عبير الورد المدير العام
عدد المساهمات : 1605 تاريخ التسجيل : 08/12/2009
| موضوع: ما هي الموسيقى الجمعة ديسمبر 11, 2009 10:32 pm | |
| ما هي الموسيقى "الموسيقى" مقال كتبه ونشره جبران خليل جبران في نيويورك في بداية حياته الأدبية على شكل كرَّاس عرَّف فيه الموسيقى وتأثيرها على الإنسان من خلال ربطها بصوت حبيبته وشرح ارتباطها باختلاجات النفس وما تثيره من عواطف وشجون وذكريات لمواقف وحالات من حياة الفرد في بيئتيه، الطبيعة والمجتمع.
للموسيقا بالمفهوم الجبراني مكانة في الخانات المقدَّسة عند بني البشر، وهي لذلك ارتبطت عبر جميع مراحل تطوره بالفرح والحزن، بالسِّلم والحرب، بالسعادة والمعاناة ورافقت أفراح الناس وأحزانهم وطقوسهم الاجتماعية والدينية وشكلت في كثير من الحالات عناصر من عباداتهم وصلواتهم. وقد ارتبطت الموسيقا بالشعر والغناء منذ صاغ الإنسان أساطيره وانتقلت معه إلى الديانات في نصوصها وطقوسها وأعيادها. وقد استخدم الإنسان القديم الموسيقا وما يزال في التعبير عن حالات الفرح والغبطة والإعجاب وإظهار المواقف والإعراب عن الآمال والتمنيات وعن الحب وفي تقديس مكونات الطبيعة والحياة وربطها بانفعالات النفس والتَّغني بالجمال والإعراب عن حبِّه ومدح السلوك البشري الحسن تجاه الطبيعة والوطن وبين الأفراد والجماعات وتثبيت مكانته المفضلة في النَّفس مقارنة مع السلوك السّيء والتعبير عن الفخر بالإنجازات وبانتصار الخير على الشر. كذلك استخدمت الموسيقا في معالجة حالات اليأس والقنوط والشعور بالانكسار وفي حالات الحزن والتضرُّع والأسف والتوبة وفي حالات تشييع الراحلين وتكريمهم.
وقد عرَّف جبران في بحثه المختصر أربعة من مقامات الموسيقا الشرقية (النهاوند، الأصفهان، الصِّبا والرَّصْد) مقارناً بين بعضها البعض من ناحية قدراتها التعبيرية ومعاني استخدامها ومدى تأثيرها في النَّفْس ورابطاً إياها بالأصوات الطبيعية. ويستشهد جبران بمعلومات وعبارات من التراث الإنساني والثقافات القديمة.
والكرَّاس الذي انتهي نصُّه الرّومانسي بكلمة "آمين"، حرصاً على وضعه في مكانة قريبة من نصوص العبادة الروحية، انتشر واسعاً في بلدان عديدة وبلغات مختلفة وأُدخِل في مناهج دراسية للناشئة في بلدان عربية كونه سهل الأسلوب والتراكيب والمفردات وسهل الإدراك وفيه نفحة شعرية وتصوير ينمُّ عن خيال جبران العميق إضافة إلى ثقافته العالية منذ شبابه.
* * * * * *
الموسيقى
جلستُ بقرْب مَن أحبَّتْها نفسي أسمع حديثها. أصغيتُ ولم أنبسْ ببنت شفة، فشعرْتُ أن في صوتها قوَّةً اهتزَّ لها قلبي اهتزازاتٍ كهربائيةً فصلتْ ذاتي عن ذاتي، فطارتْ نفسي سابحةً في فضاء لا حدَّ له ولا مدى، تَرى الكونَ حُلُماً والجسدَ سجناً ضيِّقاً.
سحرٌ عجيبٌ مازجَ صوتَ حبيبتي وفعلَ بمشاعري ما فعلَ وأنا لاهٍ عن كلامها بما أغناني عن الكلام.
هي الموسيقى أيُّها النَّاس، سمعْتُها إذ تنهَّدَتْ حبيبتي بُعَيْدَ بعض الكلمات وابْتَسمتْ في بعضها. سمعتُها لمَّا حكتْ تارةً بألفاظٍ متقطِّعةٍ وآونةٍ بجُملٍ متواصلة وأخرى بكلماتٍ أبقتْ نصْفها بين شفتًيْها.
تأثيراتُ قلب حبيبتي، رأيتُها بعين سمعي فشغَلتْني عن جوهر حديثها بجواهرِ عواطفها المتجسِّمة بموسيقى هي صوتُ النَّفس.
