النبي باكيا ... موآقف وعبر ..
بسم الله الرحمن الرحيم
النبي باكيا ... موآقف وعبر ..
البكاء فضيلة عند رؤية التقصير أو خوف سوء المصير, وهو محمدة إذا تذكر العبد ربه وخاف ذنوبه.
- مدح الله رسله بالبكاء فقال: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}. (58) سورة مريم
- ووصف أوليائه الصالحين قائلاً : {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}. (109) سورة الإسراء
- ولام أعدائه على القسوة, والغلظة فقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ*وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ}. (59-60) سورة النجم
كانت هذه المحاضرة لنعلم أن الدمعة لها ميزان في ديننا,ولأن الدمعة من خشية الله باب أجر,وليسأل كل منا نفسه: متى كانت آخر دمعة بكاها من خشية الله؟ لنقول كما قال السلف: (هيا بنا نؤمن ساعة).
اليوم سنقف مع سيد الخاشعين لرب العالمين وإمام الخائفين من مالك يوم الدين هو خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم,واليوم سنقف معه صلى الله عليه وسلم باكياً فقد كان بأبي هو وأمي ندي الجفن,سريع العبرة, سخي الدمع,رقيق القلب,تنطلق دمعته في صدق وطهر,ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات, بل كان بكاؤه يترك في قلوب أصحابه آثاراً من التربية والإقتداء والصلاح ما لا تتركه الخطب البليغة والمواعظ المؤثرة, فينظرون إليه صلى الله عليه وسلم ودموعه على المنبر تذرف ولصدره أزيز,ولصوته أزيم حينها ماذا يحدث؟!
يتحول المسجد إلى بكاء ودموع,كل ينكس رأسه, ويترك التعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي لا تمحوه الأيام ولا تنسيه الليالي.
ولماذا هذا الأثر؟
لأنه صلى الله عليه وسلم يبكي من قلب ملأه الخوف من الله,ومن نفس عمرها حب الله,فتكاد دموعه تتحدث للناس ويكاد يكون بكاؤه أبلغ من كل موعظة,وأفصح من كل كلمة.
وكان بكاؤه وندمه وأسفه في مرضاة ربه ,وكان تبسمه وضحكه وسروره في طاعة خالقه.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالهلوع الجزوع ,الذي يأسف على فوات الحظوظ الدنيوية؛لأن الدنيا أقل وأرخص من أن يبكى عليها.
- ذاك هو صلى الله عليه وسلم ,ومن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
- أولياء الله تعالى هم الذين يبكون رهبة ,وشوقاً إليه إذا سمعوا آياته تتلى عليهم.
لماذا ؟
لأنهم يعرفون معاني كلامه تعالى فتقشعر منهم الجلود,وتلين القلوب,ثم تذرف العيون إجلالاً, بل تعظيماً وإنابة وخشوعاً وإخباتاً, قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}(107-109) سورة الإسراء,وجاء في تفسير الآية عند أبن كثير (خشوعاً) أي (تسليماً) , إذن البكاء صفة أولي العلم والخشية.
الخشية أخص من الخوف:
فالخشية خوف يشوبه تعظيم يكون غالباً عن علم بما يخشى وإجلال,بمعنى أنها تكون للعلماء العارفين بالله ,ونجد لها تأثير مباشر وفوري على السلوك,لذلك قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء }. (28) سورة فاطر
الخوف يكون لعامة المؤمنين:
وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية ,لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه الألباني رحمهما الله: ( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
قال الحافظ:"والمراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه والأحوال التي تقع عند النزاع والموت وفي القبر ويوم القيامة,ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في المقام واضحة والمراد به التخويف".
والبكاء الذي يورث الإنابة صفة لمن اختارهم الله عز وجل واصطفاهم,يقول تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}. (58) سورة مريم
كما أن البكاء من خشية الله:
§ دليل على صلاح العبد واستقامته.
§ موصل لمحبة الله.
§ سمة للخاشعين.
يقول زيد بن ميسرة:"بكاء من خشية الله فذلك الذي تطفئ الدمعة منها أمثال البحور من النار".
ألم يقل صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع,ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم).رواه أحمد وصححه الألباني رحمهما الله
ولماذا لا يلج النار؟يقول المباركفوري في تحفة الأحوذي:"فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتاب المعصية",ومن يبكي من خشية الله يغلب عليه الخوف منه,وذلك يؤثر في سلوكه فيصبح بعيداً عن المعاصي قريب من كل طاعة,حتى لو أذنب يسرع في العودة إلى الله,ومن يبكي من خشية الله يتولد في قلبه الذل والانكسار والرقة والخشوع,ومن يكون كذلك هل يغبنه الله تعالى وتمسه النار؟ اللهم لا.
