وَلدي،
قبل اي شي كل عام وانت بخير يا ولدي
اعرف انك صغير على هذا الكلام ولكن اكتبه الان لعلك تكبر وتعي ما تقرأ
ولدي
عليكَ أن تعيَ أنَّ الحياةَ قصيرةٌ أكثرُ مِمّا يدّعي فَجْرُها، وأكثرُ مِمّا يدّعي نَهارُها.. فالغروبُ لا بدَّ قادِمٌ، واللّيلُ لا بدَّ لَهُ أنْ يَسْدُلَ أثوابَهُ على ضَوْءٍ كان لنا؛ لِتَغيبَ عِنْدَها حلاوةُ الألوانِ وَزَهْوُها، ويبقى الأسوَدُ سيّدَ اللّحظةِ والمكانِ.
ولدي،
إنْ شَغَلَتْكَ الدُّنيا بألوانِها فاجْعَلْ للّونِ الأسودِ نَصيبًا مِنْها حتّى يذكّركَ أَنّكَ مُقْبِلُ كما الجميعِ على ليلٍ يَحْجُبُ عنكَ الرُّؤيةَ لما يستحِقُّ. وتذكّر دائمًا أَنّكَ ما خُلِقْتَ عَبَثًا، وأنّك ما سُخّرَتْ لكَ الأرضُ إلا فُسْحَةً للعيشِ، وأنّكَ ماضٍ إلى أمرٍ مُرادٍ، فلا تجعلْ مِنْ نَفْسِكَ قطعةَ أثاثٍ جميلةِ المظهَرِ وَخالِيَةَ المضمونِ، فعندكَ المُهْجَةُ والعقلُ، ولكَ أنْ تَتَعَبَّدَ بعقلِكَ، وأنْ تَعيشَ بقلبِكَ، فاجعلْ في المهْجَةِ مُتَّسَعًا لمسامَحَةِ الغريبِ، والتّرفُّعِ عن الأذى للقريب، وأَسكِنْ روحَكَ طمأنينَةَ العِبادَةِ، والتّنَزهِ عنْ سوءِ العادةِ، فالمرءُ يُقاسُ بخُلُقِهِ عِندَ النّاس، ويُقاسُ بالتقرّبِ عندَ ربّ النّاس، واجعَلْ عُنْوانَكَ مَسْجِدًا يَشْهَدُ لَكَ ُروّادهُ دونَ رِياءٍ مِنْكَ، واحْفَظْ بَيْتَكَ بالتَّقْوى كي تَجِدَ المخرَجَ، واحْفَظْ نَفْسَكَ عن الهوى كي تُطاعَ، فَمَن تَبِعَ هَواهُ فَقَدَ الحِيلَةَ على النّاسِ، وتَشَرْذَمَتْ شَخْصِيَّتُهُ حتّى غَدا رَخيصًا تابعًا.
وَلدي،
أطمعُ هنا أن أَجِدَ مُتّسَعًا جيّدًا كي تقرأَني؛ فَلَطالما أعطيتُكَ الوقْتَ كي تَخْرُجَ من لَعْثَمَةِ الحروفِ، وأخذتُ بعقلِكَ نحوَ متّسَعِ الحياةِ، ولم يكن يضيرُني يومًا الرَّدُّ على جميعِ أسئلَتِكَ واستفساراتِكَ حتَّى باتَ الجوابُ عندَكَ! خذْ بيدي هنا لأكونَ ظلَّكَ.. فالشَّجَرَةُ المُعمِّرَةُ أكثرُ ظلالًا مِنْ نَبْتَةٍ وارِفَةٍ، ولكَ أنْ تتفَيَّأَ في حَضْرَتي كما كنتَ دوْمًا، وأنْ تُشْعِرَني رَغْمَ هَرَمي أَنّني قادِرٌ على احتوائِكَ، وتَذَكَّر أَنَّكَ النَّبتَةُ الّتي سَتَجِفُّ يومًا فاغْتَنِمْ اخْضِرارَ روحِكَ قَبْلَ اليبوسَة، وأَنْعِمْ على مُحيطِكَ بالظّلِّ والثَّمَرِ والحُضورِ، وافْخَر بِعطاءِ ظِلِّكَ وَحُنُوِّ أوراقِكَ عَلى مَنْ يَعْشَقونَ الطّبيعَةَ.