بل، فالموسيقى هي لغة النّفوس، والألحانُ نُسَيْماتٌ لطيفة تهزُّ أوتار العواطف. هي أناملُ رقيقةٌ تطرقُ باب المشاعر وتنبِّه الذَّاكرة فتنْشر هذه ما طوتْه الليالي من حوادثَ أثَّرتْ فيها بماضٍ عبَر.
هي نغَماتٌ رقيقةٌ تَسْتحْضِر على صفحات المخيلة، ذكرى ساعات الأسى والحزن إذا كانت محزِنة، أو ذكرى أوَيْقات الصَّفاء والأفراح إذا كانت مُفرِحة.
هي مجموع أصواتٍ محْزِنة تسمعها فتستَوْقِفكَ وتملأ أضلعَكَ لوعةً وتمثِّل لك الشَّقاء كالأشباح.
هي تأليف أنغامٍ مفرِحة، تعيها فتأخذ بمجامع قلبكَ فيرقص بين أضلعك فرحاً وتيها.
هي رنَّة وترٍ تدخل سامعتَكَ محمولةً بتموّجات الأثير، فقد تخرج من عينك دمعة محرِقة أثارتْها لوعةُ نأي حبيبٍ أو آلام كلومٍ خرقها ناب الدّهر. وربما خرجتْ من بين شفتيكَ ابتسامةٌ كانت والحق عنوانَ السَّعادة والرّخاء.
هي جسمٌ من الحشاشة، له روحٌ من النَّفْس وعقلٌ من القلب.
* * * * * *
وُجدَ الإنسان فأُوحِيَتْ إليه الموسيقى من العلاء لغةً، ليست كاللغات، تحكي ما يكنُّه القلب للقلب، فهي حديث القلوب. وهي كالحبّ عمَّ تأثيرها النَّاس فترنَّم بها البرابرة في الصَّحراء، وهزَّتْ أعطاف الملوك في الصّروح. مزجتْها الثَّكْلى مع نَوحها، فكانت ندْباً يفتِّت قلب الجماد. وبثَّها الجذلان مع أفراحه فكانتْ إنشاداً يطلب مغلوب الأرزاء، فقد حاكت الشمس، إذ أحيتْ بأشعّتها جميع زهور الحقل.
الموسيقى كالمصباح، تطرد ظلمة النَّفس، وتنير القلب، فتُظهر أعماقَه. والألحان، في قضائي، أشباح الذَّات الحقيقية أو أخيلة المشاعر الحيَّة. والنَّفس كالمرآة المنتصِبة تجاه حوادث الوجود وفواعله تنعكس عليها رسومُ تلك الأشباح وصور تلك الأخيلة.
النَّفس زهرةٌ لينة في مهبِّ ريح التّقادير، نُسَيْمات الصّباح تهزُُّها وقُطَيْرات النَّدى تلوي عنقها. كذا تغريدة عصفور تنبِّهُ الإنسانَ من غفلته، فيصغي، ويشعر، ويمجِّد معه الحكمة، مبدعةَ نغمة الطَّائر العذبة وشعوره الرّقيق، وتهيِّج تلك التَّغريدة قوى فكرته، فيسأل ذاته، وما يحفُّ به، عمّا أسرَّه لحن ذلك الطَّائر الحقير فحرَّك أوتار عواطفه وأوحى إليه معاني ما حوتْها كتب الألى تقدَّموه. يسأل مستفهماً عمّا إذا كان العصفور يناجي زهور الحقل أم يحاكي أغصان الأشجار أم يقلِّد خرير مجاري المياه أم ينادم الطَّبيعة بأسْرها، ولكنَّه لا يستطيع إلى الحصول على الجواب سبيلا.
الإنسان لا يدري ما يقوله العصفور فوق أطراف الأغصان، ولا الجداول على الحصباء، ولا الأمواج إذ تأتي الشّاطىء ببطءٍ وهدوء. ولا يفقه ما يحكيه المطر إذ يتساقط منهمكاً على أوراق الأشجار، أو عندما يطرق بأنامله اللطيفة بلّور نافذته، ولا يفهم ما يقوله النّسيم لزهور الحقل، ولكنه يشعر أن قلبه يفقه ويفهم مفاد جميع هذه الأصوات فيهتزُّ لها تارة بعوامل الطّرب، ويتنهّد طَوراً بفواعل الأسى والكآبة. أصواتٌ تناجيه بلغة خفيَّة، وضعتها الحكمة قبل كيانه، فتحدَّثتْ نفسُه والطَّبيعة مرَّاتٍ كثيرة وهو واقف معقود اللسان حائراً، وربما ناب عن لفظه الدَّمعُ، والدَّمعُ أفصحُ مترجِم.