كان محمد بن المنكدر إذا بكى مسح وجهه ولحيته من دموعه ويقول:"بلغني أن النار لا تأكل موضعاً مسته الدموع".
وأغلى دمعة تلك التي تكون في الخلوة؛لأنها صادقة يحذوها الإخلاص لله تعالى,فالبداية خلوة بالله عزوجل,ثم إقرار بالذنب واعتراف بالجرم ,وخلوة من الناس وخلوة بالعمل,فتضرع واستغفار وتوبة وانكسار,فمن يعش هذه الحالة لن تتأخر دمعته؛ بل تنساب الدموع بقدر ما تمكن الذكر من القلب.
وما النتيجة؟
يظله الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله,وكفى بذلك مكرمة للبكائين,فقد جاء في الحديث
سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله,وذكر منهم ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أثناء تعليقه على هذا الحديث:"إذا ذكرت الله فاذكره خالي القلب,لا تفكر في شيء ,إن فكرت في شيء لم يحصل لك البكاء من خشية الله أو الشوق إليه؛لأنه لا يمكن أن يبكي الإنسان وقلبه مشغول بشيء آخر,ولهذا قال:ذكر الله خالياً,يعني خالياً مما سوى الله,خالي الجسم أيضاً ليس عنده أحد حتى لا يكون بكاؤه رياء وسمعة ,فهو مخلص حاضر القلب".
أنواع البكاء:
قسم الإمام ابن القيم رحمه الله البكاء على عدة أقسام:
1- بكاء الرحمة والرقة.
2- بكاء الخوف والخشية.
3- بكاء المحبة والشوق.
4- بكاء الفرح والسرور.
5- بكاء الحزن: ويكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب.
6- بكاء الاعتراض: وهو المصحوب بحركات وأصوات تدل على الاعتراض وأًصوات تدل على الاعتراض وهو المحرم لحديث
ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية).حديث صحيح
7- بكاء الخوف من حوادث الدنيا؛وهو يولد المرض والاكتئاب.
8- بكاء النفاق: وهو أن تدمع العين والقلب قاس,فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلباً.
9- التباكي: وهو ما كان مستدعى من قوله تعالى: {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ}.(16) سورة يوسف
- والدمع بلا صوت يسمى في اللغة بُكى ,وما كان معه صوت بكاء.
هيا بنا نؤمن ساعة مع دمعاته صلى الله عليه وسلم ,وبعض المواقف التي بكى فيها:
الموقف الأول:يوم الفرقان:
يوم الفرقان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يبكي.
هذا الموقف يقول فيه لنا صلى الله عليه وسلم : إلى الله,فالخير بيديه,والشكوى إليه,فهو آمان الخائفين, قال تعالى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} .(50) سورة الذاريات
نبدأ بهذا الموقف حتى لا ننساه,ولنحفظه حفظاً وليحفر في الذاكرة.
لماذا؟
لأن أقرب باب يدخل منه العبد على الله هو: ( الافتقار الصرف,دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت إلى سويدائه فانصدع).
ففي يوم بدر جاءت قريش بجيش من خيلها,وجيش من خيلائها,جاءت برؤوسها يسيرون في غابة أشجارها السيوف والرماح ألف من المقاتلين خرجوا بطراً ورئاء الناس,وجاء صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في 300رجل معهم فرسين وجمال يتعاقب الثلاثة والأربعة والخمسة على الواحد منها.
ونام الصحابة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح,بات يصلي إلى جذع شجرة ويكرر ويكثر من قول
(يا حي يا قيوم)
حتى أصبح الصباح وتراءى الجمعان وجاءت قريش فاستقبل صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فيجعل يهتف بربه:
(اللهم أنجز لي ما وعدتني ,اللهم آتني ما وعدتني,اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض),
وما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط ردائه فأتاه أبو بكر فأخذ ردائه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه, وقال: يا نبي الله كفاك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله تعالى:
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ}. (9) سورة الأنفال
الله أكبر موقف يخشع فيه القلب وتهتم له النفس ويستيقظ له الضمير,وقف صلى الله عليه وسلم وكله رهبة ورغبة وخشوع لماذا؟أمن أجل دنيا زائلة؟ لا والله إنه لنصرة دين الله ,لا لنفسه ولا لهواه ,ومن كان كذلك كان خليقاً بأن ينصره الله.
