدقة أو جزية فهي ضريبة بينت مدى خضوعهم لسلطة الإسلام( )، هذا وقد كانت هنالك حقوق والتزامات كثيرة للعرب على البلاد المفتوحة عدا الجزية، وقد تنوعت هذه الحقوق وتطورت أيام الخليفة عمر رضي الله عنه، فمن ذلك ضيافة الحاكم إذا وفد والرسل والسفراء ومن نزل من المسلمين بأهل البلاد وقد حددت مدة الضيافة في خلافة عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام مما يأكلون ولا يكلفون بذبح شاة ولا دجاجة ولا مما لا طاقة لهم به( )، وقد مرّ معنا عند حديثنا عن التطوير العمراني في عهد عمر أن بعض الاتفاقيات في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه اشتملت على إصلاح الطرق، وإنشاء الجسور وبناء القناطر وقد تطور نظام الجزية في عهد عمر رضي الله عنه، فأحصى السكان وميز بين الغني والفقير ومتوسط الحال، واستحدث كثيراً من الشروط والالتزامات في نصوص المعاهدات مما لم يعرف من قبل وذلك لاتساع العمران وبسط السلطان على مصر والشام والعراق ومخالطة المسلمين لأهل البلاد واتصالهم الدائم بحضارتها مما مكنهم من سياسة الدولة وشئون العمران وما تتطلبه طبيعة التدرج والنمو فأوجدوا ما لم يكن موجوداً من إصلاح الطرق والعمران وبناء القناطر والجسور التي هي عون الأمم المتحضرة، ومن هنا انتظمت الأمور، واتسعت البلاد ورسخت قواعد النظم المالية وغيرها( ).

- شروط عقد الجزية ووقت أدائها:
وقد استنبط الفقهاء من خلال عصر الخلفاء الراشدين مجموعة من الشروط:
• أن لا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له.
• أن لا يذكروا رسول الله ? بتكذيب ولا إزدراء.
• أن لا يذكروا دين ا لإسلام بذم له ولا قدح فيه.
• أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح.
• أن لا يفتنوا مسلماً عن دينه، ولا يتعرضوا لماله ولا دينه.
• وأن لا يعينوا أهل الحرب ولا يودّوا أغنياءهم( ).
وأما وقت أدائها فقد حدد الخليفة عمر رضي الله عنه وقت أداء الجزية في آخر الحول ومرادنا به آخر العام الزراعي، ويرجع هذا التغيير في وقت أداء الجزية في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه إلى حالة الاستقرار والاستقرار يدعو إلى التنظيم وتعيين الأوقات المناسبة للدولة والمكلفين بدفع الجزية، كما أن تحصيلها وقت إتيان الغلات - وهو ما يعبر عنه المؤرخون بآخر العام - فيه دفع للمشقة، وتسهيل على المكلفين وراحة للدافعين( ).

1- الخراج:
الخراج له معنيان: عام وهو كل إيراد وصل إلى بيت مال المسلمين من غير الصدقات، فهو يدخل في المعنى العام للفيء ويدخل فيه إيراد الجزية وإيراد العشور وغير ذلك، وله معنى خاص: وهو إيراد الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها الإمام لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من العراق والشام( )، والخراج كما قال ابن رجب الحنبلي لا يقاس بإجارة ولا ثمن، بل هو أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره( ).
عندما قويت شوكة الإسلام بالفتوحات العظيمة وبالذات بعد القضاء على القوتين العظيمتين الفرس والروم، تعددت موارد المال في الدولة الإسلامية وكثرت مصارفه، وللمحافظة على كيان هذه الدولة المترامية الأطراف وصون عزها وسلطانها، وضمان مصالح العامة، والخاصة كان لابد من سياسة مالية حكيمة ورشيدة، فكر لها عمر رضي الله عنه، ألا وهي إيجاد مورد مالي ثابت ودائم للقيام بهذه المهام، وهذا المورد هو:الخراج فقد أراد الفاتحون أن تقسم عليهم الغنائم من أموال وأراضٍ وفقاً لما جاء في القرآن الكريم خاصاً بالغنائم ? وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(41) ? (الأنفال،آية:41).
وقد أراد عمر رضي الله عنه في بداية الأمر تقسيم الأرض بعد الفاتحين، لكن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عدم التقسيم، وشاركه الرأي معاذ بن جبل، وحذر عمر من ذلك( )، وقد روى أبو عبيد قائلاً: قدم عمر الجابية فأراد قسم الأراضي بين المسلمين فقال معاذ: والله إذاً ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يَسُدون من الإسلام مَسَداً، وهم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم( )، لقد نبه معاذ بن جبل رضي الله عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى أمر عظيم، جعل عمر يتتبع آيات القرآن الكريم، ويتأملها مفكراً في معنى كل كلمة يقرأها حتى توقف عند آيات تقسيم الفيء في سورة الحشر، فتبين له أنها تشير إلى الفيء للمسلمين في الوقت الحاضر، ولمن يأتي بعدهم، فعزم على تنفيذ رأي معاذ رضي الله عنه، فانتشر خبر ذلك بين الناس ووقع خلاف بينه وبين بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فكان عمر ومؤيدوه لا يرون تقسيم الأراضي التي فتحت، وكان بعض الصحابة ومنهم بلال بن رباح، والزبير بن العوام يرون تقسيمها، كما تقسم غنيمة العسكر، كما قسم النبي ? خيبر، فأبى عمر رضي الله عنه التقسيم وتلا عليهم الآيات الخمس من سورة الحشر من قوله تعالى: ? وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6) ? (الحشر،آية:6) حتى فرغ من شأن بني النضير ثم قال:? مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7) ? (الحشر،آية:7) فهذه عامة في القرى كلها، ثم قال: ? لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ(Cool ? (الحشر،آية:Cool ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال:? وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(9) ? (الحشر،آية:9) فهذا في الأنصار خاصة ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال: ? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(10) ? (الحشر،آية:10)، فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم، فما من أحد من المسلمين إلا له في هذا الفيء حق، قال عمر: فلئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه( )، وفي رواية أخرى جاء فيها. قال عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت، ما هذا برأي، فقال له: عبد الرحمن ابن عوف فما الرأي؟ ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم، فقال عمر ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كلا على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل لهذا البلد وبغيره من أراضي الشام والعراق؟ فأكثروا على عمر وقالوا: تقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم وأبناء أبنائهم ولم يحضروا، فكان عمر رضي الله عنه، لا يزيد على أن يقول: هذا رأي، قالوا: فاستشر، فأرسل إلى عشرة من الأنصار من كبراء الأوس والخزرج وأشرافهم فخطبهم، وكان مما قال لهم: إني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي ثم قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها واضعاً عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين، المقاتلة والذرية، ولمن يأتي من بعدهم، أرأيتم هذه الثغور
لا بد لها من رجال يلزمونها أرأيتم هذه المدن العظام لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم فمن أين يُعطى هؤلاء إذا قسمت الأرض والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعم ما قلت ورأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يَتَقَوّوْن به رجع أهل الكفر إلى مدنهم( )، وقد قال عمر فيما قاله: لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم، ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل الله لهم فيها الحق بقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ? ثم قال: فاستوعبت الآية الناس إلى يوم القيامة، وبعد ذلك استقر رأي عمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم على عدم قسمة الأرض( ).
وفي حواره مع الصحابة يظهر أسلوب الفاروق في الجدل، وكيف جمع فيه قوة الدليل، وروعة الصورة، واستمالة الخصم، في مقالته التي قال للأنصار، عند المناقشة في أمر أرض السواد، ولو أن رئيساً ناشئاً في السياسة، متمرساً بأساليب الخطب البرلمانية أراد أن يخطب النواب (لينال موافقتهم) على مشروع من المشروعات لم يجيء بأرقّ من هذا المدخل، أو أعجب من هذا الأسلوب؟ وامتاز عمر فوق ذلك بأنه كان صادقاً فيما يقول، ولم يكن فيه سياسياً مخادعاً وأنه جاء به في نمط من البيان يسمو على الأشباه والأمثال( ).

- هل كان الفاروق مخالفاً للنبي ? في حكم أرض الخراج:
من قال: إن الفاروق خالف الرسول ? بفعله في عدم تقسيم أرض الخراج، لأن النبي ? قسم خيبر، وقال: إن الإمام إذا حبس الأرض المفتوحة عنوة نقض حكمه لأجل مخالفة السنة، فهذا القول خطأ وجرأة على الخلفاء الراشدين – إذا فعلوا هذا الفعل – فإن فعل النبي ? في خيبر إنما يدل على جواز ما فعله ولا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل على عدم وجوب ذلك، لكان فعل الخلفاء الراشدين عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم دليلاً على عدم الوجوب، فكيف وقد ثبت أنه فتح مكة عنوة كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة، بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسير؟ فإنه قدم حين نقضوا العهد ونزل بمر الظهران، ولم يأت أحد منهم يصالحه ولا أرسل إليهم أحداً يصالحهم، بل خرج أبو سفيان يتجسس الأخبار فأخذه العباس وقدم به كالأسير وغايته، أن يكون العباس أمنه فصار مستأمناً، ثم أسلم فصار من المسلمين، فكيف يتصور أن يعقد صلح الكفار – بعد إسلامه بغير إذن منهم؟ مما يبين ذلك أن النبي ? علق الأمان بأسباب، كقوله: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن( )، فأمن من لم يقاتله، فلو كانوا معاهدين لم يحتاجوا إلى ذلك، وأيضاً، فسماهم النبي ? طلقاء؛ لأنه أطلقهم من الأسر كثمامة بن أثال وغيره، وأيضاً فإنه أذن في قتل جماعة منهم من الرجال والنساء، وأيضاً فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال في خطبته: إن مكة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة( ).
ودخل مكة وعلى رأسه المغفر ولم يدخلها بإحرام، فلو كانوا صالحوه لم يكن قد أحل له شيء، كما لو صالح مدينة من مدائن الحل لم تكن قد أحلت فكيف يحل له البلد الحرام وأهله مسالمون له صلح معه؟! وأيضاً فقد قاتلوا خالداً وقتل طائفةً من المسلمين طائفةً من الكفار، وفي الجملة، فإن من تدبر الآثار المنقولة علم بالاضطرار أن مكة فتحت عنوة، ومع هذا فالنبي ? لم يقسم أرضها كما لم يسترق رجالها، ففتح خيبر عنوة وقسمها، وفتح مكة عنوة ولم يقسمها، فعلم جواز الأمرين( )، وبذلك لم يكن الفاروق مخالفاً للهدي النبوي في عدم تقسيمه للأراضي المفتوحة، وقد كان سنده فيما فعل أموراً منها:

1- آية الفيء في سورة الحشر.
2- عمل النبي ي? حينما فتح مكة عنوة فتركها لأهلها ولم يضع عليها خراجاً.
3- قرار مجلس الشورى الذي عقده عمر لهذه المسألة بعد الحوار والمجادلة وقد أصبح سنة متبعة في أرض يظهر عليها المسلمون ويقرون أهلها عليها وبهذا يظهر أن عمر حينما ميز بين الغنائم المنقولة وبين الأراضي كان متمسكاً بدلائل النصوص، وجمع بينها وأنزل كلا منها منزلته التي يرشد إليها النظر الجامع السديد يضاف إلى ذلك أن عمر كان يقصد أن تبقى لأهل البلاد ثرواتهم وأن يعصم الجند الإسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدعة والانشغال بالثراء والحطام( ).

إن الفاروق رضي الله عنه كان يلجأ إلى القرآن الكريم يلتمس منه الحلول ويطوف بين مختلف آياته، ويتعمق في فهم منطوقها ومفهومها، ويجمع بينها ويخصص بعضها ببعض حتى يصل إلى نتائج تحقق المصالح المرجوة منها مستلهماً روح الشريعة غير واقف مع ظواهر النصوص وقد أسعفه في قطع هذه المراحل إدراكه الدقيق لمقاصد الشريعة بتلكم النصوص، وهي عملية مركبة ومعقدة لا يحسن الخوض فيها إلا من تمرس على الاجتهاد وأعطي فهماً سديداً وجرأة على الإقدام حيث يحسن الإقدام حتى خيل للبعض أن عمر كان يضرب بالنصوص عرض الحائط في بعض الأحيان، وحاشا أن يفعل عمر ذلك لكنه كان مجتهداً ممتازاً اكتسب حاسة تشريعية تضاهى حتى كان يرى الرأي فينزل القرآن على وفقه والنتيجة التي نخرج بها من هذه القضية هي أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومثله في السنة، فعلى المجتهد وهو يبحث عن الحكم الشرعي أن يستعرض جميع النصوص التي تساعد على الحل دون الاقتصار على بعضها، وإلا عد مقصِّراً في اجتهاده، ويكون ما توصل إليه لاغياً( ).

- كيف تمّ تنفيذ مشروع الخراج في عهد الفاروق؟
لما انتهى كبار الصحابة ورجال الحل والعقد إلى إقرار رأي الخليفة عمر رضي الله عنه بتحبيس الأرض على أهلها، وتقسيم الأموال المنقولة على الفاتحين انتدب شخصيتين كبيرتين هما: عثمان بن حُنيف، وحذيفة بن اليمان وذلك لمسح أرض سواد العراق، وحين بعثهما لهذه المهمة زوّدهما الخليفة بنصائحه وتوجيهاته الثاقبة وأمرهما بأن يلاحظا ثروة الأفراد، وخصوبة الأرض وجدبها، ونوع النباتات والشجر، والرفق بالرعية، فلا تحمل الأرض ما يتحمله المكلفون، بل يترك لهم
ما يجبرون به النوائب والحوائج ولكي ينطلق قرار عمر رضي الله عنه على أساس عادل، رغب أن يعرف الحالة التي كان عليها أهل العراق قبل الفتح، وطلب من الصحابيين عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان أن يرسلا إليه وفداً من كبار رجال السواد، فبعثا إليه وفداً من دهاقنة السواد، فسألهم عمر رضي الله عنه، كم كنتم تؤدون إلى الأعاجم في أرضهم؟ قالوا: سبعة وعشرين درهماً، فقال عمر رضي الله عنه لا أرضى بهذا منكم( )، وهذا يدل على أن الفتح الإسلامي كان عدلاً على الناس الذين فتحت بلادهم، وكان عمر يرى أن فرض خراج على مساحة الأرض أصلح لأهل الخراج، وأحسن رداً، وزيادة في الفيء من غير أن يحملهم مالا يطيقون فقام عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان بما وكل إليهما خير قيام فبلغت مساحة السواد (36000.000) ستة وثلاثين ألف ألف( )، ووضعا على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين( )، وكتبا إلى عمر بن الخطاب بذلك فأمضاه وقد حرص عمر (رضي الله عنه) على العناية بأهل تلك الأرض والبلاد، وما يوفر العدل ويحققه خوفاً أن يكون عثمان وحذيفة رضي الله عنهما حملا الناس والأرض ما لا يطيقون أداءه من خراج فسألهما: كيف وضعتما على الأرض لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون؟ فقال حذيفة: لقد تركت فضلاً، وقال عثمان: لقد تركت الضعف، ولو شئت لأخذته فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك: أما والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفتقرون إلى أمير بعدي( ).
وهذه الطريقة التي نفذت في سواد العراق هي ذاتها التي نفذت في الأراضي المصرية، لكن الذي تولاها هو عمرو بن العاص وكانت وحدة المساحة التي ربط على أساسها الخراج الفدان( )، وكذلك فعل عمر (رضي الله عنه) بأرض الشام كما فعل بأرض السواد، ولم يذكر المؤرخون معلومات صريحة واضحة عن المساحة ونوع الزروع والثمار التي فرض عليها الخراج، ولا من قام بعملية مسح أراضي الشام( )، وكان الخليفة عمر رضي الله عنه بهذا الصدد عمل إحصاءً دقيقاً لثروة الولاية قبل الولاية عليها، ثم إلزام الولاة عند اعتزالهم أعمالهم بمصادرة بعض الأموال التي جمعوها لأنفسهم في أثناء ولايتهم، إذا تبين له أن أعطياتهم لا تسمح لهم بادخار هذه الأموال كلها( ) وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الولاة وقد كثرت الممتلكات الخاصة للدولة التي اصطفاها عمر رضي الله عنه لبيت المال في العراق والشام ومصر، فكانت هذه الأملاك تدرّ دخلاً عظيماً ووفيراً على خزانة الدولة، خاصة في مصر لاتساع الأراضي الزراعية التي يملكها التاج في العصور القديمة( ).

- ما هي القيم والمصالح الأمنية في عدم تقسيم أراضي الخراج؟
هناك جملة من المصالح الأمنية التي استند إليها الخليفة –والذين وافقوه على رأيه- في اتخاذ هذا القرار يمكنني تصنيفها إلى صنفين، أولهما المصالح الداخلية وأهمها سد الطريق على الخلاف والقتال بين المسلمين، وضمان توافر مصادر ثابتة لمعايش البلاد والعباد، وتوفير الحاجات المادية اللازمة للأجيال اللاحقة من المسلمين، وثانيهما المصالح الخارجية والتي يتمثل أهمها في توفير ما يسد ثغور المسلمين، ويسدّ حاجتها من الرجال والمؤن، والقدرة على تجهيز الجيوش، بما يستلزمه ذلك من كفالة الرواتب وإدرار العطاء وتمويل الإنفاق على العتاد والسلاح وترك بعض الأطراف لتتولى مهام الدفاع عن حدود الدولة وأراضيها اعتماداً على ما لديها من خراج، والذي يجب ملاحظته في هذه المصالح أن الخليفة أراد أن يضع بقراره دعائم ثابتة لأمن المجتمع السياسي ليس في عصره فقط، بل وفيما يليه من عصور بعده وعباراته من مثل (فكيف بمن يأتي من المسلمين)، و(كرهت أن يترك المسلمون) التي توحي بنظرته المستقبلية لهذا الأمن الشامل تشهد على ذلك، وقد أثبت تطور الأحداث السياسية في عصر الخليفة الثاني صواب وصدق ما قرره.

- أن تعدد أطوار اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي قد أكد أمرين أولهما أن بعض القرارات المهمة التي تمس المصالح الجوهرية للمسلمين قد تأخذ من الجهد والوقت الكثير، كما أنها قد تتطلب قدراً من الأناة في تبادل الحجج والبراهين، دون أن يتيح ذلك مجالاً للخلاف وتعميق هوة الانقسام أحياناً أو يفوت باباً من أبواب تحقيق بعض المصالح الخاصة بأمن الأمة في حاضرها ومستقبلها، والأمر الثاني أن بعض القرارات المهمة التي قد تخرج بعد عسر النقاش والحوار، والبداية المتعثرة لها، يفرض على الحاكم الشرعي أن يكون أول المسلمين وآخرهم جهداً في السعي إلى تضييق هوة الخلاف، والتقريب بين وجهات النظر المتعارضة لكي يصل بالمسلمين إلى الحكم الشرعي فيما هو متنازع بشأنه( ).

- أن تبادل الرأي والاجتهاد بين الخليفة والصحابة الذين لم يوافقوه على رأيه واستناد الكل في ذلك إلى النصوص المنزلة في الاجتهاد يثبت أن الفيصل في إبداء الآراء في القرارات السياسية عامة والتي تمس مصالح المسلمين بصفة مباشرة خاصة، هو أن تجيء هذه الآراء مستندة إلى النصوص المنزلة، أو ما ينبغي أن يتفرع عنها من مصادر أخرى لا تخرج عن أحكامها في محتواها ومبرراتها.

- أن لجوء الخليفة إلى استشارة أهل السابقة من كبار الصحابة العلماء في فقه الأحكام ومصادر الشرع، واستجابتهم بإخلاص النصح له، يؤكد أن أهل الشورى لهم مواصفات خاصة تميزهم، فالذين يستشارون هم أهل الفقه والفهم والورع والدراية، الواعون لدورهم، إنهم بعبارة أدق الذين لا إمعية في آرائهم، ومن دأبهم توطين أنفسهم على قول الحق وفعله، غير خائفين في ذلك لومة لائم من حاكم أو غيره.

- ثم يبقى القول أن ما حدث بصدور قرار عدم تقسيم الأراضي، يظل نموذجاً عالياً سار عليه الصحابة في كيفية التعامل وفق آداب الحوار وأخلاقيات مناقشة القضايا، وتقليب أوجهها المختلفة ابتداء بمرحلة التفكير في اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي -بصفة مباشرة، أو غير مباشرة- وعلى رأسهم الخليفة الذي لم يخرج عن هذه الآداب رغم اختلاف اجتهاداتهم بشأنه( )، بل إن الفاروق رضي الله عنه بين بأن الحاكم مجرد فرد في هيئة الشورى، وأعلن الثقة في مجلس شورى الأمة، خالفته، أو وافقته والرد إلى كتاب الله، فقد قال رضي الله عنه: إني واحد منكم، كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ومعكم من الله كتابٌ ينطق بالحق( ).

- أهم الآثار الدعوية في هذا القرار:
من أهم هذه الآثار: القضاء نهائياً على نظام الإقطاع، فقد ألغى عمر رضي الله عنه كل الأوضاع الإقطاعية الظالمة التي احتكرت كل الأرض لصالحها واستعبدت الفلاحين لزراعتها مجاناً، فقد ترك عمر رضي الله عنه أرض السواد في أيدي فلاحيها يزرعونها مقابل خراج عادل يطيقونه يدفعونه كل عام، وقد اغتبط الفلاحون بقرار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتمليكهم الأرض الزراعية يزرعونها مقابل دفع الخراج الذي يستطيعونه مما جعلهم يشعرون لأول مرة في حياتهم أنهم أصحاب الأرض الزراعية لا ملكاً للإقطاعيين من الطبقة الحاكمة، وكان الفلاحون مجرد أجراء يزرعونها بدون مقابل، وكان تعبهم وكدهم يذهب إلى جيوب الطبقة الإقطاعية طبقة ملاك الأرض ولا يتركون لهم إلا الفتات( ).

- قطع الطريق على دعوة جيوش الروم والفرس بعد طردهم:
لقد أدت سياسة عمر رضي الله عنه في تمليك الأرض لفلاحي الأمصار المفتوحة عنوة إلى شعورهم بالرضا التام كما تقدم وهذا مما جعلهم يبغضون حكامهم من الفرس والروم ولا يقدمون لهم أية مساعدات بل كانوا على العكس من ذلك يقدمون المساعدات للمسلمين ضدهم، حتى إن رستم القائد الفارسي دعا أهل الحيرة فقال: يا أعداء الله فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا وكنتم عيوناً لهم علينا وقويتموهم بالأموال( ):

- مسارعة أهل الأمصار المفتوحة إلى الدخول في الإسلام:
فقد ترتب على ما تقدم من تمليك الأرض للفلاحين أن سارعوا إلى الدخول في الإسلام، الذي انتشر بينهم بسرعة مدهشة لم يسبق لها مثيل، فقد لمسوا العدل وتبين لهم الحق، وأحسوا بكرامتهم الإنسانية من معاملة المسلمين لهم( ).