تِ معي، ياصاحِ، إلى مسرح الذِّكْرى لنرى منزلة الموسيقى عند أممٍ طوتْها الأيام، وتعال نتأمَّلْ تأثيرها في كلِّ دورٍ من أدوار ابْنِ آدم.
عبدها الكلدانيُّون والمصريُّون كإلهٍ عظيمٍ يُسْجَدُ له ويُمجَّد. واعتقد الفرسُ والهنود بكونها روح الله بين البشر. وقال شاعرٌ فارسيٌّ ما معناه: "إن الموسيقى كانت حوريَّة في سماء الآلهة تعشَّقتْ آدميَّاً وهبطتْ نحوه من العلو فغضبَ الآلهةُ إذ علموا وبعثوا وراءها ريحاً شديدةً نثرتْها في الجوّ وبعثرتْها في زوايا الدُّنيا ولم تُمِتْ نفسها قطّ بل هي حيَّة تقطن آذان البشر".
وقال حكيمٌ هنديٌّ: "إن عذوبة الألحان توطِّدُ آمالي بوجود أبديَّة جميلة".
والموسيقا عند اليونان والرّومان كانت إلهاً مقتدراً، بنوا له هياكلَ عظميَّةً، ما برحتْ تحدِّثنا بعظمتهم، ومذابحَ فخيمةً، قدَّموا عليها أجمل قرابينهم وأعطرَ بُخورهم، إلهاً دعوه (أبُّولون) فمثّلوه وجميع الكمالات تجعله منتصباً، كالغصن على مجاري المياه، يحمل القيثارة في يُسْراه، ويمينُه على الأوتار، رأسُه مرفوعٌ يمثِّل العظمة، وعيناه ناظرتان إلى البعيد كأنه يرى أعماق الأشياء.
وقالوا إن رنَّات أوتار أبُّولون صدى صوت الطَّبيعة. رناتٌ شجيَّةٌ ينقلها عن تغريد الطّيور وخرير المياه وتنهُّدات النَّسيم وحفيف أغصان الأشجار.
وجاء في أساطيرهم أن رنَّات أوتار (أورفْيوس) الموسيقي حرَّكتْ قلب الحيوان فاتَّبعتْه الضّواري، والنّبات، فمدَّتْ نحوه الأزاهر أعناقها ومالت إليه الأغصان، والجماد، فتحرَّك وتفتَّت.
وقالوا فقد أورفيوس زوجته فبكاها ورثاها نادباً حتى ملأتْ نغمةٌ لوعته البرّيَّة، فبكت الطّبيعة لبكائه حتى حنَّتْ قلوب الآلهة ففتحت له أبواب الأبدية كي يلتقي حبيبته في عالم الأرواح.
وقالوا قَتلتْ بناتُ الأحراج أورفيوس ورمَيْنَ برأسه وقيثارته إلى البحر فطافا على الماء حتى بلغا جزيرة دعاها اليونان "جزيرة الأغاني".
وقالوا إن الأمواج التي حملت رأس أورفيوس وقيثارته ما برحت مذ ذاك الحين تصوغ من أصواتها ندْباً مؤثّراً وأنغاماً محزِنة، تملأ الأثير فيسمعها الملاّحون.
هذا كلامٌ بعد أن قضى عزُّ تلك الأمّة ومضى، دعوناه خرافاتٍ مصدرُها الوهْم وأحلاماً ابتدعتْها التّصوُّرات، غير أنه قولٌ دلَّ على أن تأثير الموسيقى في صدور اليونان كان عميقاً وعظيماً فقالوا ما قالوا عن صحَّة اعتقاد، فما ضرَّنا لو دعونا تلك الأقوال مبالغة شعريّة مصدرُها رقَّة العواطف ومحبّة الجمال وهذا في عرْف الشُّعراء الشّعر؟.