الفوائد من هذا الموقف:
1- لا بد لنا من مراجعة الإيمان في قلوبنا,وعبوديتنا لله تعالى...لماذا؟
- لأنه بقدر الإيمان تكون المدافعة ,يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا }.(38) سورة الحـج
- بقدر العبودية تكون الكفاية,يقول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}. (36) سورة الزمر
- بقدر الإحسان تكون المعية,يقول الله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. (69) سورة العنكبوت
أمور دقيقة في قلوب العباد لا يعلمها إلا الله وحده,وعليها تترتب النتائج من النصر والتمكين.
2- اللجوء إلى الله تعالى وقت الشدة والأزمات شأن الأنبياء والصالحين...لماذا؟
- لأن الله هو الذي بيده الضر والنفع ,فمن لجأ إليه فقد لجأ إلى ركن متين,قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } (17) سورة الأنعام,وقال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ }. (62) سورة النمل
- لأن الأمر لله عز وجل,قال تعالى: { وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ }. (109) سورة آل عمران
- لأنه جمع العزة والقوة,قال تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}. (25) سورة الأحزاب
- لأنه شديد المحال,فقد جاء عند ابن كثير:"شديد المحال شديد الأخذ".
- لأنه سبحانه له جنود السموات والأرض.
- لأنه تعالى يورث الأرض من يشاء من عباده,لذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخاف إلا الله ولا يلجأ إلا إليه.
3- من آداب الدعاء رفع الأيدي إلى السماء واستقبل القبلة.
4- هناك نقطة مهمة نغفل عنها,وهي الإلحاح في الدعاء,وهو مظنة الإجابة فها هو صلى الله عليه وسلم يهتف بربه ومازال يهتف حتى سقط ردائه عن منكبيه ,والإلحاح في الدعاء شيمة العبد المنكسر بين يدي رب العالمين,والله يحب العبد الذي يلح في الدعاء,وهذه سنة هجرها الكثير من الناس,مع أن ذلك من أجل مقامات العبودية.
5- نحن لا نقاتل أعداء الله بالقوة المجردة فقط ؛بل قبل ذلك بالإيمان والذي هو وقود النصر بإذن الله,ونستشعر ذلك من قلة المؤمنين يوم بدر ,فكان الإيمان بالله الذي دك الكفار بإذنه,فلا ننسى ذلك أبداً.
الموقف الثاني:في معركة أحد:
كلنا يعرف من هو حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أعز قريش وأشدهم شكيمة,سطر التاريخ عنه هذا الموقف:
مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم,وهو جالس عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه وعاب دينه,وكانت مولاة لعبدالله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك,وفي ذلك الحين أقبل حمزة رضي الله عنه من قنصه متوشحاً قوسه ,وكان إذا رجع لا يصل أهله حتى يطوف بالكعبة,فلما مر بالمولاة قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم فإنه سبه وآذاه ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد,فغضب حمزة,وكان هذا الغضب كرامة له من الله,فخرج سريعاً لا يقف على أحد مُعداً لأبي جهل حتى دخل المسجد فرآه جالساً في القوم فأقبل نحوه وضرب رأسه بالقوس فشجه شجة منكرة وقال:أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فأردد علي إن استطعت,فقام رجال من بني مخزوم لنصرة أبي جهل فقال:دعوا أبا عمارة فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا وتم حمزة على إسلامه.
بإسلام حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز,وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
ثم كانت غزوة أحد وكلكم تعلمون كيف قتل وحشي حمزة رضي الله عنه,ونال بذلك الشهادة حيث قال صلى الله عليه وسلم : (سيد الشهداء حمزة). رواه أحمد
ولكن كيف مثل به؟
بقر بطنه عن كبده,وجذع أنفه وأذناه ,وقد كان صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا كما في الصحيحين أنه قال: ( ورأيت في رؤياي..أني هززت سيفاً فانقطع صدره..),فبعد انتهاء المعركة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينظر في القتلى ,فرأى سعد بن الربيع الأنصاري وبه رمق ,فقال سعد للذي رآه:"أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام,وقل له جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته,وبلغ قومي السلام وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى وفيكم عين تطرف ثم مات رضوان الله عليه".