- تدبير الأموال لحماية الثغور:
فقد امتدت الدولة الإسلامية صوب جهاتها الأربع وانتقلت أسماء الثغور إلى
ما وراء حدود الدولة في عصورها الأولى ومن أهم هذه الثغور، ما كان يعرف بالثغور الفراتية والتي كانت تمتد على طول خط استراتيجي يفصل ما بين الدولة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية وغيرها من الثغور، وقد اتخذ عمر في كل مصر على قدره خيولاً، وقد وصلت قوات الفرسان المرابطين في الأمصار إلى أكثر من ثلاثين ألف فارس، وهذا بخلاف قوات المشاة وأي قوات أخرى كالجمالة وخلافه وهذه خصصها عمر كجيش منظم لحماية ثغور المسلمين وكفل أرزاقهم وصرفهم عن الاشتغال بأي شيء إلا بالجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، فكان الخراج من الأسباب التي ساقها المولى عز وجل لتجهيز هذه القوات وكفالة أرزاق أجنادها( ).
إن الفاروق رضي الله عنه وضع قواعد نظام الخراج باعتباره مورداً من الموارد المالية الهامة لخزينة الدولة وكان يهدف من ورائه إلى أن يكون بيت المال قائماً بما يجب عليه من تحقيق المصالح العامة للأمة وحفظ ثغورها وتأمين طرقها ولا يتأتى ذلك إلا بإبقاء أصحاب الأرض التي تملكها المسلمون عنوة لقاء نسبة معينة مما تنتجه الأرض وهذا أمرٌ من شأنه أن يزيدهم حماساً في العمل ورغبة في الاستغلال والاستثمار ومقارنة ذلك بما كانوا يرهقون به من الضرائب من طرف أولياء أمورهم قبل وصول المسلمين( ).

4- العشور:
هي الأموال التي يتم تحصيلها على التجارة التي تمر عبر حدود الدولة الإسلامية سواء داخلة أو خارجة من أراضي الدولة وهي أشبه ما تكون بالرسوم الجمركية في العصر الحاضر، ويقوم بتحصيلها موظف يقال له (العاشر) أي الذي يأخذ العشور( )، ولم يكن لهذه الضريبة وجود في عهد النبي ?، وخليفته الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لأن تلك الفترة كانت فترة دعوة إلى الإسلام، والجهاد في سبيل نشره، وبناء الدولة الإسلامية، فلما اتسعت الدولة في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه، وامتدت حدودها شرقاً وغرباً وصار التبادل التجاري مع الدول المجاورة، ضرورة تمليها المصلحة العامة، رأى الخليفة عمر رضي الله عنه أن يفرض تلك الضريبة على الواردين إلى دار الإسلام، كما كان أهل الحرب يأخذونها من تجار المسلمين القادمين إلى بلادهم، معاملة بالمثل وقد أجمع المؤرخون( )، أن أول من وضع العشر في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك عندما كتب إليه أهل منبج ومن وراء بحر عدن يعرضون عليه أن يدخلوا بتجارتهم أرض العرب وله منها العشر فشاور عمر في ذلك أصحاب النبي? فأجمعوا على ذلك، فهو أول من أخذ منهم العشور، ولكن عمر أراد أن يتأكد من مقدار ما تأخذه الدول الأخرى من تجار المسلمين إذا اجتازوا حدودهم، فسأل المسلمين كيف يصنع بكم الحبشة إذا دخلتم أرضهم؟ قالوا: يأخذون عشر
ما معنا، قال: فخذوا منهم مثل ما يأخذون منكم( )، وسأل أيضاً عثمان بن حنيف كم يأخذ منكم أهل الحرب إذا أتيتم دارهم؟ قال: العشر، قال عمر: فكذلك فخذوا منهم( )، وروي أن أبا موسى الأشعري كتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه: إن تجاراً من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر، فكتب إليه الخليفة عمر رضي الله عنه: خذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين، وخذ من أهل الذمة نصف العشر، ومن المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم،
وما زاد فبحسابه( )، وقد ساهم هذا التشريع الجديد في تنظيم العلاقات التجارية بين الدول، وقد حققت التجارة الإسلامية مكاسب كبيرة في عالم التجارة حيث فتحت أبواب الدولة الإسلامية للتجارة وجلبت البضائع والسلع إلى الدولة الإسلامية من كل أنحاء العالم وهذا بطبيعة الحال شجع التاجر المسلم والأجنبي على زيادة نشاطهم في التصدير، والاستيراد من كافة أنحاء العالم، وبذلك نشطت المراكز التجارية داخل بلاد الدولة الإسلامية بما فيها الجزيرة وزادت حركة القوافل التجارية القادمة والذاهبة من أقاليم الجزيرة إلى الأقاليم الإسلامية الأخرى، كما استقبلت موانئ بلاد الإسلام السفن الكبيرة التي تصل إليها من الهند والصين وشرقي أفريقية محملة بأغلى وأنفس البضائع وظهر ذلك جلياً في العصر الراشدي والدولة الأموية( )، وقد كان في عهد عمر عشارون يأخذون زكاة ما يمر بهم من أموال التجار ويعتبرون النصاب والحول، قال أنس بن مالك، بعثني عمر بن الخطاب على جباية العراق، وقال: إذا بلغ مال المسلم مائتي درهم فخذ منها خمسة دراهم، وما زاد على المائتين، ففي كل أربعين درهماً، درهم( ) وذكر الشيباني أنّ عمر بن الخطاب بعث زياد بن جرير وقيل زياد بن حدير مصدّقا إلى عين التمر، وأمره بأن يأخذ من أموالهم ربع العشر، ومن أهل الذمة إذا اختلفوا بها للتجارة نصف العشر، ومن أموال أهل الحرب العشر، وجعل عمر بن الخطاب نفقة العاشر أي المصدّق من المال الذي يأخذه( ).
إن من يفكر في ذلك التحديد الذي رسمه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد يصل إلى أنه فرض العشر على الحربيين لمعاملتهم المسلمين كذلك، فهذا مبدأ المعاملة بالمثل، وأنه فرض نصف العشر على أهل الذمة تمييزاً لهم عن المسلمين، وتطبيقاً لما سبق أن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:08 pm

- مصارف الزكاة:
ذكر المولى عز وجل ثمانية أصناف ممن تجب لهم الزكاة قال تعالى:? إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ(60) ? (التوبة،آية:60).
وقد كان الفقراء والمساكين في عهد عمر رضي الله عنه يعطون من هذه الأموال
ما يبعدهم عن المسكنة والفقر، ويخرجهم من الفاقة والعوز، ويقربهم إلى أدنى مراتب الغنى واليسار( )، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: إذا أعطيتم فأغنوا( )، وهذه هي السياسة العمرية الراشدة وهي إعطاء ما يكفي وزيادة النسبة للعجز المؤقت، أما العجز المزمن من مرضى ونحوه، فإن الزكاة بالنسبة لهذا الصنف من والبطالة بالكسب، وتتعدى هذه السياسة العمرية المسلمين فتشمل مساكين أهل الكتاب بعد إسقاط الجزية عنهم( )، كما أن من نفقات الزكاة العاملين عليها فهم لهم وظائف شتى، وأعمال متشعبة، كلها تتصل بتنظيم الزكاة، وبإحصاء من تجب عليه؟ وفيم تجب؟ ومقدار ما يجب؟ ومعرفة من تجب له؟ وكم عددهم؟ ومبلغ حاجتهم، وقدر كفايتهم، إلى غير ذلك من الشؤون التي تحتاج إلى جهاز كامل من الخبراء وأهل الاختصاص ومن يعاونهم( )، وأما المؤلفة قلوبهم، فقد أسقط عمر سهمهم، وذلك لأن الإسلام كان قوي الجانب في خلافته فلا حاجة للانفاق من أموال الزكاة على هذا الصنف من الأصناف الثمانية التي نصت عليها الآية( )، وأما في عصرنا الحاضر فلا يزال التأليف موجوداً بصورة أو أخرى، ويوجد من تنطبق عليهم شروط المؤلفة قلوبهم( )، وقد استغل بعض خصوم الإسلام ودعاة الجمود من المسلمين إسقاط نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكاة في عهد عمر فكتبوا عن هذه القصة، وادعوا أن عمر رضي الله عنه، بهذا أوقف نصاً من نصوص القرآن الكريم، وهذا الادعاء ليس بصحيح، كما أنه لا يتفق مع الحقيقة فالواقع أن الخليفة عمر رضي الله عنه أوقف نصيب المؤلفة قلوبهم لسبب وحكمة، وهي أن الإسلام أصبح عزيزاً قوياً بعد أن كان ضعيفاً في عهده الأول، ورأى رضي الله عنه أنه لا داعي لتأليف هؤلاء وهؤلاء بعد العزّة والنصر والقوة( ).
وقد وافق الصحابة على قرار الفاروق، ولم تأت هذه الموافقة اعتباطاً وإنما نتيجة الاقتناع بالمبررات التي دفع بها لإيقاف إعطاء المؤلفة قلوبهم من حيث إن الإسلام قد غدا في قوة ومكنة تجعلانه في غنى عن عدد قليل لا وزن له، بعد دخول أمم كثيرة في الإسلام، كما أنه ليس ثمة خوف من هؤلاء الذين يطلبون التأليف، بل كان الخوف عليهم أن يظلوا على نزعتهم التواكلية، ثم إن حق هؤلاء ليس حقاً موروثاً يتوارثونه جيلاً بعد جيل( )،إن عمر لم يقف جامداً أمام هذا النص فيما يتصل بسهم المؤلفة قلوبهم، فهو قد فهم أن المقصود من النص هو إعزاز الإسلام بدخول أشراف العرب فيه، وتثبيت من أسلم منهم على الإسلام، فقد نظر إلى علة النص لا إلى ظاهره، وحيث أعز الله الإسلام وكثر أهله فقد أصبح الإعطاء حينئذ –في نظر عمر- ذلة وخنوعاً، وزالت العلة التي من أجلها جعل الله للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة وبناء على ذلك أوقف عمر هذا السهم ولم يعطه لهم، وبناء على هذا الفهم الصحيح لا يجوز أن نقول إن عمر ألغى العمل بالنص القرآني المتعلق بإعطاء المؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة لأن ذلك من قبيل النسخ، ولا نسخ إلا من طرف صاحب الشرع نفسه وعليه فلا نسخ بعد وفاة الرسول ?( )، لقد كان عمر رضي الله عنه يراعي تغير الظروف والعلل التي بنيت عليها نصوص الأحكام، ولم يكن يقف مع ظواهرها كما سبق القول( )، كما كان الإنفاق في الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله وابن السبيل، وقد اعتنى القرآن الكريم بابن السبيل أيّما اعتناء، فقد جعل له سهماً من الزكاة ونصيباً من الفيء ومن خمس الغنائم، وعناية الإسلام بالمسافرين الغرباء والمنقطعين عناية فذة لم يعرف لها نظير في نظام من الأنظمة أو شريعة من الشرائع، ويؤكد هذه العناية هدي النبي ? والصديق، كما أن عمر بن الخطاب رضي الله اتخذ في عهده داراً خاصة أطلق عليها (دار الدقيق)، وذلك أنه جعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزبيب
وما يحتاج إليه، يعين به المنقطع به، والضيف ومن ينزل بعمر، ووضع عمر في طريق السبل ما بين مكة والمدينة ما يصلح من ينقطع به، ويحمل من ماء إلى ماء( ).
إن هذا التحديد للأصناف الثمانية يوجب على الدولة حصرهم وتتبع حالتهم وأن يكون هناك سجلات في كل بلد، ثم في المقر الرئيسي للدولة، وقد كان للصدقة ديوان خاص بها في دار الخلافة، له فروع في سائر الولايات وقد كان ذلك في عهد الخليفة عمر (رضي الله عنه) بعد تدوين الدواوين( )، إن نظرة إلى تلك الأصناف الثمانية الذين ذكرتهم الآية نلاحظ أنها قد شملت المصالح الدينية والسياسية والاجتماعية من دعوة للجهاد في سبيل الله، وتكوين الجيوش، والعمل على القضاء على الفقر، وسداد الدين، ودفع الحاجة عن ذوي الحاجة، أي أنها تشمل كل متطلبات المجتمع وإيجاد الأمن والمحبة والتآلف بين أفراده( ).

2- مصارف الجزية والخراج والعشور:
تصرف في أعطيات الخلفاء، والعمال والجند، وآل البيت، وزوجات المجاهدين وغيرها من أوجه الخير.
- أعطيات الخليفة: وقد فرض للخليفة عمر رضي الله عنه من الأعطيات خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم على رواية أخرى.
أعطيات العمال:
أي ولاة الأقاليم، ففي عهد الخليفة عمر (رضي الله عنه)، عين الفاروق في كل ولاية، واليا حازماً عادلاً لحكمها وإدارتها، وزوده بعدد من الأعوان والمساعدين والجباة والقضاة والكتّاب وعمال الخراج، والصدقات وغيرهم، فكان للصلاة والحرب عامل –وهو الأمير- ولتحصيل الأموال عامل آخر، ولمساحة الأراضي وتقدير الضرائب وإحصاء الناس عمّال لهم خبرة ودراية، وقد أجرى لهم الأعطيات بما يتناسب مع منصب كل منهم وما تتطلبه أعماله، مراعياً في ذلك حالة الإقليم من قرب وبعد، وتوفر خيرات، ورخص وغلاء، ولم يجعل لصرفها موعداً ثابتاً لا يتخلف( ) وسيأتي الحديث عن العمال بالتفصيل بإذن الله عند حديثنا عن مؤسسة العمال.

- أعطيات الجند:
اهتم عمر رضي الله عنه بأمر الجند فنظم ديوان الجيش، وسار في تقسيم الأرزاق فيه على أساس القربى من النسب النبوي الشريف، والسابقة للإسلام( )، وبذلك أصبح في مقدمة أصحاب المعاشات آل بيت رسول الله ? وهم بنو هاشم وكان العباس يتسلمها ويوزعها عليهم، ثم زوجات النبي ? وتختص كل واحدة بمعاش مستقل عن آل البيت أما بقية المسلمين فقد قسموا إلى طبقات حسب ترتيب اشتراكهم في الجهاد في سبيل الله، فبدأ بأهل بدر، ثم من حاربوا بعد بدر إلى الحديبية، ثم من حاربوا من الحديبية إلى آخر حروب الردة ثم من تلاهم من شهد القادسية واليرموك وهكذا، كما أنه جعل مخصصات لزوجات المحاربين وأطفالهم منذ الولادة ولم يغفل أمر الغلمان، واللقطاء، بل خصص لهم أعطيات سنوية، أدناها مائة درهم، تتزايد عند بلوغهم( )، كما فرض للموالي من ألفين إلى ألف( )، وقد وردت روايات كثيرة تتفق فيما بينها في كثير من أرقام المقررات التي قررها الخليفة عمر (رضي الله عنه) أعطيات للجند، وتختلف بعض الاختلافات في تلك المقادير( )، وأما ما صح من مقادير العطاء، فإن عطاء زوجات النبي ? كان عشرة آلاف درهم (10000 درهم) كل سنة إلا جويرية وصفية وميمونة فقد فرض لهن أقل من ذلك ثم زاد عطاءهن إلى اثني عشر ألف درهم
(12000 درهم) إلا صفية وجويرية كان عطاؤهن ستة آلاف درهم (6000 درهم)، وقد طالبت عائشة بالمساواة بين أمهات المؤمنين، فوافق عمر على مساواتهن، وكان عطاء المهاجرين والأنصار أربعة آلاف درهم (4000 درهم) لكل واحد سنوياً سوى عبد الله بن عمر بن الخطاب فإنه فرض له ثلاثة آلاف وخمسمائة درهم (3500 درهم) معللاً ذلك بأنه هاجر به أبوه أي ليس كمن هاجر بنفسه( )، وكان عبد الله صبياً حين الهجرة، ثم زاد المهاجرين ألفاً فصار عطاؤهم خمسة آلاف درهم (5000 درهم) كل سنة( )، ويبدو أن هذا العطاء للبدريين فقط من المهاجرين والأنصار( )، وأما من شهد صلح الحديبية فكان عطاؤه ثلاثة آلاف درهم (3000 درهم) كل سنة( )، وفرض لكل مولود مائة درهم (100 درهم) وكان يفرض للفطيم ثم فرض للمولود حين ولادته خوفاً من تعجيل فطامه، وأما الموالي فقد فرض لأشرافهم كالهرمزان حينما أسلم ألفي درهم (2000 درهم) وغير ذلك من الأعطيات، وإضافة إلى العطاء السنوي فإن عمر رضي الله عنه كان يوزع عطايا متفرقة( )، وإلى جانب ما خصص لكل فرد ممن سبق ذكرهم وزيادة على عطائه السابق طعام من الحنطة كل شهر( )، وقد قال الخليفة عمر رضي الله عنه في آخر عهده: لئن كثر المال لأفرضن لكل رجل أربعة آلاف درهم، ألف لسفره، وألف لسلاحه، وألف يخلفها لأهله، وألف لفرسه وبغله( )، وقد رأى الخليفة عمر رضي الله عنه أن لكل مسلم حقاً في بيت المال، منذ أن يولد حتى يموت، ولقد أعلن هذا المبدأ بقوله: والله الذي لا إله إلا هو
-ثلاثاً- ما من أحد إلا له في هذا المال حق أُعطيَه أو مُنِعَه، وما أحد بأحق به من أحد إلا عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يُخمَّرَ وجهه( )، ومن المهم أن نتبين وجهة نظر عمر رضي الله عنه في عدم المساواة بين المسلمين في العطاء، ودعمه الواضح لقرابة الرسول ? ولكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار واعتباره للسابقة في الإسلام والبلاء في الجهاد، فلا شك أن الفئة التي حازت الأموال الوفيرة في خلافته هي التي أقامت على أكتافها صرح الدولة الإسلامية، كما أنها أكثر فقهاً والتزاماً بالشرع ومقاصده، وأكثر ورعاً وصلاحاً في التعامل مع المال، وتذليله لتحقيق المقاصد الاجتماعية عن طريق الانفاق، ودعم هذه الفئة اقتصادياً يقوي نفوذها في المجتمع، ويجعلها أقدر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويلاحظ أن عمر رضي الله عنه عزم على تبديل سياسة التفضيل في العطاء إلى المساواة، وقد صرّح بذلك في آخر خلافته قائلاً: لئن بقيت إلى قابل، لألحقن آخر الناس بأولهم ولأجعلنهم بياناً واحداً( ) –أي سواء- وأما عن نظرة عمر إلى الأموال العامّة فقد عبّر عنها بقوله: إن الله جعلني خازناً لهذا المال، وقاسماً له، ثم قال: بل الله يقسمه( )، وقد بكى عندما رأى عظمة الأموال التي جلبت إلى بيت المال في فتوح فارس، فلما ذكره عبد الرحمن بن عوف بأنه يوم شكر وسرور وفرح وقال عمر: كلا إن هذا لم يعطه قوم إلا ألقي بينهم العداوة والبغضاء( )، ونظر إلى أموال فتح جلولاء فقرأ الآية ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ? (آل عمران،آية:14) وقال: اللهم لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم فاجعلني أنفقه في حقه وأعوذ بك من شره( ).

3- مصارف الغنائم:
أما توزيع الغنائم فقد قسمها الله تعالى ورسوله ? كما جاء في الآية الكريمة، قال تعالى: ? وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ... ? (الأنفال،آية:41)، وأما أربعة أخماس الغنيمة الباقية فكانت توزع بين الغانمين للفارس ثلاثة أسهم -سهمان لفرسه وسهم له
وللراجل سهم( )، وقد كان للرسول ? سهم في حياته ينفقه على نفسه، وأزواجه، وما بقي من هذه الأسهم كان يجعله في المصالح العامة أو ينفقه على أهل الفاقة والاحتياج، وكان لذوي قربى الرسول ? - السهم الثاني، وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب الذين خضعوا للإسلام وشملتهم دعوته (عليه الصلاة والسلام) وقد اختلف الناس بعد وفاة الرسول ? في هذين السهمين، سهم الرسول ?، وسهم ذوي القربى، فقال قوم: سهم الرسول للخليفة من بعده، وقال آخرون: سهم ذوي القربى لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالت طائفة: سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة من بعده، فأجمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والسلاح( )، وبذلك أصبحت مخصصات السهمين تصرف في مصالح المسلمين العامة، كتجهيز الجيوش، وسد الثغور، والعمل على تقوية الدولة وتمكينها، في عهد الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأما مخصصات الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فقد بقيت كما كانت على أيام الرسول ?، ولم يطرأ عليها أي تغيير أو تعديل في أيام الخليفة الثاني رضي الله عنه( ).
هذه بعض المعالم الواضحة على المؤسسة المالية في زمن الفاروق وكيف عمل على تطويرها، وقد كان رضي الله عنه شديد الورع في المال العام ويظهر ذلك في قوله: أنا أخبركم بما أستحل من مال الله، حلة الشتاء والقيظ وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، أنا رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم( )، وكان يقول: اللهم إنك تعلم أني لا آكل إلا وجبتي، ولا ألبس إلا حلتي، ولا آخذ إلا حقي( ) وكان يقول: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم، من كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف( ).

4- أمور متعلقة بالتطوير الاقتصادي في الدولة:
- إصدار النقود الإسلامية:
تعتبر النقود من المعادن الثمينة كالذهب والفضة وهي وسيلة ضرورية للحياة الاجتماعية الخاصة والعامة، لا سيما في التعامل بين الأمم والدول، وما يعنينا من هذا الموضوع - وقد أصبح للإسلام دولة فيها مسلمون وغيرهم من الناس، ويجاورها أمم ودول ذات نظم وحضارات، ظلت تتعامل مع الدولة الإسلامية في عهد عمر وغيره من خلفاء وأمراء المسلمين - هو الناحية التنظيمية والإدارية التي سلكها عمر بشأن النقود، سواء أكان في داخل الدولة الإسلامية أم في دور الحرب الأخرى( )، فالمعلومات التاريخية تشير إلى: أن عمر بن الخطاب قد أبقى على تداول النقود والعملة التي كانت متداولة قبل الإسلام وفي عهد الرسول? وأبي بكر بما كان عليها من نقوش هرقلية عليها نقوش مسيحية أو كسروية رُسم فيها بيت النار، بيد أنه أقرها على معيارها الرسمي المعروف على عهد النبي?
وأبي بكر، مضيفاً إليها كلمة جائز، لتمييزها من البهارج الزائفات( )، فالذي ضرب النقود المسكوكة في الخارج وأقر التعامل بها وقرر الدرهم الشرعي في الإسلام هو الفاروق رضي الله عنه يقول الماوردي: إن عمر بن الخطاب هو الذي حدد مقدار الدرهم الشرعي( )، ويقول المقريزي: وأول من ضرب النقود في الإسلام عمر بن الخطاب سنة ثماني عشر من الهجرة على نقش الكسروية وزاد فيها: الحمد لله. وفي بعضها: لا إله إلا الله، وعلى جزء منها اسم الخليفة عمر( )، وعليه فإن الفاروق رضي الله عنه قد وضع تنظيماً خاصاً لوسيلة من وسائل الحياة الضرورية للمسلمين وغيرهم أثناء حكمه وقد تبعه الخلفاء الراشدون وغيرهم ممن طوروا هذا الأمر مع تطور وتقدم المدنية والحضارة( ).