نقلتْ إلينا آثار الآشوريَّين رسوماً تمثِّل مواكب الملوك سائرةً وآلاتُ الطَّرب تتقدَّمها، وحدَّثنا مؤرِّخوهم عن الموسيقى فقالوا إنها عنوان المجد في الحفلات ورمز السعادة في الأعياد. أجل، فالسَّعادة بدونها تحكي فتاةً قُطع لسانُها. فالموسيقى لسان جميع أمم الأرض، سبَّحتْ معبوداتِها بالأناشيد ومجَّدتْها بالألحان، وكانت التّراتيل _ وهي الآن _ فرض كالصّلاة يقدِّمونها في المعابد وكمَحْرَقات يقفونها على القوّة المعبودة، مَحْرَقات مقدّسة مبدؤها عواطف النّفس. صلوات يهذّبها القلب وما أكملتْه اهتزازات المشاعر. أنفاسٌ حرّة ما زلفتْها الألفاظ بل تظرَّفتْ بها أنفاس أثارتْها ندامة الملك داوود فملأت أناشيدُه أرضَ فلسطسن وابتعدت أشجانُه أنغاماً شجيَّة مؤثرة منبعها انفعالات التّوبة وحزن النّفْس، وكوسيط قامتْ مزاميره، بينه وبين الله، تطلب له مغفرة زلاّته، وكأن رنَّات قيثارته قد انبثقت من قلبه المنسحق وسرتْ مع قطرات دمه إلى أصابعه، فكانت أعمال تلك الأصابع عظيمة عند الله والناس. وهو القائل: "هلِّلوا للرَّب، سبِّحوا الرّبَّ بصوت البوق، سبِّحوه بالمزمار والقيثارة، سبِّحوه بالطَّبل والدّفوف، سبِّحوه بالأوتار والأرغُن، سبِّحوه بصوت الصّنوج، سبِّحوه بصنوج التّهليل وكلُّ نسَمَة فلْتُسبِّح الربّ". وجاء في الأسفار أن ملائكة من السّماء تأتي،في آخر الدّهر، نافخة الأبواق في جميع أقطار العالم فتستفيق من صوتها الأرواح وتثلبس أجسامها وتُنشر أمام الدّيَّان. لقد عظَّم كاتب هذا السِّفر الموسيقي إذ أنزلها منزلة رسول من اللهإلى أرواح البشر، وما قول الكاتب إلا صورة مشاعره وعلى نوع كلام ينطبق على اعتقادات معاصريه.
وجاء، في بدء مأساة ابْن البشر، أن التّلامذة سبَّحوا قبيل ذهابهم إلى بستان زيتون حيث قُبض على معلّمهم. وكأني الآن أسمع نغم تلك التّسبيحة صادراً من أعماق نفوس حزينة رأت ماذا سيحلّ برسول السّلام .. فتنفّستْ عن نغمة مؤثرة نابت عن كلمة الوداع.
* ** ** ** *
تسير الموسيقى أمام العساكر إلى الحرب فتجدِّد عزيمة حميّتهم وتقوّيهم على الكفاح، وكالجاذبية نجمع شتاتهم وتؤلِّف منهم صفوفاً لا تتفرَّق. ما سارت الشّعراء، أمام الكتائب، إلى ساحات القتال، موطن المنيَّة، لا ولا الخطباء، وما رافقتهم الأقلام والكتب، بل مشتْ أمامهم الموسيقى كقائدٍ عظيم، يبثُّ بأجسامهم الواهنة قوَّةً تفوق الوصف، وحميَّة تنبِّه في قلوبهم حب الانتصار فيغالبون الجوع والعطش وتعب المسير، ويدافعون بكلِّ ما في أجسادهم من القوَّة، وراءها يسيرون بفرح وطرب ويتبعون الموت إلى أرض العدوّ المبغوضة. كما يستخدم ابن آدم أقدس ما في الكون لتعميم شرور الكون.
الموسيقى رفيقة الرّاعي في وحدته، وهو إن جلس على صخرة في وسْط قطيعه نفخ بشبَّابته ألحاناً تعرفها نعاجه فترعى الأعشاب آمنةً. والشبَّابة عند الراعي كصديق عزيز لا تفارق وسطه، ونديم محبوب، تستبدل سكينة الأودية الرّهيبة برياض مأهولة، وتقتل بأنغامها الشجيَّة وحشتها، وتملأ الهواء أنساً وحلاوة.
الموسيقى تقود أظعان المسافرين وتخفِّف تأثير التّعب وتقصِّر مديد الطّرقات. فالعِيْس لا تسير في البيداء إلا إذا سمعتْ صوت الحادي. والقافلة لا تقوم بثقيل الأحمال إلا إذا كانت الأجراس معلَّقة برقابها. ولا بدع، فالعقلاء في أيامنا هذه يربُّون الضَّواري بالألحان ويدجِّنونها بأصوات عذبة.
* ** ** ** *
الموسيقى ترافق أرواحنا وتجتاز معنا مراحل الحياة، تشاطرنا الأرزاء والأفراح وتساهمنا السّرَّاء والضّرَّاء. وتقوم كالشَّاهد في أيام مسرّتنا وكقريبٍ شفيقٍ في أيام شقائنا.