هذا هو همه فلم يسأل عن مال أو منزل أو أهل ,وإنما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم,ومن ذلك نستشعر حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم,فبالرغم من آلام النزع كان يفكر فيما قد يتعرض له من مكروه,نسي حتى نفسه وظل حتى فارق الحياة وهو شديد الخوف عليه.
نعم هكذا تصنع العقائد الأبطال..
نعود إلى أرض المعركة ... بحث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمه حمزة فوجده بذلك المنظر المريع,لم يكن أوجع منه لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم,فقد كان حمزة عمه وأخاه في الرضاعة,وكان رجلاً يعد بالآلاف في المعارك.
ثم ماذا حدث عندما رآه صلى الله عليه وسلم في ذلك المشهد...بكى بأبي هو وأمي وقال: (لن أصاب بمثلك أبدا),يقول ابن مسعود رضي الله عنه:"ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً أشد من بكائه على حمزة رضي الله عنه,وفي رواية أنه قال: " لولا أن تحزن صفية أو تكون سنة لتركته حتى يكون في جوف السباع و حواصل الطير ولئن أظهرني الله تعالى على قريش لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم" ,فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (126) سورة النحل
,فعفى الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم ,ونهى عن المثله.
وهل انتهى الموضوع؟
لنرى من هو صاحب القلب الرحيم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من أحد,فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن ,فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولكن حمزة لا بواكي له).رواه ابن ماجه وصححه الألباني رحمه الله
الفوائد من الموقف:
1- من مظاهر المحبة للدين: التمسك به ثم الدفاع عنه ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم,كما فعل حمزة رضي الله عنه,ونصرته صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان بإتباع سنته في قيامه وقعوده ونومه وأكله وشربه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ,وبالذب عن سنته إذا مسها جائر ظالم.
2- الحث على الصبر وعدم الجزع عند نزول المصائب.
3- رأفة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأصحابه.
الموقف الثالث:عند قراءة القرآن:
كان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن أو قرأ عليه,أخذته العبرة والخشية والبكاء,وكان ذلك في مواقف عدة منها:
ما روي أنه قال لعبد الله بن مسعود: (أقرا عليّ. قال عبدالله:أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال صلى الله عليه وسلم:إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عليه من أوائل سورة النساء إلي قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا}فبكى صلى الله عليه وسلم.
وعند البخاري قال: حسبك الآن. فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
ويقول ابن حجر: "والذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته ؛لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعملهم, وعملهم قد لا يكون مستقيماً فقد يفضي إلى تعذيبهم".
الفوائد من الموقف:
1- يستحب البكاء مع القراءة ,وطريق تحصيله كما يقول ابن حجر:"يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والوثائق والعهود,ثم ينظر تقصيره في ذلك فمن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك,وإنه من أعظم المصائب".
2- استحباب طلب القراءة من الغير ليستمع له,وهو أبلغ في الفهم والتدبر؛ لأن الذهن يكون خالياً مستعداً للتلقي,وخاصة في الخلوة.
3- يؤخذ من قول ابن مسعود رضي الله عنه:" أقرأ عليك وعليك أنزل" تواضع أهل العلم والفضل ولو مع أتباعهم.
4- ترديد الآية والتخشع والبكاء عندها سنة ,والأدلة في ذلك كثيرة منها: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح,هي قوله تعالى:
{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ }(118) سورة المائدة,وهو منهج السلف الصالح رحمهم الله فعن عبادة بن حمزة قال:"دخلت على أسماء رضي الله عنها,وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (27) سورة الطور
,فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو فطال عليّ ذلك,فذهب إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت,وهي تعيدها وتدعو",ولترديد الآيات أثر كبير ,فهو يدعو إلى تأمل الآية واستظهار مراميها ؛بل ويعالج أمراض القلب من الشهوات والشبهات.
الموقف الرابع: في الصلاة:
أزيز جوفه صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
إن للصلاة أركاناً وسنناً وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب ومع عدمها تكون بمنزلة الهذيان, وما عظمت الصلاة في الإسلام إلا؛لأنها تشتمل على الذكر ,وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة تجتمع فيه كل معاني الخشوع,فعن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال: ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء),ومعنى ذلك أن لجوفه حنيناً كصوت غليان القدر إذا اشتد.
الفوائد من الموقف:
1- الحرص على الخشوع في الصلاة ومما يعين على ذلك:
o الاستعداد النفسي للصلاة عند حلول الوقت.
o احتساب الوضوء والمشي إلى الصلاة وتذكر الأجور المترتبة عليها.