- الإقطاع:
مضى أبو بكر رضي الله عنه في تطبيق السياسة النبوية في إقطاع الأراضي للناس طلباً لاستصلاحها فقد أقطع الزبير بن العوام أرضاً مواتاً ما بين الجرف وقناة( )، وأقطع مجاعة بن مرارة الحنفي الخضرمة (قرية كانت باليمامة) وأراد إقطاع عيينة بن حصن الفزاري والأقراع بن حابس التميمي أرضاً سبخة – ليس فيها كلأ
ولا منفعة – أرادا استصلاحها ثم عدل عن ذلك أخذاً برأي عمر رضي الله عنه في عدم الحاجة لتأليفهما على الإسلام فقد قال لهما عمر رضي الله عنه: إن رسول الله ? كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله عز وجل قد أعز الإسلام، فاذهبا فأجهدا جهدكما( )، ومن الواضح أن اعتراض عمر ليس على مبدأ الإقطاع لاستصلاح الأراضي بل على أشخاص بعينهم لا يرى تأليفهم على الإسلام، وقد توسع عمر رضي الله عنه في إقطاع الأراضي لغرض استصلاحها جرياً على السياسة النبوية، فقد أعلن: يا أيها الناس من أحيا أرضاً ميتة فهي له( )، وتعتضد آثار ضعيفة لتؤكد انتزاع عمر رضي الله عنه ملكية الأرض المقتطعة إذا لم يتم استصلاحها، وتحدد رواية ضعيفة لذلك ثلاث سنوات من تأريخ الإقطاع وقد ثبت إقطاع عمر رضي الله عنه لخوات بن جبير أرضاً مواتاً( ) وللزبير بن العوام أرض العقيق جميعها، ولعلي بن أبي طالب أرض ينبع، فتدفق فيها الماء الغزير، فأوقفها علي رضي الله عنه صدقة على الفقراء، وتوجد آثار ضعيفة لإقطاعه عدداً من الصحابة الآخرين( ).

المبحث الثاني: المؤسسة القضائية:
عندما انتشر الإسلام، واتسعت رقعة الدولة في عهد عمر، وارتبط المسلمون بغيرهم من الأمم، دعت حالة المدنية الجديدة إلى تطوير مؤسسة القضاء، فقد كثرت مشاغل الخليفة، وتشعبت أعمال الولاة في الأمصار، وزاد النزاع والتشاجر، فرأى عمر رضي الله عنه أن يفصل الولايات بعضها عن بعض وأن يجعل سلطة القضاء مستقلون، حتى يتفرغ الوالي لإدارة شؤون ولايته، فأصبح للمؤسسة القضائية قضاة مستقلين، عن الولايات الأخرى، كولاية الحكم والإدارة فكان عمر بهذا أول من جعل للقضاء ولاية خاصة، فعين القضاة في الأمصار الإسلامية، في الكوفة والبصرة والشام، ومصر، وجعل القضاء سلطة تابعة له مباشرة، سواء كان التعيين من الخليفة، أو كان بتفويض أحد ولاته بذلك نيابة عنه، وهذا يدل على أن القيادة الإسلامية متمثلة في شخصية الفاروق، لم تكن عاجزة عن وضع قواعد أصلية، في تنظيم الدولة وترتيب شؤونها، وتحديد سلطاتها وإذا كانت أوربا قد اكتشفت هذه القاعدة بصورة نظرية في القرن الثامن عشر، واعتبرتها فتحاً جديداً في تنظيم الدولة، وفي رعاية حقوق المواطنين، يوم تحدث عنها (مونتسكو) في كتابة روح الشرائع، ولكن لم يكتب لهذه القاعدة التطبيق العملي إلا في أوائل القرن التاسع عشر، أي بعد الثورة الفرنسية، فإن الإسلام قد أقرّها قبل أربعة عشر قرناً، واعتبرها أصلاً من أصول نظامه وقد كان هذا الأصل من زمن الرسول ? حين أرسل معاذاً إلى اليمن وسأله رسول الله ? بما تقضي يا معاذ؟ فبين معاذ أنه يقضي بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله، فإن لم يجد يجتهد رأيه
ولا يألو، فأقره الرسول ? على ذلك( ) وأما الفاروق، فقد قام بتطوير المؤسسة القضائية وما يتعلق بها من أمور، وأصبح في عهده مبدأ فصل القضاء عن غيره من السلطات واضحاً في حياة الناس ولم يكن استقلال ولاية القضاء مانعاً لعمر رضي الله عنه من أن يفصل في بعض القضايا، وربما ترك بعض ولاته يمارسون القضاء مع السلطة التنفيذية، ويراسلهم في الشؤون القضائية، فقد راسل المغيرة بن شعبة في أمر القضاء وكان واليه على البصرة ثم الكوفة، وراسل معاوية واليه على الشام في النزاع القضائي، وراسل أبا موسى الأشعري في شأن بعض القضايا، وكان القاضي يعين للولاية كلها، سواء أكان تعيينه من قبل الخليفة أم كان من قبل الوالي بأمر الخليفة، وكان مقر القاضي حاضرة الولاية وإليه ترجع السلطة القضائية في ولايته( )، وقد تم فصل السلطة القضائية في الولايات الكبيرة على الغالب، مثل الكوفة، ومصر، وقد جمع لبعض ولاته بين الولاية والقضاء إذا كان القضاء لا يشغلهم عن شؤون الولاية، وراسلهم بهذا الوصف في شؤون القضاء، وأنه كان يقوم بالقضاء في بعض الأحيان مع وجود قضاة له بالمدينة( )، ومن القضاة الذين قصرهم الفاروق في خلافته على القضاء وحده:
- عبد الله بن مسعود: ولاه عمر قضاء الكوفة، فقد روى قتادة عن مجلز أن عمر بن الخطاب بعث عمار بن ياسر على صلاة أهل الكوفة، وبعث عبد الله بن مسعود على بيت المال والقضاء( ).
- سلمان بن ربيعة: ولاه عمر القضاء على البصرة ثم القادسية.
- قيس بن أبي العاص القرشي تولى قضاء مصر.

وأما الذين جمعوا بين الولاية والقضاء فمنهم:
- نافع الخزاعي والي مكة، ذكر ابن عبد البر أن عمر بن الخطاب استعمله على مكة وفيهم سادة قريش، ثم عزله وولى خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي( ).
- يعلى بن أمية والي صنعاء.
- سفيان بن عبد الله الثقفي والي الطائف.
- المغير بن شعبة والي الكوفة.
- معاوية بن أبي سفيان والي الشام.
- عثمان بن أبي العاص الثقفي والي البحرين وعمان.
- أبو موسى الأشعري والي البصرة.
- عمير بن سعد والي حمص.

ومن هؤلاء من أبقاه الفاروق على القضاء مع الولاية، كما فعل مع معاوية، ومنهم من فصل القضاء عن سلطته وقصره على الولاية كما فعل مع المغيرة، وأبي موسى الأشعري، ومن قضاة الفاروق بالمدينة:
- علي بن أبي طالب.
- زيد بن ثابت رضي الله عنه فقد روي عن نافع: أن عمر استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقاً( ).
- السائب بن أبي يزيد( ).
أولاً: من أهم رسائل عمر إلى القضاة:
إن الفاروق رضي الله عنه وضع دستوراً قويماً في نظام القضاء والتقاضي، وقد اهتم كثير من أعلام الفقه الإسلامي بشرح هذا الدستور والتعليق عليه، ونجد الدستور العمري في القضاء في رسالته لأبي موسى الأشعري وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن لخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس( )، سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آسِ( ) بين الناس في وجهك وعَدْلِكَ ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك( )، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرّم حلالاً، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه عَقْلَكَ، وهُدِيتَ فيه لرشدك: أن ترجع إلى الحقِّ، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التّمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعْرِف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك واعْمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحقِّ واجعل لمن ادّعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بيِّنته أخذت له بحقه وإلا استحْللت( )،عليه القضيّة، فإنه أنفى للشك، وأجْلى للعَمَى، المسلمون عدول( )، بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حدِّ، أو مُجرّباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السَّرائر، ودرأ( ) بالبينات والأيمان، وإياك والغلق( )، والضجر والتأذي للخصوم، والتنكر عند الخصومات فإن القضاء في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذُّخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه: شانه الله فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام( )، وقد جمعت هذه الرسالة العجيبة آداب القاضي، وأصول المحاكمة، وقد شغلت العلماء بشرحها والتعليق عليها هذه القرون الطويلة ولا تزال موضع دهشة وإكبار لكل من يطلع عليها، ولو لم يكن لعمر من الآثار غيرها، لعد بها من كبار المفكرين والمشرعين ولو كتبها رئيس دولة في هذه الأيام التي انتشرت فيها قوانين أصول المحاكمات، وصار البحث فيها مما يقرؤه الأولاد في المدارس، لكانت كبيرة منه، فكيف وقد كتبها عمر منذ نحو أربعة عشر قرناً، ولم ينقلها من كتاب ولا استمدها من أحد، بل جاء بها في ذهنه، ثمرة واحدة من آلاف الثمرات، للغرسة المباركة التي غرسها في قلبه محمد ?، حين دخل عليه في دار الأرقم، فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله( )، ومن الرسائل المهمة في هذا الباب رسالة الفاروق إلى أبي عبيدة رضي الله عنه: أما بعد فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك ونفسي خيراً، الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ بأفضل حظَّيك: إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول، والأيمان القاطعة، ثم ادن الضعيف حتى تبسط لسانه، ويجترئ قلبه، وتعهّد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله، وإنّ الذي أبطل من لم يرفع به رأساً. واحرص على الصلح ما لم يستبن لك القضاء. والسلام( ) وكتب رضي الله عنه إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في القضاء: أما بعد، فإني كتبت إليك بكتاب في القضاء لم آلك ونفسي فيه خيراً، الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظك: إذا تقدم إليك خصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة، وأدْن الضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه، وتعهد الغريب، فإنك إن لم تتعهده ترك حقه، ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق به، وآسِ بينهم في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح بين الناس، مالم يستبن لك فصل القضاء( )، وكتب إلى القاضي شريح عن الاجتهاد: إذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنَّ فيه رسول الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنّه رسول الله ولم يتكلم فيه أحد فأيّ الأمرين شئت فخذ به وفي رواية أخرى: فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيراً لك( )، ويمكن للباحث من خلال رسائل الفاروق وحياته في زمن خلافته أن يستخرج ما يتعلق بالمؤسسة القضائية في الأرزاق والعزل، وأنواع القضاة وصفاتهم وما يجب عليهم ومصادر أحكامهم وخضوع الخليفة نفسه للقضاء وغير ذلك من المسائل المتعلقة بهذه المؤسسة.

ثانياً: تعيين القضاة ورزقهم واختصاصهم القضائي:

1- تعيين القضاة:
يصدر تعيين القضاة من الخليفة رأساً فقد عين عمر بن الخطاب شريحاً بالكوفة، أو يكون التعيين من الوالي بتفويض من الخليفة، كما عيّن عمرو بن العاص والي مصر عثمان بن قيس بن أبي العاص قاضياً بها فحق تعيين القاضي إلى الخليفة، إن شاء عينه بنفسه، وإن شاء فوّضه إلى واليه ولم يكن تعيين القضاة مانعاً من أن يتولى الخليفة القضاء بنفسه، لأن القضاء من سلطاته، وهو الذي يتعهد بالقضاء إلى غيره، فالحق الأول في القضاء إليه ولا يكتسب القاضي الصفة القضائية إلا إذا عيّنه الخليفة بنفسه، أو بواسطة واليه( )، ويجوز للخليفة أن يعزل القاضي لسبب من الأسباب الداعية إلى ذلك، كما إذا زالت أهلية القاضي وصلاحيته للحكم، أو ثبت عليه ما يخل بواجب القضاء، وإن لم يجد سبباً للعزل فالأولى أن لا يعزله، لأن القاضي معيّن لمصلحة المسلمين فيبقى ما دامت المصلحة محققة( )، وقد عزل عمر رضي الله عنه بعض القضاة وولى غيرهم( )، مثلما عزل أبي مريم الحنفي، فقد وجد فيه ضعفاً فعزله.

2- رزق القضاة:
كان عمر رضي الله عنه يوصي الولاة باختيار الصالحين للقضاء، وبإعطائهم المرتبات التي تكفيهم( )، فقد كتب إلى أبي عبيدة ومعاذ: انظروا رجالاً صالحين فاستعملوهم على القضاء وارزقوهم( )، وقد ذكر الدكتور العمري مرتبات بعض القضاة في عهد عمر رضي الله عنه وهي كالآتي، سلمان بن ربيعة الباهلي (الكوفة) 500 درهم كل شهر، شريح القاضي، الكوفة 100 درهم كل شهر، عبد الله بن مسعود الهذلي (الكوفة) 100 درهم كل شهر وربع شاة كل يوم،
وعثمان بن قيس بن أبي العاص (مصر) 200 دينار، وقيس بن أبي العاص السهمي (مصر) 200 دينار لضيافته( ).

3- الاختصاص القضائي:
كان القاضي في عصر الخلافة الراشدة يقضي في الخصومات كلها، أيّا كان نوعها، في المعارضات المالية، وفي شؤون الأسرة، وفي الحدود والقصاص، وسائر ما يكون فيه الشجار، وليس هناك ما يشير إلى ما يعرف اليوم بالاختصاص القضائي سوى ما جاء في تولية السائب بن يزيد بن أخت النمر من قول عمر بن الخطاب له: رُدّ عني الناس في الدرهم والدرهمين( )، ويجوز أن يعهد الخليفة إلى القاضي أن يقضي في قضية بعينها وينتهي اختصاصه بالنظر فيها، وكان القضاة يقضون في الحقوق المدنية والأحوال الشخصية، أما القصاص والحدود فكان الحكم فيها للخلفاء، وأمراء الأمصار، فلا بد من موافقتهم على الحكم، ثم انحصرت الموافقة على تنفيذ حد القتل بالخليفة وحده، وبقي للولاة حق المصادقة على أحكام القصاص دون القتل، ولم يكن للقضاء مكان مخصص، بل يقضي القاضي في البيت والمسجد، والشائع جلوسهم في المسجد( )، ولم تكن الأقضية تسجل لقلتها وسهولة حفظها، وكان بإمكان القاضي حبس المتهم للتأنيب واستيفاء الحقوق، وقد فعل ذلك عمر وعثمان وعلي، فكانت الدولة تهيء السجون في مراكز المدن، وكان القصاص ينفذ خارج المساجد( ).

ثالثاً: صفات القاضي وما يجب عليه:
- صفات القاضي: من خلال سيرة عمر رضي الله عنه استنبط العلماء أهم صفات القاضي المراد تعيينه:
1- العلم بالأحكام الشرعية: لأنه سيطبقها على الحوادث، ويستحيل عليه تطبيقها مع الجهل بها.
2- التقوى: فقد كتب عمر إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح أن انظرا رجالاً من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء( ).
3- الترفع عما في أيدي الناس: فقد قال عمر رضي الله عنه: لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع، ولا يضارع( )، ولا يتبع المطامع( ).
4- الفطنة والذكاء: ويشترط في القاضي أن يكوناً فطناً ذكياً ينتبه إلى دقائق الأمور، فعن الشعبي أن كعب بن سوار كان جالساً عند عمر فجاءته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائماً، ويظل نهاره صائماً في اليوم الحر ما يفطر، فاستغفر لها وأثنى عليها وقال: مثلُك أثنى بالخير، قال: فاستحيت المرأة فقامت راجعة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها. قال: وما شكَت؟ قال: شكت زوجها أشد الشكاية، قال: أَوَ ذاك أرادت؟ قال: نعم، قال: ردُّوا عليَّ المرأة فقال: لا بأس بالحق أن تقوليه، إن هذا زعم أنك تشكين زوجك إنه يَجْنَبُ فراشك، قالت: أجل، إني امرأة شابة وإني لأبتغي ما تبغي النساء، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، قال: أمير المؤمنين أحق أن يقضي بينهما، قال: عزمت عليك لتقضين بينهما فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهمه، قال: إني أرى كأنها عليها ثلاثة نسوة هي رابعتهم فأقضي له بثلاثة أيام بلياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة فقال عمر: والله ما رأيك الأول أعجب إليّ من الآخر، إذهب فأنت قاض على البصرة( ).
5- الشدة في غير عنف واللين من غير ضعف: قال عمر: لا ينبغي أن يلي هذا الأمر إلا رجل فيه أربع خصال: اللين في غير ضعف، والشدة في غير عنف، والإمساك في غير بخل، والسماحة في غير سرف( )، وقال: لا يقيم أمر الله إلا رجل يتكلم بلسانه كلمة لا يُنقصُ غرْبُه، ولا يطمع في الحق على حدته( ).
6- قوة الشخصية: قال عمر: لأعزلن أبا مريم وأولين رجلاً إذا رآه الفاجر فرِقَه، فعزله عن قضاء البصرة وولّى كعب بن سور مكانه( ).
7- أن يكون ذا مال وحسب: فقد كتب عمر إلى بعض عماله لا تستقضين إلا ذا مال وذا حسب؛ فإن ذا المال لا يرغب في أموال الناس، وإن ذا الحسب لا يخشى العواقب بين الناس( ).

- ما يجب على القاضي:
هناك أمور بينها الفاروق لابد للقاضي من مراعاتها لإقامة صرح العدالة منها:
1- الإخلاص لله في العمل: فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: إن القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في قلبه شانه الله، فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصاً وما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته( ).
2- فهم القضية فهماً دقيقاً: ودراستها دراسة واعية قبل النطق بالحكم ولا يجوز له النطق بالحكم قبل أن يتبين له الحق، فكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: افهم إذا أدلى إليك، وقال أبو موسى مرة: لا ينبغي لقاضٍ أن يقضي حتى يتبين له الحق كما يتبين له الليل والنهار، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال: صدق
أبو موسى( ).
3- الحكم بالشريعة الإسلامية: سواء كان الخُصوم من المسلمين أم من غير المسلمين، فعن زيد بن أسلم أن يهودية جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت: إن ابني هلك، فزعمت اليهود أنه لا حق لي في ميراثه فدعاهم، عمر فقال: ألا تعطون هذه حقها، فقالوا: لا نجد لها حقاً في كتابنا، فقال: أفي التوراة؟ قالوا بل في المشناة، قال: وما المشناة؟ قالوا: كتاب كتبه أقوام علماء وحكماء، فسبهم عمر وقال: اذهبوا فأعطوها حقها( ).
4- الاستشارة فيما أشكل عليه من الأمور: فقد كتب عمر إلى أحد القضاة: واستشر في دينك الذين يخشون الله عز وجل( )، وكتب إلى شريح: وإن شئت أن تآمرني ولا أرى مآمرتك إياي إلا أسلم لك( )، وكان عمر كثير الاستشارة حتى قال الشعبي: من سره أن يأخذ بالوثيقة من القضاء فليأخذ بقضاء عمر فإنه كان يستشير( ).
5- المساواة بين المتخاصمين: وقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: سوِّ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، وكتب أيضاً اجعلوا الناس عندكم في الحق سواء قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، وعندما ادّعى أبيّ بن كعب على عمر دعوى -في حائط- فلم يعرفها عمر فجعلا بينهما زيداً بن ثابت فأتياه في منزله فلما دخلا عليه قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا -وفي بيته يُؤتى الحَكَم- قال: فتنحى له عن صدر فراشه -وفي رواية فأخرج له زيد وسادة فألقاها إليه- وقال: هاهنا
يا أمير المؤمنين، فقال عمر: جُرْتَ يا زيد في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصْمي، فجلسا بين يديه( ).
6- تشجيع الضعيف: حتى يذهب عنه الخوف ويجترئ على الكلام، فقد كتب عمر إلى معاوية: أدنِ الضعيف حتى يجترئ قلبه وينبسط لسانه( ).
7- سرعة البت في دعوى الغريب أو تعهده بالرعاية والنفقة: وقد كتب عمر إلى
أبي عبيدة: تعاهد الغريب فإنه إن طال حبسه -أي طالت إقامته وبعده عن أهله من أجل هذه الدعوى- ترك حقه وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقّه من لم يرفع به رأساً( ).
8- سعة الصدر: فقد كتب عمر إلى أبي موسى: إياك والضجر، والغضب والقلق والتأذي بالناس عند الخصومة، فإذا رأى القاضي من نفسه شيئاً من هذا، فلا يجوز له النطق بالحكم حتى يذهب عنه ذلك، لئلا يكون الدافع إلى الحكم حالة نفسية معينة، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: ولا تحكم وأنت غضبان( ) وعن شريح قال: شرط عليّ عمر حين ولاني القضاء أن لا أقضي وأنا غضبان( )، ومما يؤدي إلى ضيق الصدر ويدفع أحياناً إلى الاستعجال المخل في البت في بعض القضايا الجوع والعطش ونحو ذلك، ولذلك قال عمر: لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريّان( ).
9- تجنب كل ما من شأنه التأثير على القاضي: كالرشوة، وتساهل التجار معه في البيع والشراء والهدايا ونحو ذلك، ولذلك منع عمر القضاة من العمل بالتجارة، والصفق بالأسواق، وقبول الهدايا والرشاوي، فكتب إلى أبي موسى الأشعري:
لا تبيعن ولا تبتاعن ولا تضاربن ولا ترتش في الحكم، وقال شريح: شرط علي عمر حين ولاّني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أرشي وقال عمر: إياكم والرشا، والحكم بالهوى( ).
10- الأخذ بالأدلة الظاهرة: دون البحث عن النوايا، فقد خطب عمر بالناس فكان مما قال: إنا كنا نعرفكم ورسول الله فينا، والوحي ينزل وينبئنا بأخباركم، وأما اليوم فإننا نعرفكم بأقوالكم، فمن أعلن لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه ومن أعلن لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه وسرائركم فيما بينكم وبين الله( ).
11- الحرص على الصلح بين المتخاصمين: قال عمر: ردّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن بين الناس، فإن عادوا بصلح يتفق مع شرع الله أمضاه القاضي وإن كان صلحهم لا يتفق مع أحكام الشريعة نقضه القاضي: قال عمر: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً( )، وعلى القاضي أن يحرص على الصلح خاصة بين المتخاصمين إذا لم يتبين له الحق، فقد كتب عمر إلى معاوية: احرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء، أو كانت بينهم قرابة، فإن فصل القضاء يورث الشنآن( ).
12- العودة إلى الحق: إذا أصدر القاضي حكماً في قضية من القضايا ثم تغير اجتهاده في الحكم فيها، فلا يجوز له أن يجعل للاجتهاد الجديد أثراً رجعياً، فينقض به الحكم الذي أصدره قبل تغير اجتهاده، كما لا يجوز لقاضٍ بعده أن ينقض الحكم الصادر، فعن سالم بن أبي الجعد قال: لو كان علي طاعناً على عمر يوماً من الدهر لطعن عليه يوم أتاه أهل نجران، وكان علي كتب الكتاب بين أهل نجران وبين النبي ?، فكثروا على عهد عمر حتى خافهم على الناس، فوقع بينهم الاختلاف، فأتوا عمر فسألوه البدل، فأبدلهم، ثم ندموا، ووقع بينهم شيء فأتوه فاستقالوه، فأبى أن يقيلهم، فلما ولي عليّ أتوه فقالوا: يا أمير المؤمنين شفاعتك بلسانك وخطك بيمينك، فقال علي: ويحكم إن عمر كان رشيد الأمر( )، فعمر رضي الله عنه رفض نقض القضاء الأول الذي قضاه فيهم، ورفض علي – من بعد عمر – نقض القضاء الذي قضاه عمر فيهم( )، وقد حدث كثير من التغير في اجتهاد عمر في قضايا كثيرة، منها الحكم في الجد مع الإخوة، وإشتراك الإخوة لأب وأم مع الاخوة لأم في الثلث عندما لم يبق للإخوة لأب وأم من الميراث شيء، ولم ينقل أنه عاد إلى قضائه الأول فنقضه، ولكنه يعمل باجتهاده الجديد في القضايا المستقبلة، ولا يمنعه حكمه القديم من اتباع الحق إذا لاح له، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل( )، وبناء على ذلك فقد قضى عمر بن الخطاب في الجد بقضايا مختلفة، وقضى في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الأخوة للأم والأب والأخوة لأم في الثلث فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا. قال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم( ).
13- تقرير البراءة للمتهم حتى تثبت إدانته: فعن عبد الله بن عامر قال: انطلقت في ركب حتى إذا جئنا ذا المروة سُرقت عيبة لي، ومعنا رجل منهم، فقال له أصحابي: يا فلان اردد عليه عيبته، فقال: ما أخذتها، فرجعت إلى
عمر بن الخطاب فأخبرته. فقال: من أنتم؟ فعددتهم، فقال: أظنه صاحبها
– للذي اتُّهم – فقلت: لقد أردت يا أمير المؤمنين أتي به مصفوداً، قال عمر: أتأتي به مصفوداً بغير بينة( ).
14- لا اجتهاد في مورد النص: قال عمر: ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور( )، هذا أهم ما يجب على القاضي أن يلتزم به.
15- إخضاع القضاة أنفسهم لأحكام القضاة:
16- كان عمر رضي الله عنه أول من يخضع للقضاة وهو في ذروة الخلافة خضوعاً يزينه الرضى القلبي بالحكم، ويتوجه بالإعجاب الواضح إذا ما أصاب، والثناء الصادق على القاضي حتى ولو صدر الحكم ضده( )، وهذا مثال على ذلك، فقد ساوم عمر أعرابياً على فرس، فركبه ليجربه، فعطب الفرس، فقال عمر: خذ فرسك. قال الرجل: لا. قال عمر: فاجعل بيني وبينك حكماً، قال الرجل: شريح. فتحاكما إليه، فلما سمع قال: يا أمير المؤمنين خذ ما اشتريت، أو رد كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا؟ فبعثه إلى الكوفة قاضياً( ).