يأتي المولود من عالم الغيب إلى دنيانا فتقابله القابلة والأقارب بأغاني الفرح، متأهّلين بأناشيد الابتهاج والحبور. يحييهم عندما يرى النّور، بالبكاء والعويل فيجيبونه بالتّهليل والهتاف كأنهم يسابقون بالموسيقى الزّمان على إفهامه الحكمة الإلهية.
وإذا ما بكى الرّضيع اقتربت منه والدتُه وغتَّتْ بصوتها الموسيقي المملوء رقَّة وحنوَّاً فيكفُّ عن البكاء ويرتاح لألحان أمِّه المتجسِّمة من الشّفقة وينام. وفي ألحان الوالدة ونغمتها قوَّة توعز إلى الكرى ليُغمضَ أجفان طفلها. وتشارك تلك الألحان السّكينة بهدوئها فتزيدها حلاوة وتمحو رهبتها وتملأها سحراً من أنفاس الأم الحنون حتى يتغلَّب الرّضيع على الأرق وينام وتطير نفسه إلى عالم الأرواح. ولا ينام الطّفل لو تكلَّمت الوالدة بلسان شيشرون أو قرأت ابن الفارض.
ينتقي الرّجل شريكة حياته وتتّحد نفساهما برباط الزواج، متمِّمين وصيَّة كتبتها الحكمة منذ البدء على قلبَيْهما، فيجتمع الأقارب والخلاّن ويصدحون بالأناشيد والأهازيج ويقيمون الموسيقى شاهداً عندما يربط القران عرسَ المحبَّة، فكأني بهما، يوم التَّعريس، صوتٌ رهيبٌ تمازجه الحلاوة، صوتٌ يمجِّد الله في مخلوقاته، صوتٌ ينبِّه الحياة النَّائمة لتسير وتنتشر وتملأ وجه الأرض.
وعندما يأتي الموت، ويمثل آخر مشهدٍ من رواية الحياة نسمع الموسيقى المُحزنة ونراها تملأ الحو بأشباح الأسى، في تلك السَاعة الموجعة إذ تودّع النّفس ساحل هذا العالم الجميل وتسبح في بحر الأبدية، تاركة هيكلها الهيوليَّ بين أيدي الملحّتين والنَّدَّابين، فيتأوَّهون بنغمات الحزن والأسف ويلحفون تلك المادّة الثَّرى ويشيّعونها في ألحان مفادها الضَّيم وأناشيد معناها الكمد واللَّوعة. نغمات يحيونها ما بقي التّراب فوق التّراب وإن بليت يبقى صداها في خلايا الجوارح ما دام القلب يذكر مَن مضى.
* ** ** ** *
جالستُ مَن ميَّزه الله بعزوبة الصَّوت وحباه إدراكَ فلسفة التّنغيم والإيقاع فرأيتُ السامعين حوله مصغين صاغرين، ماسكين أنفاسهم، محكومين بفواعل السكينة، شاخصين إليه كالشّعراء المستسلمين لقوَّة فعَّالة، توحي إليهم أسراراً غريبة، حتى إذا ما انتهى الملحِّن من إنشاده تنهَّدوا ذاك التَّنهُّد الطّويل: آهٍ !! آه !! صادرةً من أفئدة هيَّجتْ فيها الألحان عواطف مكنونةً فلذَّ لها التَّأوُّه. آه تتنفسها قلوبٌ حرَّى أنعشتْها الذّكرى.
"أه" كلمة صغيرة لكنَّها حديثٌ طويل. آه !! ما قالها سامعٌ كلامِ الملحِّن لا ولا ناظرُ وجهِه، بل تنهَّدها مَن أعار أذناً لنشيد نُسجَ مِن مقاطعَ أنفاسٍ متقطّعة. أنفاس حيّة مثَّلتْ له فصلاً من رواية حياته الماضية أو فشتْ سرَّاً أكنَّتْه أضلعُه.
وكم تأمَّلتُ وجه سامع حسَّاس فرأيت ملامحه تنقبض تارة وتنبسط طوراً وتنقلب مع تقلُّبات النّغم. واهتدَيْتُ بخَلْقه إلى خُلقه واستحكيتُ باطنه بواسطة ظاهره.
والموسيقى كالشّعر والتّصوير، تمثِّل حالات الإنسان المختلفة وترسم أشباح أطوار القلب وتوضِّح أخيلة ميول النَّفس وتصوغ ما يجول في الخاطر وتصف أجمل مشتهيات الجسد. | |
|