2- استجلاب الخشوع يكون بتفريغ القلب باستشعار أهمية الصلاة والتفهم للآيات ,ثم رد النفس قهراً إلى ما يقرأ فيها وتعظيم القيام بين يدي الله.
الموقف الخامس: عند القبر:
هذا الموقف عظيم ذو شجون إن لم تسقط الدموع عنده فمتى تسقط؟
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يحفرون قبراً فأسرع إليهم ينظر إليه وأخذ يبكي من هول هذه اللحظة الرهيبة.
فالقبر هو المثوى المستور الذي لا يعلمه إلا من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور,عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة فقال: علام هؤلاء ؟ قيل: على قبر يحفرونه, قال:ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه ,قال:فاستقبلته بين يديه لأنظر مايصنع, فبكى صلى الله عليه وسلم حتى بل الثرى دموعه,ثم أقبل علينا ,وقال: (أي أخواني لمثل اليوم فأعدوا ). رواه أحمد وصححه الألباني رحمهما الله
الفوائد من الموقف:
1- خشية النبي صلى الله عليه وسلم وتقواه.
2- أهم ما يذكرنا به القبر هو انقطاع العمل.
3- الاستعداد لذلك اليوم -يوم الجنائز والقبور-.
وكيف؟
بفعل الأسباب المنجية من عذاب القبر.
وماهي الأسباب؟
أجاب على ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فقال:"الجواب من وجهين مجمل ومفصل
المجمل: تجتب الأسباب التي تقتضي عذاب القبر ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد النوم ساعة يحاسب نفسه على ما خسره وربحه في يومه ويجدد له توبة نصوحا بينه وبين الله فينام على تلك التوبة ويعزم ألا يعود إليه إذا استيقظ ويفعل هذا كل ليلة,فإن مات يموت على توبة وإن استيقظ استيقظ مقبلاً للعمل مسروراً بتأخر أجله حتى يستقبل ربه بأعمال جديدة".انتهى بتصرف
المفصل: وهو ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الروايات التي تحدد الأعمال المنجية من عذاب القبر منها الرباط في سبيل الله إذا مات في رباطه,قراءة سورة الملك كل ليلة.
الموقف السادس: البر بالأم:
البر بالأم وإن كانت مشركة, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: (استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي,واستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي, فزوروا القبور فإنها تذكر الموت).
لننظر إلى رقة قلبه صلى الله عليه وسلم,إذ لم ينس أمه بالرغم من أنه لم يرها,إنه البر بعد الوفاة فكيف يكون العقوق وهم أحياء!
السؤال الهام لماذا بكى صلى الله عليه وسلم؟
يقول القاضي عياض:" بكى صلى الله عليه وسلم على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به",أنها الرحمة والشفقة التي لا تخرج عن الإيمان بالقضاء والقدر فها هو صلى الله عليه وسلم استأذن أن يستغفر لها فلم يؤذن له فما أعترض,بل سلم لقضاء الله وحكمته وإرادته في مثل هذه الأمور وما خرج فعله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الطبيعي الذي لم يقعده عن أداء رسالته العظيمة.
الفوائد من الموقف:
1- جواز زيارة قبور المشركين,خاصة الوالدين.
2- النهي عن الاستغفار للكفار والمشركين.
3- قاعدة عامة تؤخذ من الموقف,أن الهداية بيد الله,يقول تعالى:
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(56) سورة القصص,
يقول السعدي رحمه الله في تفسير الآية:"يخبر تعالى أنك يامحمد وغيرك من باب أولى لا تقدر على هداية أحد ولو كان من أحب الناس إليك,فإن هذا أمر غير مقدور للخلق-هداية التوفيق وخلق الإيمان في القلب-وإنما ذلك بيد الله يهدي من يشاء وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه ممن لا يصلح لها".
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:"الهداية المنفية هنا هي هداية التوفيق ,فلا أحد يستطيع أن يوفق أحداً للحق وما علينا إلا دعوة عباد الله والترغيب في الدين ,ثم إن اهتدوا فلنا ولهم,وإن لم يهتدوا فلنا وعليهم".أ.ه بتصرف
نقطة هامة: قد يكون هناك حزن وهذا طبيعي ,ولكن المهم ألا يتحول إلى هم ويأس مقعد عن التوجيه والتبليغ ,ثم علينا اللجوء إلى الله بالدعاء.