رابعاً: مصادر الأحكام القضائية:
اعتمد القضاة في العهد الراشدي على نفس المصادر التي اعتمدها رسول الله ? وقضاته، وهي الكتاب والسنة والاجتهاد ولكن ظهر في العهد الراشدي أمران:
- تطور معنى الاجتهاد والعمل به، وما نتج عنه من مقدمات ووسائل وغايات، فظهرت المشاورة والشورى، والإجماع، والرأي والقياس.
- ظهور مصادر جديدة لم تكن في العهد النبوي، وهي السوابق القضائية التي صدرت عن الصحابة من عهد خليفة إلى خليفة آخر، فصارت مصادر القضاء في العهد الراشدي هي؛ الكتاب، والسنة، والاجتهاد والإجماع، والقياس، والسوابق القضائية ويظلل ذلك كله الشورى والمشاورة في المسائل والقضايا والأحكام وقد وردت نصوص كثيرة، وروايات عديدة تؤكد هذه المصادر السابقة ونقتطف جانباً منها( ):

1- قال الشعبي عن شريح: قال لي عمر: اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله، فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله ?، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضى به أئمة المهتدين، فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح( ).
2- وعن ابن شهاب الزهري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، وهو على المنبر، يا أيها الناس، إنّ الرأي إنما كان من رسول الله ? مصيباً، أن الله كان يُريه، وإنما هو منا الظن والتكلف( )، وروي عنه أنه قال: هذا رأي عمر فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر( ).
3- قال ابن القيم: فلما استخلف عمر قال: إني لأستحي من الله أن أردّ شيئاً قاله
أبو بكر( )، وأكد ذلك عمر أيضاً في كتاب آخر إلى شريح قال فيه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله، فإن لم يكن في سنة رسول الله فاقض بما قضى به الصالحون( ).
4- وأما الإجماع: فإن لم يجد القاضي نصاً في القرآن والسنة، رجع إلى العلماء واستشار الصحابة والفقهاء، وعرض عليهم المسألة، وبحثوا فيها، واجتهدوا، فإن وصل اجتهادهم إلى رأي واحد، فهو الإجماع، وهو اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد ? على أمر شرعي، وهو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي باتفاق العلماء وظهر لأول مرة في العهد الراشدي، ووردت فيه نصوص كثيرة، وبحوث طويلة في كتب الفقه، وأصول الفقه، وتاريخ التشريع، ولكن القضايا والمسائل التي حصل فيها الإجماع قليلة، وإن إمكانيته محصورة في المدينة المنورة عاصمة الخلافة، ومجمع الصحابة والعلماء والفقهاء، وهذا يندر في الأمصار الأخرى( )، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس قال لعثمان رضي الله عنهم: الأخوان في لسان قومك ليسا إخوة، فلم تحجب بهما الأم؟؟ من الثلث إلى السدس في قوله تعالى:? فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ? (النساء،آية:11) فقال: لا أستطيع أن أنقض ما كان قبلي ومضى في البلدان وتوارث به الناس، وهذا معناه أنه إجماع تم قبل مخالفة ابن عباس، ولا يعتد بمخالفته، والإجماع يتضمن ثلاثة عناصر رئيسة: المشاورة، والاجتهاد، والاتفاق فإن فقد عنصر منها لجأ القاضي إلى المصدر التالي.
5- السوابق القضائية: التي قضى بها السابقون من الخلفاء والصالحين وكبار الصحابة رضي الله عنهم، وهذا ما عبر عنه صراحة عمر رضي الله عنه في سوابق أبي بكر، وما أمر به قضاته وولاته كما سبق( )، وهذا ما بينه صراحة ابن القيم تحت عنوان (رأي الصحابة خير من رأينا لأنفسنا) وقال: وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيراً من رأينا لأنفسنا وكيف لا؟ وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نوراً وإيماناً، وعلماً، ومعرفة وفهماً عن الله ورسوله، ونصيحة للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضَّاً طرياً، لم يَشُبه إشكال، ولم يشُبه خلاف، ولم تدنسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس( ).
6- القياس: لكن السوابق القضائية قليلة أيضاً، فإن لم يجد القاضي نصاً ولا إجماعاً، ولا سابقة قضائية اعتمد على الاجتهاد، كما جاء في حديث معاذ، ويأتي في أوليات الاجتهاد قياس مسألة لم يرد فيها نص بمسألة ورد فيها نص، وهو المصدر الرابع للتشريع والفقه والأحكام، وهذا ما جاء في رسالة عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري، قال: ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق( ).
8- الرأي: فإن لم يكن للمسألة والقضية أصل من النصوص لتقاس عليها، اعتمد القاضي على الاجتهاد بالرأي فيما هو أقرب إلى الحق والعدل والصواب وقواعد الشرع ومقاصد الشريعة وهو ما تكرر في النقول السابقة، في رسائل عمر لشريح وغيره( ) وكانت المشاورة والشورى من أهم الوسائل التي يستعين بها القضاة، كما ورد في الروايات والكتب والرسائل السابقة، وهو ما أكده عمر رضي الله عنه قولاً وفعلاً، لكثرة محبته للشورى مع فقهه، وقلما يقدم على أمر إلا بعد استشارة كبار الصحابة وفقهائهم( )، وعن الشعبي قال: كانت القضية ترفع إلى عمر رضي الله عنه، فربما يتأمل في ذلك شهراً، ويستشير أصحابه( ).

خامساً: الأدلة التي يعتمد عليها القاضي:
إن الأدلة التي يعتمد عليها القاضي في إصدار الحكم هي:

1- الإقرار وتعتبر الكتابة نوعاً من الإقرار.
2- الشهادة: وعلى القاضي أن يتحقق من صلاحية الشهود لأداء الشهادة، فإن لم يعرفهم هو، طلب منهم أن يأتوا بمن يعرفهم، فقد شهد رجل عند عمر بشهادة فقال له: لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، إئت بمن يعرفك فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، فقال: بأي شيء تعرفه؟ قال بالعدالة والفضل، قال: فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فهل عاملك بالدينار والدرهم اللذين بهما يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه( )، والشهادة مقدمة على اليمين سواء أقامها صاحبها قبل أن يحلف خصمه اليمين أو بعد أن يحلف اليمين، فإذا استحلف المدعي المدعى عليه على دعواه، فحلفه القاضي على ذلك، ثم أتى المدعي بالبينة بعد ذلك على تلك الدعوى، قبلت بينته، وردت اليمين، قال عمر: اليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة العادلة( )،والمطالب بالشهادة هو المدعي، فقد كتب عمر إلى أبي موسى فيما كتب: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر( )، فإن لم يتوفر عند المدعي إلا شاهد واحد اعتبر بشهادته وحلف معها المدعي اليمين، فقد كان عمر يقضي في المال باليمين مع الشاهد الواحد( ).
3- اليمين: ولا يلجأ القاضي إلى تحليف اليمين إلا عند عجز المدعي عن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:17 pm

- قتيل الله لا يودى أبداً:
روى عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي في سننه: أن رجلاً استضاف ناساً من هذيل، فأرسلوا جارية تحتطب لهم، فأعجبت المضيف فتبعها، فأرادها على نفسها، فامتنعت، فعاركها ساعة، فانفلتت منه، انفلاتة فرمته بحجر، ففضت كبده فمات، ثم جاءت إلى أهلها فأخبرتهم، فذهب أهلها إلى عمر فأخبروه، فأرسل عمر، فوجد آثارهما فقال: قتيل الله لا يودى أبداً فهو رضي الله عنه قد أهدر دم ذلك المعتدي فلا قصاص ولا دية ولا كفارة.

16- لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم:
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن غلاماً قتل غيلة فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم وفي رواية: إن أربعة قتلوا صبياً فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم( )، وهذا الحكم لم يوجد فيه نص من كتاب ولا سنة ولم يوجد أثر عن الصديق أنه قضى بمثله، وإنما بنى حكمه على فهمه لمقاصد الشريعة والتي جاءت لحفظ أمن المجتمع واستقراره، إذ أن الدماء ليست أمراً هيناً، ولذلك يقتضي العدل، ومصلحة الأمة، ومقاصد الشريعة القصاص إذا ثبت أن الجميع تواطئوا على قتله وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وسعيد بن المسيب والحسن وأبي سلمة وعطاء وقتادة والثوري، والأوزاعي وغيرهم( )، وهذا الرأي هو الأرجح والأَولى بالاتباع وذلك لقوة الدليل في فعل عمر وإجماع الصحابة ولما فيه من حكمة في ردع وزجر الناس وحفظ النفوس في المجتمع( ).


17- عقوبة الساحر القتل:
كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله أن اقتلوا كل ساحر وساحرة( )، ونفذ ذلك وكان إجماعاً من الصحابة( ).

18- من قتل ولده متعمداً؟ وما حكم المسلم الذي يقتل ذمياً؟
حكم عمر رضي الله في من قتل ولده بدفع الدية( )، وأما المسلم الذي يقتل ذمياً فحكمه القتل قصاصاً وهذا حدث في عهد عمر حيث قتل مسلم ذمياً بالشام، فقتل قصاصاً( ).

19- الجمع بين الدية والقسامة:
القسامة: هي الأيمان المكررة في دعوى القتل من أولياء القتيل أو المدعى عليهم( )، وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن الشعبي: أن قتيلاً وجد بين وادعة وشاكر( )، فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم خمسين يميناً، كل رجل: ما قتلته ولا علمت قاتله، ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا فقال عمر: كذلك الحق( ).

20- اللهم لم أشهد ولم آمر، ولم أرضَ ولم أسر إذ بلغني:
لما أُتي عمر بفتح (تستر) قال: هل كان شيء؟ قالوا: نعم رجل ارتد عن الإسلام. قال: فما صنعتم به قالوا: قتلناه. قال: فهلا أدخلتموه بيتاً وأغلقتم عليه وأطعمتموه كل يوم رغيفاً فاستتبتموه فإن تاب وإلا قتلتموه، ثم قال: اللهم لم أشهد، ولم آمر، ولم أرضَ، ولم أُسر إذ بلغني( ).

21- جعل حد الخمر ثمانين جلدة:
لما تولى الفاروق الخلافة وكثرت الفتوحات الإسلامية وتحسنت أحوال الناس، وتباعدت الديار ودخل كثير من الناس الإسلام ولم يأخذوا التربية الإسلامية الكافية والتفقه في الدين كمن سبقهم من المسلمين، فكثر في الناس شرب الخمر وكانت مشكلة أمام عمر، فجمع كبار الصحابة وشاورهم في الأمر، فاتفقوا على أن يبلغ هذا الحد ثمانين وهو أدنى الحدود، فعمل به ولم يخالفه أحد من الصحابة في عهده( )، فقد ذكر ابن القيم: أن خالد بن الوليد بعث وبرة الصليتي من الشام إلى عمر قال فأتيته وعنده طلحة والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف متكئون في المسجد فقلت له إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الناس قد انبسطوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فما ترى. فقال عمر: هم هؤلاء عندك. قال: فقال عليّ: أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فأجمعوا على ذلك فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا، فضرب خالد ثمانين وضرب عمر ثمانين( ).

22- إحراق حانوت الخمر:
عن يحيى بن سعيد بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وجد عمر في بيت رجل من ثقيف شراباً فأمر به فأحرق، وكان يقال له رويشد فقال: أنت فويسق( )، وقال ابن الجوزي: وأحرق يعني عمر بيت رويشد الثقفي، وكان حانوتاً يعني نباذاً( )، وقال ابن القيم: وحرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حانوت الخمر بما فيه، وحرق قرية تباع فيها الخمر( ).

23- أنكحها نكاح العفيفة المسلمة:
أتى عمر رضي الله عنه رجل فقال: إن ابنة لي كنت وأدتها في الجاهلية فاستخرجناها قبل أن تموت، فأدركت معنى الإسلام فأسلمت، ثم أصابها حد من حدود الله، فأخذت الشُّفرة لتذبح نفسها، وأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها( )، فداويتها حتى برأت، ثم أقبلت بعد توبة حسنة، وهي تخطب إلى قوم، فأخبرهم بالذي كان؟ فقال عمر: رضي الله عنه: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه، والله لئن أخبرت بشأنها أحداً لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار، أنكحها نكاح العفيفة المسلمة( ).

24- من طلق زوجته يمنعها من الميراث:
عن سالم عن أبيه أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال النبي? اختر منهن أربعاً، فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل إليه عمر فقدم عليه، فقال له: إني أظهر أن الشيطان فيما يسترق السمع سمع بموتك فقذف في قلبك أنك تموت، فحملك مبادرة ذلك على ما صنعت، وإني والله لأظنك لا تلبث بعد أن تقوم عن حضري هذا حتى تموت، وايم الله لئن مت قبل أن تراجع نساءك وترجع مالك لأورثن نساءك من مالك، ثم لأرجمن قبرك حتى أجعل عليه مثل ما على قبر
أبي رغال، فراجع نساءه – ولم يكن بت طلاقهن – وارتجع ماله الذي قسم بين بنيه، ثم ما لبث أن مات( ).

25- أقل مدة الحمل وأكثره:
رفعت إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها، فجاءت أختها إلى عليّ فقالت: إن عمر همّ برجم أختي، فأنشدك الله إن كنت تعلم لها عذراً لما أخبرتي به، فقال علي: إن لها عذراً، فكبرت تكبيرة سمعها عمر ومن عنده، فانطلقت إلى عمر فقالت: إن علياً زعم أن لأختي عذراً، فأرسل عمر إلى علي: ما عذرها؟ فقال إن الله يقول: ((والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)) وقال: (( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)) فالحمل ستة أشهر والفصال أربعة وعشرون شهراً فخلى عمر سبيلها، وقد يبقى الحمل في بطن أمه أكثر من تسعة أشهر، فقد رفعت لعمر امرأة غاب عنها زوجها سنتين، فجاء وهي حبلى، فهم عمر برجمها فقال له معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين إن يك لك السبيل عليها، فليس لك السبيل على ما في بطنها، فتركها عمر حتى ولدت غلاماً قد نبتت ثناياه، فعرف زوجها شبهه به، قال عمر: عجز النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر( )، ويظهر أن عمر كان يرى أن أكثر مدة الحمل أربع سنوات، لأنه قضى في امرأة المفقود أنها تتربص أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة قال ابن قدامة حاكياً مذهب عمر في ذلك: المفقود تتربص زوجته أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشراً وتحل للأزواج( ).

سابعاً: فرض القيود على الملكية حتى لا يقع تعسّف في استعمالها:
ومن اجتهادات عمر التي سبق بها زمانه والتي تدل على تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وتفرض قيوداً على الملكية حتى لا يقع تعسف في استعمالها ما رواه مالك في الموطأ: عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك، لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد لا فقال عمر لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تسقي به أولاً وآخراً وهو لا يضرك، فقال محمد لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعلَ الضحاك( )، وكان هذا قياساً من عمر على حديث
أبي هريرة الذي قال فيه: إن النبي ? قال: لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره)) ثم قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم( ).
ويظهر لنا أن ما فعله عمر هو قياس أولى، لأن نهي النبي الجار أن يمنع جاره غرز خشبة في جداره، هذه العملية وإن كانت لا تضر الجار فإنها في ذات الوقت لا تنفع هذا الجار، في حين أن مرور الماء اجتمع فيه الأمران معاً، نفع الجار، وعدم إلحاق الضرر به، فهو قياس أولى، وإذا كان أحمد إبراهيم يرى أن عمر قضى في هذه النازلة بما يعرف اليوم بقواعد العدالة( )، فإن عبد السلام السليماني يرى أنها تدخل فيما يعرف اليوم في الفقه الغربي بنظرية التعسف في استعمال الحق هذه النظرية التي سبق إليها المسلمون الفقه الغربي بعدة قرون، وقد استمدت من حديث أبي هريرة سالف الذكر، الذي عممه عمر في كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز ذلك إلا بإذن جاره( ).
ويلاحظ على هذه النازلة عدة أمور وهي:
1- أن هذه النازلة تدخل في الاجتهاد القضائي لعمر، لأنه قضى فيها بناء على شكوى تقدم بها الضحاك إلى عمر بعد أن امتنع محمد بن مسلمة من الاستجابة لما طلب منه بصفة ودية، وبعد أن دعي هذا الأخير للحضور في مجلس عمر رضي الله عنه.
2- أن عمر لم يحكم في هذه النازلة جزافاً بل إنه تثبت في الأمر واطلع على ملابسات القضية وتأكد من إصرار الخصم على موقفه الرافض لمرور الماء في أرضه، وهو موقف لا مبرر له، لأن مرور الماء لم يكن يشكل أي ضرر على المدعى عليه بل على العكس من ذلك كان سيعود عليه بالنفع المحض ويحقق المصلحة المشتركة للطرفين معاً، وما دام الأمر كذلك فإن الامتناع عنه يشكل حائلاً أمام تحقيق مصلحة عامة ويدخل في نطاق التعسف في استعمال الحق، ولم يكن عمر ليتهاون في تحقيق الصالح العام لكل أفراد الأمة.
3- لاين سيدنا عمر محمد بن مسلمة، وهو يخاطبه مذكراً إياه بأخوة الإسلام محاولاً إقناعه بالرجوع إلى جادة الصواب ولما قابل هذا اللين بالرفض البات المشفوع بالقسم، وهو موقف أبان عن تحد لأمر الخليفة وامتناع عن الانصياع لحكمه، فجاء رد فعل عمر عنيفاً وفي مستوى مسؤوليته صونا لهيبة الخلافة التي لم يكن يستعملها إلا لتحقيق الصالح العام لجماعة المسلمين وصيانة الحقوق( ).