يا وَلدي،
غروبُ الحياةِ لا بُدَّ قادِمٌ، وَلَكَ أَنْ تُفَكِّرَ بي كما كُنْتَ أنتَ تَشْغَلُ الفِكْرَ عَلى الدّوامِ، فلا تَمْتَعِضْ مِنْ كلامي في حَضْرَتِكَ، لأَنّي سَمِعْتُكَ مِرارًا، ولا تَتَرَدَّدْ في مَعونَتي بَعْدَما كُنْتُ لَكَ عونًا، ولا تَضْجَرَنَّ مِنْ مَرَضي إنْ عَجِزْتُ! فَلَطالما رَجَوْتُ أنْ تكونَ عِلَّتُكَ بي حتى تَمضي صَحيحًا، واحْفَظْ لي رَأْيي وَمَشورَتي؛ لأكونَ حاضِرًا في نجاحاتِكَ، ولا تَنْسَ النَّظَرَ إليّ مَهْما بَلَغَتْ بيَ التَّجاعيدُ، فَقَدْ مَتَّعْتُ ناظريّ بِكَ زَمَنًا وَأنْتَ الوليدُ، وَكَمْ كانت تَسُرُّني أفْعالُكَ رُغْمَ شِقْوَتِها، فَحَمَلْتُ نَفْسي على حُبِّها وَتَحَمُّلِها حتّى جاوَزْتَ مَهْدَكَ، واليومَ ها قد بَلَغْتَ شَبابَكَ، فتذكَّر أنَّكَ كَبُرْتَ بمشيئةِ الخالِقِ، وتَرَعْرَعْتَ بِكَنَفِ مَنْ صانَ الأَمانَةَ. أحسَنْتُ اسْمَكَ فأحسِن مُناداتي، وأحسنْتُ تَرْبِيَتَك فأحسِنْ مُعاشَرَتي، وَتَعِبْتُ مِنْ أَجْلِ راحَتِكَ فلا تَبْخَلْ، وَسَهِرْتُ مِنْ أجْلِ عِلْمِكَ فلا تَمَلَّ، وَرَجَوْتُ أَنْ يَكونَ حَظُّكَ مِنَ الدّنيا أضْعافَ ما نالَني؛ فإِنْ زادَكَ اللّهُ تَذَكَّرْ دُعائي وَرَجائي، واحْفَظْ لي رجاتي، وكُنْ مِمّنْ يُجيدونَ ردَّ الجَميل.
ولدي،
إِنْ كانَ مِن مُضيٍّ بالحياةِ؛ فامْضِ على رِسْلِكَ دونَ تَعَجُّلٍ مِنْكَ، واعْلَمْ أَنَّهُ ما مِن رِزْقٍ كُتِبَ لَكَ إلا أَنْتَ مُسْتَهْلِكُهُ، واعْلَمْ أنّّ الصَّبْرَ سابِقٌ على الصَّلاة، فاصْبرْ وصابِرْ، وإيّاكَ والنّكوصَ أو التَّقاعُسَ، واجْعَلْ يَدَكَ مَمْدودَةً دُونَ بَسطٍ، واحْفَظْها عالِيَةً ولا تُدْنِها، واغْنَمْ مِن ذِلَّتِنا ونُكوصِنا رِفْعَةً لكَ، فلا تساوِمْ على ما اسْتُبيحَ مِن أرْضٍ، وكنْ مِمَّن يُعْلونَ شَأْنَ الدِّينِ بالتَّرَفُّعِ عَن المناصِبِ، واشْغَلْ نَفْسَكَ بِكلامِ اللَّهِ حتّى يَرْضى، وحاسِبْ ما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِِِ عَلَيْكَ، فالقَدمُ الّتي تَأخُذُكَ إلى حَرامٍ؛ هِي أَوْلى بِالبَتْرِ، والعَيْنُ الّتي تُحِلُّ ما حَرَّمَ اللَّهُ؛ هِي أوْلى بِالعَمى، واليَدُ الّتي تَبْطِشُ؛ ما لها نَصيبٌ في جَسَدِ مُسْلِمٍ، والعَقْلُ الّذي لا يُدْرِكُ سُوْرَةَ العَصْرِ؛ إِنّما هو مَثابَةُ الجاهِلِ.. فاحْفَظْ جَسَدَكَ مِن نارٍ وَقودُها النّاسُ والحِجارَةُ، وتَذَكَّر أَنّني أَضْعَفُ مِن أَن أَكونَ لَكَ شَفيعًا وَوَسيطًا.
وَلدي،
القَدَرُ جُزْءٌ مِن إيمانٍ، فَمَنْ مَلَكَ الإِيمانَ بِهِ هانَتْ لَهُ المصائِبُ مَهْما عَظُمَتْ، فَكُنْ مِمَّنْ يُجيدونَ تَقَبُّلَ الأَمْرِ بالرِّضا وَالحَمْدِ، وَافْخَرْ بِنَفْسِكَ عَربِيًّا مُسْلِمًا، وافْخَرْ بِنَفْسِكَ راضيًا مَرْضِيًّا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ ما من رضًا أَبْلَغُ مِنْ رضا الرَّبِّ ثُمَّ الوالِدَيْنِ، فإِنْ شَعَرْتَ أَنْتَ بِالرِّضا فَقَدْ بَلَغْتَ وَصِيَّتي.