الموقف السابع: السابقون الأولون:
هذا الموقف مع أحد السابقين الأولين إلى الإٍسلام الذين قال تعالى فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ }.(100) سورة التوبة
إذا أردنا أن نعرف من هو هذا الصحابي فلنسأل عنه دموع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛بل ها هو ينحني عليه يقبله,وهو ميت ودموعه كحبات اللؤلؤ تلمع فوق وجنتيه وتنساب حزناً عليه في مشهد خاشع حزين على أحد عظماء الإسلام السابقين.
عن عائشة رضي الله عنها
أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه) رواه الترمذي وصححه الألباني رحمهما الله ,إنها علامة الرضا والمحبة والقبول إن شاء الله,ومن كانت هذه منزلته عنده صلى الله عليه وسلم فليبشر بالخير.
والسؤال من هذا الذي يبكيه صلى الله عليه وسلم؟
هو :
· من السابقين الأولين ,إذ كان الرابع عشر من الصحابة الذين دخلوا في الإسلام.
· أول من توفي في المدينة من المهاجرين ,وأول من دفن في البقيع من المسلمين.
· كان عابداً مجتهداً من فضلاء الصحابة.
· له موقف يفيض إيماناً فعندما عاد المهاجرون من الحبشة دخلوا المدينة إما بجوار أو بالخفاء ,ففي البداية دخل عثمان بن مظعون بجوار الوليد بن المغيرة ثم قال:"أكون في ذمة مشرك جوار الله أعز فرد عليه جواره".
الفوائد من الموقف:
1- منزلة عثمان بن مظعون عند النبي صلى الله عليه وسلم.
2- شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه.
3- جواز تقبيل المسلم بعد موته.
نود أن نختم المحاضرة ببيان بعض الأمور الجالبة للبكاء المشروع:
هناك أسباب كثيرة يستدر بها العبد دمعه ويوجد بها بإذن الله عينين هطالتين بالدموع من خشيته تعالى منها:
تذكر الذنوب والمعاصي:
لو صدق الإنسان النية في حسابه لنفسه وتذكر ذنوبه ومعاصيه بشرط أن يكون مخلصاً في ذلك ,والله لتأخذه العبرة ولجاءت الدمعة؛كأنها شهاب مرسلة من قلب أحرقته المعصية,وسيكون لهذه الدمعات أثر,سيتغير الحال من السوء إلى الحسن ومن الضعف إلى القوة ومن الذل إلى الرفعة.
وليس المقصود من ذلك الدعوة إلى القنوط واليأس وإنما استعراض الذنوب؛لأن ذلك يقوي جانب الخشية والخوف من الله ويحمل على المواظبة والإكثار من العمل الصالح,وقد ورد في البخاري أن عائشة رضي الله عنها أقسمت ألا تكلم عبدالله بن الزبير,وهي خالته لسبب أغضبها ,فجاء بعض الصحابة ليشفعوا له عندها فرق قلبها وكلمته.
فما الذي حدث بعد ذلك؟
أخذت عائشة رضي الله عنها تواصل الصدقة والإعتاق حتى أنها أعتقت أربعين عبداً,وكلما تذكرت ذلك بكت حتى ابتل خمارها,فسبحان الله وما الذي كان منها سوى حنث يمين!.
استحضار الجنة ونعيمها:
التفكير في أهل الجنة واستشعار نعيمها من خلال الآيات في القرآن يوجد العبرة,فالعبد يتمناها ثم يرى أعماله لا ترتقي به إليها فيلجأ إلى رب السماء ودمعه على خده سحاء,عسى الله أن يقيله ليكون من السعداء.
استحضار العذاب في نار جهنم:
عند قراءة آيات العذاب لابد أن نشعر أنها تخاطب الكفار والمنافقين فقط وأن النار لهم,بل هناك موحدين ولكنهم عصاة ماتوا على المعصية ولم يتوبوا وقد يعذبون,إن تذكر ذلك لهو من أنفع الأدوية للقلب لترك المعاصي وللعين لاستجلاب الدمع.
والله أن آية في كتاب الله أخبرتنا بأن النار مورد للجميع,قال تعالى:
{وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (71-72) سورة مريم,
فمن استحضر مثل هذه الآية وسأل نفسه هل يكون من الذين اتقوا؟ أم من الظالمين؟ ثم لم تنهمر دموعه فليبك على حاله.
الدعاء:
فهو من أهم الأسباب لاستجلاب الدموع؛كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يسمع).إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه اجمعين ...