ثامناً: إمضاؤه الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ? وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم( )، وعن أبي الصهباء قال
لابن عباس: أتعلم أنّما كانت الثلاث تُجعلُ واحدة على عهد النبي ? وأبي بكر وثلاثاً من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس نعم( ).
في هذين الأثرين قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإيقاع الطلاق الثلاث ثلاثاً، على خلاف ما كان عليه في عهد رسول الله ? وعهد أبي بكر الصديق، حيث كان الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد أو مجلس واحد يوقع طلقة واحدة. ووجهة عمر في إيقاع هذه العقوبة والتعزير أن الناس أكثروا من إحداث طلاق الثلاث، فأراد أن يردهم إلى الطلاق السُّنِّي الذي شرعه الله، وهو إيقاع طلقة واحدة ثم يتركها حتى تنتهي عدتها، فإن كان له رغبة في عودة وشائج الزوجية راجعها قبل انتهاء العدة، وهكذا حتى تنتهي عدد الطلاق الثلاث( )، وهذا التصرف من عمر بن الخطاب اعتبره بعض الناس مخالفة للنصوص ومنهم الدكتور عطية مصطفى مشرفة حيث قال: وكان عمر جريئاً في العمل بالرأي ولو خالف ذلك بعض النصوص والقواعد التي كانت معروفة ومعمولاً بها من قبل، ليكون الحكم ملائماً لأحوال المجتمع الإسلامي الجديد( )، وذكر من الأمثال التي ضربها إيقاع الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثاً( ) والحق أن عمر بهذا التصرف لم يخالف النصوص القطعية، وإنما اجتهد في فهم النصوص، إذ له سند منها:
1- روى مالك عن أشهب عن القاسم بن عبد الله أن يحيى بن سعيد حدّثه أن
ابن شهاب حدثه، أن ابن المسيب حدَّثه، أن رجلاً من أسلم طلق امرأته على عهد رسول الله ? ثلاث تطليقات، فقال له بعض الصحابة: إن لك عليها رجعة، فانطلقت امرأته حتى وقفت على رسول الله ? فقالت: إن زوجي طَلَّقَني ثلاث تطليقات في كلمة واحدة فقال لها رسول الله ?: قد بنت منه ولا ميراث بينكما( ). ففي هذا الحديث أمضى رسول الله ? الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثاً.
2- روى النسائي بسنده: أن رسول الله ? أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجُلٌ وقال: يا رسول الله ألا أقتله( )، ففي هذا الحديث غضب رسول الله ? على من طلق امرأته ثلاثاً بلفظ واحد وأنكر عليه، مما يدل على وقوعها، إذ لو لم تقع الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً لبيَّن ذلك رسول الله ?، لأن تأخير البيان عن وقت
الحاجة مع إمكانه غير جائز( ).
3- وعن نافع بن عمير بن عبد يزيد بن ركانة، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سُهيمة ألبتَّة، فأخبر النبي ? بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله ?: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله ? فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان( ).
ففي هذا الحديث لما طلق ركانة زوجته البتة، وادعى أنه لم يرد إلا طلقة واحدة، استحلفه الرسول ? على أنه ما يريد إلا طلقة واحدة، فحلف فردها إليه، مما يدل على أنه لو قصد بطلاقه البتة الطلاق الثلاث لوقعن، وإلا فلم يكن لتحليفه معنى، وبعد سياق ما تقدم نجد أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استند إلى دليل من سنة رسول الله ? وأنه بإمضائه الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً لم يكن بدعا من عند نفسه، كما أن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم وافقه فيما ذهب إليه، كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود ولهم أكثر من رواية، وعمران بن حصين وعلى هذا فقضية إيقاع الطلاق ثلاثاً بكلمة واحدة، أو كلمات مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق وطالق وطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو يقول: أنت طالق ثم ثلاثاً أو عشر طلقات، أو مائة طلقة، أو ألف طلقة، أو نحو ذلك من العبارات مسألة اجتهادية للحاكم بحسب ما يرى من المصلحة في الزمان والمكان أن يوقعها ثلاثاً أو طلقة واحدة رجعية( )، وقال ابن القيم رحمه الله: لم يخالف عمر إجماع من تقدمه، بل رأى إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم، لما علموا أنه حرام وتتابعوا فيه، ولا ريب أن هذا سائغ للأئمَّة أن يلزموا الناس بما ضيقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصة الله عزوجل وتسهيله( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:21 pm

المبحث الثاني: تعيين الولاة في عهد عمر:

سار الفاروق رضي الله عنه على المنهج النبوي الشريف في اختيار الولاة، فكان لا يولي إلا الأكفاء والأمناء والأصلح من غيرهم على القيام بالأعمال، ويتحرى في الاختيار والمفاصلة غاية جهده ولا يستعمل من يطلب الولاية، وكان يرى أن اختيار الولاة من باب أداء الأمانات، بحيث يجب عليه أن يعين على كل عمل أصلح من يجده، فإن عدل عن الأصلح إلى غيره مع عدم وجود ما يبرر ذلك، يكون قد خان الله، ورسوله والمؤمنين( )، ومن أقواله في هذا الشأن: وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم( )، وقال رضي الله عنه: من قلد رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين( )، وقال أيضاً: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين( ).

أولاً: أهم قواعد عمر في تعيين الولاة وشروطه عليهم:

1- القوة والأمانة:
وقد طبق الفاروق رضي الله عنه هذه القاعدة، ورجّح الأقوى من الرجال على القوي، فقد عزل عمر شرحبيل بن حسنة وعين بدله معاوية. فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل( )، ومن أجمل ما أثر عن عمر في هذا المعنى قوله: اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة( ).

2- مقام العلم في التولية:
وقد جرى عمر الفاروق على سنة رسول الله صلى الله عله وسلم في تولية أمراء الجيوش خاصة. قال الطبري: إن أمير المؤمنين، كان إذا اجتمع إليه جيش من أهل الإيمان، أمّر عليهم رجلاً من أهل الفقه والعلم( ).

3- البصر بالعمل:
كان عمر بن الخطاب يستعمل قوماً، ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل( )، والتفضيل هنا إنما يعني أن أولئك الذين تركهم عمر، كانوا أفضل ديناً، وأكثر ورعاً، وأكرم أخلاقاً، ولكن خبرتهم في تصريف الأمور أقل من غيرهم فليس من الضروري أن يجتمع الأمران كلاهما معاً، وهذه القاعدة التي وضعها عمر،
ما زالت متبعة حتى اليوم، في أرقى الدول، ذلك بأن المتدين الورع الخلوق، إذا لم تكن له بصيرة في شؤون الحكم، قد يكون عرضة لخديعة أصحاب الأهواء والمضللين، أما المحنَّك المجرَّب، فإنه يعرف من النظرة السريعة، معاني الألفاظ،
وما وراء معاني الألفاظ وهذا السبب نفسه هو الذي دعا عمر بن الخطاب أيضاً لاستبعاد رجل لا يعرف الشر، فلقد سأل عن رجل أراد أن يوليه عملاً فقيل له: يا أمير المؤمنين: إنه لا يعرف الشر. فقال عمر لمخاطبه: ويحك ذلك أدنى أن يقع فيه( )، وهذا لا يعني أن يكون العامل غير متصف بالقوة والأمانة والعلم والكفاية وغيرها من الصفات التي يستلزمها منطق الإدارة والحكم، وإنما يقع التفاضل بين هذه الصفات، ويكون الرجحان لما سمّاه عمر بن الخطاب: البصر بالعمل( ).

4- أهل الوبر وأهل المَدَر:
وكان عمر ينظر، حين تعيينه أحد عماله، إلى بعض الخصائص والطباع والعادات والأعراف، فلقد عُرف أنه كان ينهى عن استعمال رجل من أهل الوبر على أهل المدر( )، وأهل الوبر هم ساكنوا الخيام، وأهل المدر هم ساكنوا المدن وهذه نظرة اجتماعية سلوكية في آن معاً، في اختيار الموظفين، فلكل من أهل الوبر والمدر طبائع وخصائص وأخلاق وعادات وأعراف مختلفة، ومن الطبيعي أن يكون الوالي عارفاً بنفسية الرعية، وليس من العدل أن يتولى أمرها رجلٌ جاهل بها، فقد يرى العُرف نُكراً وقد يرى الطبيعي غريباً، فيؤدي ذلك إلى غير ما يتوخاه المجتمع من أهداف يسعى إلى تحقيقها( ).

5- الرحمة والشفقة على الرعية:
كان عمر رضي الله عنه يتوخى في ولاته الرحمة والشفقة على الرعية، وكم من مرة أمر قادته في الجهاد ألا يغرروا بالمسلمين ولا ينزلوهم منزل هلكة، وكتب عمر لرجل من بني أسلم كتاباً يستعمله به، فدخل الرجل على عمر وبعض أولاد عمر في حجر أبيهم يُقبّلهم. فقال الرجل: تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟ فوالله
ما قبَّلت ولداً لي قط، فقال عمر: فأنت والله بالناس أقل رحمة، لا تعمل لي عملاً، ورده عمر فلم يستعمله( )، وغزت بعض جيوشه بلاد فارس حتى انتهت إلى نهر ليس عليه جسر فأمر أمير الجيش أحد جنوده أن ينزل في يوم شديد البرد لينظر للجيش مخاضة يعبر منها، فقال الرجل: إني أخاف إن دخلت الماء أن أموت، فأكرهه القائد على ذلك، فدخل الرجل الماء وهو يصرخ: يا عمراه يا عمراه! ولم يلبث أن هلك، فبلغ ذلك عمر وهو في سوق المدينة. فقال: يا لبيكاه يا لبيكاه، وبعث إلى أمير ذلك الجيش فنزعه وقال: لولا أن تكون سنّة لأقدت منك،
لا تعمل لي على عمل أبداً( )، وخطب عمر ولاته فقال: اعلموا أنه لا حلم أحب إلى الله تعالى ولا أعمّ من حلم إمام ورفقه، وأنه ليس أبغض إلى الله ولا أعمّ من جهل إمام وخرقه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهرانيه يُرزق العافية ممن هو دونه( ).

6- لا يولي أحداً من أقاربه:
كان عمر حريصاً على أن لا يولي أحداً من أقاربه رغم كفاية بعضهم وسبقه إلى الإسلام مثل سعيد بن زيد ابن عمه وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه يشكو إعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم. وقول عمر: لوددت أني وجدت رجلاً قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم. فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبد الله بن عمر، فقال عمر: قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا( )، وكان يقول: من استعمل رجلاً لمودة أو لقرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله( ).

7- لا يعطي من يطلبها:
كان لا يولي عملاً لرجل يطلبه، وكان يقول في ذلك: من طلب هذا الأمر لم يُعن عليه، وقد سار على هذا النهج اقتداء بسنة الرسول ?.

8- منع العمال من مزاولة التجارة:
كان عمر يمنع عماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواءً أكانوا بائعين أو مشترين( )، روي أن عاملاً لعمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها. فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتجروا وأخذ منه ما حصل عليه من ربح( ).

9- إحصاء ثروة العمال عند تعيينهم:
كان عمر يحصي أموال العمال والولاة قبل الولاية ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه وكان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجاراً( ).

10- شروط عمر على عماله:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا استعمل عاملاً كتب عليه كتاباً، وأشهد عليه رهطاً من الأنصار: أن لا يركب برذوناً( )، ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين ثم يقول: اللهم فاشهد( ).
وهذه الشروط تعني الالتزام بحياة الزهد والتواضع للناس، وهي خطوة أولى في إصلاح الأمة بحملها على التوسط في المعيشة، واللباس والمراكب، وبهذه الحياة التي تقوم على الاعتدال تستقيم أمورها، وهي خطة حكيمة، فإن عمر لا يستطيع أن يلزم جميع أفراد الأمة بأمر لا يعتبر واجباً في الإسلام، ولكنه يستطيع أن يلزم بذلك الولاة والقادة، وإذا التزموا فإنهم القدوة الأولى في المجتمع، وهي خطة ناجحة في إصلاح المجتمع وحمايته من أسباب الانهيار( ).

11- المشورة في اختيار الولاة:
كان اختيار الولاة يتم بعد مشاورة الخليفة لكبار الصحابة( )، فقد قال رضي الله عنه لأصحابه يوماً: دلوني على رجل إذا كان في القوم أميراً فكأنه ليس بأمير، وإذا لم يكن بأمير فكأنه أمير( )، فأشاروا إلى الربيع بن زياد( )، وقد استشار عمر رضي الله عنه الصحابة في من يولي على أهل الكوفة فقال لهم: من يعذرني من أهل الكوفة ومن تجنيهم على أمرائهم إن استعملت عليهم عفيفاً استضعفوه، وإن استعلمت عليهم قوياً فجّروه، ثم قال: أيها الناس ما تقولون في رجل ضعيف غير أنه مسلم تقي وآخر قوي مشدّد أيهما الأصلح للإمارة؟ فتلكم المغيرة بن شعبة فقال يا أمير المؤمنين إن الضعيف المسلم إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، والقوي المشدّد فشداده على نفسه وقوته لك وللمسلمين فأعمل في ذلك رأيك فقال عمر: صدقت يا مغيرة، ثم ولاه الكوفة وقال له: انظر أن تكون ممن يأمنه الأبرار ويخافه الفجّار، فقال المغيرة: أفعل ذلك يا أمير المؤمنين( ).

12- اختبار العمال قبل التولية:
كان عمر رضي الله عنه يختبر عماله قبل أن يوليهم، وقد يطول هذا الاختبار كما يوضحه الأحنف بن قيس حين قال: قدمت على عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه، فاحتبسني عنده حولاً فقال يا أحنف قد بلوتك وخبرتك فرأيت أن علانيتك حسنة وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك وأنّا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم، ثم قال له عمر أتدري لم احتبستك وبين له أنه أراد اختباره ثم ولاه( )، ومن نصائح عمر للأحنف: يا أحنف، من كثر ضحكه قلتْ هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه( ).

13- جعل الوالي من القوم:
من الملاحظ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في كثير من الأحيان يولي بعض الناس على قومهم إذا رأى في ذلك مصلحة ورأى الرجل جديراً بالولاية، ومن ذلك توليته ((جابر بن عبد الله البجلي)) على قومه بجيلة( )، حينما وجههم إلى العراق، وكذلك تولية سلمان الفارسي على المدائن، وتولية نافع بن الحارث على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى أهداف معينة يستطيع تحقيقها ذلك الشخص أكثر من غيره( ).

14- المرسوم الخلافي:
وقد اشتهر عن عمر رضي الله عنه أنه حينما كان ينتهي من اختيار الوالي واستشارة المستشارين يكتب للوالي كتاباً يسمى عهد التعيين أو الاستعمال عند كثير من المؤرخين ويمكننا أن نسميه مجازاً (المرسوم الخلافي في تعيين العامل أو الأمير) وقد وردت العديد من نصوص التعيين لعمال عمر( )ولكن المؤرخين يكادون يتفقون على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا استعمل عاملاً كتب له كتاباً وأشهد عليه رهطاً من المهاجرين والأنصار واشترط عليه شروطاً في الكتاب( ) كما قد يكون الشخص المرشح للولاية غائباً، فيكتب له عمر عهداً يأمره فيه بالتوجه إلى ولايته، ومثال ذلك كتابه إلى العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين أمره بالتوجه إلى البصرة لولايتها بعد عتبة بن غزوان، كما أنه في حال عزل أمير وتعيين آخر مكانه فإن الوالي الجديد كان يحمل خطاباً يتضمن عزل الأول وتعيينه مكانه، وذلك مثل كتاب عمر مع أبي موسى الأشعري حين عزل المغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة وعين أبا موسى مكانه( ).
15- لا يستعين بنصراني على أمور المسلمين:
قدم على عمر فتح من الشام، فقال لأبي موسى: ادع كاتبك يقرأه على الناس في المسجد. قال أبو موسى: إنه لا يدخل المسجد. قال عمر: لم؟ أجنب هو؟ قال:
لا ولكنه نصراني، فانتهره عمر وقال: لا تدنوهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنوهم وقد خونهم الله، وقد نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب، فإنهم يستحلون الرشوة( )، وعن أُسِّقَ( )، قال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال: أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم فأعتقني لما حضرته الوفاة وقال: اذهب حيث شئت( ).

ثانياً: أهم صفات ولاة عمر:
من أهم صفات ولاة عمر؛ سلامة المعتقد، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، والتواضع وقبول النصيحة، والحلم، والصبر وعلو الهمة، والحزم والإرادة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وغير ذلك من الصفات وأما أهمها فهي:
1- الزهد:
فمن ولاة عمر الذين اشتهروا بزهدهم، سعيد بن عامر بن حذيم وعمير بن سعد وسلمان الفارسي، وأبو عبيدة ابن الجرّاح، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم وكان نساء بعض الولاة يقدمن الشكاوى إلى عمر نتيجة زهد أزواجهن، فقد اشتكت امرأة معاذ بن جبل رضي الله عنه وذلك: أن عمر بعث معاذاً ساعياً.. على بعض القبائل فقسم فيهم حتى لم يدع شيئاً، حتى جاء مجلسه الذي خرج به على رقبته. فقالت امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة أهليهم؟ فقال: كان معي ضاغط( )، فقالت: قد كنت أميناً عند رسول الله ? وعند
أبي بكر، أفبعث عمر معك ضاغطاً؟ فقامت بذلك في نسائها واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر فدعا معاذاً، فقال أنا بعثت معك ضاغطاً، فقال: لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك. قال: فضحك عمر وأعطاه شيئاً وقال أرضها به( ).

2- التواضع:
اشتهر الولاة في عهد عمر بتواضعهم الشديد حتى إن القادمين إلى بلادهم
لا يميزون بينهم وبين عامة الناس فهم في لباسهم وبيوتهم ومراكبهم كعامة الناس
لا يميزون أنفسهم بشي، ومن أمثلة ذلك قصة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فقد بعث إليه الروم رجلاً ليفاوضه: فأقبل حتى أتى أبا عبيدة، فلما دنا من المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من أصحابه، ولم يدر أفيهم هو أم لا ولم يرهبه مكان أمير. فقال لهم: يا معشر العرب، أين أميركم؟ فقالوا هاهو ذا. فنظر فإذا هو بأبي عبيدة جالس على الأرض وهو متنكب القوس وفي يده أسهم وهو يقلبها. فقال له الرسول: أنت أمير هؤلاء؟ قال: نعم. قال فما يجلسك على الأرض؟ أرأيت لو كنت جالساً على وسادة أو كان ذلك وضعك عند الله أو مانعك من الإحسان؟ قال أبو عبيدة: إن الله لا يستحي من الحق، ولأصدقنك عما قلت ما أصبحت أملك ديناراً ولا درهماً وما أملك إلا فرسي وسلاحي وسيفي، لقد احتجت أمسي إلى نفقة فلم يكن عندي حتى استقرضت من أخي هذا نفقة كانت عنده يعني معاذاً فأقرضنيها، ولو كان عندي أيضاً بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه دون إخواني وأصحابي وأجلس أخي المسلم الذي لا أدري لعله عند الله خير مني على الأرض، ونحن عباد الله نمشي على الأرض، ونجلس على الأرض، ونأكل على الأرض ونضجع على الأرض وليس ذلك ينقصنا عند الله شيئاً، بل يعظم الله به أجورنا، ويرفع درجاتنا، ونتواضع بذلك لربنا( ).

3- الورع:
حرص العديد من الولاة أن يُعفى من الأعمال الموكلة إليهم فقد استعفى عتبة بن غزوان عمر من ولاية البصرة فلم يعفه( )، كما أن (النعمان بن مقرن) كان والياً على كسكر فطلب من عمر أن يعفيه من الولاية ويسمح له بالجهاد رغبة في الشهادة( )، كما رفض بعض الصحابة الولاية حينما طلب منهم عمر أن يعملوا في الولايات، فقد رفض الزبير بن العوام ولاية مصر حينما عرض عليه ذلك قائلاً يا أبا عبد الله هل لك في ولاية مصر، فقال: لا حاجة لي فيها ولكن أخرج مجاهداً وللمسلمين معاوناً( )، كما رفض ابن عباس ولاية حمص حينما عرض عليه عمر أن يوليه إياها بعد وفاة أميرها( ).


4- احترام الولاة لمن سبقهم من الولاة:
امتاز الولاة على البلدان باحترام من سبقهم من الولاة وتقديرهم وهذا يلاحظ في معظم الولاة في العصر الراشدي حيث نجد مثلاً أن خالداً بن الوليد حينما قدم إلى الشام أميراً على أبي عبيدة بن الجراح وغيره رفض أن يتقدم على أبي عبيدة في الصلاة، وحينما قام عمر بعزل خالد بن الوليد عن ولاية أجناد الشام وتعيين
أبي عبيدة مكانه أخفى أبو عبيدة الخبر عن خالد ولم يخبره به حتى ورد كتاب آخر من عمر، فعلم خالد بالخبر فعاتب أبا عبيدة على عدم تبليغه( )، يقول الدكتور عبد العزيز العمري: ولم أجد من خلال البحث أن أحداً من الولاة عمل على إذلال من سبقه أو النيل منه، بل إنهم في الغالب يعملون على مدحهم في أول خطبة يلقونها ويثنون عليهم( ).

ثالثاً: حقوق الولاة:
مما لا ريب فيه أن للولاة على البلدان حقوقاً مختلفة يتصل بعضها بالرعية وبعضها بالخليفة، وبالإضافة إلى حقوق أخرى متعلقة ببيت المال، وكل هذه الحقوق الأدبية أو المادية تهدف بالدرجة الأولى إلى إعانة الولاة على القيام بواجباتهم وخدمة دين الإسلام وهذه أهم حقوقهم:
1- الطاعة في غير معصية:
وواجب الطاعة من الرعية للأمراء والولاة قررته الشريعة قال تعالى:? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(59) ? (النساء، آية:59).
وهذه الآية تنص على وجوب طاعة أولى الأمر ومنهم الأمراء المنفذون لأوامر الله سبحانه وتعالى( )، ولاشك أن طاعة الأمراء والخلفاء مقيدة بطاعة الله وأنهم متى عصوا الله فلا طاعة لهم( ).

2- بذل النصيحة للولاة:
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال له: يا أمير المؤمنين لا أبالي في الله لومة لائم خير لي أم أقبل على نفسي، فقال: أما من ولي من أمر المؤمنين شيئاً فلا يخف في الله لومة لائم، ومن كان خلواً من ذلك فليقبل على نفسه ولينصح لولي أمره( ).

3- إيصال الأخبار للولاة:
يجب على الرعية للوالي إيصال الأخبار الصحيحة إليه والصدق في ذلك، سواء
ما يخص أحوال العامة، أو ما يخص أخبار الأعداء أو ما كان متعلقاً بعمال الوالي وموظفيه والعجلة في ذلك قدر المستطاع خصوصاً ما كان متعلقاً بالأمور الحربية وأخبار الأعداء وما يتعلق بخيانات العمال وغير ذلك من منطق الاشتراك في المسؤولية مع الوالي في مراعاة المصلحة العامة للأمة( ).


4- مؤازرة الوالي في موقفه:
إذا كان موقفه للمصلحة العامة وتلزم المعاونة بالدرجة الأولى من قبل الخليفة، فقد كان عمر رضي الله عنه حريصاً على هذا المعنى كل الحرص حيث كان يولي عناية خاصة لاحترام الناس لولاتهم وتقديرهم لهم ويبذل في ذلك مختلف الأسباب (فكان عمر على شدة ما فيه مع عماله إذا أحس باعتداء أو شبه اعتداء وقع على أحدهم يشتد على المعتدين في تلك الناحية ليبقى للعامل هيبة توقره في الصدور ومهابة يلجم بها العامة والخاصة( ).

5- حق الأمير في الاجتهاد:
من حق الأمير الاجتهاد برأيه في الأمور التي يكون مجال الاجتهاد فيها مفتوحاً خصوصاً في الأمور التي لم يحددها الشرع بدقة وفي الأمور الأخرى التي لم يأت فيها تفويض من الخليفة للتصرف في حدود معينة، فقد اجتهد أحد ولاة عمر في الشام في قسمة الأسهم بين الراجلة والفرسان، فأجاز عمر اجتهاده، وقد اشتهر عن ابن مسعود وكان أحد ولاة عمر رضي الله عنه أنه خالف عمر في أكثر من مائة مسألة اجتهادية( ).

6- احترامهم بعد عزلهم:
من حقوق الولاة احترامهم بعد عزلهم، فعندما عزل عمر رضي الله عنه شرحبيل بن حسنة عن ولاية الأردن، بين للناس سبب عزله، وقال لشرحبيل عندما سأله أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل( )، وعزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة ولعله رأى أن احترامه يقضي بإبعاده عن أناس كانوا يعيبونه في صلاته مع أن سعداً كان أشبه الناس صلاة برسول الله لعلمه التام بصفة صلاة النبي ?، فعزله عمر احتراماً له عن أن يقع فيه مثل هؤلاء الجهال( ).

7- حقوقهم المادية:
أما عن الناحية المادية فقد كان للولاة حقوق وعلى رأسها مرتباتهم التي يعيشون عليها، ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون قد أحسوا بأهمية الأرزاق بالنسبة للعمال، وأنها حق من حقوقهم إضافة إلىاستغنائهم بها عن الناس وبالتالي عدم التأثير عليهم أو محاولة رشوتهم( )، وقد كان عمر بن الخطاب حريصاً على نزاهة عماله وعفتهم عن أموال الرعية، واستغنائهم بأموالهم عن أموال الغير، ولعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أحس بهذه القضية الخطيرة، وأحس أنه لكي يضمن نزاهة عماله فلا بد له أن يغنيهم عن الحاجة إلى أموال الناس وقد دار حوار بينه وبين أبي عبيدة مفهومه أن أبا عبيدة قال لعمر بن الخطاب: دنّست أصحاب رسول الله ? يعني باستعمالهم فقال له عمر:
يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين؟ قال
أبو عبيدة: أما إن فعلت فاغنهم بالعمالة عن الخيانة( )، يعني إذا استعملتهم في شيء فأجزل لهم في العطاء والرزق، حتى لا يحتاجون إلى الخيانة أو إلى الناس وقد كان عمر يصرف لأمراء الجيش والقرى وجميع العمال من العطاء ما يكفيهم بالمعروف نظير عملهم ( على قدر ما يصلحهم من الطعام ما يقومون به من الأمور) ( )، وكان عمر يحرص على نزاهة العمال عما بأيديهم من الأموال العامة فيقول لعماله: قد أنزلتكم من هذا المال ونفسي منزلة وصي اليتيم من كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف( )، وقد فرض عمر لجميع عماله تقريباً مرتبات محددة وثابتة سواء يومية أو شهرية أو سنوية وقد ورد ذكر بعضها في المصادر التاريخية منها ما كان طعاماً ومنها ما كان نقوداً محددة( )، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال وعثمان بن حنيف على ما سقى الفرات وعمّار بن ياسر على الصلاة والجند ورزقهم كل يوم شاة، فجعل نصفها وسقطها وأكارعها لعمار بن ياسر، لأنه كان في الصلاة والجند، وجعل ربعها لعبد الله بن مسعود والربع الآخر لعثمان بن حنيف كما ورد أن عمر بن الخطاب فرض لعمرو بن العاص أثناء ولايته على مصر مائتي دينار( )، وكان عطاء سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو على ثلاثين ألفاً من الناس في المدائن خمسة آلاف درهم، ولزهده كان يأكل من عمل يده من الخوص ويتصدق بعطائه( )،وقد وردت روايات أخرى متفاوتة في أرزاق عمر لولاته، ولا شك أن هذا الاختلاف في الروايات مرده إلى تطور الأحوال وتغيرها خلال عهد عمر، فلا يعقل أن تبقى الأرزاق والمرتبات على ماهي عليه من أول عهده إلى نهايته، نظراً لتغير الظروف والأحوال واختلاف الأسعار وتطور الحاجات نتيجة اتساع الفتوح وزيادة الدخل في بيت المال( )، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رزق معاوية على عمله بالشام عشرة آلاف دينار في كل سنة، كما ذكر أن عمر كان يفرض لأمراء الجيوش والقرى في العطاء ما بين تسعة آلاف وثمانية آلاف وسبعة آلاف على قدر ما يصلهم من الطعام وما يقومون به من الأمور( ).
وقد كره بعض العمال أخذ الأرزاق نتيجة قيامه بأعمال الإمارة والولاية للمسلمين إلا أن الفاروق كان يوجههم إلى أخذها، فقد قال عمر رضي الله عنه لأحد ولاته: ألم أحدثك أنك تلي من أعمال المسلمين أعمالاً فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال إني لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين فقال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت، وكان رسول الله يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني فقال النبي ?: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه، ومالاً فلا تتبعه نفسك( )، وعلى كل حال فإن مبدأ إعطاء الأرزاق للعمال وإغنائهم عن الناس كان مبدأ إسلامياً فرضه الرسول ?، وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، حتى أغنوا العمال عن أموال الناس، وفرّغوهم للعمل ولمصلحة الدولة الإسلامية( ).

8- معالجة العمال إذا مرضوا:
مرض معيقيب، وكان خازن عمر على بيت المال، فكان يطلب له الطب من كل من يسمع عنده بطب، حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن، فقال: هل عندكم من طب لهذا الرجل الصالح، فإن هذا الوجع قد أسرع فيه. قالا: أما شيء يذهبه فإنا لا نقدر عليه ولكنا نداويه بدواء يقفه فلا يزيد. قال عمر: عافية عظيمة أن يقف فلا يزيد قال: هل ينبت في أرضك هذا الحنظل. قال: نعم: قالا: فاجمع لنا فيه فأمر عمر فجمع له منه مكتلان عظيمان، فعمدا إلى كل حنظلة، قطعاها باثنين، ثم أضجعا معيقيباً فأخذ كل واحد منهما بإحدى قدميه ثم جعلا يدلكان بطون قدميه بالحنظل، حتى إذا امّحقت أخذ أخرى. ثم أرسلاه فقال عمر: لا يزيد وجعه هذا أبداً. قال الراوي: فوالله ما زال معيقيب بعدها متمسكاً ما يزيد وجعه حتى مات( ).

رابعاً: واجبات الولاة:
إن الولاة بما بوأهم الله من مكانة، قد ألقى على كاهلهم أعباءً ثقالاً، وواجبات جساماً، أثر منها عن عمر بن الخطاب ما يلي:

1- إقامة أمور الدين:
كنشر الدين الإسلامي بين الناس، وإقامة الصلاة، وحفظ الدين وأصوله، وبناء المساجد وتيسير أمور الحج، وإقامة الحدود الشرعية:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:23 pm

• تخطيط وبناء المساجد:
وتذكر بعض الإحصاءات أنه أنشئ في عهد عمر 4000 مسجد في بلاد العرب وحدها وقد اشتهر الولاة بنشر المساجد وتأسيسها في مختلف مناطق حكمهم مثل عياض بن غنم الذي أنشأ مجموعة من المساجد في النواحي المختلفة من الجزيرة( ).

• تيسير أمور الحج:
كان الولاة في عهد الخلافة الراشدة مسؤولين عن تيسير أمور الحج في ولاياتهم وتأمين سلامة الحجاج منها، فقد كان الولاة يعينون الأمراء على قوافل الحج، ويحددون لهم أوقات السفر حيث لا يغادر الحجاج بلدانهم إلا بإذن الوالي وقد أكد الفقهاء بعد ذلك على أن تسيير الحجاج عمل من مهام الوالي على بلده يقول الماوردي: أما تسيير الحجيج من عمله فداخلة في أحكام إمارته لأنه من جملة المعونات التي تنسب لها( ).

• إقامة الحدود الشرعية:
أقام عمرو بن العاص الحد على أحد أبناء عمر بن الخطاب في مصر ثم عاقبه عمر نفسه بالجلد، وقيل أنه توفي بعد ذلك في أثر هذا الجلد( )، وقد كان الولاة يقومون بالقصاص في القتل دون إذن الخليفة إلى أن كتب إليهم عمر: أن لا تقتلوا أحداً إلا بإذني( )، فأصبحوا يستأذنون عمر في القتل قبل تنفيذه، فإقامة الحدود من الأمور الدينية والدنيوية التي كان ينظر إليها الخلفاء وولاتهم نظرة جادة ويهتمون بها كما يهتمون بشعائر الدين المختلفة( ).

2- تأمين الناس في بلادهم:
إن المحافظة على الأمن في الولاية من أعظم الأمور الموكلة إلى الوالي، وفي سبيل تحقيق ذلك فإنه يقوم بالعديد من الأمور أهمها إقامة الحدود على العصاة والفساق، مما يجد من الجرائم التي تهدد حياة الناس وممتلكاتهم( ) وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أخيفوا الفساق واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً( )، كما أن إقامة فريضة الجهاد ضد الأعداء كان له دور كبير في تأمين البلاد الإسلامية وأمصارها( ).

3- الجهاد في سبيل الله:
إذا استعرضنا أسماء الأمراء منذ بداية خلافة أبي بكر إلى خلافة عمر لوجدنا لهم باعاً طويلاً في الفتوحات، بل إنهم كانوا يتوجهون أمراء إلى بلدان لم تفتح بعد فيعملون على فتحها ومن ثم تنظيمها كأمراء الشام أبي عبيدة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وأمراء العراق كالمثنى بن حارثة وخالد بن الوليد وعيّاض بن غنم وغيرهم( )، وقد كان الولاة في عهد الخلفاء الراشدين مع إدارتهم لبلادهم مجاهدين لنواحي العدو، ولم يمنعهم ذلك من القيام بأعمالهم الموكلة إليهم، وقد تحدثت المصادر التاريخية عن أهم أعمال الولاة في دعم حركة الجهاد والتي من أهمها:
- إرسال المتطوعين إلى الجهاد.
- الدفاع عن الولاية ضد الأعداء: فقد قال عمر: ولكم علي أن أسد ثغوركم.
- تحصين البلاد: فقد أمر الفاروق ببناء حصون لمن نزل الجيزة في مصر من قبائل الفتح، خوفاً عليهم من الإغارات المفاجئة( ).
- تتبع أخبار الأعداء: فقد اشتهر عن أبي عبيدة رضي الله عنه متابعته الدقيقة لتجمعات الروم في بلاد الشام، فكان يقوم ببعض العمليات الانسحابية التمويهية بناء على هذه الأخبار( ).
- إمداد الأمصار بالخيل: وضع عمر رضي الله عنه سياسة عامة في الدولة لتوفير الخيل اللازمة للجهاد في الأمصار الإسلامية حسب حاجتها فأقطع أناساً من البصرة أراضي كي يعملوا فيها على إنتاج الخيل وتربيتها( )، كما أعطى عمر أناساً من المسلمين في دمشق أرضاً للعناية بالخيل فزرعوها فانتزعها منهم وأغرمهم لمخالفتهم الهدف من إعطائهم الأراضي وهو المساعدة في إنتاج الخيل، وقد كان لعمر أربعة آلاف فرس في الكوفة وكان قيمه عليها سلمان بن ربيعة الباهلي في نفر من أهل الكوفة يصنّع سوابقها ويجريها في كل عام، وبالبصرة نحوٌ منها، وأيضاً في كل مصر من الأمصار الثمانية عدد قريب من العدد السابق( ) وكانت هذه الخيول مجهزة للدفاع الفوري عن الدولة الإسلامية( ).
- تعليم الغلمان وإعدادهم للجهاد:
فقد كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى أهل الأمصار يأمرهم بتعليم أولادهم الفروسية والسباحة والرمي، وقد أصيب أحد الغلمان أثناء التعليم في الشام ومات، فكتبوا إلى عمر في ذلك فلم يثنه عن أمره بتعليم الأولاد الرمي( ).
- متابعة دواوين الجند:
اهتم الفاروق رضي الله عنه اهتماماً خاصاً بدواوين الأمصار نظراً لاعتقاده أن أهل الأمصار أحوج الناس للضبط خصوصاً القريبة من الأعداء وهي الأمصار التي تحتاج إلى الجنود باستمرار( )، وقد كان الولاة على البلدان مسؤولين مباشرة عن دواوين الجند رغم وجود بعض الموظفين الآخرين الذين يتولون مهمتها، ولكن باعتبار أن هؤلاء الولاة هم أمراء الحرب فقد كانت مسؤوليتهم عن الدواوين في بلدانهم كمسؤولية الخليفة باعتبارهم نواباً( ).
- تنفيذ المعاهدات:
وقد جرت بعض المعاهدات بين أبي عبيدة بن الجراح وبعض مدن الشام، وكذلك الحال بالنسبة لأمراء العراق كسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وغيرهم من الولاة، وقد كان الولاة إضافة إلى ذلك يحرصون على حماية حقوق الذميين والمعاهدات الشخصية والعامة، وينفذون المعاهدات انطلاقاً من الأوامر الشرعية برعاية العهد( )، وقد أوصى الفاروق بأهل الذمة فقال: أوصيكم بذمة الله وذمة رسوله خيراً، أن يقاتل مَنْ وراءهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم( ).

4- بذل الجهد في تأمين الأرزاق للناس:
فقد قال عمر: إن سلمني الله لأدعنّ أرامل العراق وهن لا يحتجن إلى أحد بعدي، ونحن لا ننسى موقف عمر عام الرمادة، حين حل الجوع بالناس، فإنه وضع جميع إمكانيات الدولة لحل الأزمة وإشباع البطون الجائعة، فقد روى البيهقي في سننه أن عمر أنفق على أهل الرمادة حتى وقع المطر، فترحلوا، فخرج إليهم عمر راكباً فرساً، فنظر إليهم وهم يترحلون بظعائنهم، فدمعت عيناه، فقال رجل من بني محارب بن خصفة: أشهد أنها انحسرت عنك، ولست بابن أمة ? يمتدح عمر ? فقال له عمر: ويلك، ذلك لو أنفقت من مالي أو من مال الخطاب، إنما أنفقت من مال الله( )، وقد قال رضي الله عنه: ولكم عليّ ألا أجتبي شيئاً من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليّ أن أزيد أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله( )، وقد أخذ توزيع الأعطيات في عهد عمر شكلاً دورياً منتظماً، ولم يكن ذلك خاصاً بسكان البلدان، بل إن القبائل في البادية شملتها الأعطيات، فقد كان عمر بن الخطاب يدور في القبائل القريبة من المدينة ويوزع عليهم أعطياتهم بنفسه وكان يكتب إلى بعض ولاته أن أعط الناس أعطياتهم وأرزاقهم فكتب إليه عمر أنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا آل عمر أقسمه بينهم( )، ولم يكتف عمر بتأمين الأموال للناس بل إنه عمل على تأمين الطعام، ففي إحدى زيارته للشام قام إليه بلال بن رباح فقال: يا أمير المؤمنين إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير والخبز النقي وما يجد ذلك عامة المسلمين، فقال لهم عمر رضي الله عنه ما يقول بلال؟ فقال له يزيد بن أبي سفيان، يا أمير المؤمنين إن سعر بلادنا رخيص وإنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هنا بمثل ما كنا نقوت عيالاتنا بالحجاز فقال عمر رضي الله عنه: لا والله لا أبرح حتى تضمنوا لي أرزاق المسلمين في كل شهر. ثم قال انظروا كم يكفي الرجل ما يشتهيه؟ قالوا جريبين مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال فضمنوا له ذلك. ثم قال يا معشر المسلمين هذا لكم سوى أعطياتكم فإن وفّى لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضت لكم عليهم، وأعطوكموه في كل شهر، فذلك أحب، وإن هم لم يفعلوا فأعلموني حتى أعزلهم وأولي غيرهم( )، وقد كان عمر يحرص على توفير الطعام في البلدان ويتابع الأسواق ويمنع الاحتكار، وكذلك كان ولاته يقومون بمهمتهم في مراقبة الأسواق، كما كان يأمر التجار بالمسير في الآفاق والجلب على المسلمين وإغناء أسواقهم( )، ولم يكتف الفاروق وولاته بتأمين الطعام ومراقبة الأسواق فقط، بل إن السكن وتوزيعه كان من المهام الموكلة لأمراء البلدان، فعند إنشاء الأمصار وتخطيطها وزعت الأراضي على الناس لسكناها في الكوفة والبصرة( ) والفسطاط كما كان الأمراء يشرفون على تقسيم البيوت في المدن المفتوحة، كحمص ودمشق والاسكندرية وغيرها( ).

5- تعيين العمال والموظفين:
كان تعيين العمال والموظفين في الوظائف التابعة للولاية في كثير من الأحايين من مهام الوالي حيث إن الولاية في الغالب تتكون من بلد رئيسي إضافة إلى بلدان وأقاليم أخرى تابعة للولاية، وهي بحاجة إلى تنظيم أمورها، فكان الولاة يعينون من مثلهم عمالاً وموظفين في تلك المناطق، سواء كانوا في مستوى أمراء، أو عمال خراج، وفي الغالب فإن هذا التعيين يتم بالاتفاق بين الخليفة والوالي( ).

6- رعاية أهل الذمة:
كانت رعاية أهل الذمة واحترام عهودهم والقيام بحقوقهم الشرعية، ومطالبتهم بما عليهم للمسلمين من واجبات، وتتبع أحوالهم، وأخذ حقوقهم ممن يظلمهم انطلاقاً من الأوامر الشرعية في هذا الجانب، من واجبات الوالي، وقد كان الخلفاء يشترطون على الذميين في كثير من الأحيان شروطاً معينة قبل مصالحتهم، وبالتالي يوفون لهم بحقوقهم ويطالبون بما عليهم من شروط( ).

7- مشاورة أهل الرأي في ولايته وإكرام وجوه الناس:
شدد عمر على الولاة في استشارة أهل الرأي في بلادهم، وكان الولاة يطبقون ذلك ويعقدون مجالس للناس لأخذ آرائهم، وكان يأمر ولاته باستمرار بمشاورة أهل الرأي( )، وطلب من ولاته إنزال الناس منازلهم، فقد كتب عمر إلى
أبي موسى الأشعري: بلغني أنك تأذن للناس جماً غفيراً، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القران والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة؛ وكتب إليه أيضاً: لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس، فأكرموا وجوه الناس، فإنه بحسب المسلم الضعيف أن ينتصف في الحكم والقسمة( ).

8- النظر إلى حاجة الولاية العمرانية:
فقد قام سعد بن أبي وقاص بحفر نهر في ولايته بناء على طلب بعض كبار الفرس لصالح المزارعين في المنطقة( )، كما كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري يأمره بحفر نهر لأهل البصرة، وقام أبو موسى بحفر نهر طوله أربع فراسخ حتى تمكن من جلب المياه لسكان البصرة( ) كما اعتنى ولاة عمر رضي الله عنه عند تأسيسهم للأمصار المشهورة الكوفة، والبصرة والفسطاط بتخطيط الشوارع وتوزيع الأراضي وبناء المساجد وتأمين المياه، وغير ذلك من المصالح العامة لهذه المدن، كما اهتم الولاة بتوطين السكان في المناطق غير المرغوب فيها، لقربها من العدو أو غير ذلك من الأسباب فقد قدموا لهم الإغراءات وأقطعوهم الأراضي تشجيعاً لهم على البقاء فيها، وقد فعل ذلك عمر وعثمان في إنطاكية وفي بعض بلاد الجزيرة.


9- مراعاة الأحوال الاجتماعية لسكان الولاية:
كان الوفد إذا قدموا على عمر رضي الله عنه سألهم عن أميرهم فيقولون خيراً، فيقول هل يعود مرضاكم؟ فيقولون نعم فيقول هل يعود العبد؟ فيقولون نعم فيقول كيف صنيعه بالضعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها
(لا عزله) ( ) وكان عمر يقوم بعزل العامل إذا بلغه أنه لا يعود المريض ولا يدخل عليه الضعيف( )، كما حرص عمر بن الخطاب على أن يظهر عماله بالمظهر المتواضع أمام الناس حتى يشعر الناس بأن ولاتهم منهم ولا يتميزون عنهم، فكان عمر يشترط على عماله مركباً وملبساً مماثلاً للناس، وينهاهم عن اتخاذ الأبواب والحجاب( ).
10- عدم التفريق بين العربي وغيره:
يجب على الولاة أن يقوموا بالمساواة بين الناس وأن لا يفرقوا بين العربي وغيره من المسلمين، فقد قدم قوم على عامل لعمر بن الخطاب، فأعطى العرب وترك الموالي، فكتب إليه عمر: أما بعد: فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم وفي رواية، كتب إليه: ألا سويت بينهم( ).
كما أن هناك العديد من الواجبات الأخلاقية الأخرى التي أمر الإسلام بالتزامها مثل (الوفاء بالعهد، وإخلاص المرء في عمله، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كل
ما يعمل، واستعداده للتعاون مع سائر الجماعة في كل أعمال البرّ والتقوى، ووجوب النصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن هذا ولا شك يؤدي إلى إصلاح حال الجماعة( ))، وكان على الوالي، فضلاً عن الالتزام بهذه المعاني، نشرها بين الناس في ولايته وذلك من خلال خطبه وكتبه ومواعظه وتصرفاته، وقد كان الولاة في عصر الراشدين –بصفة إجمالية- نموذجاً صالحاً لهذه الأخلاقيات والواجبات، سواء في أشخاصهم وخصوصياتهم أم في سلوكهم العام مع الرعية( ).

خامساً: الترجمة في الولايات، وأوقات العمل عند الولاة:

1- الترجمة في الولايات:
إن عملية الترجمة تعتبر من الوظائف المساعدة لولاة البلدان في عصر الخلفاء الراشدين، والحاجة ماسة إليها، في كثير من الأحيان، وقد طلب عمر من ولاته في العراق أن يبعثوا إليه في المدينة بدهاقين من فارس ليتفاهم معهم حول قضايا الخراج، فبعثوا إليه بالدهاقين وبترجمان معهم( )، وقد ذكر عن المغيرة بن شعبة أنه كان يجيد شيئاً من اللغة الفارسية وقام بالترجمة بين عمر والهرمزان في المدينة( ).
إن معرفة الترجمة أمر معروف في الدولة الإسلامية عموماً في عصر الخلفاء لراشدين وقبل ذلك، وإذا علمنا أن دواوين الخراج كانت بغير اللغة العربية، فإننا ندرك مدى الحاجة إلى وجود مترجمين في الولايات يتولون الترجمة في قضايا الخراج وغيرها خصوصاً أن العمال الرئيسيين على الخراج كانوا بالدرجة الأولى من العجم، كما أن انتشار الموالي والداخلين الجدد في الإسلام في البلدان الإسلامية المختلفة جعل الحاجة إلى الترجمة مهمة جداً في كثير من الأمور المتصلة بالقضاء وغيره، كما أن المفاوضات بين القواد الفاتحين وهم في الغالب من الولاة وبين أهل البلاد المفتوحة يحتاج إلى وجود المترجمين( ).

1- أوقات عمل الولاة:
لم يكن هناك تنظيم دقيق لوقت العمل في عهد الفاروق، فقد كان الخليفة والولاة يعملون في جميع الأوقات، وليس عليهم حجاب حتى إن بعضهم يقوم بالتجول ليلاً وقدوتهم في ذلك عمر بن الخطاب الذي اشتهر بالمشي ليلاً وتفقد المدينة، وقد كان الناس يدخلون على الولاة في مختلف الأوقات ويقضون حاجاتهم دون أن يجد الناس من يمنعهم من الدخول على الولاة بحجة أن ذلك الوقت ليس وقت عمل، وقد اشتهر الولاة بحرصهم على إنجاز الأعمال أولاً بأول وعدم تأخيرها، وقد كتب عمر بن الخطاب في هذا المجال إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قائلاً: لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد فتدال عليك الأعمال، فتضيع، وأن للناس لنفرة عن سلطانهم أعوذ بالله أن تدركني وإياكم وضغائن محمولة ودنيا مؤثرة وأهواء متبعة( ).

المبحث الثالث: متابعة الولاة ومحاسبة عمر لهم:

أولاً: متابعة الولاة:
لم يكن عمر يرضى بأن يهتم بحسن اختيار عماله، بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولوا أعمالهم ليطمئن على حسن سيرتهم ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم: خيرُ لي أن أعزل كل يوم والياً من أن أبقي ظالماً ساعة نهار( )، وقال: أيما عامل لي ظلم أحداً فبلغني مظلمته فلم أغيرها، فأنا ظلمته( )، وقال يوماً لمن حوله: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليّ؟ فقالوا: نعم: قال: لا حتى أنظر في عمله، أعَمِل بما أمرته أم لا( ). وقد سار رضي الله عنه بحزم في رقابته الإدارية لعماله وتابعهم بدقة، وكانت طريقة عمر في الإدارة إطلاق الحرية للعامل في الشؤون المحلية وتقييده في المسائل العامة ومراقبته في سلوكه وتصرفاته، وكان له جهاز سري، مربوط به لمراقبة أحوال الولاة والرعية، وقد بينت لنا المصادر التاريخية أن ما يشبه اليوم (المخابرات) كان موجوداً عند عمر فقد كان علمه: بمن نأى عنه من عماله بمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممس ومصبح، وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الناس إليه وأخصّهم( )، وكانت وسائل عمر في متابعتة لعماله متعددة منها:

1- طلب من الولاة دخول المدينة نهاراً:
كان رضي الله عنه يطلب من ولاته – القادمين إلى المدينة – أن يدخلوها نهاراً، ولا يدخلوها ليلاً، حتى يظهر ما يكون قد جاءوا به من أموال ومغانم فيسهل السؤال والحساب( ).

2- طلب الوفود من الولاة:
كان عمر رضي الله عنه يطلب من الولاة أن يرسلوا وفوداً من أهل البلاد ليسألهم عن بلادهم، وعن الخراج المفروض عليهم ليتأكد بذلك من عدم ظلمهم، ويطلب شهادتهم فكان يخرج إليه مع خراج الكوفة عشرة من أهلها، ومع خراج البصرة مثلهم، فإذا حضروا أمامه شهدوا بالله أنه مال طيب، ما فيه ظلم مسلم
ولا معاهد( )، وكان هذا الإجراء كفيلاً بمنع الولاة من ظلم الناس إذ لو حدث هذا لرفعه هؤلاء الموفدون إلى أمير المؤمنين وأخبروه به، كما أن عمر في الغالب كان يقوم بمناقشة هؤلاء الموفدين وسؤالهم عن بلادهم وعن ولا تهم وسلوكهم معهم( ).

3- رسائل البريد:
كان عمر رضي الله عنه يرسل البريد إلى الولاة في الأمصار فقد كان يأمر عامل البريد عندما يريد العودة إلى المدينة أن ينادي في الناس من الذي يريد إرسال رسالة إلى أمير المؤمنين؟ حتى يحملها إليه دون تدخل من والي البلد، وكان صاحب البريد نفسه لا يعلم شيئاً من هذه الرسائل، وبالتالي يكون المجال مفتوحاً أمام الناس لرفع أي شكوى أو مظلمة إلى عمر نفسه دون أن يعلم الوالي أو رجاله بذلك، وحينما يصل حامل الرسائل إلى عمر ينثر ما معه من صحف ويقرأها عمر ويرى ما فيها( ).

4- المفتش العام (محمد بن مسلمة):
كان محمد بن مسلمة الأنصاري يستعين به الفاروق في متابعة الولاة ومحاسبتهم والتأكد من الشكاوى التي تأتي ضدهم، فكان موقع محمد بن مسلمة كالمفتش العام في دولة الخلافة، فكان يتحرى على حقائق أداء الولاة لأعمالهم، ومحاسبة المقصرين منهم، فقد أرسله عمر لمراقبة ومحاسبة كبار الولاة( )، والتحقيق في الشكايات ومقابلة الناس والسماع منهم ونقل آرائهم عن ولاتهم إلى عمر مباشرة، وكان مع محمد بن مسلمة أعوان.

5- موسم الحج:
كان موسم الحج فرصة لعمر ليستقي أخبار رعيته وولاته، فجعله موسماً للمراجعة والمحاسبة واستطلاع الآراء في شتى الأنحاء؛ فيجتمع فيه أصحاب الشكايات والمظالم، ويفد فيه الرقباء الذين كان عمر يبثهم في أرجاء دولته لمراقبة العمال والولاة ويأتي العمال أنفسهم لتقديم كشف الحساب عن أعمالهم، فكان موسم الحج ((جمعية عمومية كأرقى ما تكون الجمعيات العمومية في عصر من العصور( )، وكان عمر يلخص في موسم الحج واجبات عماله أمام الرعية ثم يقول: فمن فعل به غير ذلك فليقم )) فما قام من أهل الموسم – آنذاك – أحد إلا رجل
واحد – مما يدل على عدالة هؤلاء الولاة ورضا الرعية عنهم – فقال ذلك الرجل: إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط؛ فسأل عمر العامل فلم يجد عنده جواباً، فقال للرجل قم فاقتص منه فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر، ويكون سُنَّة يأخذ بها بعدك، فقال عمر: أنا لا أقيد
– أي اقتص – وقد رأيت رسول الله ? يقيد من نفسه؟ فقال عمرو: فدعنا فلنرضه، فقال: دونكم فأرضوه، فافتدى العامل من الرجل بمائتي دينار، كل سوط بدينارين( ).

6- جولة تفتيشية على الأقاليم:
كان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصياً لمراقبة العمال وتفقد أحوال الرعية، والاطمئنان على أمور الدولة المترامية، قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يدفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا( )، وقد طبق عمر شيئاً من هذا خصوصاً في ولاية الشام حيث سار إليها عدة مرات وتفقد أحوالها ودخل بيوت ولاتها وأمرائها( )، ليعرف أحوالهم عن كثب فقد دخل دار أبي عبيدة وشاهد حالته وتقشفه ودار بينه وبين امرأة أبي عبيدة حوار شديد ألقت فيه اللوم على عمر نتيجة ما يعيشون فيه من تقشف، كما زار دار خالد بن الوليد ولم يجد عنده شيئاً يلفت النظر سوى أسلحته التي كان منشغلاً بإصلاحها، وقد كان عمر أثناء دخوله على هؤلاء يدخل فجأة إذ يصحبه رجل فيطرق الباب على الوالي فيتكلم الرجل ويطلب الأذن بالدخول له ولمن معه دون أن يعلموا أنه عمر وحينما يدخل عمر إلى الدار يقوم بالتمحيص فيها والاطلاع على ما فيها من أثاث( )، وقد سمع عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان ينوع في طعامه،فانتظر حتى إذا حان وقت عشاء يزيد استأذن عليه عمر، فلما رأى طعامه نهاه عن الإسراف في الطعام( )، ولم يكتف عمر بالمراقبة عن طريق هذه الزيارات بل عمد إلى طريقة أخرى وهي إرسال كميات من الأموال إلى الولاة وإرسال كميات من الأموال إلى الولاة وإرسال من يراقبهم حتى يعرف كيف تصرفوا فيها فأرسل إلى أبي عبيدة بخمسمائة دينار فعمد إليها أبو عبيدة فقسمها كلها فكانت امرأته تقول: والله لقد كان ضرر دخول الدنانير علينا أكثر من نفعها ثم إن أبا عبيدة عمد إلى خلق ثوب كنا نصلي فيه فيشققه، ثم جعل يصبّر فيه من تلك الدنانير الذهب ويبعث بها إلى مساكين، فقسمها عليهم حتى فنيت( )، وعمل عمر الشيء نفسه مع ولاة آخرين في سفرته تلك إلى الشام، ولم يكتف عمر بمراقبته للعمال أثناء سفره، بل كان يستقدمهم إلى المدينة ثم يوكل من يراقبهم في أكلهم وشربهم، ولباسهم، ويفعل ذلك بنفسه أيضاً( ).

7- الأرشيف أو الملفات الخاصة بأعمال الخلافة:
كان عمر رضي الله عنه حريصاً كل الحرص على حفظ الأوراق الخاصة بالولايات وبالخلافة عموماً وكان أكثر حرصه على حفظ المعاهدات التي يجريها الولاة مع أهل البلاد المفتوحة منعاً لظلم أحد، فقد ورد أنه كان هناك تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، ويمكننا أن نطلق على هذا التابوت (الأرشيف) أو الملفات الخاصة بأعمال الخلافة، ولعل الولاة أيضاً كانوا يحتفظون بأوراقهم ومكاتباتهم للعودة إليها عند الحاجة وحتى لا تلتبس عليهم الأمور( ).

ثانياً: شكاوى من الرعية في الولاة:
كان عمر رضي الله عنه يحقق بنفسه في شكاوى الرعية ضد ولاتهم وكان يحرص على استيضاح الأمر، والتحقيق الدقيق واستشارة أصحاب الرأي والشورى الذين كانوا من حوله، ثم كانت تأتي أوامره في تنفيذ الجزاء والعقوبة على من يستحق سواء أكان عاملاً أم من الرعية( )، وهذه بعض الشكاوى ضد الولاة وكيف تعامل عمر معها رضي الله عنه:
1- شكوى أهل الكوفة في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
اجتمع نفر من أهل الكوفة بزعامة الجراح بن سنان الأسدي فشكوا أميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر، وذلك في حال اجتماع المجوس في نهاوند لغزو المسلمين، فلم يشغلهم ما داهم المسلمين في ذلك، ولقد كان سعد عادلاً رحيماً بالرعية قوياً حازماً على أهل الباطل والشقاق، عطوفاً على أهل الحق والطاعة، ومع ذلك شغب عليه هؤلاء القوم ممن لا يطيقون حكم الحق ويريدون أن يحققوا شيئاً من أهوائهم، وقد وقتوا لشكواهم وقتاً رأوا أنه أدعى لسماع أمير المؤمنين منهم حيث كان المسلمون مقبلين على معركة مصيرية تستدعي اتفاق كلمة المسلمين وتظافر جهودهم في مواجهتها، وحيث كانوا يعلمون اهتمام عمر الشديد باجتماع كلمة المسلمين دائماً، وخاصة في مثل تلك الظروف، فرجوا أن يفوزوا ببغيتهم، وقد استجاب أمير المؤمنين لطلبهم في التحقيق في أمر شكواهم مع علمه بأنهم أهل هوى وشر، ولم يكتمهم اعتقاده فيهم، بل صرّح لهم بذلك، وبين لهم أن اعتقاده بظلمهم لواليهم وتزويدهم الحقائق لا يمنعه من التحقيق في أمرهم، واستدل على سوء مقصدهم بتوقيتهم السيء حيث قال لهم: إن الدليل على
ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر وقد استعدّ لكم من استعدوا،، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزلوا بكم( )، فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للأعاجم والأعاجم في الاجتماع، وكان محمد بن مسلمة هو صاحب العمال الذي يقتص آثار من شُكي زمان عمر فقدم محمد على سعد ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إلى نهاوند، فطوَّف به على مساجد أهل الكوفة، لا يتعرض للمسألة عنه في السر، وليست المسألة في السر من شانهم إذ ذاك( ).
وفي هذا بيان لمنهج الصحابة رضي الله عنهم في التحقيق في قضايا الخلاف التي تجري بين المسؤولين ومن تحت ولايتهم، فالتحقيق يتم في العلن، وذلك بحضور المسؤول والذين هو مسؤول عنهم وكان لا يقف على مسجد فيسألهم عن سعد إلا قالوا: لا نعلم إلا خيراً ولا نشتهي به بدلاً، ولا نقول فيه ولا نعين عليه، إلا من مالأ الجراح بن سنان وأصحابه فإنهم كانوا يسكتون لا يقولون سوءاً، ولا يسوغ لهم، ويتعمَّدون ترك الثناء، حتى انتهوا إلى بني عبس. فقال محمد: أنشد بالله رجلاً يعلم حقاً إلا قال، قال أسامة بن قتادة: اللهم إن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية، فقال سعد: اللهم إن كان قالها كذباً ورئاء وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرِّضه لمضلات الفتن، فعمي واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يحبسها، فإذا عثر عليه، قال: دعوة سعد الرجل المبارك. قال: ثم أقبل – يعني سعد – على الدعاء على النفر، فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشراً وبطراً وكذباً فاجهد بلاءهم، فجُهد بلاؤهم، فقطع الجراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن علي ليغتاله بساباط، وشُدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء – يعني الضرب – بنعال السيوف – يعني بأعقابها – هذا وإن في هذا الخبر نموذجاً من معية الله تعالى لاوليائه المتقين حيث استجاب الله تعالى دعوة سعد على من ظلموه فأصيبوا جميعاً بما دعا عليهم، وإن في استجابة الله تعالى دعاء سعد وأمثاله لوناً من العناية الإلهية بأولياء الله المتقين، فكم خاف المبطلون من هذا السلاح الخفي الذي لا يملكون بكل وسائلهم المادية مقاومته ولا الحدَ منه، وكون هؤلاء الذين دعا عليهم سعد خُتم لهم بالخاتمة السيئة دليل على تمكن الهوى والشر من نفوسهم حتى أدى بهم ذلك إلى المصير السيء، وقد دافع سعد عن نفسه فقال: إني لأول رجل أهرق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي – يعني حينما قال له يوم أحد: إرم فداك أبي وأمي – ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أن أصلي وأن الصيد يلهيني، وخرج محمد بن مسلمة به وبهم إلى عمر حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: يا سعد ويحك كيف تصلي؟ قال: أطيل الأُوليين وأحذف الأخريين، فقال هكذا الظن بك، ثم قال عمر رضي الله عنه: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بيِّنا، ثم قال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأقره واستعمله( ) وقول عمر رضي الله عنه: لولا الاحتياط كان سبيلهم بينا يعني قد اتضح أمرهم، وأنهم ظالمون جاهلون، وظهرت براءة سعد مما نسبوه إليه، ولكن الاحتياط لأمر الأمة يقتضي درء الفتن وإماتتها وهي في مهدها قبل أن تستفحل فتسبَّب الشقاق والفرقة وربما القتال، وإذا كان المسئول المدَّعى عليه بريئاً مما نُسب إليه، فإن ذلك لا يضره بشيء، وقد برئت ساحته مما نسب إليه من التهمة، وقد كانوا يفهمون الولاية مغرماً لا مغنماً، وتكليفاً يرجون به ثواب الله تعالى، فالولاية على أمر من أمور المسلمين نوع من الأعمال الصالحة لمن اتقى الله تعالى وأراد رضوانه والدار الآخرة، فإذا تحول هذا العمل إلى مصدر للفتنة فإن الحكمة تقتضي عدم الاستمرار فيه، كما هو الحال في هذه الواقعة، ولكل حادث حديث وهذا هو ما أقدم عليه عمر حينما أعفى سعداً من العمل، وكلّف نائبه الذي هو موضع ثقة سعد( ).
هذا وقد استبقى عمر سعداً رضي الله عنهما في المدينة وأقر من استخلفه سعد على الكوفة بعده، وصار سعد من مستشاري عمر في المدينة( )، ثم جعله من الستة المرشحين للخلافة حين طعن ثم أوصى الخليفة من بعده بأن يستعمل سعداً (فإني لم أعزله عن سوء، وقد خشيت أن يلحقه من ذلك( ).
2- شكاوى ضد عمرو بن العاص والي مصر:
كانت مراقبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص صارمة وحازمة وكان الخليفة الفاروق يتدخل في شئون الولاية المختلفة وحتى عندما اتخذ عمرو بن العاص منبراً كتب إليه: أما بعد فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك فعزمت عليك إلا
ما كسرته( )، وكان عمرو بن العاص يخشى مراقبة عمر بن الخطاب ويعلم مدى حرصه على إقامة العدل بين الناس، وعلى إقامة الحدود الشرعية، فكان يبذل جهده حتى لا يصل إلى عمر من الأخبار إلا ما يسره ومن ذلك أن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ورجلاً آخر شربا شراباً دون أن يعلما أنه مسكر فسكرا، ثم إنهما جاءا إلى عمرو بن العاص يطلبان منه أن يقيم عليهما الحد فزجرهما عمرو وطردهما، فقال له عبد الرحمن: إن لم تفعل أخبرت أبي قال عمرو: فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر وعزلني، ثم إن عمرو جلدهما أمام الناس وحلق رأسيهما داخل بيته، وكان الأصل العقاب بالحلق مع الجلد في وقت واحد أمام الناس، فجاءه كتاب من عمر يعنفه على عدم حلقه أمام الناس، وكان فيه: تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك وقد عرفت أن هذا يخالفني، إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه( ).
وقد وجهت ضد عمرو بن العاص بعض الشكاوى أثناء ولايته بعضها من جنوده المسلمين، وبعضها من أهل البلاد من الأقباط، مما دعا عمر رضي الله عنه إلى استدعاء عمرو بن العاص عدة مرات، لمعاتبته بل وأحياناً لمعاقبته على ما بدر منه، ومن ذلك ما تقدم به أحد المصريين ضد ابن لعمرو بن العاص ضربه بالسوط، مما جعل عمر بن الخطاب يستدعي عمرو وابنه ثم يأمر المصري بالقصاص من
ابن عمرو بن العاص ويقول له: لو ضربت أباه عمرو لما حلنا بينك وبين ذلك، والتفت عمر إلى عمرو بن العاص وقال قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً( )، وكذلك يدخل في هذا الباب ما تقدم به أحد الجنود من أن عمرو بن العاص اتهمه بالنفاق وكتب معه عمر إلى عمرو بن العاص أمراً بأن يجلس عمرو أمام الناس فيجلده إذا ثبت صدق ما ادعاه بشهادة شهود، وقد ثبت بالشهادة أن عمرو رماه بالنفاق، فحاول بعض الناس أن يمنع الرجل من ضرب عمرو وأن يدفع له الأرش مقابل الضرب، ولكنه رفض ذلك، وعندما قام على رأس عمرو ليضربه سأله: هل يمنعني أحد من ضربك؟ فقال عمرو: لا فامض لما أمرت به، قال: فإني قد عفوت عنك( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:24 pm

- شكاوى ضد أبي موسى الأشعري والي البصرة:
عن جرير بن عبد الله البجلي أن رجلاً كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت، ونكاية، في العدو، فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعاً، فجلده أبو موسى عشرين سوطاً وحلقه، فجمع الرجل شعره ثم ترحل إلى عمر بن الخطاب حتى قدم عليه، فدخل على عمر بن الخطاب، قال جرير: وأنا أقرب الناس من عمر، فأدخل يده فاستخرج شعره ثم ضرب به صدر عمر ثم قال: أما والله لولا النار، فقال عمر: صدق والله لولا النار فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية، فأخبره بأمره، وقال ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه، فقال عمر رضي الله عنه: لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا، فأحب إلي من جميع ما أفاء الله علينا، فكتب عمر إلى أبي موسى: السلام عليك أما بعد فإن فلاناً أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس، فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس، حتى يقتص منك وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس، فاقعد له في خلاء من الناس، حتى يقتص منك، فقدم الرجل، فقال له الناس: أعف عنه، فقال: لا والله لا أدعه لأحد من الناس، فلما قعد له أبو موسى ليقتص منه، رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قال: اللهم إني قد عفوت عنه( )، وعن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- قال: كنا مع عمر في مسير فأبصر رجلاً يسرع في سيره، فقال: إن هذا الرجل يريدنا، فأناخ ثم ذهب لحاجته، فجاء الرجل فبكى وبكى عمر –رضي الله عنه- وقال: ما شأنك؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني شربت الخمر، فضربني أبو موسى وسود وجهي، وطاف بي، ونهى الناس أن يجالسوني، فهممت أن آخذ سيفي فأضرب به أبا موسى، أو آتيك فتحولني إلى بلد لا أعرف فيه، أو ألحق بأرض الشرك، فبكى عمر –رضي الله عنه- وقال: ما يسرني أنك لحقت بأرض الشرك وأن لي كذا وكذا، وقال: إن كنت ممن شرب الخمر، فلقد شرب الناس الخمر في الجاهلية، ثم كتب إلى أبي موسى: إن فلاناً أتاني فذكر كذا وكذا، فإذا أتاك كتابي هذا فأمر الناس أن يجالسوه وأن يخالطوه، وإن تاب فاقبل شهادته، وكساه وأمر له بمائتي درهم( )، وجاء في رواية: إن فلاناً بن فلان التميمي أخبرني بكذا وكذا، وايم الله لئن عُدت لأسودنّ وجهك وليطاف بك في الناس، فإن أردت أن تعلم أحقًّ ما أقول فعد وأمُر الناس فليؤاكلوه وليجالسوه، وإن تاب فاقبلوا شهادته وكساه عمر رضي الله عنه حُلّة وحمله، وأعطاه مائتي درهم( )، وهذه القصة فيها حرص الفاروق على ألا يتعدى أحدٌ من عماله العقوبات الشرعية عند معاقبة العاصين( ).

4- شكوى أهل حمص ضد سعيد بن عامر:
قال خالد بن معدان: استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر الجُمحي، فلما قدم عمر حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه، وكان يقال لأهل حمص الكوفية الصغرى لشكايتهم العمال، قالوا: نشكوه أربعاً، لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: وعظيمة، وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال عظيمة وماذا؟ قالوا: يَغْنَط الغَنْطَة بين الأيام (أي يغمى عليه ويغيب عن حسه) فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللهم لا تفيّل رأيي فيه اليوم، وافتتح المحاكمة فقال لهم أمامه: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: ما تقول؟ قال: والله إن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم فقال: ما تشكون منه؟ قالوا:
لا يجيب أحداً بليل، قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل قال: وما تشكون منه؟ قالوا: إن له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجفّ ثم أدلكها ثم أخرج إليهم آخر النهار قال: ما تشكون منه، قالوا: يَغْنط الغنطة بين الأيام قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خُبيب الأنصاري بمكة وقد بضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعة فقالوا، أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال، والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً ? يشتاكُ شوكة ثم نادى يا محمد فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً فتصيبني تلك الغنطة فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيّل فراستي، فبعث إليه بألف دينار وقال: استعن بها على أمرك، ففرَّقها( ).

5- عزل من استهزأ بأحد أفراد الرعية:
قال قيس بن أبي حازم رحمه الله: استعمل عمر –رضي الله عنه- رجلاً من الأنصار فنزل بعظيم أهل الحيرة عمرو بن حيان بن بقيلة، فأمال عليه بالطعام والشراب
ما دعا به، فاحتبس الهزل( )، فدعا الرجل فمسح بلحيته، فركب إلى عمر –رضي الله عنه- فقال يا أمير المؤمنين، قد خدمت كسرى وقيصر فما أُتي إليّ ما أتي في ملكك، قال: وما ذاك؟ قال: نزل بي عاملك فلان فأمَلْنا عليه بالطعام والشراب، ما دعا به فاحتبس الهزل فدعاني فمسح بلحيتي، فأرسل إليه عمر –رضي الله عنه- فقال: هيه؟! أمال عليك بالطعام والشراب ما دعوت به، ثم مسحت بلحيته؟ والله لولا أن تكون سنة ما تركت في لحيتك طاقة إلا نتفتها، ولكن اذهب فوالله لا تلي لي عملاً أبداً( ).

ثالثاً: العقوبات التي نزلت بالولاة في عهد عمر رضي الله عنه:
نتيجة لمراقبة الفاروق لولاته لاحظ وجود بعض الأخطاء التي وقع فيها الولاة، فقام بتأديبهم ومعاقبتهم على هذه الأخطاء التي وقعوا فيها وقد اختلفت طرق تأديب الولاة حسب اختلاف الأحداث وحسب ما يراه الخليفة ومن أهم أساليب الولاة:

1- القود من الأمراء والاقتصاص منهم لو أخطأوا:
وقد كان عمر يقول: ألا وأني لم أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلمونكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذن لأقصنه( )، ولم يكتف عمر بالبيانات الرسمية التي تهدد الولاة وتمنعهم من الاعتداء على الناس بل إنه طبق ذلك عملياً، كما مر معنا فيمن اشتكى من أبي موسى الأشعري، واشتكى من عمرو بن العاص رضي الله عنهم( ).

2- عزل الوالي نتيجة وقوعه في الخطأ:
وقد قام الفاروق رضي الله عنه بعزل الولاة نتيجة وقوعهم في أخطاء لا يرتضيها، فقد عزل رضي الله عنه أحد الأمراء نتيجة تدخله فيما لا يعنيه في شئون أجناده حيث بعثه على جيش، فلما نزل بهم قال: عزمت عليكم لما أخبرتموني بكل ذنب أذنبتموه فجعلوا يعترفون بذنوبهم فبلغ ذلك عمر فقال: ما له لا أم له، يعمد إلى ستر ستره الله فيهتكه؟ والله لا يعمل لي أبداً( )، كما غضب عمر من أحد الولاة حينما بلغه بعض شعره وهو يتمثل فيها بالخمر فعزله( ).

3- إتلاف شيء من مساكن الولاة:
وهو ما يقع فيه المخالفة، فقد كان عمر رضي الله عنه يحرص على أن تكون بيوت الولاة بدون أبواب، وبدون حجاب، فلما بلغه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قد وضع بابا لداره بعث إليه محمد بن مسلمة وأمره بإحراق ذلك الباب( )، وكان سبب ذلك الباب قرب الأسواق من داره، وكانت الأصوات مرتفعة بالسوق تؤذي سعداً، فوضع بابا يحجز عنه أصوات الناس بالسوق، وبلغ ذلك أسماع عمر عن دار سعد وبابه، وأن الناس يسمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة وأرسله إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك، فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطباً ثم أتى به القصر، فأحرق الباب( )، وروى ابن شبة: أن عمر استعمل مجاشع بن مسعود على عمل فبلغه أن امرأته تجدد بيوتها فكتب إليه عمر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى مجاشع بن مسعود سلام عليك أما بعد فقد بلغني أن الخضيراء تحدث بيوتها، فإذا أتاك كتابي هذا فعزمت عليك ألا تضعه من يدك حتى تهتك ستورها، قال: فأتاه الكتاب والقوم عنده جلوس فنظر في الكتاب، فعرف القوم أنه قد أتاه بشيء يكرهه، فأمسك الكتاب بيده ثم قال للقوم: انهضوا فنهضوا: والله ما يدرون إلى
ما ينهضهم، فانطلق بهم حتى أتى باب داره فدخل فلقيته امرأته فعرفت الشر في وجهه فقالت له: مالك؟ فقال إليك عني قد أرمقتني( )، فذهبت المرأة، وقال للقوم: ادخلوا، فدخل القوم، فقال: فليأخذ كل رجل منكم ما يليه من هذا النحو واهتكوا، قال فهتكوا جميعاً حتى ألقوها إلى الأرض والكتاب في يده لم يضعه بعد وفي أثناء زيارة عمر إلى الشام دعاه يزيد بن أبي سفيان إلى الطعام فلما دخل عمر البيت وجد فيه بعض الستائر، فأخذ عمر يقطعها ويقول: ويحك أتلبس الحيطان
ما لو ألبسته قوماً من الناس لسترهم من الحر والبرد( ).

3- التأديب بالضرب:
فقد استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث اشتهر عنه حمل الدرة، وضربه بها وقد ضرب بعض الولاة، بسبب حوادث اقترفوها، ففي أثناء زيارة عمر إلى الشام دخل على بعض ولاته فوجد عندهم بعض المتاع الزائد، فغضب عمر وأخذ يضربهم بالدرة( )، وفي أثناء زيارة عمر إلى الشام لقيه الأمراء، فكان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة، ثم خالد على الخيول، عليهم ثياب فاخرة لا تليق بالمجاهدين فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم، إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم مذ سنتين وبالله ولو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنها يلاقة وإن علينا السلاح، قال فنعم إذن( ).

4- خفض الرتبة من وال إلى راعي غنم:
وقد استعملها عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أحد ولاته، روى ابن شبة: أن عمر رضي الله عنه استعمل عياض بن غنم على الشام فبلغه أنه اتخذ حماماً واتخذ نوّاباً( )، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثاً، ثم أذن له ودعا بجبة صوف، فقال البس هذه، وأعطاه كنف الراعي وثلاثمائة شاة وقال انعق بها، فنعق بها فلما جازه هنيهة، قال: أقبل، فأقبل يسعى حتى أتاه، فقال: اصنع بكذا وكذا، اذهب فذهب، حتى إذا تباعد ناداه: يا عياض أقبل فلم يزل يردده حتى عرّقه في جبينه، قال أوردها علي يوم كذا وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر رضي الله عنه فقال انزع عليها فاستقى حتى ملأ الحوض فسقاها ثم قال: انعق بها، فإذا كان يوم كذا فأوردها فلم يزل يعمل به حتى مضى شهران أو ثلاثة، ثم دعاه فقال: هيه اتخذت نواباً واتخذت حماماً أتعود قال: لا قال: ارجع إلى عملك( )، وقد كانت نتيجة هذه العقوبة التأديبية أن أصبح عياض بعد ذلك من أفضل عمّال عمر رضي الله عنه( ).

5- مقاسمة الولاة أموالهم:
وكان تطبيق هذا النظام أمراً احتياطياً في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث شعر عمر بنمو الأموال لدى بعض الولاة فخشي أن يكون الولاة قد اكتسبوا شيئاً من هذه الأموال بسبب ولايتهم( ) وقد علق ابن تيمية على فعل عمر هذا فقال: وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقات والمزارعة، ونحو ذلك هو من نوع الهدية، ولهذا شاطر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من عماله من كان له فضل ودين، لا يتهم بخيانة وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك، لأنه كان إمام عدل، يقسم بالسوية ( ) وقد قام عمر رضي الله عنه بمشاطرة أموال عماله منهم، سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكان رضي الله عنه يكتب أموال عماله، إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك، وربما أخذه منهم( ) وقد قام أيضا بمشاطرة بعض أقارب الولاة لأموالهم، إذا
ما رأى مبرراً لذلك، فقد أخذ من أبي بكرة نصف ماله، فاعترض أبو بكرة قائلاً: إني لم آلِ لك عملاً؟ فقال عمر: ولكن أخاك على بيت المال وعشور الأبلة، فهو يقرضك المال تتجر به( ).

6- التوبيخ الشفوي والكتابي:
وقد قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه على معاتبة الأمراء على تصرفاتهم أثناء اجتماعهم به، حيث إنه عاتب عمرو بن العاص مرات، كما عاتب عياض بن غنم، وخالد بن الوليد وأبا موسى الأشعري وغيرهم من الأمراء( ) وأما المعاتبة الكتابية في خلافة عمر فهي كثيرة، منها: أنه كتب إلى أحد الولاة، وكان قدم عليه قوم فأعطى العرب وترك الموالي: أما بعد فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم والسلام( ).
ومن هذا كله نجد أن الولاة لم يكونوا بمنأى عن المحاسبة والتأديب بصور مختلفة، ولم تشهد البشرية مثيلاً لها في عدلها وجرأتها، مما جعل هذا العصر الراشدي بحق نموذجاً رفيعاً للحضارة الإسلامية بعد عصر الرسالة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام( ) هذا وقد كانت حرية النقاش وبحث المشاكل بين الخليفة وولاته مكفولة إلى أقصى ما يمكن تصوره من حرية النقاش، لا يرهب الوالي سلطان الخليفة وهذا مثال على ذلك: عندما قدم عمر على الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم فلما رأى معاوية عمر نزل من على صهوة جواده، ومشى إليه، وقال: السلام على أمير المؤمنين، فمضى عمر، ولم يرد عليه سلامه، ومعاوية يسرع خلف جمل عمر وكان معاوية سميناً، فلهث. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، أتعبت الرجل، فلو كلمته: فالتفت إليه عمر وقال يا معاوية، أأنت صاحب الموكب الذي أرى. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال عمر: مع شدة احتجابك ووقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال معاوية: نعم يا أمير المؤمنين. قال: لم ويحك؟ قال معاوية: لأننا ببلاد كثر بها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العُدة والعدد، استخف بنا، وهجم علينا! وأما الحجاب، فإننا نخاف من الابتذال وجرأة الرعية. وأنا بعد عاملك، إن استوقفتني وقفت، وإن نهيتني انتهيت يا أمير المؤمنين. قال عمر: ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه، إن كنت صادقاً فإنه رأى لبيب، وإن كنت كاذباً فإنها خدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك، وانصرف عنه( ).
ورغم شدة عمر على ولاته ودقته في محاسبتهم وإقدامه على عزل من تحوم حوله شبهة أو تثور في حقه شكاية ذات أثر، فإن رابطة قوية من الحب والولاء كانت تربطه بولاته الذين كانوا يثقون ثقة مطلقة في إخلاص خليفتهم وسلامة مقاصده وسياسته وتجرده وعدله، لقد كان عمر إذا غابت عنه أخبار بعض قادته في ساحات الجهاد يكاد يقتله القلق ويستبد به الخوف والشفقة عليهم، وكان في بعض الحروب الكبرى يخرج بنفسه يتنطّس الأخبار، ويتحسس الأنباء علّه يطمئن عليهم، وفي حالات أخرى كان يلتقي بهم فنجد أمارات الحب العميق بينهم،فلما سار عمر لفتح بيت المقدس وانتهى إلى الجابية لقيه قائداه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فوافقا عمر راكباً، فقبّلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما( ).

رابعاً: قصة عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه:
وجد أعداء الإسلام في سعة خيالهم وشدة حقدهم مجالاً واسعاً لتصيد الروايات التي تظهر صحابة رسول الله في مظهر مشين، فإذا لم يجدوا شفاء نفوسهم، اختلقوا ما ظنوه يجوز على عقول القارئين، لكي يصبح أساساً ثابتاً لما يتناقله الرواة وتسطره كتب المؤلفين وقد تعرَّض كل من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما لمفتريات أعداء الإسلام الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخهما المجيد ووقفوا كثيراً عند أسباب عزل عمر لخالد بن الوليد رضي الله عنهم وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين وأتوا بروايات لا تقوم على أساس عند المناقشة، ولا تقوم على البرهان أمام التحقيق العلمي النزيه( ) وإليك قصة عزل خالد بن الوليد على حقيقتها بدون لف أو تزوير للحقائق، فقد مرّ عزل خالد بن الوليد بمرحلتين، وكان لهذا العزل أسباب موضوعية.
1- العزل الأول:
عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد في المرة الأولى عن القيادة العامة وإمارة الأمراء بالشام، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشر من الهجرة غداة تولي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصديق عن الفاروق في التعامل مع الأمراء والولاة، فالصديق كان من سنته مع عماله وأمراء عمله أن يترك لهم حرية ا لتصرف كاملة في حدود النظام العام للدولة مشروطاً ذلك بتحقيق العدل كاملاً بين الأفراد والجماعات، ثم لا يبالي أن يكون لواء العدل منشوراً بيده أو بيد عماله وولاته، فللوالي حق يستمده من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته دون رجوع في الجزئيات إلى أمر الخليفة، وكان أبو بكر لا يرى أن يكسر على الولاة سلطانهم في مال أو غيره ما دام العدل قائماً في رعيتهم( )، وكان الفاروق قد أشار على الصديق بأن يكتب لخالد رضي الله عنهم جميعاً: أن لا يعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمره، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك، فأشار عليه بعزله( )، ولكنّ الصديق أقرّ خالداً على عمله( )، ولما تولى الفاروق الخلافة، كان يرى أنه يجب على الخليفة أن يحدد لأمرائه وولاته طريقة سيرهم في حكم ولاياتهم ويحتم عليهم أن يردوا إليه ما يحدث حتى يكون هو الذي ينظر فيه ثم يأمرهم بأمره، وعليهم التنفيذ، لأنه يرى أن الخليفة مسؤول عن عمله وعن عمل ولاته في الرعية مسؤولية لا يرفعها عنه أنه اجتهد في اختيار الوالي. فلما تولى الخلافة خطب الناس، فقال: إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني بعد صاحبي فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن الجزء والأمانة، ولئن أحسن الولاة لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلن بهم( )، وكان يقول: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟( )، فعندما تولى الفاروق الخلافة أراد أن يعدل بولاة أبي بكر رضي الله عنه إلى منهجه وسيرته، فرضي بعضهم وأبى آخرون وكان ممن أبى عليه ذلك خالد بن الوليد( )، فعن مالك بن أنس، أن عمر لما ولي الخلافة كتب إلى خالد ألا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك، فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه، فعزله( )، ثم كان يدعوه إلى العمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما شاء فيأبى عليه( ).
فعزل عمر خالداً من وجهة سياسة الحكم وحق الحاكم في تصريف شؤون الدولة ومسؤوليته عنها، وطبيعي أن يقع كل يوم مثله في الحياة، ولا يبدو فيه شيء غريب يحتاج إلى بيان أسباب تتجاذبها روايات وآراء، وميول وأهواء ونزعات، فعمر بن الخطاب خليفة المسلمين في عصر كان الناس فيه ناساً لا يزالون يستروحون روح النبوة له من الحقوق الأولية أن يختار من الولاة والقادة من ينسجم معه في سياسته ومذهبه في الحكم ليعمل في سلطانه ما دامت الأمة غنية بالكفايات الراجحة، فليس لعامل ولا قائد أن يتأبد في منصبه، ولا سيما إذا اختلفت مناهج السياسة بين الحاكم والولاة ما كان هناك من يغني غناءه ويجزي عنه، وقد أثبت الواقع التاريخي أن عمر رضي الله عنه كان موفقاً أتم التوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحاً منقطع النظير، فعزل وولى، فلم يكن من ولاّه أقل كفاية ممن عزله، ومرد ذلك لروح التربية الإسلامية التي قامت على أن تضمن دائماً للأمة رصيداً مذخوراً من البطولة والكفاية السياسية الفاضلة( ) وقد استقبل خالد هذا العزل بدون اعتراض وظل رضي الله عنه تحت قيادة أبي عبيدة رضي الله عنه حتى فتح الله عليه قنسرين فولاه أبو عبيدة عليها، وكتب إلى أمير المؤمنين يصف له الفتح وبلاء خالد فيه فقال عمر قولته المشهورة: أمّر خالد نفسه، رحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني( )، ويعني عمر بمقولته هذه أن خالداً فيما أتى به من أفانين الشجاعة وضروب البطولة قد وضع نفسه في موضعها الذي ألفته في المواقع الخطيرة من الإقدام والمخاطرة، وكأنما يعني عمر بذلك أن استمساك
أبي بكر بخالد وعدم موافقته على عزله برغم الإلحاح عليه إنما كان عن يقين في مقدرة خالد وعبقريته العسكرية التي لا يغني غناءه فيها إلا آحاد الأفذاذ من أبطال الأمم( ).
هذا وقد عمل خالد تحت إمرة أبي عبيدة نحواً من أربع سنوات فلم يعرف عنه أنه اختلف عليه مرة واحدة، ولا ينكر فضل أبي عبيدة وسمو أخلاقه في تحقيق وقع الحادث على خالد فقد كان لحفاوته به وعرفانه لقدره، وملازمته صحبته والأخذ بمشورته وإعظامه لآرائه وتقديمه في الوقائع التي حدثت بعد إمارته الجديدة، أحسن الأثر في صفاء قلبه صفاء جعله يصنع البطولات العسكرية النادرة وعمله في فتح دمشق وقنسرين وفحل شاهد صدق على روحه السامية التي قابل بها حادث العزل، وكان في حاليه سيف الله خالد بن الوليد( )، ويحفظ لنا التاريخ ما قاله
أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله: .. وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن أخوان وقوّام بأمر الله عز وجل، وما يضير الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ودنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما تعرض من الهلكة إلا من عصم الله عز وجل، وقليل ما هم( ) وعندما طلب أبو عبيدة من خالد أن ينفذ مهمة قتالية تحت إمرته، أجابه خالد قائلاً: أنا لها إن شاء الله تعالى وما كنت أنتظر إلا أن تأمرني، فقال أبو عبيدة: استحيت منك يا أبا سليمان. فقال خالد: والله لو أمر علي طفل صغير لأطيعن له، فكيف أخالفك وأنت أقدم مني إيماناً وأسبق إسلاماً، سبقت بإسلامك مع السابقين وأسرعت بإيمانك مع المسارعين، وسماك رسول الله بالأمين فكيف ألحقك وأنال درجتك والآن أشهدك أني قد جعلت نفسي حبساً في سبيل الله تعالى ولا أخالفك أبداً، ولا وليت إمارة بعدها أبداً ولم يكتف خالد بذلك فحسب بل اتبع قوله بالفعل وقام على الفور بتنفيذ المهمة المطلوبة منه( )، ويظهر بوضوح من قول خالد وتصرفه هذا، أن الوازع الديني والأخلاقي كان مهيمناً على تصرفات خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهم وقد بقي خالد محافظاً على مبدأ طاعة الخليفة والوالي بالرغم من أن حالته الشخصية قد تغيرت من حاكم إلى محكوم بسبب عزله عن قيادة الجيوش( ).
إن عزل خالد في هذه المرة (الأولى)، لم يكن عن شك من الخليفة ولا عن ضغائن جاهلية، ولا عن اتهامه بانتهاك حرمات الشريعة ولا عن طعن في تقوى وعدل خالد، ولكن كان هناك منهجان لرجلين عظيمين، وشخصيتين قويتين كان يرى كل منهما ضرورة تطبيق منهجه، فإذ كان لابد لأحدهما أن يتنحى فلابد أن يتنحى أمير الجيوش لأمير المؤمنين؛ من غير عناد ولا حقد وضغينة( ).
إن من توفيق الله تعالى للفاروق تولية أبي عبيدة رضي الله عنهم لجيوش الشام، فذلك الميدان بعد معركة اليرموك كان يحتاج إلى المسالمة واستلال الأحقاد، وتضميد الجراح وتقريب القلوب فأبو عبيدة رضي الله عنه يسرع إلى المسالمة إذا فتحت أبوابها ولا يبطئ عن الحرب إذا وجبت عليه أسبابها، فإن كانت بالمسالمة جدوى فذاك وإلا فالاستعداد للقتال على أهبته، وقد كان أبناء الأمصار الشامية يتسامعون بحلم أبي عبيدة فيقبلون على التسليم إليه ويؤثرون خطابهم له على غيره، فولاية أبي عبيدة سنة عمرية وكانت ولايته للشام في تلك المرحلة أصلح الولايات لها( ).

2- العزل الثاني:
وفي (قنسرين) جاء العزل الثاني لخالد، وذلك في السنة السابعة عشرة( )، فقد بلغ أمير المؤمنين أن خالداً وعياض بن غنم أدربا في بلاد الروم وتوغلا في دروبهما ورجعا بغنائم عظيمة، وأن رجالاً من أهل الآفاق قصدوا خالداً لمعروفه منهم الأشعث بن قيس الكندي فأجازه خالد بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله( )، فكتب عمر إلى قائده العام أبي عبيدة يأمره بالتحقيق مع خالد في مصدر المال الذي أجاز منه الأشعث تلك الإجازة الغامرة، وعزله عن العمل في الجيش إطلاقاً واستقدمه المدينة، وتمّ استجواب خالد وقد تم استجواب خالد بحضور أبي عبيدة وترك بريد الخلافة يتولى التحقيق وترك إلى مولى أبي بكر يقوم بالتنفيذ، وانتهى الأمر ببراءة خالد أن يكون مدّ يده إلى غنائم المسلمين فأجاز منها بعشر آلاف( ) ولما علم خالد بعزله ودّع أهل الشام، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إظهار أسفه على هذا العزل الذي فرق بين القائد وجنوده أن قال للناس: إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية( )، وعسلاً عزلني فقام إليه رجل فقال: اصبر أيها الأمير، فإنها الفتنة فقال: خالد: أما
وابن الخطاب حي فلا( )، وهذا لون من الإيمان القاهر الغلاب، لم يرزقه إلا المصطفون من أخصاء أصحاب محمد ?: فأية قوة روحية سيطرت على أعصاب خالد في الموقف الخطير؟ وأي إلهام ألقي على لسان خالد ذلك الرد الهادئ الحكيم( ).
سكن الناس وهدأت نفوسهم بعد أن سمعوا كلمة خالد في توطيد قواعد الخلافة العمرية، وعرفوا أن قائدهم المعزول ليس من طراز الرجال الذين يبنون عروش عظمتهم على أشلاء الفتن والثورات الهدّامة وإنما هو من أولئك الرجال الذين خلقوا للبناء والتشييد، فإن أرادتهم الحياة على هدم ما بنوا تساموا بأنفسهم أن يذلها الغرور المفتون( ).
ورحل خالد إلى المدينة فقدمها حتى لقي أمير المؤمنين، فقال عمر متمتلاً:

صنعت فلم يصنع كصنعك صانع
وما يصنع الأقوام فالله يَصنعُ( )

وقال خالد لعمر: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مُجمل
يا عمر، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسُّهمان، ما زاد على الستين ألفاً فلك، فقوم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفاً، فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد، والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء( )، وكتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالداً عن سُخطة
ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الصحابه رضوان الله عليهم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 4انتقل الى الصفحة : 1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» القاب الصحابه رضوان الله عليهم
» سيرة مختصرة لبعض الصحابه رضوان الله عليهم
» القاب الصحابه
» موسوعة سيرة الصحابه
» كل شي عن رسول الله (صلى الله علية وسلم) من مولدة وحتى وفا ته موسوعة كاملة { ارجوا التثبيت >>

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كل العرب انفو الاخباري :: المنتدى الاسلامي :: قصص الرسل و الانبياء-
انتقل الى: