كل العرب انفو الاخباري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كل العرب انفو الاخباري

منتدى . ثقافي . اجتماعي . رياضي . تعليمي . اسلامي . شامل
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الصحابه رضوان الله عليهم

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 6:27 am

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

موقف أهل السنة والجماعة من آل البيت


الخطبة الأولى

الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار, ويصطفي للشرف من شاء من الأخيار ، شرّف رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم على كل البرية ، وجعل ذريته أشرف ذريّة .
أحمد ربي تعالى وأشكره وأثني عليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نتقرب إلى الله تعالى بمحبة رسوله وعترته الطاهرة الزكية صلى الله وسلم وبارك عليهم وعلى الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،
فوصية الله تعالى للأولين والآخرين تقواه "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله".

أيها المسلمون:
الشريف في ذاته يفيض بالشرف على من حوله والكريم في معدنه يسري كرمه في المحيطين به، انظر إلى زجاجة العطر كيف تبقى فوّاحة بعد نفاد ما فيها، تطلّع إلى جوار المصباح وكيف استحال هالة من نور، وسوارًا من ضياء وكذلك البشر تفيض بركة السعداء منهم وتتعداهم إلى غيرهم . فكثير من سلالة إبراهيم الخليل غدوا أنبياء وأصحاب عيسى صاروا حواريين ورفاق محمد صلى الله عليه وسلم شرفوا بالصحبة وأزواجه أمهات للمؤمنين. ونسله استحقوا وصف الشرف والسيادة، كيف لا وفيهم من دمائه دم، و من روحه نبض ومن نوره قبس ومن شذاه عبق ومن وجوده بقية صلى الله عليه وصلى على آله وأزواجه وصلى على صحابته وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أيها المسلمون:
ولكرم النبي صلى الله عليه وسلم كرمت ذريته، ولشرفه شرف آل بيته، وكانت مودتهم ومحبتهم جزءًا من شريعة المسلمين، رعوها على مر الزمان كما رعوا باقي الشريعة. وأقاموها كما أقاموا بقية أحكام الدين، وقد يكون قصّر بعض المسلمين في هذا الجانب في مراحل من التاريخ وفي وقائع دونت بمداد من أسى كما يقصّر بعض المسلمين في بعض واجباتهم؛ فتكتب عليهم ذنبًا من الذنوب وخطيئة من الخطايا، إلا أن الطابع العام للأمة هو معرفة قدرهم، وبذل المودة لهم ومحبتهم وموالاتهم، شهدت بذلك عقائدهم المدونة وتفاسيرهم المبسوطة وشروحات السنن وكتب الفقه. كيف لا، وهم وصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هم وصيته وهم بقيته، إذ يقول: "أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" (رواه مسلم) وآل بيته صلى الله عليه وسلم هم أزواجه وذريته وقرابته الذين حرمت عليهم الصدقة هم أشراف الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة" (رواه البخاري)، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني" وفي رواية في الصحيحين أيضًا: "فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها"، وروى البخاري -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أنت مني وأنا منك"، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن بن علي رضي الله عنه : "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" (رواه البخاري). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن رضي الله عنه : "اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه" (متفق عليه). وقد قال الله عزّ وجل في كتابه الكريم وقرآنه العظيم: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا" ومعلوم أن هذه الآية نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما قبلها وما بعدها كله خطاب لهن رضي الله عنهن، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: قولوا: "اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وهذا يفسر اللفظ الآخر للحديث: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ فالآل هنا هم الأزواج والذرية كما في الحديث الأول.

عباد الله: هذه بعض فضائل آل بيت النبوة كما حفظتها كتب السنة والتزمها المسلمون منذ صدر الإسلام الأول وأنزلوهم منازلهم اللائقة من غير إفراط ولا تفريط. ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن أبا بكر رضي الله عنه قال: ارقبوا محمدًا في أهل بيته". وفي الصحيحين "أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي" وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شهد بالرضا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه والسبق والفضل ولما وضع الديوان بدأ بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول للعباس رضي الله عنه: "والله لإسلامك أحب إلي من إسلام الخطاب لحب النبي صلى الله عليه وسلم لإسلامك"، كما استسقى بالعباس وأكرم عبد الله ابن عباس وأدخله مع الأشياخ... كل ذلك في صحيح البخاري وغيره . وقد روى إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في فضائل آل البيت وحفظ للأمة أحاديث كثيرة في ذلك ، منها ما رواه عن عبد المطلب بن ربيعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس: "والله لا يدخلُ قلب مسلم إيمانٌ حتى يحبّكم لله ولقرابتي "، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي". رواه مسلم.
وقال الطحاوي رحمه الله: "ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق".

عباد الله: إن مما تفاخر به هذه البلاد المملكة العربية السعودية منذ نشأتها بمراحلها الثلاث حكامًا وعلماء ، رعاة ورعية اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة آل بيته وتعظيمهم ومحبتهم واقتفاء أثرهم والدفاع عنهم وعن منهجهم ودينهم الحق. وقد اتخذت ذلك ديناً ومنهجًا وقربة إلى الله عز وجل. وتحملت في سبيل هذا المنهج العدل طعون الطاعنين ولمز الشانئين ولا يزيدها ذلك إلا ثباتًا على الحق وتمسكًا بمنهج الوسط واتباعًا لسنة آل البيت حقًا وليس أحدٌ أتبع لمنهجهم اليوم من هذه البلاد وأهلها وحكامها وعلمائها. قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "لآله صلى الله عليه وسلم حق لا يشركهم فيه غيرهم ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر قريش.. وقريش يستحقون ما لا يستحقه غيرهم من القبائل". وقال رحمه الله في موضع آخر: "وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقًا، فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقوقهم ويظن أنه من التوحيد بل هو من الغلو والجفاء، ونحن ما أنكرنا إلا ادعاء الألوهية فيهم وإكرام مدعي ذلك" انتهى كلامه رحمه الله . و قال الإمام في السنة في زمانه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "والشيخ محمد رحمه الله – يعني ابن عبدالوهاب - وأتباعه الذين ناصروا دعوته كلهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ساروا على نهجه ويعرفون فضلهم ويتقربون إلى الله سبحانه بمحبتهم والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضا كالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكالخليفة الرابع الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبنائه الحسن والحسين ومحمد رضي الله عنهم . ومن سار على نهجهم من أهل البيت" انتهى كلامه رحمه الله.

أيها المسلمون:
ولأن آل بيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومحبتهم، أمر تهفو إليه النفوس وشعور تجثو عنده العواطف، وحس يتحرك له الوجدان فقد نفذ من هذا الباب من استغله وتاجر به واستخدمه من ادّعى خدمته، منذ القرن الأول من عمر هذه الأمة إلى أيامنا هذه، وعلى مر ذلك التاريخ الطويل وتحت شعار محبة آل البيت والانتصار لهم. برزت مطامع سياسية وأخرى مادية وصفيت ثارات عرقية عنصرية واندس موتورون بهذا الدين، شانئون له مبغضون لأهله يهدمون أساسه ويبغون اندراسه، حتى غيرت معالم الدين وشوهت الشريعة وبدلت العقيدة، ونبتت الفرقة وثار غبار النزاع والشقاق. فطالوا أهم ما فيه وهو التوحيد ثم كرّوا على أهم مسائل العقيدة فحرفوها ثم أخذوا يعيثون فسادًا في بقية شرائع الدين وأطاعوا شيوخهم في التحليل والتحريم بلا هدى حتى صاروا كمن قال الله فيهم: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله". عظموا المشاهد وعطلوا المساجد ناهيك عن أكل أموال الناس بالباطل واستحلال فروج الحرائر. وتكفير عموم الأمة وكنِّ العداوة والبغضاء للعرب الذين هم مادة الإسلام وأصل الإسلام كل هذا يحدث ويكون تحت لافتات النصرة لآل البيت، ومحصلة الأمر كله تمكن مندسين في تغيير عقائد الإسلام الراسخة وشرائعه الثابتة وشعائره الظاهرة لدى جماعة من المسلمين باسم آل البيت ومحبة آل البيت.

و هنا أمران يستدعيان الوقوف ويلحان في الطرح.
أولهما: أن آل البيت الثابتة أنسابهم هنا في الحجاز أو ممن انتشر منهم في البلاد أو حكم جزءًا من بلادنا الإسلامية اليوم، هم أبعد الناس عن تلك المذاهب المستحدثة، تشهد بذلك عقائدهم ومؤلفات العلماء وطلبة العلم منهم ومواقعهم على شبكة الاتصال العالمية، وكذا مواقف الساسة منهم والحكام فيهم؛ فهل بعد هذا بصيرة لمستبصر وذكرى لمستذكر؟!
الأمر الثاني: أنه في الوقت الذي ينكر فيه المعروفون من آل البيت تلك العقائد الدخيلة، تنشط في الوقت نفسه عناصر ليسوا عربًا ولا من نسل العرب، ينشطون في الحديث باسم آل البيت وتكوين دين يزعمون أنه مستقىً من آل البيت، دين لا يعرفه صاحب البيت ولم يأت به جد آل البيت؛ بل ويخالف شريعة مؤسسه صلى الله عليه وسلم. بل إن أولئك العجم هم الرعاة لهذه العقائد المستحدثة ، الناشرون لها منذ نشأت إلى يومنا هذا. ألم يتساءل العقلاء منهم أو من تأثر بهم لماذا لم تلق هذه العقائد قبولاً في منازل آل البيت وفي مهبط الوحي وموطن الرسالة؟ ويقودنا هذا إلى تأكيد على دور العلماء وطلبة العلم خاصة من النسل الشريف وآل البيت المنيف ممن جرت في عروقهم الدماء الزكية أن يملكوا زمام المبادرة في الحفاظ على عقيدة جدهم صلى الله عليه وسلم، وألا يتركوا الصوت العالي يذهب لغيرهم ممن يتاجر باسمهم وينتفع بالحديث عنهم، مفسدًا أديان الناس وعقائدهم. إن عليهم وعلى عموم الأمة مسؤولية عظمى لهداية الناس وتبصيرهم بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم واكتمل بوفاته، وتنقية فطر المسلمين من لوثات الغلو والجفاء لئلا تحيد بهم الأهواء عن صراط الله الذي قال فيه سبحانه: "وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيها من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد،
فلقد وفّق الله هذه البلاد ومنذ أن قامت في دورها الأول بلزوم جماعة المسلمين والتمسك بالإسلام الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين، وقفوا أثر آل البيت وعموم الصحابة والتابعين مما جعل للإسلام في هذه الديار بقاء بنقاء وهيمنة بصفاء. إن الإسلام الذي تمسكت به هذه البلاد هو الإسلام الذي قبلَتْه أجيال الأمة على مرَّ القرون يُسْلِمُه سلَفُهم إلى خَلَفِهم وعُلَماؤهم إلى مُتَعَلمهم، نافين عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ولأجل هذا كانت هذه البلاد بحكامها وعلمائها في مَرْمَى سهام المتربصين، وإفك الكاذبين، لقد نال علماء هذه البلاد الكثير من الطعن والتكفير كما نال حكامه صنوف من اللمز والتشكيك في المواقف السياسية والمبادرات والقرارات في محاولة للحد من تأثيرها الإيجابي في العالم. ولإقصائها عن الريادة في أمور الدين وفضاء السياسة وهو الأمر الذي هو قَدْرُها وقدرها ويمليه عليها مكانها ومكانتها وتتطلع إليه قلوب المستضعفين قبل عيونهم أملاً في لملمة شمل، وتطلعًا لمداواة جرح، ورغبة في سد حاجة. ومواقفها وسيرتها شاهدة على الجمع لا التفريق ورأب الصدع لا شق الصفوف، حفظها الله قائمة بالإسلام منافحة عنه.
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل في علاه: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا" اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وصل وسلم وبارك على آله وأزواجه وذريته وصحابته وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابة نبيك أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحب وترضى، وخذ بهم للبر والتقوى، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لرضاك واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه ونائبه وإخوانهم وأعوانهم لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم هيئ له البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان. الله كن للمسلمين في فلسطين وفي كل مكان. اللهم آمنهم في أوطانهم وأرغد عيشهم واحقن دماءهم واكبت عدوهم. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرّج هم المهمومين والمسلمين ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين وفك أسر المأسورين واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم ولجميع المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


الصحابة ومكانتهم عند المسلمين


رَبَّنَا لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ

الإهداء
أهدي هذه الرسالة إلى مَن تعهداني بأسباب الرعاية
أمي وأبي



المقـدمة




مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل ومن يضلل فما له من هاد.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المتقين وقائد الغر المحجلين الذي بُعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بهديه, فكانوا أعلام الهدى , المنار المقتدى.
أما بعد:
فقد تعرض الجيل الأول من المسلمين إلى محن قاسية وتحملوا أعباء كبيرة من أجل التمكين لهذا الدين القيّم في الأرض, فخرجوا من قلب الجزيرة العربية إلى العالم أجمع يحملون لهم الدواء الناجع لما كانت تعانيه الإنسانية من ضياع وتمزق. يحملون السلام العالمي الذي طالما حلم به الفلاسفة والحكماء, وقدموه للدنيا بأسرها وعلى وجوههم علامات الرضا, غير عابئين بما ضحوا في سبيل ذلك من دمائهم وأموالهم واغترابهم. فنالوا بهذه التضحيات الجسام الثواب الجزيل من الله تعالى والحب العظيم من رسول الله e, وأصبحوا نبراس الأمة الإسلامية ومثالها الفذ مَن أجبهم أحب الله ورسوله ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله.
غير إن كثيراً ممن استحوذ عليهم الشيطان, وممن نذروا أنفسهم للنيل من هذا الدين العظيم لم يرق لهم هذا التكريم لصحابة رسول الله e وكانوا يعلمون أنهم يمثلون سور الدين, وأن الطعن فيهم هو السبيل الموصلة إلى هدمه دون ضوضاء, فأخذوا يشوهون صورتهم في أعين الناس, ويبثون آراءهم المنحرفة في صحابة رسول الله e.
لهذا كله حق على كل مسلم غيور أن في كل زمان ومكان أن يدافع عن تلك النخبة الطاهرة الذين لولا جهادهم وإخلاصهم وأمانتهم لما نعمنا بنعمة الإسلام, وأن يساهم ولو بشيء يسير في إبراز دورهم الهام في حفظ الشريعة وتعاليم الدين, لأننا مدينون لهم بكل شيء, فحبهم قربى إلى الله, والذود عنهم ذود عن حياض الدين, ولاشيء أوجب على المسلم في حياته من ذلك.
وهذا ما دفعني إلى أن أكتب رسالتي في هذا الموضوع وأن أسميها " الصحابة ومكانتهم عند المسلمين" سائلا المولى تعالى أن يجعلها في صحيفة عملي يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.

وقد جاءت رسالتي على بابين وخاتمة.

فالباب الأول – عقدته في الصحابة- جاء مشتملاً على ثلاثة فصول:

الفصل الأول في التعريف بالصحابة رضي الله عنهم, وذكرت فيه تعريف الصحابي لغة واصطلاحاً, وطبقات الصحابة, وعددهم والطرق التي يُعرف بها الصحابي.
أما الفصل الثاني فقد عقدته لبيان عدالتهم رضي الله عنهم وبينت فيه عدالتهم من خلال القران الكريم, والسنة النبوية وأقوال علماء الأمة وسلفها الصالح, ثم من خلال سيرتهم وأحوالهم العطرة.
والفصل الثالث, تحدثت فيه عن اختلافات الصحابة فتكلمت عن أسباب الاختلاف بين الناس عموماً, ثم بين الصحابة وأنواع الاختلافات التي وقعت بين الصحابة, وعن الآثار الناجمة عن تلك الاختلافات وأخيرا موقف علماء الأمة من اختلافهم.
أما الباب الثاني الذي عقدته لبيان مكانتهم فقد جاء مشتملاً على ستة فصول:
الفصل الأول: تحدثت فيه عن مكانة الصحابة عند الشيعة الإمامية. وذكرت فيه أيضاً نشأتهم وآراءهم وفرقهم.
الفصل الثاني: تكلمت فيه عن الإسماعيلية تعريفها ونشأتها وآرائها وموقفها من الصحابة ومكانتهم لديها, وأتيت فيه بشيء من جهود العلماء في مقاومة ضلالها.
الفصل الثالث: تحدثت فيه عن الزيدية وما قامت به من محاولات لتصحيح منهج التشيع وبينت فيه موقفهم من صحابة رسول الله e بعد أن ذكرت فرقهم.
الفصل الرابع: تحدثت فيه عن الخوارج وأسباب ظهورهم وصفاتهم وفرقهم وأرائهم ثم عن مكانة الصحابة عندهم.
الفصل الخامس: تحدثت فيه عن أهل السنة والجماعة وذكرت تعريفهم وأصنافهم وموقفهم من الصحابة وحكم من تجاوز عليهم عندهم بسب أو لعن أو اكفار.
الفصل السادس: عقدته في بيان النتائج الضارة للطعن في الصحابة رضي الله عنهم, وبينت فيه أن الطعن ينجم عنه الطعن في صحة نقل القرآن الكريم, والطعن في صحة نقل السنة النبوية, وتكذيب القرآن والسنة في نصوص كثيرة بعينها, وكذلك ينجم عنه الطعن في شخص الرسول e وأخيراً تصوير الإسلام ديناً بعيداً عن التطبيق العملي.


أما الخاتمة فقد تحدثت فيها عن النتائج التي خرجت بها من دراستي هذه.
ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور حارث سليمان الضاري لتفضله بالإشراف على رسالتي المتواضعة هذه ولما قدمه لي من ملاحظات أثناء كتابتي لها, التي كانت نعم العون لي. كما أتقدم بالشكر لكل من مد يد المساعدة وأشكر أسرة مكتبة كلية العلوم الإسلامية لما قدموه لي من تعاون وأسرة مكتبة التأميم المركزية فجزاهم الله عني ألف خير.
وأخيراً... فهذا جهد بذلته فإن أصبت فبعون من الله وفضل وإن أخفقت فإنما أنا بشر. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



الباب الأول
الفصل الأول
التعريف بالصحابة

من هو الصحابي
طبقات الصحابة
عدد الصحابة
طرق معرفة الصحابي





أولاً:- مَن هو الصحابي؟
الصحابي لغة مشتق من الصحبة, وهي المعاشرة, جاء في لسان العرب: صحبه يصحبه صُحبة بالضم وصحابة بالفتح, وصاحَبَه عاشَرَه ... والصاحب المُعاشر().
وقال صاحب المصباح المنير: والأصل في هذا الإطلاق -أي إطلاق اسم الصحبة من حيث اللغة- لمن حصل له رؤية ومجالسة. ووراء ذلك شروط للأصوليين. ويطلق مجازاً على من تمذهب بمذهب من مذاهب الأئمة, فيقال: أصحاب الشافعي, وأصحاب أبي حنيفة(), وكل شيءٍ لائم شيئاً فقد استصحبه().
ولا يشترط في إطلاق اسم الصحبة لغة, أن تكون الملازمة بين الشيئين طويلة الأمد, أو الملابسة بينهما عميقة, لأنها اسم مشتق من فعل, والأسماء المشتقة من الأفعال يصح أن تطلق بمجرد صدور الفعل, ولا علاقة لها بمقدار تحقق ذلك الفعل في الشخص.
فكما أن قولك: ضارب وهو اسم مشتق من الفعل (ضرب) يصح أن يطلق بمجرد صدور الضرب من شخص ما دون النظر إلى مقدار هذا الضرب, كذلك يصح أن يطلق اسم الصحابي أو الصاحب على كل من صحب غيره مهما كان مقدار الصحبة. لهذا قال صاحب الرياض المستطابةSadيطلق اسم الصحبة في اللغة على الشيئين إذا كان بينهما ملابسة وان قلّت أو مناسبة أو ملابسة من بعض الوجوه)().
أما تعريف الصحاب من حيث الاصطلاح فقد اختلف العلماء في حدّه على أقوال (فالمعروف عند المحدثين أنه كل مسلم رأى رسول الله r )(), وقال ابن حجر: (هو من لقي النبي e مؤمناً به ومات على الإسلام ولو تخللت ردة على الأصح)().
غير أن (منهم من بالغ فكان لا يعد من الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية كما جاء عن عاصم الأحول حيث قال: رأى عبدالله بن سرجس رسول الله e غير انه لم يكن له صحبة, هذا مع كون عاصم قد روى عن عبدالله بن سرجس هذا عدة أحاديث وهي عند مسلم وأصحاب السنن وأكثرها من رواية عاصم عنه, ومنها قوله: إن النبي e استغفر له. فهذا يوضح رأي عاصم في الصحابي بأنه من صحب الصحبة العرفية().
(وكذا روى عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد من الصحابة إلا من أقام مع النبي e سنة فصاعداً أو غزا معه غزوة فصاعداً)().
ومنهم من اشترط أن يكون حين اجتماعه بهF بالغاً , وهو مردود أيضاً لأنه يخرج أمثال الحسين بن علي ونحوه من أحداث الصحابة() وروي عن بعض أصحاب الأصول في تعريفهم للصحابي (أنه من طالت مجالسته عن طريق التتبع)() قال ابن حجر: (والعمل على خلاف هذا القول وأنهم اتفقوا على عدّ جمع من الصحابة لم يجتمعوا بالنبي e إلا في حجة الوداع)().
ولعل أرجح التعاريف وأجمعها ما اختاره ابن حجر إذ قال: (وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي e مؤمناً به ومات على الإسلام فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته أو قصرت ومن روى عنه أو لم يرو عنه ومن غزا معه أو لم يغز معه ومن رآه ولو لم يجالسه, ومن لم يره لعارض كالعمى)().
وهذا الذي صححه ابن حجر نسَبَه كثير من العلماء إلى الإمام البخاريT. وأثبت ابن حجر أن البخاري تابع فيه شيخه علي بن المديني T حيث قال: (وقد وجدت ما جزم به البخاري من تعريف الصحابي في كلام شيخه علي بن المديني فقرأت في المستخرج لأبي قاسم بن منده بسنده إلى أحمد بن يسار الحافظ المروزي قال: سمعت أحمد بن عتيك يقول: قال علي بن المديني: من صحب النبي e ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي e)().
وأرى أن هذا التعريف الذي ذكره ابن حجر هو أرجح التعاريف لما يلي:
أولاً: لأنه يتماشى مع المدلول اللغوي لكلمة الصحبة, ولا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا عند وجود مقتضى لذلك من نص أو مانع, لا وجود لشيء من ذلك كله.
ثانياً: لأنه قول جهابذة السنة وعلماء الأمة ممن لا يعدل قولهم قول غيرهم ممن خالفهم.
ثالثاً: لأن التوسع في إطلاق الصحبة يرى فيه العلماء وجهاً من وجوه الثناء على رسول الله e وتقديراً لمكانته e حق قدرها, قال ابن الصلاح: (بلغنا عن أبي المظفر السمعاني المروزي أنه قال: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثاً أو كلمة ويتوسعون حتى يعدوا من رآه رؤية من الصحابة, وهذا لشرف منزلة النبي e أعطوا كل من رآه حكم الصحبة)().
رابعاً: إن الأقوال الأخرى غير جامعة لكل من تشرف بلقاء النبي e أو رآه ولو مرة, لأنها اشترطت طول المجالسة أو الغزو معه أو الرواية عنه e وهذه الأمور لم تتحقق لكثير ممن وصفوا بالصحبة, كالعميان والأحداث من الصحابة y.
ثم إن الصحبة تكريم من الله لجماعة من البشر اختارهم سبحانه ليكونوا معية رسول الله e والنقلة لكل أحداث عصر النبوة. كما إن الجرح والتعديل بتطبيقهم لقواعد النقد العلمي الصحيح لم يعثروا على ما يمكن أن يكون مخلاً بعدالة أي شخص ثبت أنه رأى أو لقي النبي e مسلماً ومات على الإسلام.

ثانياً: طبقات الصحابة
حينما نقول أن كل من رأى النبي e مؤمناً به ومات على الإيمان فان له شرف الصحبة, وما يلزم منها من العدالة ودخولهم الجنة بوعد الله تعالى لهم بقوله: } لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌÇÊÉÈ {() فليس معنى هذا أن الصحابة كلهم على مرتبة واحدة, بل هم على طبقات ودرجات, حددها عدل الله سبحانه وتعالى. إذ فيهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار, وفيهم من تلوهم وتبعوهم بإحسان, فكان لابد أن يتفاوتوا في الفضل والمرتبة والزلفى عند الله تعالى, لذلك رتبهم العلماء الذين اعتنوا بهم إلى طبقات, وقد اختلفوا في ترتيب تلك الطبقات باعتبارات مختلفة.
فقسمهم ابن سعد في طبقاته على حسب القدم والمشاهد إلى خمس طبقات, هي():
الأولـى : البدريون من المهاجرين.
الثانيـة : البدريون من الأنصار.
الثالثـة : الذين لم يشهدوا بدراً ولهم إسلام قديم.
الرابعـة: الذين أسلموا قبل الفتح.
الخامسة : الذين أسلموا بعد الفتح.

ورتبهم الحاكم إلى اثنتي عشرة طبقة() وهي كالآتي:
الأولى: قوم أسلموا بمكة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم.
الثانية: أصحاب دار الندوة.
الثالثة: المهاجرون إلى الحبشة.
الرابعة: الذين بايعوا النبي e عند العقبة.
الخامسة: أصحاب العقبة الثانية.
السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله e وهو بقباء قبل أن يدخل المدينة ويبني المسجد.
السابعة: أهل بدر الذين قال رسول الله e فيهم: (( لعل الله أطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم))().
الثامنة: المهاجرون الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا { ().
العاشرة: المهاجرة بين الحديبية والفتح, منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبو هريرة().
الحادية عشرة: الذين أسلموا يوم الفتح وهم جماعة من قريش.
الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله e يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرهما.

والناظر في تقسيم الحاكم يرى أنه قائم على السبق في دخول الإسلام بغض النظر عن أية عوامل أخرى, بخلاف ما جرى عليه ابن سعد في طبقاته من اعتماده المشاهد والسبق إلى الإسلام معاً, فعنده أن المهاجر البدري أعلى رتبة من الأنصاري البدري باعتبار عامل السبق, ومن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار فهو أعلى رتبة ممن لم يشهدها وإن كان إسلامه قديماً, وهو بهذا يكون أميز من مخالفيه في تقديرنا.
هذا الترتيب والمفاضلة بين الصحابة y على سبيل الإجمال، أما على سبيل الأفراد لكل منهم فقد ذهب جمهور علماء أهل السنة إلى أن أفضل الناس بعد رسول الله e أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة ثم أهل بدر ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان وممن لهم مزية من أهل العقبتين من الأنصار والسابقين الأولين().

ثالثاً: عدد الصحابة
لاشك أن حصر عدد الصحابة أمر متعذر لأمور, منها: أن الرسول e عاش يدعو إلى دين الله ثلاثة وعشرين عاما, وقد أسلم في هذه الفترة خلق كثير بلا شك, فمنهم من كان يقيم معه ومنهم من يرجع إلى الجهة التي جاء منها, ومعرفة من أعلن إسلامه أمام الرسول e ومن أسلم دون أن يلتقي به أمر في غاية الصعوبة.
لذا فإن من كتب في هذا المجال, فإنما كتب على سبيل التقريب لا التحديد فيما نظن.
فقد روي عن أبي زرعة الرازي قوله: (توفي رسول الله e ومن رآه ومن سمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية)().
وأخرج الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (خرج رسول الله e لعشر مضين من رمضان, وصام الناس معه, حتى إذا كانوا بالكديد أفطر, ثم مضى في عشرة آلاف من المسلمين) وكان ذلك عام الفتح().
وقال ابن حجر: (ثبت عن سفيان الثوري فيما أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه قال: من قدّم علياً على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفاً مات رسول الله e وهو عنهم راض()- يعني الذين توفوا في خلافة أبي بكر وعمر-.
من خلال هذه الآثار يتبين لنا أن أصحاب رسول الله e كانوا من الكثرة بحيث أن الرواة الذين سمعوا من رسول الله e يزيدون على مائة ألف.
ومع هذا فإن التاريخ لم يحفظ لنا عشر ما ذكره أبو زرعة من الرواة. وقد قام الدكتور أكرم ضياء العمري بدراسة استقرائية في كتب معرفة الصحابة وتوصل إلى هذه النتيجة().
إن أوسع كتب معرفة الصحابة هو كتاب الإصابة لابن حجر حيث بلغت ترجماته(9477) ترجمة ممن عرفوا بأسمائهم و (1268) ترجمة ممن عرفوا بكناهم و (1522) ترجمة امرأة.
وليس كل من أوردهم ابن حجر في الإصابة قد ثبتت صحبتهم, فقد ذكر في مقدمة كتابه أنه تناول فيه أربعة أقسام, وهي:
الأول: من وردت صحبته بطريق الرواية عنه أو عن غيره سواء أكانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة, أو وقع ذكره على الصحبة بأي طريق كان.
الثاني: فيمن ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي e لبعض الصحابة من الرجال والنساء ممن مات e وهم دون سن التمييز, لغلبة الظن أنه e رآهم.
الثالث: فيمن ذكر في الكتب المتقدمة عليه من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يرد خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي e ولا رأوه, سواء أسلموا في حياته أم لا, وهؤلاء ليسوا صحابة بالاتفاق.
الرابع: فيمن ذكر في الكتب المتقدمة أنه صحابي على سبيل الوهم والغلط وبيان ذلك().

رابعاً: طرق معرفة الصحابي

للعلماء في معرفة الصحابة رضي الله عنهم طرق يعرفونه بها, ويمكن إجمال هذه الطرق بما يلي:
الأولى: الخبر المتواتر, كصحبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
الثانية: الخبر المستفيض أو المشهور: وهو الخبر الذي لم يصل إلى حد التواتر.
الثالثة: إخبار بعض الصحابة أنه صحابي.
الرابعة: شهادة ثقات التابعين في حقه بكونه صحابياً.
الخامسة: إخباره عن نفسه بصحبته لرسول الله بعد أن ثبتت عدالته عند علماء الجرح والتعديل().
فإذا ما ثبتت للشخص صحبة بأية طريقة من هذه الطرق فهو صحابي ويجب تعديله, واعتبار أقواله ومروياته دون عرضها على ميزان الجرح والتعديل.


الباب الأول
الفصل الثاني
عدالة الصحابة


تعريف العدالة
بم فضل الصحابة y على غيرهم
عدالة الصحابة y في القران الكريم
عدالة الصحابة y في السنة النبوية
عدالة الصحابة y في أقوال السلف الصالح
عدالة الصحابة y من خلال أحوالهم وسيرتهم العطرة
قبل أن نخوض في إثبات عدالة الصحابة رضي الله عنهم من خلال الكتاب والسنة وآراء العلماء, أرى من المناسب أن نتحدث عن معنى العدالة من حيث اللغة والاصطلاح وتوضيح الفرق بينها وبين العصمة ثم نتحدث عن الأشياء التي بها فُضّل الصحابة على غيرهم, بالله التوفيق.
أولاً:- تعريف العدالة
العدالة في اللغة مشتقة من العدل ضد الجور... ورجل عدل أي رضا ومقنع في الشهادة. وتعديل الشيء تقويمه .. وتعديل الشهود أن تقول أنهم عدول().
والعدالة في الاصطلاح عرفها ابن حجر بقولهSad إنها ملكة تحمل على ملازمة التقوى. والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة)() ولعل هذا التعريف هو المختار عند علماء الحديث.
فالعدالة بهذا المنظور لا تعني أن يكون الإنسان معصوماً, ونحن لا نريد أن نصل بالصحابة إلى مرتبة العصمة, إذ لا يجوز لنا أن ندعيها لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقد فهم العلماء هذه الحقيقة, فقد روى الخطيب البغدادي بسنده إلى إمام التابعين سعي بن المسيب أنه قال: (ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب, لابد , لكن من الناس مّن لا تُذكر عيوبه. من كان فضله أكثر من نقصه, وهب نقصه لفضله)().
فإذا صدر من أحد الصحابة ذنب, فلا يعني هذا خروجه من دائرة العدالة لأن مقومات العدالة لا تنص على عدم إتيان الذنوب, كما تنص العصمة على ذلك(). فكل من كان مسلماَ بالغاً عاقلاً سالماً من أسباب الفسق, سالماً من خوارم المروءة فهو جدير بتعديل المعدلين(), ولا يضره بعد ذلك أن تكون له هنّات وزلات, فالزلة لا تسقط بها العدالة كما نص على ذلك أبو حاتم الرازي().


ثانياً: بمَ فُضّل الصحابة على غيرهم.
لا شك أن علماء الأمة عليهم رضوان الله تعالى كانوا عالمين أن الصحابة يمتازون عن غيرهم بأمور استحقوا بها أن يسجل الله سبحانه وتعالى تعديلهم في الذكر الحكيم ليبقى في صدور المؤمنين وعلى أطراف ألسنتهم ما دامت السموات والأرض.
ومن أجل أن نتعرف على الأمور التي استحق بها الصحابة رضي الله عنهم هذه المنزلة, يجدر بنا أن نتعرف أولاً على الأسس التي يتفاضل العاملون بموجبها في أعمالهم بشكل عام, ثم نتعرف على نصيب الصحابة من تلك الأسس لكي نكون على بينة من أمرنا. ومن أجــل أن لا يظن ظان أن العلماء ربما بالغوا حينما قالوا بتعديل الصحابة رضوان الله عليهم وتفضيلهم على مَن سواهم.

وجوه التفاضل بين الناس
لقد رد ابن حزم رحمه الله أسباب التفاضل بين العاملين إلى سبعة أوجه:
(الوجه الأول:- الماهية, وهي أن تكون الفروض في أعمال أحدهما موافاة كلها, ويكون الآخر يضيع بعض الفروض وله نوافل...
الوجه الثاني:- الكمية وهي العرض, فان يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله لا يمزج به شيئاً البتة ويكون الآخر يساويه في جميع عمله, إلا أنه ربما مزج بعمله شيئاً من حب الترقي في الدنيا, وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه.
الوجه الثالث:- الكيفية, فان يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقــوقه ورتبه لا منتقصاً و لا مزيداً ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسننه, وان لم يعطل منه فرضاً.
الوجه الرابع:- الكم, فان يستويا في أداء الفرض, ويكون الآخر أكثر نوافل, فيفضله هذا بكثرة عدد نوافله.
الوجه الخامس: الزمان, فكمن عمل في صدر الإسلام, أو في عام المجاعة, أو في وقت نازلة بالمسلمين, وعمل غيره بعد قوة المسلمين أو في زمن رخاء وأمن...
الوجه السادس:المكان, كصلاة في المسجد الحرام ومسجد المدينة, فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما...
الوجه السابع:- الإضافة, فركعة من نبي أو معه, أو صدقة من نبي, أو صدقة معه, أو ذكر من نبي أو ذكر معه, أو سائر أعمال البر منه ومعه: فقليل ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده)(). (أ.هـ)
هذه هي وجوه التفاضل بين الناس ولننظر الآن ما نصيب الصحابة رضوان الله عليهم من هذه الوجوه.
إذا دققنا النظر في الوجوه التي ذكــرناها آنفاً, جدنا أن الوجه الخامس والوجه السابع لا يشارك الصحابة فيه أحد البتة. فهم الذين آمنوا حين كفر الناس, وهم الذين أنفقوا حين بخل الناس, وهم الذين جاهدوا حينما كانوا قلة يخافون أن يتخطفهم الناس فما زادهم ذلك إلا إيماناً. ومن أجل هذا قال رسول الله r Sad لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه)().
وقال تعالى: }لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{()
قال ابن حزم معلقاً على هذه الآية الكريمة: (وهذا في الصحابة فيما بينهم فكيف لمن بعدهم معهم رضي الله عنهم)(). هذا بالنسبة للوجه الخامس.
أما الوجه السابع من وجوه التفاضل وهو الإضافة: فان الصحابة رضي الله عنهم وحدهم الذين كانت أعمالهم مقترنة مع رسول الله e, صلاتهم وحجهم وجهادهم وسائر عباداتهم, وفي هذا منزلة وشرف تتطلع إليه الأعناق ولا يناله إلا من آتاه الله حظاً عظيماً, لذا فإن أي عمل يقوم به الصحابي بعد رسول الله e لا يوازي شيئاً من عمل البر الذي عمله ذلك الصحابي نفسه مع رسول الله e. وكذلك يمتاز الصحابة عن غيرهم ممن جاء بعدهم بإيمانهم العميق وإخلاصهم العمل لله سبحانه وتعالى, وهو الوجه الثاني من وجوه التفاضل التي ذكرناها آنفاً, وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية محتجاً لرأي عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل في تفضيل كل فرد في الصحابة على كل فرد ممن جاء بعدهم: (ومن حجة هؤلاء: أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر وعدل عمر بن عبدالعزيز أظهر من عدل معاوية t وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب, وقد قال النبي e لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه, قالوا: نحن نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم, لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك الصحابي ... وقال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم الصديق بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه) () ثم هم لم يقصرا فيما تبقى من وجوه التفاضل فقد كانوا حريصين على أن يتمثلوا برسول الله e في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتهم, فما أجدرهم أن ينالوا ما نالوا وما أجدرنا باحترامهم وإنزالهم المنزلة التي رضيها لهم رب العالمين.
وفوق كل هذا فالصحابة رضي الله عنهم هم نقلة السنة النبوية والشهود على الرسالة السماوية, وهم الذين نذروا أنفسهم في سبيل نشر هذه الرسالة التي امتزجت بها دماؤهم وأرواحهم مما يوجب لهم فضلا عظيما على كل من جاء بعدهم, لأن الله تعالى جعلهم سبباً في هداية غيرهم, مما يدخلهم في قوله e Sad من علّم علماً فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل)().
وقوله e Sadمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجروه شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) ().

ثالثاً: عدالة الصحابة في القران الكريم:
القرآن هو كتاب الله, كلمته الهادية لأهل الأرض, وهو المقياس الذي يتفاضل الناس في دينهم بمدى تمسكهم بتعاليمه واهتدائهم بهديه, فلا يعد مؤمناً-بإجماع الأمة- من يرى جواز مخالفته لقوله تعالى:} فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{(), إذن فلا يسع المسلم بأي حالٍ من الأحوال إلا أن يسلم قلبه ولبه لله تعالى في كل ما ورد من تشريعات سواء أكانت بنص الكتاب أم على لسان رسول الله r .
وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن الصحابة الكرام مشتملة على مكارم كثيرة منحها الله تعالى لهم, بما قدموا من أموالهم وأنفسهم في سبيل نصرة دين الله .
وهذه الآيات من الكثرة والصراحة بحيث لا يستطيع أحد معها أن ينال من صحابي إلا من كان ناقص الإيمان, مريض القلب والعياذ بالله تعالى.
فمن هذه الآيات قوله تعالى: }لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {() و قوله تعالى: } كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ{ () وأكثر العلماء على أن المراد بهذه الآية هم المخاطبون عند نزول الوحي وهم صحابة رسول الله r كما نص على ذلك الخطيب وابن حجر().
ومنها قوله تعالى: } وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ ().
ومنها قوله تعالى:} مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ () وقوله تعالى: } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا { () و قوله تعالى: } لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ=(Cool وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ = 9 وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{().
ولو لم يأت ذكر الصحابة yفي القرآن الكريم إلا في هذه الآيات الثلاث لكانت كافية لهم في الدنيا والآخرة, كافية لمن يأتي بعدهم في اتخاذ الموقف النبيل تجاه من أكرمه الله تعالى اقراراً بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء.
والمؤمن الحق حين يرى قافلة الإيمان تمضي عليه أن يبذل جهده ليكون في الطليعة فإن لم ينل ذلك فلا أقل من أن يتمنى أن يصل إلى مرتبتهم وأن يلقى الله ومحبتهم في قلبه, وينزع الغل والحسد والبغضاء لركب المؤمنين الأوائل.
و قوله تعالى: } تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ { ()
و قوله تعالى: } الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {()
وقال جل شأنه في حق المهاجرين:} فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ{ ().
ويقول تعالى شاهداً لهم بالإيمان الحق:} وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{ ().
ثم يذكر الله تعالى بشارته لعامة الصحابة y المنفق منهم قبل الفتح والمنفق بعده فيقول جل ذكره: :} لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{().
و قال تعالى: :} إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{ ().
وقد ذكر تعالى الصحابة y في مواضع كثيرة قارناً ذكرهم بذكر رسول الله r وفي هذا تشريف لهم أيما تشريف, وقد بلغت هذه الآيات من الكثرة ما يطول بنا ذكرها, لذا سنكتفي بذكر طرف منها فإن فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
من هذه الآيات قوله تعالى: } إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ{ ().
و قوله تعالى: } إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ{ ().
و قوله تعالى: } وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:24 pm

- شكاوى ضد أبي موسى الأشعري والي البصرة:
عن جرير بن عبد الله البجلي أن رجلاً كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت، ونكاية، في العدو، فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعاً، فجلده أبو موسى عشرين سوطاً وحلقه، فجمع الرجل شعره ثم ترحل إلى عمر بن الخطاب حتى قدم عليه، فدخل على عمر بن الخطاب، قال جرير: وأنا أقرب الناس من عمر، فأدخل يده فاستخرج شعره ثم ضرب به صدر عمر ثم قال: أما والله لولا النار، فقال عمر: صدق والله لولا النار فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية، فأخبره بأمره، وقال ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه، فقال عمر رضي الله عنه: لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا، فأحب إلي من جميع ما أفاء الله علينا، فكتب عمر إلى أبي موسى: السلام عليك أما بعد فإن فلاناً أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس، فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس، حتى يقتص منك وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس، فاقعد له في خلاء من الناس، حتى يقتص منك، فقدم الرجل، فقال له الناس: أعف عنه، فقال: لا والله لا أدعه لأحد من الناس، فلما قعد له أبو موسى ليقتص منه، رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قال: اللهم إني قد عفوت عنه( )، وعن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- قال: كنا مع عمر في مسير فأبصر رجلاً يسرع في سيره، فقال: إن هذا الرجل يريدنا، فأناخ ثم ذهب لحاجته، فجاء الرجل فبكى وبكى عمر –رضي الله عنه- وقال: ما شأنك؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني شربت الخمر، فضربني أبو موسى وسود وجهي، وطاف بي، ونهى الناس أن يجالسوني، فهممت أن آخذ سيفي فأضرب به أبا موسى، أو آتيك فتحولني إلى بلد لا أعرف فيه، أو ألحق بأرض الشرك، فبكى عمر –رضي الله عنه- وقال: ما يسرني أنك لحقت بأرض الشرك وأن لي كذا وكذا، وقال: إن كنت ممن شرب الخمر، فلقد شرب الناس الخمر في الجاهلية، ثم كتب إلى أبي موسى: إن فلاناً أتاني فذكر كذا وكذا، فإذا أتاك كتابي هذا فأمر الناس أن يجالسوه وأن يخالطوه، وإن تاب فاقبل شهادته، وكساه وأمر له بمائتي درهم( )، وجاء في رواية: إن فلاناً بن فلان التميمي أخبرني بكذا وكذا، وايم الله لئن عُدت لأسودنّ وجهك وليطاف بك في الناس، فإن أردت أن تعلم أحقًّ ما أقول فعد وأمُر الناس فليؤاكلوه وليجالسوه، وإن تاب فاقبلوا شهادته وكساه عمر رضي الله عنه حُلّة وحمله، وأعطاه مائتي درهم( )، وهذه القصة فيها حرص الفاروق على ألا يتعدى أحدٌ من عماله العقوبات الشرعية عند معاقبة العاصين( ).

4- شكوى أهل حمص ضد سعيد بن عامر:
قال خالد بن معدان: استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر الجُمحي، فلما قدم عمر حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه، وكان يقال لأهل حمص الكوفية الصغرى لشكايتهم العمال، قالوا: نشكوه أربعاً، لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: وعظيمة، وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال عظيمة وماذا؟ قالوا: يَغْنَط الغَنْطَة بين الأيام (أي يغمى عليه ويغيب عن حسه) فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللهم لا تفيّل رأيي فيه اليوم، وافتتح المحاكمة فقال لهم أمامه: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: ما تقول؟ قال: والله إن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم فقال: ما تشكون منه؟ قالوا:
لا يجيب أحداً بليل، قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل قال: وما تشكون منه؟ قالوا: إن له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجفّ ثم أدلكها ثم أخرج إليهم آخر النهار قال: ما تشكون منه، قالوا: يَغْنط الغنطة بين الأيام قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خُبيب الأنصاري بمكة وقد بضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعة فقالوا، أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال، والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً ? يشتاكُ شوكة ثم نادى يا محمد فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً فتصيبني تلك الغنطة فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيّل فراستي، فبعث إليه بألف دينار وقال: استعن بها على أمرك، ففرَّقها( ).

5- عزل من استهزأ بأحد أفراد الرعية:
قال قيس بن أبي حازم رحمه الله: استعمل عمر –رضي الله عنه- رجلاً من الأنصار فنزل بعظيم أهل الحيرة عمرو بن حيان بن بقيلة، فأمال عليه بالطعام والشراب
ما دعا به، فاحتبس الهزل( )، فدعا الرجل فمسح بلحيته، فركب إلى عمر –رضي الله عنه- فقال يا أمير المؤمنين، قد خدمت كسرى وقيصر فما أُتي إليّ ما أتي في ملكك، قال: وما ذاك؟ قال: نزل بي عاملك فلان فأمَلْنا عليه بالطعام والشراب، ما دعا به فاحتبس الهزل فدعاني فمسح بلحيتي، فأرسل إليه عمر –رضي الله عنه- فقال: هيه؟! أمال عليك بالطعام والشراب ما دعوت به، ثم مسحت بلحيته؟ والله لولا أن تكون سنة ما تركت في لحيتك طاقة إلا نتفتها، ولكن اذهب فوالله لا تلي لي عملاً أبداً( ).

ثالثاً: العقوبات التي نزلت بالولاة في عهد عمر رضي الله عنه:
نتيجة لمراقبة الفاروق لولاته لاحظ وجود بعض الأخطاء التي وقع فيها الولاة، فقام بتأديبهم ومعاقبتهم على هذه الأخطاء التي وقعوا فيها وقد اختلفت طرق تأديب الولاة حسب اختلاف الأحداث وحسب ما يراه الخليفة ومن أهم أساليب الولاة:

1- القود من الأمراء والاقتصاص منهم لو أخطأوا:
وقد كان عمر يقول: ألا وأني لم أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلمونكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذن لأقصنه( )، ولم يكتف عمر بالبيانات الرسمية التي تهدد الولاة وتمنعهم من الاعتداء على الناس بل إنه طبق ذلك عملياً، كما مر معنا فيمن اشتكى من أبي موسى الأشعري، واشتكى من عمرو بن العاص رضي الله عنهم( ).

2- عزل الوالي نتيجة وقوعه في الخطأ:
وقد قام الفاروق رضي الله عنه بعزل الولاة نتيجة وقوعهم في أخطاء لا يرتضيها، فقد عزل رضي الله عنه أحد الأمراء نتيجة تدخله فيما لا يعنيه في شئون أجناده حيث بعثه على جيش، فلما نزل بهم قال: عزمت عليكم لما أخبرتموني بكل ذنب أذنبتموه فجعلوا يعترفون بذنوبهم فبلغ ذلك عمر فقال: ما له لا أم له، يعمد إلى ستر ستره الله فيهتكه؟ والله لا يعمل لي أبداً( )، كما غضب عمر من أحد الولاة حينما بلغه بعض شعره وهو يتمثل فيها بالخمر فعزله( ).

3- إتلاف شيء من مساكن الولاة:
وهو ما يقع فيه المخالفة، فقد كان عمر رضي الله عنه يحرص على أن تكون بيوت الولاة بدون أبواب، وبدون حجاب، فلما بلغه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قد وضع بابا لداره بعث إليه محمد بن مسلمة وأمره بإحراق ذلك الباب( )، وكان سبب ذلك الباب قرب الأسواق من داره، وكانت الأصوات مرتفعة بالسوق تؤذي سعداً، فوضع بابا يحجز عنه أصوات الناس بالسوق، وبلغ ذلك أسماع عمر عن دار سعد وبابه، وأن الناس يسمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة وأرسله إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك، فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطباً ثم أتى به القصر، فأحرق الباب( )، وروى ابن شبة: أن عمر استعمل مجاشع بن مسعود على عمل فبلغه أن امرأته تجدد بيوتها فكتب إليه عمر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى مجاشع بن مسعود سلام عليك أما بعد فقد بلغني أن الخضيراء تحدث بيوتها، فإذا أتاك كتابي هذا فعزمت عليك ألا تضعه من يدك حتى تهتك ستورها، قال: فأتاه الكتاب والقوم عنده جلوس فنظر في الكتاب، فعرف القوم أنه قد أتاه بشيء يكرهه، فأمسك الكتاب بيده ثم قال للقوم: انهضوا فنهضوا: والله ما يدرون إلى
ما ينهضهم، فانطلق بهم حتى أتى باب داره فدخل فلقيته امرأته فعرفت الشر في وجهه فقالت له: مالك؟ فقال إليك عني قد أرمقتني( )، فذهبت المرأة، وقال للقوم: ادخلوا، فدخل القوم، فقال: فليأخذ كل رجل منكم ما يليه من هذا النحو واهتكوا، قال فهتكوا جميعاً حتى ألقوها إلى الأرض والكتاب في يده لم يضعه بعد وفي أثناء زيارة عمر إلى الشام دعاه يزيد بن أبي سفيان إلى الطعام فلما دخل عمر البيت وجد فيه بعض الستائر، فأخذ عمر يقطعها ويقول: ويحك أتلبس الحيطان
ما لو ألبسته قوماً من الناس لسترهم من الحر والبرد( ).

3- التأديب بالضرب:
فقد استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث اشتهر عنه حمل الدرة، وضربه بها وقد ضرب بعض الولاة، بسبب حوادث اقترفوها، ففي أثناء زيارة عمر إلى الشام دخل على بعض ولاته فوجد عندهم بعض المتاع الزائد، فغضب عمر وأخذ يضربهم بالدرة( )، وفي أثناء زيارة عمر إلى الشام لقيه الأمراء، فكان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة، ثم خالد على الخيول، عليهم ثياب فاخرة لا تليق بالمجاهدين فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم، إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم مذ سنتين وبالله ولو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنها يلاقة وإن علينا السلاح، قال فنعم إذن( ).

4- خفض الرتبة من وال إلى راعي غنم:
وقد استعملها عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أحد ولاته، روى ابن شبة: أن عمر رضي الله عنه استعمل عياض بن غنم على الشام فبلغه أنه اتخذ حماماً واتخذ نوّاباً( )، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثاً، ثم أذن له ودعا بجبة صوف، فقال البس هذه، وأعطاه كنف الراعي وثلاثمائة شاة وقال انعق بها، فنعق بها فلما جازه هنيهة، قال: أقبل، فأقبل يسعى حتى أتاه، فقال: اصنع بكذا وكذا، اذهب فذهب، حتى إذا تباعد ناداه: يا عياض أقبل فلم يزل يردده حتى عرّقه في جبينه، قال أوردها علي يوم كذا وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر رضي الله عنه فقال انزع عليها فاستقى حتى ملأ الحوض فسقاها ثم قال: انعق بها، فإذا كان يوم كذا فأوردها فلم يزل يعمل به حتى مضى شهران أو ثلاثة، ثم دعاه فقال: هيه اتخذت نواباً واتخذت حماماً أتعود قال: لا قال: ارجع إلى عملك( )، وقد كانت نتيجة هذه العقوبة التأديبية أن أصبح عياض بعد ذلك من أفضل عمّال عمر رضي الله عنه( ).

5- مقاسمة الولاة أموالهم:
وكان تطبيق هذا النظام أمراً احتياطياً في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث شعر عمر بنمو الأموال لدى بعض الولاة فخشي أن يكون الولاة قد اكتسبوا شيئاً من هذه الأموال بسبب ولايتهم( ) وقد علق ابن تيمية على فعل عمر هذا فقال: وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقات والمزارعة، ونحو ذلك هو من نوع الهدية، ولهذا شاطر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من عماله من كان له فضل ودين، لا يتهم بخيانة وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك، لأنه كان إمام عدل، يقسم بالسوية ( ) وقد قام عمر رضي الله عنه بمشاطرة أموال عماله منهم، سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكان رضي الله عنه يكتب أموال عماله، إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك، وربما أخذه منهم( ) وقد قام أيضا بمشاطرة بعض أقارب الولاة لأموالهم، إذا
ما رأى مبرراً لذلك، فقد أخذ من أبي بكرة نصف ماله، فاعترض أبو بكرة قائلاً: إني لم آلِ لك عملاً؟ فقال عمر: ولكن أخاك على بيت المال وعشور الأبلة، فهو يقرضك المال تتجر به( ).

6- التوبيخ الشفوي والكتابي:
وقد قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه على معاتبة الأمراء على تصرفاتهم أثناء اجتماعهم به، حيث إنه عاتب عمرو بن العاص مرات، كما عاتب عياض بن غنم، وخالد بن الوليد وأبا موسى الأشعري وغيرهم من الأمراء( ) وأما المعاتبة الكتابية في خلافة عمر فهي كثيرة، منها: أنه كتب إلى أحد الولاة، وكان قدم عليه قوم فأعطى العرب وترك الموالي: أما بعد فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم والسلام( ).
ومن هذا كله نجد أن الولاة لم يكونوا بمنأى عن المحاسبة والتأديب بصور مختلفة، ولم تشهد البشرية مثيلاً لها في عدلها وجرأتها، مما جعل هذا العصر الراشدي بحق نموذجاً رفيعاً للحضارة الإسلامية بعد عصر الرسالة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام( ) هذا وقد كانت حرية النقاش وبحث المشاكل بين الخليفة وولاته مكفولة إلى أقصى ما يمكن تصوره من حرية النقاش، لا يرهب الوالي سلطان الخليفة وهذا مثال على ذلك: عندما قدم عمر على الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم فلما رأى معاوية عمر نزل من على صهوة جواده، ومشى إليه، وقال: السلام على أمير المؤمنين، فمضى عمر، ولم يرد عليه سلامه، ومعاوية يسرع خلف جمل عمر وكان معاوية سميناً، فلهث. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، أتعبت الرجل، فلو كلمته: فالتفت إليه عمر وقال يا معاوية، أأنت صاحب الموكب الذي أرى. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال عمر: مع شدة احتجابك ووقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال معاوية: نعم يا أمير المؤمنين. قال: لم ويحك؟ قال معاوية: لأننا ببلاد كثر بها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العُدة والعدد، استخف بنا، وهجم علينا! وأما الحجاب، فإننا نخاف من الابتذال وجرأة الرعية. وأنا بعد عاملك، إن استوقفتني وقفت، وإن نهيتني انتهيت يا أمير المؤمنين. قال عمر: ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه، إن كنت صادقاً فإنه رأى لبيب، وإن كنت كاذباً فإنها خدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك، وانصرف عنه( ).
ورغم شدة عمر على ولاته ودقته في محاسبتهم وإقدامه على عزل من تحوم حوله شبهة أو تثور في حقه شكاية ذات أثر، فإن رابطة قوية من الحب والولاء كانت تربطه بولاته الذين كانوا يثقون ثقة مطلقة في إخلاص خليفتهم وسلامة مقاصده وسياسته وتجرده وعدله، لقد كان عمر إذا غابت عنه أخبار بعض قادته في ساحات الجهاد يكاد يقتله القلق ويستبد به الخوف والشفقة عليهم، وكان في بعض الحروب الكبرى يخرج بنفسه يتنطّس الأخبار، ويتحسس الأنباء علّه يطمئن عليهم، وفي حالات أخرى كان يلتقي بهم فنجد أمارات الحب العميق بينهم،فلما سار عمر لفتح بيت المقدس وانتهى إلى الجابية لقيه قائداه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فوافقا عمر راكباً، فقبّلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما( ).

رابعاً: قصة عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه:
وجد أعداء الإسلام في سعة خيالهم وشدة حقدهم مجالاً واسعاً لتصيد الروايات التي تظهر صحابة رسول الله في مظهر مشين، فإذا لم يجدوا شفاء نفوسهم، اختلقوا ما ظنوه يجوز على عقول القارئين، لكي يصبح أساساً ثابتاً لما يتناقله الرواة وتسطره كتب المؤلفين وقد تعرَّض كل من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما لمفتريات أعداء الإسلام الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخهما المجيد ووقفوا كثيراً عند أسباب عزل عمر لخالد بن الوليد رضي الله عنهم وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين وأتوا بروايات لا تقوم على أساس عند المناقشة، ولا تقوم على البرهان أمام التحقيق العلمي النزيه( ) وإليك قصة عزل خالد بن الوليد على حقيقتها بدون لف أو تزوير للحقائق، فقد مرّ عزل خالد بن الوليد بمرحلتين، وكان لهذا العزل أسباب موضوعية.
1- العزل الأول:
عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد في المرة الأولى عن القيادة العامة وإمارة الأمراء بالشام، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشر من الهجرة غداة تولي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصديق عن الفاروق في التعامل مع الأمراء والولاة، فالصديق كان من سنته مع عماله وأمراء عمله أن يترك لهم حرية ا لتصرف كاملة في حدود النظام العام للدولة مشروطاً ذلك بتحقيق العدل كاملاً بين الأفراد والجماعات، ثم لا يبالي أن يكون لواء العدل منشوراً بيده أو بيد عماله وولاته، فللوالي حق يستمده من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته دون رجوع في الجزئيات إلى أمر الخليفة، وكان أبو بكر لا يرى أن يكسر على الولاة سلطانهم في مال أو غيره ما دام العدل قائماً في رعيتهم( )، وكان الفاروق قد أشار على الصديق بأن يكتب لخالد رضي الله عنهم جميعاً: أن لا يعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمره، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك وعملك، فأشار عليه بعزله( )، ولكنّ الصديق أقرّ خالداً على عمله( )، ولما تولى الفاروق الخلافة، كان يرى أنه يجب على الخليفة أن يحدد لأمرائه وولاته طريقة سيرهم في حكم ولاياتهم ويحتم عليهم أن يردوا إليه ما يحدث حتى يكون هو الذي ينظر فيه ثم يأمرهم بأمره، وعليهم التنفيذ، لأنه يرى أن الخليفة مسؤول عن عمله وعن عمل ولاته في الرعية مسؤولية لا يرفعها عنه أنه اجتهد في اختيار الوالي. فلما تولى الخلافة خطب الناس، فقال: إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني بعد صاحبي فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلوا فيه عن الجزء والأمانة، ولئن أحسن الولاة لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلن بهم( )، وكان يقول: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟( )، فعندما تولى الفاروق الخلافة أراد أن يعدل بولاة أبي بكر رضي الله عنه إلى منهجه وسيرته، فرضي بعضهم وأبى آخرون وكان ممن أبى عليه ذلك خالد بن الوليد( )، فعن مالك بن أنس، أن عمر لما ولي الخلافة كتب إلى خالد ألا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك، فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفذه، فعزله( )، ثم كان يدعوه إلى العمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما شاء فيأبى عليه( ).
فعزل عمر خالداً من وجهة سياسة الحكم وحق الحاكم في تصريف شؤون الدولة ومسؤوليته عنها، وطبيعي أن يقع كل يوم مثله في الحياة، ولا يبدو فيه شيء غريب يحتاج إلى بيان أسباب تتجاذبها روايات وآراء، وميول وأهواء ونزعات، فعمر بن الخطاب خليفة المسلمين في عصر كان الناس فيه ناساً لا يزالون يستروحون روح النبوة له من الحقوق الأولية أن يختار من الولاة والقادة من ينسجم معه في سياسته ومذهبه في الحكم ليعمل في سلطانه ما دامت الأمة غنية بالكفايات الراجحة، فليس لعامل ولا قائد أن يتأبد في منصبه، ولا سيما إذا اختلفت مناهج السياسة بين الحاكم والولاة ما كان هناك من يغني غناءه ويجزي عنه، وقد أثبت الواقع التاريخي أن عمر رضي الله عنه كان موفقاً أتم التوفيق وقد نجح في سياسته هذه نجاحاً منقطع النظير، فعزل وولى، فلم يكن من ولاّه أقل كفاية ممن عزله، ومرد ذلك لروح التربية الإسلامية التي قامت على أن تضمن دائماً للأمة رصيداً مذخوراً من البطولة والكفاية السياسية الفاضلة( ) وقد استقبل خالد هذا العزل بدون اعتراض وظل رضي الله عنه تحت قيادة أبي عبيدة رضي الله عنه حتى فتح الله عليه قنسرين فولاه أبو عبيدة عليها، وكتب إلى أمير المؤمنين يصف له الفتح وبلاء خالد فيه فقال عمر قولته المشهورة: أمّر خالد نفسه، رحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني( )، ويعني عمر بمقولته هذه أن خالداً فيما أتى به من أفانين الشجاعة وضروب البطولة قد وضع نفسه في موضعها الذي ألفته في المواقع الخطيرة من الإقدام والمخاطرة، وكأنما يعني عمر بذلك أن استمساك
أبي بكر بخالد وعدم موافقته على عزله برغم الإلحاح عليه إنما كان عن يقين في مقدرة خالد وعبقريته العسكرية التي لا يغني غناءه فيها إلا آحاد الأفذاذ من أبطال الأمم( ).
هذا وقد عمل خالد تحت إمرة أبي عبيدة نحواً من أربع سنوات فلم يعرف عنه أنه اختلف عليه مرة واحدة، ولا ينكر فضل أبي عبيدة وسمو أخلاقه في تحقيق وقع الحادث على خالد فقد كان لحفاوته به وعرفانه لقدره، وملازمته صحبته والأخذ بمشورته وإعظامه لآرائه وتقديمه في الوقائع التي حدثت بعد إمارته الجديدة، أحسن الأثر في صفاء قلبه صفاء جعله يصنع البطولات العسكرية النادرة وعمله في فتح دمشق وقنسرين وفحل شاهد صدق على روحه السامية التي قابل بها حادث العزل، وكان في حاليه سيف الله خالد بن الوليد( )، ويحفظ لنا التاريخ ما قاله
أبو عبيدة في مواساة خالد عند عزله: .. وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن أخوان وقوّام بأمر الله عز وجل، وما يضير الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ودنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما تعرض من الهلكة إلا من عصم الله عز وجل، وقليل ما هم( ) وعندما طلب أبو عبيدة من خالد أن ينفذ مهمة قتالية تحت إمرته، أجابه خالد قائلاً: أنا لها إن شاء الله تعالى وما كنت أنتظر إلا أن تأمرني، فقال أبو عبيدة: استحيت منك يا أبا سليمان. فقال خالد: والله لو أمر علي طفل صغير لأطيعن له، فكيف أخالفك وأنت أقدم مني إيماناً وأسبق إسلاماً، سبقت بإسلامك مع السابقين وأسرعت بإيمانك مع المسارعين، وسماك رسول الله بالأمين فكيف ألحقك وأنال درجتك والآن أشهدك أني قد جعلت نفسي حبساً في سبيل الله تعالى ولا أخالفك أبداً، ولا وليت إمارة بعدها أبداً ولم يكتف خالد بذلك فحسب بل اتبع قوله بالفعل وقام على الفور بتنفيذ المهمة المطلوبة منه( )، ويظهر بوضوح من قول خالد وتصرفه هذا، أن الوازع الديني والأخلاقي كان مهيمناً على تصرفات خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهم وقد بقي خالد محافظاً على مبدأ طاعة الخليفة والوالي بالرغم من أن حالته الشخصية قد تغيرت من حاكم إلى محكوم بسبب عزله عن قيادة الجيوش( ).
إن عزل خالد في هذه المرة (الأولى)، لم يكن عن شك من الخليفة ولا عن ضغائن جاهلية، ولا عن اتهامه بانتهاك حرمات الشريعة ولا عن طعن في تقوى وعدل خالد، ولكن كان هناك منهجان لرجلين عظيمين، وشخصيتين قويتين كان يرى كل منهما ضرورة تطبيق منهجه، فإذ كان لابد لأحدهما أن يتنحى فلابد أن يتنحى أمير الجيوش لأمير المؤمنين؛ من غير عناد ولا حقد وضغينة( ).
إن من توفيق الله تعالى للفاروق تولية أبي عبيدة رضي الله عنهم لجيوش الشام، فذلك الميدان بعد معركة اليرموك كان يحتاج إلى المسالمة واستلال الأحقاد، وتضميد الجراح وتقريب القلوب فأبو عبيدة رضي الله عنه يسرع إلى المسالمة إذا فتحت أبوابها ولا يبطئ عن الحرب إذا وجبت عليه أسبابها، فإن كانت بالمسالمة جدوى فذاك وإلا فالاستعداد للقتال على أهبته، وقد كان أبناء الأمصار الشامية يتسامعون بحلم أبي عبيدة فيقبلون على التسليم إليه ويؤثرون خطابهم له على غيره، فولاية أبي عبيدة سنة عمرية وكانت ولايته للشام في تلك المرحلة أصلح الولايات لها( ).

2- العزل الثاني:
وفي (قنسرين) جاء العزل الثاني لخالد، وذلك في السنة السابعة عشرة( )، فقد بلغ أمير المؤمنين أن خالداً وعياض بن غنم أدربا في بلاد الروم وتوغلا في دروبهما ورجعا بغنائم عظيمة، وأن رجالاً من أهل الآفاق قصدوا خالداً لمعروفه منهم الأشعث بن قيس الكندي فأجازه خالد بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله( )، فكتب عمر إلى قائده العام أبي عبيدة يأمره بالتحقيق مع خالد في مصدر المال الذي أجاز منه الأشعث تلك الإجازة الغامرة، وعزله عن العمل في الجيش إطلاقاً واستقدمه المدينة، وتمّ استجواب خالد وقد تم استجواب خالد بحضور أبي عبيدة وترك بريد الخلافة يتولى التحقيق وترك إلى مولى أبي بكر يقوم بالتنفيذ، وانتهى الأمر ببراءة خالد أن يكون مدّ يده إلى غنائم المسلمين فأجاز منها بعشر آلاف( ) ولما علم خالد بعزله ودّع أهل الشام، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إظهار أسفه على هذا العزل الذي فرق بين القائد وجنوده أن قال للناس: إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية( )، وعسلاً عزلني فقام إليه رجل فقال: اصبر أيها الأمير، فإنها الفتنة فقال: خالد: أما
وابن الخطاب حي فلا( )، وهذا لون من الإيمان القاهر الغلاب، لم يرزقه إلا المصطفون من أخصاء أصحاب محمد ?: فأية قوة روحية سيطرت على أعصاب خالد في الموقف الخطير؟ وأي إلهام ألقي على لسان خالد ذلك الرد الهادئ الحكيم( ).
سكن الناس وهدأت نفوسهم بعد أن سمعوا كلمة خالد في توطيد قواعد الخلافة العمرية، وعرفوا أن قائدهم المعزول ليس من طراز الرجال الذين يبنون عروش عظمتهم على أشلاء الفتن والثورات الهدّامة وإنما هو من أولئك الرجال الذين خلقوا للبناء والتشييد، فإن أرادتهم الحياة على هدم ما بنوا تساموا بأنفسهم أن يذلها الغرور المفتون( ).
ورحل خالد إلى المدينة فقدمها حتى لقي أمير المؤمنين، فقال عمر متمتلاً:

صنعت فلم يصنع كصنعك صانع
وما يصنع الأقوام فالله يَصنعُ( )

وقال خالد لعمر: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مُجمل
يا عمر، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسُّهمان، ما زاد على الستين ألفاً فلك، فقوم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفاً، فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد، والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء( )، وكتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالداً عن سُخطة
ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:26 pm

- مجمل أسباب العزل وبعض الفوائد:
ومن خلال سيرة الفاروق يمكننا أن نجمل أسباب عزل خالد رضي الله عنه في الأمور التالية:

- حماية التوحيد: ففي قول عمر رضي الله عنه: ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به، يظهر خشية عمر من فتنة الناس بخالد وظنهم أن النصر يسير في ركاب خالد؛ فيضعف اليقين بأن النصر من عند الله سواء كان خالد على رأس الجيوش أم لا، وهذا الوازع يتفق مع حرص عمر علىصبغ إدارته للدولة العقائدية الخالصة وبخاصة وهي تحارب أعداءها حرباً ضروساً متطاولة باسم العقيدة وقوتها، وقد يقود الافتتان بقائد كبير مثل خالد خالداً نفسه إلى الافتتان بالرعية وأن يرى نفسه يوماً في مركز قوة لا يرتقي إليها أحد، وبخاصة أنه عبقري حرب ومنفق أموال، فيجر ذلك عليه وعلى الدولة أمر خُسْر، وهو إن كان احتمالا بعيداً في ظل ارتباط الناس بخليفتهم عمر وإعجابهم به، وفي ظل انضباط خالد العسكري وتقواه، فقد يحدث يوماً ما بعد عمر، ومع قائد كخالد، مما يستدعي التأصيل لها في ذلك العصر ومع أمثال هؤلاء الرجال( )، والخوف في هذا الأمر من القائد الكفء أعظم من الخوف من قائد صغير لم يُبْلِ أحسن البلاء ولم تتساير بذكره الأنباء( ).
وقد أشار شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله إلى تخوف عمر فقال في عمريته في الديوان:
وقيل خالفت يا فاروق صاحبنا
فيه وقد كان أعطى القوس باريها

فقال خفت افتتان المسلمين به
وفتنة النفس أعيت من يداويها( )

- اختلاف النظر في صرف المال:
كان عمر يرى أن فترة تأليف القلوب، وإغراء ضعفاء العقيدة بالمال والعطاء، قد انتهت، وصار الإسلام في غير حاجة إلى هؤلاء، وأنه يجب أن يوكل الناس إلى إيمانهم وضمائرهم، حتى تؤدي التربية الإسلامية رسالتها في تخريج نماذج كاملة، لمدى تغلغل الإيمان في القلوب، بينما يرى خالد أن ممن معه من ذوي البأس والمجاهدين في ميدانه من لم تخلص نيتهم لمحض ثواب الله، وأن أمثال هؤلاء في حاجة إلى من يقوي عزيمتهم، ويثير حماستهم من هذا المال( )، كما أن عمر كان يرى أن ضعفة المهاجرين أحق بالمال من غيرهم، فعندما اعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد قال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس( )،
ولا شك أن عمر وخالداً مجتهدان فيما ذهبا إليه ولكن عمر أدرك أموراً لم يدركها خالد رضي الله عنهما( ).

- اختلاف منهج عمر عن منهج خالد في السياسة العامة:
فقد كان عمر يصر على أن يستأذن الولاة منه في كل صغيرة وكبيرة، بينما يرى خالد أن من حقه أن يُعطى الحرية كاملة من غير الرجوع لأحد في الميدان الجهادي وتطلق يده في كل التصرفات إيماناً منه بأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب( ).
ولعل من الأسباب أيضاً، إفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات حتى تتوفر في المسلمين نماذج كثيرة من أمثال خالد والمثنى وعمرو بن العاص، ثم ليدرك الناس أن النصر ليس رهناً برجل واحد( )، مهما كان هذا الرجل.

- موقف المجتمع الإسلامي من قرار العزل:
تلقى المجتمع الإسلامي قرار العزل بالتسليم لحق الخليفة في التولية والعزل، فلم يخرج أحد عن مقتضى النظام والطاعة والإقرار للخلافة بحقها في التولية والعزل وقد روي أن عمر خرج في جوف الليل فلقي عَلْقَمة بن عُلاثة الكلابي، وكان عمر يشبه خالداً إلى حد عجيب، فحسبه علقمة خالداً، فقال: يا خالد عزلك هذا الرجل، لقد أبى إلا شحّاّ حتى لقد جئت إليه وابن عم لي نسأله شيئاً، فأما إذا فعل فلن أسأله شيئاً، فقال له عمر يستدرجه ليعلم ما يخفيه: هيه! فما عندك؟ قال: هم قوم لهم علينا حق فنؤدي لهم حقهم، وأجرنا على الله، فلما أصبحوا قال عمر لخالد وعلقمة مشاهد لهما: ماذا قال لك علقمة منذ الليلة؟ قال خالد: والله ما قال شيئاً، قال عمر: وتحلف أيضاً؟ فاستثار ذلك علقمة وهو يظن أنه ما كلم البارحة إلا خالداً، فظل يقول: مَهْ يا خالد؛ فأجاز عمر علقمة وقضى حاجته، وقال لأن يكون من ورائي على مثل رأيك يعني حرصه على الطاعة لولي الأمر وإن خالفه أحب إليّ من كذا وكذا( )، وهذا وقد جاء اعتراض من أبي عمرو بن حفص بن المغيرة بن عم خالد بن الوليد بالجابية، فعندما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف، وذا اللسان، فنزعته وأمّرت
أبا عبيدة بن الجراح. فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: والله ما أعذرت يا عمر بن الخطاب، لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله ?، وغمدت سيفاً سله رسول الله ?، ووضعت لواء نصبه رسول الله ?، ولقد قطعت الرحم وحسدت
ابن العم. فقال عمر بن الخطاب: إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك( )، وهكذا اتسع صدر الفاروق لابن عم خالد بن الوليد، وهو يذب عن خالد حتى وصل دفاعه إلى دعوى اتهامه للفاروق بالحسد، ومع ذلك ظل الفاروق حليماً( ).

4- وفاة خالد بن الوليد وماذا قال عن الفاروق وهو على فراش الموت:
دخل أبو الدرداء على خالد في مرض موته، فقال له خالد: يا أبا الدرداء، لئن مات عمر، لترين أموراً تنكرها. فقال أبو الدرداء: وأنا والله أرى ذلك. فقال خالد: قد وجدت عليه في نفسي في أمور، لما تدبرتها في مرضي هذا وحضرني من الله حاضر عرفت أن عمر كان يريد الله بكل ما فعل، كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث من يقاسمني مالي، حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل، ولكنه فعل ذلك بغيري من أهل السابقة، وممن شهد بدراً، وكان يغلظ علي، وكانت غلظته على غيري نحواً من غلظته علي، وكنت أدل عليه بقرابته، فرأيته لا يبالي قريباً ولا لوم لائم في غير الله، فذلك الذي ذهب عني ما كنت أجد عليه، وكان يكثر علي عنده، وما كان ذلك إلا على النظر: فقد كنت في حرب ومكابدة وكنت شاهداً وكان غائباً، فكنت أعطي على ذلك، فخالفه ذلك من أمري( )، ولما حضرته الوفاة وأدرك ذلك، بكى وقال: ما من عمل أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتّها وأنا متترس والسماء تنهل عليَّ، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي( )، وأوصى خالد أن يقوم عمر على وصيته وقد جاء فيها: وقد جعلت وصيتي وتركتي وإنفاذ عهدي إلى عمر بن الخطاب، فبكى عمر رضي الله عنه فقال له طلحة بن عبيد الله: إنك وإياه كما قال الشاعر:

لا ألفينَّك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما زوّدتني زادي( )

فقد حزن عليه الفاروق حزناً شديداً، وبكته بنات عمه، فقيل لعمر أن ينهاهنَّ، فقال: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة، على مثل أبي سليمان تبكي البواكي( ).
وقال عنه: قد ثلم في الإسلام ثلمة لا ترتق، وليته بقي ما بقي في الحمى حجر، كان والله سداداً لنحور العدو، ميمون النقيبة( )، وعندما دخل على الفاروق هشام بن البختري في ناس من بني مخزوم، وكان هشام شاعراً، فقال له عمر: أنشدني ما قلت في خالد، فلما أنشده قال له: قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إن كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضاً لمقت الله ثم تمثل بقول الشاعر:

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي
تهيأ لأخرى مثلها فكان قدِ
ولا موت من قد مات بعدي بمخلدي

ثم قال: رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه ولقد مات فقيداً وعاش حميدا( )ً ولقد رأيت الدهر ليس بقائل( ) هذا وقد توفي ودفن بحمص ببلاد الشام عام 21هـ( ) رحمه الله رحمة واسعة وأعلى ذكره في المصلحين.

الفصل السادس
فتوحات العراق والمشرق في عهد عمر رضي الله عنه

المبحث الأول: المرحلة الثانية من فتوحات العراق والمشرق:

تمثل الفتوحات في عهد الصديق رضي الله عنه في العراق بقيادة خالد بن الوليد المرحلة الأولى من الفتوحات الإسلامية التي انطلقت نحو المشرق وقد تم تفصيلها في كتابي:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه استكملت الخطة على مراحل هذه إحداها:

أولاً: تأمير أبي عُبيد الثقفي على حرب العراق:
لما مات الصديق ودفن ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم، وشدة قتالهم، ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن وأخبرهم بما فتح الله تعالى على يدي خالد من معظم أرض العراق ومالهم هناك من الأموال والأملاك والأمتعة والزاد، فلم يقم أحد في اليوم الثالث فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي ثم تتابع الناس في الإجابة( )، وكان سليط بن قيس الأنصاري قد استجاب لنداء عمر بعد أبي عبيد الثقفي وقال: يا أمير المؤمنين إنما كان عن هؤلاء الفرس إلى وقتنا هذا شقشقة من شقاشق الشيطان، ألا وإني قد وهبت نفسي لله أنا ومن أجابني من بني عمي ومن اتبعني( )، فكان لكلام سليط هذا أثر قوي في تشجيع الناس ورفع معنوياتهم وزيادة رغبتهم في جهاد الفرس، وطالبوا الخليفة أن يوليَ عليهم رجلاً من المهاجرين أو الأنصار فقال عمر: والله ما أجد لها أحق من الذي ندب الناس بدءاً ولولا أن سليطاً عجولٌ في الحرب لأمرته عليكم ولكن أبو عبيد هو الأمير وسليط هو الوزير فقال الناس سمعاً وطاعة( )، وجاء في رواية: وأمّر على الجميع أبا عبيد ولم يكن صحابياً فقيل لعمر: هلا أمّرت عليهم رجلاً من الصحابة؟ فقال: إنما أومر أول من استجاب، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم. ثم دعاه فوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله ?، وأن يستشير سليط بن قيس فإنه رجل باشر الحروب( )،وقد جاء في وصايا عمر رضي الله عنه لأبي عبيد الثقفي ما يأتي: (( اسمع من أصحاب رسول الله ? وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعاً، بل اتئد، فإنها الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث( )، الذي يعرف الفرصة، ولا يمنعني أن أُؤَمّر سليطاً إلاّ سرعته إلى الحرب، والسرعة إلى الحرب إلاّ عن بيان ضياع والله لولا سرعته لأمَّرته( )، ثم قال: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجَبْرية، تقدم على قوم تجرّؤوا على الشر فَعَلِموه، وتناسو الخير فجهلوه: فانظر كيف تكون؟ واحرز لسانك، ولا تفشين سرّك، فإن صاحب السرّ ما يضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكره، وإذا لم يضبطه كان بمضيعة( ) ثم أمر المثنى بن حارثة أن يتقدم إلى أن يلحقه الجيش وأمره أن يستنفر( )، من حسنت توبته من المرتدين، فسار مسرعاً حتى وصل الحيرة، وكان عمر رضي الله عنه يتابع جبهات العراق والفرس والشام ويمد الجيوش بالإمدادات ويرسل لهم التعليمات، والأوامر، ويضع الخطط للمعارك ويشرف بنفسه على تنفيذها.
سار المسلمون إلى أرض العراق وهم سبعة آلاف رجل، وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد إلى العراق فجهز عشرة آلاف عليهم هاشم بن عتبة، وأرسل عمر، جرير بن عبد الله البجلي في أربعة آلاف إلى العراق فقدم الكوفة، فلما وصل الناس إلى العراق وجدوا الفرس مضطربين في ملكهم، وآخر ما استقر عليه أمرهم أن ملكوا عليهم بوران بنت كسرى بعد ما قتلوا التي كانت قبلها أزرميدخت وفوضت بوارن أمر الملك عشر سنين إلى رجل منهم يقال له رستم بن فرّخزاد على أن يقوم بأمر الحرب، ثم يصير الملك إلى آل كسرى فقبل ذلك. وكان رستم هذا منجماً يعرف النجوم وعِلْمها جيداً فقيل له ما حملك على هذا؟ يعنون وأنت تعلم أن هذا الأمر لا يتم لك فقال: الطمع وحب الشرف( ).

ثانياً: وقعة النمارق، ومعركة السقاطية بكسكر ومعركة باروسما:

1- وقعة النمارق 13هـ :
وقد كانت هذه المعركة عقب وصول أبي عبيد وتوّليه قيادة الجيوش من العراق، وكأنما أراد منها الفرس أن يرهبوا أبا عبيد، أول من انتدب، حتى يقهروا في نفسه إرادة الظفر ورغبة النصر، فأعدوا لها القوى الداخلية، وعبؤوا الجند، ولقوا فيها المسلمين من خلفهم ومن بين أيديهم ومن أمامهم: وكتبوا إلى دهاقين السودان أن يثوروا بالمسلمين، ودسّوا في كل رستاق رجلاً ليثور بأهله، فبعثوا جابان إلى الببهقّباذ الأسفل، ونَرْسِي إلى كسكر، وجنداً ليواقعوا المثنى.. وبلغ المثنى ذلك، فضم إليه مسالحه وحَذِر وخرج الدهاقين وتوالوْا على الخروج، وثار أهل الرساتيق وتتابعوا على الثورة، ونزل أبو عبيد والمثنى بخفّان، وتعبَّى، ثم كان اللقاء في النمارق.. وكان قتالاً شديداً هزم الله فيه أهل فارس وأُسر جابان القائد ومردانْشاه، وكان على المُجَنَّبة، وكانا معاً هما اللذان توليا أمر الثورة( )، وكان الذي أسر جابان مطر بن فضة التميمي وهو لا يعرفه، فخدعه جابان حتى تفلَّت منه بشيء فخلَّى عنه، فأخذه المسلمون فأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه قائد الفرس وأشاروا عليه بقتله فقال: إني أخاف الله أن أقتله وقد أمّنه رجل مسلم، والمسلمون في التّواد والتناصر كالجسد ما لزم بعضهم فقد لزمهم كلهم فقالوا: إنه الملك يعني القائد قال: وإن كان، لا أغدر، فتركه( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:27 pm

• وهذا الموقف من أبي عبيد الثقفي يعتبر مثالاً على سماحة المسلمين ووفائهم بالعهود وإن أبرمها بعض أفرادهم، ولا شك أن هذه الأخلاق العالية كان لها أثر كبير في اجتذاب الناس إلى الدخول في الإسلام، فحينما يتسامع الناس أن المسلمين أطلقوا أحد قادة الفرس الذين كانوا أسرع الناس في عدائهم لمجرد أنه اتفق مع أحد المسلمين على الفداء فإنهم ينجذبون إلى هذا الدين الذي أخرج هؤلاء الرجال.

• ولا ننسى موقف المثنى بن حارثة الرائع حيث استلم الإمارة أبي عبيد مع أنه يَقْدمُ العراق لأول مرة، لأن أمير المؤمنين أمّره عليه، فكان نعم القائد ونعم الجندي، وهذه من سجايا المثنى فقد فعل ذلك مع خالد بن الوليد من قبل ولم يختلف عطاؤه للإسلام في حالي القيادة والجندية، وهكذا يكون عظماء الرجال( ).

- معركة السّقّاطية بكَسْكَر:
ثم ركب أبو عبيد في آثار من انهزم منهم وقد لجأوا إلى مدينة كَسْكَر( )، وهي لابن خالة كسرى واسمه نَرْسي، فوازرهم نرسي على قتال أبي عبيد، فلقيهم أبو عبيد في السقاطية( )، فقهرهم، وغنم منهم شيئاً كثيراً وأطعمات كثيرة جداً( )، وهرب نرسي وغلب المسلمون على عسكره وأرضه، ووجدوا في خزائنه شيئاً عظيماً ولم يكونوا بشيء أفرح منهم بشجر النّرسيان لأن (نَرْسي) كان يحميه ويمالئه عليهم ملوكهم فاقتسموه فجعلوا يطعمونه الفلاحين وبعثوا بخمسه إلى عمر، وكتبوا إليه: إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها وأحببنا أن تروها ولتذكروا إنعام الله وإفضاله( ).
وفي هذا الخبر إشارة إلى نوع من الأخلاق الرفيعة لدى المسلمين حيث رفعوا من شأن الفلاحين المحرومين فأطعموهم من طعام ملوكهم الذي كان محرماً عليهم، فكأنهم بهذا يقولون لهم: تعالوا إلى هذا الدين العظيم الذي يرفع من شأنكم ويرد عليكم كرامتكم الإنسانية( ).
وأقام أبو عبيد بكسكر وبعث قوات لمطاردة الفرس وتأديب أهل القرى المجاورة الذين نقضوا العهد ومالأوا الفرس، ورجحت كفة المسلمين في المنطقة بعد هذا الانتصار جاء بعض الولاة يطلبون الصلح، وقدّم واليان منهم طعاماً خاصاً
لأبي عبيد من فاخر أطعمتهم فقالوا: هذه كرامة أكرمناك بها، وقِرىً لك، قال أأكرمتم الجند وقريتموهم مثله؟ قالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون، فقال أبو عبيد: فلا حاجة لنا فيما لا يسع الجند، وهابوا وخافوا على أنفسهم. فقال أبو عبيد: ألم أعلمكم أني لست آكلاً إلا ما يسع من معي ممّن أُصبتم بهم قالوا: لم يبق أحد إلا وقد أُتِيَ بشبعه من هذا في رحالهم وأفضل. فلما علم قبل منهم، وأكل وأرسل إلى قوم كانوا يأكلون معه أضيافاً عليه يدعوهم إلى الطعام، وقد أصابوا من نُزُل فارس ولم يروا أنهم أتوا أبا عبيد بشيء فظنّوا أنهم يُدعون إلى مثل ما كانوا يُدعون إليه من غليظ عيش أبي عبيد، وكرهوا ترك ما أتوا به من ذلك، فقالوا له: قل للأمير، إنّا
لا نشتهي شيئاً مع شيء أتتنا به الدهاقين، فأرسل إليهم: إنه طعام كثير من أطعمة الأعاجم، لتنظروا أين هو مما أتيتم به( ).
وهكذا أكل هذا الأمير الكريم المتواضع بعد ما ردّ طعام الأعاجم مرتين لما علم في الثالثة أنهم أطعموا جميع الجند مثلما أطعموه وأفضل ومع هذا لم يرض أن يأكل وحده حتى دعا أضيافه وألح عليهم، حتى بعد أن علم أنهم أصابوا من طعام الفرس وعدّد لهم أصناف هذا الطعام ليرغبهم في مشاركته، وهذا لون من الكرم الرفيع، والكرم من أهم عناصر الزعامة، وإن هذه المواقف ترشدنا إلى مقدار ما بلغ إليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم، بإحسان من الرقي الأخلاقي والتقدم الحضاري( ).

2- معركة بارُوسْما سنة 13هـ :
ثم التقوا بمكان بين كَسْكَر والسَّقاطية يقال له بارُوسما، وعلى ميمنة نَرْسي وميسرته ابنا خاله، بندويه وبيرويه وكان رستم قد جهز الجيوش مع الجالينوس فلما بلغ أبا عبيد ذلك أعجل نرْسي بالقتال قبل وصولهم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزمت الفرس وهرب نرسي، فبعث أبو عبيد، المثنى بن حارثة وسرايا أخر إلى متاخم تلك الناحية كنهر جور ونحوها ففتحها صلحاً وقهراً، وضربوا الجزية والخراج وغنموا الأموال الجزيلة ولله الحمد وكسروا الجالينوس الذي جاء لنصرة جابان وغنموا جيشه وأمواله وفرَّ هارباً إلى قومه حقيراً ذليلاً( ).
وهكذا تم القضاء على ثلاثة جيوش للفرس في مدة وجيزة وكان بإمكان الفرس أن يوحدوا هذه الجيوش وأن يأتوا المسلمين من أمامهم وخلفهم وعن يمينهم وشمالهم، لكثرة عددهم، ولكن الله أعمى بصائرهم وكانوا لشدة خوفهم من المسلمين يتمنى كل قائد أن يكفيه الآخر مهمة المواجهة وإضعاف المسلمين ليظفر بالنصر عليهم بعد ذلك، وقد أفاد المسلمين سرعة تحركهم وبطء حركة جيوش الأعداء( ).


ثالثاً: وقعة جسْر أبي عبيد 13هـ:
لما رجع الجالينوس هارباً مما لقي من المسلمين تذامرت الفرس بينهم واجتمعوا على رستم فأرسل جيشاً كثيفاً عليهم ذا الحاجب بهمن جاذويه، وأعطاه راية كسْرى وتسمى دِرَفْش كابيان (الراية العظمى) وكانت الفرس تتيمَّن بها، وكانت من جلود النمور وعرضها ثمانية أذرع في طول اثني عشر ذراعاً، فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر وعليه جسر، فأرسلوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: مرهم فليعبروا هم إلينا، فقال: ما هم بأجرأ على الموت منا. ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله، والمسلمون في نحو عشرة آلاف، وقد جاءت الفرس معهم بأفْيلَة كثيرة عليها الجلاجل لتذعر خيول المسلمين، فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة ومما تسمع من الجلاجل التي عليها ولا يثبت منها إلا القليل على قَسْر، وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفِيلة، ورشقتهم الفرس بالنبل فنالوا منهم خلقاً كثيراً، وقتل المسلمون منهم مع ذلك ستة آلاف( )، وقد جفلت خيول المسلمين من أصوات الأجراس المعلقة بالفيلة، وصار المسلمون لا يستطيعون الوصول إليهم والفيلة تجوس خلالهم، فترجل أبو عبيد وترجل الناس معه، وتصافحوا معهم بالسيوف، وفقد المسلمون خيلهم فأصبحوا رجَّالة يقاومون سلاح الفيلة والفرسان والمشاة من الفرس، إلى جانب الرماة الذي أضرُّوا بالمسلمين وهم يدفعون بخيولهم نحوهم فلا تندفع، فكان موقفاً صعباً أظهر المسلمون فيه من البسالة والتضحية ما يندر أن يوجد له مثيل في التاريخ، وصمدوا للفرس رغم تفوقهم عليهم في كل وسائل القتال، وكانت الفيلة أشد سلاح واجهه المسلمون فقد كانت تهدُّ صفوفهم، فناداهم أبو عبيد بأن يجتمعوا على الفيلة ويقطعوا أحزمتها ويقلبوا عنها أهلها، وبدأ هو بالفيل الأبيض فتعلق بحزامه وقطعه ووقع الذين عليه، وفعل المسلمون مثل ذلك، فما تركوا فيلاً إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه، ولكن الفيلة استمرت في الهجوم لأنها كانت مدربة، فرأى أبو عبيد أن يتخلص منها، فسأل عن مقاتلها، فقيل له إنها إذا قطعت مشافرها تموت، فهجم على الفيل الأبيض، ونفح خرطومه بالسيف فأتقاه، الفيل بيده وأطاح به ثم داسه بأقدامه، وأخذ الراية أخوه الحكم بن مسعود فقاتل الفيل حتى أزاحه عن أبي عبيد ولكن وقع له ما وقع لأبي عبيد، فقد أراد الحكم قتله، فألقاه بيده، ثم داسه بأقدامه، وانتقلت راية المسلمين إلى الذين سماهم أبو عبيد، ومنهم أبناؤه الثلاثة وهب ومالك وجبر، إلى أن قتلوا جميعاً فانتقلت القيادة للمثنى بن حارثة مع آخر النهار، وكان بعض المسلمين قد عبروا الجسر منسحبين، واستمر الانسحاب من الميدان، فلما رأى ذلك عبد الله بن مرثد الثقفي بادر وقطع الجسر، وقال: موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا، وحاول منع الناس من العبور فأتوا به إلى المثنى فضربه من شدة غضبه من صنيعه وقال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ليقاتلوا، وقد كان اجتهاده في غير موضعه لأن قطع الجسر أدى إلى وقوع بعض المسلمين في النهر وغرقوا بسبب شدة الضغط من الفرس، فكانت الفكرة المناسبة أن يحافظ المسلمون على بقيتهم بالانسحاب إن استطاعوا ذلك، وهذا هو ما قام به المثنى حيث أمر بعقد الجسر ووقف هو ومن معه من أبطال المسلمين فحموا ظهور المسلمين حتى عبروا وقال المثنى: يا أيها الناس إنا دونكم فاعبروا على هينتكم – يعني على مهلكم – ولا تدهشوا فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تغرقوا أنفسكم، وكان المثنى ومن معه من الأبطال من أمثال عاصم بن عمرو والكلج الضَّبِّي هم آخر من عبر، وقد كان بَهْمَن جاذويه حاول أن يجهز على بقية المسلمين ولكنه لم يستطع وفَوَّتَ عليه هذه الفرصة المثنى حينما تولى قيادة هذا الانسحاب المنظم ولا شك أن هؤلاء الأبطال الذي حموا ظهور المسلمين حتى انسحبوا قد بذلوا جهوداً جبارة في الصمود أمام الأعداء لقد انسحب خمسة آلاف من المسلمين وخلفوا وراءهم أربعة آلاف من الشهداء منهم عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم خاصة الذين رافقوا أبا عبيد من المدينة، وقد عاد ألفان ممن انسحبوا إلى المدينة وغيرها ولم يبق مع المثنى غير ثلاثة آلاف، أما الفرس فقد قتل منهم ستة آلاف بالرغم من الوضع السيئ الذي كان فيه المسلمون مما يدل على بسالتهم وقوة احتمالهم( ).

أهم الدروس والعبر والفوائد من معركة جسر أبي عبيد:
أ- رؤية صادقة:
كانت دومة امرأة أبي عبيد قد رأت رؤيا أن رجلاً نزل من السماء بإناء فيه شراب فشرب أبو عبيد وابنه جبر في ناس من أهله فأخبرت بها أبا عبيد فقال: هذه الشهادة، وعهد أبو عبيد إلى الناس فقال: إن قُتلت فعلى الناس فلان حتى عد سبعة من ثقيف من أقاربه الذين ذكرتهم امرأته في الرؤيا، فإن قتل آخرهم فالقيادة للمثنى بن حارثة( ).

ب- غلطتان سببتا الهزيمة:
• مخالفة أبي عبيد لمن معه من أركان الجيش ووجوهه، لقد نهوه عن العبور فلم ينته، واستقل برأيه، لقد عبر أبو عبيد الجسر بشجاعة وإقدام وحب للشهادة، لكنه لم يحسب للمعركة حسابها الكامل، ولم يدرس أرض المعركة بشكل كاف( )، ولقد أفلت من يد أبي عبيد عنصر الأمن بانحصاره في مكان ضيق المخرج وكأنه وضع جيشه في مصيدة دون عذر مقبول، وأفلت من يده عنصر التعاون بين الأسلحة المختلفة بخروج سلاح الفرسان من المعركة، فصارت قواته مشاة دون فرسان وكان عليهم أن يواجهوا مشاة الفرس وفرسانهم وأفيالهم، وفقدت المعركة كفاءة القيادة حتى تولاها المثنى أخيراً بعد سبعة سبقوه، وكما فقد ذلك فقد أيضاً عنصر الحشد بسبب ضيق المكان إذ لا فائدة من أعداد الجند إذا لم تسعفها طوبوغرافية الأرض، كما أنه فقد حسن اختيار الهدف وما يتفرع عنه من اختيار الأرض واختيار طريق الوصول إليه وطريق ضربه وما إلى ذلك، فوّته على نفسه، بل أتاح لعدوه أن يفرضه عليه( ).

• والذي زاد غلطة أبي عبيدة فداحة، غلطة زادت الغلطة الأولى أثراً وخسارة وفاجعة، إنها غلطة عبد الله بن مرثد الثَّقفي عندما قطع الجسر، كي لا يرتد أحد من المسلمين ولولا الله ثم ثبات المثنى بن حارثة ومن معه لهلك المسلمون عن آخرهم( ).

ت- قيمة القيادة الميدانية:
إن معركة الجسر أثبتت أهمية القيادة الميدانية المتمثلة في المثنى وأركان قيادته الذين معه، فعندما تنزل المحن بالجيوش يخرج القادة الذين يستطيعون أن يخرجوا بجيوشهم من تلك المحن( )، فقد تولى المُثنى مع مساعديه من الأبطال حماية الجيش الإسلامي، فكان آخر من عبر الجسر، وهذا لون رفيع من ألوان التضحية والفداء( ).

ث- المثنى يقوم برفع الروح المعنوية لجيشه:
انسحب المثنى بأربعة آلاف جندي من أصل عشرة آلاف، وقام بمطاردته قائدان فارسيان هما: (جابان)و(مردنشاه) باتجاه أليس (السماواة)، وجرهما المثنى وراءه مسافة حتى توغلا ولم يشأ أن يبدأ حملة مضادة إلا بعد مرحلة من الانسحاب وعند بلوغه السماواة شن هجوماً صاعقاً بالخيالة التي قاسدها بنفسه، فأنزل بهما هزيمة عجيبة، ويبدو أن هول المفاجأة وعدم تصورهم أن إنساناً قد أبيد معظم جيشه، يمكن أن يكون له مثل هذا العزم الذي يفل الحديد، ومن شدة ذهول القطعات الفارسية أنزلت بها خسائر كبيرة بحيث تمكن المثنى من أسر القائدين جابان ومردنشاه وأعدمهما المثنى، فكان لهذا النصر أثر كبير في تقوية معنويات البقية الباقية من الجيش، ورفعت الموقعة معنويات سكان المنطقة، ورفعت قيمة المثنى في نظر جنوده والقبائل المجاورة( ).

ج- كلما وقع المسلمون الصادقون في مأزق حرج قيض الله لهم الأسباب التي تخرجهم من ذلك الحرج:
بقي المثنى في العراق في عدد قليل لا يكفي حتى للاحتفاظ بالممالك التي استولى عليها المسلمون، ولقد كان بإمكان الفرس أن يلاحقوا بقية الجيش الإسلامي حتى يخرجوهم من العراق، وسيجدون ممن بقي على الوراء لهم من العرب من يتولى مطاردتهم في الصحراء ولكن الله تعالى مع هذه الفئة المؤمنة ومع المؤمنين في كل مكان، فكلما وقع المسلمون الصادقون في مأزق حرج يسر الله لهم الأسباب للخروج منه، فقد قيض المولى عز وجل أمراً صدّهم عن المسلمين حيث انقسموا إلى قسمين قسم مع رستم وقسم مع فيرزان، وأتى الخبر إلى قائد الفرس بهمن جاذويه فأسرع بالعودة إلى المدائن وكان ممن يُنظر إليه في أمور سياستهم وهكذا كفى الله المؤمنين القتال وأنقذهم من هذا المأزق الحرج وأخذوا فرصة كافية لتلقِّي الجيوش القادمة من دار الخلافة حتى تقوَّوا وأصبح لديهم جيش كبير( ).

ح- موقف عمر رضي الله عنه عندما تلقى خبر الهزيمة:
بعث المثنى بن حارثة بأخبار المعركة إلى الخليفة عمر رضي الله عنه مع عبد الله بن زيد الأنصاري فقدم على عمر وهو على المنبر فقال: ما عندك يا عبد الله بن زيد؟ قال أتاك الخبر يا أمير المؤمنين، فلما انتهى إليه أخبره خبر الناس سراً( )، فما سمع لرجل حضر أمراً تحدث عنه أثبت خبراً منه( )، وقد تأثر عمر ومن حوله من الصحابة لمصاب الجيش الإسلامي في هذه المعركة وقال: اللهم كل مسلم في حلِّ مني، أنا فئة كل مسلم، من لقي العدو فَفُظِع بشيء من أمره فأنا له فئة، يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إليَّ لكنت له فئة( ).
وهذا الموقف يدل على أن عمر وهو الرجل القوي الحازم يلين ويواسي في مقام الرحمة والعطف( ).

رابعاً: وقعة البُوَيب 13هـ:
قام الفاروق بحشد الناس واستنفارهم وبذلك أرسل الإمدادات إلى جيش الإسلام في العراق فكان منهم جرير بن عبد الله البجلي في قومه وحنظلة بن الربيع، وأرسل هلال بن علقمة مع طائفة الرباب ومجموعة من قبائل خثعم بقيادة عبد الله بن ذي السهمين فأرسلهما أيضاً إلى العراق لمد جند الإسلام، وجاء كل من عمر بن ربعي بن حنظلة في قومه وربعي بن عامر بن خالد إلى الخليفة فأمد بهم كذلك جند العراق وهكذا أخذت أرتال الدعم والإمداد تسير نحو العراق بدون انقطاع وفي الوقت ذاته أرسل المثنى بن حارثة الشيباني إلى من في العراق من أمراء المسلمين يستحثهم فبعثوا إليه بالإمداد حتى كثر جيشه( ).
ولما علم قادة الفرس باجتماع جيش كبير عند المثنى بعثوا مهران الهمذاني بجيش من الفرسان لمواجهة جيش المثنى، ولما علم المثنى بذلك كتب إلى من يصل إليه من الأمداد أن يوافوه بالبويب وعلى رأس هؤلاء جرير بن عبد الله حيث كتب إليه المثنى يقول: إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا فعجلوا اللِّحاق بنا وموعدكم البويب، فاجتمعوا بالبويب وليس بينهم وبين جيش الفرس إلا النهر، فأقام المثنى حتى كتب له مهران: إما أن تعبروا إلينا أو أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا، فعبر مهران بجيشه، وكان ذلك في شهر رمضان من العام الثالث عشر للهجرة، فقام المثنى خطيباً وقال للمسلمين، إنكم صوام والصوم مَرَقَّة ومضعفة وإني أرى من الرأي أن تفطروا ثم تقوَّوا بالطعام على قتال عدوكم، قالوا: نعم فأفطروا، وكان المثنى قد عبأ جيشه وسار فيهم يحثهم على القتال، ويقول لأهل كل راية: إني لأرجو أن لا تُؤتَى العرب من قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم قال الرواة: وأنصفهم المثنى في القول والفعل وخلط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولاً ولا عملاً( ). وهذا دليل على حسن قيادته وسعة حكمته، حتى أصبح أفراد الجيش مطيعين له عن حب وقناعة، ولما رضي المثنى عن استعداد جيشه قال: إني مكبِّر ثلاثاً فتهيأوا ثم احملوا مع الرابعة، فلما كبر أول تكبيرة أعجلهم أهل فارس وعاجلوهم فخالطوهم مع أول تكبيرة، وليس من عادة الفرس هذا الاندفاع ولكن لعل ما حصلوا عليه في معركة الجسر من إصابة المسلمين خفف مما وقر في نفوسهم من هيبة المسلمين والرعب منهم، وهكذا بدأ الفرس بالهجوم وقد صمد لهم المسلمون واستمروا معهم في صراع شديد، والمثنى إلى جانب اشتراكه في القتال يراقب جيشه بدقة حتى إنه رأى خللاً في بعض صفوفه فأرسل إليهم رجلاً وقال: إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم: فقالوا: نعم واعتدلوا( )، فلما طال القتال واشتد قال المثنى لأنس بن هلال: يا أنس إذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي، وقال لابن مردي الفهر مثل ذلك فأجابه، ثم حمل المثنى على مهران، فأزاله حتى أدخله في ميمنته واستمر المثنى يضغط على عدوه، فخالطوهم، واجتمع القلبان، وارتفع الغبار، والمجنبات تقتتل لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم لا المشركون ولا المسلمون، وقال مسعود بن حارثة قائد مشاة المسلمين لجنده: إن رأيتمونا أُصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، إلزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم( )، وأصيب مسعود وقواد من المسلمين، ورأى مسعود تضعضع من معه لإصابته وهو ضعيف قد ثقل من الجراح. فقال: يا معسكر بكر بن وائل ارفعوا راياتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعي. ويدرك المثنى مصرع أخيه فيخاطب الناس بقوله: يا معشر المسلمين
لا يرعكم مصرع أخي فإن مصارع خياركم هكذا، وقاتل أنس بن هلال النميري حتى أصيب فحمله المثنى وحمل أخاه مسعوداً وضمهما إليه، والقتال محتدم على طول الجبهة، ولكن القلب بدأ ينبعج في غير صالح الفرس، وأوجع قلب المسلمين في قلب المجوس، وقد دق فيه المثنى إسفينه، وكان فيمن تقدم في القلب جرير بن عبد الله ومعه بجير وابن الهوبر والمنذر بن حسان فيمن معهما من ضبة، وقاتل قرُط بن جماح العبدي حتى تكسرت في يده رماح وتكسرت أسياف، وقتل شهر براز من دهاقين الفرس وقائد فرسانهم في المعركة. واستمر القتال حتى أفنى المسلمون قلب المشركين وأوغلوا فيه( )، ووقف المثنى عند ارتفاع الغبار حتى أسفر الغبار، وقد فني قلب المشركين وقُتل قائدهم مهران والمجنَّبات قد هز بعضها بعضاً، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنباتهم على المشركين، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر، وأرسل إليهم من يقول لهم: عاداتكم في أمثالكم، انصروا الله ينصركم، حتى هزموا القوم، فسابقهم المثنى إلى الجسر فسبقهم وقطعه، وأخذ الأعاجم، فافترقوا بشاطيء الفرات، واعتورتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم، ثم جعلوا جثثهم أكواماً من كثرتها، حتى ذكر بعض الرواة أن قتلاهم بلغوا مائة ألف( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:28 pm

1- مؤتمر حربي بعد المعركة:
سكن القتال ونظر المثنى والمسلمون إلى عشرات الألوف من الجثث وقد غطت الأرض دماؤها وأشلاؤها، ثم جلس مع الجيش يحدثهم ويحدثونه ويسألهم عما فعلوا، وكلما جاء رجل قال له المثنى: أخبرني عنك فيروون له أحاديث تصور لقطات من المعركة وقد قال المثنى: قد قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد عليّ من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب أشد علي من ألف من العجم، إن الله أذهب مصدوقتهم، ووهّن كيدهم، فلا يروعنَّكم زُهاءُ ترونه – يعني هيئتهم – ولا سوادُ – يعني كثرتهم – ولا قسيُّ فُجّ – يعني قد باتت أوتارها – ولا ينالُ طوال إذا أُعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت( ).
وإن هذا القول في ذلك الوقت مناسب تماماً حيث عرض المثنى خبرته الجيدة في حربه مع الفرس في الوقت الذي دخل في حروب العراق أعداد كبيرة من المسلمين يشاركون في حرب الفرس لأول مرة، فجمع المثنى لهم بذلك بين المشاهدة في معركة من المعارك وبين وصف تجاربه في كل المعارك التي خاضها معهم قبل ذلك( ).

2- ندم المثنى في قطعه خط الرجعة على الفرس:
وقد ندم المثنى على قطعه خط الرجعة على الفرس، وأخذه بالجسر من خلفهم فقال: لقد عجزت عجزة وقى الله شرها لمسابقتي إياهم إلى الجسر، وقطعه حتى أُحرجهم فإني عائد، فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت مني زلة،
لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع( )، فقد أبان المثنى في آخر هذا الكلام وجه الخطأ في هذه الخطة حيث قد لاحظ ببصيرته الحربية النافذة أن في منع الأعداء من الفرار إلجاءاً لهم إلى الاستماتة في القتال دفاعاً عن أنفسهم، فإنه حينما يشعر الإنسان بأنه مقتول يبذل كل طاقته في الدفاع عن نفسه، وهذا يكلف الجيش المقابل جهوداً ضخمة في محاولة القضاء عليه، ولكن الله تعالى وقى المسلمين شر هذه الخطة كما ذكر المثنى حيث ثبَّت المسلمين فكانت قوتهم أعلى بكثير من احتمال الأعداء وطاقتهم وألقى الله تعالى الرعب في قلوب الأعداء حتى فقدوا الطاقة والمقدرة على الدفاع عن النفس( )، وإن في اعتراف المثنى بهذا الخطأ، وهو الرجل الذي بلغ في هذه المعركة أوج النصر والشهرة لدليلاً على قوة إيمانه، وتجرده من حظ النفس، وإيثاره مصلحة الجماعة وهكذا يكون العظماء( ).

3- علم النفس العسكري عند المثنى:
إلى جانب ما ظهر لنا من عبقريات المثنى فقد شملت عبقريته عمقاً أخر يتصل بالحرب وهو علم النفس العسكري والتعامل مع إخوان الجهاد وزملاء السلاح، إنا لنجد روحاً من المحبة فياضة تربط المثنى بمن معه تشير إلى جانب عاطفي نحوهم ويبرز هذا في أحاديثه لهم وفي كلامهم عنه، نرى هذا في طوافه بفرسه الشموس على راياتهم راية راية، يحمسهم ويعطيهم توجيهاته ويحرك مشاعرهم بأحسن
ما فيهم ويقول لهم: والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم( )، فيجيبونه بمثل ذلك. يقول الرواة: فلم يستطع أحد أن يعيب له قولاً ولا عملاً( ) وعندما رأى صفوف العجم تهجم وقد علت صيحاتهم، يدرك ما لهذا من أثر في قتال الالتحام، لا سيما وذكرى معركة جسر أبي عبيد ماثلة في الأذهان فقال كلمة هادئة تساعد على الثبات وتدخل على النفوس لتبطل أثر تلك الهيعات فقال في هدوء يدعو إلى الإعجاب: إن الذي تسمعون فشل فألزموا الصمت وائتمروا همساً( )، وعندما أصيب أخوه مسعود إصابة قاتلة قال مقالة تستحق أن تكتب بماء الذهب، وبحروف من نور: يا معشر المسلمين لا يرعكم مصرع أخي، فإن مصارع خياركم هكذا( )، ولا يقل عن هذا قول أخيه نفسه وهو يجود بالنفس مستبشراً بالشهادة: ارفعوا راياتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعي، وعندما قام المثنى بالصلاة على أخيه وبعض الشهداء قال: والله إنه ليهون على وجدي أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجزعوا، ولم ينكلوا، وإن كان في الشهادة كفارة لتجوُّز الذنوب( ) وكما كان المثنى محباً لجنده عطوفاً عليهم متفقداً لكافة أحوالهم فقد كان في نفس الوقت حازماً حاسماً آخذاً بما يطلق عليه العسكريون المحدثون (الضبط والربط) ( )، فعندما أبصر رجلاً في الصف يستوفز( ) ويستنتل( )، من الصف فقال المثنى: ما بال هذا قالوا: هو ممن فر من الزحف يوم الجسر، وهو يريد أن يستقتل، فقرعه بالرمح، وقال: لا أبالك: الزم موقفك فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل، قال: إني بذلك لجدير، فاستقر ولزم الصف( )، وكما كان المثنى متعاطفاً مع جيشه فلقد كان الشعور متبادلاً تماماً، ونرى ذلك جلياً في شعر المعركة الذي جرى على ألسنة جنودها فهذا الأعور الشني يقول:

هاجت لأعور دار الحي أحزاناً
وقد أرانا بها والشمل مجتمع
أزمان سار المثنى بالخيول لهم
سما لمهران والجيش الذي معه
ما أن رأينا أميراً بالعراق مضى
إن المثنى الأمير القرم لا كذب
واستبدلت بعد عبد القيس حَفّانا
إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
فَقَتَّلَ الزحف من فُرْس وجِيلانا( )
حتى أبادهمُ مَثْنى ووحدانا
مثل المُثَنَّى الذي من آل شيبانا
في الحرب أشجع من ليث بخفَّانا( )

فصاحب هذه الأبيات يفضل المثنى صراحة على خالد بن الوليد وعلي أبي عبيد الثقفي، ولقد كان الأعور من عبد قيس فهو لم يكن من بني شيبان ولا من بكر بن وائل حتى يقال إنَّه متعصب لقومه( ).
إن المثنى بن حارثة كان قائداً عميقاً في علم النفس العسكري قبل أن يخط أي أستاذ متخصص حرفاً في هذا العلم بقرون( ).

4- موقف لنساء المجاهدين:
إن من المواقف التي ينبغي الإشارة إليها ما كان من نساء المسلمين لما أرسل إليهم قادة المسلمين بعض ما أصابوا من الطعام، وقد أرسلوه مع أحد زعماء النصارى من العرب وهو عمرو بن عبد المسيح بن بُقيلة في رجال معه، فلما رأتهم النساء تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعُمد، فقال: عمرو بن عبد المسيح: هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش، وبشروهن بالفتح( ).
وإن هذا الموقف ليدل على حسن التربية الإسلامية وإبراز شخصية المسلم حتى لدى النساء، فإنهن قد تدربن على حماية الموقف فيما إذا خلا من الرجال، هذا وقد أطلق هذا النصر الحاسم يد المسلمين في العراق فيما بين النهرين وأرسل المثنى قواده يُخضعون البلاد لسلطان المسلمين، ويتقوَّون بما يفيء الله عليهم من الغنائم على جهاد عدوهم( ).
5- مطاردة فلول المنهزمين:
لم يقعد إغراء النصر بالمثنى عن غايته، فقد ندب الناس أثر المعركة وراء الجيش المنهزم وسألهم أن يتبعوهم إلى السيب فخرج المسلمون خلف فلول المنهزمين وكان من ضمنهم من حضر معركة جسر أبي عبيد، فأصابوا غنماً كثيراً وأغاروا حتى بلغوا ساباط ثم انكفأوا راجعين إلى المثنى، وتبدو قيمة معركة البويب، لا في استصلاح الأثر النفسي الذي كان بعد هزيمة الجسر، بل إن المسلمين أضحوا قادرين على السواد كله، فقد كانوا يحاربون من قبل لا يجتازون الفرات ثم حاربوا فيما بين الفرات ودجلة، أما بعد البويب فقد استمكنوا من كل هذه المنطقة التي تمتد بين الفرات ودجلة: فمخروها لا يخافون كيداً ولا يلقون فيها مانعاً( )، وكانت غزوة البويب نظير اليرموك بالشام( ).

خامساً: عمليات الأسواق:
استقام الأمر للمسلمين بعد معركة البويب، وانقاد لهم السواد وأخذ المثنى يجول هنا وهناك: وزّع القواد وأذكى المسالح، وأغار على تجمعات الفرس والعرب وكان من هذه الغارات غارته على الخنافس، وهي سوق يتوافى إليها الناس، ويجتمع بها ربيعة ومضر يخفرونهم، فأغار عليها وانتسف السوق وما فيها وسلب الخضراء( )، ثم سار مسرعاً حتى طرق دهاقين الأنبار في أول النهار من نفس اليوم وهو يقول:

صبحنا بالخنافس جمع بكر
بفتيان الوغى من كل حيٍّ
أبحنا دارهم والخيل تُرْدي
نسفنا سوقهم والخيل رودُ
وحيا من قضاعة غير مِيلِ
تباري في الحوادت كل جيل
بكل سَمْيْدَع سامي التليل
من التطواف والشر البخيل( )

واستعان بدهاقين الأنبار وأخذ منهم أدلاء ورتب خطة لكسح سوق بغداد، وعبر دجلة وطلع على بغداد وسوقها مع أول ضوء النهار، فوضع فيهم السيف وقتل منهم وأخذ أصحابه ما شاءوا، وكان أمر المثنى لهم: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة،
ولا تأخذوا من المتاع لا ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته( )، وهرب أهل الأسواق وملأ المسلمون أيديهم من الذهب والفضة والحُرُّ من كل شيء. ثم كروا راجعين حتى إذا كانوا بنهر السبلحين( )، على حوالي خمسة وثلاثين كيلو متراً من بغداد نزل وقال: أيها الناس انزلوا وقضّوا أوطاركم وتأهبوا للسير واحمدوا الله وسلوه العافية ثم انكشفوا قبيضاً( )، ففعلوا، لقد قطعوا نحواً من ستين كيلو متراً على ظهور الخيل تخللها غارة، كل ذلك في مرحلة واحدة منذ قاموا في آخر الليل إلى بغداد حتى عادوا، ورأى المثنى أنهم في حاجة إلى استراحة وكذلك خيلهم وكان المسلمون يدركون عمق ما أوغلوا وبينما المثنى يمر بينهم إذ سمع همساً. قال قائل منهم: ما أسرع القوم في طلبنا. فقال المثنى: تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان .. انظروا في الأمور وقدروها (احسبوها) ثم تكلموا .. إنه لم يبلغ التدبر مدينتهم بعد ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم. إن للغارات روعات تنتشر عليها يوماً إلى الليل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين ما أدركوكم وأنتم على الجياد الغراب (الخيل الأصلية) وهم على المقاريف( )، البِطاء حتى تنتهوا إلى عسكركم وجماعتكم: ولو أدركوكم لقاتلتهم لاثنتين، التماس الأجر، ورجاء النصر، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم الله في مواطن كثيرة وهم أعدُّ منكم (أكثر عدداً) وسأخبركم عني وعن انكماشي( )، والذي أريد بذلك. إن خليفة رسول الله ? أبا بكر أوصانا أن نقلل العْرجة (الإقامة) ونسرع الكرة في الغارات، ونسرع في غير ذلك الأوبة (الإياب( )).
هذا فهم المثنى للحروب والقتال، فقد كان يتحرك على حساب محسوب وتخطيط مرسوم وإيمان عميق، فكل معركة تضيف إليه دراية وتجربة وعلماً ومعرفة، وهي تكشف لنا عن عبقرية الصديق الحربية النادرة التي تتلمذ المثنى عليها أفاد منها رغم أنه لم يلقه إلا أقل من القليل( ).
نهض المثنى وأمرهم بالركوب، وأقبل بهم ومعهم أدلاؤهم يقطعون بهم الصحارى والأنهار حتى انتهى بهم إلى الأنبار، فاستقبلهم الدهاقين بالإكرام واستبشروا بسلامته، وكان وعدهم الإحسان إليهم إذا استقام لهم من أمرهم ما يحبون وقال أحدهم:

وللمثنى بالعَال معركة
كتيبة أفزعت بوقعتها
وشُجِّع المسلمون إذا حَذروا
سَهَّل نهج السيل فاقتفروا
شاهدها من قبيلة بَشَرُ
كسرى وكاد الإيوان ينفطر
وفي صروف التجارب العِبَرُ
آثاره والأمور تقتفر( )

ووسع المثنى غارته على شمال العرق حتى شمل من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، فأرسل غارته على الكباث وكان أهله كلهم من بني تغلب، فأخلوه وارفضّوا عنه، وتبعهم المسلمون يركبون آثارهم، وأدركوا أخرياتهم، وقتلوا وأكثروا، وأرسل غارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين( ).
وكان المثنى بن حارثة سيد هذه الغارات كلها بعد البويب، وكان على مقدمته حذيفة بن محصن الغلفاني وعلى مجنبَّته النعمان بن عوف بن النعمان ومطر الشيبانيان وقد حدث في إحدى غارات المثنى أن أدركت قواته مجموعات من الأعداء بتكريت يخوضون الماء، فأصابوا ما شاءوا من النعم، حتى أصاب الرجل خمساً من النعم، وخمساً من السبي، وخمس المال، وجاء به حتى ينزل على الناس بالأنبار. وعاد المثنى إلى الأنبار فبعث فرات بن حيان وعتيبى بن النهاس إلى صفين وأمرهما بالغارة على أحياء العرب من تغلب والنمر – ثم استخلف على الأنبار والتي اتخذها قاعدة متقدمة – عمرو بن أبي سلمى الهجيمي واتبعهما. فلما اقتربوا من صفين افترق المثنى عن فرات وعتيبة، وفر أهل صفين فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا بها، وكانوا من قبائل النمر وتغلب متساندين فاتبعهم فرات وعتيبة حتى رموا بطائفة منهم في الماء، فكانوا ينادونهم (الغرق الغرق) وكان عتيبة وفرات يحضان الناس ويحرضانهم ويقولان (تغريق بتحريق) يذكرانهم يوماً من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوماً من بكر بن وائل في غيضة من الغياض، ثم رجعوا إلى المثنى وقد أغرقوهم في الفرات، وبلغ خبر ذلك إلى عمر بالمدينة، فقد كانت له عيون في كل جيش تكتب له، فطلب فرأت بن حيان وعتيبة إلى المدينة وأجرى معهما تحقيقاً في هذا، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه أنه مَثَلٌ ولم يفعلاه على وجه طلب ثأر الجاهلية، فاستحلفهما فحلفا أنهما ما أرادا بذلك إلا المثل وإعزاز الإسلام، فصدقهما عمر وردهما إلى العراق فرجعا إليه مع حملة سعد بن أبي وقاص( )، فقد كان الفاروق حريصاً على صيانة أخلاق الرعية وحياطتها من تسرب الفساد إليها( ).
لقد استغل المثنى النصر الرائع الذي أحرزه المسلمون يوم البويب وشن غارات منظمة على أسواق شما ل العراق وطبق مبدأ مطاردة الأعداء وقد استطاع بعد توفيق الله ثم بما أعطاه الله من صفات القائد العسكري أن ينفذه في قوة وعمق بلغ حوالي أربعمائة كيلو متراً أو يزيد شمالاً، خلاف ما تبحبحوا به شرقاً وجنوباً وغرباً على امتداد ذلك الخط( )، وقد طبق المثنى استراتيجية وتكتيكات الحرب الخاطفة في عملياته تلك،
ولا شك أن هذه العمليات قد وجهت إلى السلطة الفارسية الحاكمة في المدائن أكبر إهانة أمام شعبها، وأضعفت الثقة في قدرتها على القيام بالدفاع ضد هجمات قوم كان الفرس حتى وقتها ينظرون إليهم نظرة ملؤها الإهانة والازدراء( ).


سادساً: رد فعل الفرس:
لم تكن أحداث كالتي وقعت لتمر دون أن يكون لها رد فعلٍ في الدوائر الحاكمة في فارس واجتمع ساداتهم وقالوا لرستم ولفيرزان: أين يذهب بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس وأطمعتما فيهم عدوهم. والله ما جر هذا الوهن علينا غيركم
يا معشر القواد، لقد فرقتم بين أهل فارس وثبطتموهم عن عدوهم، إنه لم يبلغ من خطركما أن يقركما فارس على هذا الرأي وأن تعرضها للهلكة، ما تنظرون والله إلا أن ينزل بنا ونهلك. ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت، والله لولا أن في قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم( ).
وبعد ذلك ذهب رستم وفيرزان إلى بوران فقالا لها: اكتبي إلى نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى، وسراريهم، ففعلت وأخرجت لهم ذلك في كتاب، فأرسلوا في طلبهن فأتوا بهن جميعاً فسلموهن إلى رجال يعذبونهن ويستدلونهن على ذكر من أبناء كسرى، فلم يوجد عندهن منهم أحد، ولكن إحداهن ذكرت أنه لم يبق إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهر يار بن كسرى وأمه من أهل بادوريا، فأرسلوا إليها وأخذوها به يطلبونه منها، وكانت حين جمعهن عمه شيرويه في القصر الأبيض وقتل ذكور آل كسرى وهم وإخوته السبعة عشر حتى لا ينافسه أحد على عرش فارس، قد هربته وأخفته عند أخواله في إصطخر، وكان شيرويه قد قتل فيمن قتل أخاه شهريار بن كسرى برويز من زوجته المفضلة شيرين وهو والد يزدجرد هذا، فضغطوا على أم يزدجرد فدلتهم عليه، فأرسلوا إليه فجاؤوا به باعتباره الذكر الوحيد الباقي من بني ساسان، فملَّكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، واجتمعوا عليه واطمأن جميع الفرس لذلك، فتباروا في طاعته ومعونته، ورأوا في ذلك مخرجاً مما كانوا فيه( ) وبدأ يزدجرد الثالث يزاول سلطاته بمعونة رستم وفيرزان، فجدد المسالح والثغور التي كانت لكسرى وخصص جنداً لكل مسلحة فسمّى جند الحيرة والأنبار وجند الأبلة( ).

سابعاً: توجيهات الفاروق للمثنى:
بلغت المثنى أخبار تحركات يزدجرد الثالث وكانت عيونه تأتيه بتفاصيلها، فكتب بها وبما يتوقع من هجوم مضاد قوي إلى عمر رضي الله عنه، وصدق تقدير المثنى، فلم يصل كتابه إلى عمر حتى كفر أهل السواد وانتقضوا وتنكروا للمسلمين، من كان له منهم عهد ومن لم يكن له، وعاجلهم الفرس، فزاحفوهم مع ثورة أهل الذمة، فلما رأى المثنى ذلك كان يدرك أنه أحرز من التقدم والاكتساح أكثر مما تسمح قوته بالاحتفاظ به، ومن شأن هذا ألا يدوم فخرج في حاميته حتى نزل بذي قار وأنزل الناس بالطف في عسكر واحد، وكان عمر رضي الله عنه أكثر حذراً فجاءهم كتابه: أما بعد، فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم وتنحوا إلى البر وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحداً، ولا مضر ولا حلفائهم أحداً من أهل النجدات، ولا فارساً إلا اجتلبتموه، فإن جاء طائعاً وإلا حشرتموه، احملوا العرب على الجد إذ جد العجم، فلتلقوا جدهم بجدكم وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم حتى يأتيك أمري( )،ونزل المثنى بذي قار ووزع المسلمين بالجُل وشراف إلى غُضَي( )، وفرّق القوات في المياه من أول صحراء العراق إلى آخرها، من غضي إلى القطقطانة مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويغيث بعضهم بعضاً إن حدث شيء، في حالة ترقب وانتظار لحشد جديد، بينما عادت مسالح كسرى وثغوره واستقر أمر فارس وهم متهيبون مشفقون والمسلمون متدفقون في ضراوة كالأسد ينازع فريسته ثم يعاود الكر، وأمراؤه يكفكفونهم عملاً بكتاب عمر وانتظاراً للمدد، كان ذلك في أواخر ذي القعدة 13هـ يناير 635م( )،وقال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب. ثم كان أول ما عمل أن كتب إلى عماله على الكور والقبائل، وذلك في ذي الحجة مع مخرج الحجاج إلى الحج، فجاءته أوائل القبائل التي طرقها على مكة والمدينة ومن كان على طريق العراق وهو إلى المدينة أقرب، توافوا إليه بالمدينة مع رجوع الحج وأخبروه عمن وراءهم أنهم يجدون أثرهم، أما من كان في إلى العراق أقرب فقد لحقوا بالمثنى، فلم يدع عمر رئيساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سطوة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:28 pm

المبحث الثاني: معركة القادسية:

لما علم الفاروق أن الفرس يعدون العدة ويتجمعون لاستئصال القوة القليلة من المسلمين المتبقية في العراق أمر بالتجنيد الإجباري ذلك أن الحالة تقتضي ذلك؛ ولذلك أمر المثنى أن ينظر فيما حوله من القبائل ممن يصلح للقتال ويقدر عليه فيأتي به طائعاً أو غير طائع وهذا هو التجنيد الإجباري الذي رآه عمر وكان أول من عمل به في الإسلام، وبهذا يسقط ما قاله محمد فرج: صاحب كتاب (العسكرية الإسلامية) من أن التجنيد الإجباري ظهر في الدولة الأموية، فها هو عمر الفاروق قد أمر به ونفذ الأمر فما وصل كتاب أمير المؤمنين للمثنى إلا وبدأ بتنفيذ ما فيه على الفور وطبق الخطة التي رسمها له في تحركاته، وأرسل الفاروق إلى عماله أن لا يدعوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا أرسلوه إليه، يأمرهم بالتجنيد الإجباري ويطلب منهم أن يرسلوا المجندين الجدد إليه ليرسلهم إلى العراق( )، لقد تغير الموقف في بلاد فارس مع مجيء يزدجرد للحكم فقد أصبح موقف الفرس كالتالي:

• استقرار داخلي تمثل في تنصيب يزدجرد واجتماعهم عليه، واطمأنت فارس واستوثقوا وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته.
• تجنيد عام شمل كل ما استطاع الفرس أن يجندوه، وتوزيع الفرق في كل أنحاء الأرض التي فتحها المسلمون.
• وأخيراً إثارة السكان وتأليبهم على المسلمين، حتى نقضوا عهدهم وكفروا بذمتهم وثاروا بهم( ).

وتغير موقف المسلمين وأصبح كالتالي:
• الانسحاب: خروج المثنى والقواد الآخرين على حاميتهم من الأرض التي فتحوها من بين ظهراني العجم.
• التراجع: والتفرق في المياه التي تلي الأعاجم على حدود الأرض العربية والأرض الفارسية، وقد نزل المثنى في ذي قار، ونزل الناس الطَّف؟ فشكلوا في العراق مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويغيث بعضهم بعضاً عند الحاجة.
• مقابلة التجنيد الإجباري عند الفرس بالتجنيد الإجباري لدى المسلمين( ).

أولاً: تأمير سعد بن أبي وقاص على العراق:
وهذه المرحلة الثالثة في فتوحات العراق تبدأ بتأمير سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على الجهاد في العراق سنة 14هـ، فقد استهلت هذه السنة الرابعة عشر وعمر رضي الله عنه يحث الناس ويحرضهم على جهاد الفرس، وركب رضي الله عنه أول يوم من المحرم في هذه السنة في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له صِرَار( )، فعسكر به عازماً على غزو العراق بنفسه واستخلف على المدينة علياً بن أبي طالب، واستصحب معه عثمان بن عفان وسادات الصحابة، ثم عقد مجلساً لاستشارة الصحابة فيما عزم عليه ونودي الصلاة جامعة، وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقوه على الذهاب إلى العراق إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه قال له: إني أخشى إن كُسِرتَ أن تَضْعف المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلاً وترجع أنت إلى المدينة فاستصوب عمر والناس عند ذلك رأي ابن عوف. فقال عمر: فمن ترى أن نبعث إلى العراق؟ فقال: قد وجدته قال: ومن هو؟ قال: الأسد في براثنه، سعد بن مالك الزهري فاستجاد قوله وأرسل إلى سعد، فأمّره على العراق( ).

1- وصية من عمر لسعد رضي الله عنهم:
لما قدم سعد إلى المدينة أمّره عمر رضي الله عنهما على حرب العراق وقال له: يا سعد سعد بني وُهَيب لا يغرنّك من الله أن قيل خال رسول الله ?، وصاحب رسول الله ? فإن الله عز وجل لا يمحو السيء بالسيء ولكنه يمحو السيء بالحسن، فإن الله تعالى ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله ? منذ بُعث إلى أن فارقنا فالزمْه فإنه الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها كنت من الخاسرين( ).
وإنها لموعظة بليغة من خليفة راشد عظيم فقد أدرك عمر رضي الله عنه جانب الضعف الذي يمكن أن يؤتى سعد من قبله وهو أن يُدلي بقرابته من النبي ? فيحمله ذلك على شيء من الترفع على المسلمين، بالمبدأ الإسلامي العام الذي يعتبر مقياساً لكرامة المسلم في هذه الحياة حيث قال الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة. فقوله: يتفاضلون بالعافية. يعني بالشفاء من أمراض النفوس فكأنه يقول يتفاضلون بالبعد عن المعاصي والإقبال على طاعة الله تعالى وهذه هي التقوى التي جعلها الله سبحانه ميزاناً للكرامة بقوله:? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? (الحجرات،آية:13)، وهو ميزان عادل رحيم بإمكان كل مسلم بلوغه إذا جَدَّ في طلب رضوان الله تعالى والسعادة الأخروية ثم ذكره عمر في آخر الموعظة بلزوم الأمر الذي كان عليه رسول الله ? وهذا يشمل الالتزام بالدين كله وتطبيقه على الناس( ).

2- وصية أخرى:
ثم إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى سعد بن أبي وقاص مرة أخرى لما أراد أن يبعثه بقوله: إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يُخلِّص منه إلا الحق، فعوِّد نفسك ومن معك الخير، واستفتح به، واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على
ما أصابك أو نابك تجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة، وللقلوب حقائق ينشؤها الله إنشاءً، منها السر ومنها العلانية، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامّه في الحق سواء، وأما السر فيُعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس، فلا تزهد في التحبب فإن النبييين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبداً حبَّبه، وإذا أبغض عبداً بغَّضه، فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس، ممن يشرع معك في أمرك( ) وفي هذا النص عبر نافعة منها:

- إن لزوم الحق يخلِّص المسلم من الشدائد، وذلك أن من لزم الحق كان مع الله تعالى ومن كان مع الله تعالى كان الله معه جل وعلا بنصره وتأييده وإن هذا الشعور ليعطي المسلم دفعات قوية نحو مضاعفة العمل ومواجهة الصعاب والمآزق، إضافة إلى الطمأنينة النفسية التي يتمتع بها من لزم الحق قولاً وعملاً، بخلاف من حاد عن طريق الحق فإنه يشعر بالقلق والآلام المتعددة التي منها تأنيب الضمير والخوف من محاسبة الناس والدخول في مجاهيل المستقبل التي تترتب على الانحراف.

- وذكر عمر رضي الله عنه أن عُدة الخير الصبر، وذلك أن طريق الخير ليس مفروشاً بالخمائل، بل هو طريق شاق شائك، بتطلب عبوره جهاداً طويلاً، فلابد لسالكه من الاعتداد بالصبر وإلا انقطع في أثناء الطريق.

- وذكر أن خشية الله تعالى تكون في طاعته واجتناب معصيته ثم بين الدافع الأكبر الذي يدفع إلى طاعته ألا وهو بغض الدنيا وحب الآخرة، والدافع الأكبر الذي يدفع إلى معصيته، وهو حب الدنيا وبغض الآخرة.

- ثم ذكر أن للقلوب حقائق منها العلانية ومثّل لها بالمعاملة مع الناس بالحق في حالَي الغضب والرضى، وأن لا يحمل الإنسان ثناء الناس عليه على مداراتهم في النكول عن تطبيق الحق، ولا يحمله ذمهم إياه على ظلمهم ومجانبة الحق معهم.

- وذكر من حقائق القلوب السرّ، وجعل علامته ظهور الحكمة من قلب المسلم على لسانه، وأن يكون محبوباً بين إخوانه المسلمين، فإن محبة الله تعالى لعبده مترتبة على محبة المسلمين له، لأن الله تعالى إذا أحب عبداً حببه لعباده( )، فإذا كان سعد بن أبي وقاص المشهود له بالجنة بحاجة إلى هذه الوصية فكيف بنا وأمثالنا ونحن ينقصنا الكثير من فهم الإسلام وتطبيقه( ).

3- خطبة لعمر رضي الله عنه:
وسار سعد إلى العراق ومعه أربعة آلاف مجاهد، وقيل في ستة آلاف، وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص( )، ثم قام في الناس خطيباً فقال: إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرّف لكم القول ليحيي به القلوب فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله من علم شيئاً فلينتفع به، وإن للعدل أمارات وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهَيْن واللَّيْن، وأما التباشير فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسَّر لكل باب مفتاحاً، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له، بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قِبَلَه حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحداً، واكتف بما يكفيك من الكفاف، فإن من لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء، وإني بينكم وبين الله وليس بيني وبينه أحد، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه، فأنهُوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يُبلِّغناها نأخذ له الحق غير مُتَعْتَع( ).

4- وصول سعد إلى العراق ووفاة المثنى:
سار سعد بجيشه حتى نزل بمكان يقال له ((زَرُود)) ( )، من بلاد نجد وأمدّه أمير المؤمنين بأربعة آلاف، واستطاع سعد أن يحشد سبعة آلاف آخرين من بلاد نجد، وكان المثنى بن حارثة الشيباني ينتظره في العراق ومعه اثنا عشر ألفاً.
وأقام سعد بزرود استعداداً للمعركة الفاصلة مع الفرس وانتظاراً لأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقد كان عمر عظيم الاهتمام بهذه المعركة فلم يدع رئيساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سلطة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم( )، وبينما كان سعد مقيماً بجيشه في زرود مرض المثنى مرضاً خطيراً يقول الرواة: إن الجراحة التي جرحها يوم الجسر انتقضت عليه، واستشعر دنو أجله واشتد وجعه واستخلف على من معه بشير بن الخصاصية، وطلب المثنى أخاه المعنى وأفضى إليه بوصيته وأمره أن يعجل به إلى سعد، ثم أسلم المثنى الروح إلى بارئها فانطفأ السراج المضيء وأفلت هذه الشمس المشرقة التي ملأت فتوح العراق نوراً ودفئاً( )، وقد جاء في وصيته لسعد: أن
لا يقاتل عدوه وعدوهم – يعني المسلمين – إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مردة من أرض العجم، فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم، وإن تكن الأخرى فاؤوا إلى فئة، ثم يكونون أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم، إلى أن يرد الله الكرة عليهم( )، فما أشبه لحظات المثنى الأخيرة باللحظات الأخيرة للخليفة
أبي بكر رضي الله عنهما، كلاهما ترك الدنيا وهو يفكر للمسلمين في هذه الفتوح ويوصي لها، توفي أبو بكر وهو يوصي خليفته عمر بندب الناس وبعثهم لفتح العراق، وتوفي المثنى وهو يورّث القائد الجديد لحرب العراق سعد بن أبي وقاص تجاربه الحربية ضد الفرس، فهو يجود بنفسه وهو يفكر ويدبر ويوصي سعداً( )، ولما انتهى إلى سعد رأيُ المثنى ووصيته ترَّحم عليه وأمّر المعنى بن حارثة على عمله، وأوصى بأهل بيته خيراً( )، ومما يلفت النظر في هذا الخبر أن المثنى قد أوصى بزوجته سلمى بنت خصفة التيمية إلى سعد بن أبي وقاص، وحملها معه المعنى، ثم خطبها سعد بعد انتهاء عدتها وتزوجها، فهل أراد المثنى أن يَبَّر زوجته بعد رحيله بضمها إلى بطل عظيم من أبطال الإسلام شهد له رسول الله بالجنة؟ إنه نوع من الوفاء نادر المثال، أم أنها كانت ذكية وعاقلة وقد تكون لديها خبرة من حروب زوجها، فأراد أن ينتفع المسلمون بها؟ كل ذلك محتمل، وهو غيض من فيض مما تحلى به ذلك الجيل الراشد من الفضائل وعظائم الأمور( )، ومما ينبغي الإشادة به الإشارة إليه، موقف قام به المعنى قبل إبلاغ هذه الوصية، وذلك أنه علم بأن أحد أمراء الفرس وهو الآزاذمر بعث قابوس بن قابوس بن المنذر إلى القادسية وقال له: ادع العرب فأنت علىمن أجابك وكن كما كان آباؤك – يعني المناذرة الذين كانوا ولاة الفرس – فنزل القادسية وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعيداً، فلما انتهى إلى المعنَّى خبره، أسْرَى المعنَّى من
((ذي قار)) حتى بيَّته، فأنامه ومن معه، ثم رجع إلى ذي قار( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:29 pm

5- مسيرة سعد إلى العراق ووصية عمر رضي الله عنهما:
جاء الأمر من عمر أمير المؤمنين إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما بالرحيل من ((زرود)) إلى العراق استعداداً لخوض المعركة الفاصلة مع الفرس وأوصاه بالوصية التالية: أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله عز وجل أفضل العدة على العدو، وأقوى العدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدَّ احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عُدَّتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ولا تقولوا إن عدونا شر منَّا ولن يسلط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قوم سلط عليهم شرٌّ منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفرة المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولا، اسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لناولكم، وترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشِّمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، جامِّ الأنفس والكراع( )، وأقم بمن معك كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة، يجمعون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونحَّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلنها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا ترزأ أحداً من أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فوفوا لهم،
ولا تنتصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح، وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق في بعض، والغاش عين عليك وليس عيناً لك، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع، وتبثّ السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عورتهم، وانتق الطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول من تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجلاد،لعلها (ولا تخص أحداً بهوى) فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه ضيعة ونكاية، فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعالجهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوك كصنيعته بك ثم أذك حراسك على عسكرك، وتحفظ من البيات جهدك، ولا تؤتى بأسير ليس له عهد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدوك وعدو الله، والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم والله المستعان( )، فهذا خطاب عظيم يشتمل على وصايا نافعة ، يوضح لنا جانباً مهماً من عظمة عمر رضي الله عنه وهو خبرته العالية في التخطيط الحربي، وقد كان التوفيق الإلهي واضحاً في كل توجيهاته ووصاياه( )، ويمكننا أن نستخلص بعض المبادئ الهامة التي اشتملت عليها تلك الوصية منها:

- أمر الجيش بطاعة الله وتقواه في كل الأحوال، باعتبار أن هذا هو السلاح الأول، والتنبيه أن العدو الأول هو الذنوب، ثم المحاربون الكفار، ولفت النظر إلى أن ثمة رقابة دقيقة ودائمة، من الملائكة على أفراد الجيش الإسلامي، والإشارة إلى ضرورة الاستحياء من المعاصي، إذا لا يعقل أن يعصي المرء وهو في ساحة الجهاد في سبيل الله، والتأكيد على أنه من المجافي للصواب، اتخاذ سلوكيات العدو معياراً لتبرير سلوكيات الجيش الإسلامي واستحضار الحاجة الدائمة إلى معونة الله.
- أما المبدأ الثاني الذي أكدت عليه رسالة عمر إلى سعد فهو: رعاية الطرف الأول في العلاقة محل البحث ضد أي خطر، وتأكيد حرمة قرى أهل الصلح وتلمس أسباب تأمينها، وتأمين الصورة الإسلامية من أية آثار عكسية تؤثر على نجاح عملية الاتصال بين المسلمين وغير المسلمين، من جراء سلوكيات غير مستقيمة من جانب بعض العناصر الإسلامية، وسعياً لتحقيق متطلبات هذا المبدأ، أمر عمر أميره بمراعاة أسباب الحفاظ على معنويات الجيش، وإيصاله إلى أرض العدو، وهو قادر على المواجهة، فقال: ترفق بالمسلمين في سيرهم.. إلى أن قال يكون ذلك لهم راحة يجمعون بها أنفسهم، ويصلحون أسلحتهم، وأمتعتهم، وبعد التأكيد على أسباب صيانة وسلامة الأنفس والعتاد الحربي الإسلامي، نبه عمر إلى أن الوقاية خير من العلاج، وأن من أهم أسلحة الجيش الظهور بسلوكيات إسلامية، يوافق فيها القول العمل، فأمر عمر – كإجراء احتياطي – بإبعاد منازل الجيش عن قرى الصلح درءاً لإمكانية وقوع أية تجاوزات، تعود بالسلب، على العلاقة المراد إقامتها، وعدم السماح إلا لأهل الثقة بدخول قرى الصلح، والتأكيد على حرمة أهل الصلح ولزوم الوفاء لهم.

- ونصت رسالة عمر على مبدأ ثالث وهو: التنوع في أسلوب المعاملة حسب نوعية شريك الدور، والرفق بأهل الصلح، وعدم تحميلهم فوق طاقتهم، فلقد طلب عمر من أميره، ألا يظلم أهل الصلح بغية النصر على أهل الحرب، وأن يستعين بمن يثق به من أهل المناطق الجاري فتحها، على أن تكون دواعي الثقة المطلقة بمعنى: التحرز فيها كيلاً يؤتى من قبيل الإفراط في حسن الظن.

- أما المبدأ الرابع: فهو ضرورة جمع معلومات كافية عن العدو، فلقد نبه عمر إلى ضرورة إسناد أمر جمع المعلومات إلى طلائع استطلاع من أفضل عناصر الجيش، مع تسليحها بأفضل ما بحوزة الجيش من أسلحة، ذلك أن العدو قد يكشف بعضها فيكرهها على الدخول في قتال، ويجب بالتالي أن تكون من القوة بحيث تحدث الأثر النفسي المطلوب في العدو بإشعاره بقوة الجيش، وبتلمس أسباب الكف عن استخدام القوة.

- أما المبدأ الخامس، والأخير، في رسالة عمر، فهو: وضعه الرجل المناسب في المكان المناسب، واعتبار أن الغرض من جمع المعلومات عن العدو ليس التمكن من محاربته، بقدر ما هو التحرز من استكراه الطرف الثاني للمسلمين على القتال، ولذا يجب على المسلمين الكف بعد الأخذ بالأسباب، والتأهب ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً مع أخذ الحيطة والحذر البالغين( ).

6- الاستعانة بمن تاب من المرتدين:
إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يستعن في حروب الردة ولا في حركة الفتوحات بمرتد، وأما عمر رضي الله عنه فقد استنفرهم بعد أن تابوا وصلح حالهم وأخذوا قسطاً من التربية الإسلامية إلا أنه لم يول منهم أحداً( )، وقد جاء في رواية أنه قال لسعد بن أبي وقاص في شأن طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي: استعن بهما ولا تولينهما على مائة( )، فنستفيد من سنة الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر( )، أن من ارتد عن الإسلام ثم تاب ورجع إليه فإن توبته مقبولة ويكون معصوم الدم والمال، وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم غير أنه
لا يولى شيئاً من أمور المسلمين المهمة وخاصة الأعمال القيادية، وذلك لاحتمال أن تكون توبته نفاقاً، وإذا كانت كذلك وتولى قيادة المسلمين المهمة وخاصة الأعمال القيادية، فإنه يفسد في الأرض ويقلب موازين الحياة فيقرب أمثاله من المنافقين ويبعد المؤمنين الصادقين ويحوّل المجتمع الإسلامي إلى مجتمع تسوده مظاهر الجاهلية، فكانت هذه السنة الراشدة من الخليفتين الراشدين لحماية المجتمع الإسلامي من تسلل المفسدين إلى قيادته وتوجيهه، ولعل حكم هذه السنة أيضاً ملاحظة عقوبة المرتدين بنقيض قصدهم، الذين يرتدون من أجل الحصول على الزعامات والقيادات، إذا أظهروا التوبة، وعادوا إلى الإسلام يحرمون من هذه القيادات عقوبة لهم، وردعاً لكل من تسول له نفسه أن يخرج عن الخط الإسلامي، ويبحث عن الزعامة في معاداة الإسلام وموالاة أعدائه( ).

7- كتاب من أمير المؤمنين إلى سعد بن أبي وقاص:
وصل إلى سعد بن أبي وقاص كتاب من أمير المؤمنين وهو نازل في شراف على حدود العراق يأمره فيه بالمسير نحو فارس وقد جاء في هذا الكتاب: أما بعد فسر من شراف نحو فارس، بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله واستعن به على أمرك كله، واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع – وإن كان سهلاً – كؤود لبحوره وفيوضه ودأدائه( )، إلا أن توافقوا غيضاً من فيض، وإذا لقيتم القوم أو أحداً منهم فابدؤوهم العتيد والضرب، وإياكم والمناظرة – لجموعهم – يعني الانتظار بعد المواجهة – ولا يخدعنكم فإنهم خدعة مكرة، أمرهم غير أمركم، إلا أن تجادوهم – يعني تأخذوهم بالجد – وإذا انتهيت إلى القادسية( )، فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر( )، على حافات الحجر وحافات المدر، والجراع بينهما( )، ثم ألزم مكانك فلا تبرحه فإنهم إن أحسوك انغضتهم رموك بجمعهم، الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم، فإن أنتم صبرتم لعدوكم، واحتبستم لقتاله ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبداً، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن، وهذه الوصية في اختيار المكان الذي يستقر فيه الجيش تشبه وصية المثنى لسعد حيث اتفق رأي عمر والمثنى في اختيار المكان، وكانت تلك الوصية من المثنى نتيجة خبرة أكثر من ثلاث سنوات في حرب الفرس، وهذا دليل على براعة عمر رضي الله عنه في التخطيط الحربي مع أنه لم تطأ قدماه أرض العراق رضي الله عنهم أجمعين، وتتضمن هذه الوصية إبقاء الجيش بعيداً عن متناول الأعداء، ثم رميهم بالسرايا التي تنغص عليهم حياتهم وتثير عليهم أتباعهم حتى يضطر المسلمون إلى منازلتهم في المكان الذي تم اختياره( ).

8- من أسباب النصر المعنوية في رأي عمر رضي الله عنه:
كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد يذكره بأسباب النصر المعنوية وهي التي تأتي في المقام الأول، وقد جاء في كتابه: أما بعد فتعاهد قلبك وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما والصبر الصبر، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية والأجر قدر الحسبة، والحذر الحذر على ما أنت عليه وما أنت بسبيله واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) واكتب إليَّ أين بلغ جمعكم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؟ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجيلة وخف الله وارجه، ولا تُدِل بشيء، واعلم أن الله قد وعدكم، وتوكل لهذا الأمر بما لا خُلف له، فاحذر أن تصرفه عنك، ويستبدل بكم غيركم( )، ففي هذا الكتاب يوصي عمر رضي الله عنه بتعاهد القلوب، فإن القلب هو المحرك لجميع أعضاء الجسم والحاكم عليها فإذا صلح صلح الجسم كله، ثم يوصيه بموعظة جنده وتذكيرهم بالإخلاص لله تعالى واحتساب الأجر عنده، ويبين أن نصر الله مترتب على ذلك، ويحذره من التفريط في المسؤولية التي تحملها وما يستقبله من الفتوح، ويذكرهم بوجوب ارتباطهم بالله تعالى وأن قوتهم من قوته ويوصي قائد المسلمين بأن يكون بين مقام الخوف من الله تعالى والرجاء لما عنده، وهو مقام عظيم من مقامات التوحيد وينهاه عن الإدلال على الله بشيء من العمل أو ثناء الناس ويذكره بما سبق من وعد الله تعالى بانتصار الإسلام وزوال ممالك الكفر، ويحذره من التهاون في تحقيق شيء من أسباب النصر، فيتخلف النصر عنهم ليتم على يد غيرهم ممن يختارهم الله تعالى( ).

9- سعد رضي الله عنه يصف موقع القادسية لعمر رضي الله عنه ورد عمر عليه:
كتب سعد إلى عمر رضي الله عنهما: يصف له البلدان التي يتوقع أن تكون ميداناً للمعركة الفاصلة، إلى أن قال: وأن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلي إلبٌ لأهل فارس قد خضعوا لهم واستعدوا لنا، وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال له منهم، فهم يحاولون إنغاضنا وإقحامنا، ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم، وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مسلّم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله خير القضاء وخير القدر في عافية( )، فكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع حتى تقحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله( )، ومن خلال رسالة عمر يتبين أنه اتخذ القرار المناسب وهو:

- أن يثبت سعد في مواقعه فلا يبارحها.
- أن لا يبادر العدو بالقتال بل يترك له أمر هذه المبادرة.
- أن يعمد إلى استثمار النصر ويطارد العدو حتى المدائن، فيفتحها عليه( )، ومع الأخذ بالأسباب المادية التي لا بد منها في إحراز النصر لم يترك الفاروق الجوانب المعنوية وشن حرب نفسية على الخصوم في عقر دراهم، وعز ملكهم، وقوة سطوتهم، فأرسل إلى سعد: إني ألقي في روعي: أنكم إذا لقيتم العدو غلبتموهم، فمتى لاعب أحد منكم أحداً من العجم بأمان وإشارة أو لسان كان عندهم أماناً، فأجروا له ذلك مجرى الأمان والوفاء فإن الخطأ بالوفاء بقية، وإن الخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم( ).
لقد كان عمر رضي الله عنه يعيش مع الجيش الإسلامي بكل مشاعره وأحاسيسه، ولقد تكاثفت عليه الهموم حتى أصبح لا يهنأ بعيش ولا يقر له قرار حتى يسمع أخبارهم، وإن في مثل هذا الإلهام من الله تعالى تخفيفاً من هذا العبء الكبير الذي تحمله عمر وتثبيتاً للمسلمين وتقوية لقلوبهم، ونلاحظ أن الفاروق رضي الله عنه ذكّر المسلمين بشيء من عوامل النصر المعنوية حيث حثهم على الالتزام بشرف الكلمة والصدق في القول والوفاء بالعهود، ولو كان من التزم بذلك أحد أفراد المسلمين، أو كان هناك خطأ في الفهم فلم يقصد المسلم الأمان وفهمه
العدو أماناً( ).

ثانياً: الفاروق يطلب من سعد أن يرسل وفداً لمناظرة ملك الفرس:
وقال عمر لسعد في رسائله: لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به واستعن بالله، وتوكل عليه وابعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه إلى الله فإن الله جاعل دعاءهم توهيناً لهم وفلجاً عليهم وطلب الفاروق من سعد أن يكتب له كل يوم( ) ، وشرع في جمع رجال من أهل النظر والرأي والجلد، فكان الذين وقع عليهم الاختيار من أهل الاجتهاد والآراء والأحساب.

1- النعمان بن مقرن المزني.
2- بسر بن أبي رهم الجهني.
3- حملة بن جويه الكناني.
4- حنظلة بن الربيع التميمي.
5- فرات بن حيان العجلي.
6- عدي بن سهيل.
7- المغيرة بن زرارة بن النباش بن حبيب( )
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:30 pm

اختار سعد نفراً عليهم مهابة ولهم منظر لأجسامهم ولهم آراء نافذة.

1- عطارد بن حاجب التميمي.
2- الأشعث بن قيس الكندي.
3- الحارث بن حسان الذهلي.
4- عاصم بن عمرو التميمي.
5- عمرو بن معدي كرب الزبيدي.
6- المغيرة بن شعبة الثقفي.
7- المعنى بن حارثة الشيباني( ).

فهم أربعة عشر داعية بعثهم سعد دعاة إلى ملك الفرس بأمر عمر رضي الله عنه وهم من سادات القوم كما أرادهم عمر رضي الله عنه، كي يستطيعوا دعوة يزدجرد بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولعل الله يهديه هو وجنده للإيمان وتحقن دماء الطرفين. لقد كان هذا الوفد المنتقى على درجة عالية من الكفاية والقدرة لما أوفد له، فالإضافة إلى ما يتمتعون به من جسامة وقوة ومهابة وحسن رأي، فلهم أيضاً سبق معرفة بالفرس، فقد كان منهم من عاركهم وعركهم ومارس معهم الحروب في حملات سابقة، ومنهم من وفد في الجاهلية على ملوك الفرس، ومنهم من يعرف اللغة الفارسية، فكأن سعد اختارهم لهذه الوفادة بعد أن اجتاز كل منهم كشفاً فنياً من حيث كفاءته وحسن رأيه، وكشفاً طبياً من حيث قوته وضعفه وكشف هيئة من حيث لياقته وجسامته( ). لقد كان الوفد يتمتع بميزتي الرغبة والرهبة التي تتوفر في جسامتهم ومهابتم وجلدهم وشدة ذكائهم( ).
وتحرك هذا الوفد الميمون بقيادة النعمان بن مقرن، فوصلوا المدائن وأدخلوا على ملك الفرس يزدجرد، فسألهم بواسطة ترجمانه: ما جاء بكم ودعاكم إلى غزونا والولوغ ببلادنا؟ أمن أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟
فتكلم عنهم النعمان بن مقرن، فقال: (إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر، ووعدنا على إجابته خيري الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة قاربه منها فرقة، وتباعد عنه منها فرقة، ثم أمر أن نبتدئ بمن خالفه من العرب، فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين مكره عليه فاغتبط( )، وطائع فازداد، فعرفنا جميعاً فضل
ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق ثم أمر أن نبتدئ بمن جاورنا من الأمم، فندعوهم إلى الإنصاف. فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن، وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر أهون من آخر شر منه: الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع منكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم ومنعناكم وإلا قاتلناكم).
فقال ملك الفرس يزدجرد : إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً
ولا أسوأ ذات بين منكم، فقد كنا نوكل لكم قرى الضواحي فيكفونا أمركم:
ولا تطمعون أن تقوموا لفارس، فإن كان غرور لحقكم فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد( )، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.
فقام المغيرة بن زرارة، فقال: أما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد وذكر من سوء عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي ? .. مثل مقالة النعمان .. ثم قال: ((اختر إما الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، أو السيف، وإلا فنج نفسك بالإسلام)).
فقال يزدجرد: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، ثم استدعى بوقر( )، من تراب، وقال لقومه: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن فقام عاصم بن عمرو وقال: أنا أشرفهم وأخذ التراب فحمله وخرج إلى راحلته فركبها، ولما وصل إلى سعد قال له (أبشر: فوالله لقد أعطانا الله أقاليد( )، ملكهم)) ( ) .
ثم إن رستم خرج بجيشه الهائل، مائة ألف أو يزيدون، من ساباط، فلما مر على كوش – قرية بين المدائن وبابل – لقيه رجل من العرب فقال له رستم: ما جاء بكم، وماذا تطلبون منا؟ قال: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا قال رستم: قد وضعنا إذا في أيديكم: قال العربي: أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجادل( )، الإنس وإنما تجادل القدر!
فغضب منه رستم وقتله: فلما مرّ بجيشه على البرس – قرية بين الكوفة والحلة غصبوا أبناء أهله وأموالهم، وشربوا الخمور، ووقعوا على النساء! فشكى أهل البرس إلى رستم فقال لقومه: ((والله لقد صدق العربي! والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء وهم حرب أحسن سيرة منكم)) ( ).
ولما علم سعد أمير جيش المسلمين خبر رستم، أرسل عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وطليحة بن خوليد الأسدي يستكشفان خبر الجيش مع عشرة رجال، فلم يسيروا إلا قليلاً حتى رأوا سرح العدو منتشراً على الطفوف( )، فرجعوا إلا طليحة، فإنه ظل سائراً حتى دخل جيش العدو وعلم ما فيه، فرجع إلى سعد وأخبره خبره وكان طليحة هذا من زعماء الردة.
وقد سمح الفاروق لمن ارتد وتاب من العرب بالاشتراك في الجهاد وكان الصديق رضي الله عنه يمنع ذلك، وكان الفاروق يمنع من خرج من زعماء أهل الرد بعد توبته إلى الجهاد أن يتولى إمارة ولم يولِّ منهم أحداً وحرص على أن يتربوا على معاني الإيمان والتقوى وأتاح لهم فرصة ثمينة ليعبروا فيها عن صدق إيمانهم وتقواهم وكان لطليحة الأسدي وعمرو الزبيدي مواقف مشهودة في حروب العراق والفرس.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:31 pm

ثالثاً: سعد بن أبي وقاص يرسل وفوداً لدعوة رستم:
وسار رستم بجيشه من الحيرة حتى نزل القادسية على العتيق – جسر القادسية – أمام عسكر المسلمين، يحول بينهم النهر، ومع الفرس ثلاثة وثلاثون فيلاً، ولما نزل أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه.
فأرسل إليه: ربعيَّ بن عامر فجاءه وقد جلس على سرير من ذهب: وبُسُط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب! فأقبل ربعيُّ على فرسه، وسيفه في خِرْقة( ) ورمحه مشدود بعِصَب( )، فلما انتهى إلى البساط وطأه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما: وجعل الحبل فيهما، ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، فأشاروا عليه بوضع سلاحه؛ فقال: لو أتيتك فعلت ذلك بأمركم، وإنما دعوتموني، ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويُقارب خطوه حتى أفسد ما مرّ عليه من البُسط، ثم دنا من رستم، وجلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، وقال: إنّا لا نقعد على زينتكم. فقال له رستم: ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا، وهو بَعَثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومنْ ضيق الدُّنيا إلى سغنها، ومن جور الأدْيَان إلى عدل الإسلام، فأرسل لنا رسوله بدينه إلى خَلْقِهِ، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نُفضي إلى الجنة، أو الظَّفر( ).
فقال رستم قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ فقال: نعم، وإنَّ مما سَنَّ لنا رسول الله ? ألاّ نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة( ) في اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا، وأنا كفيل عن أصحابي.
فقال رستم أسيِّدهم أنت؟ قال: لا ولكنّ المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض، يُجِيزُ أدناهم أعلاهم.
ثم انصرف، فخلا رستم بأصحابه، وقال: رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل؟ فأروه الاستخفاف بشأنه:
فقال رستم: ويلكم وإنما أنظر إلي الرأي والكلام والسيرة، والعربُ تستخف اللباس وتصون الأحساب.
فلما كان اليوم الثاني من نزوله، أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا هذا الرجل. فأرسل إليه حذيفة بن مِحْصَن الغلفاني، فلم يختلف عن ربعي في العمل والإجابة، ولا غرابة، فهما مستقيان من إناء واحد، وهو دين الإسلام.
فقال له رستم: ما قَعَد بالأول عنا؟ قال: (أميرُنا يَعْدل بيننا في الشدة والرّخاء، وهذه نوبتي). فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟ قال: إلى ثلاث، من أمس.
وفي اليوم الثالث أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً. فأرسل إليه المغيرة بن شعبة فتوجه إليه، ولما كان بحضرته جلس معه على سريره، فأقبلت إليه الأعوان يجذبونه! فقال لهم: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً، إلا أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني: أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، وأن مُلكاً لا يقوم على هذه السِّيرة ولا على هذه العقول.
فقالت السوقة: صدق والله العربي، وقالت الدَّهاقين -زعماء الفلاحين- لقدر من بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه، قاتل الله سابقينا حيث كانوا يُصَغِّرون أمر هذه الأمة.
ثمّ تكلم رستم بكلام صَغَّر فيه شأن العرب، وضخَّم أمر الفرس، وذكر ما كانوا عليه من سوء الحال وضيق العيش( ).
فقال المغيرة: أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف، فنعرفه
ولا ننكره، والدنيا دُول، والشدة بعدها الرخاء، ولو شكرتم ما أتاكم الله لكان شُكركم قليلاً على ما أوتيتم، وقد أسلمكم ضعف الشُّكر إلى تغير الحال وإن الله بعث فينا رسولاً، ثم ذكر مثل ما تقدم، وختم كلامه بالتخيير بين الإسلام أو الجزية أو المنابذة( ).
فخلا رستم بأهل فارس، وقال: أين هؤلاء منكم؟ ألم يأتكم الأوَّلان فجسراكم( ) واستخرجاكم( )، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا، وسلكوا طريقاً واحداً، ولزموا أمراً واحداً، هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين والله لئن بلغ من أدبهم وصونهم لسرّهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم، لئن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شيء، فَلَجُّوا( ).


رابعاً: الاستعداد للمعركة:
لم ينتفع الفرس بدعوة الوفود، وتمادوا في غيهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فأجمع الفرس على القتال واستعد المسلمون لذلك وعبر الفرس نهر العتيق وعيّن رستم جيشه العرمرم على الشكل التالي:

- في القلب: ذو الحاجب (ومعه 18 فيلاً) عليها الصناديق والرجال.
- في الميمنة: مما يلي القلب: الجالينوس.
- في الميمنة: الهرمزان (ومعه 7 أو 8 أفيال ) عليها الصناديق والرجال.
- في الميسرة مما يلي القلب: البيرزان.
- في الميسرة: مهران (ومعه 7 أو 8 أفيال) عليها الصناديق والرجال، وأرسل رستم فرقة من خيالته إلى القنطرة لتمنع المسلمين من عبورها نحو جيشه، فأصبحت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين وكان ترتيب الصفوف على الشكل التالي:

- الخيالة في الصفوف الأولى، يليها الفيلة، ثم المشاة، ونصب لرستم مظلة كبيرة استظل بها على سريره وجلس يراقب سير المعركة( )، وكان المسلمون على أهبة الاستعداد وعلى أحسن تعبئة للقتال، فقد عبأ سعد بن أبي وقاص جيشه مبكراً، وأمّر الأمراء، وعرّف على كل عشرة عريفاً، وجعل على الرايات رجالاً من أهل السابقة أيضاً ورتّب المقدمة والساقة والمُجنِّبات والطلائع، وقد وصل القادسية على تعبئة، وقد عبأ جيشه على الشكل التالي:

1- على المقدمة: زُهرة بن الحَويَّة.
2- وعلى الميمنة: عبد الله بن المُعْتمِّ.
3- وعلى الميسرة: شرحبيل بن السمط الكندي، وخليفته خالد بن عُرْفُطة.
4- وعلى الساقة: عاصم بن عمرو.
5- وعلى الطلائع: سواد بن مالك.
6- وعلى المجرّدة: سلمان بن ربيعة الباهلي.
7- وعلى الرَّجَّالة: حَمَّال بن مالك الأسدي.
8- وعلى الركبان: عبد الله بن ذي السهمين الحنفي.
9- وعلى القضاء بينهم: عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي.
10- وكاتب الجيش: زياد بن أبي سفيان.
11- ورائده وداعيه: سلمان الفارسي وكل ذلك بأمر من عمر( ) هذا وقد خطب سعد بن أبي وقاص في الناس وتلا قول الله تعالى: ? وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ(105) ? (الأنبياء،آية:105). وأمر القرّاء أن يشرعوا في سورة الأنفال، فقرئت ولما أتموا قراءتها هشت( ) قلوب الناس وعيونهم، ونزلت السكينة وصلى الناس الظهر وأمر سعد جيشه أن يزحفوا بعد التكبيرة الرابعة وأن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله واستمرت المعركة أربعة أيام.
وقد كان سعد رضي الله عنه مريضاً بعرق النسأ، وبه دمامل لا يستطيع الركوب ولا الجلوس فكان مكبِّا على صدره وتحته وسادة ويشرف على الميدان من قصر قُدَيْس الذي كان في القادسية وقد أناب عنه في تبليغ أوامره خالد بن عرفطة، وقد أمر بأن ينادي في الجيش: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله، أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد( )، وقبل بدء القتال حصل اختلاف على خالد بن عرفطة نائب سعد فقال سعد: احملوني وأشرفوا بي على الناس، فارتقوا به، فأكبّ مطَّلعاً عليهم والصف في أسفل حائط قصر قُدَيْس يأمر خالداً فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب عليه بعض وجوه الناس فهمَّ بهم سعد وشتمهم، وقال: أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالاً لغيركم، فحبسهم، ومنهم أبو محجن الثقفي وقيدهم في القصر، وقال جرير بن عبد الله ? مؤيداً طاعة الأمير ? أما أني بايعت رسول الله ? على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبداً حبشياً. وقال سعد: والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سننتُ فيه سنة يؤخذ بها من بعدي( )، وقد قام فيهم سعد بن
أبي وقاص بعد هذه الحادثة خطيباً، فقال بعد أن حمد لله وأثنى عليه: إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلف، قال الله جل ثناؤه:? وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي
الصَّالِحُونَ(105) ? (الأنبياء،آية:105) إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج فأنتم تطعمون منها وتأكلون، وتقتلون أهلها وتجبرنهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة، عِزَّ من وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرِّب ذلك أحداً إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم تُوبقوا آخرتكم( ).
وكتب سعد إلى الرايات: إني قد استخلفت فيكم خالد بن عرفطة، وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي يعودني وما بي من الحبوب( )، فإني مُكبُّ على وجهي وشخصي لكم باد فاسمعوا له وأطيعوا فإنه إنما يأمركم بأمري ويعمل برأيي، فقُرئ على الناس فزادهم خيراً، وانتهوا إلى رأيه وقبلوا منه وتحاثُّوا على السمع والطاعة، وأجمعوا على عذر سعد والرِّضى بما صنع( )، وقد بقي سعد بن أبي وقاص فوق القصر وأصبح مشرفاً على ساحة المعركة ولم يكن القصر محصناً وهذا يدل على شجاعة سعد رضي الله عنه، فعن عثمان بن رجاء السعدي قال: كان سعد بن مالك أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصراً غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذ برُمَّته( )، فوالله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه( ).

- فزع رستم من الأذان:
لما نزل رستم النجف بعث منها عيناً إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ندَّ منهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون، فيفترقون إلى موقفهم، فرجع إليه فأخبره بخبرهم وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحداً منهم يأكل شيئاً إلا أن يمصوا عيداناً لهم حين يُمسون وحين ينامون وقبيل أن يصبحوا، فلما سار فنزل بين الحصن والعتيق( )، وافقهم وقد أذن مؤذن سعد الغداة فرآهم يتهيأون للنهوض، فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولم قال: أما ترون إلى عدوكم قد نودي فيهم فتحشحشوا( ) لكم، قال عينه ذلك: إنما تحشحشهم هذا للصلاة، فقال بالفارسية وهذا تفسيره بالعربية: أتاني صوت عند الغداة، وإنما هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل( )، فلما عبروا تواقفوا وأذن مؤذن سعد للصلاة يعني صلاة الظهر فصلى سعد، وقال رستم: أكل عمر كبدي( ).
- رفع الروح المعنوية بين أفراد الجيش الإسلامي:
جمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجهاء المسلمين وقادته في بداية اليوم الأول من المعركة وقال لهم: انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق لهم عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم، وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتُهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال، فساروا فيهم( ).

- فقال قيس بن هبيرة الأسدي: أيها الناس احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم له يزدكم، واذكروا آلاء الله، وارغبوا إليه في عاداته، فإن الجنة أو الغنيمة أمامكم، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء، والأرض القفر، والظِّراب الخُشْن والفلوات التي لا تقطعها الأدلة.
- وقال غالب بن عبد الله الليثي: أيها الناس احمدوا الله على ما أبلاكم وسلوه يزدكم، وادعوه يحيكم، يا معشر معدّ، ما علّتكم اليوم وأنتم في حصونكم يعني الخيل ومعكم من لا يعصيكم يعني السيوف؟ اذكروا حديث الناس في غد، فإنه بكم غداً يبدأ عنده، وبمن بعدكم يُثنَّى.
- وقال ابن الهذيل الأسدي: يا معشر معدّ، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كالأسود الأجم، وتربَّدوا لهم تربُّد النمور وادرعوا العجاج، وثقوا بالله، وغضوا الأبصار، فإذا كلَّت السيوف فإنها مأمورة فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.
- وقال بسر بن أبي رهم الجهني: احمدوا الله وصدقوا قولكم بفعل، فقد حمدتم الله على ما هداكم له، ووحدتموه ولا إله غيره، وكبرتموه، وآمنتم بنبيه ورسله، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا يكوننَّ شيء بأهون عليكم من الدنيا، فإنها تأتي من تهاون بها، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم لتميل بكم انصروا الله ينصركم.
- وقال عاصم بن عمرو: يا معشر العرب إنكم أعيان العرب وقد صمدتم لأعيان من العجم، وإنما تخاطرون بالجنة، ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا اليوم أمراً تكونون شيئاً على العرب غداً.
- وقال ربيع بن البلاد السعدي: يا معشر العرب قاتلوا للدين والدنيا? وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ(133) ? (آل عمران،آية:133).
وإن عظم الشيطان عليكم الأمر فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل( ).
- وقال ربعي بن عامر: إن الله قد هداكم للإسلام، وجمعكم به، وأراكم الزيادة، وفي الصبر راحة، فعوِّدوا أنفسكم الصبر تعتادوه، ولا تعوّدوها الجزع فتعتادوه، وقد قال كلهم بنحو هذا الكلام، وتواثق الناس وتعاهدوا، واهتاجوا لكل ما كان ينبغي لهم( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:31 pm

1- يوم أرماث:
يطلق يوم أرماث على اليوم الأول من أيام القادسية وقد وجه سعد رضي الله عنه بيانه إلى الجيش قائلاً: الزموا مواقفكم لا تحركوا شيئاً حتى تصلُّوا الظهر، فإذا صليتم الظهر فإني مكبِّر تكبيرة فكبروا واستعدوا، واعلموا أن التكبير لم يُعْطه أحد قبلكم، واعلموا أنّما أُعطيتموه تأييداً لكم، ثم إذا سمعتم الثانية فكبروا، ولتسثتم عُدَتكم، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا وليطاردوا، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم وقولوا:
لا حول ولا قوة إلا بالله( ).
ولما صلى سعد الظهر أمر الغلام الذي كان ألزمه إياه عمر وكان من القراء أن يقرأ سورة الجهاد (يعني الأنفال) فقرأ على الكتيبة الذي يلونه سورة الجهاد، فقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها( )، ولما فرغ القراء كبّر سعد، فكبَّر الذين يلونه بتكبيرة، وكبر بعض الناس بتكبير بعض، فتحشحش الناس (يعني تحركوا) ثم ننَّى فاستتمَّ الناس، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج من أهل فارس أمثالهم فاعتوروا
الطعن والضرب( )، وكان لأبطال المسلمين من أمثال غالب بن عبد الله الأسدي، وعاصم بن عمرو التميمي وعمرو بن معديكرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي أثر ظاهر في النكاية بالعدو حيث قتلوا وأسروا عدداً من أبطالهم ولم يقتل من المسلمين أحد فيما ذُكر أثناء المبارزة، والمبارزة في عسير من فنون الحرب
لا يتقنه إلا الأبطال من الرجال، وهي ترفع من شأن المنتصرين وتزيد من حماسهم، وتخفض من شأن المنهزمين وتحط من معنوياتهم، والمسلمون الأوائل متفوقون في هذا الفن على غيرهم دائماً، ولذلك هم المستفيدون من المبارزة( )، وبينما الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة إذ قام صاحب رجالة بني نهد قيس بن حذيم بن جرثومة، فقال: يا بني نهد انهدوا فإنما سميتم نهداً لتفعلوا، فبعث خالد بن عرفطة، والله لتكفنّ أو لأوليِّن عملك غيرك، فكفَّ( ).

- رستم يأمر جانباً من قواته بالهجوم:
ولما رأى رستم تفوق المسلمين في مجالي المبارزة والمطاردة لم يمهلهم حتى يكملوا خطة قائدهم في المزيد من حرب المطاردة والمبارزة بل أمر جانباً من قواته بأن تهجم هجوماً عاماً على جانب جيش المسلمين الذي فيه قبيلة بجيلة ومن لفَّ معهم، وكان الهجوم ملفتاً للنظر لأن الفرس وجهوا ما يقرب من نصف الجيش إلى قطاع لا يمثل إلا نسبة قليلة من الجيش الإسلامي، وهذا يدل على محاولتهم المستميتة لقطع حرب المبارزة والمطاردة التي فشلوا فيها، وهكذا هجم الفرس على أحد جناحي جيش المسلمين بثلاثة عشر فيلاً وكل فيل يصحبه حسب تنظيم جيشهم أربعة آلاف مقاتل من المشاة والفرسان، ففرقت الفيلة بين كتائب المسلمين وكان الهجوم مركزاً على بجيلة ومن حولهم وثبت المشاة من أهل المواقف لهجوم الفرس.

أ- سعد يأمر أسد بالذّب عن بجيلة:
أبصر سعد رضي الله الموقف الذي وقعت فيه بجيلة فأرسل إلى بني أسد يقول لهم: ذَبِّبُوا عن بجيلة ومن لافَّها من الناس، فخرج طليحة بن خويلد وحَمَّال بن مالك، وغالب بن عبد الله والرّبيِّل بن عمرو في كتائبهم، يقول المعرور بن سويد وشقيق: فشدُّوا والله عليهم فما زالوا يطعنونهم ويضربونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم، فأخِّرت وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه، فما لبَّث طليحة أن قتله، ولما رأت فارس
ما تلقى الفيلة من كتيبة أسد رموهم بحدِّهم وبدر المسلمين الشَّدَّة عليهم ذو الحاجب والجالينوس وهما قائدان من قادة الفرس والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة، وقد ثبتوا لهم، وقد كبَّر سعد الرابعة، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيلةس من الميمنة والميسرة على خيول المسلمين، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد، وتلح فرسانهم على المشاة ليدفعوا بالخيل لتُقدم على الفيلة.

ب- سعد يطلب من بني تميم حيلة للفيلة:
أرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي فقال: يا معشر تميم ألستم أصحاب الإبل والخيل؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله، ثم نادى في رجال من قومه رماة، وآخرين لهم ثقافة يعني حذق وحركة فقال لهم: يا معشر الرماة ذُبُّوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل وقال: يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة فقطِّعوا وضُنُها يعني أحزمتها لتسقط توابيتها التي تحمل المقاتلين وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذنابها وذباذب توابيتها يعني ما يعلق بها فقطعوا وضُنُها وارتفع عواء الفيلة فما بقي لهم يومئذ فيل إلا أُعْريَ، وقتل أصحابها، وتقابل الناس ونُفِّس عن أسد، ورَدُّوا فارس عنهم إلى مواقفهم فاقتتلوا حتى غربت الشمس، ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وأُصيب من أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردءاً للناس، وكان عاصم يعني وبني تميم عادية الناس وحاميتهم وهذا يومها الأول وهو يوم أرماث( ).



ج- موقف بطولي لطليحة بن خويلد
كان لأمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه تأثير على بني أسد، فقد قال طليحة بن خويلد يومئذ: يا عشيرتاه إن المنوّه باسمه الموثوق به، وإن هذا لو علم أن أحداً أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدؤوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة فإنما سُمِّيتم أسداً لتفعلوا فعله شدُّوا ولا تصدوا، وكُرُّوا ولا تفروا، لله در ربيعة أيُّ فري يفرون، وأيُّ قِرنٍ يغنون، هل يوصل إلى موقفهم فأغنوا عن مواقفكم أغناكم الله، شدوا عليهم باسم الله( )، وقد كان لهذا الكلام مفعول عجيب في نفوس قومه حيث تحولوا إلى طاقات فعالة، وتحملوا وحدهم رحى المعركة إلى أن ساندهم
بنو تميم، وقدموا في هذا اليوم خمسمائة شهيد( )، وقد تأثرت القبائل من بطولة بني أسد فقال الأشعث بن قيس الكندي: يا معشر كندة لله در بني أسد أي فر يفرون وأي هذٍّ يهذّون عن موقفهم? فتحول موقف كنده من الدفاع إلى الهجوم فأزالوا من أمامهم من المجوس وردُّوهم إلى الوراء( ).

د- ما قيل في الشعر في ذلك اليوم:
قال عمرو بن شأس الأسدي:
لقد عَلِمَتْ بنو أسد بأنا
وأنا النازلون بكل ثغر
ترى فينا الجياد مسوّمات
ترى فينا الجياد مُجلجِّات
بجمع مثل سلم مُكْفَهِر
بمثلهمُ تلاقي يوم هيج
نفينا فارساً عما أرادت
أولوا الأحلام إذ ذكروا الحُلوما( )
ولو لم نُلْفِه( ) إلا هشيماً
مع الأبطال يَعْلُكْنَ الشَّكيما
تُنَهْنِه عن فوارسها الخُصوما( )
تَشَبّهُهُم إذا اجتمعوا قروماً( )
إذا لاقيت بأساً أو خصوماً
وكانت لا تُحاول أن تَرِيما

هـ- مستشفى الحرب:
كان موقع مستشفى الحرب في العُذيب حيث تقيم نساء المجاهدين الصابرات المحتسبات، فيتلقين الجرحى ويتولين علاجهم وتمريضهم إلى أن يتم قضاء الله فيهم ومع ذلك فإن لهن مهمة أعجب من ذلك يشترك معهن فيها الصبيان ألا وهي حفر قبور الشهداء، ولئن كان تطييب الجرحى وتمريضهم من المهمات القريبة المنال للنساء فإن حفر الأرض من المهمات الخشنة، ولكن الرجال كانوا مشغولين بالجهاد، فلتقُم النساء بمهمتهم عند الضرورة، وهنَّ أهل لذلك لما يتصفن به من الإيمان والصبر( )، وقد تم نقل الشهداء إلى وادي مشرِّف بين العذيب وعين الشمس في جانبيه جميعاً( )، وكان التحاجز بين المسلمين وأعدائهم تلك الليلة فرصة لزيارة بعض المجاهدين لأهلهم في العذيب( ).

و- الخنساء بنت عمرو تحرض بنيها على القتال ليلة الهدأة:
في مضارب نساء المسلمين بالعذيب جلست الخنساء بنت عمرو شاعرة بني سليم المخضرمة ومعها بنوها أربعة رجال تعظهم وتحرضهم على القتال قالت: إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله تعالى:? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200) ? (آل عمران،آية:200). فإن أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وحللت تفجرت نار على أرواقها جوانبها فتيمموا وطيسها وسطها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها?جيشها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة، فخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قولها فلما أضاء الصبح باكروا مراكزهم( ).

ز- امرأة من النخع تشجع بنيها على القتال:
كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القتال ذلك اليوم، فلما بدأ الصباح ينبلج قالت لهم: إنكم أسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثربوا( )،
ولم تَنْب( ) بكم البلاد تقحمكم السنة( )، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس، والله إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره، فانصرفوا عنها مسرعين يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهي تقول: اللهم ادفع عن بنيّ، فرجعوا إليها بعد ذلك وقد أحسنوا القتال ما جرح منهم رجل جرحاً( ).
فهذا حال بعض النساء العجائز في اليوم الأول من القادسية.

2- يوم أغواث:
كان يوم أغواث هو اليوم الثاني من أيام القادسية، وفي ليلة هذا اليوم قدمت طليعة جيش الشام يقودهم القعقاع بن عمرو التميمي وقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قد أمر أمير الشام، أبا عبيدة بإعادة جيش خالد بن الوليد إلى العراق مدداً للمسلمين في القادسية، فأعادهم وأبقى خالداً عنده لحاجته إليه، وولَّى على هذا الجيش هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ابن أخي سعد وكان هذا الجيش تسعة آلاف حين قدم من العراق إلى الشام بقيادة خالد بن الوليد، وعاد منهم إلى العراق ستة آلاف، وقد ولَّى هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو على المقدمة وعددهم ألف مجاهد( ).


أ- مواقف بطولية للقعقاع بن عمرو:
أسرع القعقاع بمقدمته حتى قدم بهم على جيش القادسية صبيحة يوم أغواث، وكان أثناء قدومه قد فكر بعمل يرفع به من معنوية المسلمين فقسم جيشه إلى مائة قسم كل قسم مكوَّن من عشرة، وأمرهم بأن يقدموا اتباعاً كلما غاب منهم عشرة عن مدى إدراك البصر سرّحوا خلفهم عشرة، فقدم هو في العشرة الأوائل وصاروا يقدمون تباعاً كلما سرّح القعقاع بصره في الأفق فأبصر طائفة منهم كبَّر فكبر المسلمون، ونشطوا في قتال أعدائهم، وهذه خطة حربية ناجحة لرفع معنوية المقاتلين، فإن وصول ألف لا يعني مدداً كبيراً لجيش يبلغ ثلاثين ألفاً، ولكن هذا الابتكار الذي هدى الله القعقاع إليه قد عوض نقص هذا المدد بما قوّى به عزيمة المسلمين، وقد بشرهم بقدوم الجنود بقوله: يا أيها الناس إني قد جئتكم في قوم والله إن لو كانوا بمكانكم ثم أحسوكم حسدوكم حَظْوتها وحاولوا أن يطيروا بها دونكم، فاصنعوا كما أصنع، فتقدم ثم نادى: من يبارز؟ فقالوا فيه بقول أبي بكر: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا، وسكنوا إليه، فخرج إليه ذو الحاجب( )، فقال له القعقاع: من أنت( )؟ فقال: أنا بهمن جاذويه. وهنا تذكّر القعقاع مصيبة المسلمين الكبرى يوم الجسر على يد هذا القائد فأخذته حميته الإسلامية فنادى وقال: يا لثارات
أبي عبيد وسُليط وأصحاب الجسر، ولابد أن هذا القائد الفارسي بالرغم مما اشتهر به من الشجاعة قد انخلع قلبه من هذا النداء، فلقد قال أبو بكر رضي الله عنه عن القعقاع: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل( )،فكيف سيثبت له رجل واحد مهما كان في الشجاعة وثبات القلب؟ ولذلك لم يمهله القعقاع أن أوقعه أمام جنده قتيلاً فكان لقتله بهذه الصورة أثر كبير في زعزعة الفرس ورفع معنوية المسلمين لأنه كان قائداً لعشرين ألف مقاتل من الفرس. ثم نادى القعقاع مرة أخرى من يبارز؟ فخرج إليه رجلان أحدهم البيرزان والآخر البندوان، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان ابن الحارث أخو بني تميم اللات، فبارز القعقاع بيرزان( )، فقتله القعقاع وبارز ابن ظبيان بندوان وهو من أبطال الفرس فقتله ابن ظبيان وهكذا قضى القعقاع في أول النهار على قائدين من قادة الفرس الخمسة ولاشك أن ذلك أوقع الفرس في الحيرة والاضطراب وساهم ذلك في تدمير معنويات أفراد الجيش الفارسي، والتحم الفرسان من الفريقين، وجعل القعقاع يقول: يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنه يُحصد بها، فتواصى الناس بها، وأسرعوا إليهم بذلك فاجتلدوا بها حتى المساء، وذكر الرواة أن القعقاع حمل يومئذ ثلاثين حملة، كلما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها وجعل يقول:

أُزعجهم عمداً بها إزعاجاً
أطعن طعناً صائباً ثجّاجاً

وكان آخر من قتل بُزرُ جَمهَرْ الهمذاني وقال في ذلك القعقاع:

حبوته جيَّاشةً بالنفس
في يوم أغواث فَلَيْلُ الفرس

هدّارة مثل شعاع الشمس
أنخس في القوم أشد النخس

ب- علباء بن جحش العجلي: انتثرت أمعاؤه في المعركة:
وبرز رجل من المجوس أمام صفوف بكر بن وائل فنادى من يبارز؟ فخرج له علباء بن جحش العجلي فنفحه( )، علباء في صدره وشقَّ رئته ونفحه الآخر فأصابه في بطنه وانتثرت أمعاؤه وسقطا معاً إلى الأرض، أما المجوسي فمات من ساعته، وأما علباء فلم يستطع القيام وحاول أن يعيد أمعاءه إلى مكانها فلم يتأت له ومرّ به رجل من المسلمين فقال له علباء: يا هذا أعني على بطني، فأدخل له أمعاءه فأخذ بصفاقيه ثم زحف نحو صف العجم دون أن يلتفت إلى المسلمين وراءه فأدركه الموت على ثلاثين ذراعاً من مصرعه وهو يقول:
أرجوا بها من ربنا ثواباً
قد كنت ممن أحسن الضراباً

ج- الأعرف بن الأعلم العُقَيلي:
خرج رجل من أهل فارس ينادي من يبارز؟ فبرز له الأعرف بن الأعلم العُقَيلي فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه، وندر سلاحه عنه فأخذوه، فغبَّر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه( ).

د- مواقف فدائية لأبناء الخنساء الأربعة:
كان لأبناء الخنساء الأربعة مواقف فدائية في ذلك اليوم فقد اندفعوا إلى القتال بحماس وقال كل واحد منهم شعراً حماسياً يقوِّي به نفسه وإخوانه فقال أولهم:

يا إخوتي إن العجوز الناصحة
مقالةً ذات بيان واضحة
وإنما تلقون عند الصائحة
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة
قد نصحَتْنا إذ دعتنا البارحة
فباكروا الحرب الضَّروس الكالحة
من آل ساسان الكلاب النابحة
وأنتم بين حياة وحياة صالحة

وتقدم فقاتل حتى قتل، فحمل الثاني وهو يقول:

إن العجوز ذات حزم وجلد
قد أمرتنا بالسداد والرّشد
فباكروا الحرب حماة في العدد
أو ميتة تورثكم عز الأبد
والنظر الأوفق والرأي السَّدد
نصيحة منها وبرّاً بالولد
إما لفوز بارد على الكبد
في جنة الفردوس والعيش الرغد

وقاتل حتى استشهد. وحمل الثالث وهو يقول:
والله لا نعصي العجوز حرفاً
نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً
حتى تلفوا آل كسرى لفا
إنا نرى التقصير عنكم ضعفاً
قد أمرتنا حدباً وعطفاً
فبادروا الحرب الضروس زحفاً
أو يكشفوكم عن حماكم كشفاً
والقتل فيكم نجدة وزُلفى


وقاتل حتى استشهد، وحمل الرابع وهو يقول:

لست لخنساء ولا للأخْرَمِ
إن لم أرِدْ في الجيش جيش الأعجم
إما لفوز عاجل ومغنم
ولا لعمرو ذي السناء الأقدم
ماض على الهول خضمِّ خضرم
أو لوفاة في السبيل الأكرم


فقاتل حتى استشهد( ) وبلغ الخنساء خبر بنيها الأربعة فقالت: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته( ).


س- مكيدة قعقاعية بالغة التأثير على الفرس:
في هذا اليوم يوم أغواث قام القعقاع بن عمرو وبنو عمه من تميم بمكيدة قعقاعية بالغة التأثير على الفرس، وذلك أنه لما علم بما فعلته الفيلة في اليوم الأول بخيول المسلمين قام هو وقومه بتوفيق من الله تعالى بتهيئة الإبل لتظهر في مظهر مخيف يُنَصِّر الخيول فألبسوها وحلَّلوها ووضعوا لها البراقع في وجوهها، وحملوا عليها المشاة وأحاطوها بالخيول لحمايتها، وهجموا بها على خيول الفرس، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلوا بالمسلمين يوم أرماث، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم وركبتهم خيول المسلمين، فلما رأى ذلك الناس استنُّوا بهم، فلقي الفرس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث( )، وهكذا نجد أن المسلمين الأوائل يتفوقون على أعدائهم في الابتكار الحربي، فالفرس أنهكوا المسلمين في اليوم الأول بسبب استخدام الفيلة، وما دام المسلمون
لا يملكون الفيلة فليخترعوا مما يملكون من الإبل ما يكيدون به الأعداء فكانت هذه الحيلة الحربية الممتازة التي أخافت خيول الأعداء فنفرت بمن عليها من الفرسان، وهكذا يجب أن يكون المسلمون متفوقين في مجال الإعداد المادي بعد تفوقهم في الإعداد الروحي.

ش- أبو محجن الثقفي في قلب المعركة:
استمر القتال يوم أغواث إلى منتصف الليل، وسميت تلك الليلة ليلة السواد، ثم وقف القتال بعد أن تحاجز الفريقان وكان لوقف القتال منفعة كبيرة للمسلمين، حيث كانوا ينقلون شهداءهم إلى مقر دفنهم في وادي مُشرِّق، وينقلون الجرحى إلى العُذَيب حيث تقوم النساء بتمريضهم، ولقد شارك في القتال في هذه الليلة لأول مرة أبو محجن الثقفي( )، وكان أبو محجن قد حُبس وقُيّد، فهو في القصر، فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله، فزبره وردّه فنزل فأتى سلْمى بنت خَصَفة، فقال: يا سلمى يا بنت آل خَصفة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلِّين عنِّي وتُعيرينني البلقاء، فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قَيْدي، فقالت، وما أنا وذاك! فرجع يرسف في قيوده ويقول:
كفى حزناً أن تَرْدِىَ الخيلُ بالقنا( )
إذا قُمتُ عنَّاني الحديدُ وأُغلقت
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة
ولله عهدٌ لا أخيسُ بعهده
وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا
مصارع دوني قد تصمُّ المُناديا
فقد تركوني واحداً لا أخاليا
لئن فُرجَتْ ألاَّ أزور الحوانيا


فقالت سَلْمى: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته وقالت: أمّا الفَرَس فلا أعيره، ورجعت إلى بيتها، فاقتادها، فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها، ثم دبّ عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة كبَّر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصّفَّين، فقالوا: بسرجها، وقال سعيد والقاسم عُزْياً، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة فكبَّر وحمل على ميمنة القوم يلعب الصّفَّين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فندر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصّفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفاً منكراً وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النَّهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم أو هاشم نفسه وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مُكِبّ من فوق القصر: والله لولا محبس أبي مِحْجَن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء، وتعددت الأقوال فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محْجن حتى دخل من حيث خرج، وعاد رجليه في قيديه وقال:
لقد علمت ثقيف غير فخر
وأكثرهم دروعاً سابغات
وأنّا وفدهم في كل يوم
وليلة قادس لم يشعروا بي
فإن أُحبس فذلكم بلائي
بأنا نحن أكرمَهُم سُيُوفاً
وأصبرهم إذا كَرهوا الوُقوفا
فإن عَميُوا فسل بهمُ عَريفاً
ولم أشعر بمخرجي الزُّحُوفا
وإن أترك أذيقُهُهُم الحُتوفا

فقالت له سلمى: يا أبا محْجَن، في أي شيء حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله
ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدبّ الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحياناً، فيساء لذلك ثنائي، ولذلك حبسني قلت:

إذا متُّ فادْفنِّي إلى أصل كَرْمَةُ
ولا تدفنِّي بالفلاة فإنني
وتُروي بخمر الحُصِّ لَحدي فإنني
تُرَويِّ عظامي بعد موتي عُرُوقها
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
أسيرُ لها من بعد ما قد أسوقُها

فلما أصبحت سلمى أخبرت سعد بن أبي وقاص عن خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: أذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم
لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً( ).

ص- خطة قعقاعية في النصف الأخير من ليلة السواد:
من أبرز ما جرى من نصف ليلة السواد الأخير أن القعقاع بن عمرو اغتنم الفرصة في التخطيط لخطة يرفع بها من معنويات المسلمين في يومهم القادم، فلقد أمر أتباعه بأن يتسللوا سراً ثم يقدموا في النهار تباعاً على فرق كل فرقة مائة مقاتل، وقال لهم: إذا طلعت لكم الشمس فأقبلوا مائة مائة، كلما توارى عنكم مائة فليتبعها مائة، فإن جاء هاشم فذاك، وإلا جددتم للناس رجاء وجدَّاً فلما ذرَّ قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل وطلعت نواصيها كبَّر وكبر الناس وقالوا: جاء المدد، وقد تأسَّي به أخوه عاصم بن عمرو فأمر قومه أن يصنعوا مثل ذلك فأقبلوا من جهة (خفَّان)، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم بن عتبة في سبعمائة من جيش الشام، فأخبروه برأي القعقاع وما صنع في يوميه، فعبَّأ أصحابه سبعين سبعين، فلما جاء آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه( )، وهنا يلاحظ الباحث تواضع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فلقد قبل الأخذ بالرأي الأمثل في التخطيط الحربي فصنع بتفريق جيشه كما صنع القعقاع بن عمرو، ولم يمنع اعتبار النفس والمنصب من أن يأخذ برأي قائد من قواده، بل كان رجلاً من الرجال الذين تخرجوا من مدرسة التربية النبوية، فأصبحوا يلغون ذواتهم ومصالحهم الخاصة في سبيل مصلحة الإسلام ومصلحة المسلمين العامة، وهذا من أهم أسباب نجاحهم في إقامة الدولة الإسلامية الكبرى، والقضاء على قوى العالم آنذاك( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:32 pm

3- يوم عماس:
هذا اليوم الثالث، يوم عِمَاس فقد قدَّم الفرس فيه فيلتهم بتخطيط جديد تلافوا به ما كان في اليوم الأول من قطع حبالهم، فجعلوا مع كل فيل رجالاً يحمونه ومع الرجال فرسان يحمونهم وظل المسلمون يقاتلون الفيلة ومن فوقها وحولها، ولقوا منها عنتاً شديداً، ولما رأى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ما يلاقي المسلمون منها أرسل إلى مسلمي الفرس الذين كانوا مع جيش المسلمين سألهم عن الفيلة هل لها مقاتل؟ فقالوا: نعم المشافر والعيون لا ينتفع بها بعدها، فأرسل إلى القعقاع وعاصم بن عمرو وقال لهما: اكفياني الفيل الأبيض وكانت كلها آلفة له وكان بإزائها وأرسل إلى حمَّال بن مالك والربِّيِّل بن عمرو الأسدي فقال: اكفياني الفيل الأجرب، وكانت آلفة كلها وكان بإزائهما، فأخذ القعقاع وعاصم رُمحَيهما ودبَّا إليه في كتيبة من الفرسان والرجال، فقالا لمن معهما: اكتنفوه لتحيروه فأصبح الفيل ينظر يمنة ويسرة متحيراً ممن حوله، ودنا منه القعقاع وعاصم فحملا عليه وهو متشاغل بمن حوله فوضعا رمحيهما معاً في عين الفيل الأبيض، ونفض رأسه فطرح سائسه، ودلَّى مشفره، فنفحه القعقاع بسيفه فرمى به، ووقع لجنبه فقتل من كان عليه. وحمل حمّال بن مالك وقال للرِّبيِّل بن عمرو: اختر إما أن تضرب المشفر، وأطعن في عينه أو تطعن في عينه وأضرب مشفره، فاختار الضرب، فحمل عليه حمال وهو متشاغل بملاحظة من اكتنفه لا يخاف سائسه إلا على بطانه وذلك لأن المسلمين قطعوا ذلك منها في اليوم الأول فانفرد به أولئك فطعنه حمّال في عينه فأقعى على خلفه، ثم استوى، ونفحه الربيل بن عمرو فأبان مشفره، وبصُر به سائسه فضرب جبينه وأنفه بحديده كانت معه وأفلت منها الربيل وحمال، وصاح الفيلان صياح الخنزير، وكانت الفيلة تابعة لهما فرجعت على الفرس ورجعت معها الفيلة تطأ جيش الفرس حتى قطعت نهر العتيق وولَّت نحو المدائن وهلك من كان عليها( ) ولما خلا الميدان من الفيلة زحف الناس بعضهم على بعض واشتد القتال بينهم، وكان لدى الفرس جيش احتياطي من أهل النجدات والبأس، فكلما وقع خلل في جيشهم، أبلغوا (يزدجرد) فأرسل لهم من هؤلاء وقد انتهى ذلك اليوم والمسلمون وأعداؤهم على السواء( ).

أ- بطولة عمرو بن معديكرب:
قال عمرو بن معديكرب: إني حامل على الفيل ومن حوله بإزائهم فلا تَدَعوني أكثر من جز جزور (يعني نحر الناقة) فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور، فأنَّى لكم مثل أبي ثور فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف، فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار، فقال أصحابه: ما تنظرون؟ ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم، فحملوا حملة فأفرج المشركون عنه بعدما صرعوه وطعنوه وإن سيفه لفي يده يضاربهم وقد طعن فرسه، فلما رأى أصحابه وانفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس من أهل فارس، فحركه الفارسي فاضطرب الفرس فالتفت الفارسي إلى عمرو، فهمَّ به وأبصره المسلمون، فغشُوه، فنزل عنه الفارسي، وحاضر يعني أسرع إلى أصحابه، فقال عمرو: أمكنوني من لجامه، فأمكنوه منه فركبه( ).

ب- طليحة بن خويلد الأسدي:
استمر القتال في اليوم الثالث إلى الليل، ثم حجز بينهم صوت طليحة بن خويلد الأسدي، وكان قد التف وراء جيش الفرس، ففزع لذلك الفرس وتعجب المسلمون، فكف بعضهم عن بعض للنظر في ذلك، وكان سعد رضي الله عنه قد بعثه مع أناس لحراسة مكان يحتمل منه الخطر على المسلمين، فتجاوز مهمته، ودار من خلف الفرس وكبَّر ثلاث تكبيرات( )، ولقد أفادت حركته هذه حيث توقفت الحرب وكان هناك فرصة لإعادة الصفوف والاستعداد لقتال الليل.

ج- قيس بن المكشوح:
يا معشر العرب، إن الله قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد ?، فأصبحتم بنعمة الله إخواناً، دعوتكم واحدة، وأمركم واحد، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضاً اختطاف الذئاب، فانصروا الله ينصركم، وتنجزوا من الله فتح فارس، فإن إخوانكم من أهل الشام قد أنجز الله لهم فتح الشام وانتشال( )، القصور الحمر والحصون الحمر( ).

د- مما قيل من الشعر ذلك اليوم:
قال القعقاع بن عمرو:

حضَّض قومي مَضْرَحيُّ بن يعمر
وما خام عنها يوم سارت جموعُنا
فإن كنتُ قاتلتُ العدوَّ فَلَلْته
فيولاً أراها كالبُيوت مُغيرة
فلله قومي حين هزُّوا العواليا
لأهل قُديس يمنعون المواليا
فإني لألقى في الحروب الدّواهيا
أُسَمِّلُ أعياناً لها ومآقيا( )


وقال آخر:
أنا ابن حرب ومعي مخراقي
إذ كره الموت أبو إسحاق
أضربهم بصارم رقراق
وجاشت النفس على التراقي

س- ليلة الهرير:
بدأ القتال ليلة الهرير في اليوم الرابع، وقد غيّر الفرس هذه الليلة طريقتهم في القتال، فقد أدرك رستم أن جيشه لا يصل إلى مستوى فرسان المسلمين في المطاردة ولا يقاربهم، فعزم على أن يكون القتال زحفاً بجميع الجيش حتى يتفادى الانتكاسات السابقة التي تسببت في تحطيم معنويات جيشه، فلم يخرج أحد من الفرس للمبارزة والمطاردة بعدما انبعث لذلك أبطال المسلمين، وجعل رستم جيشه ثلاثة عشر صفاً في القلب والمجنَّبتين وبدأ القعقاع بن عمرو القتال وتبعه أهل النجدة والشجاعة قبل أن يكبر سعد، فسمح لهم بذلك واستغفر لهم، فلما كبر ثلاثاً زحف القادة وسائر الجيش، وكانوا ثلاثة صفوف، صفاً فيه الرماة وصفاً فيه الفرسان وصفاً فيه المشاة، وكان القتال في تلك الليلة عنيفاً، وقد اجتلدوا من أول الليل حتى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسمّيت ليلة الهرير، وقد أوصى المسلمون بعضهم بعضاً على بذل الجهد في القتال لما يتوقعونه من عنف الصراع، ومما رُوي من الأقوال في ذلك( ) ما قاله كل من:

- دريد بن كعب النخعي قال لقومه: إن المسلمين تهيئوا للمزاحفة فاسبقوا المسلمين الليلة إلى الله والجهاد فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم في الشهادة وطيبوا بالموت نفساً، فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة ما أردتم.
- وقال الأشعث بن قيس: يا معشر العرب إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت ولا أسخى أنفساً عن الدنيا، تنافسوا الأزواج والأولاد، ولا تجزعوا من القتل فإنه أماني الكرام ومنايا الشهداء( ).

- وقال حميضة ين النعمان البارقي: كان بإزاء قبيلة (جُعْفى) ليلة الهرير كتيبة من كتائب العجم عليهم السلاح التام، فازدلفوا لهم فجالدوهم بالسيوف، فرأوا أن السيوف لا تعمل مع الحديد فارتدعوا، فقال لهم حميضة بن النعمان البارقي: مالكم؟ قالوا لا يجوز فيهم السلاح، قال: كما أنتم حتى أريكم، انظروا، فحمل على رجل منهم فاستدار خلفه فدق ظهره بالرمح ثم التفت إلى أصحابه فقال:
ما أراهم إلا يموتون دونكم، فحملوا عليهم وأزالوهم إلى صفهم( ).
وكان بإزاء قبيلة كندة، ترك الطبري (أحد قادة الفرس) فقال الأشعث بن قيس الكندي: ياقوم ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمائة فأزالهم وقتل قائدهم، ترك وكان القتال في تلك الليلة شديداً متواصلاً وقام زعماء القبائل يحثون قبائلهم على الثبات والصبر، ومما يبين عنف القتال في تلك الليلة، ما أخرجه الطبري عن أنس بن الحليس قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغاً وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمراً لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن رستم وسعد، وأقبل سعد على الدعاء حتى إذا كان نصف الليل الباقي سمع القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نحن قتلنا معشراً وزائداً
نحسب فوق اللّبد الأساودا( )
أربعة وخمسة وواحداً
حتى إذا ماتوا دعوت جاهداً

الله ربي واحترست عامداً( )

فاستدل سعد بذلك على الفتح، وهكذا بات سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدعو الله تعالى تلك الليلة ويستنزل نصره، ومما ينبغي الإشارة إليه أن سعداً كان مستجاب الدعوة( ).

4- يوم القادسية:
أصبح المسلمون في اليوم الرابع وهم يقاتلون، فسار القعقاع بن عمرو في الناس فقال: إن الدَّبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، فآثروا الصبر على الجزع، فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح ولما رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بن عبد يغوث والأشعث بن قيس، وعمرو بن معد يكرب وابن ذي السَّهمين الخشعمي وابن ذي البُردين الهلالي، فقالوا: لا يكونن هؤلاء (يعني أهل فارس) أجرأ على الموت منكم، ولا أسخى أنفساً عن الدنيا، وقام في ربيعة رجال فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم( )، وهكذا يضيف القعقاع بن عمرو مأثرة جديدة في مآثره الكثيرة فقد جمع الله له بين الشجاعة النادرة، والرأي السديد وقوة الإيمان، فسخر ذلك كله لنصرة الإسلام والمسلمين، وكان قدومه في هذه المعركة فتحاً للمسلمين، لقد أدرك القعقاع أن الأعداء قد نفد صبرهم بعد قتال استمر يوماً وليلة دون انقطاع، وقبل ذلك لمدة يومين مع راحة قليلة، وعرف بثاقب فكره وطول تجربته -بعد توفيق الله له- أن عاقبة المعركة مع من صبر بعد هذا الإجهاد الطويل، واستطاع القعقاع ومن معه من الأبطال أن يفتحوا ثغرة عميقة في قلب الجيش الفارسي حتى وصلوا قريباً من رستم مع الظهيرة، وهنا تنزّل نصر الله تعالى، وأمدَّ أولياءه بجنود من عنده فهبَّت ريح عاصف وهي الدَّبور، فاقتلعت طيارة رستم عن سريره، وألقتها في نهر العتيق، ومال الغبار على الفرس فعاقهم عن الدفاع( ).

أ- مقتل رستم قائد الفرس:
وتقدم القعقاع ومن معه حتى عثروا على سرير رستم وهم لا يرونه من الغبار، وكان رستم قد تركه واستظل ببغل فوقع على رستم وهو لا يشعر به فأزال من ظهره فقاراً، وهرب رستم نحو نهر العتيق لينجو بنفسه ولكن هلالاً أدركه فأمسك برجله وسحبه ثم قتله، وصعد السرير ثم نادى: قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ، فأطافوا به وما يرون السرير وكبَّروا وتنادوا، وانهزم قلب الفرس، أما بقية قادة المسلمين فإنهم تقدموا أيضاً فيمن يقابلهم وتقهقر الفرس أمامهم، ولما علم الجالينوس بمقتل رستم قام على الرّدم المُقام على النهر ونادى أهل فارس إلى العبور فراراً من القتل فعبروا، أما المقترنون بالسلاسل وعددهم ثلاثون ألفاً فإنهم تهافتوا في نهر العتيق فوخزهم المسلمون برماحهم، فما أفلت منهم أحد( ).

ب- نهاية المعركة:
انتهت المعركة بتوفيق الله تعالى، ثم بجهود أبطال المسلمين وحكمة قائدهم سعد بن أبي وقاص، وكانت معركة عنيفة قاسية ثبت فيها الأعداء للمسلمين ثلاثة أيام حتى هزمهم الله في اليوم الرابع، بينما كان المسلمون يهزمون أعداءهم غالباً في يوم واحد، وكان من أسباب هذا الثبات أن الفرس كانوا يعتبرون هذه المعركة معركة مصير، فإما أن تبقى دولتهم مع الانتصار، وإما أن تزول دولتهم مع الهزيمة والاندحار ولا تقوم لهم قائمة، كما أن من أسباب ثباتهم وجود أكبر قادتهم رستم، على رأس القيادة، وهو قائد له تاريخ حافل بالانتصارات على أعدائه إضافة إلى تفوق الفرس في العدد والعُدد، حيث كان عدد الفرس عشرين ومائة ألف من المقاتلين من غير الأتباع، مع من كان يبعثهم يزدجرد مدداً كل يوم بينما كان عدد المسلمين بضعة وثلاثين ألفاً( )، ومع هذا كله انتصر المسلمون عليهم بعد أن قدموا ثمانية آلاف وخمسمائة من الشهداء( )، وهذا العدد من الشهداء هو أكبر عدد قدمه المسلمون في معاركهم في الفتوح الإسلامية الأولى، وكونهم قدموا هذا العدد من الشهداء دليل على عنف المعركة وعلى استبسال المسلمين وتعرضهم للشهادة رضي الله عنهم أجمعين( ).

ج- مطاردة فلول المنهزمين:
أمر سعد رضي الله عنه بمطاردة فلول المنهزمين فوكل القعقاع ابن عمرو وشرحبيل بن السمط الكندي بمطاردة المنهزمين يميناً وشمالاً دون نهر العتيق، وأمر زُهرة بن الحوية بمطاردة الذين عبروا النهر مع قادتهم، وكان الفرس قد بثقوا النهر في الردم حتى لا يستطيع المسلمون متابعتهم، فاستطاع زهرة وثلاثمائة فارس أن ليتجاوزوا بخيولهم وأمر من لا يستطيع بموافاتهم من طريق القنطرة، وكان أبعد قليلاً، ثم أدركوا القوم وكان الجالينوس وهو أحد قادتهم الكبار يسير في ساقة القوم يحميهم، فأدركه زهرة فنازله فاختلفا ضربتين فقتله زهرة وأخذ سلبه وطاردوا الفرس وقتلوا منهم، ثم أمسوا في القادسية مع المسلمين( ).

س- بشائر النصر تصل إلى عمر رضي الله عنه:
وكتب سعد إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما يخبره بالفتح مع سعد بن عُميْلة الفزاري وجاء في كتابه: أما بعد فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كانوا قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعُدة لم ير الراؤون مثل زهائها (يعني مقدارها) فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا نعلمهم، والله بهم عالم، كانوا يُدَوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دَويَّ النحل، وهم آساد الناس لا يشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذ لم تكتب لهم( )، وفي هذه الرسالة دروس وعبر منها:

• ما تحلى به سعد رضي الله عنه من توحيد الله تعالى وتعظيمه والبراءة من حول النفوس وقوتها، فالنصر على الأعداء إنما هو من الله تعالى وحده وليس بقوة المسلمين، بالرغم مما بذلوه من الجهاد المضني والتضحية العالية.

• وقوة الأعداء الضخمة، ليس بقاؤها أو سلبها للبشر، بل ذلك كله لله تعالى، فهو الذي حرم الأعداء من الانتفاع بقوتهم، وهو الذي منحها للمسلمين، وإنما البشر مجرد وسائط يجري الله النفع والضرر على أيديهم، وهو وحده الذي يستطيع دفع الضرر وجلب المنفعة سبحانه وتعالى، وهكذا فهم سعد رضي الله عنه معنى التوحيد، وحققه مع جنوده في حياته.

• ونلاحظ سعداً في رسالته يصف الصحابة رضي الله عنهم ومن معهم من التابعين بالتفوق في العبادة والشجاعة، فهم عُبَّاد في الليل لهم أصوات مدوِّية بالقرآن كأصوات النحل لا تكلُّ ولا تمل، وفرسان في النهار لا تصل الأسود الضارية إلى مستواهم في الإقدام والثبات( ) وكان عمر رضي الله عنه يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار، ثم يرجع إلى أهله ومنزله، فلما لقي البشير سأله من أين؟ فأخبره، قال: يا عبد الله حدثني قال: هَزم الله العدو، وعمر يخُبُّ معه –يعني يسرع- ويستخبره، والآخر على ناقته ولا يعرفه، حتى دخل المدينة فإذا الناس يسلِّمون عليه بإمرة المؤمنين فقال: فهلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين، وجعل عمر يقول لا عليك يا أخي( ) وفي هذا الخبر دروس وعبر منها:

- الاهتمام الكبير من عمر رضي الله عنه الذي دفعه إلى أن يخرج إلى البرِّية كل يوم لعله يجد الركبان القادمين من العراق فيسألهم عن خبر المسلمين مع أعدائهم، وقد كان بإمكانه أن يوكل بهذه المهمة غيره ممن يأتيه بالخبر ولكن الهمَّ الكبير الذي كان يحمله للمسلمين لا يتيح له أن يفعل ذلك، وهنا منتهى الرحمة والشعور بالمسؤولية.

- التواضع الجمِّ من عمر رضي الله عنه، فقد ظل يسير ماشياً مع الراكب، ويطلب منه خبر المعركة، وذلك الرسول لا يريد أن يخبره بالتفاصيل حتى يصل إلى
أمير المؤمنين، ولا يدري أنه الذي يخاطبه ويعدو معه، حتى عرف ذلك من الناس في المدينة وهذه أخلاق رفيعة يحق للمسلمين أن يفاخروا بها العالم في تاريخهم الطويل، وأن يستدلوا بها على عظمة هذا الدين الذي أنجب رجالاً مثل عمر في عدله ورحمته وحزمه وتواضعه( ).

خامساً: دروس وعبر وفوائد:

1- تاريخ المعركة وأثرها في حركة الفتوحات:
اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ المعركة وللأستاذ أحمد عادل كمال تحقيق جيد توصل فيه إلى أنها في شهر شعبان من العام الخامس عشر( )، وهذا القول أميل إليه، ولا شك أن القادسية تقع على قمة قائمة المعارك الحاسمة في تاريخ العالم فهي تبين أنواعاً من التمكين الرباني لأهل الإيمان الصحيح، فقد انفتحت على آثارها أبواب العراق، ومن وراء العراق فارس كلها، وهي التي من عندها استطرد نصر المسلمين، فاستطرد معه السقوط الساساني من الناحيتين الحربية والسياسية، والسقوط المجوسي من الناحية الدينية العقائدية، ومن هنا انساح دين الإسلام في بلاد فارس وما وراءها، ففي القادسية كسر المسلمون شوكة المجوس كسرة لم ينجبر شأنهُم بعدها أبداً، وبهذا استحقت القادسية مكانها على قمة المعارك الحاسمة في تاريخ البشر( ).
2- خطبة عمرية بعد فتح القادسية:
لما أتى عمر رضي الله عنه خبر الفتح قام في الناس فقرأ عليهم الفتح، وقال: إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك منا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم ولست معلمكم إلا بالعمل، إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عُرض عليَّ الأمانة، فإن أبيتها (يعني أعففت نفسي من أموال الرعية) ورددتها عليكم واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتها إلى بيتي شقيت، ففرحت قليلاً وحزنت طويلاً، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب( ).

3- الوفاء عند المسلمين، والعدل لا رخصة فيه:
كتب سعد رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رضي الله عنهما كتاباً آخر، يطلب فيه أمره في أهل الذمة من عرب العراق الذين نقضوا عهدهم في حال ضعف المسلمين فقام عمر رضي الله عنه في الناس فقال: إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا يضر إلا نفسه، ومن يتبع السنة وينته إلى الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل الطاعة أصاب أمره وظفر بحظه، وذلك بأن الله عز وجل يقول: ?وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49) ? (الكهف،آية:49)، وقد ظفر أهل الأيام والقوادس بما يليهم، وجلا أهله، وأتاهم من أقام على عهدهم، فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئاً ولم يجل، وفيمن استسلم؟ فاجتمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف ولم يزده غلبه إلا خيراً، وأن من ادعى فصُدِّق أو وفى فمنزلتهم، وإن كُذِّب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إليهم فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا تموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال، وأن يُخَيَّروا من أقام واستسلم الجزاء إلاّ القتال، وأن يخيّروا من أقام واستسلم الجزاء أو الجلاء وكذلك الفلاحين( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:35 pm

وفي هذه الخطبة دروس وعبر منها:

- تطبيق عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى حيث كان يستشير أهل الرأي في كل أموره المهمة بالرغم مما عرف عنه من غزارة العلم وسداد الرأي، وإن هذا السلوك الرفيع كان من أسباب نجاحه الكبير في سياسة الأمة.

- الاستفادة من هذه المقدمة التي قدمها عمر رضي الله عنه بين يدي استشارته حيث ذكر الصحابة رضي الله عنهم بلزوم التجرد من الهوى وإخلاص النية لله عز وجل، والاستقامة على المنهج القويم الذي سنه رسول الله ?، فمن فعل ذلك عصم من الذل في الحكم وأصاب الحق وظفر بثواب الله تعالى( )، وقد لخص عمر رضي الله عنه هذه المشورة بخطاب وجّهه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جاء فيه: أما بعد فإن الله جل وعلا أنزل في كل شيء رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة والذكر، فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة، ولم يرض منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل – وإن رئي ليناً – فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور، وإن رئي شديداً فهو أنكش للفكر، فمن تم على عهده من أهل السواد – يعني عرب العراق – ولم يُعِنْ عليكم بشيء فلهم الذمة وعليهم الجزية، وأما من ادعى أنه استُكره ممن لم يخالفهم إليكم أو يذهب في الأرض فلا تصدقوهم بذلك إلا أن تشاءوا، وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم، وأبلغوهم مأمنهم( )،وفي هذا الرد دروس وعبر منها؛ أن العدل في الحكم هو الدعامة الكبرى لبقاء حكم الإسلام وسيادته وانتشار الأمن والرخاء في بلاد المسلمين، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فلا مفر من العقاب للظالمين، لأن حقوق الله تعالى قد يغفرها لعبده ويتجاوز عنه، أما حقوق الناس فإن الله تعالى يوقف الظالمين والمظلومين يوم القيامة فيقتصّ بعضهم من بعض وأما ذكر الله تعالى فلا بد أن يسود حياة المسلم في قلبه ولسانه وجوارحه، فيكون تفكيره خالصاً لله تعالى، ومنطقه فيما يرضيه وعمله من أجله، ويكون همه الأكبر إقامة ذكر الله جل وعلا في الأرض قولاً وعملاً واعتقاداً فإذا كان كذلك عصمه الله سبحانه من فتنة الشبهات والشهوات وقد أخذ سعد ومن معه من المسلمين بتوجيهات أمير المؤمنين فعرضوا على من حولهم ممن جلا عن بلاده أن يرجعوا ولهم الذمة وعليهم الجزية، وهكذا نجد أمامنا نموذجاً من نماذج الرحمة وتأليف القلوب، وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة وحبَّبت المسلمين والإسلام لهؤلاء الناكثين فدخلوا بعد ذلك على مراحل في الإسلام وصاروا من اتباعه المخلصين( ).

4- الخمس في القادسية رده عمر علي المقاتلين وحسن مكافأته للبارزين:
أمر عمر رضي الله عنه في القادسية برد الخمس على المقاتلين، ونفذ سعد أمر الخليفة، وكان اجتهاد عمر هنا بارعاً كبراعة اجتهاده في ترك أراضي السواد بيد أصحابها، فقد رأى تمشياً مع المصلحة العليا للدولة أن يوزع الخمس على المجاهدين تشجيعاً لهم وتوسعة عليهم واعترافاً بجهودهم( )، وقد أرسل عمر إلى سعد أربعة أسياف، وأربعة أفراس يعطيها مكافأة لمن انتهى إليه البلاء في حرب العراق، فقلد الأسياف لأربعة؛ ثلاثة من بني أسد وهم: حمّال بن مالك، والربيل بن عمرو بن ربيعة الواليين، وطليحة بن خويلد، والرابع لعاصم بن عمرو التميمي، وأعطى الأفراس: واحدة للقعقاع بن عمرو التميمي، والثلاثة لليربوعيين مكافأة لهم على واقعة عشية أغواث( )، وهذه من الوسائل العمرية في تفجير طاقات المجاهدين وتحفيز همم المسلمين نحو المعالي والأهداف السامية والمقاصد النبيلة.

5- عمر يرد اعتبار زهرة بن الحوية:
عاد زهرة من مطاردته لفلول الفرس وبعد أن قتل جالنوس أحد قادة الفرس، فأخذ زهرة سلبه وتدرع بما كان على جالنوس فعرفه الأسرى الذين كانوا عند سعد وقالوا: هذا سلب جالنوس. فقال له سعد: هل أعانك عليه أحد؟ قال: نعم. قال: من؟ قال: الله. وكان زهرة يومئذ شاباً له ذؤابة وقد سُوِّد في الجاهلية وحسن بلاؤه في الإسلام، وغضب سعد أن تسرع زهرة فلبس ما كان على جالنوس واستكثره عليه فنزعه عليه وقال: ألا انتظرت إذني؟( ) ووصل الخبر إلى عمر، فأرسل إلى سعد: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بمثل ما صلى به، وقد بقي عليك من حربك ما بقي – تكسر قرنه، وتفسد قلبه؛ امض له سلبه، وفضله على أصحابه عند العطاء بخمسمائة، وإني قد نفلت كل من قتل رجلاً سلبه،
فدفعه إليه فباعه بسبعين ألفاً( ).
وبهذا ردَّ عمر إلى زهرة اعتباره( ).
6- استشهاد المؤذن وتنافس المسلمين على الأذان:
في نهاية معركة القادسية حدث أمر عجيب يدل على مقدار اهتمام المسلمين الأوائل بأمور دينهم وما يقربهم إلى الله تعالى، فقد قتل مؤذن المسلمين في ذلك اليوم وحضر وقت الصلاة، فتنافس المسلمون على الأذان حتى كادوا أن يقتتلوا بالسيوف، فأقرع بينهم سعد، فخرج سهم رجل فأذن( )، وإن التنافس على هذا العمل الصالح ليدل على قوة الإيمان، فإن الأذان ليس من ورائه مكاسب دنيوية ولا جاه ولا شهرة وإنما دفعهم إلى التنافس عليه تذكر ما أعده الله تعالى للمؤذنين يوم القيامة من أجر عظيم وإن قوماً تنافسوا على الأذان سيتنافسون بطريق الأولى على ما هو أعظم من ذلك، وهذا من أسرار نجاحهم في الجهاد في سبيل الله تعالى والدعوة إلى الإسلام( ).

7- التكتيك العسكري الإسلامي في المعركة:
كانت القادسية نموذجاً مميزاً من نماذج التكتيك العسكري الإسلامي، حيث برع المسلمون فيها بإتقان المناورة التكتيكية التي تتلاءم مع كل حالة قتالية من حالات المعركة، فقد ظهر على مسرح الأحداث قدرة الفاروق على التعبئة العامة، أو التجنيد الإلزامي والحشد الأقصى للوسائل، إذ حشد الخليفة لهذه المعركة أقصى
ما يمكن حشده من الرجال، كما حشد لها الفئة المختارة من رجال المسلمين، فقد كتب إلى سعد أن ينتخب أهل الخيل والسلاح ممن له رأي ونجدة، فاجتمع لسعد في هذه المعركة بضعة وسبعون ممن حضروا بدراً، وثلاثمائة وبضعة عشر ممن صحبوا النبي ? بعد بيعة الرضوان، وثلاثمائة ممن شهدوا فتح مكة، وسبعمائة من أبناء الصحابة ثم إنه لم يدع رئيساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم وهذا هو الحشد الأقصى للوسائل المادية والمعنوية للمعركة، ونجد في التعبئة لهذه المعركة، تجديداً لم نعهده عند المسلمين من قبل، إذ لم ينتظر سعد في ((صرار)) حتى يكتمل جيشه ثم ينطلق به إلى العراق بل انطلق في أربعة آلاف ووصل إلى مكان المعركة بالقادسية في سبعة عشر ألفاً، وهذه طريقة مبتكرة في تعبئة الجيوش لم يعتمدها المسلمون قبل عمر، وحدد الخليفة في رسائله إلى كل من المثنى وسعد مكان المعركة الحاسمة، وهو القادسية، وكان الفاروق أول قائد مسلم يعتمد (الرسالة الخارطة) في دراسته لأرض المعركة وبيئتها، إذ طلب من سعد أن يصف له في رسالة مفصلة، منازل المسلمين – أي مواقعهم – كأنه ينظر إليها، وأن يجعله من أمرهم – أي المسلمين على جلية، فكتب إليه سعد رسالة يشرح له فيها، بالتفصيل، جغرافية القادسية (بين الخندق والعتيق) وما يقع على يمينها ويسارها ثم يشرح له أوضاع البيئة التي تحيط بأرض المعركة فينبئه أن أهلها معادون للمسلمين، ويتخذ الخليفة، بناء على ذلك، قراره التكتيكي والإستراتيجي( )، واستخدم المسلمون اسلوب الغارات التموينية واستنزاف العدو منذ وصولهم إلى أرض العدو وتمركزهم فيها وقد أفادت تلك الغارات التموينية في سد احتياجات الجيش من المؤن، فكان يوم الأباقر ويوم الحيتان وغيرها من الأيام والغارات وقد اتخذت هذه الغارات بالإضافة إلى وجهها التمويني، وجهاً آخر هاماً، هو استنزاف طاقات العدو وقدرة الأهالي على تحمل آثار الحرب ومعاناتها، واستعمل المسلمون اسلوب الكمائن في مناوشاتهم مع الفرس قبل القادسية، وفي استنزافهم لطاقات العدو ومعنوياتهم، فقد كمن بكير بن عبد الله الليثي بفرقة من خيالة المسلمين، في أجمة من النخيل، وعلى الطريق إلى (الصنين) لقافلة تضم أخت أزاد مرد بن أزاذبه مرزبان الحيرة، وهي تزف إلى صاحب (الصنين) من أشراف العجم، وما أن وصلت القافلة إلى مكان الكمين حتى انقض المسلمون عليها، فقصم بكير صلب ((شيرزاد بن أزاذبه أخي العروس، وكان على رأس الخيل التي تتقدم القافلة ونفرت الخيل تعدو بمن على ظهورها من رجال، وأخذ المسلمون الأثقال وابنة أزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع وما معهما لا يدرى قيمته( )، واستعمل المسلمون في هذه المعركة أسلوب التكتيك المتغير وفقاً لكل حالة من حالات القتال وظرف من ظروفه، فبينما نراهم في اليوم الأول من المعركة يحتالون على الفيلة المهاجمة فيقطعون وضنها بعد أن يرموها بنبالهم فتفر من ميدان القتال ريثما يصل إليهم المدد القادم من الشام، كما يعمدون إلى إيصال هذا المدد إلى ساحة القتال تباعاً وزمرة زمرة بغية إيهام العدو بكثرته، ثم يعمدون إلى حيلة تكتيكية بارعة وذلك بأن يجللوا إبلهم ويبرقعوها تشبهاً بالفيلة ثم يطلقوها في صفوف العدو فتجفل خيلهم وتولي هاربة لا تلوي على شيء، ويعمد المسلمون في اليوم الثالث إلى مواجهة فيلة الفرس المحمية بخيالتهم ومشاتهم بأن يهاجموا أكبرها وأضخمها فيفقأوا عيونها ويقطعوا مشافرها، فتفر الفيلة هاربة، ويتساوى الفرس والمسلمون في ساحة القتال، بعد أن يخسر الفرس فيلتهم، أي مدرعاتهم ولما رأى المسلمون أن أمد القتال يمكن أن يطول قرروا الهجوم العام فعبأوا صفوفهم وزحفوا زحفة واحدة، وما أن تخلت صفوف العدو وانكشف قلبه حتى كان رستم قائد جيش العدو هدفهم، وما أن قضي على رستم حتى انهزم جيش الفرس هزيمة ساحقة، وهكذا نرى أن الأسلوب الذي اتبعه المسلمون في هذه المعركة لم يتقيد بالأساليب التقليدية التي كانت متبعة في القتال بل أنه لبس لكل حالة لبوسها، فانتقل من الأساليب البدائية (المبارزة) إلى الحيل التكتيكية (الإبل المبرقعة وقطع وضن الفيلة وفقأ عيونها وقطع مشافرها إلى القتال الكلاسيكي التقليدي (الهجوم العام واستهداف القائد) وتميزت هذه المعركة بالتعبئة ذات الطابع القبلي، وميزة هذا الأسلوب أنه يوجد بين القبائل تنافساً فريداً في الحماسة والاندفاع في القتال(1) هذه بعض الأساليب العسكرية الإسلامية التي مارسها المجاهدون في القادسية.

8- ما قيل من الشعر في القادسية:
ومما قاله قيس بن المكشوح المرادي يتحدث عن فروسيته مفتخراً لما كان منه ومن المجاهدين الآخرين في مناهضة قادة الفرس فيقول:

جلبتُ الخيلَ من صَنعاءَ تَردِي
إلى وادي القُرى فديار كلب
وجئنا القادسية بعد شهر
فناهضنا هنالك جَمْعَ كسرى
فلمّا أن رأيت الخيل جالت
فاضربُ رأسه فهوى صريعا
وقد أبلى الإله هناك خيراً
ج بكل مُدَحَّجٍ كالليث سامي(2)
إلى اليرموك فالبلدِ الشَامي
مسَوَّمة دوابرها دوامي
وأبناء المرازبة الكرام (3)
قصدت لموقف الملك الهُمام
بسيفٍ لا أفلَّ ولا كَهامِ(4)
وفعل الخير عند الله نامي(1)

وقال بشر بن ربيع الخثعمي في القادسية:

تذَّكر هداك الله ـ وقع سيوفنا
عشية ودَّ القوم لو أن بعضهم
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة
ترى القوم فيها واجمين كأنَّهم
بباب قُديس والمكرُّ عَسِيرُ
يعار جَنَاحَيْ طائر فيطيرُ
دلْفنا لأخرى كالجبال تسير
جمال بأجمال لهُنَّ زَفِيرُ(2)


وقال بعض الشعراء:

وحيّتكَ عني عصبة نخعية
أقاموا لكسرى يضربون جنودَهُ
إذا ثوّب الداعي أناخوا بكلكل
حسان الوجوه آمنوا بمحمد
بكلِّ رقيق الشفرتين مهنّدِ
من الموت مسودِّ الغياطيل(3) أجرد


وقال بعض الشعراء:
وجدنا الأكرمين بني تميم
هُمُوا ساروا بأرعن مكفهّرٍ(4)
بحور للأكاسر من رجال
تركن لهم بقادس عز فخر
مقطعة أكفهم وسوق
غداة الروع أكثرهم رجالا
إلى لجب يرونهم رعالا(5)
كأسد الغاب تحسبهم جبالا
وبالخيفين أياماً طِوالا
بمرد حيث قابلت الرجالا(6)

ما قاله النابغة الجعدي وهو يصور بشعره ما دار بينه و بين امرأته، وقد جزعت بسبب ذهابه في فتوح فارس ، فقال:

باتَتْ تذكرني بالله قاعدة
يا بنت عمّي كتاب الله أخرجني
فإن رجعت فربُّ الناس أرجعني
ما كنت أعرجَ أو أعمى فيعذرني
والدمع ينهل من شأْنَيْها سَبَلا
كرها، وهل أمنعنَّ الله ما بذلا
وإن لحقت بربي فابتغي بدَلا
أو ضارعاً من ضنىً لم يستطع حِوَلا( )


سادساً: فتح المدائن:
أقام سعد بالقادسية شهرين ينتظر أمر عمر، حتى جاءه بالتوجه لفتح المدائن، وتخليف النساء والعيال بالعتيق مع جند كثيف يحوطهم وعهد إليه أن يشركهم في كل مغنم ماداموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم، ففعل وسار بالجيش لأيام بقين من شوال، وكان فَلُّ المنهزمين لحق ببابل، وفيهم بقايا الرؤساء مصمِّمين على المدافعة، وبدأت مدن وقرى الفرس تسقط واحدة بعد واحدة، ففتح المسلمون البُرس ثم بابل بعد أن عبروا نهر الفرات ثم كُوثي ثم ساباط بعضهما عنوة والبعض الآخر صلحاً( ) واستمرت حملات المسلمين المنظمة حتى وصلوا إلى المدائن، وأمر عمر سعداً بأن يحسن إلى الفلاحين وأن يوفي لهم عهودهم ودخلت جموع هائلة من الفلاحين في ذمة المسلمين، وتأثر الفلاحون بأخلاق جيش المسلمين وبعدلهم ومساواتهم المنبثقة من دينهم العظيم، فأميرهم كأصغر الرعية أمام الحق الأكبر، ولا ظلم، ولا فساد في الأرض خفت عنهم


وطأة الكبرياء والعبودية التي كانوا يسامونها فصاروا عباداً لله وحده، وقد توجه سعد نحو المدائن بعد أمر أمير المؤمنين، فبعث مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحَوِيَّة، وأتبعه بعبدالله بن المعتَّم في طائفة من الجيش ثم بشرحبيل بن السمط في طائفة أخرى، ثم بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وقد جعله على خلافته بدلاً من خالد بن عرفطة، ثم لحق سعد بهم ببقية الجيش وقد جعل على المؤخرة خالد بن عرفطة( ) وقد توجه زهرة قائد المقدمات إلى المدائن ، والمدائن هي عاصمة دولة الفرس، وتقع شرق نهر دجلة وغربه، فالجزء الذي يقع غربه يسمى "بَهُرْ سير" والذي يقع شرقه يسمى "أسبانير" و"طيسفون" وقد وصل زهرة إلى بهرسير وبدأ حصار المدينة، ثم سار سعد بن بي وقاص بالجيش الإسلامي ومعه قائد قواته ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى المدائن الغربية "بهر سير" وفيها ملك الفرس (يَزْدَجرد)، فحاصرها المسلمون شهرين، وكان الفرس يخرجون أحياناً لقتال المسلمين ولكنهم لا يثبتون لهم وقد أصيب زهرة بن الحوية بسهم، وذلك أنه كان عليه درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسُرد (حتى لا تبقى فيها فتحة تصل منها السهام) فقال: ولِمَ؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إني لكريم على الله إن تَرك سهم فارس الجند كلَّه ثم أتاني من هذا الفصم حتى يثبت فيَّ وكان كريماً على الله كما أمَّل، فكان أولَ رجل من المسلمين أصيب يومئذ بسهم، فثبت فيه من ذلك الفصم، فقال بعضهم: انزعوها منه، فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دامت فيَّ لعلي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة، فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل اصطخر فقتله( ) وقد بقي المسلمون في حصار بهر سير شهرين، استعملوا خلالها المجانيق وقد صنع لهم الفرس الموالون لهم عشرين منجنيقاً شغلوا بها الفرس، وأخافوهم( ) وفي هذا دلالة على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يهملون تحصيل أسباب النصر المادية إذا قدروا عليها، وأنهم كانوا على ذكر تام لقول الله تعالى"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" (الأنفال، آية 60) ، إلى جانب تفوقهم في أسباب النصر المعنوية التي انفردوا بأهمها وأبرزها وهو الاعتماد على الله وذكره ودعاؤه( )

1- معية الله تعالى لأوليائه بالنصر والتأييد:
عن أنس بن الحليس قال: بينما نحن محاصرون بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم أشرف علينا رسول فقال: إن الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة وجبلنُا ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم، فبدر الناس أبو مُفَزِّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله بما لا يدري
ما هو ولا نحن، فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن ـ يعني يعبرون النهر إلى شرق المدائن ـ فقلنا: يا أبا مفزر ما قلت له؟ قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما أدري ما هو إلا أن عليَّ سكينة، وأنا أرجو أن أكون أُنطقت بالذي هو خير، وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد فجاءنا فقال: يا أبا مفزر
ما قلت؟ فو الله إنهم لهُرَّاب فحدثه بمثل حديثه إيانا، فنادى الناس ثم نهدبهم، وإن مجانيقنا لتخطر عليهم، فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان فأمَّنَّاه، فقال: إن بقي فيها أحد، فما يمنعكم؟ (يعني لم يبق فيها أحد، فشورها الرجال وافتتحناها فما وجدنا فيها شيئاً ولا أحداً، إلا أسارى أسرناهم خارجاً منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأي شئ هربوا؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبداً حتى نأكل عسل أفريذين باُتْرُجِّ كوثي، فقال الملك: واويله ألا إن الملائكة تكلَّم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيب عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك ما هذا إلا شئ أُلقي على فِيِّ هذا الرجل لِنَنْتَهي، فأرزُوا إلى المدينة القصوى( )

2- الآيات التي قرأها سعد لما نزل مظلم ساباط:
نزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في (مظلم ساباط) بعد أن قدم هاشماً ومن معه نحو بهرَ سير وهي الجزء الغربي من المدائن، ولما نزل سعد ذلك المكان قرأ قول الله تعالى? وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44) ? (إبراهيم،آية:44). وإنما تلا هذه الآية لأن في ذلك المكان كتائب لكسرى تُدعى بوران ، وكانوا يحلفون بالله كل يوم، لا يزول ملك فارس ما عشنا( ) وقد هزمهم وفرقهم زهرة بن الحوية قبل استشهاده( )
ولما دخل المسلمون "بهرسير" وذلك في جوف الليل ـ لاح لهم الأبيض وهو قصر الأكاسرة فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر أبيض كسرى، هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا( )

3- مشورة بين سعد وجنوده في عبور النهر:
ولما علم سعد أن كسرى قد عبر بالسفن إلى المدائن الشرقية وضم السفن كلها إليه وقع في حيرة من أمره، فالعدو أمامهم وليس بينهم إلا النهر ولا سبيل إلى عبوره لعدم توفر السفن، وهو يخشى أن يرتحل عدوه فيصعب القضاء عليه، وقد أتى سعداً بعض أهل فارس فدلوه على مخاضة يمكن اجتيازها مع المخاطرة، فأبى سعد وتردد عن ذلك، ثم فاجأهم النهر بمدِّ عظيم حتى اسودَّ ماء النهر وقذف بالزبَّد من سرعة جريانه، وفي أثناء ذلك رأى سعد رؤيا صالحة مفادها أن خيول المسلمين قد عبرت النهر، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، وجمع الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: إن أعدائكم قد اعتصموا منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه وهم يخلصون إليكم إذا شاؤوا فَيُنَاوشونكم في سفنهم وليس وراءكم شئ تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكموهم أهل الأيام( )، وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذادتهم( ) وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد عدوكم بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل( ) ، وفي هذا الخبر دروس وعبر وفوائد منها:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:35 pm

تذكُّر معية الله جل وعلا لأوليائه المؤمنين بالنصر، والتأييد فهذه الرؤيا الصادقة التي رآها سعد رضي الله عنه من الله جل وعلا لتثبيت قلبه ليُقدم على هذا الأمر المجهول العاقبة.
- أن الله تعالى يُجري الأمور لصالح المؤمنين، فالنهر جرى بكثافة مفاجئة على غير المعتاد، وظاهر هذا أنه لصالح الفرس حيث إنه سيمنع أي محاولة لعبور المسلمين، ولكن حقيقته أنه لصالح المسلمين، حيث أعطى ذلك الكفار طمأنينة فلم يستعدوا لقدوم المسلمين المفاجئ لهم، ولم يستطيعوا أن يحملوا معهم كل ما يريدون حمله من الفرار.
- أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتفاءلون خيراً بالرؤيا من الرجل الصالح، ويعتبرونها مُرجحاً للإقدام على العمل وكانوا رضي الله عنهم يحسنون الظن بالله تعالى ويعتبرون أن رُؤَى الخير تثبيت وتأييد منه تعالى.
- أن قادة المسلمين في العهد الراشدي كانوا يتصفون غالباً بالحزم واغتنام الفرص وتفجير طاقة الجنود وهم في حماسهم وقوة إيمانهم، فهذا سعد رضي الله عنه يأمر جيشه بأن يعبروا إلى الأعداء بسلاح الإخلاص والتقوى وقد كان مطمئناً إلى مستوى جيشه الإيماني فأقدم على ما أقدم عليه مستعيناً بالله تعالى ثم بذلك المستوى الرفيع.
- إتصاف الصحابة رضي الله عنهم ومن معهم من التابعين بالطاعة التامة لقادتهم، وكانوا يعتبرون هذه الطاعة واجباً شرعياً وعملاً صالحاً يتقربون به إلى الله تعالى( ).

4- عبور النهر وفتح المدائن:
ندب سعد الناس إلى العبور وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفِراضَى( ) حتى تتلاحق به الناس لكي يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو التميمي وكان من أصحاب البأس والقوة، وانتدب بعده ستمائة من أهل النجدات، فأمّر عليهم سعد عاصماً فسار فيه حتى وقف على شاطئ دجلة وقال: من ينتدب معي لنحمي الفراضى من عدوكم ولنحميكم حتى تعبروا؟ فاندب له ستون من أصحاب البأس والنجدة، ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقية الستمائة على إثرهم، وهكذا تكونت من جيش المسلمين فرقة من الفدائيين عددهم ستمائة وقد سميت كتيبة الأهوال، واستخلص عاصم منهم ستين تحت قيادته ليكونوا مقدمة لهذه الفرقة، وهذا تخطيط محكم من سعد أولا ثم من عاصم، وذلك أن مواجهة الأهوال والمغامرات لا تكون بالعدد الكبير، وإنما تكون بأصحاب البأس الشديد والقدرة القتالية العالية وإن كانوا قلائل ، وذلك أنه إذا انضمَّ لهذه الفرقة من هم أقل كفاءة وشجاعة ثم ارتدوا عند هجوم الأعداء يسببون انهزام الفرقة كلها( ).
وقد اقتحم عاصم النهر بالستين على الخيول وقد ذُكر من طليعتهم الذين سبقوا إلى الشاطئ الآخر أصمُّ بني وَلاَّد التيمي، والكَلَج الضبيّ، وأبو مفزِّر الأسود بن قطبة ، وشرحبيل بن السَّمط الكندي، وحَجْل العجلي، ومالك بن كعب الهمداني، وغلام من بني الحارث بن كعب فلما رآهم الأعاجم أعدُّوا لهم فرساناً فالتقوا بهم في النهر قرب الشاطئ الشرقي، فقال عاصم: الرماح الرماح، أشرعوها وتوخَّوا العيون، فالتقوا فاطعنوا وتوخَّى المسلمون عيونهم، فولوّا نحو الشاطئ والمسلمون ينخسون خيولهم بالرماح لتسرع في الهروب فصارت تسرع وأصحابها لا يملكون منعها، ولحق بهم المسلمون فقتلوا عامتهم ونجا من نجا منهم عورانا، ولحق بقية الستمائة بإخوانهم فاستولوا على الشاطئى الشرقي( )

5- المسلمون يقتحمون النهر:
لما رأى سعد عاصماً على الفراضي قد منعها أذن للناس في الإقتحام وقال: قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وتلاحق مُعظم الجند فركبوا اللُّجَّة، وإنَّ دجلة لترمي بالزبد، وإنها لمسودَّة، وإن الناس ليتحدثون في مسيرهم على الأرض( )، وكان الذي يساير سعداً في الماء سلمان الفارسي فعامت بهم الخيل، وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرنّ الله وليَّه، وليظهرنّ الله دينه، وليهزمن الله عدوه إن لم يكن في الجيش بَغْي أو ذنوب تغلب الحسنات( )، فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذُلِّلتْ لهم والله البحور كما ذُلِّلَ لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجاً كما دخلوه أفواجاً( )، وقول سلمان رضي الله عنه: الإسلام جديد، يعني لا يزال حياً واتباعه أقوياء الإيمان معتزون به، وقد جعلوه قضيتهم التي من أجلها يحيون ومن أجلها يموتون، وإليها يدعون وعنها يدافعون، أما حين يتقادم العهد فإنه تأتي أجيال ترث هذا الدين وراثة لا اختيارا، ولا تجعله القضية التي تأخذ على أفرادها مشاعرهم واهتماماتهم، بل يجعلون همهم الأكبر هو العلو في الدنيا والتمتع بمتاعها ويصبح الدين أمراً ثانوياً في قاموس حياتهم، فعند ذلك يخرجون منه أفواجاً كما دخلوه أفواجاً( ).
هذا وقد تم عبور المسلمين جمعياً سالمين لم يُصَب أحد منهم بأذى، ولم يقع منهم في النهر إلا رجل من بارق يدعى "غرقدة" زال عن ظهر فرس شقراء، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فأخذ بيده فجره حتى عبر، فقال البارقي ـ وكان من أشد الناس ـ أعجَزْتَ الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع، وكان للقعقاع فيه خؤولة( )، لقد دهش الفرس من عبور المسلمين وهرب يزدجرد قاصداً حلوان ودخل المسلمون من غير معارض ونزل سعد القصر الأبيض واتخذه مصلى وقرأ قوله تعالى: ? كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ(28) ? (الدخان،آية:25، 28)، وصلى ثمان ركعات صلاة الفتح وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال ثم الكتيبة الخرساء( ) وكان الذي يقود كتيبة الأهوال، عاصم بن عمرو التميمي، وأما الكتيبة الخرساء فكان يقودها القعقاع بن عمرو( )

6- مواقف من أمانة المسلمين:

أ- أحمد الله وأرضى بثوابه: لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل يحُف معه، فدفعه إلى صاحب الأقباضى ، فقال: والذي معه: ما رأينا مثل هذا قط،
ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني: ولا غيركم ليقِّرظوني، ولكنني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسال عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس( )

ب- قال عصمة بن الحاث الض‍َّبِّي: خرجت فيمن خرج يطلب فأخذت طريقاً مسلوكاً وإذا عليه حَمَّار، فلما رآني حثَّه فلحق بآخر قدامه، فمالا وحثَّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كُسر جسره فثبتا حتى أتيتهما ، ثم تفرقا، ورماني أحدهما فألظْظت به (يعني تبعته) فقتلته وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما فإذا سَفَطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة على ثغْر( ) ولبَبَه الياقوت والزمرُّد منظوم على الفضة ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلَّل بالجواهر، وإذا في الآخر ناقة من فضة عليها شليل( )من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر، كان كسرى يضعها إلى إسطوانتي التاريخ( )

ج- خير القعقاع بن عمرو:
لحق القعقاع بفارسي يحمي الناس فقتله، وإذا معه غلافان وعيبتان، وإذا في أحد الغلافين خمسة أسياف وفي الآخر ستة، وهي من أسياف الملوك من الفرس ومن الملوك الذين جرت بينهم وبين الفرس حروب وفيها سيف كسرى وسيف هرقل وإذا في العيبيتين أدراع من أدراع الملوك وفيها درع كسرى ودرع هرقل، فجاء بها إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفلها كتيبة الخرساء التي هي بقيادة القعقاع ، إلا سيف كسرى والنعمان، فقد رأى أن يبعثهما إلى أمير المؤمنين لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما( )

س- ثناء الصحابة على أفراد الجيش:
أثنى أكابر الصحابة رضي الله عنهم على ذلك الجيش ومن ذلك قول سعد بن
أبي وقاص: والله إن الجيش لذو أمانة ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت على فضل أهل بدر( )، وقال جابر بن عبدالله: والله الذي لا إله إلا هو ما أطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كالذي هجمنا عليه من آمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن المكشوح، وأكبر من ذلك ثناء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما رأى خُمس تلك الغنائم وكان معها سيف كسرى ومنطقته وزبرجده فقال: إن قوماً أدَّوا هذا لذَوو أمانة، فقال علي رضي الله عنه: إنك عففت فعفَّت الرعية ولو رتعت لرتعت( ).

ش- موقف عمر رضي الله عنه من نوادر الغنائم:
بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفِّيه وقد كانت غالية الثمن كالحرير والذهب والجوهر، فنظر عمر في وجوه القوم، وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعثم، فقال:يا سُراقة قم فالبس، قال سراقة: فطمعت فيه، فقمت فلبست فقال: أدبر فأدبرت، ثم قال: أقبل فأقبلت، ثم قال بخٍ بخٍ أعرابي من مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه، رب يوم يا سراقه بن مالك لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى كان شرفاً لك ولقومك، انزع فنزعت فقال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي، ثم بكى حتى رحمه من كان عنده، ثم قال لعبد الرحمن بن عوف أقسمت عليك لما بِعتْه ثم قسمته قبل أن تمسي( )

ســابعاً: موقعة جلولاء:
اجتمع الفرس على مفترق الطرق إلى مدائنهم في جلولاء فتذامروا وقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبداً، وهذا مكان يفرق بيننا فهلموا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم فإذا كانت لنا فهو الذي نريد وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا وأبلينا عذراً، واجتمعوا على قيادة مهران الرازي، وحفروا خندقاً حول مدينتهم وأحاطوا به الحسك من الخشب إلا الطرق التي يعبرون منها وقد كتب سعد بن أبي وقاص إلى أمير المؤمنين عمر يخبره بذلك، فكتب إلى سعد يأمره ببعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى جلولاء في اثني عشر ألفاً،وأن يجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو التميمي وعلى ميمنته مسعر بن مالك، وعلى ميسرته عمرو بن مالك بن عتبة وعلى ساقته عمر بن مرة الجهني، وسار إليهم هاشم بجيشه فحاصرهم وطاولهم أهل فارس فكانوا لا يخرجون لهم إلا إذا أرادوا، وزاحفهم المسلمون ثمانين زحفاً، كل ذلك يعطي الله المسلمين عليهم الظفر، وغلبوا المشركين على حسك الخشب التي اتخذوها لإعاقة المسلمين فاتخذ الأعداء حسك الحديد، وجعل هاشم يقوم في الناس ويقول: إن هذا المنزل منزل له ما بعده وجعل سعد يمده بالفرسان، حتى إذا طال الأمر وضاق الأعداء من صبر المسلمين اهتموا بهم فخرجوا لقتالهم فقال: ابتلوا الله بلاءً حسنا ليتم لكم عليه الأجر والمغنم واعملوا لله، فالتقوا فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحاً أظلمت عليهم البلاد فلم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافت فرسانهم في الخندق فلم يجدوا بدِّا من أن يردموا الخندق مما يليهم لتصعد منه خيلهم فأفسدوا حصنهم( )فلما بلغ المسلمين ما قام به الأعداء من ردم الخندق قالوا: أننهض إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه؟ فلما نهض المسلمون لقتالهم خرجوا فرَموا حول الخندق مما يلي المسلمين بحسك الحديد لكيلا تقدم عليهم الخيل وتركوا مكاناً يخرجون منه على المسلمين فاقتتلوا قتلاً شديداً لم يقتتلوا مثله إلا ليلة الهرير وهي من ليالي القادسية إلا أنه كان أقصر وأعجل، وانتهى القعقاع بن عمرو في الوجه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم فأخذ به وأمر منادٍ يقول: يا معشر المسلمين هذا أميركم قد دخل خندق القوم وأخذ به فاقبلوا إليه ولا يمنعنَّكم من بينكم وبينه من دخوله وإنما أمر بذلك ليقَوِيِّ المسلمين به ـ فحمل المسلمون وهم
ولا يشكُّون في أن هاشماً فيه فلم يقم لحملتهم شيء حتى انتهوا إلى بابا الخندق فإذا هم بالقعقاع بن عمرو وقد أخذ به وأخذ المشركون في هزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم، فهلكوا فيما أعدوا للمسلمين فُعقرت دوابهم ـ يعني بسبب حسك الحديد التي أعدوها للمسلمين ـ وعادوا رجّالة، وأتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يُعَدّ، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف، فجلَّلت القتلى المجال وما بين يديه
وما خلفه، فسميت جلولاء بما جللها من قتلاهم، فهو جلولاء الوقيعة( )

أ- إن جندنا أطلقوا بالفَعال لساننا:
وبعث سعد بن أبي وقاص زياد بن أُبيه بالحسابات المالية إلى أمير المؤمنين، وكان زياد هو الذي يكتب للناس ويدوِّنهم فلما قدم على عمر كلمه فيما جاء له ووصف له فقال عمر: هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل ما كلمتني به؟ فكيف لا أقوى على هذا من غيرك ! فقام في الناس بما أصابوا وبما صنعوا، وبما يستأذنون فيه من الإنسياح في البلاد، فقال عمر: هذا الخطيب المصقع ، فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفَعال لساننا( )

ب- موقف عمر من غنائم جلولاء:
انتهت معركة جلولاء بانتصار المسلمين ، وقد غنموا فيها مغانم عظيمة أرسلوا بأخماسها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال حين رآه: والله لا يُجنِّه سقف بيت حتى أقسمه فبات عبد الرحمن بن عوف وعبدالله بن أرقم يحرسانه في صحن المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عنه جلابيبه ـ وهي الأنطاع ـ فلما نظر إلى ياقوته، وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك
يا أمير المؤمنين فوالله إن هذا لموطن شكر! فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، والله
ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقي بأسهم بينهم( )، وهذا لون من حساسية الإيمان المرهفة، حيث يدرك المؤمن الراسخ من نتائج الأمور المستقبلية ما لا يخطر على بال غيره، فيحمله الإشفاق على المؤمنين من أن يكدر صفو علاقاتهم الإيمانية شائبة من شوائب الدنيا التي تباعد بين القلوب، يحمله ذلك على التأثر العميق الذي يصل إلى تحدر دموعه أمام الناس وإنه لعجيب أن تنهمر الدموع من عيني رجل بلغ من القوة حداً يخشاه أهل الأرض قاطبة مسلمهم وكافرهم ومنافقهم، ولكنها الرحمة التي حلىَّ بها الله جل وعلا قلوب المؤمنين، فأصبحوا كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29) ? (الفتح، آية: 29).

ثامــناً: فتح رامهرمز
كان الفرس قد بدأو بالتجمع مرة أخرى بتحريض من ملكهم يزْدجرد، فاجتمعوا في رامهرمز بقيادة الهرمزان، وقد كان سعد بن أبي وقاص أخبر أمير المؤمنين بخبر اجتماعهم فأمره بأن يجهز إليهم جيشاً من أهل الكوفة بقيادة النعمان بن مقرن، وأمر أبا موسى الأشعري بأن يجهز جيشاً من البصرة بقيادة سهل بن عدي، وإذا اجتمع الجيشان فعليهم جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم، وكل من أتاه فهو مدد له وخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة، ثم سار نحو "الهرمزان" والهرمزان يومئذ برامهرمز ـ ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشَّدةَّ ورجا أن يقتطعه ، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل إمدادهم تنتشر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم إن الله عزو جل هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز ولحق بتستر وأما سهل بن عدي فإنه سار بأهل البصرة يريد رامهرمز فأتتهم المعركة وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر بأن الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا إلى تستر، ومال إليها النعمان بأهل الكوفة( )

تاســعاَ: فتح تستر:
وصل جيش النعمان بن مقرن وجيش سهل بن عدي إلى تستر، واجتمعا تحت قيادة أبي سبرة بن أبي رُهْم، وقد استمد أبو سبرة أمير المومنين فأمدهم بأبي موسى الأشعري فأصبح قائد جيش البصرة، وظل أبو سبرة قائد الجيش كله وقد بقي المسلمون في حصار تستر عدة شهور قابلوا فيها جيش الأعداء في ثمانين معركة وظهرت بطولة الأبطال بالمبارزة فاشتهر منهم عدد بقتل مائة مبارز سوى من قتلوا في أثناء المعارك، وقد ذكر منهم : البراء بن مالك ومجزأة بن ثورة وكعب بن سور وأبو تميمة وهم من أهل البصرة وفي الكوفيين مثل ذلك ذُكر منهم حبيب بن قرة ورِبْعي بن عامر، وعامر بن عبدالله الأسود( ).
ولما كان أخر لقاء بين المسلمين وأعدائهم، واشتد القتال نادى المسلمون البراء بن مالك وقالوا: يا براء ـ أقسم على ربك ليهزمنَّهم لنا، فقال: اللهمَّ اهزمهم لنا، واستشهدني، وقد باشر المسلمون القتال وهزموا أعداءهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم وأنه لما ضاق الأمر على الفرس واشتد عليهم الحصار اتصل اثنان منهم في جهتين مختلفتين بالمسلمين وأخبراهم بأن فتح المدينة يكون من مخرج الماء، وقد وصل الخبر إلى النعمان بن مقرن، فندب أصحابه كذلك، فالتقى الأبطال من أهل الكوفة والبصرة في ذلك المكان ليلاً، ودخلوا منه بساحة إلى المدينة فكبَّروا وكبر من وقفوا في الخارج، وفتحوا الأبواب، فأبادوا من حولها بعد شيء من المقاومة( )، وقد استشهد في هذه المعركة البراء بن مالك ومجزأة بن ثور حيث رماهما الهرمزان، وكان استشهادهما بعد انتصار المسلمين في المعركة ولجأ الهرمزان قائد الفرس إلى القلعة، وأطاف به المسلمون الذين دخلوا من مخرج الماء، فلما عاينوه وأقبلوا قِبلَه قال لهم:
ما شئتم ، قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم ومعي في جعبتي مائة نشَّابه، ووالله ما تصلون إليَّ ما دام معي نشابة، وما يقع لي سهم، وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح، قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه وأمكنهم من نفسه، فشدوا وثاقه وأرصدوه ـ أي راقبوه ـ ليبعثوا إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ثم تسلموا ما في البلد من الأموال والحواصل، فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كل فارس ثلاثة آلاف وكل راجل ألف درهم( ) وفي غزوة تستر دروس وعبر منها:-

• ما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما عليها:
قال أنس بن مالك أخو البراء: شهدت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح الله لنا، قال أنس بن مالك الأنصاري: ما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما عليها( )

• وسامٌ من أوسمة الشرف ناله البراء بن مالك:
علّق النبي ? على صدر البراء بن مالك وساماً عظيماً من أوسمة الشرف وذلك بقوله: (كم من أشعث أغبر ذي طِمْرين لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم البراء بن مالك( )، فقد كان البراء مستجاب الدعوة، وعرف الناس عنه ذلك بموجب هذا الحديث ولذلك طلبوا منه في هذه المعركة أن يدعوا الله ليهزم عدوهم، ومع هذا الثناء العظيم من رسول الله ? على البراء فإنه لم يَبْطَر ولم يتكبر، بل ظل الرجل المتواضع الذي يقتحم الأهوال، ويأتي بأعظم النتائج، من غير أن تكون له إمرة أو قيادة وإذا كان قد سأل الله تعالى النصر للمسلمين وهو عزُّ لهم وللإسلام فإنه لم يُغفل نفسه أن يسأل الله تعالى أغلى ما يتمناه المؤمن القوي الإيمان، حيث سأل الله تعالى الشهادة، وقد استجاب الله تعالى دعاءه فهزم الأعداء ، ورزقه الشهادة في ذلك اليوم( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:37 pm

3- خبر أمير المؤمنين عمر مع الهرمزان:
وأرسل أبو سَبرة بن أبي رُهم قائد المسلمين في تلك المعارك وفداً إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وأرسل معهم الهرمزان، حتى إذا دخلوا المدينة هيأوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجاً يُدعى الأذين مكللاً بالياقوت وعليه حليته، كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل لهم: جلس في المسجد لوَفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مرُّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدُّدكم( )؟ أتريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في ميمنة المسجد، متوسداً برنسه
- وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس - فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه وأخلوه نزع برسنه ثم توسده فنام - فانطلقوا ومعهم النظارة حتى إذا رأوه جلسوا دونه وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والِّدرة في يده معلقة فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا ، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه وأصغى الهرمزان إلى الوفد فقال: أين حرسه وحُجَّابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبياً، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالساً ثم نظر إلى الهرمزان، فقال الهرمزان؟ قالوا: نعم، فتأمله وتأمل ما عليه وقال: أعوذ بالله من النار؟ واستعن الله، وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا و أشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم ?، ولا تُبطرنكم الدنيا فإنها غرارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز فكَّلمه ، فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شئ فُرمي عنه بكل شئ عليه إلا شيئاً يستره، وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلىَّ بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا، فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا، ثم قال عمر: ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلتني قبل أن أخبرك،قال:لا تخف ذلك، واستسقى ماء ، فأتى به في قدح غليظ، فقال: لو متُّ عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا ، فأتي به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال إني أخاف أن أُقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك ، قال: قد آمنتني، فقالك كذبت، فقال أنس: صدق أمير المؤمنين، قد آمنته، قال ويحك يا أنس أنا أُؤمِّن قا تل مجزأة والبراء، والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني،وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني ، والله لا أنخدع إلا لمسلم ، فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة( ).

عاشــراً: فتح مدينة جُنْدَيْ سابور:
لما فرغ أبو سبرة بن أبي رهم من فتح بلاد السوس خرج في جنده حتى نزل على "جندي سابور" وكان زر بن عبد الله بن كليب محاصرهم، وأقاموا عليها يغادرونهم ويراوحونهم القتال، فمازالوا مقيمين عليها حتى رُمي إليهم بالأمان من المسلمين وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفاجأ المسلمون إلا وأبوابها تفتح، ثم خرج السرح، وخرجت الأسواق، وانبثَّ أهلها، فأرسل المسلمون أن مالكم؟ قالوا: رميتم لنا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمنعونا، فقالوا: ما فعلنا، فقالوا:
ما كذبنا فتسأل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يُدعَى مكنفاً كان أصله منها، هو الذي كتب لهم فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا: لا نعرف حُرَّكم من عبدكم ، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه ولم نبدِّل فإن شئتم فاغدروا، فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: إن الله تعالى عظَّم الوفاء فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شك أجيزوهم ووَفُوا لهم، فوفوا لهم وانصرفوا( )، وهذا مثال يدل على تفوق المسلمين الشاسع في مجال مكارم الأخلاق على جميع أعدائهم من الكفار ولا شك أن هذا التفوق الأخلاقي كان من الدوافع الأساسية لدخول الكفار في الإسلام بتلك الكثافة والسرعة المذهلة( )

1- النعمان بن مقرن ومدينة كسكر:
كان النعمان بن مُقرِّن والياً على كسكر، فكتب إلى عمر رضي الله عنه : مثلي ومثل كسكر كمثل رجل شابِّ وإلى جانبه مُومسة تلوَّن له وتعطَّر، فانشدك الله لما عزلتني عن كسكر، وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين، فكتب إليه عمر: أن ائت الناس بنهاوند، فأنت عليهم( ).

المبـــحث الثالث: معركة ناهاوند (فتح الفتحوح) المرحلة
الرابعة 21هـ:

كان المسلمون قد انتصروا على جيوش الفرس في معارك عديدة متتالية ، وأضحوا يطاردون فلول تلك الجيوش دون أن يتركوا لها فرصة لإلتقاط أنفاسها، فمنذ انتصارهم الساحق في معركة القادسية بالعراق حتى المعركة الحاسمة في نهاوند، مرت أربع سنوات كان المسلمون ينتقلون خلالها من نصر إلى نصر، وكانت تلك الجيوش تتابع تقدمها لكي تقضي على ما تبقى من فلول جيوش الإمبراطورية الهرمة، لولا أن أوامر الخليفة عمر رضي الله عنه كانت تقضي بالتوقف أمام جبال زاغروس وعدم تجاوزها، وذلك بغية إعادة تنظيم الجيوش المنهكة من القتال المستمر، وتنظيم إدارة الأقاليم المفتوحة ( )ولقد أثارت الهزائم المتتالية التي ألحقها المسلمون بالفرس بعد القادسية خاصة حفيظتهم وخنقهم ولم تكن كافية على ما يبدو للقضاء نهائياً على مقاومتهم فكتب أمراؤهم وقادتهم إلى مليكهم (يزدجرد) يستنهضونه للقتال من جديد، فعزم عليه ، وأخذ يعد العدة للعودة إلى قتال المسلمين فيما تبقى له في بلاده من معاقل ومعتصمات ، فكتب إلى أهل الجبال من الباب إلى سجستان فخراسان أن يتحركوا للقاء المسلمين وواعدهم جميعاً نهاوند ، وكان قد وقع عليها كمركز أخير للمقاومة ، وكميدان للمعركة الحاسمة فهي مدينة منيعة تحيط بها الجبال من كل جانب ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر مسالك وعرة صعبة ، وقد تحشَّد الفرس في هذه المدينة واجتمع ليزدجرد فيها مائة وخمسون ألف مقاتل : ثلاثون ألفاً من الباب إلى حلوان، وستون ألفاً من خراسان إلى حلوان، ومثلها من سجستان إلى حلوان، فجعل يزدجرد عليهم الفيرزان قائداً( ).
كان سعد بن أبي وقاص في الكوفة حين علم بخبر الحشود الفارسية فكتب إلى الخليفة عمر ينبئه بذلك ويستأمره، شارحاً له الوضع من مختلف جوانبه، فجمع عمر في المدينة أهل الرأي والمشورة من المسلمين واستشارهم في الأمر، ثم قرر بعدها إرسال جيش لقتال الفرس في معقلهم الأخير "نهاوند"، وكان النعمان بن مقرن المزني يومئذ عاملاً على كسكر، وكان قد كتب إلى الخليفة كتاباً يقول له فيه: ( مَثلي ومثل كسكر كمثل رجل شاب إلى جنبه مومسة تلون له وتعطر، فانشدك الله لما عزلتني عن كسكر وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين)( ).
واستشار عمر مجلس شوراه وتقرر أن يتولى قيادة جيوش المسلمين في نهاوند النعمان بن مقرن، ووضع الخليفة خطة لتعبئة جيش المسلمين على الشكل التالي:

- النعمان بن مقرِّن المزني (والي كسكر) قائداً عاماً للجيش.
- حذيفة بن اليمان ـ قائداً لفرقة تعبأ من أهل الكوفة.
- أبو موسى الأشعري (والي البصرة) قائداً لفرقة تعبأ من أهل البصرة.
- عبد الله بن عمر (بن الخطاب): قائداً لفرقة تعبأ من المهاجرين والأنصار.
- سلمى بن القين، وحرملة بن مريطة، وزر بن كليب، والأسود بن ربيعة، وسواهم من قادة المسلمين في الأهوار وباقي بلاد فارس: إحتياط ومشاغلة للأعداء.
وكتب عمر إلى الولاة والقادة بتعليماته واستطاع الفاروق أن يحشد جيشاً مقداره ثلاثين ألف مقاتل( ) وتحرك جيش الإسلام بقيادة النعمان بن مقرن إلى نهاوند.
ووجدها محصنة تحصيناً قوياً وحولها خندق عميق وأمام الخندق حسك شائك مربع الأضلاع يثبت منه ضلع في الأرض وتظل الأضلاع الثلاثة الباقية أو إثنان منها على الأقل فوق سطحها ، لتعيق تقدم المهاجمين أو تؤذي خيالتهم بأحداث ثقوب في حوافر جيادهم مما يمنعها من متابعة الجري، أما جيش الفرس داخل سور المدينة فكان على تعبئة وقد انضم إليه بنهاوند "كل من غاب عن القادسية" ، وقد ركز الفيرزان رماته بإتجاه محاور التقدم المحتملة للمسلمين كي يطالوا جندهم بنبالهم إذا ما حاولوا التقدم( ).
لقد اصطدمت خيول المسلمين بالحسك الشائك ثم بالخندق فلم يستطيعوا اجتيازها، بينما تولى رماة الفرس رمي جند المسلمين الذي تمكنوا من الإقتراب من السور، واستمر الأمر كذلك لمدة يومين ورأى النعمان أن يجمع أركان الجيش الإسلامي لتدارس الوضع معه، وخرجوا بنتيجة الاجتماع بالخطة التالية وكان صاحبها طليحة بن خويلد الأسدي:
1- تخرج خيول المسلمين فتنشب القتال مع الفرس، وتستفزهم حتى تخرجهم من أسوارهم.
2- إذا خرجوا تقهقرت خيول المسلمين أمامهم فيعتقدون تراجعها ضعفاً ويطمعون بالنصر، فيلحقوا بها وهي تجري أمامهم.
3- تستدرج خيول المسلمين المتظاهرة بالهزيمة ، الفرس إلى خارج أسوارهم ومواقعهم.
4- يفاجئ المسلمون الذي يكونون قد كمنوا في أماكن محددة ومموهة الفرس المتدفقين خلف خيول المسلمين ، ويطبقون عليهم وهم بعيدون عن مراكزهم وخنادقهم وأسوارهم( )، وشرع النعمان لتنفيذ هذه الخطة ووزع قواته فرقاً على الشكل التالي:

- الفرقة الأولى: خيالة بقيادة القعقاع بن عمرو ومهمتهما تنفيذ عملية التضليل وفقاً للخطة المرسومة آنفاً، واقتحام أسوار العدو والإشتباك معه.
- الفرقة الثانية: مشاة بقيادته هو ، ومهمتهما التمركز في مواقع ثابتة ومموهة بانتظار وصول الفرس إليها حيث تنشب القتال معها في معركة جبهية.
- الفرقة الثالثة: خيالة ، وهي القوة الضاربة في الجيش ، ومهمتها التمركز في مواقع ثابتة ومموهة ثم الهجوم على قوات العدو من الجانبين.
- وأمر النعمان المسلمين في كمائنهم ( أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم)( )، والتزم المسلمون بالأمر ينتظرون إشارة النعمان بالهجوم.
وشرع القعقاع في تنفيذ الخطة ونجح نجاحاً رائعاً، وكانت مفاجأة الفرس مذهلة عندما وجدوا أنفسهم، في آخر المطاف محاصرين بين قوات المسلمين التي شرعت سيوفهم في حصد رقاب المشركين ولاذ المشركون بالفرار ليتحصنوا بخندقهم وحصونهم إلا أنهم وقعوا في خنادقهم وفي الحسك الشائك ،واستمر المسلمون يطاردونهم ويعملون سيوفهم في ظهورهم واقفيتهم حتى سقط من الفرس ألوف في الخندق واستطاع القعقاع أن يطارد الفيرزان فلحقه وقضى عليه ودخل المسلمون، بعد هذه المعركة "نهاوند" ثم همذان، ثم انطلقوا بعد ذلك يستكملون فتح ما تبقى من بلاد فارس دون مقاومة تذكر، ولم يكن للفرس بعد نهاوند اجتماع ، وملك المسلمون بلادهم لذلك سميت معركة نهاوند بفتح الفتوح( ).
لقد ظهر فقه الفاروق في معركة نهاوند في عدة أمور منها:
1- التحشد ومنع العدو من التحشد حيث لم يكتف الخليفة عمر (رضي الله عنه) بأن أمر عماله في الكوفة والبصرة والمسلمين في الجزيرة بالتحشد لقتال الفرس بل أمر قادته في الأهواز وباقي بلاد فارس أن يمنعوا العدو من التحشد فكلف سلمى بن القين وحرملة بن مريطة وزر بن كليب والأسود بن ربيعة وسواهم أن يقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز وأن يمنعوا الفرس من الانضمام إلى الجيش المتحشد في نهاوند ، وهكذا فقد أقام هؤلاء القادة في تخوم أصبهان وفارس وقطعوا الإمداد عن نهاوند( ).
2- تعيين القادة إن مات قائد الجيوش:
كما فعل النبي ? يوم مؤته (8هـ/629م) عندما أمَّر على المسلمين زيد بن حارثة فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة على الناس، كذلك فعل عمر الفاروق يوم نهاوند عندما أمَّر النعمان على المسلمين فإن حدث بالنعمان حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان، فإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن وتميز النعمان بقيادته الرفيعة والتي ظهرت في عدة أمور:

أ- الاستطلاع قبل السير للقتال:
كلف النعمان قبل السير بجيشه نحو نهاوند وكان على بعد "بضعة وعشرين فرسخاً" منها، كلاً من طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن أبي سلمى العنزي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي بالتقدم نحوها واستطلاع الطريق الموصلة إليها ومعرفة ما إذا كان من عدو بينه وبينها ، فسار الثلاثة مقدار يوم وليلة ثم عادوا ليبلغوا القائد العام أن ليس بينه وبين نهاوند شئ يكرهه ولا أحد فكانت هذه البعثة أشبه بما يعرف في عصرنا بالطليعة "أو المفرزة المتقدمة" التي تسبق أي جيش لإستطلاع الطريق له قبل تقدمه، ومع ذلك أخذ النعمان كل الاحتياطات اللازمة عند تحركه بجيشه فسار "على تعبئة" كما يفترض أن يسير.

ب- عملية التضليل:
وكانت "عملية التضليل" التي نفذها المسلمون في نهاوند من أروع المناورات العسكرية التي يمكن أن ينفذها جيش في التاريخ القديم والحديث، فعندما عجز المسلمون عن اقتحام أسوار المدينة المحصنة والمحمية بالخندق المحيط بها وبالحسك الشائك وبالرماة المهرة، وقدروا أن الحصار سوف يستمر طويلاً دون جدوى طالما أن لدى الفرس المحاصرين داخل أسوار المدينة من الذخائر والمؤن ما يكفيهم للمقاومة مدة طويلة ، رأوا أن يعمدوا إلى الحيلة في استدراج العدو وإخراجه من "جحوره" ومواقعه، لكي يقاتلوه خارج تلك الأسوار فيكونون قد فرضوا عليه ميدان القتال الذي اختاروه بأنفسهم وقد تم ما قدَّره المسلمون تماماً ، فاستُدرج العدو إلى مواقع حددها المسلمون للقتال حيث كمنوا له ثم نازلوه في تلك المواقع جبهياً ومن كل جانب ، ففوجئ ثم ذعر فاسقط في يده وانهزم وليس هناك من حيلة أخرى يمكن أن يلجأ إليها خصم لإحراج خصمه وإخراجه والتغلب عليه أفضل من هذه الحيلة( ).

ج- اختيار ساعة الهجوم:
وقد تكلمت كتب التاريخ عن صبر النعمان بن مقرن وحنكته المتميزة المتناهية في اختيار ساعة الهجوم التي كان رسول الله ? يحبها عند الزوال، وتفيؤ الأفياء وهبوب الرياح.
لقد نال النعمان بن مقرن الشهادة في تلك المعركة الحاسمة ووصل خبر النعمان إلى أمير المؤمنين فقال: ( إنّا لله وإنا إليه راجعون) وبكى ونشج واشتد حزنه وسأل عن الشهداء فسمى له أسماء لا يعرفها فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين ولكنَّ الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم وما يصنع أولئك بمعرفة عمر( )؟
ومما يستحق الذكر أن المسلمين عثروا في غنائم نهاوند على سفطين( ) مملؤين جوهراً نفيساً من ذخائر كسرى فأرسلهما حذيفة أمير الجيش إلى عمر مع السائب بن الأقرع، فلما أوصلهما له قال: ( ضعهما في بيت المال، والحق بجندك).
فركب راحلته ورجع فأرسل عمر وراءه رسولاً يُخِب السيَر في أثره حتى جنة لحقه بالكوفة فأرجعه( ).
فلما رآه عمر قال: مالي وللسائب ماهو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها ، فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان ناراً؟ يتوعدوني بالكيِّ إن لم أقسمها فخذهما عني وبعهما في أرزاق المسلمين فبيعا بسوق الكوفة .
فرضى الله عنك ياعمر لقد سرت بسيرة نبيك فعزْزتَ وأعززت الإسلام والمسلمين ، اللهم ألهمنا الإتباع واكفنا شر الإبتداع( ).
وبعد معركة نهاوند تسارع زعماء الفرس من همذان وطبرستان، وأصبهان وطلبوا الصلح وتم لهم ذلك على التوالي( ).


المبــحث الرابع: الإنسياح في بلاد العجم ((المرحلة الخامسة)):
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:42 pm

بعد انتصار المسلمين في وقعة نهاوند لم يقم للفرس أمر، وانساح المسلمون في بلاد العجم وأذن لهم عمر في ذلك فافتتح المسلمون بعد نهاوند مدينة جَيّ ـ وهي مدينة أصْبهان( ) بعد قتال كثير وأمور طويلة ، فصالحوا المسلمين وكتب لهم عبدالله بن عبدالله كتاب أمان وصلح وفر منهم ثلاثون نفراً إلى كرْمان لم يصالحوا المسلمين، وفي سنة إحدى وعشرين افتتح أبو موسى قُمَّ وقاشان( )، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كَرْمان.

أولاً: فتح همَذَان ثانية 22هـ:
تقدم أن المسلمين لما فرغوا من نهاوند فتحوا حُلْوان وهمذان ثم إن أهل همذان نقضوا عهدهم الذي صالحهم عليه القعقعاع بن عمرو، فكتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يسير إلى همذان فسار حتى نزل على ثنية العسل ، ثم تحدر على همذان ، واستولى على بلادها وحاصرها فسألوه الصلح فصالحهم ودخلها فبينما هو فيها ومعه اثنا عشر ألفاً من المسلمين إذ تكاتب الديلم، وأهل الرأي وأهل أذر بيجان ، واجتمعوا على حرب نعيم بن مقرن في جمع كثير، فخرج إليهم بمن معه من المسلمين حتى التقوا بمكان يقال له واج الرُّواذ( )، فاقتتلوا قتالاً شديداً وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند ولم تك دونها فقتلوا من المشركين جماً غفيراً لا يحصون كثرة ،وقتل ملك الديلم وتمزق شملهم ، وانهزموا بأجمعهم ، بعد من قتل بالمعركة منهم ، فكان نعيم بن مقرن أول من قاتل الديلم( ) من المسلمين ،وقد كان نعيم كتب إلى عمر يعلمه باجتماعهم فهمّه ذلك واغتم له، فلم يفاجأه إلا البريد بالبشارة ، فقال: أبشير؟ فقال: بل عروة، فلما ثنَّى عليه، أبشير؟ فطِن فقال: بشير، فقال عمر: رسول نغيم وسماك بن عبيد؟ قال: رسول نعيم ، قال: ا لخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر وأخبره الخبر، فحمد الله وأمر بالكتاب فقُرئ على الناس فحمدوا الله ثم قدم سماك بن مخرمة وسماك بن عُبيد وسماك بن خرشة في وفود الكوفة بالأخماس على عمر، فنسبهم، فانتسب له سماك وسماك وسماك ، فقال: بارك الله فيكم، اللهم اسمك بهم الإسلام ، وأيدهم بالإسلام( ).

ثانياً: فتح الرَّيّ سنة 22هـ :
استخلف نعيم بن مقرن على يزيد بن قيس الهمداني، وسار هو بالجيوش حتى لحق بالري( ) ، فلقي هناك جمعاً كثيراً من المشركين، فاقتتلوا عند سفح جبل الري، فصبروا صبراً عظيماً ثم انهزموا وقتل منهم نعيم بن مقرن مقتلة عظيمة بحيث عُدّوا بالقصب، وغنموا منهم غنيمة عظيمة قريباً مما غنم المسلمون من المدائن ، وصالح أبو الفرُّخان الملقب بالزينبي على الري، وكتب له أماناً بذلك، ثم كتب نعيم إلى عمر بالفتح ثم بالأخماس ولله الحمد والمنة( ).

ثالثاً: فتح قُومِسْى وجُرْجَان سنة 22هـ :
ولما ورد البشير بفتح الري وأخماسها كتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يبعث أخاه سويد بن مقرن إلى قوميس( )، فسار إليها سويد ، فلم يقم له شئ حتى أخذها سلما وعسكر بها وكتب لأهلها كتاب أمان وصلح ولما عسكر سويد بقوميس بعث إليه أهل بلدان شتى منها: جُرْجَان( ) وطبرستان( )، وغيرها يسألونه الصلح على الجزية، فصالح الجميع ، وكتب لأهل كل بلدة كتاب أمان وصلح( ).

رابعاً: فتح أذربيجان سنة 22هـ :
لما افتتح نعيم بن مقرن همذان ثانية ، ثم الري، بعث بين يديه بُكير بن عبد الله من همذان إلى أذربيجان( ) وأردفه بسماك بن خرشَة وذلك عن أمر عمر بن الخطاب وليس بأبي دجانة( ) فلقى أسفندياذ بن الفرُّخزاذ بكيراً وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم سماك فاقتتلوا فهزم الله المشركين وأسر بكير اسنفدياذ، فقال له: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ فقال: بل الصلح. فقال: فأمسكني عندك فأمسكه ثم جعل يفتح أذربيجان بلداً بلداً ، وعتبة بن فرقد في مقابله في الجانب الآخر من أذربيجان يفتحها بلداً بلداً ، ثم جاء كتاب عمر بأن يتقدم بُكير إلى الباب، وجعل سماكاً موضعه ـ نائباً لعتبة بن فرقد وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد وسلم إليه بكيرُ اسفندياذ، وقد كان اعترض بهرام بن فرّ خزاذ لعتبة بن فرقد فهزمه عتبة وهرب بهرام ، فلما بلغ ذلك اسفندياذ قال: الآن تم الصلح وطفئت الحرب، فصالحه وعادت أذربيجان سلماً، وكتب بذلك عُتْبةُ وبكير إلى عمر، وبعثوا بالأخماس إليه، وكتب عتبة حين انتهت إليه إمرة أذربيجان كتاب أمان وصلح لأهلها( ).

خامساً: فتح الباب سنة 22هـ :
كتب عمر بن الخطاب كتاباً بالإمرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو ـ الملقب بذي النور فسار كما أمر عمر وهو على تعبئته فلما انتهى مقدم العساكر ـ وهو عبد الرحمن بن ربيعة إلى الملك الذي هناك عند الباب( ) وهو شهر براز، ملك أرمينية وهو من بيت الملك الذي قتل بني إسرائيل وغزا الشام في قديم الزمان فكتب شهر براز لعبد الرحمن واستأمنه فأمنّه عبد الرحمن بن ربيعة فقدم عليه المَلكِ، فأنهى إليه أن صُغْوَه( ) إلى المسلمين وأنه مناصح للمسلمين فقال له: إن فوقي رجلاً فاذهب إليه ، فبعثه إلى سراقة بن عمرو أمير الجيش ، فسأل مِنْ سراقة الأمان فكتب كتاباً بذلك ثم بعث سراقة بكير بن عبدالله الليثي، وحبيب بن مسلمة وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية جبال اللاّن، تفِليسس، ومُوقَان ، فافتتح بكير مُوقان، وكتب لهم كتاب أمان، ومات في غضون ذلك أمير المسلمين هناك سراقة بن عمرو، واستخلف بعده عبد الرحمن بن ربيعة ، فلما بلغ عمر ذلك أقره وأمره بغزو الترك( ).

سادساً: أول غزو الترك:
لما جاء كتاب عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو الترك ، سار حتى قطع الباب قاصداً لما أمره عمر، فقال له شهر براز: أين تريد؟ قال: أريد ملك الترك بَلَنْجَر، فقال له شهر براز: إنّا لنرضى منهم بالموادعة، نحن من وراء الباب ـ فقال عبد الرحمن: إن الله بعث إ لينا رسولاً ووعدنا على لسانه بالنصر والظفر ونحن لا نزال منصورين، فقاتل الترك وسار في بلاد بلنجر مائتي فرسخ وغزا مرات متعددة ، ثم كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان رضي الله عنه( ).

سابعاً: غزو خُراسان سنة 22هـ :
كان الأحنف بن قيس قد أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم، ويُضيقوا على كسرى يزدجرد، فإنه هو الذي يحث الفرس والجنود على قتال المسلمين فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمّر الأحنف وأمره بغزو بلاد خراسان ، فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصداً حرب يزدجرد فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليه صُحَار بن فلان العبدِي ، ثم سار إلى مَرو الشهجان( ) وفيها بزدجرد وبعث الأحنف بين يديه مُطرّف بن عبدالله بن الشخِّير إلى نيسابور( )،والحارث بن حسان إلى سَرْخَس( )ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان، ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ( )، فافتتح الأحنف مرو الشاهجان فنزلها ، وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمدَّه، وكتب إلى ملك الصغد يستمدَّه، وكتب إلى ملك الصين يستعينه ، وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان ، وقد وفدت إلى الأحنف إمدادات من أهل الكوفة مع أربعة أمراء فلما بلغ ذلك يزدجرد ترحل إلى بلخ( )، فالتقى معه ببلخ فهزمه الله عز وجل وهرب هو ومن بقي معه من جيشه فعبر النهر، واستوثق مُلك خراسان على يدي الأحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميراً ، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكاملها وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر. وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع الملوك، فسار معه خاقان ، فوصل إلى بَلْخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة والجميع عشرون ألفاً فسمع رجلاً يقول لآخر: إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره، ويبقى هذا النهر خندقاً حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النصر والرشد وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الأحنف في الناس خطيباً فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير فلا يهولُنّكم ? كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) ? (سورة البقرة ، آية:249)، فكان الترك يقاتلون بالنهار ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل ، فصار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو خاقان ، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبلة فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز:

إنّ على كُل رئيس حقا
إنّ لها شيخا بها مُلَقىّ
أن يخضِبَ الصّعْدة أو تَنْدَقّا
سَيفَ أبي حفص الذي تبقَّى



ثم استلب التركيَّ طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر عليه طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبلة ، فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضاً واستلبه طوقه ووقف موضعه، فخرج ثالث فقتله وأخذ طوقه، ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية، وكان من عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم يضرب الأول بطبلة ثم الثاني، ثم الثالث . فلما خرجت الترك فأتوا على فرسانهم مقتولين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير ، وقال لعسكره: قد طال مقامنا وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله ، مالنا في قتال هؤلاء القوم من خير فانصرفوا بنا فرجعوا إلى بلادهم( ) وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث: اتركوا الترك ما تركوكم( ) ، ? وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرَاً وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ الله قَوِيَّاً عَزِيزَاً? (الأحزاب،آية:25) ، ورجع كسرى خاسر الصفقة لم يشف له غليل، ولا حصل على خير ، ولا انتصر كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقى مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء: ? وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(88) ? (النساء،آية:88).
وتحير في أمره ماذا يصنع؟ وإلى أين يذهب ؟ ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده فجعل ملك الصين يسأل الرسول عن صفة هؤلاء القوم الذي قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والإبل، وماذا يضعون؟ وكيف يُصَلُّون؟ فكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ما داموا على ما وصف لي رسولك فسالمهم وأرضَ منهم بالمسالمة ، فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين ولم يزال ذلك دأبه حتى قتل في إمارة عثمان( )، ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك ومن كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتلة عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً ، فقام عمر على المنبر وقُرِئَ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر: إن الله بعث محمداً بالهدى ووعد على ابتاعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة فقال:? هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33) ? (التوبة،آية:33).
فالحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر جنده . ألا وإن الله قد أهلك مُلْك المجوسية وفرق شملهم، فليس يملكون من بلادهم شبراً يضير بمسلم، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل ، يُوفِ لكم بعهده ويؤتكم وعده، ولا تغيروا فيستبدل قوماً غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم( ).

ثامناً: فتح اصطخر سنة 23هـ :
افتتح المسلمون اصطخر ـ للمرة الثانية ـ في سنة ثلاث وعشرين وكان أهلها قد نقضوا العهد بعدما كان جند العلاء بن الحضري افتتحوها حين جاز في البحر ـ في أرض البحرين ـ والتقوا هم والفرس في مكان يقال له طاوس، ثم صالحه الهِرْبذة على الجزية ، وأن يضرب لهم الذمة ، ثم إن شهرك خلع العهد، ونقض الذمة، ونشّط الفرس ، فنقضوا العهد، فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص ، ابنه وأخاه الحكم ، فاقتتلوا مع الفرس فهزم الله جيوش المشركين ، وقتل الحكمُ بن أبي العاص شهَرك( ).
تاسعاً: فتح فساودار بجرد سنة 23هـ:
قصد سارية بن زُنَيم فساودارا بجرد، فاجتمع له جموع من الفرس والأكراد عظيمة ودهم المسلمين منهم أمر عظيم ، رأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في وقت من النهار، وأنهم في صحراء ، وهناك جبل إن أسندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى في الغد الصلاة جامعة حتى إذا كانت الساعة التي رأي أنهم اجتمعوا فيها ـ خرج إلى الناس وصعد المنبر ـ فخطب الناس وأخبرهم بصفة ما رأى ـ ثم قال: يا سارية الجبل ـ ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنوداً ولعل بعضها أن يبلغهم. قال: ففعلوا ما قال عمر ـ فنصرهم الله على عدوهم ـ وفتحوا البلد( ) .

عاشراً: فتح كَرْمان وسجستان سنة 23هـ :
قام سهيل بن عدي في سنة 23 بفتح كرمان ( )، وقيل فتحت على يدي عبدالله بن بُدَيل بن ورقاء الخزاعي( )، وذكر بعض المؤرخين فتح سجستان على يدي عاصم بن عمرو، بعد قتال شديد ، وكانت ثغورها متسعة ، وبلادها متنائية ما بين السد إلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القُندهار والترك من ثغورها وفروجها( )

الحادي عشر: فتح مُكرَان سنة 23هـ:
في السنة 23هـ فتحت مكران على يدي الحكم بن عمرو، وأمده شهاب بن المخارق، ولحق به سهيل بن عدي ، وعبدالله بن عبدالله بن عتبان واقتتلوا مع ملك السند فهزم الله جموع السند وغنم المسلمون منهم غنيمة كثيرة ، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح وبعث بالأخماس مع صُحار العبدي فلما قدم على عمر سأله عن أرض مُكْران فقال: يا أمير المؤمنين أرض سهلها جبل ، وماؤها وشل( )، وتمرها دقل( )، وعدوها بطل ، وخيرها قليل ، وشرها طويل والكثير بها قليل والقليل بها ضائع ، وما وراءها شر منها فقال عمر: أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال: لا ، بل خبر، فكتب عمر إلى الحكم بن عمرو، أن لا يجوزون مكران، وليقتصروا على ما دون النهر( ).

الثاني عشر: غزوة الأكراد :
ذكر ابن جرير بسنده عن سيف عن شيوخه: أن جماعة من الأكراد والتف إليهم طائفة من الفرس، اجتمعوا فلقيهم أبو موسى بمكان من أرض بيرُوذ قريب من نهر تِيرَى( )، ثم سار عنهم أبو موسى إلى أصبهان وقد ا ستخلف على حربهم الربيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد ـ فتسلم الحرب وخنق عليهم، فهزم الله العدو وله الحمد والمنة كما هي عادته المستمرة وسنته المستقرة، في عباده المؤمنين ، وحزبه المفلحين من أتباع سيد المرسلين ثم خمست الغنيمة وبعث بالفتح والخمس إلى عمر رضي الله عنه( ).
وهكذا تم فتح العراق وبلاد إيران في عهد عمر رضي الله عنه وأقام المسلمون المسالح في شتى أرجائها متوقعين انتقاض الفرس في هذه الديار ـ لقد كانت فتوح المشرق عنيفة اقتضت من المسلمين تضحيات جسيمة بسبب اختلاف الدم، فسكان إيران فرس لا تربطهم بالعرب لغة ولا جنس ولا ثقافة وكان الشعور القومي عند الإيرانييين يزكيه التاريخ الطويل والثقافة المتأصلة، كما أن القتال كان يدور في صميم الوطن الإيراني ويشترك رجال الدين المجوسي في تأليب السكان على المقاومة يضاف إلى ذلك بعد هذه المناطق عن مراكز الجيش في البصرة والكوفة ، وطبيعة الأرض الجبلية التي تمكن السكان من المقاومة ـ ولذلك فقد انتقضت معظم هذه المراكز، وأعيد فتحها في عهد الفاروق أو في خلافة عثمان رضي الله عنهما( ).


المبحث الخامس: أهم الدروس والعبر والفوائد من فتوحات العراق والمشرق:

أولاً: أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين:
كان للآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين ، فقد بين المولى عز وجل أن حركات المجاهدين كلها يثاب عليها قال تعالى:? مَا كَانَ لأِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ(121) ? (التوبة،آية:120-121) ، وقد أيقن المسلمون الأوائل أن الجهاد تجارة رابحة قال تعالى: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ? (الصف،آية:10-13).
وقد تعلموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحجاج فيه قال تعالى: ? أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ
دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ
وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ(22) ? (التوبة،آية:19-21)، واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال قال تعالى:? قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ(52) ? (التوبة،آية:52)، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي قال تعالى:? وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171) ? (آل عمران:169-171) وكانوا يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله قال تعالى: ? فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالأخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(74) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا(75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(76) ? (النساء، آية: 74-76).
وقد بين الرسول ? للمسلمين فضل الجهاد فألهبت تلك الأحاديث مشاعرهم وفجّرت طاقاتهم ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله ? : (مؤمن يجاهد بنفسه وماله)( ) ، وقد بين رسول الله ? درجات المجاهدين قال ?: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة( )، وقد وضح ? فضل الشهداء وكرامتهم فقال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلفْ سرَّية ولوددتُ أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)( ) وقال ?: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شئ إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)( )، وغير ذلك من الأحاديث وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن سار على نهجهم بهذه الآيات والأحاديث ـ فكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد شاخوا فيشفق عليهم الناس وينصحونهم بالقعود عن الغزو لأنهم معذورون فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود ويخافون على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلفوا عن الغزو( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:49 pm

- من ثمرات الجهاد في سبيل الله:
كان الصحابة والتابعون بإحسان في العهد الراشدي يرون أن الجهاد في سبيل الله ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات العراق وبلاد المشرق والشام ومصر والشمال الأفريقي وترتب على قيامهم لهذه الفريضة ثمرات كثيرة منها: تأهيل الأمة الإسلامية لقيادة البشرية ،القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم ، ظهور صدق الدعوة للناس الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا فيزداد المسلمون بذلك عزاً والكفار ذلاً، وتوحدت صفوف المسلمين ضد أعدائهم واسعدوا الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته( ).

ثالثاً: من سنن الله في فتوحات العراق وبلاد المشرق:
يلاحظ الباحث في دراسته لفتوحات العراق وبلاد المشرق بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول ومن هذه السنن :

1- سنة الأخذ بالأسباب:
قال تعالى:? وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(60) ? (الأنفال،آية:60).
وقد طبق الفاروق رضي الله عنه في عهده هذه الآية وأخذ بالأسباب المادية والمعنوية كما مرّ معنا.

2- سنة التدافع:
قال تعالى:? وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(251) ? (البقرة،آية:251).
وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية ، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به ـ إنه يحتاج إلى جهد بشرى لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية( ).
3- سنة الابتلاء:
قال تعالى: ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214) ? (البقرة،آية:214).
وقد وقع البلاء في فتوحات العراق في معركة جسر أبي عبيد على الخصوص حيث قتل الآلاف من المسلمين وهزم جيشهم ثم أعادوا صفوفهم وحققوا انتصارات عظيمة على الفرس وقد قال تعالى: ? لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...?
(آل عمران،آية:186).
ومن الملاحظ من خلال الآيات الكريمة أن تقرير سنة الإبتلاء على الأمة الإسلامية جاء في أقوى صورة من الجزم والتأكيد( )، وهذه سنة الله تعالى في العقائد والدعوات لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام( ).

4- سنة الله في الظلم والظالمين:
قال تعالى: ? ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ(100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ(101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102) ?
(هود،آية:100-102).
وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود( ).

5- سنة الله في المترفين:
قال تعالى: ? وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16) ? (الإسراء،آية:16).
وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها أي متنعميها
وجبّاريها وملوكها ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكناها وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم ، فكان توجه الأمر إليهم آكد( )، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم.

6- سنة الله في الطغيان والطغاة:
قال تعالى: ? إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)? (الفجر،آية:14). والآية وعيد للعصاة مطلقاً وقيل وعيد للكفرة وقيل وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم( ).
وفي تفسير القرطبي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به( ).
وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت أحد منهم من عقاب الله في الدنيا كما لا يفلت أحد منهم من عقاب الآخرة( ).
وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لايحابي أحداً قال تعالى في بيان المعتبرين بسنته في الطغاة بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء العقاب
? فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الأخِرَةِ وَالأولَى(25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى(26) ? (النازعات،آية:25،26)، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس مضت فيهم سنة الله.

7- سنة التدرج:
خضعت فتوح العراق وبلاد المشرق لسنة التدرج ـ فكانت المرحلة الأولى في عهد الصديق حيث تم فتح الحيرة بقيادة خالد بن الوليد ، وأما المرحلة الثانية فتبدأ من تولي أبي عبيد الثقفي قيادة لجيوش العراق حتى معركة البويب ـ وأما المرحلة الثالثة فتبدأ منذ تأمير سعد بن أبي وقاص على الجهاد في العراق إلى ما قبل وقعة نهاوند ، وتبدأ المرحلة الرابعة من وقعة نهاوند وأما المرحلة الخامسة فهي مرحلة الإنسياح في بلاد الأعاجم.
إن حركة الفتوحات يتعلم منها أبناء المسلمين أهمية مراعاة سنة التدرج في العمل للتمكين لدين الله ، ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويل ولذلك لا بد من فهم واستيعاب هذه السنة بالنسبة للعاملين في مجال الدعوة الإسلامية ، فالتمكين لدين الله في العراق وبلاد المشرق لم يتحقق بين عشية وضحاها ولكنه خضع بإرادة الله لهذه السنة.

8- سنة تغيير النفوس:
قال تعالى:? إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...?? (الرعد،آية:11)
وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فتوحات العراق وبلاد المشرق بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله
ـ فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله ? ـ فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة.

9- سنة الله في الذنوب والسيئات:
قال تعالى: ? أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(6) ? (الأنعام،آية: 6).
وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها والتي من أعظمها الكفر والشرك بالله وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب تهلك أصحابها وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم( )، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه .

رابعاً: الأحنف بن قيس يغير مجرى التاريخ:
كان عمر متمسكاً برأيه في الاقتصار على ما فتح من فارس ومنع جيوشه من التوغل في المشرق ولا سيما بعد أن انكسر الهرمزان وفتح المسلمون الأهواز.
فقال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم ،وقال لأهل الكوفة: وددت أن بينهم وبين الجبل جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم .
وفاوض عمر الوفد في هذا الأمر فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين أخبرك إنك نهيتنا عن الإنسياح في البلاد وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا وإن ملك فارس حيَّ بين أظهرهم وإنهم لا يزالون يساحلوننا مادام ملكهم فيهم ولم يجتمع ملكان فاتفقا - أي التقيا - حتى يخرج أحدهما صاحبه ـ وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً إلا بانبعاثهم وإن ملكهم هو الذي يبعثهم ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وغرامته ، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويُضربون جأشاً( ) .
فقال عمر للأحنف: صدقتني والله وشرحت لي الأمر على حقه.
وأذن عمر بالانسياح في بلاد فارس وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف،وعرف فضله وصدقه فساحوا في تلك البلاد ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ، ووزع بقية الألوية إلى الأبطال من قادة المجاهدين ، ورسم لهم خطة الحرب والتقدم ، ثم جعل يمدهم بالجيوش من ورائهم( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:51 pm

الفصل السابع
فتوح الشام ومصر وليبيا

المبحث الأول: فتوحات الشام:

كان أول خطاب وصل إلى الشام من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتولية أبي عبيدة على الشام وقد جاء فيه: أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله ? قد توفي فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق، والآخذ بالعرف، اللين الستير الوادع، السهل القريب الحكيم، ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى، وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته، والعمل بطاعته ما أحيانا، والحلول في جنته إذا توفانا، فإنه على كل شيء قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق، وقد وليتك جماعة المسلمين، فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام، وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تعري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره، ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه، وليكن فيمن تحتبس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه( )، وعند وصول الكتاب دعا أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأقرأه الكتاب، وقال حامل الرسالة: يا أبا عبيدة، إن عمر يقول لك أخبرني عن حال الناس، وعن خالد بن الوليد أي رجل هو؟ وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان، وعن عمرو بن العاص، وكيف هما في حالهما وهيئتهما ونصحهما للمسلمين وأجاب أبو عبيدة رسول عمر وكتب
أبو عبيدة ومعاذ بن جبل كتاباً واحداً إلى عمر جاء فيه: … من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليكم، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، وإنك يا عمر، أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد، أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والشريف والوضيع، والشديد والضعيف، ولكل عليك حق وحقّه من العدل فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نذكِّرك يوماً تُبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المُخبَّات، وتَعْنُو فيه الوجوه لملك قاهر، قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا والسلام عليك ورحمة الله( ).

• حوار بين خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما:
علم خالد بأمر عزله فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك؟ فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله، ثم قد كنت أعلمك إن شاء الله وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع وإنما نحن إخوان وُقوَّام بأمر الله عز وجل، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه، في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل وقليل
ما هم ودفع أبو عبيدة كتاب عمر إلى خالد( ).

• عمر رضي الله عنه يرد على رسالة أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما:
عندما وصل كتاب أبي عبيدة ومعاذ بواسطة شداد بن أوس بن ثابت بن أخي حسان بن ثابت الأنصاري ردّ عمر رضي الله عنه على كتابهما وجاء فيه: … فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربكما، وحظ أنفسكما، وغنيمة الأكياس( ) لأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغني كتابكما تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مُهمّ، فما يدريكما، وهذه تزكية منكما لي، وتذكران أني وليت أمر هذه الأمة، يقعد بين يديّ الشريف والوضيع والعدوّ والصديق، والقوي والضعيف، ولكلِّ حصته من العدل، وتسألانني كيف أنا عند ذلك، وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكتبتما تخوفاني يوماً هو آت، وذلك باختلاف الليل والنهار، فإنهما يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، حتى يأتيا بيوم القيامة، يوم تُبلى السرائر، وتكشف العورات، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالناس له داخرون، يخافون عقابه، وينتظرون قضاءه، يرجون رحمته. وذكرتما أنه بلغكما أنه يكون في هذا الأمة رجال يكونون إخوان العلانية، أعداء السريرة، فليس هذا بزمان ذلك، فإن ذلك يكون في آخر الزمان إذا كانت الرغبة والرهبة، رغبة الناس ورهبتهم، بعضهم إلى بعض. والله عز وجل قد ولاني أمركم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه وأن يحرسني عنه كما حرسني عن غيره، وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وَليت من خلافتكم من خُلُقي شيئاً إن شاء الله، وإنما العظة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم إن عمر قد تغير منذ وَلي، وإني أعقلُ الحق من نفسي وأتقدم، وأُبيِّن لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظُلم مظلمة، ليس بيني وبين أحد من المسلمين هوادة، وأنا حبيب إليّ صلاحكم عزيز عليّ عتبكم، وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على
ما يضيرني بنفسي إن شاء الله لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد ذلك إلا بالأمناء، وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم، إن شاء الله وأما سلطان الدنيا وإمارتها؛ فإن كل ما تريان يصير إلى زوال، وإنما نحن إخوان، فأينا أمَّ أخاه، أو كان عليه أميراً لم يَضُره ذلك في دينه ولا في دنياه، بل لعل الوالي أن يكون أقربهما إلى الفتنة وأوقعهما بالخطيئة إلا من عصم الله، وقليل ما هم( ).

أولاً: فتح دمشق:
تمثل الفتوحات في بلاد الشام في عهد عمر بن الخطاب المرحلة الثانية من الفتوحات في هذه الجبهة بعد الفتوح في عهد الصديق فبعد أن انتهت معركة اليرموك وانهزمت جموع الروم استخلف أبو عبيدة بن الجراح على اليرموك بشير بن كعب الحميري، وأتاه الخبر أن المنهزمين من الروم اجتمعوا بفحل، وأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فأصبح لا يدري أبدمشق يبدأ أم بفحل في بلاد الأردن، فكتب القائد أبو عبيدة بن الجراح إلى الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمره فأجابه: أما بعد، فابدأوا بدمشق فانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل، بخيل تكون بإزائهم في نحورهم وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق، فلينزل في دمشق من يمسك بها ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل فإن تم فتحها، فانصرف أنت وخالد إلى حمص وأمير كل بلد على جند حتى يخرجوا من أمارته( ).
ومن خلال أوامر الفاروق نلاحظ: أنه حدد مسؤولية قيادة العمليات، وبموجبه تم تطبيق مبدأ الاقتصاد بالجهد، فضلاً عن المرونة في التصرف إزاء الأهداف المطلوبة، كما يستنتج من هذه الأوامر أن الهدف الرئيس الأول هو دمشق مع توجيه قوة صغيرة لفحل، والهدف الرئيس الثاني هو فحل، لتوجيه الجيش كله لفتحها والهدف الثالث مدينة حمص، واستناداً إلى هذه التوجيهات أرسل أبو عبيدة بن الجراح وحدات قتالية إلى فحل وعلى قيادتها: أبو الأعور السلمي عامر بن حتمة، وعمرو بن كليب وعبد عمر بن يزيد بن عامر، وعمارة بن الصعق بن كعب، وصفي بن علية بن شامل، وعمر بن الحبيب بن عمر، ولبدة بن عامر، وبشير بن عصمة، عمارة بن مخشن وهو القائد لهذه المجموعات، وتوجهت إلى فحل( )، وانطلق أبو عبيدة نحو دمشق، ولم يلق أية مقاومة ذات أهمية تذكر، إذ أن الروم قد اعتمدوا على أهل البلاد في المنطقة قبل دمشق لإعاقة تقدم قوات المسلمين، إلا أن هؤلاء لم تكن لهم الحماسة والاستماتة للدفاع ويعود ذلك لسوء معاملة الروم لهم وخاصة لأهل القرى الصغيرة( )، ووصلت قوات المسلمين إلى (غوطة دمشق) التي فيها قصور الروم ومنازلهم، وشاهدوها خالية لأن أهلها هجروها إلى دمشق، وأرسل هرقل قوة من حمص لإمداد دمشق، وكانت تقدر بـ(500) خمسمائة مقاتل( )، وهي قوة قليلة مقارنة بما يتطلبه الموقف، إلا أن القوة الإسلامية التي وضعها أبو عبيدة بن الجراح شمال دمشق بقيادة (ذي الكلاع) تصدت لها، وجرى قتال عنيف بين الجانبين، انهزم فيه الروم( )، وناشد أهل دمشق هرقل الخلاص، فأرسل إليهم كتاباً يدعوهم إلى الثبات ويحرضهم على القتال
والمقاومة، ويعدهم بالمدد، فتقوت عزائمهم وجعلهم ذلك يصمدون للحصار وحركات القوات الإسلامية( ).

1
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:55 pm

- قوات الطرفين:

• القوات الرومية:
- القائد العام، هرقل.
- أمير دمشق، نسطاس بن نسطورس.
- قائد قوات دمشق، باهان الذي اشترك باليرموك وهرب منها واسمه ورديان.
- القوات العمومية للقوات الرومية في دمشق (60000) ستون ألف مقاتل، مع احتمال وصول تعزيزات إضافية من حمص (20000) عشرين ألف مقاتل لخط الدفاع و(40000) وأربعين ألف مقاتل للتعرض فالروم أقاموا في دمشق للاستفادة من الأبنية وحصونها وسورها وربما كانوا ينتظرون المدد ليقوموا بالتعرض.
- القوة الرومية في (فحل) تتألف من حاميتها ومن فلول جيش اليرموك الذي أثرت على معنوياتهم معركتها وفشلهم وهروبهم منها، فهم في فزع آخذ بنفوسهم.

• قوات المسلمين:
- القائد العام للقوات الإسلامية، عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- قائد مسارح العمليات في بلاد الشام، أبو عبيدة بن الجراح.
- بعث القائد أبو عبيدة بن الجراح بعشرة من قواده وفي مقدمتهم أبو الأعور السلمي مع حجم مناسب من القوات الإسلامية – لم تذكر المصادر تعداد هذه القوة – للسيطرة على طريق دمشق وحتى بيسان ومحلها معروف اليوم بخربة فحل( ).
- أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوات بقيادة (علقمة بن حكيم ومسروق) كل واحد بمحل الآخر باتجاه فلسطين، فأمن محور الحركات من الغرب والجنوب( ).
- أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوة بقيادة (ذي الكلاع) إلى شمال دمشق ليرابط على الطريق الذي يربطها مع حمص لحماية هذا الاتجاه ومنع وصول التعزيزات الرومية إلى دمشق( ).
- كان حجم القوات الإسلامية بعد اليرموك بحدود (40000) أربعين ألف مقاتل، وهذه القوات متماسكة التنظيم، وتمتاز بالروح المعنوية العالية بعد النصر في اليرموك( ).
- بلغ حجم القوات الإسلامية التي ضربت الحصار على دمشق بحدود (20000) عشرين ألف مقاتل، وباقي القوات أرسلت إلى فحل لتثبيت الجبهة هناك وبالإمكان عند الضرورة سحبها من فحل لتعزز قوة الحصار( ).

2- وصف مدينة دمشق:
كانت دمشق مدينة عظيمة سميت باسم بانيها (دمشاق بن كنعان) وقد خضعت لحكم مصر، الأسرة الثامنة عشر فهي أقدم المدن في التاريخ وكانت مركز عبادة الأوثان، ولما دخلت المسيحية جعلت من معبدها الوثني كنيسة لا يضاهيها بجمالها وجلالها إلا كنيسة إنطاكية وفي جنوب دمشق تقع أراضي البلقاء وشمالها الجولان، وهي أرض جبلية وأراضيها كلها زروع وغدران مياه، وهي مركز تجاري مهم يسكنها العرب، وكان المسلمون يعرفونها لأنهم يتاجرون معها، وقد كانت مدينة دمشق، مدينة محصنة، تمتاز بالمناعة، فلها سور يحيطها مبنى من الحجارة وارتفاعه ستة أمتار، وفيه أبواب منيعة، وعرض المبنى ثلاثة أمتار، وقد زاد هرقل من مناعته بعد الغزو الفارسي لها، والأبواب يحكم إغلاقها، ويحيط بالسور خندق عرضه ثلاثة أمتار، ونهر بردى يؤثر على الخندق بمياهه وطينه، فأصبحت دمشق قلعة حصينة ليس من السهل اقتحامها( )، وبذلك تظهر لنا الدفاعات الرومية ذات المتانة، والقوة، لحماية مدينة دمشق، إذ أن هذه الاستحكامات تعطينا الدلائل الآتية:

- لم تنشأ الدفاعات الميدانية حول دمشق على عجل، فهي دفاعات كانت مهيأة منذ مدة ليست بالقصيرة، لما لدمشق من أهمية استراتيجية، وخوف الروم من فقدانها واستيلاء الفرس عليها، وهذا يعني أن الجهد الهندسي الميداني الرومي قد عمل في ترتيب وتنظيم هذه الدفاعات بحرية مطلقة وبموارد هندسية مناسبة غير مطلوبة باتجاهات أخرى فضلاً عن تيسر الإمكانيات الهندسية لدى جيش الروم في هذا المجال.
- برزت الإبداعات الهندسية الرومية من خلال الموانع حول مدينة دمشق، فقد استفادت عناصر الهندسة العسكرية من طبيعة الأرض في إنشاء هذه المنظومة، وعلى الأخص توظيف نهر بردى بما يخدم ملء الخندق الذي يحيط بالمدينة، فضلاً عن الاستفادة الأخرى منه بجعله مانعاً طبيعياً يعوق حركة القطعات المهاجِمة على المدينة من اتجاهها الشمالي والشمال الشرقي.
- كانت ثقة القيادة الرومية بتحصينات مدينة دمشق كبيرة جداً الأمر الذي جعلها تجمع قواتها هناك وتتخذ الدفاع الموضوعي فيها، ريثما تتمكن القوات الرومية في حمص من جمع شتات أمرها والتعرض لجيش المسلمين، وهذا يعني أن الدفاعات الهندسية الميدانية قد تدخلت في إجبار القيادة الرومية على اتخاذ هذا الموقف الدفاعي، وبذلك أصبحت السبب المباشر في صنع القرار، وهذا مهم جداً في التعرف على مدى أهمية الهندسة العسكرية في الميدان.
- وعلى عكسه أجبرت الدفاعات الهندسية الميدانية جيش المسلمين على عدم التعرض لمدينة دمشق واقتحامها، إذ وقفت منظومة المانع الرومية عائقاً بوجههم فصارت خطة الجيش الإسلامي تقتضي فرض الحصار على المدينة.
- تقول المصادر التاريخية أن مدة حصار مدينة دمشق استمرت (70) ليلة، وكان الحصار شديداً، استخدمت فيه أسلحة الحصار الثقيلة، كالمجانيق والدبابات( ).

3- سير المعركة:
سار أبو عبيدة بن الجراح قاصداً دمشق متخذا تشكيل المسير الآتي:
- القلب: خالد بن الوليد.
- المجنبات: عمرو بن العاص وأبو عبيدة.
- الخيل: عياض بن غنم.
- الرجالة: شرحبيل بن حسنة.
ولما كان لسور دمشق أبواب لا يمكن الخروج والدخول للبلدة إلا بواسطتها، فقد نظم المسلمون قوة الحصار على الشكل الآتي:
- قطاع الباب الشرقي بقيادة خالد بن الوليد.
- قطاع باب الجابية بقيادة أبي عبيدة بن الجراح.
- قطاع باب توما بقيادة عمرو بن العاص.
- قطاع باب الفراديس بقيادة شرحبيل بن حسنة.
- قطاع الباب الصغير بقيادة يزيد بن أبي سفيان.

وقد ظن الروم بأن المسلمين لا يستطيعون أن يصمدوا أمام طول الحصار وخاصة في أيام الشتاء، إلا أن المسلمين أصحاب العقيدة الراسخة والصبر الجميل، صمدوا أمام تغيرات الطقس، فقد عمل قادة المسلمين على إشغال الكنائس المتروكة بالغوطة والمنازل الخالية من أهلها ليرتاح فيها المجاهدون، على وفق أسلوب أسبوعي تتبادل قوات الجبهة التي على الأبواب، مع قوات من الخلف وبهذا التنظيم يستمر الحصار مهما طال الزمن( ).
ولم يقف المسلمون عند هذا الحد، وإنّما استمرت استطلاعاتهم الميدانية والهندسية، لمنظومة الموانع المعادية، وتمكن خالد بن الوليد من انتخاب منطقة عبور ملائمة في هذه المنظومة، يمكن من خلالها اقتحام مدينة دمشق، فوقع الاختيار على أحسن مكان يحيط بدمشق وأكثره ماء وأشده مدخلاً( )، كما جهز حبالاً كهيئة السلاليم توضع على الجدران لتساعد على تسلق الأسوار، وقد علم خالد بن الوليد أن بطريق دمشق قد رزق بولد وجمع الناس في وليمة، فانشغل أفراد الروم بالأكل والشرب وأهملوا واجباتهم ومن ضمنها مراقبة الجبهة والأبواب فلما أمسى ذلك اليوم نهض خالد بن الوليد هو ومن معه من جنده الذي قدم عليهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وقالوا: إذا سمعتم تكبيراً على السور فارقوا إلينا واقصدوا الباب( ) وعبر خالد وجماعته الأولى الخندق المائي على عائمتين من القرب( )، ووصلوا السور، ورموا عليه الحبال التي هي بهيئة السلاليم، فلما ثبت لهم وهقان( ) تسلق فيها القعقاع ومذعور، ثم لم يدعوا أحبولة إلا أثبتاها، والأوهاق الشرف حتى إذا ارتفعوا نظموا السلاليم لتستفيد منها الجماعة الثانية، ثم انحدرت الجماعة الأولى من السور ونزلوا قرب الباب، فكثر الأفراد الذين مع خالد، فكبر أولاً من أعلى السور، فتسلقت الجماعة الثانية السور وتقدموا نحو الباب، فاقتحموه بسيوفهم وهكذا دخلت على هذا النحو قوات المسلمين إلى مدينة دمشق( ).

• أهم الفوائد والدروس والعبر:

- هل كان الفتح صلحاً أم عنوة؟
اختلف العلماء في دمشق هل فتحت صلحاً أو عنوة؟ فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح، لأنهم شكُّوا في المتقدم على الآخر، أفتِحَت عنوة ثم عَدَلَ الروم إلى المصالحة؟ أو فتحت صلحاً، أو اتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسراً؟ فلما شكُّوا في ذلك جعلوها صلحاً احتياطاً، وقيل بل جُعِلَ نصفها صلحاً، ونصفها عنوة، وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها وتركوا نصفها( )، والله أعلم.
- تاريخ فتحها:
قال ابن كثير: وظاهر سياق سيف بن عمر، يقتضي أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة، ولكن نصَّ سيف على ما نصّ عليه الجمهور من أنها وقعت في نصف رجب سنة أربعة عشرة( )، وقد ذكر خليفة بن خياط: أن أبا عبيدة حاصر الروم بدمشق في رجب وشعبان ورمضان وشوال وتم الصلح في ذي القعدة( )، والمهم أن فتحها كان بعد معركة اليرموك( ).
- تطبيقات لبعض مبادئ الحرب:
لم يخل فتح دمشق من تطبيقات مبادئ الحرب عند المسلمين فاشتملت على المباغتة، والمبادأة، وانتهاز الفرص وإبداعات القادة الميدانيين، وقد رأينا ما قام به خالد بن الوليد من استطلاع ومن انتخاب منطقة العبور الملائمة، كيف تغير الموقف، وانقلب من عملية حصار إلى عملية اقتحام وإذا ما قارنّا بين ما فعله خالد بن الوليد باستخدامه الحبال على هيئة سلاليم والاستفادة منها بتسلقه على سور دمشق، وبين ما فعله الجيش المصري في حرب تشرين عام 1973م على الجبهة المصرية عند عبوره خط بارليف الإسرائيلي واستخدامه الحبال على هيئة سلاليم أيضاً للوصول إلى المواضع الدفاعية المعادية، نجد أنه قد تم بالصيغة والأسلوب والأداة نفسها، والتي توضح لنا عبقرية المسلمين إبان الفتوحات الإسلامية، وما معاركنا الحديثة إلا امتداداً لهذا الإبداع والعبقرية( ).
- بعض ما قيل من الشعر في فتح دمشق:
قال القعقاع بن عمرو:
أقمنا على دار سليمان أشهراً
بخالد روما وقد حملنا بصارم( )

قصصنا إلى الباب الشرقي عنوة
فدان لنا مستسلماً كل قائم( )

أقول وقد دارت رحانا بدارهم
أقيموا لهم حر الورى بالغلاصم( )

فلما زأدنا في دمشق نحورهم
وتدمر عضوا منهما بالأباهم( )


• تمهيد الفتح بعد دمشق:
بعد فتح دمشق أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى البِقَاع( )، ففتح بالسيف، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون، وعلى الروم رجل يقال له (سنان) تحدّر على المسلمين من عَقَبة بيروت، فقتل من المسلمين يومئذ جماعة من الشهداء فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان وبعث يزيد دِحْيَة بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها وبعث
أبا الزهراء القشيري إلى البثنّية وحوران فصالح أهلها، وافتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبريَّة فإن أهلها صالحوه، وغلب خالد على أرض البقَاع، وصالحه أهل بعلبك وكتب لهم كتاباً.

ثانياً: وقعة فِحْل:
تحركت القوات المكلفة بمهاجمة مدينة (فحل) نحو الجنوب وعندما وصلت مشارفها كانت قوة جيش الروم تقارب المائة ألف، تسلل أكثرهم من حمص وانضمت إليهم القرى التي هزمت في معارك سابقة عندما وصلت القوة المكلفة بمحاصرة فحل من جيش المسلمين بقيادة عمار بن مخشن جابهها جيش الروم بشق الترع من بحيرة طبرية وسلطوا مياهها على الأطيان المحيطة بفحل بقصد إعاقة جيش الإسلام وخاصة الفرسان وهذا ما يستخدم في وقتنا الحاضر ضد الدروع وبذلك أعاقوا حركة فرسان المسلمين، لقد جعل الرومان من هذه الأوحال خطاً دفاعياً منيعاً عن فحل رغم أنها تقع في سهل منبسط ولو كان هذا السهل يابساً لتمكن المسلمون بسهولة من اقتحام المدينة لأنهم أقدر الناس على مباشرة حرب الصحراء، وتوقف عمارة بن مخشن ووزع قواته لحصار فحل ولم يقتحمها وذلك للفارق العددي الكبير في القوة ولصعوبة التقدم وعدم التمكّن من اجتياز هذا المانع المائي الذي عمله الرومان واقتصر المسلمون على فرض الحصار على مدينة فحل التي يعتصم بها الروم إلى أن فرغ أبو عبيدة من فتح دمشق العاصمة وضم جيشه إلى جيش أبي الأعور السلمي وأعاد أبوعبيدة تنظيم قواته على النحو التالي:

- المقدمة بقيادة خالد بن الوليد.
- الميمنة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح.
- الميسرة بقيادة عمرو بن العاص.
- الفرسان بقيادة ضرار بن الأزور.
- قيادة مجموعات المشاة عياض بن غنم.
- القيادة العامة لشرحبيل بن حسنة وذلك لأن موقع المعركة هو في حدود المنطقة التابعة له واستلم القيادة شرحبيل بن حسنة ثم نظم إقامة القوات وإمدادها ووضع مخططاً لاستنفار القوات وبقاء القوة جاهزة باستمرار لمواجهة الطوارئ وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة( )، وطال حصار المسلمين لمدينة فحل وظن الروم أن باستطاعتهم تحقيق المباغتة والقيام بهجوم ليلي حاسم وعلى الروم سقلاب بن مخراق فهجموا على المسلمين فنهضوا عليهم نهضة رجل واحد لأ نهم كانوا على أهبة دائمة ودارت معركة حتى الصباح وذلك اليوم بكامله إلى الليل فلما أظلم الليل فر الروم وقتل أميرهم وركب المسلمون أكتافهم واسلمتهم هزيمتهم إلى ذلك الوحل المانع الذي أعدوه للمسلمين ونتيجة للإجراءات الأمنية والاستعداد الذي قام به شرحبيل على قواته، حدثت الفوضى في جيش الرومان المهاجم والتفرغ للهجوم المضاد الذي شنه المسلمون فوقع الرومان لدى انهزامهم في المانع المائي الذي صنعوه بأيديهم حول فحل فركب المسلمون أكتافهم ولم ينجو منهم إلا الشريد، ولقد تمت تصفية القوة المحاصرة في فحل وعندها توجه المسلمون نحو أهدافهم لمتابعة خطة العمليات الأساسية فتم توجيه:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:58 pm

- شرحبيل بن حسنة إلى الأردن.
- عمرو بن العاص إلى فلسطين.
انطلق أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد إلى حمص وعند وصولهما إلى مرج الروم دارت معركة طاحنة حتى غطت جثث الموتى السهل وفي هذه المعركة تمكن المسلمون من تطبيق مبدأ مهم من مبادئ الحرب والعمليات التعرضية حيث اصطدمت مقدمة الروم بمقدمة المسلمين فعندما شعر (توذرا) باصطدام مقدمة جيشه بجيش المسلمين قام بحركة استدارة وانطلق في اتجاه دمشق وعلم المسلمون بالأمر ودرسوا الموقف فقرر
أبو عبيدة توجيه قوة بقيادة خالد بن الوليد لمطاردة (توذرا) والانقضاض عليه من الخلف وأبو عبيدة يبقى في مواجهة ومشاغلة جيش الروم في الوقت نفسه استطاعت استخبارات المسلمين من معرفة حركة واتجاه تقدم توذرا فتقدم جيش يزيد بن
أبي سفيان للقائه واشتبك معه وما أن تم الاصطدام بين توذرا وجيش يزيد حتى باغت خالد بن الوليد الروم بضربهم من الخلف وتمت تصفية توذرا تصفية كاملة تقريباً( ).
- مما قاله القعقاع بن عمرو في يوم فحل:

وغداة فحل قد رأوني معلماً
والخيل تنحط والبلا أطوار

ما زالت الخيل العراب تدوسهم
في يوم فحل والقنا موار( )

حتى رمين سراتهم عن أسرهم
في ردة ما بعدها استمرار( )

يوم الرداغ فعند فحل ساعة
خر الرماح عليهم مدار؟

ولقد أبدنا في الرداغ جموعهم
طراً ونحوي تبسم الأبصار

وقال أيضاً:

وغداة فحل قد شهدنا مأقطاً
ينسى الكمي سلاحه في الدار( )

ما زلت أرميهم بقرحة كامل
كر المبيح ريانة الأبسار( )

حتى فضضنا جمعهم بترس
ينفي العدو إذا سما جرار( )

نحن الأولى جسوا العراق بتردس
والشام جساً في ذرى الأسفار( )



ثالثاً: فتح بيسان وطبريّة:
انصرف أبو عبيدة وخالد بمن معهما من الجيوش نحو حمص كما أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل بن حسنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص، فحاصر بَيْسَان فخرجوا إليه فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم صالحوه على مثل ما صالحت عليه دمشق، وضرب عليهم الجزية، والخراج على أراضيهم، وكذلك فعل أبو الأعور السلمي بأهل طبرية سواء( ).

رابعاً: وقعة حِمْص سنة 15هـ:
واصل أبو عبيدة تتبعه للروم المنهزمين إلى حمص، ونزل حولها يحاصرها، ولحقه خالد بن الوليد، فحاصروها حصاراً شديداً، وذلك في زمن البرد الشديد، وصابر أهل البلد رجاء أن يصرف المسلمين عن المدينة شدة البرد، وَصَبَر الصحابة صبراً عظيماً بحيث إنه ذكر غير واحد أن من الروم من كان يرجع، وقد سقطت رجله وهي في الخف، والصحابة ليس في أرجلهم شيء سوى النعال، ومع هذا لم يصب منهم قدم ولا إصبع، ولم يزالوا كذلك حتى انسلخ فصل الشتاء فاشتد الحصار، وأشار بعض كبار أهل حمص عليهم بالمصالحة فأبوا عليه ذلك وقالوا: أنصالح والمَلِك منا قريب؟ فيقال إن الصحابة كبروا في بعض الأيام تكبيرة ارتجت منها المدينة ووقعت زلزلة تفطرت منها بعض الجدران ثم تكبيرة أخرى فسقطت بعض الدور، فجاءت عامتهم إلى خاصتهم فقالوا: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا، وما نحن فيه؟ ألا تصالحون القوم عنا؟ قال: فصالحوهم على ما صالحوا عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرْبِ الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرقاب بحسب الغنى والفقر، وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى عمر مع عبد الله بن مسعود وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشاً كثيفاً يكون بها مع جماعة من الأمراء منهم بلال، والمقداد، وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بأن هرقل قد قطع الماء( ) عن الجزيرة وأنه يظهر تارة ويخفى أخرى فبعث إليه عمر يأمره بالمقام ببلده( ).

خامساً: وقعة قنَّسرين سنة 15هـ:
بعث أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قِنّسرين( )، فلما جاءها ثار إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالد فيها قتالاً شديداً وقتل منهم خلقاً كثيراً، فأما من هناك من الروم فأبادهم وقتل أميرهم ميناس، وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا فقبل منهم خالد وكف عنهم، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه، فقال لهم خالد: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه، فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الموقعة قال: يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني، والله إني لم أعزله عن ريبة ولكن خشيت أن يوكل الناس إليه( ).

سادساً: وقعة قِيسارية سنة 15هـ:
وفي هذه السنة أمّر عمر معاوية بن أبي سفيان على قيْسارية( ) وكتب إليه: أما بعد فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير، فسار إليها فحاصرها، وزاحفه أهلها مرات عديدة، وكان آخرها وَقْعَةَ أن قاتلوا قتالاً عظيماً، وصمم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتى فتح الله عليه فما انفصل الحال حتى قتل منهم نحوٌ من ثمانين ألفاً، وكمَّل المائة الألف من الذين انهزموا عن المعركة وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه( ) هذا ويرى الدكتور عبد الرحمن الشجاع أن مدن الشام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى، لأن الروم كانوا من الهزيمة بمكان لا تجعلهم يفكرون في المقاومة فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللد، وحلب، وإنطاكية وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان وكان ذلك بعد فتح القدس( ).

سابعاً: فتح القدس: 16هـ:
كان على فلسطين قائدٌ رومانيٌ دعى (الأرطبون) أي القائد الكبير الذي يلي الإمبراطور وكان هذا أدهى الروم وأبعدها غوراً وأنكاها فعلاً، وكان قد وضع بالرملة جنداً عظيماً، وبإيلياء جنداً عظيماً( )، وكتب عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنهما، يخبره بذلك، ويستشيره ويستأمره، فقال عمر كلمته الشهيرة: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عما تنفرج ( ) وكان يقصد بذلك، أن كلا القائدين أدهى الرجال في قومهما، وكانت معركة أجنادين الثانية (15هـ) التي انتصر فيها عمرو على الروم قد مهدت الطريق إلى فلسطين( )، وقد بدأت معركة القدس عملياً، قبل معركة أجنادين الثانية (15هـ) ذلك أن أرطبون الروم كان قد وزع (جنداً عظيماً) له في كل من إيلياء والرملة كما سبق أن قدمنا وبين الرملة وإيلياء أي القدس، ثمانية عشر ميلاً، وذلك تحسباً لأي هجوم من قبل المسلمين، بقيادة عمرو بن العاص، على المدينتين اللتين كانتا أهم مدن (كورة فلسطين)، إذ كانت الرملة (قصبة فلسطين)، وكانت إيلياء أكبر مدنها( )، وكان على الروم في إيليا حاكمها الأرطبون وهو الأرطبون نفسه الذي كان قد لجأ وفلول جيشه إليها بعد هزيمتهم في أجنادين، وكان عليهم في الرملة التذارق( ) وهذه أهم المراحل التي مرّ بها المسلمون عند فتحهم للقدس.

1- المشاغلة:
كانت خطة الخليفة عمر أن يشغل الروم عن عمرو في فلسطين ريثما يتم الانتصار على حشودهم في أجنادين، حتى يتفرغ المسلمون بعدها لفتح القدس وما تبقى من بلاد الشام، فأمر معاوية أن يتوجه بخيله إلى قيسارية ليشغل حاميتها عن عمرو وأما عمرو فكان قد اعتمد الخطة نفسها التي اعتمدها الخليفة، فأرسل كلاً من علقمة بن حكيم الفراسيّ، ومسروق بن فلان المكيّ على رأس قوة لمشاغلة حامية الروم في إيلياء، فصاروا بإزاء أهل إيلياء، فشغلوهم عن عمرو( )، ثم أرسل أبا أيوب المالكي على رأس قوة أخرى لمشاغلة حاميتهم في الرملة، وما إن وصلت الإمدادات إلى عمرو حتى أرسل محمد بن عمرو مع مدد لقواته المرابطة في مواجهة حامية إيلياء، كما أرسل عمارة بن عمرو بن أمية الضمري مع مدد لقواته المرابطة في مواجهة حامية الرملة، أما هو فأقام في أجنادين بانتظار المعركة الحاسمة مع الأرطبون وفي هذه الأثناء كانت حامية إيلياء تصد المسلمين عن أسوارها، وكان القتال يستعر حول المدينة المقدسة بينما كان المسلمون والروم يحتشدون للقتال في أجنادين وكانت معركة أجنادين عنيفة( )، إذ يقول الطبري فيها: اقتتلوا – أي المسلمون والروم – قتالاً شديداً كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم( )، فقد نازل أرطبون العرب أرطبون الروم في أجنادين فهزمه، وارتدّ أرطبون الروم وجنده ليحتموا بأسوار المدينة المقدسة فأفرج له المسلمون حتى دخلها( )، ويذكر الطبري أن كلاً من علقمة ومسروق ومحمد بن عمرو وأبي أيوب التحقوا بعمرو في أجنادين، وسار عمرو بجيشه جميعاً نحو إيلياء لمحاصرتها( ).
اجتمع المسلمون، بقيادة عمرو بن العاص حول إيلياء، وضرب عمرو على المدينة حصاراً شديداً، وكانت المدينة حصينة ومنيعة، ويصف الواقدي أسوار المدينة بأنها كانت محصنة بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخرة ويذكر أن القتال بدأ بعد ثلاثة أيام من الحصار، حيث تقدم المسلمون نحو أسوار المدينة فأمطرتهم حاميتها بوابل من السهام والنبال التي كان المسلمون يتلقونها (بدرقهم) وكان القتال يمتد من الصباح إلى غروب الشمس واستمر على هذا المنوال عدة أيام، حتى كان اليوم الحادي عشر إذ أقبل أبو عبيدة على المسلمين ومعه خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومعهم فرسان المسلمين وأبطال الموحدين( ) مما ألقى الجزع في قلوب أهل إيلياء، واستمر الحصار أربعة اشهر، ما من يوم إلا وجرى فيه قتال شديد (والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر( )، إلى أن يئس الروم من مقاومة حصار المسلمين لمدينتهم، فقرر بطريقهم (البطريق صفرونيوس) القيام بمحاولة أخيرة، وكتب إلى عمرو بن العاص، قائد جيش المسلمين، رسالة يغريه فيها بفك الحصار نظراً لاستحالة احتلال المدينة( ).

3- الاستسلام :
كتب أرطبون الروم إلى عمرو بن العاص يقول له: إنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين، فارجع ولاتُغرِه فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة( )، فكتب إليه عمرو كتاباً يقول فيه إنه (صاحب فتح هذه البلاد)، وأرسل الكتاب مع رسول وأمره أن ينقل إليه رد الأرطبون، فلما قرأ الأرطبون كتاب عمرو ضحك مما جاء فيه وقال إن صاحب فتح بيت المقدس هو رجل اسمه (عمر)، ونقل الرسول إلى عمرو ما سمعه من الأرطبون، فعرف عمرو أن الرجل الذي يعنيه الأرطبون هو الخليفة( )، فكتب إلى الخليفة يخبره بما جاء على لسان الأرطبون أنه لا يفتح المدينة إلا هو، ويستمده، ويستشيره قائلاً إني أعالج حرباً كؤوداً صدوماً وبلاداً ادُّخرت لك، فرأيك( )، فخرج الخليفة – بعد الاستشارة – في مدد من الجند، إلى الشام، بعد أن استخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونزل بالجابية، فجاءه أهل إيلياء (فصالحوه على الجزية، وفتحوها له) ( ).

4- اختلاف الروايات فيمن حاصر القدس والتحقيق فيها:
روى الطبري أكثر من رواية في حصار القدس وقد ذكرت أن الذي حاصرها هو عمرو بن العاص وذكر رواية أخرى قال فيها: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلبت أهلها منه أن يصالحهم على صلح مدن أهل الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب إليه ذلك، فسار عن المدينة بعد أن استخلف عليها (علياً)، وخرج (ممداً لهم) أي لعسكر الشام ويروي ابن الأثير روايتين مماثلتين لروايتي الطبري، بل متشابهتين في النص إلى حد كبير( )، وينسب الواقدي حصار القدس وما جرى خلاله من تشاور مع الخليفة عمر رضي الله عنه ومن تفاوض مع حاميتها الرومية، إلى أبي عبيدة، فيذكر أن أبا عبيدة سرّح إلى بيت المقدس خمسة وثلاثين ألف مقاتل بقيادة سبعة قادة، مع كل قائد خمسة آلاف، وهم: خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، والمرقال بن هاشم بن أبي وقاص، والمسيّب بن نجيه الفزاري، وقيس بن هبيرة المرادي، وعروة بن المهلل بن يزيد، سرّحهم في سبعة أيام، كل يوم قائد، ثم لحق بهم بعد أن نشب القتال، عدة أيام، بينهم وبين حامية المدينة( )، ويستطرد الواقدي فيقول إن أهل إيلياء جاءوا إلى أبي عبيدة يعرضون عليه دخول المدينة صلحاً، على أن يتم الصلح على يدي خليفة المسلمين عمر، ثم يذكر رواية مشابهة لتلك التي رواها كل من الطبري وابن الأثير ويضيف أن أبا عبيدة كتب إلى الخليفة يخبره بما جرى، فسار الخليفة إلى بيت المقدس ونزل عند أسوار المدينة، فخرج إليه بطريقها وتعرف إليه وقال: هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا ومن يكون فتح بلادنا على يديه( ). ثم عاد إلى قومه يخبرهم فخرجوا مسرعين وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار، ففتحوا الباب، وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية( )، ونحن نستبعد رواية الواقدي هذه، لاعتقادنا أنه، بينما كان عمرو بن العاص يحاصر القدس، كان رفاقه من قادة المسلمين، بعد اليرموك ودمشق وفحل، يجوبون أنحاء بلاد الشام غانمين منتصرين، فيحتل
أبو عبيدة، ومعه خالد بن الوليد، حمص وحماة وقنسرين وحلب، ثم يسلك طريق الساحل الشامي جنوباً فيستولي على إنطاكية واللاذقية وعرقة. ويحتل يزيد بن
أبي سفيان الساحل، جنوباً من بيروت إلى صيدا، وشمالا من عسقلان إلى صور( )، ولكن البلاذري يذكر، في رواية له، أن عمرو بن العاص هو الذي حاصر القدس، بعد أن فتح رفح، وأن أبا عبيدة (قدم عليه.. بعد أن فتح قنسرين ونواحيها وذلك في سنة 16، وهو محاصر إيلياء، وإيلياء مدينة بيت المقدس( )، وأن أهل إيلياء طلبوا من أبي عبيدة (الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام) على أن يتولى العقد لهم عمر بن الخطاب نفسه، وقد كتب أبو عبيدة إلى الخليفة بذلك، فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق، ثم صار إلى إيلياء، فأنفذ صلح أهلها وكتب به، وكان فتح إيلياء في سنة 17هـ، ويضيف البلاذري بعد ذلك: وقد روي في فتح إيلياء وجه آخر( )، ومع أننا نرجح الرواية الأولى التي أوردها الطبري وهي أن حصار القدس تمّ على يد عمرو بن العاص، وليس على يد
أبي عبيدة فنحن نرى أنه لم يكن صعباً على أبي عبيدة أن يلتحق بالخليفة عمر في الجابية للتشاور معه حول أمور الفتح باعتباره القائد العام لجيوش المسلمين في الشام، وخصوصاً عندما نعلم أن أبا عبيدة كان ثاني من لقي بعد الخليفة يزيد حين وصوله إلى الجابية واستدعائه لسائر أمراء الأجناد في الشام( )، للتشاور، وأن
أبا عبيدة حضر، مع يزيد وشرحبيل وكبار قادة المسلمين في الشام، عقد الصلح والأمان، وتسليم المدينة( ). إلا أنه لم يشهد على هذا العقد كما شهد عليه كل من عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن الوليد كما يستدل من نص المعاهدة نفسها وليس لدينا أي تفسير لذلك سوى أن
أبا عبيدة لم يكن قائد الجيش الذي حاصر المدينة المستسلمة، بل هو عمرو( ).

5- نص المعاهدة:
وفيما يلي نص المعاهدة كما أوردها الطبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يُضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوت (اللصوص) فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلّي بِيَعهم وصُلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصُلُبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان؛ فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشر( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 10:58 pm

أهم الدروس والعبر والفوائد:

أ- موقف فدائي لواثلة بن الأسقع رضي الله عنه: قال واثلة: .. فأسمع صرير باب الجابية – وهو واحد من أبواب دمشق – فمكثت فإذا بخيل عظيمة فأمهلتها، ثم حملت عليهم وكبّرت فظنوا أنهم أحيط بهم، فانهزموا إلى البلد، وأسلموا عظيمهم – يعني قائدهم – فدعسته بالرمح وألقيته عن برذونه، وضربت يدي على عنان البرذون وركضت، والتفتوا فلما رأوني وحدي تبعوني فدعست فارساً بالرمح فقتلته، ثم دنا آخر فقتلته، ثم جئت خالد بن الوليد فأخبرته وإذا عنده عظيم من الروم يلتمس الأمان لأهل دمشق( ).
ب- سفارة معاذ بن جبل إلى الروم قبيل (موقعة فحل):
بعد مناوشات بين المسلمين والروم، قبيل موقعة فحل، أرسل الروم إلى المسلمين أن ابعثوا إلينا رجلاً، نسأله عما تريدون وما تسألونه وما تدعون إليه ونخبره بما نريد. فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل الأنصاري مفاوضاً وسفيراً عن المسلمين، فاستعد الروم لاستقباله، وأظهروا أجمل ما عندهم من الزينة، وأنفذ ما عندهم من الأسلحة: وفرشوا الأرض بأثمن البسط والنمارق التي تكاد تخطف الأبصار، ليفتنوا معاذا عما جاء له أو يرهبوه ويفتوا في عضده ففاجأهم بتعاليه عن زينتهم، ورفضه لكل أشكال المغريات، وبشدة تواضعه وزهده، بل اغتنم ذلك الموقف لاستخدامه سلاحاً ضد الروم، فأمسك بعنان فرسه، وأبى أن يعطيه لغلام من الروم،
وأبى الجلوس على ما أعدوه لاستقباله وقال لهم لا أجلس على هذه النمارق التي استأثرتم بها على ضعفائكم.. وجلس على الأرض.. وقال إنما أنا عبد من عباد الله أجلس على بساط الله، ولا أستأثر بشيء من مال الله على إخواني( )، ودار بينهم حوار سألوه فيه عن الإسلام فأجابهم، وسألوه عن نبي الله عيسى عليه السلام فقرأ عليه قوله تعالى:? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(59) ? (آل عمران،،آية:59).وأوضح لهم ما يريد منهم المسلمون، وقرأ عليهم قوله تعالى: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ? (التوبة،آية:123). وقالوا له إن سبب انتصار المسلمين على الفرس هو موت ملكهم، وإن ملك الروم حي وجنوده لا تحصى، فقال لهم إن كان ملككم هرقل، فإن ملكنا الله وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب الله وسنة نبينا أقررناه، وإن غير عزلناه، ولا يحتجب عنا ولا يتكبر ولا يستأثر علينا( )، وأما عن كثرتهم فقد قرأ عليهم قوله تعالى: ? كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) ? (البقرة،آية:249). ولما فشل الروم في التأثير في معاذ أو النيل منه، فيما أعدوه من بهارج وخيلاء، عادوا إلى الواقع يعرضون عليه الصلح، وأن يعطوا المسلمين البلقاء وما والاها فأعلمهم معاذاً أنه ليس أمامهم إلا الإسلام أو الجزية، أو الحرب، فغضبوا وقالوا اذهب إلى أصحابك، إنا لنرجو أن نقرنكم في الحبال. فقال معاذ: أما الحبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون، ثم انصرف( )، وهكذا ظهر معاذ في هذه السفارة شخصية سياسية عسكرية، وداعية إلى الإسلام يواجه حجج خصومه، ويوجه إليهم النقد اللاذع، مظهراً عيوبهم واستئثارهم على رعيتهم، ويذكرهم بتعاليم دينهم، ويدعوهم إلى الإسلام، أما تهويلهم وحربهم النفسية فيرد عليها بالواقع
لا بالتهويل والتخويف، ثم يعود إلى قيادته التي أقرت كل ما قام به وما قاله للروم( )، وقد كان المسلمون يدعون خصومهم للإسلام قبل القتال.

ج- موقف لعبادة بن الصامت في فتح قيسارِية:
كان عبادة بن الصامت على ميمنة جيش المسلمين في حصار قيسارية، فقام رضي الله عنه بوعظ جنده ودعاهم إلى تفقد أنفسهم، والحيطة من المعاصي ثم قاد هجوماً قتل فيه كثيراً من الروم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، فعاد إلى موقعه الذي انطلق منه، فحرض أصحابه على القتال، وأبدى لهم استغرابه الشديد لعدم تحقيق أهداف ذلك الهجوم فقال: يا أهل الإسلام إني كنت من أحدث النقباء سناً وأبعدهم أجلاً وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم.. والذي نفسي بيده ما حملت قط في جماعة من المؤمنين على جماعة من المشركين، إلا خلوا لنا الساحة وأعطانا الله عليهم الظفر فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم؟( ) ثم بين لهم ما يخشاه منهم فقال: إني والله لخائف عليكم خصلتين، أن تكونوا قد غُللتم، أولم تناصحوا الله في حملتكم عليهم( )، وحث أصحابه على طلب الشهادة بصدق، وأعلمهم أنه سيكون في مقدمتهم وأنه لن يعود إلى مكانه، إلا أن يفتح الله عليه أو يرزقه الشهادة( )، فلما التحم المسلمون والروم، ترجل عبادة عن جواده، وأخذ راجلاً فلما رآه عمير بن سعد الأنصاري نادى المسلمين يعلمهم بما فعل أميرهم ويدعوهم إلى الاقتداء به فقاتلوا الروم حتى هزموهم و(أحجروهم في حصنهم) ( ).

د- أم حكيم بنت الحارث بن هشام في معركة مرج الصُّفر:
كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فقتل عنها في معارك الشام( )، فاعتدت أربعة أشهر وعشراً، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها يعرض لها في خطبتها، فخطبت إلى خالد بن سعيد، فتزوجها، فلما نزل المسلمون مرج صفر–وكان خالد قد شهد أجنادين وفِحل ومرج الصفر– أراد أن يعرّس بأم حكيم فجعلت تقول: لو أخرت الدخول حتى يفضّى الله هذه الجموع، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم. قالت: فدونك، فأعرس بها عند القنطرة التي بالصفر، فبها سميت قنطرة أم حكيم، وأولم عليها، فدعا أصحابه إلى طعام، فما فرغوا من الطعام حتى صفت الروم صفوفها وبرز خالد بن سعيد فقاتل فقتل وشدت أم حكيم عليها ثيابها وتبدت، وإن عليها أثر الخلوق فاقتتلوا أشد القتال على النهر، وصبر الفريقان جميعاً، وأخذ السيوف بعضها بعضاً، وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد معرساً بها( ).

هـ- قيصر ملك الروم يودع الشام :
في السنة الخامسة عشرة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن الشام إلى بلاد الروم( ) وقيل في سنة ست عشرة( )، وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: عليك السلام يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطراً وهو عائد؛ فلما عزم على الرحيل من الشام وبلغ الرُّها( )، طلب من أهلها أن يصحبوه إلى الروم فقالوا: إن بقاءنا هاهنا أنفع لك من رحيلنا معك، فتركهم؛ فلما وصل إلى شِمْشَاط( ) وعلا على شرف هنالك التفت إلى نحو بيت المقدس وقال: عليك السلام يا سورية سلاماً لا اجتماع بعده( )، ثم سار هرقل حتى نزل القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلاً ممن اتبعه، كان قد أُسِرَ مع المسلمين، فقال أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم. هم فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقضون على من حاربوه حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين( ).

و- إن الله أعزَّكم بالإسلام:
لما قدم عمر رضي الله عنه الشام راكباً على حماره ورجلاه من جانب قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، الآن يتلقاك عظماء الناس فقال عمر رضي الله عنه: إن الله أعزّكم بالإسلام، فمهما طلبتم العزّ في غيره أذلكم( ).

ز- من خطبته بالجابية لما وصل الشام:
خطب عمر رضي الله عنه بالجابية، فقال: إن رسول الله ? قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئُ قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يُسْتَحْلَف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يُستشهد، فمن أحب منكم أن ينال بُحْبُوحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن كان منكم تسرُّه حسنته وتسوؤه سيئته فهو مؤمن( ).

ح- غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة:
لما قدم عمر الشام قال لأبي عبيدة رضي الله عنه: اذهب بنا إلى منزلك، قال:
وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك عليّ، قال: فدخل فلم ير شيئاً، قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لَبَداً وصحفة وشناً( )، وأنت أمير أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة( )، فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك إنك ستعصر عينيك عليّ، يا أمير المؤمنين يكفيك ما يُبلغُك المقيل، قال عمر: غيَّرتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة( ) وعلق الذهبي على هذه الحادثة فقال: وهذا والله هو الزهد الخالص لا زهد من كان فقيراً معدماً( )، وجاء في رواية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قدم عمر –رضي الله عنه- الشام، فتلقاه أمراء الأجناد، وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح، قالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقة مخطومة بحبل فسلم، عليه، فسأله ثم قال للناس: انصرفوا عنا فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه، وترسه، ورحله( )…

ط- تعليق على نص معاهدة أهل بيت المقدس:
إن كتاب الصلح الذي أبرمه عمر رضي الله عنه يشهد شهادة حق بأن الإسلام دين تسامح وليس دين إكراه وهو شاهد عدل بأن المسلمين عاملوا النصارى الموجودين في القدس معاملة لم تخطر على بالهم إن عمر وهو الفاتح كان يستطيع أن يفرض عليهم ما يشاء، وأن يجبرهم على ما يريد، ولكنه لم يفعل لأنه كان يمثل الإسلام، والإسلام لا يكره أحداً على الدخول فيه ولا يقبل من أحد إيماناً إلا عن طواعية وإذعان، إن الإيمان ليس شيئاً يجبر عليه الناس لأنه من عمل القلوب، والقلوب لا يعلم مخبآتها إلا الله سبحانه فقد يريك الإنسان أنه مؤمن وليس كذلك وتكون مضرته لأهل الإيمان أكثر ممن يجاهرون بالكفر والإلحاد ولهذا آثر المسلمون أن يعطوا الناس حرية العبادة، ويؤمنوهم على كل عزيز لديهم على أن يعيشوا في كنف المسلمين، ويؤدوا الجزية مقابل حمايتهم والذود عنهم، وفي ظلال الحياة الهادئة الوديعة وفي رحاب الصلات والجوار، وفي كنف المسلمين وعدالتهم سيرى غير المسلمين عن قرب جمال الإسلام وسماحته وإنصافه وعدالته وسَيَرون فيه الحقائق التي قد عميت عليهم لبعدهم عنه، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما حدث في كل البلاد التي فتحها المسلمون، وأعطوا أهلها مثل هذا الأمان( ).

ي- عمر رضي الله عنه يصلي في المسجد الأقصى:
قال أبو سلمة حدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن اخذت عنّي، صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلُّها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية،
لا ولكن أصلي حيث صلّى رسول الله ?، فتقدم إلى القبلة فصلّى، ثم جاء فبسط ردائه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس( ) وقال ابن تيمية: المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد.. وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلّى الذي بناه عمر بن الخطاب في مُقَدّمه، والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين، أفضل من الصلاة في سائر المسجد، فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس، وكان على الصخرة زبالة عظيمة، لأنَّ النصارى كانوا يقصدون إهانتها، مقابلة لليهود الذي يصلّون إليها، فأمر عمر بإزالة النجاسة عنها. وقال كعب: أين ترى أن نبني مصلى للمسلمين؛ فقال: خَلْفَ الصخرة، فقال: يا ابن اليهودية: خالطت اليهودية بل أبنيه أمامها، فإنّ لنا صدور المساجد( ).
وهذا موقف آخر جليل وعظيم من مواقف أمير المؤمنين التي لا تحصى، والتي برهن فيها عملياً على أن الإسلام يحترم جميع الأديان السماوية ويجعل كل المقدسات محترمة ولا يختصر شيئاً منها، إن هذه الصخرة التي أزال عنها عمر التراب والأوساخ بيده وحملها في قبائه لينفيها عنها هي قبلة اليهود والصخرة المعظمة عندهم التي كلم الله عليها يعقوب عليه السلام كما يعتقدون، فكما كان موقف عمر من النصارى رائعاً وجليلاً حين منحهم حرية الاعتقاد وأمنهم على صلبانهم وكنائسهم لم يضن على اليهود مع ما ارتكبوه في حق المسلمين من الجرائم بمثل هذا الموقف الرائع الجليل، حيث رفع التراب عن الصخرة، وأظهر عنايته بها وحرصه على احترامها( ).

- محاولة الرومان احتلال حمص من جديد:
قدمت عيون أبي عبيدة فأخبروه بجمع الروم وخطاب هرقل فيهم وسيرهم إليه، ورأى أبو عبيدة ألا يكتم جنوده الخبر، فدعا رؤوس المسلمين وذوي الهيئة والصلاح منهم ليستشيرهم ويسمع رأي جماعتهم( )، فكان رأي معاذ بن جبل الأنصاري، عدم الانسحاب وقال: هل يلتمس الروم من عدوهم أمراً أضر لهم مما تريدون بأنفسكم تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم، وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم.. أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لَتُكابدنَّ من ذلك مشقة فقال أبو عبيدة صدق والله وبرّ( )، ولكن الأحداث سارت على غير هذا الاتجاه، فأعاد المسلمون ما جبوه من أهل حمص فقد أمر أبو عبيدة حبيب بن مسلمة وقال له: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد، ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذ لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئاً، وقال لهم نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم أنا كرهنا أن نأخذ بأموالكم ولا نمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأراضي ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا ثم نلقي عدونا فنقاتلهم فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم إلا أن لا تطلبوا ذلك وأصبح الصباح فأمر
أبو عبيدة برحيل جيش المسلمين إلى دمشق، واستدعى حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذ منهم الجزية فرد عليهم مالهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل حمص يقولون: ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم( ).
وأرسل أبو عبيدة سفيان بن عوف إلى عمر ليلة غدا من حمص إلى دمشق، وقال إئت أمير المؤمنين فأبلغه عني السلام، وأخبره بما قد رأيت وعاينت وبما قد جاءتنا به العيون، وبما استقر عندك من كثرة العدو، وبالذي رأى المسلمون من التنحي عنهم، وكتب معه: أما بعد، فإن عيوني قدمت عليّ من أرض عدونا، من القرية التي فيها ملك الروم، فحدثوني بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه لأمة قط كانت قبلنا، وقد دعوت المسلمين وأخبرتهم الخبر واستشرتهم في الرأي، فأجمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك، وقد بعثت إليك رجلاً عنده علم ما قبلنا فسله عما بدا لك فإنه بذلك عليم وهو عندنا أمين، ونستعين بالله العزيز العليم وهو حسبنا ونعم الوكيل( ).

- الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لنجدة أبي عبيدة رضي الله عنه:
لما بلغ الخبر عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو، وسرِّحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وكان عمر قد أعد خيولاً احتياطية في كل بلد استعداداً للحروب المفاجئة، فكان في الكوفة أربعة آلاف فرس، فجهز سعد عليها الجيش الذي أرسله إلى الشام، وكتب عمر أيضاً إلى سعد: أن سرِّح سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند، ولْيَأت (الرَّقَّة)، فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وإن أهل (قَرْقِيسياء) لهم سلف، وسرّح عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى (نصيبين) فإن أهل قرقيسياء لهم سلف ثم لينْفُضا( ) حرَّان والرَّها، وسرِّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وسرح عياضاً، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعاً إلى عياض بن غَنْم، فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص، وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة فأخذوا طريقهم نحو الأهداف التي وجهوا إليها، وخرج أمير المؤمنين عمر من المدينة مغيثاً لأبي عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية وعلم أهل الجزيرة الذين اشتركوا مع الروم في حصار أهل حمص بخروج الجيوش من العراق، ولا يدرون هل مقصدهم حمص أم بلادهم في الجزيرة فتفرقوا إلى بلدانهم وإخوانهم، وتركوا الروم يواجهون المعركة وحدهم ولما رأى أبو عبيدة أن أنصار الروم من أهل الجزيرة قد انفضوا عنهم، استشار خالداً في الخروج إليهم وقتالهم فأشار عليه بذلك، فخرجوا إليهم وقاتلوهم وفتح الله عليهم، وقدم القعقاع بن عمرو ومن معه من أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من المعركة وقدم أمير المؤمنين بالجابية، فكتبوا إليه بالفتح وبقدوم المدد عليهم بعد ثلاثة أيام من الفتح وبالحكم في ذلك، فكتب إليهم أن شركوهم فإنهم قد نفروا لكم وقد تفرق لهم عدوكم( )، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيراً يكفون حوزتهم ويُمِدّون أهل الأمصار( ).
حينما نتأمل هذه الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لإرباك الأعداء وتفريقهم نرى عبقرية الفاروق العسكرية، فقد أمر ببعث جيش سريع من الكوفة إلى حمص ليقوم بعملية الإنقاذ وخرج هو بجيش من المدينة، وهذا كله يبدو أمراً معتاداً، ولكن الأمر الذي يثير الإعجاب هو ما قام به من الأمر ببعث الجيوش إلى بلاد المحاربين ليضطرهم إلى ترك ميدان القتال والتفرق إلى بلادهم لحمايتها، وقد نجحت هذه الخطة حيث تفرقوا فهان على المسلمين القضاء على الروم( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:00 pm

• فتح الجزيرة: 17هـ:
تقدم لنا أن الروم وأهل بلاد الجزيرة أغاروا على مدينة حمص وحصروا فيها
أبا عبيدة رضي الله عنه والمسلمين وأن عمر رضي الله عنه أرسل إلى سعد بن
أبي وقاص رضي الله عنه يأمره بإمداد أهل حمص بجيش يخرج من الكوفة إلى حمص، وجيوش تخرج إلى الجزيرة وقد أرسل سعد جيشاً من الكوفة بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي، وأرسل جيوشاً إلى الجزيرة وكلها تحت قيادة عياض بن غنم رضي الله عنه، فخرجَت هذه الجيوش إلى الجزيرة فسلك سهيل بن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرَّقًّة فحاصرهم، فنظروا إلى أنفسهم بين قوتين للمسلمين في العراق والشام فصالحوهم، وسلك عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان طريق دجلة حتى انتهى إلى نصيبين فلقيه أهلها بالصلح كما صنع أهل الرقة، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضم عياض سهيلاً وعبد الله إليه وسار بالناس إلى حران فأخذ ما دونها، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، ثمّ سرَّح عبدالله وسهيلاً إلى الرُّها فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية وهكذا فتحت الجزيرة كلها على سعتها صلحاً، فكانت أسهل البلدان أمراً( ).


المبحث الثاني: فتوحات مصر وليبيا:

كانت دوافع فتح مصر عند المسلمين قوية، فهناك العقيدة التي يريدون التمكين لها في كل مكان، ومصر تتصل بفلسطين فمن الطبيعي بعد فتح فلسطين أن يتجه المسلمون إلى مصر، وقد قسم المسلمون الإمبراطورية البيزنطية إلى قسمين لا يصل بينهما سوى البحر وذلك باستيلائهم على الشام، وفي مصر وشمال أفريقية جيوش ومسالح رومية، ولبيزنطة أسطول قوي في البحر، ولن يأمن المسلمون في الشام ومصر تحت النفوذ الروماني، ومصر غنية، وهي مصدر لتموين القسطنطينية فإذا فتحها المسلمون ضعف نفوذ بيزنطية كثيراً وأمن المسلمون في الشام والحجاز حيث يسهل اتصال الروم بالحجاز عن طريق مصر( ) ومن العوامل أيضاً أن (القبط) أنفسهم يعانون من اضطهاد الروم، وأن هؤلاء لا يعيشون في مصر إلا بمثابة حاميات عسكرية، فلماذا لا تنتهز هذه الفرصة خاصة أن عدل المسلمين لابد أن يكون قد سبقهم إلى مصر( )، أما الحامية نفسها فإن الرعب( ) لابد أن يكون قد تملّكها حينما رأت ملكها هرقل يترك بلاد الشام لتصير جزءاً من الدولة الإسلامية كل هذا كان يدركه عمرو بن العاص وخلص إلى نتيجة وهي: أن الروم في مصر سيكونون عاجزين عن الوقوف في وجه المسلمين بينما لو تركت مصر دون فتح فستظل مصدر تهديد لهم، وهذا ما صرح به عمرو بن العاص نفسه( ) وبالرغم من تعدد الروايات حول أول من فكر في فتح مصر: عمرو بن العاص أم الخليفة نفسه دون تدخل من عمرو، أم أن الخليفة وافق تحت إلحاح عمرو( )، بالرغم من ذلك الاختلاف فإن العوامل السابقة كلها تنفي أن تكون خطة فتح مصر هي مجرد خاطرة من عمرو وأن الخليفة غير راضٍ عن ذلك، أو أنهم لم يكن لديهم التصور الكامل عن مصر وأرضها وحجم قوة أعدائهم فيها وقد جاءت الروايات التاريخية تؤيد ما ذهبت إليه فقد بين ابن عبد الحكم: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص بعد فتح الشام أن أندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به( )، وجاء في الطبري: .. أقام عمر بإيلياء بعدما صالح أهلها ودخلها أياماً، فأمضى عمرو بن العاص إلى مصر، وأمّره عليها، إن فتح الله عليه، وبعث في إثره الزبير بن العوام مدداً له ويؤكد هذا تلك الإمدادات التي أرسلها عمر إلى مصر ووصل عددها إلى اثني عشر ألفاً، وكذلك أمره بفتح الإسكندرية دون خلاف في ذلك( )، فهل من الممكن أن يتوغل عمرو في مصر دون رضاً من الخلافة؟ ونحن نعرف المسلمين قادة وجنوداً كانوا غاية في السمع والطاعة والالتزام ومن ثم نكرر أن فتح مصر لم يكن إلا استجابة لخطة مرسومة سلفاً عند الخليفة وقواده، ولم تكن استجابة لرغبة عابرة( ).

أولاً: مسير الفتح الإسلامي لمصر:
يعتبر فتح مصر المرحلة الثالثة من الفتوحات بالنسبة لمحور الدولة البيزنطية ولقد كانت مسيرة عمرو من فلسطين إلى مصر محاذياً البحر فسار من رفح إلى العريش إلى الفرما واستمر فتحه للقاهرة فالاسكندرية وهذا يدلنا على موهبة عمرو العسكرية حيث سار في هذا الخط ربما لأنه لم يكن للروم ثقل عسكري في هذا الخط كما كان في بلاد الشام وربما لأن الدرب كان معروفاً لعمرو بن العاص، فكان تسلسل الفتح كما هو مرتب فيما يلي مع بيان أوجه الاختلاف والاضطراب حيث لم يخل سير الفتح من اختلاف كما حدث في فتح بلاد الشام( ).

1- فتح الفرما:
تقدم عمرو غرباً ولم يلاق جيشاً رومانياً إلا في (الفرما) أما قبل ذلك فقد قابله المصريون بالترحاب والتهليل، فكان أول موضع قوتل فيه كان في (الفرما) فقد تحصن الروم في المدينة لمواجهة المسلمين، واثقين من قدراتهم على الذود عنها ورد المسلمين بعد أن علموا أن المسلمين الذين جاءوا مع عمرو قلة في العدد والعدة وليس معهم عدة للحصار، عرف عمرو عدد الروم، واستعداداتهم وأنهم يزيدون على جنده أضعافاً، فكانت خطته في الاستيلاء على الفرما هي المهاجمة وفتح الأبواب أو الصبر عليها إلى أن يضطر الجوع أهلها فينزلوا إليها، واشتد حصار المسلمين للمدينة واشتد عناد الروم ودام الحصار شهوراً، وكانت بعض القوات الرومانية تنزل إلى المسلمين بين الحين والآخر لقتالهم فيجهز عليهم المسلمون وكان عمرو يشد أزر المسلمين بكلماته القوية، فمن قوله لهم: يا أهل الإسلام والإيمان، يا حملة القرآن، يا أصحاب محمد ? اصبروا صبر الرجال واثبتوا بأقدامكم
ولا تزايلوا صفوفكم، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله، ولا تحدثوا حدثاً حتى آمركم( ) وذات يوم خرجت فرقة من الرومان من القرية إلى المسلمين ليقاتلوهم وكانت الغلبة للمسلمين والدائرة على الروم فلاذوا بالفرار إلى القرية، وتبعهم المسلمون، وكانوا أسرع منهم، فملكوا الباب قبل أن يقتحمه الرومان، وكان أول من اقتحم المدينة من المسلمين هو (أسميقع) فكان الفتح المبين، ومما هو جدير بالذكر أن أقباط مصر الذين كانوا بالقرى عاونوا المسلمين ودلوهم على مناطق الضعف وتلقوا المسلمين في (اتميدة) بالترحاب، وبعد تمام احتلال الفرما قام المسلمون بهدم أسوارها وحصونها حتى لا يستفيد منها الروم لو رجعوا إليها لا قدر الله ثم خطب عمرو في الجيش قائلاً: أيها الناس، حمداً لله الذي جعل لجيش المسلمين الغلبة والظفر، والله عظيم حمى بالإسلام ظهورنا، وتكفل به طريق رجوعنا، ولكن إياكم أن تظنوا أن كل ما نرغب فيه قد تحقق، وأن تخدعوا بهذا النصر، فلا يزال الطريق أمامنا وعراً شاقاً والمهمة التي وكلها لنا أمير المؤمنين بعيدة المنال، وعليكم بالصبر والطاعة لرؤسائكم، فسيعلم القوم هنا أننا جنود السلام، لا نبغي فساداً في الأرض بل نصلحها وكونوا خير قدوة للرسول ?( ).
اطمأن عمرو إلى أن المدينة لم تعد صالحة لحماية جيش يأوي إليها، وتفقد جيشه وما فقده في المعركة وتألم لفقد رجال كانوا حريصين على فتح مصر فعاجلتهم المنية، وخشي إن استمرت المعارك على هذا النحو مع وقوع الخسائر في الجيش القليل العدد ألا يستطيع مواصلة الزحف، ولا يتمكن من بلوغ الغاية ولكن الله تعالى قد عوضه عمن فقده فانضم إلى جيشه كثير من رجال القبائل العربية من راشدة ولخم وكانوا يقيمون بجبل الحلال( )، ومضى عمرو بجيشه لا يلقى شيئاً من المقاومة متجهاً غرباً حتى وصل القواصر (القصاصين) ومن هناك اتجه نحو الجنوب حتى أصبح في وادي الطمبلان بالقرب من التل الكبير ثم اتجه إلى الجنوب حتى نزل بلبيس. قال صاحب النجوم الزاهرة فتقدم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس( ).

2- فتح بلبيس:
وعند بلبيس برز الروم في قوة كبيرة قاصدين صدّ عمرو عن التوجه نحو حصن بابليون وأرادوا منازلة المسلمين، فقال لهم عمرو رضي الله عنه لا تعجلونا حتى نعذر إليكم وليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام، وعندئذ كفوا عن القتال، وخرج إليه الرجلان، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبي ? بأهل مصر، بسبب هاجر أم اسماعيل: روى مسلم في صحيحه أن رسول الله ? قال: إنّكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط( )، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمّة ورحماً؛ أو قال: ذمة وصهراً( )، فقالا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، آمِنّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: مثلي لا يُخدع: ولكني أوجلكما ثلاثاً لتنظرا فقالا: زدنا، فزادهما يوماً، فرجعا إلى المقوقس عظيم القبط( )، وأرطبون الوالي من قِبَل الروم، فأخبراهما خبر المسلمين، فأما أرطبون فأبى وعزم على الحرب، وبيّت المسلمين، فهزموه هو وجنده إلى الإسكندرية( )، ومما هو جدير بالذكر، ما يدل على شهامة المسلمين ومروءتهم أنه لما فتح الله على المسلمين (بلبيس) وجدوا فيها ابنة المقوقس واسمها (أرمانوسة) وكانت مقربة من أبيها، وكانت في زيارة لمدينة بلبيس مع خادمتها (بربارة) هرباً من زواجها من قسطنطين ابن هرقل (وهو فيما بعد والد قنسطتز) صاحب موقعة ذات الصواري وكانت غير راغبة في الزواج منه، ولما تمكنت مجموعة من الجيش الإسلامي من أسر أرمانوسة جمع عمرو بن العاص الصحابة وذكرهم بقوله تعالى:? هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ(60) ? (الرحمن،آية:60). ثم قال: لقد أرسل المقوقس هدية إلى نبينا وأرى أن نبعث إليه بابنته وجميع من أسرناهم من جواريها وأتباعها، وما أخذنا من أموالهم، فاستصوبوا رأيه( )، فأرسلها عمرو إلى أبيها معززة مكرمة ومعها كل مجوهراتها وجواريها ومماليكها وقالت لها خادمتها (بربارة) أثناء سفرهما: يا مولاتي إن العرب يحيطون بنا من كل جانب فقالت أرمانوسة: إني آمن على نفسي وعرضي في خيمة العربي، ولا آمن على نفسي في قصر أبي( )، ولما وصلت إلى أبيها سُرَّ بها وبتصرف المسلمين معها( ).

3- معركة أم دنين:
ذكر ابن عبد الحكم في روايته أن عمراً مضى بجيشه حتى فتح ((بلبيس)) بعد قتال دام نحواً من شهر، ثم مضى حتى أتى ((أم دنين)) وتسمى المقسس وهي واقعة على النيل فقاتل المسلمون حولها قتالاً شديداً وأرسل عمرو إلى أمير المؤمنين يستمده فأمده أمير المؤمنين بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل يقوم مقام الألف، وهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مُخلَّد، وقيل الرابع خارجة بن حذافة، وقال عمر في كتابه له: اعلم أن معك اثني عشر ألفاً، ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلَّة( )، وقد خرج الروم مع الأقباط لمواجهة المسلمين، وجرت بينهم معركة حامية استعمل فيها عمرو بن العاص دهاءه الحربي كما صنع خالد بن الوليد في حروب العراق، وذلك أنه جعل جيشه ثلاثة أقسام، حيث أقام كميناً للأعداء في الجبل الأحمر، وأقام كميناً آخر على النيل قريباً من أم دنين، وقابل أعداءه ببقية الجيش، ولما نشب القتال بين الفريقين خرج الكمين الذي في الجبل الأحمر وانقضَّ على الروم فاختل نظامهم وانهزموا إلى أم دنين فقابلهم الكمين الذي بقربها فأصبحوا بين جيوش المسلمين الثلاثة وانهزموا وتفرق جيشهم ولجأ بعضهم إلى حصن بابليون الحصين( )، وهكذا كسب المسلمون هذه المعركة ووقاهم الله شر أعدائهم بفضله تعالى وذلك بتوفيق قائدهم المحنَّك إلى هذه الخطة المحكمة التي شتت بها قوات الأعداء( ).

4- معركة حصن بابليون:
تقدم عمرو وجيشه إلى حصن بابليون وحاصروه حصاراً محكماً ودام الحصار سبعة أشهر، وأرسل المقوقس خلال ذلك رسله إلى عمرو بن العاص للمصالحة فاستجاب عمرو بن العاص على الشروط: الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختار المقوقس الجزية، وكتب المقوقس إلى هرقل يستأذنه في ذلك، فلم يقبل منه بل حنق عليه ولامه لوماً شديداً واستدعاه إلى القسطنطينية ثم نفاه، ولما أبطأ فتح حصن بابليون قال الزبير بن العوام: إني أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين( )، وراح عمرو بن العاص يحاصر حصن بابليون ثم تسوروا الحصن في الليل واشتبكوا مع الجنود في قتال عنيف وكان أول من تسور الحصن الزبير بن العوام فوضع سلماً من ناحية سوق الحمام ثم صعد وأمر المسلمين إذا سمعوا تكبيره أن يقتحموا الحصن، فما شعروا إلا والزبير بن العوام على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، فكبر تكبيرة فأجابه المسلمون من خارج الحصن، ولم يشك أهل الحصن أن المسلمين قد اقتحموا جميعاً الحصن فهربوا، فعمد حواري رسول الله بأصحابه إلى باب حصن بابليون ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن وفتحوه عنوة، ولكن عمرو بن العاص أمضى الصلح على أن يخرج جند الروم ما يلزمهم من القوت لبضعة أيام، أما حصن بابليون وما فيه من الذخائر وآلات الحرب فتبقى غنيمة للمسلمين ثم خرب أبو عبد الله أبراج الحصن وأسواره( ).

ثانياً: فتح الإسكندرية:
رابط عمرو بن العاص ورجاله عدة أشهر في حصن بابليون ليستجمَّ الجنود ويصله الإذن من أمير المؤمنين عمر بالسير لفتح الإسكندرية، فلما تحقق ذلك ترك عمرو في الحصن مسلحة قوية من المسلمين، وفصل بجنوده من بابليون في مايو سنة 641م، الموافق جمادى الآخرة سنة 21هـ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط الذين اطمأنوا إلى أن مصلحتهم باتت في مساندة القوة الإسلامية المظفرة، وقد أصلحوا لهم الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم( )، وقد آثر عمرو السير على الضفة اليسرى للنيل حيث محافظة البحيرة لتتيح له الصحراء مجالاً واسعاً لحركة خيله وجنوده، وكي يتجنب ما كان سيعترضه من الترع الكثيرة لو سار في دلتا النيل، ولم يلق عمرو إلا قتالاً يسيراً عند مرفوط أو (الطرانة) كما يسميها المؤرخون العرب( )، ثم عبر النهر إلى الضفة الشرقية حيث تقع مدينة نقيوس الحصينة( )، وكانت ذات حصن منيع فتخوف عمرو أن يتركها على جانبه ويسير عنها، ولكن الروم بدل أن يتحصنوا من المسلمين في حصنهم ركبوا سفنهم ليحاربوا المسلمين فيها ويمنعوهم من الاقتراب من مدينتهم، فرماهم المسلمون بالنبال والسهام وطاردوهم في المياه، فولوا الأدبار في سفنهم نحو الإسكندرية، وسرعان ما استسلم من بقي في الحصن ودخله المسلمون ظافرين، وأمضوا عدة أيام يستبرئون ما حوله من أعدائهم( )، وأرسل عمرو قائده شريك بن سُميَّ ليتعقب الروم الفارين، فالتقى بهم وليس معه إلا قوة معدودة، فطمع فيه الروم وأحاطوا به، فاعتصم بهم في نهد من الأرض عُرف فيما بعد بكوم شريك، فأرسل إلى عمرو يطلب الأمداد، وما إن علم الروم أن المدد في الطريق إلى المسلمين حتى لاذوا بالفرار( )، وعند سُلْطَيْس على ستة أميال جنوبي دمنهور كان اللقاء التالي بين عمرو والروم، وجرى قتال شديد انهزموا فيه وولوا الأدبار( )، ومما يؤسف له أن هذه المعارك التي خاضها المسلمون بقواتهم المحدودة ضد قوات تفوقهم عدة أضعاف من الروم عدداً وعدة، والتي استمر بعضها عدة أيام لم تظفر من مؤرخي المسلمين سوى بأسطر قليلة أو كلمات معدودة، في حين أفرد بعضهم عشرات الصفحات للحديث عن القادسية أو اليرموك أو نهاوند( )، ومن هذه المعارك الكبرى التي لا تشفى فيها مصادرنا العربية غليلاً معركة كِرْيون وهي آخر تلك السلسلة من الحصون التي تمتد بين بابليون والإسكندرية وقد تحصن بها تيودرو قائد الجيش الرومي ودار قتال شديد استمر بضعة عشر يوماً، ورغم ذلك فلم يظفر من ابن عبد الحكم سوى بهذه الكلمات: ثم التقوا بكريون، فاقتتلوا بها بضعة عشر يوماً، وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، وصلى (عمرو) يومئذ صلاة الخوف، ثم فتح الله للمسلمين، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية، وفي أثناء ذلك أورد قصة عن بطولة عبد الله بن عمرو ووردان مولى أبيه( )، وقد كانت الإسكندرية عند فتح المسلمين لها عاصمة البلاد وثانية حواضر الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم، وكان البيزنطيون يدركون خطورة استيلاء المسلمين عليها ويحملون همّ ذلك، حتى قال هرقل: لئن ظهر العرب على الإسكندرية إن ذلك انقطاع ملك الروم وهلاكهم( )، وقد زعم الرواة أنه تجهز ليخرج إلى الإسكندرية بنفسه ليباشر قتال المسلمين بها، فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته، وكفى الله المسلمين مؤنته( )، واضطربت أمور الدولة البيزنطية بعد موت هرقل إذ تولى الحكم إبناه قسطنطين وهرقل الثاني (هرقليانوس) وشاركتهما الإمبراطورة مارتينة أم هرقليانوس، لكن قسطنطين سرعان ما وافته منيته بعد مائة يوم من وفاة أبيه مما جعل أصابع الاتهام تتجه إلى الإمبراطورة التي كانت ترغب في أن ينفرد ولدها بالحكم، فاشتعلت الثورة ضدها، واستمرت الفتن ضاربة في البلاد عدة أشهر، حتى تولى كونستانس بن قسطنطين الحكم شريكاً لعمه هرقليانوس( ).
وكانت الإسكندرية فضلاً عن متانة أسوارها وضخامة ووفرة حماتها تمتاز بموقعها الدفاعي المميز فكان البحر يحميها من شمالها؛ حيث السيطرة آنذاك للروم، وكانت بحيرة مريوط تحميها من جنوبها، وكان اجتيازها عسيراً، بل غير مستطاع، وكانت إحدى تفريعات النيل قديماً واسمها نزعة الثعبان تدور حولها من الغرب، وبذلك لم يبق إلا طريق واحد من الشرق يصل إليها؛ وهو الطريق الواصل بينها وبين كرْيون( ).
وطال الحصار عدة أشهر مما أثار مخاوف عمرو من ملل جنوده أو شعورهم بالعجز أمام عدوهم، فقرر أن يبث كتائبه تجوس خلال بلاد الدلتا وقرى الصعيد، غير أن طول حصار الإسكندرية آثار حفيظة الخليفة عمر، وأثار في نفسه الهواجس والظنون حول استعداد جنوده للتضحية والمبادأة، ورأى أن ذلك ما كان إلا لما أحدثوا( )، وشرح ذلك في رسالة إلى عمرو بن العاص يقول فيها: (( أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين ذلك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نيّاتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، (يعني الزبير وصحبه)، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحُضَّهم على قتال عدوهم، ورغِّبهم في الصبر والنية، وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس جميعاً أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم، فلما أتى عمرو الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر، ففعلوا ففتح الله عليهم( )، ويروى أن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد الأنصاري فقال: أشر علي في قتال هؤلاء فقال مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب النبي ? فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيه، فقال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت، فدعاه عمرو إليه، فلما دنا منه أراد النزول عن جواده؛ فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت، ناولني سنان رمحك، فناوله إياه فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه قتال الروم، ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومهم ذاك( )، وقد جاء في رواية: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله يريد الأنصار، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه( )، ويروي ابن عبد الحكم أن حصار الإسكندرية استمر تسعة أشهر وأنها فتحت في مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة( )، وهي ما يوافق 21 ديسمبر سنة 640م بينما انتهى بتلر في دراسته عن فتح مصر إلى أن حصار المدينة قد بدأ في أواخر يونيو سنة 640م وأنها استسلمت في 8 نوفمبر سنة 641م وهو ما يوافق 7 ذي الحجة سنة 21هـ، وقد يرجح هذا القول ما ورد في رسالة عمر الفاروق إلى عمرو بن العاص: إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، فما بين وصول عمرو العريش في ديسمبر سنة 639م وتسليم الإسكندرية في نوفمبر 641م ما يعادل سنتين هلاليتين واستبقى عمرو أهل الإسكندرية فلم يقتل ولم يَسْبِ وجعلهم أهل ذمة، كأهل بابليون… ثم ترك في الإسكندرية حامية من قواته بعد أن اطمأن إليها ونشر بقية كتائبه لتفتح بقية حصون الروم وجيوبهم في مصر، فاستكمل فتح ساحل البحر المتوسط ومدنه الكبرى مثل رشيد ودمياط وغيرها: وكذلك بسط سيطرته على كل دلتا مصر وصعيدها( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:01 pm

ثالثاً: فتح برقة وطرابلس:
وسار عمرو بعد أن استقر له فتح مصر ليؤمن فتوحه من ناحية الغرب إذ كانت للروم قوات في برقة وطرابلس تتحصن هناك، وربما واتتها الفرصة ساقها الإغراء إلى مهاجمة المسلمين بمصر، فاتجه في قواته إلى برقة سنة 22هـ وكان الطريق بينها وبين الإسكندرية آنذاك منزعاً بالخضرة والعمران، فلم يلق كيداً في طريقه إليها، فلما وصلها صالحه أهلها على أداء الجزية، وكان أهل برقة بعد فتحها يبعثون بخراجهم إلى والي مصر من غير أن يأتيهم حاث أو مستحث فكانوا أخصب قوم بالمغرب ولم يدخلها فتنة، ثم سار عمرو إثر ذلك إلى طرابلس ذات الحصون المنيعة، وبها جيش رومي كبير، فأغلقت أبوابها وصبرت على الحصار الذي استمر شهراً لا يقدر المسلمون منها على شيء وكان البحر من ورائها لاصقاً ببيوت المدينة، ولم يكن بين المدينة والبحر سور، فاستبانت جماعة من قوات المسلمين الأمر، فتسللت إلى المدينة من جهة البحر، وكبروا؛ فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، إذ هاجمهم عمرو في قواته أيضاً فلم يفلت منهم إلا ما خفت بهم مراكبهم، وغنم المسلمون ما بالمدينة، وبث عمرو قواته فيما حولها وأراد عمرو أن يستكمل فتوحه في الغرب ويسير إلى تونس وأراضي إفريقية ليفتحها، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، غير أن الخليفة كان يخشى على جيوش المسلمين من الانسياح في جبهة جديدة ولم يطمئن بعد إلى ما فتحت في زحفها السريع من الشام إلى طرابلس، فأمر القوات الإسلامية بالتوقف عند طرابلس وبذلك امتدت دولة الإسلام في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتشمل مساحة شاسعة من الأرض يحدها من الشرق نهر جيحون والسند ومن الغرب بلاد إفريقية وصحراؤها، ومن الشمال جبال آسيا الصغرى وأراضي أرمينية، ومن الجنوب المحيط الهادي وبلاد النوبة في دولة عالمية واحدة متعددة الأجناس والديانات والنحل والعادات، عاش أهلها في عدل الإسلام ورحمته، ذلك الدين الذي احتفظ لهم بحقهم في الحياة الكريمة وإن اختلفوا معه في عقائدهم؛ ومع أهله في عاداتهم وأعرافهم( ).

المبحث الثالث: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتح مصر:

أولاً: سفارة عبادة بن الصامت الأنصاري إلى المقوقس:
حاصر عمرو بن العاص حصن بابليون فأرسل المقوقس إلى عمرو الرسالة التالية: إنكم قد وَلَجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عُصْبَة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم، ومعهم من العُدّة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فأرسلوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبُّون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام، ولا يقدر عليه. ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفاً لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم، نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء. فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أتروْن أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم، ويستحلون ذلك في دينهم! وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين. فرد عليهم عمرو مع رسلهم: إنه ليس بيني وبينك إلا إحدى خصال ثلاث: إما إن دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا وإن أبيتم أعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين( )، فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتموهم قالوا: رأينا قوماً الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نَهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على رُكبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد: وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشعون في صلاتهم. فقال عند ذلك المقوقس: والذي يُحْلف به، لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، ولا يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم، وهم محصورون بهذا النيل، لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم فردّ إليهم المقوقس رسله، وقال: ابعثوا إلينا رسلاً منكم نعاملهم، ونتداعى نحن وهم إلى ما عسى أن يكون فيه صلاح لنا ولكم. فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، وأحدهم عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم، وألا يجيبهم إلى شيء دعوه إلا إحدى هذه الثلاث الخصال( )؛ فإن أمير المؤمنين قد تقدم في ذلك إليّ، وأمرني ألا أقبل شيئاً سوى خصلة من هذه الثلاث الخصال. وكان عبادة بن الصامت أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، فقال: نحُّوا عني هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمني. فقالوا: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا، والمقدَّم علينا، وإنا نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمّره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله. فقال المقوقس للوفد: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟ قالوا: كلا: إنه وإن كان أسود كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً، وليس ينكر السواد فينا. فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك، وإن اشتد علي كلامك، ازددت هيبة فتقدم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلَّفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم مثلي، وأشد سواداً مني وأفظع منظراً، ولو رأيتهم لكُنت أهيب لهم مني، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي وذلك إنما رغبتُنا، وبغيتنا الجهاد في سبيل الله تعالى، واتباع رضوان الله، وليس غزونا عدوَّنا ممن حارب الله لرغبة الدنيا، ولا طلباً للاستكثار منها؛ إلا أن الله عز وجل قد أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا: أكان له قنطار من ذهب، أم كان لا يملك إلا درهما، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها، يسد بها جَوْعَته، وَشمْلة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، واقتصر على هذا الذي بيده؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا فيما يمسك جَوْعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضا ربه، وجهاد عدوه، فلما سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط، لقد هِبت منظره؛ وإن قوله لأهيب عندي من منظره، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل المقوقس على عبادة فقال: أيها الرجل، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك ولعمري ما بلغتكم إلا بما ذكرت ولا ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبِّهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم مما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل وإنا لنعلم أنكم لن تقوَوا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلَّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً، وأنتم في ضيق وشدة في معاشكم وحالكم، ونحن نرِقُ عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما
لا قوَّة لكم به. فقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يا هذا؛ لا تغرّنَّ نفسك
ولا أصحابك. أما ما تخوِّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمْري ما هذا الذي تخوفنا به، ولا بالذي يكْسِرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقاً فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجَنّته، وما من شيء أقرّ لأعيننا، ولا أحب إلينا من ذلك وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين؛ إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفِرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله تعالى قال لنا في كتابه:? كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) ? (البقرة،آية:249).
وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساء: أن يرزقه الشهادة وألا يرد إلى بلده، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همٌ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا. وأما قولك: إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السّعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا لأنفسنا منها أكثر مما نحن فيه فانظر الذي تريد، فبيّنه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منكم، ولا نجيبكم إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين؛ وهو عهد رسول الله ? من قبل إلينا؛ إما إن أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلَّ أذاكم ولا التعرض لكم. وإن أبيتم إلا الجزية، فأدُّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على بشيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم، إذا كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد الله علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم فقال المقوقس: هذا مما لا يكون أبداً، ما تريدون إلا تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا. فقال له عبادة: هو ذاك، فاختر ما شئت. فقال المقوقس: أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاثة؟ فرفع عبادة يديه، وقال: لا، ورب السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم. فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه، وقال: قد فرغ القول مما ترون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم؛ فهذا لا يكون أبداً،
ولا نترك دين المسيح ابن مريم، وندخل في دين لا نعرفه، وأما ما أرادوا من أن يسْبُونا ويجعلونا عبيداً أبداً، فالموت أيسر من ذلك؛ لو رضوا منا أن تُضعف لهم ما أعطيناهم مراراً، كان أهون علينا. فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى؟ فارجع صاحبك على أن نعطيكم في مَرّتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون فقام عبادة وأصحابه. فقال المقوقس لمن حوله عند ذلك: أطيعوني، وأجيبوا القوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة؛ وإن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين. فقالوا: أي خصلة نجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم.. أما دخولكم في غير دينكم، فلا آمركم به؛ وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولابد من الثالثة. قالوا: فنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال: نعم تكونوا عبيداً مُسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيداً، وتباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبداً، أنتم وأهلوكم وذراريكم. قالوا: فالموت أهون علينا، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة، وبالقصر من جمع القبط والروم كثير( ).
ومن الحوار الذي دار بين عبادة والمقوقس، ظهرت نباهة عبادة وإدراكه لمرامي خصمه فلم يتأثر بتلك الأساليب التي استخدمها للتأثير في نتائج المحادثات تلك كما ظهر عبادة واضحاً في تصوراته وأهدافه، ولم ينس في خضم ذلك أن يدعو إلى الإسلام ويرغب فيه، ويظهر انفتاح المسلمين على غيرهم من الأمم والأديان مما ترك أثراً طيباً في نفس المقوقس الذي اختار الصلح مع المسلمين( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:03 pm

ثانياً: من فنون القتال في فتوح مصر:
مارس عمرو بن العاص رضي الله عنه في فتح مصر فنوناً عدة في القتال منها:

1- الحرب النفسية:
عندما أمر المقوقس النساء أن يقمن على سور بابليون مقبلات بوجوههنّ إلى داخله، وأقام الرجال بالسلاح مقبلين بوجههم إلى المسلمين ليرهبوهم بذلك، فأرسل إليه عمرو: .. إنا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبْنا من علينا، فقد لقينا مِلكَكُم فكان من أمره ما كان فقال المقوقس لأصحابه: صدق هؤلاء القوم، أخرجوا ملكنا من دار مملكته حتى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان( )، فقد كان عمرو من القادة الذين يستخدمون الحرب النفسية لإرهاب عدوه وإحباط روح القتال لديه، وكان يعتمد في الحرب على الله ثم على العقل والسيف لتحقيق هدف واحد هو تحقيق النصر الحاسم في نهاية المعركة( ).


2- أسلوب المباغتة بالكمائن:
مارس عمرو أسلوب المباغتة بالكمائن في وقعة عين شمس، فقد أعدّ هذه الكمائن إعداداً محكماً مما يسر له سبل النجاح الكامل فهو قد أرسلها لاتخاذ مواقع معينة من الليل، فأحسن اختيار تلك المواقع، وعيّن ساعة انطلاق كل منها في وقت يكون العدو منشغلاً بمجابهته، فباغتته تلك الكمائن في ميمنته وميسرته، فأحسن بذلك اختيار التوقيت، وساعة الصفر ونقاط الصدام مع العدو. وهكذا تعتبر عملية عمرو (المباغتة بالكمائن) في هذه الوقعة من أكثر عمليات المباغتة نجاحاً وإتقاناً( ).

3- أسلوب المباغتة في أثناء الحصار:
وأتقن عمرو كذلك أسلوب المباغتة في أثناء حصار حصن بابليون فبينما كان الروم المحاصَرون في هذا الحصن مطمئنين إلى أن المسلمين لن يستطيعوا النيل منهم، بفضل مناعة حصونهم وأسوارهم وما لديهم من ذخائر ومؤن ومعدات حربية، وبسبب ما وضعوه من عوائق من الحسك الشائك على أبواب الحصن وفي الخندق الذي جفت مياهه بعد هبوط مياه النيل إذا بهم يفاجأون في ليلة مظلمة بالزبير بن العوام ومجموعة من رجاله المقاتلين، يعتلون السور مكبرين، ويباغتونهم فيعملون السيف فيهم، ويهزم من في الحصن من المدافعين فيطلبون الصلح والأمان، ويدخل المسلمون الحصن فاتحين( ).

4- أسلوب النفس الطويل في الحصار:
اعتمد عمرو في حصار ((كِرْيون)) و((الاسكندرية)) النفس الطويل؛ فهو عندما أيقن صعوبة الانتصار على الروم المتمركزين في مواقع منيعة ومحصنة في كريون، بدأ بمناوشتهم محاولاً، لمرة واحدة فقط، شن هجوم على الحصن، إلا أنه فشل، فاستمر في المناوشة تاركاً للزمن، والإرهاق، ونفاذ الذخيرة، والمؤونة وصبر الرجال أن يفعل فعله، وهكذا كان، وما أن استمر حصار كريون بضعة عشر يوماً حتى أيقن الروم عزم المسلمين على الاستمرار في هذا الحصار فلم يجدوا بداً من الاستسلام وتسليم الحصن للمهاجمين، وحدث الشيء نفسه في حصار الإسكندرية، إلا أن هذا الأخير استمر مدة أطول (ثلاثة أشهر) وذلك لأن الروم كانوا يدركون إدراكاً تاماً أن هذه هي الفرصة الأخيرة لجيشهم بل ولهم جميعاً، فإن سقطوا في الإسكندرية سقطوا في مصر وفي إفريقيا بأسرها. وهذا ما حصل( ) تماماً.

ثالثاً: بشارة الفتح إلى أمير المؤمنين:
بعث عمرو بن العاص معاوية بن حديج وافداً إلى عمر بن الخطاب بشيراً بالفتح فقال له معاوية: ألا تكتب معي؟ فقال له عمرو: وما أصنع بالكتاب: ألست رجلاً عربياً تبلغ الرسالة، وما رأيت حضرت( ) فلما قدم على (عمر) أخبره بفتح الإسكندرية فخرَّ عمر ساجداً وقال: الحمد لله ونترك معاوية بن حديج يحدثنا عن قصته في إبلاغ أمير المؤمنين ببشارة الفتح: لما بعثني عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب وصلت المسجد فبينما أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل (عمر بن الخطاب)، فرأتني شاحباً عليَّ ثياب السفر، فأتتني، فقالت: من أنت؟ قال: فقلت: أنا معاوية بن حديج، رسول عمرو بن العاص، فانصرفت عني ثم أقبلت تشتد أسمع حفيف إزارها على ساقها أو على ساقيها حتى دنت مني فقالت: قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك، فتتبعتها فلما دخلت فإذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه بإحدى يديه، ويشد إزاره بالأخرى، فقال: ما عندك؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد فقال للمؤذن: أذن في الناس (الصلاة جامعة)، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك فقمت فأخبرتهم، ثم صلى ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس فقال: يا جارية هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت فقال: كل فأكلت على حياء ثم قال: كله فإن المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلاً لأكلت معك فأصبت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت لعل أمير المؤمنين قائل – نوم القيلولة – قال: بئس ما قلت أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعن الرعية ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية( ).
ومن هذا الخبر نستنتج أن المسجد في عصر الإسلام الأول كان يمثل أهم وسائل الإعلام حيث يجتمع المسلمون فيه بنداء الصلاة جامعة، وهذا النداء يعني أن هناك أمراً مهماً سيتم إبلاغه لعموم المسلمين فإذا اجتمعوا أُلقيت عليهم البيانات العسكرية والأمور السياسية والاجتماعية وغير ذلك، كما نستفيد من هذا الخبر وصفاً لحياة عمر رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، حيث يقول لمعاوية بن خديج لئن نمت النهار لأضيِّعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعنَّ نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية وهذا يدل على كمال اليقظة لحق النفس وحقوق الآخرين، وإذا استطاع المسلم أن يجمع بين مراعاة ذلك كله فإنه يكون من المتقين المحسنين( ).

رابعاً: حرص الفاروق على الوفاء بالعهود:
ذكر ابن الأثير: … إن المسلمين لما انهوا إلى بِلْهِيب وقد بلغت سباياهم إلى اليمن أرسل صاحبهم إلى عمرو بن العاص:إنّني كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إليّ منكم: فارس والروم فإن أحببت الجزية على أن تردّ ما سبيتم من أرضي فعلت.
فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك، ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر. فورد الجواب من عمر: لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تُقسم ثمّ كأنها لم تكن، وأمّا السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيّروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأمّا مَنْ تفرّق في البلدان فإنّا لا نقدر على ردّهم، فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندريّة، فأجاب إليه، فجمعوا السبي واجتمعت النصارى وخيّروهم واحداً واحداً، فمن اختار المسلمين كبّروا، ومن اختار النصارى نخروا وصار عليه جزية، حتى فرغوا( ).
إن هذا يعتبر شاهد صدق على ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من العزوف عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والرغبة الصادقة في هداية العالمين إلى الإسلام، فإن دخول الأسرى في الإسلام لا يفيد المسلمين شيئاً من الدنيا، وبقاؤهم على دينهم يتضمن فائدة دنيوية لهم حيث يُلزَمون بدفع الجزية للمسلمين ومع ذلك نجد عمر رضي الله عنه يأمر بتخيير الأسرى بين الإسلام أو دفع الجزية، وحينما تمّ تطبيق ذلك كان الصحابة ومن معهم يكِّبرون تكبيراً أشد من تكبير الفتح حينما يختار أولئك النصارى دين الإسلام ويجزعون جزعاً شديداً حينما يختارون البقاء على دينهم حتى كان أولئك الأسرى من ضمن جماعة المسلمين وخرجوا عن دين الإسلام ومما يلفت النظر في هذا الخبر حرص الصحابة على خلق الوفاء ويتضح ذلك من قول عمر رضي الله عنه في كتابه: وأما من تفرّق في البلدان فإنّا لا نقدر على ردّهم، وجاء في رواية: … ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به( )، فعمر رضي الله عنه ينظر إلى الوفاء بالعهد قبل إبرام الاتفاق مع الأعداء، حتى لا يكون المسلمون في وضع لا يستطيعون فيه الوفاء، وهذا الخلق يعتبر مرحلة عالية من الوفاء – وهو من أخلاق النصر – لأن من يبرم اتفاقية على أمر ثم لا يستطيع الوفاء به يكون معذوراً ولكن حينما يفكر بعمل الاحتياطات اللازمة لموضوع الوفاء بالعهد حتى لا يجد نفسه بعد ذلك عاجزاً عن الوفاء، فهذا نهاية التدبير، وغاية النظر الثاقب( ).

خامساً: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم:
توجه عمرو بجيشه نحو الإسكندرية، وفي طريقه إليها جرت بينه وبين أهل تلك البلاد حروب كان النصر فيها حليف المسلمين ومن المواقف التي تذكر في ذلك أن عبد الله بن عمرو بن العاص أصيب بجراحات كثيرة في معركته مع أهل الكريون فجاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه فقال عبد الله:

أقول إذا ما جاشت النفس
ا ااصبري، فعما قليل تحمدي أو تلامي

فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال فقال عمرو: هو ابني حقاً( )، وهذا موقف من مواقف الصبر والتحمل يذكر لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي اشتهر بالعلم والعبادة فجمع إلى ذلك الشجاعة والصبر على الشدائد( ).

سادساً: دار بنيت لأمير المؤمنين بمصر:
بعث عمرو بن العاص إلى الفاروق بقوله: إنا قد اختططنا لك داراً عند المسجد الجامع، فكتب عمر: إنّى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر وأمره أن يجعلها سوقاً للمسلمين( ).
وهذا دليل على كمال ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وزهده في مظاهر الحياة الدنيا، وإذا كان الكبار والزعماء هم الذين يترفعون عن أوحال الدنيا، ومتاعها الزائل، فإن من دونهم من باب أولى أن يترفعوا عن ذلك( ).

سابعاً: دعوى حرق المسلمين مكتبة الإسكندرية:
يقول الدكتور عبد الرحيم محمد عبد الحميد: لم نعثر على نص أو إشارة إلى أن عمرو بن العاص حرق مكتبة الإسكندرية وجل ما في الأمر أننا قرأنا نصاً لابن القفطي ينقله ابن العبري (ت 685هـ/1286م) قائلاً: اشتهر بين الإسلاميين يحيى النحوي وكان اسكندرياً، وعاش إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أنسة ونرى ابن القفطي (ت 646/1267م). يكمل القصة قائلاً فقال له عمرو
وما الذي تريده إليه قال: كتب الحكمة في الخزائن الملوكية.. أربعة وخمسون ألفاً ومائة وعشرون كتاباً.. فاستكثر عمرو ما ذكره يحيى وقال لا يمكنني أن آمر بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين، وكتب إلى عمر، وعرفه قول يحيى، فورد كتاب عمر يقول: أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنها غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها، فشرع عمرو بن العاص في توزيعها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقد وذكرني عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها فذكروا أنها استنفذت في ستة أشهر فاسمع ما جرى وأعجب( ).
إلا أن قصة الحرق هذه وردت قبل ابن القفطي، وقبل ابن العبري فهذا عبد اللطيف البغدادي (ت 649هـ/ 1231) قال: وأنه دار العلم الذي بناه الإسكندر حيث بنى مدينة وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه( )، وعند دراسة هذه الروايات نرى أنه لابد من إبداء الملاحظات التالية:

1- لا يوجد ترابط بين تلك الروايات الثلاث، ولا صلة في النقل التاريخي تربط من ألفوها فضلاً عن أنهم عاشوا في فترة زمنية متقاربة.
2- لا يوجد أي إسناد يرجع إليه في هذه الروايات وإنما هي افتراضات افترضها أصحابها.
3- أنها وجدت في فترة بعيدة عن زمن فتح مصر وعمرو بن العاص ويمكن القول بكل ثقة أن هذه القصة مختلقة اختلاقاً واضحاً يمكن الطعن فيها من النواحي التالية:

- لم يذكر قصة حرق مكتبة الإسكندرية من أرخ لتاريخ مصر وفتحها ممن عاش قبل من ذكروا هذه القصة بعدة قرون.
- لم تذكر هذه القصة عند الواقدي ولا الطبري، ولم يتفق عليها ابن الأثير
ولا ذكرها ابن خلدون، فضلاً عن ابن عبد الحكم، ولم يصفها ياقوت الحموي عند وصف الإسكندرية.
- يمكن إرجاع هذه القصة إلى فترة الحروب الصليبية، من جهة البغدادي وربما وضعها تحت ضغط معين أو ربما انتحلت عليه فيما بعد.
- إذا وجدت هذه المكتبة المزعومة، فيمكن القول: إن الروم الذي غادروا الإسكندرية كان بإمكانهم إخراجها معهم، أو ربما فعلوا ذلك.
- لقد كان بإمكان عمرو إلقاؤها في البحر في فترة قصيرة بدلاً من حرقها الذي استغرق ستة أشهر، مما يدل على القصد في تزييف هذه القصة وتأليفها، ويمكن القول بلا وجل: إن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص رضي الله عنهما بريئان مما نسب إليهما في هذه القصة المصطنعة التي كانت من تخيلات أناس أحبوا التهويل فتخيلوا وجود مالم يكن موجوداً( ).

ثامناً: لقاء عمرو بن العاص والبابا بنيامين:
يقول المؤرخ ابن عبد الحكم: كان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو بنيامين، وكان هارباً في الصحراء بسبب الاضطهاد المذهبي الذي تعرض له الأقباط على أيدي الرومان المسيحيين، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو، فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما صاروا يومئذ لعمرو أعواناً( )، وقد جاء في رواية المؤرخ القبطي ساويرس بن المقنع أنه سانوتيوس أحد رؤساء القبط وقتئذ، والذي كان يتولى إدارة شئون الكنيسة مدة اختفاء البطريق بنيامين، قد روى لعمرو موضوع الأب المجاهد بنيامين البطرك وأنه هارب من الروم خوفاً منهم، فكتب عمرو بن العاص إلى عمّال مصر كتاباً يقول فيه الموضع الذي فيه بنيامين بطرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمناً مطمئناً ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته، فلما سمع القديس بنيامين هذا، عاد إلى الإسكندرية بفرح عظيم بعد غيبة ثلاث عشرة سنة، فلما ظهر فرح الشعب وكل المدينة بمجيئه ولما علم عمرو بوصوله أمر بإحضاره بكرامة وإعزاز ومحبة، فلما رآه أكرمه وقال لأصحابه إن في جميع الكور التي ملكناها إلى الآن ما رأيت رجلاً يشبه هذا وكان الأب بنيامين حسن المنظر جداً، وجيد الكلام بسكون ووقار، ثم التفت عمرو إليه وقال له: جميع بيعتك ورجالك اضبطهم ودبِّر أحوالهم وانصرف من عنده مكرّماً مبجلاً وعلق الأستاذ الشرقاوي على هذا اللقاء فقال: وقرَّب عمرو إليه البطريق بنيامين حتى لقد أصبح من أعز أصدقائه عليه، واطمأن العرب الفاتحون في مصر، وخطبهم أميرهم عمرو بن العاص في أول جمعة صلاها بجامعه بالفسطاط فقال: .. استوصوا بمن جاوركم من القبط، فإن لكم فيهم ذمة وصهراً، فكفوا أيديكم، وعفُّوا وغضوا أبصاركم( ).

المبحث الرابع: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات الفاروق:

أولاً: طبيعة الفتح الإسلامي:
حاول بعض المؤرخين من النصارى والمستشرقين تشويه الفتح الإسلامي في العصر الراشدي وزعموا أن الفتوحات كانت حروباً دينية وقالوا: إن المسلمين أصحاب عقيدة، ولكنهم توسلوا بالتعصب الأعمى، وأخضعوا الناس لمبادئهم بالقهر والإرغام، وخاضوا إلى ذلك بحار الدم والقسوة، وأنهم كانوا يحملون القرآن بإحدى يديهم، والسيف باليد الأخرى( )، وممن ركز منهم على هذه الفكرة، (سيديو) و(ميور) و(نيبور). إذ ينقل (ميور) عن نيبور قوله: وكان من الضروري لدوام الإسلام أن يستمر في خطته العدوانية وأن ينفذ بحد السيف ما يطالب به من دخول الناس في الإسلام كافة، أو بسط سيطرته العالمية على الأقل، غير أنه لا مناص لأيّ من الأديان أن يجنح أتباعه للحرب في إحدى مراحل حياته، وكذلك كان الحال في الإسلام، ولكن الزعم أن المسلمين هدفوا إلى بث الدعوة بالقوة، أو أنهم كانوا أكثر عدواناً من غيرهم، زعم يجب إنكاره إنكاراً تاماً( )، وقد ردّ بعض المستشرقين على هذه التهم ووصفوا الفتح الإسلامي بالمثل العالية والأخلاق الكريمة فهذا فون كريمر يقول: وكان العرب المسلمون في حروبهم مثال الخلق الكريم، فحرم عليهم الرسول( )، قتل الرهبان، والنساء، والأطفال، والمكفوفين، كما حرم عليهم تدمير المزارع، وقطع الأشجار، وقد اتبع المسلمون في حروبهم هذه الأوامر بدقة متناهية، فلم ينتهكوا الحرمات، ولا أفسدوا الزروع، وبينما كان الروم يرمونهم بالسهام المسمومة، فإنهم لم يبادلوا أعداءهم جرماً بجرم، وكان نهب القرى وإشعال النار قد درجت عليها الجيوش الرومانية في تقدمها وتراجعها، أما المسلمون فقد احتفظوا بأخلاقهم المثلى فلم يحاولوا من هذا شيئاً( )، وقال روزنتال: وقد نمت المدينة الإسلامية بالتوسع لا بالتعمق داعية إلى العقيدة، مناقشة لتلك الحركات الفكرية الموجودة وفوق كل ذلك تقدم الإسلام فتهاوت الحواجز القديمة من اللغة والعادات، وتوفرت فرصة نادرة لجميع الشعوب والمدنيات لتبدأ حياة فكرية جديدة على أساس المساواة المطلقة، وبروح المنافسة الحرة( ).
إن الحقيقة التاريخية تقول بأن المسلمين لم يكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام لأنهم قد التزموا بقول الله تعالى: ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256) ? (البقرة،آية:256).
وأما إقبال الشعوب على الإسلام فكان بسبب ما لمسوه في الإسلام نفسه، فهو النعمة العظيمة، ولما لمسوه في المسلمين من التخلق بأخلاق الإسلام والالتزام بأحكامه وأوامره ونواهيه ولما لمسوه في القادة والجند الذين كانوا يقومون بالدعوة بالتطبيق العملي، فتميزت مواقفهم بأنبل المواقف التي عرفها التاريخ العالمي، فقد كان الخلفاء والقادة يوصون جندهم بالاستعانة بالله، والتقوى، وإيثار أمر الآخرة على الدنيا، والإخلاص في الجهاد، وإرادة الله في العمل، والابتعاد عن الذنوب، فكانت فيهم الرغبة الأكيدة الملحة لإنقاذ الأمم والإفراد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ونقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فكان قادة المسلمين على رأس جندهم يتلقون الصدمات الأولى في معارك الجهاد، واستشهد عدد كبير منهم، وقد كان القادة يسيرون خلف جندهم في وقت الأمن والعودة يرفقون بهم ويحملون الكلأ ويعينون الضعيف وكان القادة دعاة في المقام الأول، طبقوا مبادئ الحرب الإسلامي تماماً والحق أن المسلمين كانوا يخوضون جهاداً في سبيل الله، وليس حرباً كما كانت تفعل الدول الأخرى( ).

ثانياً: الطريقة العمرية في اختيار قادة الجيوش:
كانت للفاروق طريقة متميزة في اختيار قادة الفتح، فقد وضع عدة شروط وضوابط لاختيار قادة جنده وهي كالآتي:

1- أن يكون تقياً ورعاً عالماً بأحكام الشريعة:
وكان يقول ويردد: من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله( )، ولما أرسل إلى سعيد بن عامر ليستعمله على بعض الشام، فأبى عليه، فقال عمر: كلا والذي نفسي بيده لا تجعلونها في عنقي وتجلسون في بيوتكم( ).

2- أن يشتهر القائد بالتأني والتروي:
لما ولَّى عمر رضي الله عنه أبا عبيد الثقفي قال له: إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان والله لولا سرعته لأمرته ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث( ).

3- أن يكون جريئاً، وشجاعاً ورامياً:
ولما أراد عمر أن يولي قائداً لجيوش المسلمين لفتح نهاوند( ) واستشار الناس فقالوا يا أمير المؤمنين أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك، ورأيتهم وكلمتهم فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلاً ليكوننّ أول الأسنّة( ) إذا لقيها غداً، فقيل من يا أمير المؤمنين؟ قال: النعمان بن مقرن المزنيِّ، فقالوا: هُوَ لها( ).

4- أن يكون ذا دهاء وفطنة وحنكة:
قال عمر رضي الله عنه: ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أحجزكم في ثغوركم( ). ولما نزل عمرو بن العاص وجنده على الروم بموقعة أجنادين لفتحها وكان قائد الروم الأرطبون وهو أدهى الروم، وأبعدها غوراً، وأنكاها فعلاً، ووضع جنداً عظيماً بإيلياء والرملة وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمر قال: رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عمّ تنفرج( )، ولما أراد عمرو أن يجمع المعلومات عن الأرطبون وجيشه، حتى يضع خطته الحكيمة لمهاجمته، والانتصار عليه دخل بن العاص معسكر قائد الروم وكاد أن يقتل إلا أن الله نجاه وخدع عمرو بن العاص أرطبون الروم ولما وصل الأمر إلى عمر بن الخطاب. قال: غلبه عمرو لله عمرو( ).

5- أن يكون القائد لبقاً حاذقاً له رأي وبصر بالحروب:
يقول صاحب المغني (ابن قدامة الحنبلي) في كلامه عن أمير الحرب: .. ويكون ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة للعدو، ويكون فيه أمانة ورفق ونصح للمسلمين( ). ولذلك اختار الفاروق سعد بن أبي وقاص لقيادة حرب العراق بعد أن استشار الناس.

6- الرغبة في العمل:
كان من خطة عمر رضي الله عنه أن لا يولِّي رجلاً عملاً لا رغبة له فيه ولا قناعة إلا إذا اضطر إلى ذلك ليكون العمل أكثر إتقاناً، فقد ندب الناس مرة وحثهم على قتال الفرس بالعراق، فلم يقم أحد ثم ندبهم في اليوم الثاني فلم يقم أحد، ثم ندبهم في اليوم الثالث وهكذا ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، ثم تتابع الناس، فأمّر على الجميع أبا عبيد – وهو لذلك أهلٌ – ولم يكن صحابياً فقيل لعمر: هلا أمّرت عليهم رجلاً من الصحابة؟ فقال: إنما أومر عليهم من استجاب( )، وقد تجسدت هذه الصفات في كل من سعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وغيرهم كثير.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:04 pm

ثالثاً: حقوق الله، والقادة والجند من خلال رسائل الفاروق:

• حقوق الله: كان الفاروق رضي الله عنه يرشد قادته وجنوده من خلال رسائله ووصاياه إلى أهمية التزامهم بحقوق الله والتي من أهمها:

1- مصابرة العدو: قال تعالى: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200) ? (آل عمران،آية:200). وكان مما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصبر لسعد بن أبي وقاص حين بعث به إلى العراق: واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على ما أصابك أو نابك، يجتمع لك خشية الله( )، كما كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو بالشام قائلاً: لقد أثنى الله على قوم بصبرهم. فقال:? وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148) ? (آل عمران،آية:146،147،148). فأما ثواب الدنيا فالغنيمة والفتح وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة( ).

2- أن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله: فقد استوعب الفاروق رضي الله عنه قول رسول الله ?: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله( )، فنجد حياته وتوصياته ورسائله يهيمن عليها هذا المعنى العظيم.

3- أداء الأمانة: قال تعالى: ? وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(161) ?
(آل عمران،آية:161). فمن وصايا الفاروق رضي الله عنه للقادة والعسكر في عدم الغلول قوله: (إذا لقيتم العدو فلا تفروا، وإذا غنمتم فلا تغلوا)( ).
4- عدم الممالأة والمحاباة في نصرة دين الله: ومن مشهور قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المحاباة والمودة: من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك فقد خان الله ورسوله، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله( ).

• حقوق القائد: وبين الفاروق في رسائله وتوجيهاته حقوق القائد والتي منها.
1- إلتزام طاعته: فحين بعث الفاروق بأبي عبيد بن مسعود الثقفي على رأس جيش نحو العراق أرسل برفقته سلمة بن أسلم الخزرجي وسليط بن قيس الأنصاري رضي الله عنهما وأمره أن لا يقطع أمراً دونهما وأعلمه أنهما من أهل بدر ثم إن
أبا عبيد حارب الفرس بموقعة الجسر وقد أشار عليه سليط أن لا يقطع الجسر
ولا يعبر إليهم فلم يسمع له مما أدى إلى هزيمة عسكر المسلمين فقال سليط في بعض قوله: لولا أني أكره خلاف الطاعة لأنحزت بالناس ولكني أسمع وأطيع وإن كنت قد أخطأت وأشركني عمر معك( ).
2- أن يفوضوا أمرهم إلى رأيه: قال تعالى: ? وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً(83) ? (النساء،آية:83). جعل الله تفويض الرعية الأمر إلى ولي الأمر سبباً لحصول العلم وسداد الرأي، فإن ظهر لهم صواب خفي عليه بينوه له وأشاروا به عليه ولذلك ندب إلى المشاورة ليرجع بها إلى الصواب( )، وقد جعل عمر رضي الله عنه للعسكر أميراً واحداً يفوضون أمرهم إلى رأيه ويكلونه إلى تدبيره حتى
لا تختلف أراؤهم فتختلف كلمتهم( ) ففي السنة التي بعث فيها الفاروق بجيوش المسلمين إلى نهاوند وأمرهم بالتجمع هنالك كان الجيش يتألف من جند أهل المدينة المنورة من المهاجرين والأنصار وفيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وجند أهل البصرة بقيادة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وجند أهل الكوفة بقيادة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وبعد تجمعهم كتب إليهم الفاروق رضي الله عنه: إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرن المزني( ).
3- المسارعة إلى امتثال أمره: وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أول عمل قام به هو ندب الناس إلى فارس حيث أخذ يدعوهم لمدة ثلاثة أيام ولم يستجب أحد وفي اليوم الرابع كان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي مما أدى بعمر رضي الله عنه أن يوليه ذلك البعث بالرغم من وجود صحابة رسول الله لأنه سارع إلى تلبية النداء( )، وعندما وجه الفاروق عتبة بن غزوان إلى البصرة قال ناصحاً إياه ومذكراً له بقوله: اتق الله فيما وليت وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر يفسد عليك إخوتك وقد صحبت رسول الله ? فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد ضعف حتى صرت أميراً مسلطاً وملكاً مطاعاً تقول فيسمع منك وتأمر فيطاع أمرك فيا لها من نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك وتبطرك عن من دونك( ).
4- عدم منازعته في شيء من قسمة الغنائم: ومما قاله عمر بن الخطاب حول قسمة الغنائم: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم ويقسموا فيئهم ويعدلوا عليهم فمن أشكل عليه شيء رفعه إليّ( )، فمن ذلك في فتح الأبلة( ) عندما تم تقسيم الغنائم بين الجند كان نصيب أحدهم قدراً من نحاس فلما صار بيده تبين أنه من ذهب وعرف ذلك الجند فشكوا إلى أمير الجند( )، فأشكل ذلك عليه فكتب بدوره إلى عمر رضي الله عنه يخبره بذلك فأتاه الرد بقوله: أصر على يمينه بأنه لم يعلم أنها ذهب إلا بعد أن صارت إليه فإن حلف فأدفعها إليه وإن أبى فأقسمها بين المسلمين فحلف فدفعها إليه( )، وعندما جمعت الغنائم في معركة جلولاء ذكر جرير بن عبد الله البجلي أن له ربع ذلك كله هو وقومه فكتب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: صدق جرير قد قلت له، فإن شاء أن يكون قاتل هو وقومه على جعل المؤلفة قلوبهم فأعطهم جعلهم، وإن كانوا إنما ما قاتلوا إلا لله ولدينه واحتسبوا ما عنده فهم من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فلما قدم الكتاب على سعد أخبر جريراً بذلك، فقال جرير: صدق أمير المؤمنين وبر لا حاجة لنا إلى الربع بل نحن من المسلمين( ).

• حقوق الجند: وقد بين الفاروق في رسائله ووصاياه حقوق الجند والتي منها:
1- إستعراضهم وتفقد أحوالهم: فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إدارته أنه قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة فذاك لأن عمر كان مأموراً بالجهاد وهو أمير المؤمنين فهو أمير الجهاد فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو( )، وكان رضي الله عنه عندما يعقد الألوية لقادته وقبل سيرهم للغزو يستعرضهم ويوصيهم فمما كان يقول لهم: ائتزروا وارتدوا وانتعلوا واحتفوا وارموا الأغراض وألفوا الركب وانزوا على الخيل وعليكم بالمعدية – أو قال العربية – ودعوا التنعم وزي العجم ولن تخور قواكم ما نزوتم ونزعتم على ظهور الخيل ونزعتم بالقسي( )، وهذا يظهر لنا مدى حرص الفاروق رضي الله عنه في الاستعداد وإظهار القوة واحتذى قادته حذوه في صف واستعراض العسكر وإبراز القوة للعدو سواء في المعارك الحربية أو أثناء الاستعداد لها، فكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يخطب الجند بمصر في صلاة الجمعة ويحثهم على إسمان دوابهم ويتوعدهم إن لم يفعلوا ذلك بحط الفريضة عنهم يوم العرض فمن قوله: ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه واعلموا إني معرض الخيل كاعتراض الرجال فمن أهزل فرسه من غير علة حططت من فريضته قدر ذلك( )، وعندما لقي معاوية عمر رضي الله عنهما عند قدومه الشام وجد أبهة الملك وزيه من العديد والعدة فاستنكر عليه ذلك وقال له: أكسروية يا معاوية؟ قال: يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة فسكت ولم يخطئه لما اجتمع عليه بمقصد من مقاصد الحق والدين( ).
2- الرفق بالجند في السير: وقد كتب الفاروق إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قائلاً: وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع، وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح( )..، وحين بعث الخليفة عمر رضي الله عنه بمدد إلى جند الشام حمل ضعيفهم وزودهم وأمر عليهم سعيد بن عامر، وعندما هم بالمسير قال عمر على رسلك حتى أوصيك، ثم سار عمر نحو الجيش راجلاً وقال له: يا سعيد وليتك هذا الجيش ولست بخير رجل فيهم إلا أن تتقي الله، فإذا سرت فأرفق بهم ما استطعت ولا تشتم أعراضهم ولا تحتقر صغيرهم ولا تؤثر قويهم ولا تتبع سواك ولا تسلك بهم المغاور واقطع بهم السهل ولا ترقد بهم على جادة( ) الطريق والله تعالى خليفتي عليك وعلى من معك من المسلمين( ).
3- أن يتصفحهم عند مسيرهم: فقد كان الفاروق يتصفح الجيوش عند مسيرهم ويوصيهم بالأخلاق الرفيعة والقيم العظيمة، فقد أمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالوفاء مع الأعداء حين طلبهم للأمان وأن لا يغدروا وبين له أن الخطأ في الغدر هلكة ووهن له وقوة للأعداء وحذره أن يكون شيناً على المسلمين وسبباً لتوهينهم( ).
4- عدم التعرض عند اللقاء لمن خالفه منهم لئلا يحصل افتراق الكلمة والفشل:
ومن وصايا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمرائه وقادته في هذا الباب قوله: لا يجلدن أمير جيش ولا سرية أحداً الحد حتى يطلع الدرب لئلا تحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار( ).
وعندما بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالقائد سلمان بن ربيعة الباهلي على رأس جيش كان برفقته عمرو بن معديكرب وطليحة بن خويلد الأسدي وحدثت بين عمرو بن معديكرب وسلمان بن ربيعة أمور بلغت عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر قائلاً: أما بعد: فقد بلغني صنيعك بعمرو وإنك لم تحسن بذلك ولم تجمل فيه فإذا كنت بمثل مكانك في دار الحرب فانظر عمراً وطليحة وقربهما منك واسمع منهما فإن لهما بالحرب علماً وتجربة وإذا وصلت إلى دار السلم فأنزلهما منزلتهما التي أنزلا أنفسهما بها وقرب أهل الفقه والقرآن( )، وكتب إلى عمرو بن معديكرب: أما بعد فقد بلغني إفحامك لأميرك وشتمك له، وإن لك لسيفاً تسميه الصمصامة وإن لي سيفاً أسميه المصمم وإني أحلف بالله لو قد وضعته على هامتك
لا أرفعه حتى أقدك به، فلما جاء الكتاب لعمرو قال: والله إن هم ليفعلن( )، يتجلى من النصين السابقين فقه الفاروق فيما ينبغي أن يتحلى به القائد في دار الحرب من الإتلاف للقلوب وخاصة وهم بإزاء العدو، وأن على القائد أن يستشير من له خبرة بالحرب وهذا لا يعني انقطاع العلاقة والمودة بينهما حين عودة العسكر إلى دار السلام، وفي فتح الرها( ) على يد عياض بن غنم قدم عليه مدد من الشام بقيادة بسر بن أبي أرطأة العامري وجه به يزيد بن أبي سفيان بأمر من عمر رضي الله عنه وحدث بينهما خلاف وهم في دار الحرب وكان عياض مستغنياً عن المدد فطلب إليه الرجوع إلى الشام فكتب عمر رضي الله عنه إلى عياض طالباً منه أن يوضح له سبب إرجاعهم وخاصة وهم ما قدموا إلا لمساندتك ولإعلام العدو أن الأمداد متواترة إليك فتنكسر قلوبهم ويسارعوا إلى طاعتك، فأجابه عياض قائلاً: خشيت أن يحصل شيء من التمرد وتختلف قلوب العساكر ولما كنت غنياً عن مدده اعتذرت إليه وأمرته بالعودة هذا هو السبب في إعادته( )، عندها صوبه عمر رضي الله عنه ودعا له وخاصة وهم بإزاء العدو حتى لا تفترق الكلمة ويتناحروا فيما بينهم ويحصل الفشل( ).

5- حراستهم من غرة يظفر بها العدو في مقامهم ومسيرهم:
اهتم الفاروق بأمر الحراسة ولذلك أمر قادته بالحرص والحذر من بيان العدو وأخذهم على غرة وطلب منهم إقامة الحرس في حلهم وترحالهم، فمن ذلك قوله لسعد بن أبي وقاص: أذك حراسك على عسكرك وتيقظ من البيان جهدك
ولا تؤتى بأسير ليس له عقد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدو الله وعدوك( )، وكان رضي الله عنه يوصي قادته باتخاذ العيون وبث الطلائع عند بلوغ أرض العدو حتى يكونوا على علم ودراية بحالهم وبنواياهم، فمما كتبه إلى سعد بن أبي وقاص قوله: وإذا وطئت أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم ولا يخفى عليك أمرهم وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تثق به وتطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك ليس عيناً لك، وليكن منك عند دنوّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول
ما تلقاهم القوة من رأيك( ). ويتضح لنا من هذه الوصية القيمة أن الخليفة عمر رضي الله عنه لم تقتصر عنايته باتخاذ العيون على الأعداء بل اتخذها أيضاً في الجيوش الإسلامية في الرقابة الإدارية على الولاة والعمال والقادة والجند ليتعرف أحوالهم وسيرتهم ومعاملتهم وسير أعمالهم العسكرية، فقد كانت له عيون في كل جيش ومعسكر ترفع إليه تقريراً عما يدور فيه( )، وعندما شكا عمير بن سعد الأنصاري إلى الخليفة عمر حين قدم عليه وكان على طائفة من أهل الشام قائلاً: يا أمير المؤمنين إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها عرب سوس( )، وإنهم لا يخفون على عدونا من عوراتنا شيئاً ولا يظهروننا على عوراتهم، فقال له عمر: فإذا قدمت فخيرهم بين أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين ومكان كل بعير بعيرين ومكان كل شيء شيئين فإن رضوا بذلك فأعطهم وخربها فإن أبوا فأنب إليهم وأجلهم سنة ثم خربها( ). ثم لما قدم عليهم عمير بن سعد عرض عليهم ذلك فأبوا فأجلهم سنة ثم خربها( ).

6- اختيار موضع نزولهم لمحاربة العدو: فقد كان الفاروق يوصي سعد بن أبي وقاص بأن لا يقاتل حتى يتعرف على طبيعة أرض المعركة كلها مداخلها ومخارجها ووفرة الماء والكلأ بها وما يجري مجرى ذلك( )، كما كتب إليه قبل القادسية بأن يكون أدنى حجر من أرضهم لأنهم أعرف بمسالكها من عدوهم فمتى كانت الهزيمة استطاع التمكن من الانسحاب بالجند فينجوا من القتل فلا يستطيع العدو اللحاق بهم لجبنه من اتباعهم وعدم معرفته بطرقها( )، وبالإضافة إلى ذلك فقد ولى الفاروق سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان ريادة الجيش في اختيار موقع وموضع نزوله وإقامته، فقد قام الفاروق بتوزيع المهام الإدارية بين القادة( )، وكان الفاروق يشترط في إدارته العسكرية على قادته عند اختيارهم لموضع نزولهم وإقامة معسكراتهم الحربية أن لا يفصلهم عن مقر القيادة العسكرية العليا ماء وذلك لما لها من مركزية في التخطيط ولتسهيل الإمداد والتموين( )، كما كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح قائلاً: ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم وتعلم كيف مأتاه( ).
7- إعداد ما يحتاج إليه الجند من زاد وعلوفه: كان عمر رضي الله عنه يبعث لجند المسلمين بالعراق من المدينة المنورة بالتموين من الغنم والجزور( )، وحمى النقيع والربذة( )، للنعم التي يحمل عليها في سبيل الله، كما اتخذ في كل مصر على قدره خيولاً من فضول أموال المسلمين عدة لما يعرض فكان من ذلك بالكوفة أربعة آلاف فرس، وبالبصرة نحوُ منها، وفي كل مصر من الأمصار على قدره( )، ثم حين قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشام لمصالحة أهل بيت المقدس أنشأ إدارة لتموين الجيش عرفت باسم الأهراء( )، وكان عمرو بن عبسة أول موظف عين لإدارة تموين الجيش( ).

8- تحريضهم على القتال: كتب الفاروق إلى أبي عبيدة يحرضه على الجهاد قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أمين الأمة
أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فإني أحمد الله عز وجل سراً وعلانية وأحذركم من معصية الله عز وجل وأحذركم وأنهاكم أن تكونوا ممن قال الله في حقهم ? قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24) ? (التوبة،آية:24). وصلى الله على خاتم النبيين وإمام المرسلين والحمد لله رب العالمين( )، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة قرأه على المسلمين فعلموا أن أمير المؤمنين يحرضهم على القتال ولم يبق أحد من المسلمين إلا بكى من كتاب عمر بن الخطاب، كما كتب إلى سعد بن أبي وقاص بالعراق ومن معه من الأجناد يحرضهم على القتال ويمنيهم ويأمرهم الالتزام بالفضائل ويحذرهم من ارتكاب المعاصي( )، هذا وكان من مهام أمراء الأعشار في إدارة الفاروق رضي الله عنه التحريض في القتال( ).

9- أن يذكرهم بثواب الله وفضل الشهادة: ففي عصر الفاروق قام سعد بن أبي وقاص في القادسية يذكر جنده بثواب الله تعالى وما أعد لهم في الآخرة من النعيم ورغبهم في الجهاد وأعلمهم ما وعد الله نبيه من النصر وإظهار الدين وبين لهم ما سوف يكون بأيديهم من النفل والغنائم والبلاد وأمر القراء أن يقرأوا سورة الجهاد (الأنفال) ( )، كما قام أبو عبيدة بن الجراح في جند الشام خطيباً ومذكراً إياهم بثواب الله تعالى ونعيمه ومخبراً إياهم أن الجهاد خير لهم من الدنيا وما فيها( )، كما اشتهر عن عمرو بن العاص قوله لجند فلسطين: من قتل شهيداً ومن عاش كان سعيداً وأمر الجند أن يقرأوا القرآن وحثهم على الصبر ورغبهم في ثواب الله وجنته( ).
10- أن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق: فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد يوصيه بقوله: أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي من احتراسكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله( )…

11- أن ينهاهم عن الاشتغال بتجارة وزراعة ونحوها: فقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه مناديه أن يخرج إلى أمراء الأجناد في أن يبلغوا العسكر أن عطاءهم قائم وأن رزق عيالهم سائل وأن ينهوهم عن الزراعة حتى إنّه عاقب من لم يمتثل ذلك( )، كل ذلك حرصاً من الفاروق رضي الله عنه بتفريغ الجند للجهاد ونشر الإسلام ولأن لا يلتصقوا بالأرض حين يزرعوا فيركنوا إلى ذلك ويصبح قلبهم منشغلاً، ولذلك استطاع عمر رضي الله عنه أن يوجد جنداً متفرغاً للقتال جاهزاً لوقت الحاجة والطلب وضمن عدم انتشارهم لجني الثمار والزراعة وما يتبعها من حصاد وحرث وتسويق( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:05 pm

رابعاً: اهتمامه بحدود الدولة:
كان عمر رضي الله عنه من خوفه على المسلمين وحدود الدولة الإسلامية لاتساعها وكرهه لقتال الروم يقول إذا ذكر الروم: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه وللروم ما وراءه( ). وقال الشيء نفسه حول حدود الدولة الإسلامية نحو الفرس: لوددت أن بين السواد وبين الجبل سداً لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، وإني أوثر سلامة المسلمين على الأنفال( )، فأمر بإقامة قواعد عسكرية إسلامية لها عدة وظائف ومهام والتي سبق وأشرنا إلى بعض منها بالإضافة إلى كونها مراكز حربية في مواقع استراتيجية متقدمة على الحدود بينها وبين البلاد المفتوحة لترد أي عدوان خارجي وكمراكز تجمع للجند ولنشر الإسلام وكان في طليعتها مدينتا البصرة والكوفة في مجاورة الدولة الفارسية والفسطاط بمصر( )، وثغور أخرى بسواحلها وسواحل الشام لرد هجمات الروم من البحر، وجند أربعة أجناد فيما بعد فيقال جند حمص وجند دمشق وجند الأردن وجند فلسطين حيث كانت لاختصاصهم حتى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم لتسهيل عملية إدارتهم في المهمات العسكرية ولرعاية شؤونهم والتي كان منها العطاء( )، هذا إلى جانب المعسكرات والتحصينات التي بالثغور والتي سبق إجلاء العدو عنها واستولى عليها المسلمون واتخذوها قواعد عسكرية لهم وأسكنوا بها جندهم لحماية حدود الدولة الإسلامية( )، ثم صار المسلمون كلما تقدموا في الفتح أقاموا في نهاية توسعهم ثغراً يحرس الحدود يشحن بالجند المرابطين ويتولى أمره قائد من أكفأ القواد( )، ومن أهم تلك الإجراءات التي اتخذها الفاروق رضي الله عنه بإقليم العراق والمشرق المسالح التي أقيمت بين المسلمين والفرس فحينما بلغ اجتماع الفرس على يزدجرد للقائد المثنى بن حارثة والمسلمين كتبوا إلى الخليفة عمر بذلك فجاءهم الرد بقوله: أما بعد فأخرجوا من بين ظهراني الأعاجم وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم.. فنفذ المثنى الأمر( )، كما أوصى الخليفة عمر رضي الله عنه سعداً قبل القادسية بقوله: وإذا انتهيت إلى القادسية فتكون مسالحك على أنقابها( ). وفي جلولاء كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد: إن هزم الله الجندين، جند مهران وجند الأنطاق فقدم القعقاع بن عمرو بثغر حلوان بجنود المسلمين لحماية المنطقة والحفاظ عليها من تقدم الأعداء وحتى يكون ردءاً لإخوانه من جند المسلمين الغازي منهم والمقيم( )، لذا كان القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالعراق يطلب من الجند ويحثهم على التقدم نحو الفرس مخبراً إياهم أن الثغور والفروج قد سدت بقوله: ليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه كفاكموهم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذاتهم( )، والملاحظ أن هذه المسالح في عهد الفاروق لا تنشأ إلا بأمر من القيادة العليا المركزية للإدارة العسكرية وذلك في قول الخليفة عمر لقادة المسالح: اشغلوا فارس عن إخوانكم وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري( )، وقد بلغت ثغور الكوفة وحدها في عهد الفاروق أربعة ثغور هي: ثغور حلوان وعليه القعقاع بن عمرو التميمي، وثغر ماسبذان وعليه ضرار بن الخطاب الفهري، وثغر قرقيسيا( ) وعليه عمر بن مالك الزهري، وثغر الموصل وعليه عبد الله بن المعتم العبسي وكان لكل قائد من هؤلاء من ينوب عنه في ثغره لإدارته إذا توجه لمهمة ما، ومن الجدير بالذكر أن جند المسلمين لا يبنون الثغور حصناً ولا يمصرون مدينة إلا وأقاموا المسجد في المقدمة لما له من دور دعوي وتربوي وجهادي كما هو معروف( )، وأما فيما يتعلق بحماية الحدود بين الروم والمسلمين في الجبهة الشامية في عهد عمر رضي الله عنه، فقد بدأت عنايته بها أيضاً منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام حيث اتخذ لذلك إجراءات دفاعية كثيرة ومتعددة لحماية المنطقة، منها بناء المناظر وإقامة الحرس واتخاذ المسالح به وتحصين المدن الساحلية إلى جانب الرباطات الدائمة بالإضافة إلى الحصون المفتوحة وترتيب المقاتلة فيها أي الجند الغازي وسياسة التهجير أو النواقل وجمعه الساحل الشامي كله تحت إدارة عسكرية موحدة ففي السنة التي سار فيها عمر بنفسه إلى بلاد الشام لتوقيع الصلح مع أهل بيت المقدس تفقد بعض الثغور الشامية ووضع بها الحاميات والمسالح ورتب بها أمراء الأخبار والقادة وسد فروجها ومسالحها وأخذ يدور بها ليرى احتياجاتها الدفاعية( )، ثم رجع إلى المدينة وخطب الناس قبل رجوعه قائلاً: ألا قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم وأبلغنا ما لديكم فجندنا لكم الجنود وهيأنا لكم الفروج وبوأنا لكم ووسعنا عليكم
ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شامكم وسمينا لكم أطماعكم وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانكم فمن علم علم شيء يينبغي العمل به فبلغنا نعمل به إن شاء الله
ولا قوة إلا بالله( )، وعندما فتح أبو عبيدة بن الجراح ثغر انطاكية بالحدود الشامية الشمالية كتب إليه الخليفة عمر رضي الله عنه قائلاً: أن رتب بإنطاكية جماعة من المسلمين أهل نيات وحسبة وأجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء( )، فنقل
أبو عبيدة قوماً من أهل حمص وبعلبك مرابطة بها لحماية حدود المنطقة من أي عدوان خارجي وعين على الثغر حبيب بن مسلمة الفهري الذي اتخذ من ثغر إنطاكية قاعدة لانطلاقه لغزو ما خلف الحدود الإسلامية فمنها كان يأتي المدد للخطوط الأمامية في الجبهة الرومية وكان منها غزوة للجرجومة( ) التي صالح أهلها على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام ضد الروم( )، وكذلك عندما سار أبو عبيدة إلى ثغر بالس( ) رتب به جماعة من المقاتلين وأسكنه قوماً من عرب الشام الذين أسلموا بعد قدوم المسلمين لحفظ الثغر وضبطه من هجمات الروم( )، ومن التحصينات والوسائل الدفاعية التي اتخذها الوالي معاوية بن أبي سفيان لحماية الحدود الإسلامية لسواحل الشام في نهاية عهد عمر بن الخطاب بداية الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهما هو قيامه ببناء عدة حصون مثل أطرسوس( )، ومرقية( )، وبلنياس( )، وبيت سليمة، بالإضافة إلى قيامه بتطوير الحصون التي استولى عليها الجند المسلمين بسواحل الشام وشحنها جميعاً بالجند المقاتلة وأقطعهم القطائع بها وبنى المناظير ووضع بها الحرس لمراقبة اقتراب العدو فتقوم كل منظرة بإشعال النار لإخبار الأخرى التي تليها إلى أن يصل الخبر إلى المدينة والثغر والمسلحة في زمن قليل فيسرعون نحو الجبهة التي أقبل منها العدو للتصدي له ومنعه من التسلل( )، وفيما يتعلق بحماية الحدود بين المسلمين والروم في الجبهة المصرية لإدارة عمر رضي الله عنه، فقد شملتها الرعاية والعناية كمثيلاتها من الجبهات الأخرى فقد أمر عمرو بن العاص ببناء الفسطاط كقاعدة عسكرية أولى لإيواء جند المسلمين بالمنطقة وجعل لكل قبيلة محرساً وعريفاً فمنها كان المنطلق في الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا بالإضافة إلى كونها إحدى الحاميات الدفاعية المهمة للثغر المصري إلى ما هنالك من مهام تضطلع بها واشترط عمر رضي الله عنه في موقعها، كما اشترط في مواقع القواعد السابقة بأن لا يفصل بينها وبين القيادة العليا المركزية بالمدينة ماء حتى يكون الاتصال بينهما مستمراً وميسرا( )ً وكان عمرو بن العاص يذكر جنوده بأن مقامهم بمصر عبارة عن رباط وذلك في قوله: اعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية، وفي الفترة التي استولى فيها جند المسلمين على الحصون والمسالح التي بالثغر المصري قاموا بتجديدها وترميمها والاستفادة منها في مرابطتهم حيث شحنوها بالجنود وكان العريش أول مسالح مصر وأعمالها( )، وقد أمر الفاروق بإقامة المسالح على سواحل مصر كلها( )، وحينما فتح عمرو بن العاص ثغر الإسكندرية جعل به ألف رجل من أصحابه مسلحة به لحفظه وحمايته وكان عددهم لا يفي بالغرض المطلوب مما جعل الروم يعودون إليهم من البحر فقتلوا من قتلوا من أصحاب المسلحة وهرب من هرب فرجع إليهم عمرو بن العاص مرة أخرى وفتح الثغر وجعل من أصحابه لرباط الإسكندرية ربع الجيش كما جعل في السواحل الربع الآخر وأبقى معه بالفسطاط النصف الآخر( )، وكان الفاروق يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة المنورة ترابط بثغر الإسكندرية ويكاتب الولاة بأن لا تغفل عنها وأن تكثف رابطتها، إضافة إلى من جعل بها عمرو بن العاص من المرابطين( )، وبذلك استكمل عمر رضي الله عنه فقهه البعيد في حماية الحدود البرية وتحصينها في الجبهات الثلاث العراقية والشامية والمصرية( )، ولم يقتصر الأمر على هذه الوسائل الدفاعية لحماية الحدود الإسلامية بل أنشأ عمر رضي الله عنه نظام الصوائف والشواتي وهي الحملات التي كانت تخرج بانتظام سنوياً كالدوريات المنظمة في فصل الصيف وفي فصل الشتاء( )، ولم تقتصر حملات الشواتي والصوائف على ثغور بلاد الشام بل شملت كافة حدود الدولة الإسلامية حينئذ وكان يتولاها كبار القادة أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاوية بن أبي سفيان والنعمان بن مقرن وغيرهم كثير( )، وكان الفاروق يزيد في الأرزاق والأعطيات للجنود الذين يبعثون إلى الثغور للمرابطة بها حتى تعينهم على تحمل بعدهم ويقطعهم القطائع بها( )، ونرى قادة الفاروق رضي الله عنه في إدارتهم العسكرية للمعارك يقسمون لأهل المسالح من الفيء مثل الذي يقسم لهم لأنهم كانوا ردءاً للمسلمين لئلا يؤتوا من وجه من الوجوه( )، وحين حضرت الخليفة عمر رضي الله عنه الوفاة قال موصياً الخليفة من بعده: وأوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار خيراً فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم( ).

خامساً: علاقة عمر مع الملوك:
كانت علاقة الفاروق مع ملك الفرس حربية فقد توفي وجيوشه تطارد يزدجرد في بلاده وتدوخ ملكه وأما علاقته مع ملك الروم فقد استقر الصلح بين الدولتين منذ أتم عمر رضي الله عنه فتح الشام والجزيرة وجرت بينه وبين ملك الروم المكاتبات، وذكر مؤرخو العرب أن هذه المكاتبات كانت مع هرقل ولكن لم يذكروا هل كانت مع هرقل الأول الذي انتزع منه عمر بلاد الشام أم مع ابنه هرقل الثاني المعروف بهرقل قسطنطين لأن هرقل الأول توفي سنة (641م) الموافقة سنة (21هـ) وتولى الملك ابنه المذكور في هذه السنة أي قبل وفاة عمر رضي الله عنه بسنتين وسواء كانت المكاتبة والمراسلة مع هرقل الأول أو الثاني، فقد كانت الرسل تتردد بينهما بالمكاتبة وأن
أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزوج عمر بن الخطاب أرسلت مرة مع رسول جاء المدينة من قبل ملك الروم هدية من الطاف المدينة إلى إمبراطورة الروم امرأة هرقل وأرسلت لها هذه في نظيرها عقداً نفيساً من الجواهر، فأخذه منها عمر ورده إلى بيت المال وقد جاء في كتب التاريخ أن أم كلثوم أرسلت تلك الهدية مع بريد عمر( ).
سادساً: من نتائج الفتوحات العمرية:

1- إزالة الدولة الفارسية (الساسانية) من الوجود وفي الجانب المقابل حجمت الدولة الرومية (البيزنطية) ومن ثم انتهى ذلك الصراع الجاهلي الذي كان ناشباً بين الفرس والروم والذي جرّ شعوب المنطقة إلى حروب دامية أنهكت الدولتين معاً، لا لشيء إلا للمحافظة على مصلحة الزعامات في كلتا الدولتين.
2- وجود قيادة عالمية واحدة للمنطقة التي تقع في وسط الكرة الأرضية كلها الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن بحر العرب جنوباً حتى آسيا الصغرى شمالاً، قيادة جديدة بمؤهلات لم تعهدها البشرية، فهي محكومة مثلها مثل بقية أبناء شعوب المنطقة بقيم ومثل ونظام.
3- هيمنة المنهج الرباني على جميع الناس، دون ضغط عليهم في تغيير معتقداتهم وديانتهم، ودون تفريق بين الأسود والأحمر والأبيض والأصفر، بل الناس كلهم أمام شرع الله سواء، ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، ولمس الناس ثمار تطبيق شرع الله في حياتهم من الأمن والتمكين، والبركات، والسعة في الأرزاق وغيرها.
4- ظهر في دنيا الناس أمة الإسلام التي جمعت بين أفرادها عقيدة التوحيد، وشريعة المولى عز وجل وترفعت عن آصرة الأعراق والأنساب والاعتبارات الأرضية الأخرى، وبرز في هذه الأمة قيادات من كل الأجناس العرقية، فكان لها المكانة العالية في وسط هذه الأمة، ولم يوجد ما يشينها أو يغير من مكانتها في الأمة، ولهذا كانوا يقولون لمن يقاتلونهم: فإن أجبتم إلى ديننا خلّفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم بلادكم( ).
5- برزت حضارة ربانية متكاملة، ومتوازنة ومتناسقة ضمت بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى وقبلت في عضويتها العالم بأسره، أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني، وأحكامه وأصبح الفاروق نموذجاً في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه يعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم، الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية، وإعلاء كلمة الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله، ونفذ قول الله تعالى: ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأمُورِ(41) ? (الحج،آية:41).
لقد أنتجت الفتوحات الإسلامية حضارة إنسانية رفيعة في ظل دين الإسلام، وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الواحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن، وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان( ).

المبحث الخامس: الأيام الأخيرة في حياة الفاروق:

كان أمير المؤمنين الفاروق رضي الله عنه مثالاً للخليفة العادل المؤمن، المجاهد النقي الورع، القوي الأمين، الحصن المنيع للأمة وعقيدتها، قضى رضي الله عنه خلافته كلها في خدمة دينه وعقيدته وأمته التي تولى أمر قيادتها، فكان القائد الأعلى للجيش والفقيه المجتهد الذي يرجع الجميع إلى رأيه، والقاضي العادل النزيه، والأب الحنون الرحيم بالرعية، صغيرها وكبيرها، ضعيفها وقويها، فقيرها وغنيها، الصادق المؤمن بالله ورسوله، السياسي المحنك المجرب والإداري الحكيم الحازم، أحكم بقيادته صرح الأمة، وتوطدت في عهده دعائم الدولة الإسلامية، وتحققت بقيادته أعظم الانتصارات على الفرس في معارك الفتوح، فكانت القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، وتمّ فتح بلاد الشام ومصر من سيطرة الروم البيزنطيين( )، ودخل الإسلام في معظم البلاد المحيطة بالجزيرة العربية، وكانت خلافته سداً منيعاً أمام الفتن، وكان عمر نفسه باباً مغلقاً
لا يقدر أصحاب الفتن الدخول إلى المسلمين في حياته، ولا تقدر الفتن أن تطل برأسها في عهده( ).

أولاً: حوار بين عمر وحذيفة حول الفتن (واقتراب كسر الباب):
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كنّا عند بن الخطاب رضي الله عنه. فقال أيكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة؟ فقلت: أنا أحفظه كما قال! قال: هات، لله أبوك، إنك لجريء. قلت: سمعت رسول الله ? يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال عمر: ليس هذا أريد. إنما أريد الفتن التي تموج كموج البحر! قلت: مالك ولها
يا أمير المؤمنين؟ إنّ بينك وبينها باباً مغلقاً!! قال: فيكسر الباب أو يفتح؟ قلت: لا. بل يُكسر!! قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبداً، حتى قيام الساعة!!! قال أبو وائل الراوي عن حذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال حذيفة: نعم. كما يعلم أن دون غد الليلة! إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. قال أبو وائل: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سل حذيفة من الباب؟ فقال مسروق لحذيفة: من الباب؟ قال حذيفة: هو عمر( )!!! إن حذيفة قدّم العلم لعمر رضي الله عنهم، بأن الباب المنيع هو الذي يمنع تدفق الفتن على المسلمين، ويحجرُها عنهم، إنَّ هذا سيُكسر كسراً، وسيتحطم تحطيماً، وهذا معناه أنه لن يغلق بعد هذا حتى قيام الساعة، وهذا ما فهمه عمر، أي أن الفتن ستبقى منتشرة ذائعة بين المسلمين، ولن يتمكَّنوا من إزالتها أو توقُّفها أو القضاء عليها، وحذيفة رضي الله عنه لا يقرر هذا من عنده، ولا يتوقعه توقعاً، فهو لا يعلم الغيب وإنما سمع هذا من رسول الله ? ووعاه وحفظه كما سمعه، ولهذا يعلق على كلامه لعمر قائلاً:إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. أي حدثته حديثاً صحيحاً صادقاً، لا أغاليط ولا أكاذيب فيه، لأنني سمعته من رسول الله ? . ثم إن عمر رضي الله عنه يعلم الحقيقة التي أخبره بها حذيفة، فهو يعلم أن خلافته باب منيع يمنع تدفق الفتن على المسلمين، وأن الفتن لن تغزو المسلمين أثناء خلافته وعهده وحياته( )،وكان عمر رضي الله عنه يعلم من رسول الله ?، أنه سيقتل قتلاً، وسيلقى الله شهيداً، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: صعد رسول الله جبل أحد، ومعه
أبو بكر و عمر وعثمان، فرجف الجبل بهم. فضربه رسول الله ? برجله، وقال له: اثبت أُحُد: فإنما عليك نبيّ، وصديق، وشهيدان( ).
1- دعاء عمر في آخر حجة له سنة 23:
عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه لما نفر من منى أناخ بالأبطح فكوم كومة من بطحاء، فألقى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كُبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيّتي، فأقبضني غير مضيِّع، ولا مفرط، ثم قدم المدينة( ).

2- طلب الفاروق للشهادة:
عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد نبيك وجاء في رواية: اللهم قتلاً في سبيلك ووفاة في بلد نبيك. فقال عمر رضي الله عنه: وأنى يكون ذلك؟ قال: يأتي به الله إذا شاء( ) وقد علق الشيخ يوسف بن الحسن بن عبد الهادي على طلب عمر للشهادة فقال: وتمني الشهادة مستحب، وهو مخالف لتمني الموت فإن قيل: ما الفرق بينهما؟ قيل: تمني الموت، طلب تعجيل الموت قبل وقته، ولا يزيد الإنسان عمره إلا خيراً، وتمني الشهادة هو أن يطلب أن يموت عند انتهاء أجله شهيداً، فليس فيه طلب تقديم الموت عن وقته، وإنما فيه طلب فضيلة فيه( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:06 pm

- رؤيا عوف بن مالك الأشجعي:
قال عوف بن مالك الأشجعي: رأيت سبباً( ) تدلى من السماء، وذلك في إمارة
أبي بكر رضي الله عنه وأن الناس تطاولوا له، وأن عمر فضلهم بثلاثة أذرع، قلت: وما ذاك؟ قال: لأنه خليفة من خلفاء الله تعالى في الأرض، وأنه لا يخاف لومة لائم وأنه يقتل شهيداً قال: فغدوت على أبي بكر فقصصتها عليه فقال:
يا غلام انطلق إلى أبي حفص فادعه لي، فلما جاء قال: يا عوف اقصصها عليه كما رأيتها، فلما أتيت أنه خليفة من خلفاء الله تعالى قال عمر: أكل هذا يرى النائم؟ قال فقصها( ) عليه فلما ولي عمر أتى الجابية، وإنه ليخطب فدعاني فأجلسني، فلما فرغ من الخطبة قال: قص علي رؤياك. فقلت له: ألست قد جبهتني( ) عنها؟ قال: قد خدعتك أيها الرجل( ) وجاء في رواية: قال أولم تكذب بها؟ قال: لا ولكني استحييت من أبي بكر، فقصها علي( ). فلما قصصتها، قال: أما الخلافة فقد أوتيت ما ترى، وأما أن لا أخاف في الله لومة لائم، فإني أرجو أن يكون قد علم ذلك مني، وأما أن أقتل شهيداً، فأنى لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب( ).

4- رؤيا أبي موسى الأشعري حول وفاة عمر:
قال أبو موسى الأشعري قال: رأيت كأني أخذت جواداً كثيراً فجعلت تضمحل حتى بقيت واحدة، فأخذتها فانتهيت إلى جبل زلق، فإذا رسول الله ? إلى جنبه
أبو بكر، وإذا هو يومئ إلى عمر أن تعال، فقلت: ألا تكتب بها إلى عمر؟ فقال:
ما كنت لأنعي له نفسه( ).
5- آخر خطبة جمعة لعمر في المدينة:
وقد ذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعض ما قاله عمر في خطبة الجمعة 21 ذي الحجة 23هـ وهي آخر خطبة له. وقد ذكرت ما قاله عبد الرحمن بن عوف من الخطبة عند حديثي عن كيفية استخلاف أبي بكر الصديق في كتابي الانشراح ورفع الضيق بسير أبي بكر الصديق. وقد أخبر عمر نفسه المسلمين عن رؤيا رآها، وعبّرها لهم. قال في نفس الخطبة: إني رأيت رؤيا، لا أراها إلا حضور أجلي. رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين!!! وإن قوماً يأمرونني أن أستخلف وأعين الخليفة من بعدي!! وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيّه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله ? وهو عنهم راض( )!

6- اجتماع عمر مع حذيفة قبل طعنه:
قبل استشهاد الفاروق بأربعة أيام أي يوم الأحد 23 ذي الحجة قابل الصحابيين حذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف رضي الله عنهما، وكان قد وظَّفَ حذيفة ليقدِّرَ خراج الأرض التي تُسقى بماء نهر دجلة، ووظَّفَ سهل بن حنيف ليقدِّر خراج الأرض التي تسقى بماء نهر الفرات. وقال لهما: كيف فعلتما؟ أخاف أن تكونا قد حمَّلتما الأرض ما لا تطيق. قالا: حمّلناها أمراً هي له مطيقة. فقال عمر: لئن سلّمني الله، لأدعنَّ أرامل أهل العراق لا يحتَجْنَ إلى رجل بعدي أبداً، ولكنه طعن في اليوم الرابع من هذه المحاروة بينه وبينهما( ).

7- منع الفاروق للسبايا من الإقامة في المدينة:
كان عمر رضي الله عنه لا يأذن للسبايا في الأقطار المفتوحة بدخول المدينة المنورة، عاصمة دولة الخلافة، فكان يمنع مجوس العراق وفارس، ونصارى الشام ومصر من الإقامة في المدينة إلا إذا أسلموا ودخلوا في هذا الدين، وهذا الموقف يدل على حكمته وبعد نظره، لأن هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإسلام، مبغضون له، مهيئون للتآمر والكيد ضد الإسلام والمسلمين ولذلك منعهم من الإقامة فيها لدفع الشرِّ عن المسلمين ولكنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان لهم عبيد ورقيق من هؤلاء السبايا النصارى أو المجوس، وكان بعضهم يلحُّ على عمر أن يأذن لبعض عبيده ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإقامة في المدينة، ليستعين بهم في أموره وأعماله، فأذن عمر لبعضهم بالإقامة في المدينة، على كره منه ووقع
ما توقَّعه عمر، وما كان حذّر منه( ).

ثانياً: مقتل عمر وقصة الشورى:

1- مقتل عمر رضي الله عنه:
قال عمرو بن ميمون: إني لقائم( )، ما بيني، وبينه إلا عبد الله بن عباس، غداة أصيب وكان إذا مرّ بين الصفين، قال استووا، فإذا استووا ، تقدّم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني – أو أكلني – الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرْنساً، فلما ظنّ العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه – للصلاة بالناس – فمن يلي عمر، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرُون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع( )، قال: نعم، قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك يريد العباس، وابنه عبد الله تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال عبد الله إن شئت، فعلت، أي: إن شئت قَتَلنا. قال: كذبت - أي: أخطأت – بعدما تكلموا بلسانكم، وصلّوا قبلتكم، وحجوا حجّكم. فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فأُتي بنبيذ( ) فشربه، فخرج من جوفه، ثمّ أتي بلبن فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه.. وقال: يا عبد الله بن عمر انظر، ما عليّ من الدَّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر، فأدّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل، يقرأ عليك عمر السلام،
ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يبقى مع صاحبيه.. فسلّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّه به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمُّ إليّ من ذلك.. فإذا أنا قضيت فاحملني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذن لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. قال: فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه( )، وجاءت روايات أخرى فصلت بعض الأحداث التي لم تذكرها رواية عمرو بن ميمون قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عمر رضي الله عنه طُعن في السحر، طعنه
أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسياً( ). وقال أبو رافع رضي الله عنه: كان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء( )، وكان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة قد أثقل عليَّ غلتي، فكلِّمه أن يخفف عني. فقال عمر: اتق الله، وأحسن إلى مولاك، ومن نية عمر أن يلقى المغيرة فيكلمه يخفف عنه، فغضب العبد، وقال: وسع كلهم عدله غيري؟‍‍! فأضمر على قتله، فاصطنع خنجراً له رأسان، وشحذه، وسمّه، ثم أتى به الهُرْمُزان، فقال: كيف ترى هذا؟ قال: أرى أنك لا تضرب به أحداً إلا قتلته. قال: فتحين أبو لؤلؤة عمر، فجاءه في صلاة الغداة حتى قام وراء عمر، وكان عمر إذا أقيمت الصلاة يتكلم يقول: أقيموا صفوفكم، فقال كما كان يقول: فلما كبَّر، وجأه( )، أبو لؤلؤة وجأةً في كتفه، ووجأة في خاصرته، فسقط عمر( )، قال عمرو بن ميمون رحمه الله: سمعته لما طعن يقول: ? وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ? (الأحزاب،آية:38).

2- ابتكاره طريقة جديدة في اختيار الخليفة من بعده:
استمر اهتمام الفاروق عمر رضي الله عنه بوحدة الأمة ومستقبلها، حتى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره( )، وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية. لقد مضى قبله الرسول ? ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر ملياً وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله ? ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم فاحتمال الخلاف كان نادراً وخصوصاً أن النبي ? وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده، والصدّيق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسؤولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر( )، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد تعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، فقد حصر ستة من صحابة رسول الله ? كلهم بدريون وكلهم توفي رسول الله ? وهو عنهم راض وكلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة وحدد الحكم في المجلس والمرجح إن تعادلت الأصوات وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس وعقاب من يخالف أمر الجماعة ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع
ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد( )، وهذا بيان ما أجمل في الفقرات السابقة:

أ- العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم:
أما العدد فهو ستة وهم؛ علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً. وترك سعيد بن زيد بن نفيل وهو من العشرة المبشرين بالجنة ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي( ).

ب- طريقة انتخاب الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبد الله بن عمر يحضرهم مشيراً فقط وليس له من الأمر شيء ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات( ).

جـ- مدة الانتخابات أو المشاورة:
حددها الفاروق رضي الله عنه بثلاثة أيام وهي فترة كافية وإن زادوا عليها فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير( ).

د- عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
لقد أمرهم بالاجتماع والتشاور وحدّد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل وأبى أحدهم فليضرب رأسه بالسيف وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما( ).
وهذه من الروايات التي لا تصح سنداً فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف مخالفاً فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصحابة رضي الله عنهم، فما ذكره أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم أي أهل الشورى فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان، فاضرب رؤوسهما( ): فهذا قول منكر وكيف يقول عمر رضي الله عنه هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله ?، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم( )، وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم( )، وهذه الرواية منقطعة وفي إسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيف وقد تغير بآخره( ).
والصحيح في هذا ما أخرجه ابن سعد بإسنادٍ رجاله ثقات أن عمر رضي الله عنه قال لصهيب: صل بالناس ثلاثاً وليخل هؤلاء الرهط في بيت فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه( )، فعمر رضي الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط ويشق عصا المسلمين ويفرق بينهم، عملاً بقوله ?: من أتاكم وأمركم جميع، على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه( ).

هـ- الحكم في حال الاختلاف:
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف مسدد رشيد له من الله حافظ فاسمعوا منه( ).

و- جماعة من جنود الله تراقب الانتخابات وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة إن الله عز وجل أعز الإسلام بكم فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم( )، وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم( ).
هكذا ختم حياته –رضي الله عنه- ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد،
ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية وقد عمل بها رسول الله –?- وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول ? ولا الصديق -رضي الله عنه- بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت( ).

ثالثاً: وصية عمر رضي الله عنه للخليفة الذي بعده:
أوصى الفاروق عمر -رضي الله عنه- الخليفة الذي سيخلفه في قيادة الأمة بوصية مهمة قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً أن تعرف لهم سابقتهم وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة خيراً، أن تقاتل من وراءهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً، أو عن يد وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله، والحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة وأوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإن في ذلك بإذن الله سلامة قلبك، وحطاً لوزرك، وخيراً في عاقبة أمرك حتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك وآمرك أن تشتد في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة، حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلاً وعفة عما بسط لك اقترفت به إيماناً ورضواناً، وإن غلبك الهوى اقترفت به غضب الله، وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذّمة، وقد أوصيتك، وخصصتك ونصحتك فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالاً عليه نفسي وولدي، فإن علمت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيباً وافراً وحظاً وافياً، وإن لم تقبل ذلك، ولم يهمك، ولم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضى به الله عنك، يكن ذلك بك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً، لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك، فأوردهم النار وبئس المورود، وبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله، الداعي إلى معاصيه، ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك، وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضربهم فيذلوا، ولا تستأئر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلّها فتفقرهم، ولا تجمّرهم في البعوث فينقطع نسلهم ولا يجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السلام( ).
هذه الوصية تدل على بعد نظر عمر في مسائل الحكم والإدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكم وإدارة متكامل( )، فقد تضمنت الوصية أموراً غاية في الأهمية، فحق أن تكون وثيقة نفيسة، لما احتوته من قواعد ومبادئ أساسية للحكم متكاملة الجوانب الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية يأتي في مقدمتها:

1- الناحية الدينية، وتضمنت:
‌أ- الوصية بالحرص الشديد، على تقوى الله، والخشية منه في السر والعلن في القول والعمل، لأن من اتقى الله وقاه ومن خشيه صانه وحماه (أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له) (وأوصيك بتقوى الله والحذر منه.. وأوصيك أن تخشى الله.
‌ب- إقامة حدود الله على القريب والبعيد (لا تبال على من وجب الحق) (ولا تأخذك في الله لومة لائم) لأن حدود الله نصت عليها الشريعة فهي من الدين، ولأن الشريعة حجة على الناس، وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأن التغافل عنها إفساد للدين والمجتمع.
‌ج- الاستقامة (استقم كما أمرت) وهي من الضرورات الدينية والدنيوية التي يجب على الحاكم التحلي بها قولاً وعملاً أولاً ثم الرعية (كن واعظاً لنفسك) (وابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة).

2- الناحية السياسية، وتضمنت:
أ‌- الالتزام بالعدل، لأنه أساس الحكم، وإن إقامته بين الرعية، تحقيق للحكم قوة وهيبة ومتانة سياسية واجتماعية، وتزيد من هيبة واحترام الحاكم في نفوس الناس (وأوصيك بالعدل) (واجعل الناس عندك سواء).
ب‌- العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأن العقيدة وما أفرزته من نظام سياسي، قام على أكتافهم، فهم أهله وحملته وحماته (وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم.

3- الناحية العسكرية، وتضمنت:

‌أ- الاهتمام بالجيش وإعداده إعداداً يتناسب وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدولة وسلامتها، والعناية بسد حاجات المقاتلين (التفرغ لحوائجهم وثغورهم).
‌ب- تجنب إبقاء المقاتلين لمدة طويلة في الثغور بعيداً عن عوائلهم وتلافياً لما قد يسببه ذلك من ملل وقلق وهبوط في المعنويات، فمن الضروري منحهم إجازات معلومة في أوقات معلومة يستريحون فيها ويجددون نشاطهم خلالها، من جهة، ويعودون إلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانية (ولا تجمرهم في الثغور فينقطع نسلهم) (وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو).
‌ج- إعطاء كل مقاتل ما يستحقه من فيء وعطاء، وذلك لضمان مورد ثابت له ولعائلته يدفعه إلى الجهاد، ويصرف عنه التفكير في شؤونه المالية (ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم).

4- الناحية الاقتصادية والمالية، وتضمنت:

‌أ- العناية بتوزيع الأموال بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقة منهم دون أخرى (ولا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم).
‌ب- عدم تكليف أهل الذمة فوق طاقتهم إن هم أدوا ما عليهم من التزامات مالية للدولة (ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين).
‌ج- ضمان الحقوق المالية للناس وعدم التفريط بها، وتجنب فرض ما لا طاقة لهم به (ولا تحمل منهم إلا عن فضل منهم) (أن تأخذ حواشي أموالهم فترد على فقرائهم) ( ).

5- الناحية الاجتماعية، وتضمنت:

‌أ- الاهتمام بالرعية، والعمل على تفقد أمورهم وسد احتياجاتهم وإعطاء حقوقهم من فيء وعطاء (ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها).
‌ب- اجتناب الأثرة والمحاباة واتباع الهوى، لما فيها من مخاطر تقود إلى انحراف الراعي، وتؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب علاقاته الإنسانية (وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله) (ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم).
‌ج- احترام الرعية وتوقيرها والتواضع لها، صغيرها وكبيرها، لما في ذلك من سمو في العلاقات الاجتماعية، تؤدي إلى زيادة تلاحم الرعية بقائدها وحبها له (وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم ووقرت عالمهم).
‌د- الانفتاح على الرعية، وذلك بسماع شكاواهم، وإنصاف بعضهم من بعض وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم ويعم الارتباك في المجتمع (ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم).
‌ه- اتباع الحق، والحرص على تحقيقه في المجتمع، وفي كل الظروف والأحوال، لكونه ضرورة اجتماعية لابد من تحقيقها بين الناس، (ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات) (واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق).
‌و- اجتناب الظلم بكل صوره وأشكاله، خاصة مع أهل الذمة، لأن العدل مطلوب إقامته بين جميع رعايا الدولة مسلمين وذميين، لينعم الجميع بعدل الإسلام (وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة).
‌ز- الاهتمام بأهل البادية ورعايتهم والعناية بهم (وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام) ( ).
‌ح- وكان من ضمن وصية عمر لمن بعده: ألا يقر لي عاملاً أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين( ).

رابعاً: اللحظات الأخيرة:
هذا ابن عباس رضي الله عنه يصف لنا اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق حيث يقول: دخلت على عمر حين طُعنْ، فقلت: أبشر بالجنة، يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله ? حين خذله الناس، وقبض رسول الله ? وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقُتلت شهيداً فقال عمر: أعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع( )، وجاء في رواية البخاري، أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ? ورضاه فإن ذلك من الله جل ذكره منَّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه( ).
لقد كان عمر رضي الله عنه يخاف هذا الخوف العظيم من عذاب الله تعالى مع أن النبي ? شهد له بالجنة، ومع ما كان يبذل من جهد كبير في إقامة حكم الله والعدل والزهد والجهاد وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وإن في هذا لدرساً بليغاً للمسلمين عامة في تذكر عذاب الله الشديد وأهوال يوم القيامة( ).
وهذا عثمان رضي الله عنه يحدثنا عن اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق فيقول: أنا آخركم عهداً بعمر، دخلت عليه، ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر فقال له: ضع خدي بالأرض، قال: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟ قال ضع خدي بالأرض لا أم لك، في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت( ) روحه، فهذا مثل مما كان يتصف به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من خشية الله تعالى، حتى كان آخر كلامه الدعاء على نفسه بالويل إن لم يغفر الله جل وعلا له، مع أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولكن من كان بالله أعرف كان من الله أخوف، وإصراره على أن يضع ابنه خده على الأرض من باب إذلال النفس في سبيل تعظيم الله عز وجل، ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه، وهذه صورة تبين لنا قوة حضور قلبه مع الله جل وعلا( ).

1- تاريخ موته ومبلغ سنه:
قال الذهبي: استشهد يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح( )، وكانت خلافته عشر سنين ونصفاً وأياماً( )، وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير البجلي قال: كنت عند معاوية فقال: توفي رسول الله ? وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين وقتل عمر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين( ).


2- في غسله والصلاة عليه ودفنه:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- غسل وكُفِّن، وصلي عليه، وكان شهيداً( )، وقد اختلف العلماء فيمن قتل مظلوماً هل هو كالشهيد لا يغسل أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنه يغسل، وهذا حجة لأصحاب هذا القول( ).
والثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه، والجواب عن قصة عمر أن عمر عاش بعد أن ضرب وأقام مدة، والشهيد حتى شهيد المعركة لو عاش بعد أن ضرب حتى أكل وشرب أو طال مقامه فإنه يغسل، ويصلى عليه، وعمر طال مقامه حتى شرب الماء، وما أعطاه الطبيب، فلهذا غسل وصلي عليه رضي الله عنه( ).

3- من صلى عليه؟
قال الذهبي: صلى عليه صهيب بن سنان( )، وقال ابن سعد: وسأل علي بن الحسين سعيد بن المسيب: من صلى على عمر؟ قال: صهيب، قال كم كبر عليه؟ قال: أربعاً، قال: أين صُلي عليه؟ قال: بين القبر والمنبر( )، وقال ابن المسيب: نظر المسلمون فإذا صهيب يصلي لهم المكتوبات بأمر عمر رضي الله عنه فقدموه، فصلى على عمر( )، ولم يقدم عمر رضي الله عنه أحداً من الستة المرشحين للخلافة حتى لا يظن تقديمه للصلاة ترشيحاً له من عمر، كما أن صهيباً كانت له مكانته الكبيرة عند عمر والصحابة رضي الله عنهم وقد قال في حقه الفاروق: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه(
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:12 pm

- في دفنه رضي الله عنه:
قال الذهبي: دفن في الحجرة النبوية( )، وذكر ابن الجوزي عن جابر قال: نزل في قبر عمر عثمان وسعيد بن زيد، وصهيب، وعبد الله بن عمر( )، وعن هشام بن عروة قال: لما سقط عنهم –يعني قبر النبي ? وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في زمن الوليد بن عبد الملك( ) أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدمٌ، ففزعوا، وظنوا أنها قدم النبي ? فما وجدوا أحداً يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي ? ما هي إلا قدم عمر -رضي الله عنه( )- وقد مرّ معنا: أن عمر أرسل إلى عائشة –رضي الله عنهما- ائذني لي أن أُدفن مع صاحبي، فقالت: (أي والله) وقال هشام بن عروة بن الزبير: وكان الرجل إذا أرسل إليها -أي عائشة- من الصحابة قالت: لا والله لا أؤثرهم بأحد أبداً( )، ولا خلاف بين أهل العلم أن النبي ? وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في هذا المكان من المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام( ).

5- ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الفاروق:
قال ابن عباس: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحبّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيراً أسمع النبي ? يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر( ).

6- أثر مقتله على المسلمين:
كان هول الفاجعة عظيماً على المسلمين، فلم تكن الحادثة بعد مرض ألمَّ بعمر، كما كان يزيد من هولها في المسجد وعمر يؤم الناس لصلاة الصبح، ومعرفة حال المسلمين بعد وقوع الحدث يطلعنا على أثر الحادث في نفوسهم، يقول عمرو بن ميمون: .. وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، ويذهب ابن عباس ليستطلع الخبر بعد مقتل عمر ليقول له: إنه ما مرّ بملأ إلا وهم يبكون وكأنهم فقدوا أبكار أولادهم( )، لقد كان عمر -رضي الله عنه- معلماً من معالم الهدى، وفارقا بين الحق والباطل فكان من الطبيعي أن يتأثر الناس لفقده( )، وهذا الأثر يوضح شدة تأثر الناس عليه، فعن الأحنف بن قيس: قال… فلما طعن عمر أمر صهيباً أن يصلي بالناس، ويطعمهم ثلاثة أيام حتى يجتمعوا على رجل، فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام، فقال العباس: يا أيها الناس إن رسول الله ? قد مات، فأكلنا بعده، وشربنا ومات أبو بكر -رضي الله عنه-، فأكلنا، وإنه لا بد للناس من الأكل والشرب، فمد يده فأكل الناس( ).
وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عندما يذكر له عمر يبكي حتى تبتل الحصى من دموعه ثم يقول: إن عمر كان حصناً للإسلام يدخلون فيه
ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم الحصن فالناس يخرجون من الإسلام( ).
وأما أبو عبيدة بن الجراح، فقد كان يقول قبل أن يقتل عمر: إن مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له: لم؟ قال: سترون ما أقول إن بقيتم، وأما هو فإن ولي وال بعد فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطع له الناس بذلك ولم يحملوه، وإن ضعف عنهم قتلوه( ).

خامساً: أهم الفوائد والدروس والعبر:

1- التنبيه على الحقد الذي انطوت عليه قلوب الكافرين ضد المؤمنين:
ويدل على ذلك قتل المجوسي أبي لؤلؤة لعمر رضي الله عنه، وتلك هي طبيعة الكفار في كل زمان ومكان، قلوب لا تضمر للمسلمين إلا الحقد والحسد والبغضاء، ونفوس لا تكن للمؤمنين إلا الشر والهلاك والتلف، ولا يتمنون شيئاً أكثر من ردة المسلمين عن دينهم وكفرهم بعد إسلامهم( )، وإن الذي ينظر جيداً في قصة مقتل عمر -رضي الله عنه- وما فعله المجوسي الحاقد أبو لؤلؤة يستنبط منها أمرين مهمين، يكشفان الحقد الذي أضمره هذا الكافر في قلبه تجاه عمر، وتجاه المسلمين، وهما:
أ‌- أنه قد ثبت في الطبقات الكبرى لابن سعد بسند صحيح إلى الزهري( )، أن عمر رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أُحدّث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح، فالتفت إليه المجوسي عابساً، لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد.
ب‌- الأمر الثاني الذي يدل على الحقد الذي امتلأ به صدر هذا المجوسي أنه لمّا طعن عمر رضي الله عنه، طعن معه ثلاثة عشر صحابياً استشهد منهم سبعة جاء في رواية الإمام البخاري قوله: فطار العلج( ) بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة( )، ولو كان عمر -رضي الله عنه- ظالماً له فما ذنب بقية الصحابة الذين اعتدى عليهم؟!، ومعاذ الله تعالى أن يكون عمر ظالماً له، إذ قد ثبت في رواية البخاري أنه لما طعن رضي الله عنه قال:
يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصَنَع؟ أي: الصانع، قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام( )، وهذا المجوسي أبو لؤلؤة قام أحبابه أعداء الإسلام ببناء مشهد تذكاري له على غرار الجندي المجهول في إيران يقول السيد حسين الموسوي من علماء النجف: واعلم أن في مدينة كاشان الإيرانية، في منطقة تسمى (باغي فين) مشهداً على غرار الجندي المجهول، فيه قبر وهمي لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي، قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربية (مرقد بابا شجاع الدين)، وبابا شجاع الدين هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطاب، وقد كتب على جدران هذا المشهد بالفارسي: (مرك بر أبو بكر، مرك بر عمر، مرك بر عثمان) ومعناه بالعربية: الموت لأبي بكر، الموت لعمر، الموت لعثمان وهذا المشهد يُزار من قبل الشيعة الإيرانيين، وتُلقى فيه الأموال، والتبرعات، وقد رأيت هذا المشهد بنفسي، وكانت وزارة الإرشاد الإيرانية قد باشرت بتوسيعه وتجديده، وفوق ذلك قاموا بطبع صورة على المشهد على كارتات تستخدم لإرسال الرسائل والمكاتيب( ).

2- بيان الانكسار والخشية والخوف الذي تميز به عمر رضي الله عنه:
ومما يدل على هذا الخوف الذي سيطر على قلب عمر رضي الله عنه قبيل استشهاده قوله لما عَلِمَ أن الذي طعنه هو المجوسي أبو لؤلؤة: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام( )، فإنه رغم العدل الذي اتصف به عمر رضي الله عنه، والذي اعترف به القاصي والداني، والعربي والعجمي، إلا أنه كان خائفاً أن يكون قد ظلم أحداً من المسلمين، فانتقم منه بقتله، فيُحاجَّه عند الله تعالى، كما تدل على ذلك رواية ابن شهاب: أن عمر قال: الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط، وكما تدل عليه كذلك رواية مبارك بن فضالة، يحاجني بقول: لا إله إلا الله( )، وهذه عجيبة من عجائب هذا الإمام الرباني، ينبغي أن يتربى عليها الدعاة والمصلحون وأن يكون الانكسار علامة من أكبر علاماتهم حتى ينفع الله تعالى بهم، كما نفع بأسلافهم كعمر
-رضي الله عنه- وليكن مقال الجميع قول القائل:

واحسرتي، واشقوتي
واطُول حزني إن أكن
وإذا سُئلتُ عن الخطا
واحرّ قلبي أن يكون
كلا ولا قدّمتُ لي
بل إنني لشقاوتي
بارزت بالزلات في
من ليس يخفى عنه من
مِنْ يوم نشر كتابيه
أوتيته بشماليه
ماذا يكون جوابيه؟
مع القلوب القاسية
عملاً ليوم حسابيه
وقساوتي وعذابيه
أيام دهر خالية
قبح المعاصي خافية( )


3- التواضع الكبير عند الفاروق والإيثار العظيم عند السيدة عائشة:

أ‌- التواضع الكبير عند الفاروق رضي الله عنه:
وقد دل عليه من قصة استشهاده قوله لابنه عبد الله: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً( )، ويدل عليه كذلك قوله لابنه لما أذنت عائشة بدفنه إلى جنب صاحبيه: فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلِّمْ، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين( )، فرحم الله عمر -رضي الله عنه-، ورزقنا خُلُقاً من خُلُقه، وتواضعاً من تواضعه، وجزاه خير ما يجزي به الأتقياء المتواضعين، إن ربي قريب مجيب( ).
ب‌- الإيثار العظيم عند السيدة عائشة رضي الله عنها:
ومما يدل على الإيثار عند السيدة عائشة أنها رضي الله عنها كانت تتمنى أن تدفن بجوار زوجها ?، وأبيها أبي بكر، فلما استأذنها عمر لذلك أذنت وآثرته على نفسها وقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي( ).

4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو على فراش الموت:
إن اهتمام الفاروق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يتخل عنه حتى وهو يواجه الموت بكل آلامه وشدائده، ذلك أن شاباً دخل عليه لما طُعن، فواساه، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله ?، وقَدَم في الإسلام ما قد علمت، ثم وُلِّيت فعدلت، ثم شهادة، قال -أي عمر- ودِدْت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يَمسُّ الأرض، قال رُدُّوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقَى لثوبك وأتقى لربك( )، وهكذا لم يمنعه -رضي الله عنه- ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف ولذا، قال ابن مسعود -رضي الله عنه- فيما رواه عُمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق( )، ومن عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة أيضاً، لما دخلت عليه حفصة -رضي الله عنها- فقالت: يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين، فقال عمر لابن عمر رضي الله عنهما: يا عبد الله: أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده إلى صدره، فقال لها: إنّي أحرج عليك( ) بمالي عليك من الحق أن تندبيني( )، بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها( )، وعن أنس بن مالك قال: لما طُعن عمر صرخت حفصة فقال عمر: يا حفصة أما سمعت رسول الله ? يقول: إن المعول عليه يعذب؟ وجاء صُهَيب فقال: واعمراه فقال: ويلك يا صهيب أما بلغك أن المعول عليه يعذب( )، ومن شدته في الحق رضي الله عنه حتى بعد طعنه وسيلان الدم منه فعندما قال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر، قال: والله ما أردت الله بهذا( ).

5- جواز الثناء على الرجل بما فيه إذا لم تُخْشَ عليه الفتنة:
كما هو الحال هنا مع عمر -رضي الله عنه-، إذ أُثني عليه من قِبل بعض الصحابة لأنهم كانوا يعلمون أن الثناء عليه لا يفتنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو العالم الرباني والفقيه الكبير: أليس قد دعا رسول الله ? أن يعز بك الدين والمسلمين؛ إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزاً وظهر بك الإسلام..، وأدخل الله بك على كل أهل بيت من توسعتهم في دينهم، وتوسعتهم في أرزاقهم، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئاً لك وهكذا لم تؤثر هذه الكلمات في قلب عمر شيئاً، ولم يفرح بها، ولذا ردّ على ابن عباس قائلاً: والله إن المغرور من تغرونه( ).

6- حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل عمر رضي الله عنه:
كعب الأحبار هو كعب بن مانع الحميري، كنيته أبو إسحاق، واشتهر بكعب الأحبار، أدرك النبي ? وهو رجل وأسلم في خلافة عمر، سنة اثنتي عشرة( )، وقد اشتهر قبل إسلامه بأنه كان من كبار علماء اليهود في اليمن، وبعد إسلامه أخذ عن الصحابة الكتاب والسنة، وأخذوا وغيرهم عنه أخبار الأمم الغابرة خرج إلى الشام، وسكن حمص وتوفي فيها( )، وقد اتهم كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد جاءت رواية في الطبري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه تشير إلى اتهامه في مقتل عمر جاء في تلك الرواية: .. ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، إعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة، قال عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك قال: وعمر
لا يحس وجعاً ولا ألماً فلما كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يوم وليلة؛ وهي لك إلى صبيحتها، قال: فلما كان الصبح، خرج إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا استوت، جاء هو فكبر، قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته( )، وقد بنى بعض المفكرين المحدثين على هذه الرواية نتيجة، مفادها: اشتراك كعب الأحبار، في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل د. جميل
عبد الله المصري في كتابه: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن الأول الهجري، وعبد الوهاب النجار في كتابه: الخلفاء الراشدون، والأستاذ غازي محمد فريج في كتابه: النشاط السري اليهودي في الفكر والممارسة( )، وقد ردّ الدكتور أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزّغيبي على الاتهام الموجه لكعب الأحبار فقال: والذي أراه في هذه القصة المعقدة: أن تلك الرواية، التي رواها الإمام الطبري رحمه الله تعالى غير صحيحة، لأمور كثيرة من أهمها:

أ- أن هذه القصة لو صحت لكان من المنتظر من عمر رضي الله عنه أن لا يكتفي بقول (كعب)، ولكن لجمع طائفة ممن أسلم من اليهود وله إحاطة بـ(التوراة) مثل عبد الله بن سلام، ويسألهم عن هذه القصة، وهو لو فعل لافتضح أمر (كعب)، وظهر للناس كذبه، ولتبين لعمر رضي الله عنه أنه شريك في مؤامرة دبرت لقتله، أو أنه على علم بها، وحينئذ يعمل عمر رضي الله عنه على الكشف عنها بشتى الوسائل، وينكل بمدبريها، ومنهم كعب، هذا هو المنتظر من أي حاكم، فضلاً عن عمر رضي الله عنه المعروف بكمال الفطنة، وحدة الذهن، وتمحيص الأخبار لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فكان ذلك دليلاً على اختلاقها( ).
ب- أن هذه القصة لو كانت في التوراة، لما اختص بعلمها كعب رحمه الله تعالى وحده، ولشاركه العلم بها كل من له علم بـ(التوراة) من أمثال عبد الله بن سلام رضي الله عنه( ).
جـ- أن هذه القصة لو صحت أيضاً لكان معناها أن كعباً له يد في المؤامرة وأنه يكشف عن نفسه بنفسه، وذلك باطل لمخالفته طباع الناس، إذ المعروف أنه من اشترك في مؤامرة، يبالغ في كتمانها بعد وقوعها، تفادياً من تحمل تبعاتها، فالكشف عنها قبل وقوعها لا يكون إلا من مغفل أبله، وهذا خلاف ما كان عليه كعب، من حدة الذهن، ووفرة الذكاء( ).
د- ثم ما لـ(التوراة) وتحديد أعمار الناس؟ إن الله تعالى إنما أنزل كتبه هدى للناس، لا لمثل هذه الأخبار التي لا تعدو أصحابها( ).
و- ثم أيضاً هذه التوراة بين أيدينا ليس فيها شيء من ذلك مطلقاً وبعد أن أورد الشيخ محمد محمد أبو زهو( ) تلك الاعتراضات الأربعة الأولى، عقب عليها، بقوله: ومن ذلك كله، يتبين لك أن هذه القصة مفتراة، بدون أدنى اشتباه، وأن رمي كعب بالكيد للإسلام في شخص عمر، والكذب في النقل عن التوراة اتهام باطل، لا يستند على دليل أو برهان( ).
ويقول الدكتور محمد السيد حسين الذهبي رحمه الله: ورواية ابن جرير الطبري للقصة لا تدل على صحتها، لأن ابن جرير كما هو معروف عنه لم يلتزم الصحة في كل ما يرويه، والذي ينظر في تفسيره يجد فيه مما لا يصح شيئاً كثيراً( )، كما أن ما يرويه في تاريخه لا يعدو أن يكون من قبل الأخبار التي تحتمل الصدق والكذب، ولم يقل أحد بأن كل ما يروى في كتب التاريخ( )، ثابت وصحيح( )، ثم يتابع قائلاً: ثم إن ما يعرف عن كعب الأحبار من دينه، وخلقه، وأمانته، وتوثيق أكثر أصحاب الصحاح( ) له، يجعلنا نحكم بأن هذه القصة موضوعة عليه، ونحن ننزه كعباً عن أن يكون شريكاً في قتل عمر، أو يعلم من يدبر أمر قتله ثم لا يكشف لعمر عنه، كما ننزهه أن يكون كذاباً وضاعاً، يحتال على تأكيد ما يخبر به من مقتل عمر نسبته إلى التوراة وصوغه في قالب إسرائيلي( ). إلى أن يقول: اللهم إن كعباً مظلوم من متهميه، ولا أقول عنه: إلا أنه ثقة مأمون، وعالم استغل اسمه، فنسب إليه روايات معظمها خرافات وأباطيل، لتروج بذلك على العامة، ويتقبلها الأغمار من الجهلة( ).
وأما الدكتور محمد السيد الوكيل فيقول: إن أول ما يواجه الباحث هذا هو موقف عبيد الله بن عمر الذي لم يكد يسمع بما حدث لأبيه حتى يحمل سيفه، ويهيج كالسبع الحرب، ويقتل الهرمزان وجفينة وابنة صغيرة لأبي لؤلؤة؛ أفترى عبيد الله هذا يترك كعب الأحبار والشبهة تحوم حوله، ويقتل ابنة أبي لؤلؤة الصغيرة؟ إن أحداً يبحث الموضوع بحثاً علمياً لا يمكن أن يقبل ذلك، ويضاف إلى ذلك أن جمهور المؤرخين لم يذكروا القصة، بل لم يشيروا إليها، فابن سعد في الطبقات وقد فصل الحادث تفصيلاً دقيقاً لم يشر قط إلى الحادثة، بل كل ما ذكر عن كعب الأحبار أنه كان واقفاً بباب عمر يبكي ويقول: والله لو أن أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخره لأخره( )، وأنه دخل على عمر بعد أن أخبره الطبيب بدنوا أجله فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيداً، وأنت تقول: من أين وأنا في جزيرة العرب( )، ويأتي بعد ابن سعد ابن عبد البر في الاستيعاب فلا يذكر شيئاً قط عن قصة كعب الأحبار( )، وأما ابن كثير فيقول: إن وعيد
أبي لؤلؤة كان عشية يوم الثلاثاء، وأنه طعنه صبيحة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة( )، لم يكن إذن بين التهديد والتنفيذ سوى ساعات معدودات، فكيف ذهب كعب الأحبار إلى عمر، وقال له ما قال: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، ثم يقول: مضى يوم وبقي يومان، ثم مضى يومان وبقي يوم وليلة، من أين لكعب هذه الأيام الثلاثة إذا كان التهديد في الليل والتنفيذ صبيحة اليوم التالي؟ ويتوالى المؤرخون، فيأتي السيوطي في تاريخ الخلفاء، والعصامي في سمط النجوم العوالي، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابنه عبد الله في كتابيهما مختصرة سيرة الرسول، وحسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام السياسي وغيرهم فلا نجد واحداً منهم يذكر القصة من قريب أو بعيد. أليس هذا دليلاً على أن القصة لم تثبت بصورة تجعل المحقق يطمئن إلى ذكرها هذا إذا لم تكن منتحلة مصنوعة كاد بها بعض الناس لكعب لينفروا منه المسلمين، وهذا ما تطمئن إليه النفس ويميل إليه القلب، وبخاصة بعد ما عرفنا أن كعباً كان حسن الإٍسلام، وكان محل ثقة كثير من الصحابة حتى رووا عنه حديث رسول الله ?( ).

7- ثناء الصحابة والسلف على الفاروق:

أ- في تعظيم عائشة رضي الله عنها له بعد دفنه:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله ? وسلم وأبي، فلما دفن عمر معهما فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر( )، وعن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: من رأى ابن الخطاب، علم أنه خلق غناء للإسلام، كان والله أحوذياً( )، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها( )، وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا ذكرتم عمر طاب المجلس( ).

ب- سعيد بن زيد رضي الله عنه:
روي عن سعيد بن زيد أنه بكى عند موت عمر فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: على الإسلام، إن موت عمر ثَلَم الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة( ).
ت- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
قال عبد الله بن مسعود: لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان، ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر( )، وقال أيضاً: إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم( ). وقال عبد الله بن مسعود: كان إسلام عمر فتحاً وكانت هجرته نصراً وكانت إمارته رحمة( ).
ث- قال أبو طلحة الأنصاري: والله ما من أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمر نقص في دينهم وفي دنياهم( ).
ج- قال حذيفة بن اليمان: إنما كان مثل الإسلام أيام عمر مثل مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في إدبار( ).
ح- عبد الله بن سلام: جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه بعدما صلى على عمر رضي الله عنه فقال: إن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه، فلن تسبقوني بالثناء عليه، ثم قال، نعم أخو الإسلام كنت يا عمر جواداً بالحق، بخيلاً بالباطل، ترضى من الرضى وتسخط من السخط، لم تكن مداحاً ولا معياباً، طيب العَرْف( )، عفيف الطرف( ).
خ- العباس بن عبد المطلب: قال العباس بن عبد المطلب: كنت جاراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أحداً من الناس كان أفضل من عمر، إن ليله صلاة، ونهاره صيام، وفي حاجات الناس، فلما توفي عمر سألت الله تعالى: أن يرينه في النوم فرأيته في النوم مقبلاً متشحاً من سوق المدينة، فسلمت عليه وسلم عليَّ، ثم قلت له: كيف أنت؟ قال بخير. قلت له: ما وجدت؟ قال: الآن حين فرغت من الحساب، ولقد كاد عرشي يهوي لولا أني وجدت رباً رحيماً( ).
د- معاوية بن أبي سفيان: قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم تُرِده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يُرِدْها، وأمّا نحن فتمرغنا فيها ظهْراً لبطن( ).
ذ- علي بن الحسين: عن ابن أبي حازم عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومنزلتهما من رسول الله قال: كمنزلتهما اليوم، وهما ضجيعاه( ).
ر- قبيصة بن جابر: عن الشعبي قال: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله، ولا أحسن مدارسة منه( ).
ز- الحسن البصري: قال الحسن البصري إذا أردتم أن يطيب المجلس فأفيضوا في ذكر عمر( )، وقال أيضاً: أي أهل بيت لم يجدوا فقده فهم أهل بيت سوء( ).
س- علي بن عبد الله بن عباس: قال: دخلت في يوم شديد البرد على عبد الملك بن مروان فإذا هو في قبة باطنها فُوهِيُّ( ) معصفر، وظاهرها خزاعيز( )، وحوله أربعة كوانين( )، قال فرأى البرد في تقفْقُفي( )، فقال: ما أظن يومنا هذا إلا بارداً. قلت: أصلح الله الأمير ما يظن أهل الشام أنه أتى عليهم يوم أبرد منه، فذكر الدنيا، وذمها، ونال منها، وقال: هذا معاوية عاش أربعين سنة عشرين أميراً، وعشرين خليفة، لله در ابن حنتمة ما كان أعلمه بالدنيا يعني عمر رضي الله عنه( ).

8- آراء بعض العلماء والكتّاب المعاصرين:

أ- قال الدكتور محمد محمد الفحام شيخ الأزهر السابق: لقد كشفت أعمال عمر عن تفوقه السياسي، وبيّنت مواهبه العديدة التي ملكها، وعن عبقريته الخالدة، التي لا تزال تضيء أمامنا الطريق في العديد من مشكلات الحياة المختلفة في معالجة القضايا والمشاكل التي واجهته أثناء خلافته( ).
ب- قال عباس محمود العقاد: إن هذا الرجل العظيم أصعب من عرفت من عظماء الرجال نقداً ومؤاخذة ومن مزيد مزاياه أن فرط التمحيص وفرط الإعجاب في الحكم له أو عليه يلتقيان، وكتابي عبقرية عمر ليس بسيرة لعمر ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة.. وعمر يعد رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه، لأنه العصر الذي شاعت فيه عبادة القوة الطاغية وزعم الهاتفون بدينها أن البأس والحق نقيضان؛ فإذا فهمنا عظيماً واحداً كعمر بن الخطاب، فقد هدمنا دين القوة الطاغية على أساسه، لأننا سنفهم رجلاً كان غاية في البأس، وغاية في العدل، وغاية في الرحمة.. وهذا الفهم ترياق داء العصر يشفى به من ليس بميئوس الشفاء( ).

ت- قال الدكتور أحمد شلبي: .. وكان الاجتهاد من أبرز الجوانب في حياة عمر خلال حقبة خلافته الحافلة بالأحداث، فحفظ الدين، ورفع راية الجهاد، وفتح البلاد، ونشر العدل بين العباد، وأنشأ أول وزارة مالية في الإسلام، وكون جيشاً نظامياً للدفاع وحماية الحدود، ونظم المرتبات والأرزاق، ودون الدواوين، وعين الولاة والعمال والقضاة، وأقر النقود للتداول الحياتي، ورتب البريد، وأنشأ نظام الحسبة، وثبت التأريخ الهجري، وأبقى الأرض المفتوحة دون قسمة، وخطط المدن الإسلامية وبناها، فهو بحق أمير المؤمنين وباني الدولة الإسلامية( ).
ث- قال المستشار علي علي منصور: إن رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري قبل أربعة عشر قرناً من الزمن دستور للقضاء والمتقاضين، وهي أكمل ما وصلت إليه قوانين المرافعات الوضعية وقوانين استقلال القضاء( ).

جـ- اللواء الركن محمود شيت خطاب: وإذا كانت أسباب الفتح الإسلامي كثيرة، فإن على رأس تلك الأسباب ما كان يتمتع به عمر بن الخطاب من سجايا قيادية فذة لا تتكرر في غيره على مر السنين والعصور إلا نادراً( ).

ح- الدكتور صبحي المحمصاني: بانقضاء عهد الخليفة الراشد عمر، ينقضي عهد مؤسس الدولة الإسلامية التي وسع رقاعها، وثبت دعائمها، فكان مثال القائد الموجه، والأمير الحازم الحكيم، والراعي المسؤول، والحاكم القوي العادل والرفيق الرؤوف، ثم مات ضحية الواجب، وشهيد الصدق والصلاح، فكان مع الصديقين والصالحين من أولياء الله تعالى وسيبقى اسم عمر بن الخطاب مخلداً ولامعاً في تاريخ الحضارة والفقه( ).

س- الشيخ علي طنطاوي: أنا كلما ازددت اطلاعاً على أخبار عمر، زاد إكباري وإعجابي به، ولقد قرأت سير آلاف العظماء من المسلمين وغير المسلمين، فوجدت فيهم من هو عظيم بفكره، ومن هو عظيم ببيانه، ومن هو عظيم بخلقه، ومن هو عظيم بآثاره، ووجدت عمر قد جمع العظمة من أطرافها، فكان عظيم الفكر والخُلق والبيان، فإذا أحصيت عظماء الفقهاء والعلماء، ألفيت عمر في الطليعة، فلو لم يكن له إلا فقهه لكان به عظيماً، وإن عددت الخطباء والبلغاء كان اسم عمر من أوائل الأسماء، وإن ذكرت عباقرة المشرعين، أو نوابغ القواد العسكريين، أو كبار الإداريين الناجحين، وجدت عمر إماماً في كل جماعة، وعظيماً في كل طائفة، وإن استقريت العظماء الذين بنوا دولاً، وتركوا في الأرض أثراً، لم تكد تجد فيهم أجلّ من عمر. وهو فوق ذلك عظيم في أخلاقه عظيم في نفسه( ).

9- آراء بعض المستشرقين في عمر رضي الله عنه:

أ- قال موير في كتابه الخلافة: كانت البساطة والقيام بالواجب من أهم مبادئ عمر وأظهر ما اتصفت به إدارته عدم التحيز والتعبد وكان يقدر المسؤولية حق قدرها وكان شعوره بالعدل قوياً ولم يحاب أحداً في اختيار عماله، ومع أنه كان يحمل عصاه ويعاقب المذنب في الحال حتى قيل إن دِرة عمر أشد من سيف غيره إلا أنه كان رقيق القلب وكانت له أعمال سجلت له شفقته، ومن ذلك شفقته على الأرامل والأيتام( ).

ب- وقالت عنه دائرة المعارف البريطانية: كان عمر حاكماً عاقلاً، بعيد النظر، وقد أدى للإسلام خدمة عظيمة( ).

ت- وقال الأستاذ واشنجتون إيرفنج في كتابه محمد وخلفاؤه: إن حياة عمر من أولها إلى آخرها تدل على أنه كان رجلاً ذا مواهب عقلية عظيمة، وكان شديد التمسك بالاستقامة والعدالة، وهو الذي وضع أساس الدولة الإسلامية ونفذ رغبات النبي ? وثبتها، وآزر أبا بكر بنصائحه في أثناء خلافته القصيرة، ووضع قواعد متينة للإدارة الحازمة في جميع البلدان التي فتحها المسلمون، وإن اليد القوية التي وضعها على أعظم قواده المحبوبين لدى الجيش في البلاد النائية وقت انتصاراتهم، لأكبر دليل على كفاءته الخارقة لإدارة الحكم وكان ببساطة أخلاقه واحتقاره للأبهة والترف، مقتدياً بالنبي ? وأبي بكر، وقد سار على أثرهما في كتبه وتعليماته للقواد( ).

جـ- وقال الدكتور مايكل هارت: إن مآثر عمر مؤثرة حقاً، فقد كان الشخصية الرئيسية في انتشار الإسلام بعد محمد ?( )، وبدون فتوحاته السريعة من المشكوك به أن ينتشر الإسلام بهذا الشكل الذي هو عليه الآن، زد على ذلك أن معظم الأراضي التي فتحها في زمنه بقيت عربية( ) منذ ذلك العهد حتى الآن، ومن الواضح أن محمد ? له الفضل الأكبر في هذا المضمار، ولكن من الخطأ الفادح أن نتجاهل دور عمر وقيادته الواعية( ).

10- ما قيل من الشعر في رثاء الفاروق رضي الله عنه:

قالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن الخطاب رضي الله عنها:

فجَّعَني فيروز لا در دره
بأبيض تالٍ للكتاب مُنيب

رؤوف على الأدنى غليظ على العدا
أخي ثقة في النائبات مجيب

متى ما يَقُل لا يُكذب القول فعله
سريع إلى الخيرات غير قطوب( )

وقالت أيضاً:

عين جودي بعبرة ونحيب
لا تَمَلِّي على الإمام النجيب

فجعتني المنون بالفارس
المعلم يوم الهياج والتلبيب( )

عصمة الناس والمعين على
الدهر وغيث المنتاب والمحروب

قل لأهل السراء والبؤس موتوا
قد سقته المنون كأس شَعوب( )
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:15 pm

عثمان بن عفان شخصيته وعصره



مقدمـــــــة


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ" [آل عمران: 102].
+يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء: 1].
+يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ? يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فهذا الكتاب يتحدث عن شخصية عثمان بن عفان ? وعصره، وهو امتداد لما سبقه من كتب تحدثت عن الصدِّيق والفاروق تبحث في دراسة عهد الخلفاء الراشدين؛ لكي نستخرج الدروس والعِبَر ونستوعب السنن والقوانين الإلهية في حركة المجتمعات وبناء الدول ونهضة الشعوب، وتربية القادة والأفراد لنشر دين الله بين الناس.
إن عودة الأمة لما كانت عليه في قيادتها للبشرية منوطة بسيرها على هدى النبي × وخلفائه الراشدين؛ فقد أخبر الحبيب المصطفى × عن المراحل التاريخية التي تمر بها الأمة في مسيرتها في الحياة، فقال ×: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضًّا فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» ( ).
إن معرفة عهد الخلافة الراشدة ومنهاج النبوة خطوة لا بد منها في تحقيق الأهداف التي تسعى الأمة لتحقيقها في هذه الحياة، فقد قال ×: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» ( ).
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر وهي متناثرة في بطون الكتب والمصادر والمراجع، سواء كانت تاريخية أو حديثية أو فقهية أو أدبية أو تفسيرية، فنحن في أشد الحاجة لجمعها وترتيبها وتوثيقها وتحليلها، فتاريخ الخلافة الراشدة -إذا أحسن عرضه- يغذي الأرواح ويهذب النفوس, وينور القلوب ويبني العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العِبَر، وينضج الأفكار، ويوضح معالمها، وصفات قادتها, ونظام حكمها، وأخلاق جيلها، وعوامل ازدهارها، وأسباب زوالها، فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم الذي يتربى على منهاج النبوة وفقه الخلافة الراشدة، ونتعرف على حياة عصر من قال الله تعالى فيهم: +وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"[التوبة: 100].
وقال تعالى +مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا" [الفتح: 29].
وقال فيهم رسول الله ×: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم...» ( ).
وقال فيهم عبد الله بن مسعود: «من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة, أولئك أصحاب محمد ×، كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».( )
فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم، ورووا السنن والآثار عن رسول الله ×، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في: الفكر والثقافة والعلم والجهاد، وحركة الفتوحات، والتعامل مع الشعوب والأمم، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح، وهدى رشيد، وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس.
إن التاريخ الإسلامي أصبح غرضا ومرمى لسهام أعداء الإسلام على مختلف مذاهبهم وعقائدهم، ويحاولون أن يوجدوا فجوة في الإسلام وتاريخه الزاهر حتى يتسنى لهم عزل الأجيال عن الإسلام وعقيدته وشريعته وقيمه وتراثه العلمي، ولذلك يبذلون قصارى جهدهم لنفث السموم في المجتمع الإسلامي.
لقد حاول المستشرقون -ومن قبلهم الروافض- أن ينشروا كل رواية باطلة تنقص من شأن الصحابة الكرام، وتطعن في تاريخ الأمة المجيد، وتصور تاريخهم بأنه صراع على السلطة والسيادة والنفوذ، ولذلك يجب الحذر من كل رافضي كاذب، ومستشرق حاقد، وعلماني جاهل, وكل من سار على نهجهم. ولا بد من الدفاع المستميت عن تاريخنا الخالد والهجوم الشجاع على مناهج الكذابين والمنحرفين، ويكون هذا الهجوم المبارك بقذائف الحق العلمية المملوءة بالحقائق الساطعة والأدلة القاطعة والبراهين الدامغة.
إن صياغة التاريخ الإسلامي بمنهج أهل السنة والجماعة ضرورة ملحة لأبناء الأمة، وقد بدأت أقلام الباحثين والكتاب تصوغ التاريخ من هذا المنظور وهم لم يبدأوا من فراغ؛ لأن الله حمى دينه وحمى أمة الإسلام فقيض لتاريخ الصحابة من يحقق وقائعه ويصحح أخباره، ويكشف الستر عن الوضاعين والكذابين من ملفقي الأخبار، ويرجع الفضل في ذلك التصحيح إلى الله ثم أهل السنة والجماعة من أئمة الفقهاء والمحدثين الذين حفلت مصادرهم بالكثير من الإشارات والروايات الصحيحة التي تنقض وترد كل ما وضعه الملفِّقون( ).
هذا وقد سرت على أصول منهج أهل السنة، فعكفت على المصادر والمراجع القديمة والحديثة, ولم أعتمد في دراسة عصر الخلفاء الراشدين على الطبري وابن الأثير والذهبي وكتب التاريخ المشهورة فقط، بل رجعت إلى كتب التفسير والحديث وشروحها، وكتب العقائد والفرق، وكتب التراجم والجرح والتعديل، وكتب الفقه، فوجدت فيها مادة تاريخية غزيرة يصعب الوقوف على حقيقتها في الكتب التاريخية المعروفة والمتداولة، وقد شرعت في هذا الكتاب بالحديث عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان ? الذي قال فيه رسول الله ×: «وأصدقها حياء عثمان» ( )، وقال فيه رسول الله × في غزوة تبوك بعد تقديمه النفقة العظيمة: «ما ضر عثمان بعد اليوم، ما ضر عثمان بعد اليوم». ( ) وقد بشره رسول الله × بالجنة على بلوى تصيبه( ), وحث الناس عند وقوع الفتنة أن يكونوا مع عثمان وأصحابه؛ فعن أبي هريرة ? قال: إني سمعت رسول الله × يقول: «إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا أو اختلافا وفتنة»، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه» وهو يشير إلى عثمان. ( )
وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- في زمن النبي × لا يعدلون بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان؛ فعن ابن عمر -رضي ¬الله عنهما- قال: كنا في زمن النبي × لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي × لا نفاضل بينهم( ).
وقد قال فيه الشاعر النميري:
عشية يدخلون بغير إذن
على متوكل أوفى وطابا

خليل محمد ووزير صدق
ورابع خير من وطئ الترابا( )

وقال فيه أبو محمد القحطاني:
لما قضى صديق أحمد نَحْبَه
دفع الخلافة للإمام الثاني

أعنى به الفاروق عنوة
بالسيف بين الكفر والإيمان

هو أظهر الإسلام بعد خفائه
ومحا الظلام وباح بالكتمان

ومضى وخلى الأمر شورى بينهم
في الأمر فاجتمعوا على عثمان

من كان يسهر ليلة في ركعة
وترًا فيكمل ختمة القرآن

إلى أن قال:
والويل للركب الذين سعوا إلى
عثمان فاجتمعوا على العصيان( )

إن حياة ذي النورين عثمان بن عفان ? صفحة مشرقة في تاريخ الأمة، وقد قمت بتتبع أخباره وحياته وعصره وقمت بترتيبها وتنسيقها وتوثيقها وتحليلها؛ لكي تصبح في متناول أبناء أمتي على مختلف طبقاتهم؛ من علماء ودعاة وخطباء وساسة ومفكرين، وقادة جيوش، وحكام، وطلاب علم، وعامة الناس، لعلهم يستفيدون منها في حياتهم، ويقتدون بها في أعمالهم فيكرمهم الله بالفوز في الدارين.
لقد تحدثت في هذا الكتاب عن اسم ذي النورين ونسبه وكنيته وألقابه وأسرته, ومكانته في الجاهلية، وإسلامه وزواجه من رقية بنت رسول الله ×، وابتلائه وهجرته للحبشة، وعن حياته مع القرآن الكريم وملازمته للنبي ×، وعن مواقفه في غزوات رسول الله ×، وعن حياته الاجتماعية بالمدينة، ومساهمته الاقتصادية في بناء الدولة، وتتبعت أحاديث رسول الله × في ذي النورين فيما ورد في فضائله مع غيره، وما ورد عن رسول الله × في أخباره عن الفتنة التي يقتل فيها عثمان، وتكلمت عن مكانته في عهد الصديق والفاروق وبينت قصة استخلافه، وما قام به عبد الرحمن بن عوف من عمل عظيم في إشرافه على إدارة الشورى، ورددت على الأباطيل الرافضية التي دست في قصة الشورى، فأثبت بطلانها وزيفها بالحجج العلمية والبراهين القوية والأدلة المنطقية، وذكرت أقوال أهل العلم في أحقية عثمان بالخلافة وانعقاد الإجماع على خلافته، وشرحت منهج عثمان ? في نظام الحكم من خلال رسائله للولاة وأمراء الجند وعامة الناس, ومواقفه في الحياة، فقد وضح ? المرجعية العليا للدولة، وحق الأمة في محاكمة الخليفة، وقواعد الشورى والعدل والمساواة والحريات، وأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المجتمعات. وقد أشرت إلى أهم صفات عثمان ? القيادية وذكرت تسع عشرة صفة من صفاته مع المواقف الدالة على تلك الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة. وتحدثت عن المؤسسة المالية فبينت معالم السياسة المالية التي أعلنها عثمان عندما تولى الحكم، وأنواع النفقات العامة في عهده؛ كصرف مرتبات الولاة والجنود، والإنفاق على الحج، وتمويل إعادة المسجد النبوي، وتوسعة المسجد الحرام، وإنشاء أول أسطول بحري، وتحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة، وتمويل حفر الآبار، ورواتب المؤذنين، وأشرت إلى أثر تدفق الأموال على الحياة الاجتماعية والاقتصادية, وإلى حقيقة العلاقة بين عثمان وأقاربه والعطاء من بيت المال، وتكلمت عن مؤسسة القضاء وبعض الاجتهادات الفقهية لعثمان والتي أثرت في المدارس الفقهية فيما بعد، وجمعت فتوحات عثمان المتناثرة في كتب التاريخ، وقمت بترتيبها وتنظيمها وفق حركة الجيوش في المشرق، وبلاد الشام، وفي الجبهة المصرية، والشمال الأفريقي، واستخرجت من حركة الفتوح دروسا وعبرا وفوائد؛ كتحقق وعد الله للمؤمنين، وتطور فنون الحرب والسياسة، والاهتمام بحدود الدولة، والحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدو، وجمع المعلومات على الأعداء. وترجمت لبعض قادة الفتوح؛ كالأحنف بن قيس، وعبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وسلمان بن ربيعة، وحبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنهم.
وأشدت بأعظم مفاخر عثمان في توحيده للأمة على قراءة المصحف العثماني، ووضحت المراحل التي مرت بها كتابة القرآن الكريم، وتحدثت عن الباعث على جمع القرآن في عهده، واستشارته لجمهور الصحابة، وعن عدد المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار، وفهم الصحابة لآيات النهي عن الاختلاف، وعن مؤسسة الولاة وأقاليم الدولة في عهده، وسياسته مع الولاة وحقوقهم وواجباتهم، وأساليبه في متابعة ولاته ومراقبتهم والاطلاع على أخبارهم، وبينت حقيقة ولاة عثمان -رضي الله عنهم- وماذا لهم وماذا عليهم، وحقيقة علاقة عثمان بأبي ذر وابن مسعود وعمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعا. وفصلت في أسباب فتنة مقتل عثمان وأهمية دراسة وقائع هذه الفتنة، وتحدثت عن كل سبب من الأسباب في فقرة مستقلة؛ كالرخاء وأثره في المجتمع، وطبيعة التحول الاجتماعي، ومجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، والعصبية الجاهلية، وتوقف الفتوحات، والورع الجاهل، وطموح الطامحين، وتآمر الحاقدين، والتدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد الخليفة الراشد المظلوم، واستخدام الأساليب والوسائل المهيجة للناس، وعن أثر السبئية في إحداث الفتنة، والخطوات التي اتخذها عثمان ? لمعالجتها؛ كإرسال لجان تحقيق وتفتيش، وإرساله لكل الأمصار كتابا شاملا بمثابة إعلان عام لكل المسلمين، ومشورته لولاة الأمصار وإقامة الحجة على المتمردين والاستجابة لبعض مطالبهم. وبينت ضوابط التعامل مع الفتن من خلال فقه عثمان ?؛ كالتثبت ولزوم العدل والإنصاف، والحلم والأناة، والحرص على ما يجمع ونبذ ما يفرق، ولزوم الصمت والحذر من كثرة الكلام، واستشارة العلماء الربانيين، والاسترشاد بأحاديث رسول الله × في الفتن. ووصفت احتلال أهل الفتنة للمدينة، وحصارهم لعثمان ودفاع الصحابة عنه ورفضه لذلك، وذكرت مواقف الصحابة من مقتل عثمان ? وما ورد من أقوالهم في الفتنة.
وبالجملة فإن هذا الكتاب يبرهن على عظمة ذي النورين، ويثبت للقارئ الكريم بأنه كان عظيما بإيمانه وبعلمه وبخلقه وبآثاره، وكانت عظمته مستمدة من فهمه وتطبيقه للإسلام, وصلته العظيمة بالله واتباعه لهدي الرسول الكريم ×.
إن عثمان ? من الأئمة الذين يتأسى الناس بهديهم وبأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة؛ فسيرته من أقوى مصادر الإيمان، والعاطفة الإسلامية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين، فلذلك اجتهدت في دراسة شخصيته وعصره حسب وسعي وطاقتي، غير مدعٍ عصمة ولا متبرئ من زلة، ووجه الله الكريم لا غيره قصدت، وثوابه أردت، وهو المسئول في المعونة عليه, (والانتفاع به)، إنه طيب الأسماء وسميع الدعاء.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب الساعة الثانية من فجر يوم الأربعاء بتاريخ 8 من شهر ربيع الثاني لعام 1423هـ الموافق 18/6/2002م، والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعل عملي لوجهه خالصا، ولعباده نافعا، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه: +رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" [النمل: 19].
وقال تعالى: +مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [فاطر: 2]. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك
أشهد أن لا إله إلا أنت
أستغفرك وأتوب إليك
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:16 pm

الفصل الأول
ذو النورين عثمان بن عفان ? بين مكة والمدينة

المبحث الأول
اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته
وأسرته ومكانته في الجاهلية
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته وألقابه:
1- هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ( ), ويلتقي نسبه بنسب رسول الله × في عبد مناف. وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.( ) وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي شقيقة عبد الله والد النبي ×، ويقال: إنهما ولدا توأما (حكاه الزبير بن بكار)، فكان ابن بنت عمة النبي ×، وكان النبي × ابن خال والدته. وقد أسلمت أم عثمان وماتت في خلافة ابنها عثمان, وكان ممن حملها إلى قبرها( )، وأما أبوه فهلك في الجاهلية.
2- كنيته: كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما ولد له من رقية بنت رسول الله غلام سماه عبد الله، واكتنى به، فكناه المسلمون أبا عبد الله( ).
3- لقبه: كان عثمان ? يلقب بذي النورين، وقد ذكر بدر الدين العيني( ) في شرحه على صحيح البخاري، أنه قيل للمهلب بن أبي صفرة( ): لم قيل لعثمان ذو النورين؟ فقال: لأنا لا نعلم أحدا أرسل سترا على بنتي نبي غيره.( ) وقال عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي: قال لي خالي حسين الجعفي: يا بني، أتدري لِمَ سمي عثمان ذا النورين؟ قلت: لا أدري، قال: لم يجمع بين ابنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان، فلذلك سمي ذا النورين.( ) وقيل: سمي بذي النورين لأنه كان يكثر من تلاوة القرآن في كل ليلة في صلاته، فالقرآن نور وقيام الليل نور( ).
4- ولادته: ولد في مكة بعد عام الفيل بست سنين على الصحيح ( )، وقيل: ولد في الطائف، فهو أصغر من رسول الله × بنحو خمس سنين( ).
5- صفته الْخَلْقيَّة: كان رجلا ليس بالقصير ولا بالطويل، رقيق البشرة، كث اللحية عظيمها، عظيم الكراديس( )، عظيم ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، يصفِّر لحيته. وقال الزهري: كان عثمان رجلا مربوعا، حسن الشعر، حسن الوجه، أصلع، أروح الرجلين( ), وأقنى( ), خدل الساقين( ), طويل الذراعين، قد كسا ذراعيه جعد الشعر، أحسن الناس ثغرا، جُمَّته( ) أسفل من أذنيه، حسن الوجه، والراجح أنه أبيض اللون، وقد قيل:
أسمر اللون( ).
ثانيًا: أسرته:
تزوج عثمان ? ثماني زوجات كلهن بعد الإسلام وهن: رقية بنت رسول الله وقد أنجبت له عبد الله بن عثمان، ثم تزوج أم كلثوم بنت رسول الله بعد وفاة رقية، وتزوج فاختة بنت غزوان، وهي أخت الأمير عتبة بن غزوان، وأنجبت لعثمان عبد الله الأصغر، وأم عمرو بنت جندب الأزدية، وقد أنجبت لعثمان عمرا وخالدا وأبان وعمر ومريم، وتزوج فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومية، وأنجبت لعثمان: الوليد وسعيدا وأم سعد، وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، وأنجبت لعثمان: عبد الله، وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة الأموية، وأنجبت لعثمان: عائشة وأم أبان وأم عمرو، وقد أسلمت رملة، وبايعت رسول الله ×، وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية، وكانت على النصرانية وقد أسلمت قبل أن يدخل بها وحسن إسلامها.( )
وأما أبناؤه فقد كانوا تسعة أبناء من الذكور من خمس زوجات وهم: عبد الله وأمه رقية بنت رسول الله × ولد قبل الهجرة بعامين، وأخذته أمه معها عندما هاجرت مع زوجها عثمان إلى المدينة. وفي أوائل أيام الحياة في المدينة نقره الديك في وجهه قرب عينه، وأخذ مكان نقر الديك يتسع حتى طمر وجهه حتى مات في السنة الرابعة للهجرة، وكان عمره ست سنوات.( ) وعبد الله الأصغر, وأمه فاختة بنت غزوان، وعمرو, وأمه أم عمرو بنت جندب وقد روى عن أبيه، وعن أسامة بن زيد, وروى عنه علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وأبو الزنَّاد، وهو قليل الحديث، وتزوج رملة بنت معاوية بن أبي سفيان، توفي سنة ثمانين للهجرة. وخالد, وأمه أم عمرو بنت جندب. وأبان، وأمه أم عمرو بنت جندب، كان إمامًا في الفقه، يكنى أبا سعيد، تولى إمرة المدينة سبع سنين في عهد عبد الملك بن مروان، سمع أباه وزيد بن ثابت، له أحاديث قليلة، منها ما رواه عن عثمان: «من قال في أول يومه وليلته: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يضره ذلك اليوم شيء أو تلك الليلة». فلما أصاب أبان الفالج قال: إني والله نسيت هذا الدعاء ليمضي في أمر الله.( ) ويعتبر من فقهاء المدينة في زمنه، وقد توفى سنة خمس ومائة.( )
وعمر، وأمه أم عمرو بنت جندب. والوليد، وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومية. وسعيد، وأمه فاطمة بنت الوليد المخزومية، تولى أمر خراسان عام ستة وخمسين أيام معاوية بن أبي سفيان. وعبد الملك، وأمه أم البنين بنت عيينة بن حصن، ومات صغيرا، ويقال: ولدت نائلة بنت الفرافصة ولدا لعثمان سمى عنبسة.( )
وأما بناته، فهن سبع من خمس نساء، منهن: مريم وأمها أم عمرو بنت جندب. وأم سعيد، وأمها فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية. وعائشة، وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة. ومريم بنت عثمان، وأمها نائلة بنت الفرافصة. وأم البنين، وأمها أم( ) ولد.
وأما شقيقة عثمان، فهي آمنة بنت عفان، فقد عملت ماشطة في الجاهلية، ثم تزوجت الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي، وأسرت سرية عبد الله بن جحش الحكم بن كيسان، وفي المدينة أسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله ×، حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا في بداية السنة الرابعة للهجرة، وبقيت آمنة بنت عفان في مكة على شركها حتى يوم الفتح؛ حيث أسلمت مع أمها وبقية أخواتها، وبايعت رسول الله × مع هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن ولا يزنين.( )
وأما إخوة عثمان من أمه فله ثلاثة إخوة وهم: الوليد بن عقبة بن أبي معيط، قتل أبوه يوم بدر صبرا وهو كافر، وخرج الوليد مع أخيه عمارة بعد الحديبية لرد أختهما أم كلثوم التي أسلمت وهاجرت، فأبى رسول الله × ردها، أسلم يوم الفتح. ومن إخوة عثمان لأمه عمارة بن عقبة، تأخر إسلامه، وخالد بن عقبة. وأما أخواته من أمه فهن: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، أسلمت بمكة، وهاجرت وبايعت رسول الله × وهي أول من هاجر من النساء بعد أن عاد رسول الله × إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ومن أخوات عثمان لأمه: أم حكيم بنت عقبة، وهند بنت عقبة( ).
ثالثـًا: مكانته في الجاهلية:
كان ? في أيام الجاهلية من أفضل الناس في قومه؛ فهو عريض الجاه ثري، شديد الحياء، عذب الكلمات، فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه. لم يسجد في الجاهلية لصنم قط ولم يقترف فاحشة قط، فلم يشرب خمرا قبل الإسلام وكان يقول: إنها تُذْهب العقل والعقل أسمى ما منحه الله للإنسان، وعلى الإنسان أن يسمو به، لا أن يصارعه. وفي الجاهلية كذلك لم تجذبه أغاني الشباب ولا حلقات اللهو، ثم إن عثمان كان يتعفف عن أن يرى عورة( ). ويرحم الله عثمان ? فقد يسر لنا سبيل التعرف عليه؛ حيث قال: ما تغنيت، ولا تمنيت، و لا مسست ذكري بيمني منذ بايعت بها رسول الله ×، ولا شربت خمرًا في جاهلية ولا إسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام.( ) وكان ? على علم بمعارف العرب في الجاهلية ومنها الأنساب والأمثال وأخبار الأيام، وساح في الأرض فرحل إلى الشام والحبشة، وعاشر أقواما غير العرب فعرف من أحوالهم وأطوارهم ما ليس يعرفه غيره.( ) واهتم بتجارته التي ورثها عن والده، ونمت ثرواته, وأصبح يعد من رجالات بني أمية الذين لهم مكانة في قريش كلها، فقد كان المجتمع المكي الجاهلي الذي عاش فيه عثمان يقدر الرجال حسب أموالهم، ويهاب فيه الرجال حسب أولادهم وإخوتهم ثم عشيرتهم وقومهم، فنال عثمان مكانة مرموقة في قومه، ومحبة كبيرة.
ومن أطرف ما يروى عن حب الناس لعثمان لما تَجَمَّع فيه من صفات الخير أن المرأة العربية في عصره كانت تغني لطفلها أغنية تحمل تقدير الناس له وثناءهم عليه، فقد كانت تقول:
أحبك والرحمن
حبَّ قريش لعثمان( )

رابعًا: إسلامه:
كان عثمان قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يعرف عنه تكلؤ أو تلعثم بل كان سباقا أجاب على الفور دعوة الصديق، فكان بذلك من السابقين الأولين حتى قال أبو إسحاق: كان أول الناس إسلاما بعد أبى بكر وعلي وزيد بن حارثة عثمان.( ) فكان بذلك رابع من أسلم من الرجال، ولعل سبقه هذا إلى الإسلام كان نتيجة لما حدث له عند عودته من الشام، وقد قصه ? على رسول الله × حين دخل عليه هو وطلحة بن عبيد الله، فعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما القرآن، وأنبأهما بحقوق الإسلام ووعدهما الكرامة من الله فآمنا وصدقا، فقال عثمان: يا رسول الله، قدمت حديثا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام فإذا منادٍ ينادينا: أيها النيام هبوا، فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا بك.( )
لا شك أن هذه الحادثة تترك في نفس صاحبها أثرًا إيجابيًا لا يستطيع أن يتخلى عنه، عندما يرى الحقيقة ماثلة بين عينيه، فمن ذا الذي يسمع بخروج النبي قبل أن يصل إلى البلد الذي يعيش فيه، حتى إذا نزله ووجد الأحداث والحقائق تنطق كلها بصدق ما سمع به ثم يتردد في إجابة الدعوة؟ لا يستطيع الإنسان مهما كان مكابرا إلا أن يذعن للحق، ومهما أظهر الجفاء فإن ضميره لا يزال يتلجلج في صدره حتى يؤمن به أو يموت، فيتخلص من وخز الضمير وتأنيبه, ولم تكن سرعة تلبيته عن طيش أو حمق، ولكنها كانت عن يقين راسخ وتصديق لا يتطرق إليه شك.( ) فقد تأمل في هذه الدعوة الجديدة بهدوء كعادته في معالجة الأمور، فوجد أنها دعوة إلى الفضيلة، ونبذ الرذيلة، دعوة إلى التوحيد وتحذير من الشرك، دعوة إلى العبادة وترهيب من الغفلة، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وترهيب من الأخلاق السيئة، ثم نظر إلى قومه، فإذا هم يعبدون الأوثان، ويأكلون الميتة، ويسيئون الجوار، ويستحلون المحارم من سفك الدماء وغيرها.( ) وإذا بالنبي محمد بن عبد الله × صادق أمين يعرف عنه كل خير, ولا يعرف عنه شر قط، فلم تعهد عليه كذبة ولم تحسب عليه خيانة، فإذا هو يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى صلة الرحم، وحسن الجوار، والصلاة والصوم, وألا يعبد غير الله( ), فأسلموا على يد أبي بكر الصديق، ومضى في إيمانه قُدُمًا قويا هاديا، وديعا صابرا, عظيما راضيا، عفوا كريما، محسنا رحيما، سخيًّا باذلا، يواسي المؤمنين، ويعين المستضعفين، حتى اشتدت قناة الإسلام.( )
وفي إسلام عثمان قالت خالته سعدى بنت كريز:
هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى
وأرشده والله يهدي إلى الحق

فتابع بالرأي السديد محمدا
وكان برأي لا يصد عن الصدق

وأنكحه المبعوث بالحق بنته
فكان كبَدْر مَازَجَ الشمس في الأفق

فداؤك يا ابن الهاشميين مهجتي
وأنت أمين الله أرسلت للخلق( )

خامسًا: زواجه من رقية بنت رسول الله ×:
فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحًا شديدًا، وتوثقت بينه وبينهم عرى المحبة وأخوة الإيمان، وأكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله × رقية، وقصة ذلك أن رسول الله × كان قد زوجها من عتبة بن أبي لهب، وزوج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت سورة المسد +تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ? مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ? سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ? وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ? فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ" [المسد: 1- 5]. قال لهما أبو لهب وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية +حَمَّالَةَ الْحَطَبِ" فارقا ابنتي محمد، ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من الله تعالى لهما، وهوانًا لابني أبي لهب( ), وما كاد عثمان بن عفان ? يسمع بخبر طلاق رقية حتى استطار( ) فرحا، وبادر فخطبها من رسول الله × فزوجها الرسول الكريم × منه، وزفتها( ) أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وقد كان عثمان من أبهى قريش طلعة، وكانت هي تضاهيه قسامة وصباحة، فكان يقال لها حين زفت إليه:
أحسن زوجين رآهما إنسان
رقية، وزوجها عثمان( )

وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي: أن رسول الله × دخل على ابنته وهي تغسل رأس عثمان، فقال: «يا بنية أحسني إلى أبي عبد الله، فإنه أشبه أصحابي بي خُلُقًا». ( )
ظنت أم جميل بنت حرب وزوجها أبو لهب أنهما بتسريح رقية وأم كلثوم -رضي الله عنهما- سيصيبان من البيت المحمدي مقتلا أو سيوهنانه، ولكن الله -عز وجل- اختار لرقية وأم كلثوم الخير، وباءت أم جميل وأبو لهب بغيظهما لم ينالا خيرا, وكفى الله البيت النبوي شرهما، وكان أمر الله قدرا مقدورا( ).
سادسًا: ابتلاؤه وهجرته إلى الحبشة:
إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام، وتحملوا من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فقد أوذي عثمان وعُذب في سبيل الله تعالى على يد عمه الحكم ابن أبي العاص بن أمية الذي أخذه فأوثقه رباطا وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أحلُّك أبدا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان ?: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه.( )
واشتد الإيذاء بالمسلمين جميعا، و تجاوز الحد حيث قتل ياسر وزوجته سمية، والنبي × يتألم أشد الألم، إلى أين يذهب المسلمون؟ ثم اهتدى رسول الله × إلى الحبشة حيث قال للمسلمين: «لو خرجتم إلى الحبشة، فإن بها ملكا صالحا لا يُظْلم عنده أحد». ( ) وبدأت الهجرة والنبي × يتألم، وهو يرى الفئة المؤمنة تتسلل سرًّا( ) خارجة من مكة، ويركبون البحر، وخرج يمتطي بعضهم الدواب، والبعض الآخر يسير على الأقدام، وتابعوا السير حتى وصلوا ساحل البحر الأحمر، ثم أمَّروا عليهم عثمان بن مظعون، وشاءت عناية الله أن يجدوا سفينتين، فركبوا مقابل نصف دينار لكل منهم، وعلمت قريش فأسرعت في تعقبهم إلى الساحل ولكنهم كانوا قد أبحرت بهم السفينتان.( ) وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية عثمان بن عفان ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله ×، وكان وصولهم للحبشة في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة، فوجدوا الأمن والأمان وحرية العبادة، وقد تحدث القرآن الكريم عن هجرة المسلمين الأوائل إلى أرض الحبشة، قال تعالى: +وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" [النحل:41]. وقد نقل القرطبي -رحمه الله- قول قتادة رحمه الله: المراد أصحاب محمد ×، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.( ) وقال تعالى: +قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [الزمر: 10]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة.( ) وقد استفاد عثمان ? من هذه الهجرة وأضاف خبرة ودروسا لنفسه استفاد منها في مسيرته الميمونة، ومن أهم هذه الدروس والعبر:
1- أن ثبات المؤمنين على عقيدتهم بعد أن ينزل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير واطمئنان النفس والعقل، وما يأملونه من رضا الله -جل شأنه- أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من تعذيب وحرمان واضطهاد؛ لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين تكون دائما وأبدا لأرواحهم لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطلب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة وشبع ولذة، وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات والجهالات( ).
2- وقد تعلم عثمان ? من هدي النبي × الشفقة على الأمة، وظهرت هذه الشفقة لما تولى الخلافة وقبلها لَمَّا كان في المجتمع المدني في عهد النبي × وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فقد رأى بعينه وبصيرة قلبه شفقة النبي × على أصحابه، ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عن أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد، فكان الأمر كما قال × فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل.( ) فالرسول × هو الذي وجه الأنظار إلى الحبشة، وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه، فجنود الدعوة هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده( ).
3- وتعلم عثمان ? من هدي النبي × في هجرة الحبشة أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد وأهله ورَحِمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة، فهو منهج بعيد عن نهج النبي ×.( ) ولهذا لما تولى ذو النورين الخلافة كان أقرباؤه في مقدمة الجيوش، فهذا عبد الله بن أبي سرح في فتوحات أفريقية، وذاك عبد الله بن عامر في فتوحات المشرق، وألزم معاوية أن يركب البحر ومعه زوجته وأن يكون في مقدمة الجيوش الغازية، وسيأتي تفصيل ذلك -بإذن الله- عند حديثنا عن الفتوحات.
4- كان عثمان ? أول من هاجر إلى الحبشة بأهله من هذه الأمة( ), قال رسول الله ×: «صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط» ( ).
ولما أشيع أن أهل مكة قد أسلموا، وبلغ ذلك مهاجري الحبشة أقبلوا، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فدخلوا في جوار بعض أهل مكة، وكان فيمن رجع عثمان بن عفان وزوجه رقية رضي الله عنهما.( ) واستقر المقام به حتى أذن الله بالهجرة إلى المدينة، ومنذ اليوم الذي أسلم فيه عثمان لزم النبي × حيث كان، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه، أو في مهمة من المهام التي يندب لها ولا يغني أحد فيها غناءه، شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الراشدين جميعا، كأنما هي خاصة من خواصهم رشحهم لها من رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين.( ) لقد كان ذو النورين على صلة وثيقة بالدعوة الكبرى منذ سنتها الأولى، فلم يفته شيء من أخبار النبوة الخاصة والعامة في حياة النبي × ولم يفته شيء بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شيء مما نسميه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية( ).
* * *

المبحث الثاني
حياة عثمان ? مع القرآن الكريم
كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عثمان بن عفان وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، فهو المصدر الوحيد للتلقي، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج الذي يتربى عليه الفرد المسلم والأسرة المسلمة والجماعة المسلمة، فكانت الآيات الكريمة التي سمعها عثمان ? من رسول الله × مباشرة لها أثرها في صياغة شخصية ذي النورين الإسلامية؛ فقد طهرت قلبه، وزكت نفسه، وتفاعلت معها روحه؛ فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته.( )
وقد تعلق عثمان ? بالقرآن الكريم، وحدثنا أبو عبد الرحمن السلمي كيف تعلمه من رسول الله ×، وله أقوال تدل على حبه الشديد للعيش مع كتاب الله تعالى؛ فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن -كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي × عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة( ), وذلك أن الله تعالى قال: +كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ" [ص: 29] وقد روى عثمان ? عن رسول الله × قوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». ( ) وقد عرض القرآن الكريم كاملا على رسول الله × قبل وفاته. ومن أشهر تلاميذ عثمان في تعلم القرآن الكريم أبو عبد الرحمن السلمي، والمغيرة بن أبي شهاب وأبو الأسود، وزر بن حبيش.( ) وقد حفظ لنا التاريخ بعض أقوال عثمان ? في القرآن الكريم حيث قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل.( ) وقال: إني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله( ) (يعني المصحف). وقال: حُبب إليَّ من الدنيا ثلاث: إشباع الجيعان، وكسوة العريان، وتلاوة القرآن.( ) وقال: أربعة ظاهرهن فضيلة وباطنهن فريضة: مخالطة الصالحين فضيلة والاقتداء بهم فريضة، وتلاوة القرآن فضيلة والعمل به فريضة، وزيارة القبور فضيلة والاستعداد للموت فريضة، وعيادة المريض فضيلة واتخاذ الوصية منه فريضة.( ) وقال ?: أضيع الأشياء عشرة: عالم لا يُسْأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل، ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه، وخيل لا تُرْكب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره.( ) وكان ? حافظا لكتاب الله، وكان حجره لا يكاد يفارق المصحف، فقيل له في ذلك فقال: إنه مبارك جاء به مبارك.( ) وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم( ) النظر فيه. وقالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة( ), وقد ذكر عنه أنه قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها( ), وقد تحقق فيه قول الله تعالى: +أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا
يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ" [الزمر: 9].
لقد تشرب عثمان ? بالمنهج القرآني وتتلمذ على يدي رسول الله × وعرف من خلال القرآن الكريم من هو الإله الذي يجب أن يعبده، وكان النبي × يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة، فقد حرص × أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة ذي النورين إلى الله عز وجل، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي ×.
فالله -سبحانه وتعالى- منزه عن النقائص، موصوف بالكمالات التي لا تتناهى، فهو سبحانه (واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا). وأنه سبحانه حدد مضمون هذه العبودية وهذا التوحيد في القرآن الكريم،( ) وأما نظرته للكون فقد استمدها من قول الله تعالى: +قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ? وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ? ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ? فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [فصلت: 9- 12]. وأما هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال وأن متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير، قال تعالى: +إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [يونس: 24].
وأما نظرته إلى الجنة، فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة، فأصبح هذا التصور رادعًا في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله، فيرى المتتبع لسيرة ذي النورين عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشدة خوفه من عذاب الله وعقابه، وسنرى ذلك في صفحات هذا البحث بإذن الله تعالى.
وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمده من كتاب الله وتعليم رسول الله × له، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه في كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء: +وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" [يونس: 61].
وأن الله تعالى قد كتب كل شيء كائن: +إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ" [يس: 12]. وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة: +أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا" [فاطر: 44]. وأن الله خالق لكل شيء +ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" [الأنعام: 102].
وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر ثمار نافعة ومفيدة، ظهرت في حياته، وسنراها -بإذن الله تعالى- في هذا الكتاب. وعرف من خلال القرآن الكريم حقيقة نفسه وبني الإنسان, وأن حقيقة خلقه ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة، قال تعالى: +الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ? ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ? ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ" [السجدة: 7- 9].
وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده وأكرمه بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة، ومنحه العقل والنطق والتمييز، وسخر له ما في السموات والأرض وفضله على كثير من خلقه، وكرمه بإرسال الرسل له. وإن من أروع مظاهر تكريم المولى -عز وجل- للإنسان أن جعله أهلا لحبه ورضاه، ويكون ذلك باتباع النبي × الذي دعا الناس إلى الإسلام لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة، قال تعالى: +مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل: 97].
وعرف عثمان ? من خلال القرآن الكريم حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان، وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يوسوس له بالمعصية ويستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعينا بالله على عدوه إبليس وانتصر عليه في حياته، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم أن آدم هو أصل البشر، وجوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة, وتعلم من خطيئة آدم ضرورة توكل المسلم على ربه وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع الصحابة؛ لقول الله تعالى: +وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا" [الإسراء: 53].
لقد أكرم المولى -عز وجل- عثمان بن عفان ? بالإسلام، فعاش به وجاهد به من أجل نشره، واستمد أصوله وفروعه من كتاب الله وهدي النبي ×، وأصبح من أئمة الهدى الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، ولا ننسى أن عثمان بن عفان كان من كُتَّاب الوحي لرسول الله × ( ).
* * *
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:19 pm

المبحث الثالث
ملازمته للنبي × في المدينة
إن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عثمان ? وصقل مواهبه وفجر طاقته، وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله × وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عثمان ? لازم الرسول × في مكة بعد إسلامه كما لازمه في المدينة بعد هجرته؛ فقد نظم عثمان نفسه, وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، فحرص على تعلم القرآن الكريم والسنة المطهرة من سيد الخلق أجمعين.
وهذا عثمان يحدثنا عن ملازمته لرسول الله × فيقول: إن الله -عز وجل- بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن، فهاجرت الهجرتين الأوليين، ونلت صهر رسول الله، ورأيت هديه.( ) لقد تربى عثمان ? على المنهج القرآني، وكان المربي له رسول الله ×، وكانت نقطة البدء في تربية عثمان هي لقاءه برسول الله ×، فحدث له تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي ×، فخرج من دائرة الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان وطرح الكفر، وقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل الإسلام وعقيدته السمحة. كانت شخصية رسول الله × تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض، والعظمة دائما تحب وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون ويلتصقون بها التصاقا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله × يضيف إلى عظمته تلك أنه رسول الله × متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بُعْد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب العظماء من الناس، ولكن أيضا لتلك النفخة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول × البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئا واحدا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية، حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول، ويرتبط حب الله بحب رسوله ×, ويمتزجان في نفسه فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك.
كان هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطقها الذي تنطلق منه.( ) لقد حصل لعثمان ? وللصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله × وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، ولقد تتلمذ عثمان ? على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس، قال تعالى: +قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران: 64].
وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم خلال ملازمته رسول الله × في غزواته وسِلْمه، وقد أمدته تلك المعايشة بخبرة ودربة ودراية بشئون الحرب ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها، وفي الصفحات القادمة سنبين -بإذن الله تعالى- مواقفه في الميادين الجهادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مع رسول الله × في العهد المدني.
أولاً: عثمان ? في ميادين الجهاد مع رسول الله ×:
شرع رسول الله × بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية، فآخى بين المهاجرين والأنصار، فكل مهاجري يتخذ أخًا له من الأنصار، فكان نصيب عثمان بن عفان في المؤاخاة أوس بن ثابت،( ) ثم أقام النبي × المسجد، وأبرم المعاهدة مع اليهود، وبدأت حركة السرايا، واهتم بالبناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد. وكان عثمان ? من أعمدة الدولة الإسلامية، فلم يبخل بمشورة أو مال أو رأي، وشهد المشاهد كلها إلا غزوة بدر( ).
1- عثمان وغزوة بدر:
لما خرج المسلمون لغزوة بدر كانت زوجة عثمان السيدة رقية بنت رسول الله × مريضة بمرض الحصبة ولزمت الفراش، في الوقت الذي دعا فيه رسول الله × للخروج لملاقاة القافلة، وسارع عثمان ? للخروج مع رسول الله ×، إلا انه تلقى أمرًا بالبقاء إلى جانب رقية -رضي الله عنها- لتمريضها، وامتثل لهذا الأمر بنفس راضية وبقي إلى جوار زوجته الصابرة الطاهرة رقية ابنة رسول الله × إذ اشتد بها المرض، وطاف بها شبح الموت، كانت رقية -رضي الله عنها- تجود بأنفاسها وهي تتلهف لرؤية أبيها الذي خرج إلى بدر، ورؤية أختها زينب في مكة، وجعل عثمان ? يرنو إليها من خلال دموعه، والحزن يعتصر قلبه( ), ودعت نبض الحياة وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولحقت بالرفيق الأعلى، ولم ترَ أباها رسول الله ×؛ حيث كان ببدر مع أصحابه الكرام، يعلون كلمة الله، فلم يشهد دفنها ×, وجهزت رقية ثم حمل جثمانها الطاهر على الأعناق، وقد سار خلفه زوجها وهو حزين، حتى إذا بلغت الجنازة البقيع، دفنت رقية هناك، وقد انهمرت دموع المشيعين، وسوى التراب على قبر رقية بنت رسول الله ×. وفيما هم عائدون إذ بزيد ابن حارثة قد أقبل على ناقة رسول الله × يبشر بسلامة رسول الله × وقتل المشركين وأسر أبطالهم، وتلقى المسلمون في المدينة هذه الأنباء بوجوه مستبشرة بنصر الله لعباده المؤمنين، وكان من بين المستبشرين وجه عثمان الذي لم يستطع أن يخفي آلامه لفقده رقية رضي الله عنها. وبعد عودة الرسول × علم بوفاة رقية -رضي الله عنها- فخرج إلى البقيع ووقف على قبر ابنته يدعو لها بالغفران( ).
لم يكن عثمان بن عفان ? ممن تخلفوا عن بدر لتقاعس منه أو هروب ينشده كما يزعم أصحاب الأهواء ممن طعن عليه بتغيبه عن بدر، فهو لم يقصد مخالفة الرسول ×؛ لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعة الرسول ومتابعته، وعثمان ? خرج فيمن خرج مع رسول الله فردَّه × للقيام على ابنته، فكان في أجَلِّ فرض لطاعته لرسول الله وتخليفه، وقد ضرب له بسهمه وأجره فشاركهم في الغنيمة والفضل والأجر لطاعته الله ورسوله وانقياده لهما.( ) فعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من مصر حج البيت فقال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني أنشدك الله بحرمة هذا البيت، هل تعلم أن عثمان تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ فقال: نعم، ولكن أما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله فمرضت، فقال له رسول الله ×: «لك أجر رجل شهد بدرا وسهمه».( ) وعن أبي وائل، عن عثمان بن عفان ? أنه قال: أما يوم بدر فقد تخلفت على بنت رسول الله ×، وقد ضرب رسول الله × لي فيها بسهم. وقال زائدة في حديثه: ومن ضرب له رسول الله × فيها بسهم فقد شهد.( ) وقد عُد عثمان ? من البدريين بالاتفاق( ).
2- عثمان وغزوة أحد:
في غزوة أحد منح الله -عز وجل- النصر للمسلمين في أول المعركة، وأخذت سيوف المسلمين تعمل عملها في رقاب المشركين، وكانت الهزيمة لا شك فيها، وقتل أصحاب لواء المشركين واحدا واحدا، ولم يقدر أحد أن يدنو من اللواء، وانهزم المشركون، وولولت النسوة بعد أن كن يغنين بحماس ويضربن بالدفوف، فألقين بالدفوف وانصرفن مذعورات إلى الجبل كاشفات سيقانهن، ولكن مال ميزان المعركة فجأة، وكان سبب ذلك أن الرماة الذين أوكل إليهم النبي × مكانا على سفح الجبل لا يغادرونه مهما كانت نتيجة المعركة قد تخلوا إلا قليلا عن أماكنهم، ونزلوا إلى الساحة يطلبون الغنائم لما نظروا المسلمين يجمعونها، وانتهز خالد بن الوليد قائد سلاح الفرسان القرشي فرصة خلو الجبل من الرماة، وقلة من به منهم فكرَّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل، فقتلوا بقية الرماة ومعهم أميرهم عبد الله بن جبير ? الذي ثبت هو وطائفة قليلة معه, وفي غفلة المسلمين، وأثناء انشغالهم بالغنائم أطبق خالد ومن معه عليهم، فأعملوا فيهم القتل، فاضطرب أمر المسلمين اضطرابا شديدا، وانهزمت طائفة من المسلمين إلى قرب المدينة منهم عثمان بن عفان ولم يرجعوا حتى انفض القتال، وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي × قد قتل، وفرقة ثبتت مع النبي ×، أما الفرقة التي انهزمت وفرت فلقد أنزل الله فيها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" [آل عمران: 155] غير أن أصحاب الأهواء لا يرون إلا ما تهوى أنفسهم، فلم يروا من المتراجعين إلا عثمان ?، فكانوا يتهمونه دون سائر المتراجعين من الصحابة، وهل يبقى وحده؟ ولو فعل لخاطر بنفسه( ), وبعد أن عفا الله عن المتراجعين فالحكم واضح جليّ، لا لبس فيه ولا غموض، فلا مؤاخذة بعد ذلك على عثمان بن عفان( ) ?, فيكفي أن الله عفا عنه بنص القرآن الكريم، وحياته الجهادية بمجموعها تشهد له على شجاعته.
3- في غزوة غطفان (ذي إمر):
ندب رسول الله × المسلمين وخرج في أربعمائة رجل ومعهم بعض الجياد، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان ? فأصابوا رجلا منهم (بذي القُصَّة) يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله × فأخبره من خبرهم، وقال: لن يلاقوك، لما سمعوا بمسيرك هربوا في رؤوس الجبال وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله × إلى الإسلام فأسلم، وضمه رسول الله × إلى بلال ولم يلاقِ رسول الله × أحدا، ثم أقبل رسول الله × إلى المدينة ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشر ليلة( ).
4- في غزوة ذات الرقاع:
بلغ رسول الله × أن جمعًا من غطفان من ثعلبة وأنمار يريدون غزو المدينة، فخرج في أربعمائة من أصحابه حتى قدم صرارًا، وكان رسول الله × قد استخلف على المدينة قبل خروجه عثمان بن عفان، لقي المسلمون جمعا غفيرا من غطفان، وتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله × بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بالناس، وقد غاب عن المدينة خمسة عشر يوما( ).
5- في بيعة الرضوان:
عندما نزل رسول الله الحديبية رأى من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم فيها نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، وحرصه على احترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول × إلى قريش (خراش بن أمية الخزاعي) وحمله على جمل يقال له (الثعلب), فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله × وأخبره بما صنعت قريش، فأراد رسول الله × أن يرسل سفيرا آخر بتبليغ قريش رسالة رسول الله ×، ووقع الاختيار في بداية الأمر على عمر بن الخطاب( ), فاعتذر لرسول الله × عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله × أن يبعث عثمان مكانه،( ) وعرض عمر ? رأيه هذا معززًا بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء, وحيث إن هذا الأمر لم يكن متحققا بالنسبة لعمر ?، فقد أشار على النبي × بعثمان ? لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله ×( ), وقال لرسول الله ×: إني أخاف قريشا على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم( ), فلم يقل رسول الله × شيئا، قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله × عثمان ? فقال: «اذهب إلى قريش فخبرهم أنَّا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارًا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف»، فخرج عثمان بن عفان ? حتى أتى بلدح( ) فوجد قريشا هناك، فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله × إليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في دين الله كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويَلِي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم، فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا أبدا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا، فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأجاره وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة فأتى أشرافهم رجلا رجلا؛ أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وغيرهما من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا.( ) وعرض المشركون على عثمان ? أن يطوف بالبيت فأبى( )، وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله × إلى المستضعفين بمكة وبشرهم بقرب الفرج والمخرج،( ) وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله × جاء فيها: اقرأ على رسول الله × منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة.( ) وتسربت شائعة إلى المسلمين مفادها أن عثمان قتل، فدعا رسول الله × أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت( ) سوى الجد بن قيس وذلك لنفاقه.( ) وفي رواية أن البيعة كانت على الصبر( ), وفي رواية على عدم الفرار( )، ولا تعارض في ذلك؛ لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم الفرار.( ) وكان أول من بايعه على ذلك أبا سنان عبد الله بن وهب الأسدي( )، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته( ), وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات؛ في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم.( ) وقال النبي × بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده.( ) وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول × المبايعة تحت الشجرة ألف وأربعمائة صحابي.( ) وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان، وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، منها:
1- قال تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [الفتح: 10].
2- قال تعالى: +لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ? لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" [الفتح: 17، 18].
3- قال جابر بن عبد الله ?: قال لنا رسول الله × يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض»، وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة.( ) هذا الحديث صريح في فضل أصحاب الشجرة؛ فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما.. وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليٍّ على عثمان؛ لأن عليا كان من جملة من خوطب بذلك، وممن بايع تحت الشجرة، وكان عثمان حينئذ غائبا، وهذا التمسك باطل؛ لأن النبي × بايع عنه فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعض.( )
وفي الحديبية ذكر المحب الطبري اختصاص عثمان بعدة أمور، منها: اختصاصه بإقامة يد النبي الكريمة مقام يد عثمان لما بايع الصحابة وعثمان غائب، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله × إلى مَنْ بمكة أسيرا من المسلمين، وذكر شهادة النبي × لعثمان بموافقته في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة( )، فعن إياس بن سلمة عن أبيه أن النبي × بايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لأبي عبد الله الطواف بالبيت آمنا، فقال النبي ×: «لو مكث كذا ما طاف حتى أطوف» ( ).
وقد اتهم عثمان ظلما بأنه لم يبايع رسول الله × بيعة الرضوان وكان متغيبا عنها، فهذه من الاتهامات التي ألصقت بعثمان في أحضان فتنة أريد بها تقويض أركان الخلافة خاصة( )، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى. وعن أنس قال: لما أمر رسول الله × ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان بعثه رسول الله × إلى أهل مكة فبايعه الناس، فقال: إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب بإحدى يديه على الأرض، فكانت يد رسول الله × لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم( ).
6- شفاعة عثمان بن عفان في عبد الله بن أبي السرح في فتح مكة:
لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي السرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي ×، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى, فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على الصحابة فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله»، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: «إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين».( )
وجاء في رواية: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله × الناس إلا أربعة نفر، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن حبابة( ) وعبد الله بن سعد بن أبي السرح». ( ) فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعد بن حارث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله، وأما عكرمة فركب في البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لم ينجني في البر غيره، اللهم لك عليَّ عهد إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده ولأجدنه عفوا كريما، فجاء وأسلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي ×، ثم ذكر الباقي كما مر معنا.( )
وعن عبد الله بن عباس قال: كان عبد الله بن سعد بن أبي السرح يكتب لرسول الله ×، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله × أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان، فأجاره رسول الله.( ) وذكر ابن إسحاق سبب أمر رسول الله × بقتل سعد وشفاعة عثمان فيه فقال: وإنما أمر رسول الله × بقتله لأنه كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله × الوحي، فارتد مشركا راجعا إلى قريش، ففر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه للرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله × بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة فاستأمن له، قال ابن هشام: ثم أسلم بعد، فولاه عمر بن الخطاب بعض أعماله، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر( ).
7- غزوة تبوك:
في العام التاسع الهجري ولي هرقل وجهه المتآمر صوب الجزيرة العربية متلمظًا برغبة شريرة في العدوان عليها والتهامها، وأمر قواته بالاستعداد وانتظار أمره بالزحف، وترامت الأنباء إلى الرسول × فنادى في أصحابه بالتهيؤ للجهاد وكان الصيف حارا يصهر الجبال، وكانت البلاد تعاني الجدب والعسرة، فإن قاوم المسلمون بإيمانهم وطأة الحر القاتل وخرجوا إلى الجهاد فوق الصحراء الملتهبة المتأججة فمن أين لهم العتاد، والنفقات التي يتطلبها الجهاد؟ لقد حض الرسول على التبرع فأعطى كلٌّ قدرَ وسعه، وسارعت النساء بالحلي يقدمنه إلى رسول الله × يستعين به في إعداد الجيش، بيد أن التبرعات جميعها لم تكن لتغني كثيرا أمام المتطلبات للجيش الكبير، ونظر الرسول × إلى الصفوف الطويلة العريضة من الذين تهيأوا للقتال وقال: «من يجهز هؤلاء ويغفر الله له؟» وما كاد عثمان يسمع نداء الرسول × هذا حتى سارع إلى مغفرة من الله ورضوان، وهكذا وجدت العسرة الضاغطة (عثمانها
المعطاء) ( )، وقام ? بتجهيز الجيش حتى لم يتركه بحاجة إلى خطام أو عقال.
يقول ابن شهاب الزهري: قدم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمائة وأربعين بعيرا، وستين فرسا أتم بها الألف، وجاء عثمان إلى رسول الله في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار صبها بين يديه، فجعل الرسول يقلبها بيده ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» مرتين. ( ) لقد كان عثمان ? صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة( ), وهذا عبد الرحمن بن حباب يحدثنا عن نفقة عثمان حيث قال: شهدت النبي × وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل على المنبر وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه».( )
وعن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنهما- قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي × بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي × جيش العسرة، قال: فجعل النبي × يقلبها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم» يرددها مرارا. ( )
إنه يبدو وكأنه الممول الوحيد للأمة الجديدة، ومضى الرسول × على رأس جيشه حتى وصلوا موطنا يدعى تبوك في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، وهناك جاءته الأنباء مبشرة بأن هرقل الذي كان يعد العدة للزحف من دمشق قد ثلم الله عزمه، وغادر دمشق نافضا يديه من محاولته اليائسة بعد أن علم بخروج النبي وأصحابه إليه، ورجع الجيش بكل عتاده الذي أمده به عثمان، فهل استرجع من ذلك شيئا؟ كلا.. وحاشاه أن يفعل، وقد ظل كما كان دوما سريع التلبية لكل إيماءة من النبي × تعني جديدا من البذل، ومزيدا من العطاء( ).
ثانيًا: من حياته الاجتماعية في المدينة:
1- زواجه من أم كلثوم سنة 3 هـ:
عرفت أم كلثوم -رضي الله عنها- بكنيتها ولا يعرف لها اسم إلا ما ذكره الحاكم عن مصعب الزبيري أن اسمها أمية، وهي أكبر سنا من فاطمة رضي الله عنها( ).
قال سعيد بن المسيب: تأيم عثمان من رقية بنت رسول الله ×، وتأيمت حفصة بنت عمر من زوجها، فمر عمر بعثمان، فقال: هل لك في حفصة، وكان عثمان قد سمع رسول الله × يذكرها فلم يجبه، وذكر ذلك عمر للنبي × فقال: هل لك في خير من ذلك؟ أتزوج حفصة، وأزوج عثمان خيرا منها: أم كلثوم.( ) وفي رواية البخاري: قال عمر: تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله فتوفي في المدينة، فقال عمر: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر. قال: فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر الصديق فلم يرجع إليَّ شيئا، فكنت عليه أَوْجَدَ مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله × فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ×، ولو تركها رسول الله قبلتها.( )
وتروي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنها- خبر زواج أم كلثوم من عثمان ? فتقول: لما زوج النبي ابنته أم كلثوم قال لأم أيمن: «هيئ ابنتي أم كلثوم وزفيها إلى عثمان، وخفقي( ) بين يديها بالدف»، ففعلت ذلك، فجاءها النبي × بعد الثالثة فدخل عليها فقال: «يا بنية، كيف وجدت بعلك»؟ قالت: خير بعل.( )
وعن أبي هريرة ? أن النبي × وقف عند باب المسجد فقال: «يا عثمان، هذا جبريل أخبرني أن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، وعلى مثل صحبتها»، وكان ذلك سنة ثلاث من الهجرة النبوية، في ربيع الأول، وبنى بها في جمادى الآخرة.( )
2- وفاة عبد الله بن عثمان:
وفي جمادى الأولى سنة أربع من الهجرة مات عبد الله بن عثمان ? من رقية بنت رسول الله × وهو ابن ست سنين، فصلى رسول الله × عليه، ونزل حفرته والده عثمان.( ) وهذه محنة عظيمة تعرض لها عثمان، وما أكثر المحن في حياة الدعاة إلى الله تعالى.
3- وفاة أم كلثوم رضي الله عنها:
ولم تزل أم كلثوم عند عثمان -رضي الله عنهما- إلى أن توفيت في شعبان سنة تسع من الهجرة بسبب مرض نزل بها، وصلى عليها رسول الله × وجلس على قبرها. وعن أنس ابن مالك أنه رأى النبي × جالسا على قبر أم كلثوم، قال: فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل في قبرها». ( )
وعن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله × عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله × الحقو، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعده في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله × عند الباب ومعه كفنها يناولنا إياه ثوبا ثوبا.( ) وجاء عند ابن سعد أن عليَّ بن أبي طالب, والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، قد نزلوا في حفرتها مع أبي طلحة وأن التي غسلتها هي أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب( ).
وقد تأثر عثمان ? وحزن حزنا عظيما على فراقه لأم كلثوم، ورأى رسول الله × عثمان ? وهو يسير منكسرا وفي وجهه حزن لما أصابه، فدنا منه وقال: «لو كانت عندنا ثالثة لزوجناكها يا عثمان». ( ) وهذا دليل حب رسول الله × لعثمان، ودليل وفاء عثمان لنبيه وتوقيره، وفيه دليل على نفي ما اعتاده الناس من التشاؤم في مثل هذا الموطن، فإن قدر الله ماض وأمره نافذ ولا راد لأمره( ).
ثالثـًا: من مساهماته الاقتصادية في بناء الدولة:
كان عثمان ? من الأغنياء الذين أغناهم الله عز وجل، وكان صاحب تجارة وأموال طائلة، ولكنه استخدم هذه الأموال في طاعة الله -عز وجل- وابتغاء مرضاته وما عنده، وصار سبَّاقا لكل خير ينفق ولا يخشى الفقر، ومما أنفقه ? من نفقاته الكثيرة على سبيل المثال ما يأتي:
1- بئر رومة:
عندما قدم النبي × المدينة المنورة وجد أن الماء العذب قليل، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله ×: «من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له في الجنة».( ) وقال ×: «من حفر بئر رومة فله الجنة». ( )
وقد كانت رومة قبل قدوم النبي × لا يشرب منه أحد إلا بثمن، فلما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بِمُدّ، فقال النبي ×: «تبيعها بعين في الجنة؟» فقال: يا رسول الله, ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان ? فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي × فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: «نعم» قال: قد جعلتها للمسلمين.( ) وقيل: كانت رومة ركية ليهودي يبيع المسلمين ماءها، فاشتراها عثمان بن عفان من اليهودي بعشرين ألف درهم، فجعلها للغني والفقير وابن السبيل( ).
2- توسعة المسجد النبوي:
بعد أن بنى رسول الله × مسجده في المدينة، فصار المسلمون يجتمعون فيه ليصلوا الصلوات الخمس، ويحضروا خطب النبي × التي يصدر إليهم فيها أوامره ونواهيه، ويتعلموا في المسجد أمور دينهم، وينطلقوا منه إلى الغزوات ثم يعودون بعدها، ولذلك ضاق المسجد بالناس، فرغب النبي × من بعض الصحابة أن يشتري بقعة بجانب المسجد لكي تزاد في المسجد حتى يتسع لأهله، فقال ×: «من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟» فاشتراها عثمان بن عفان ? من صلب ماله( ) بخمسة وعشرين ألف درهم، أو بعشرين ألفا، ثم أضيفت للمسجد( ), ووسع على المسلمين رضي الله عنه وأرضاه( ).
3- العسرة وعثمانها المعطاء:
عندما أراد رسول الله × الرحيل إلى غزوة تبوك حث الصحابة الأغنياء على البذل لتجهيز جيش العسرة الذي أعده رسول الله × لغزو الروم، فأنفق الأموال من صحابة رسول الله × كلٌّ على حسب طاقته وجهده، أما عثمان فقد أنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها ( ), وقد تم بيانها عند حديثنا عن موقفه في غزوة تبوك.
* * *

المبحث الرابع
من أحاديث الرسول × في عثمان بن عفان
أولاً: فيما ورد في فضائله مع غيره:
1- افتح له وبشِّره بالجنة على بلوى تصيبه:
عن أبي موسى ? قال: كنت مع النبي × في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي ×: «افتح له، وبشره بالجنة» ففتحت له فإذا هو أبو بكر فبشرته بما قال رسول الله، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي ×: «افتح له وبشره بالجنة» ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي × فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: «افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» فإذا هو عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله × فحمد الله، ثم قال: الله المستعان.( )
هذا الحديث تضمن فضيلة هؤلاء الثلاثة المذكورين؛ وهم أبو بكر وعمر وعثمان، وأنهم من أهل الجنة كما تضمن فضيلة لأبي موسى، وفيه دلالة على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه الإعجاب ونحوه، وفيه معجزة ظاهرة للنبي × لإخباره بقصة عثمان والبلوى، وأن الثلاثة يستمرون على الإيمان والهدى( ).
2- اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان:
عن أنس ? قال: صعد النبي × أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، فقال: «اسكن أحد -أظنه ضربه برجله- فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان» ( ).
3- اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد:
عن أبي هريرة: أن رسول الله × كان على حراء، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله ×: «اهدأ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» ( ).
4- حياء عثمان ?:
عن يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي × وآله وعثمان حدثاه أن أبا بكر استأذن على رسول الله × وهو مضطجع على فراشه لابسٌ مِرْط عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس، وقال لعائشة: «اجمعي عليك ثيابك»، فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله، ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله ×: «إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليَّ في حاجته». ( )
5- استحياء الملائكة من عثمان:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله × مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله × وسوى ثيابه. قال محمد -أحد رواة الحديث، ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له ولم تُبَالِه، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: «ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!». ( ) قال المناوي: مقام عثمان مقام الحياء، والحياء فرع يتولد من إجلال من يشاهده ويعظم قدره، مع نقص يجده في النفس، فكأنه غلب عليه إجلال الحق تعالى، ورأى نفسه بعين النقص والتقصير، وهما من جليل خصال العباد المقربين، فعلت رتبة عثمان كذلك، فاستحيت منه خلاصة الله من خلقه، كما أن من أحب الله أحب أولياءه، ومن خاف الله خاف منه كل شيء.( )
6- أصدقها حياء عثمان:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ×: «أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرأها لكتاب الله أُبي، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».( )
ثانيًا: إخبار رسول الله × عن الفتنة التي يقتل فيها عثمان:
1- من نجا من ثلاث فقد نجا:
عن عبد الله بن حوالة أن رسول الله × قال: «من نجا من ثلاث فقد
نجا -ثلاث مرات-: موتى، والدجال، وقتل خليفة مصطبر بالحق معطيه». ( )
ومعلوم أن الخليفة الذي قتل مصطبرا بالحق هو عثمان، فالقرائن تدل على أن الخليفة المقصود بهذا الحديث هو عثمان بن عفان ?. وفي الحديث -والله أعلم- لفتة عظيمة إلى أهمية السلامة من الخوض في هذه الفتنة حسيًّا ومعنويًا، أما حسيًا فذلك يكون في الفتنة من تحريض وتأليب وقتل وغير ذلك، وأما معنويًا فبعد الفتنة من خوض فيها بالباطل، وكلام فيها بغير حق، وبهذا يكون الحديث عاما للأمة، وليس خاصا بمن أدرك الفتنة.( )
2- يقتل فيها هذا المقنع يومئذ:
عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله × فتنة، فمر رجل فقال: «يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما» قال: فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان( ).
3- هذا يومئذ على الهدى:
عن كعب بن عجرة قال: ذكر رسول الله × فتنة فقربها، فمر رجل مقنع رأسه، فقال رسول الله ×: «هذا يومئذ على الهدى. فوثبت فأخذت بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول الله × فقلت: هذا؟ قال: هذا»( ).
4- تهيج فتنة كالصياصي، فهذا ومن معه على الحق:
عن مرة البهزي قال: كنت عند رسول الله ×، وقال بهز -من رواة الحديث-: قال رسول الله ×: «تهيج فتنة كالصياصى، فهذا ومن معه على الحق». قال: فذهبت فأخذت بمجامع ثوبه، فإذا هو عثمان بن عفان ?( ).
5- هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى:
عن أبي الأشعث قال: قامت خطباء بإيلياء في إمارة معاوية ?، فتكلموا وكان آخر من تكلم مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله × ما قمت، سمعت رسول الله × يذكر فتنة فقربها، فمر رجل مقنع فقال: «هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى»، فقلت: هذا يا رسول الله؟ وأقبلت بوجهه إليه فقال: «هذا»، فإذا هو عثمان ?( ).
6- عليكم بالأمين وأصحابه:
عن أبي حبيبة أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام، فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني سمعت رسول الله × يقول: «إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا» أو قال «اختلافا وفتنة»، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه»، وهو يشير إلى عثمان بذلك( ).
7- فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه:
عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير عن عائشة قالت: أرسل رسول الله × إلى عثمان بن عفان، فأقبل عليه رسول الله ×، فلما رأينا رسول الله × أقبلت إحدانا على الأخرى, فكان آخر كلام كلَّمه أن ضرب منكبه وقال: «يا عثمان، إن الله -عز وجل- عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني. يا عثمان، إن الله عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني» ثلاثا. فقلت لها: يا أم المؤمنين، فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله فما ذكرته. قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرضَ بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إليَّ به، فكتبت إليه به كتابا.( )
8- إن رسول الله × عهد إليَّ عهدا وإني صابر نفسي عليه:
عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله ×: «ادعوا لي بعض أصحابي» قلت: أبو بكر؟ قال: «لا»، قلت: عثمان؟ قال: «نعم»، فلما جاء قال: «تنحَّ»، فجعل يساره( ), ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله × عهد إليَّ عهدا وإني صابر نفسي عليه.( ) وهذا الحديث يبين شدة محبة رسول الله × لعثمان ? وحرصه على مصالح الأمة بعده، فقد أخبره بأشياء تتعلق بهذه الفتنة التي ستنتهي بقتله، وحرص عليه الصلاة والسلام على سريتها، حتى إنه لم يصل إلينا منها إلا ما صرح به عثمان ? أثناء الفتنة لما قيل له: ألا تقاتل؟ فقد قال: لا، إن رسول الله × عهد إليَّ عهدا، وإني صابر عليه.( ) ويظهر من قوله هذا، أن النبي × قد أرشده إلى الموقف الصحيح عند اشتعال الفتنة، وذلك أخذا منه × بحجز الفتنة أن تنطلق، وفي بعض الروايات زيادة تكشف عن بعض مكنون هذه المسارَّة، فقد جاء فيها أن النبي × قال له: «وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمَّصك الله -عز وجل- فلا تفعل». ( ) ومضمون هذا العهد الذي ذكره عثمان ? يتعلق بالفتنة والوصية بالصبر فيها وعدم الخلع، وإن كان يفهم من هذه الأحاديث بأنه سيكون خليفة يومًا ما.
ويبدو أن هناك وصايا وإرشادات تتعلق بهذه الفتنة، انفرد بمعرفتها عثمان ? محافظة من النبي × على السرية فيها، ومما يبين ذلك أنه أمر عائشة -رضي الله عنها- بالانصراف( ) عندما أراد الإسرار بها لعثمان ?، كما أسر إليه إسرارا رغم خلو المكان من غيرهما حتى تغير لونه، مما يدل على عظم المسرِّ به. وربط عائشة -رضي الله عنها- الإسرار بالفتنة دليل واضح على أن هذه المسارة كانت حول الفتنة التي قتل فيها، كما أن الإسرار تضمن توجيهات منه × إلى عثمان ليقف الموقف الصحيح عند عرض الخلع، وأن النبي × لم يقتصر على الإخبار بوقوع الفتنة، فقد أخبر بذلك في أحاديث كثيرة كما تقدم، فإسراره يدل على أن الأسرار تضمن أشياء أخرى زيادة على الإخبار عن وقوعها، ورغب عليه الصلاة والسلام بالمحافظة على سريتها لحكمة اقتضت ذلك, الله أعلم بها.
وهذا الحديث يفسر لنا جليا سبب إصرار عثمان على رفض القتال أثناء الحصار، كما يفسر أيضا سبب رفضه للتنازل عن الخلافة وخلعها عندما عرض القوم عليه ذلك، وهما موقفان طالما تساءل الباحثون والمؤرخون عن السبب الذي أدى عثمان إليهما واستشكلوهما.( ) وحدث فتنة مقتل عثمان ? من ضمن حوادث كثيرة أخبر رسول الله × في حياته بأنها ستقع بالغيب، فإن علم الغيب صفة من صفات الله عز وجل، ليست لأحد من خلقه وإنما ذلك علم أطلعه الله عليه وأمره أن يبينه للناس( ), قال تعالى: +قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ" [ألأعراف: 188].
* * *


المبحث الخامس
ذو النورين في عهد الصديق والفاروق
أولاً: في عهد الصديق:
1- من أهل الشورى في مسائل الدولة العليا:
كان عثمان ? من الصحابة وأهل الشورى الذين يؤخذ رأيهم في أمهات المسائل في خلافة أبي بكر، فهو ثاني اثنين في الحظوة عند الصديق؛ عمر بن الخطاب للحزامة والشدائد، وعثمان بن عفان للرفق والأناة. وكان عمر وزير الخلافة الصديقية، وكان عثمان أمينها العام، وناموسها الأعظم وكاتبها الأكبر.( ) وكان رأيه مقدما عند الصديق؛ فبعد أن قضى أبو بكر على حركة الردة، أراد أن يغزو الروم، وينطلق الجيش المجاهد إلى أطراف الأرض، فقام في الناس يستشيرهم، فقال الألباء ما عندهم، ثم استزادهم أبو بكر فقال: ما ترون؟ فقال عثمان: إني أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيا لعامتهم صلاحا، فاعزم على إمضائه فإنك غير ظنين.( ) فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد ومن حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم: صدق عثمان، ما رأيت من رأي فأمْضِه.( )
ولما أراد الصديق أن يبعث واليا إلى البحرين استشار أصحابه، فقال عثمان: ابعث رجلا قد بعثه رسول الله × إليهم فقدم عليه( ) بإسلامهم وطاعتهم، وقد عرفوه وعرفهم وعرف بلاده (يعني العلاء بن الحضرمي ?)، فبعث الصديق العلاء إلى البحرين.( )
ولما اشتد المرض بأبي بكر استشار الناس فيمن يحبون أن يقوم بالأمر من بعده، فأشاروا بعمر، وكان رأي عثمان في عمر: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله.( ) فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدتك.( )
2- أزمة اقتصادية في عهد الصديق:
عن ابن عباس قال: قحط المطر على عهد أبي بكر الصديق، فاجتمع الناس إلى أبي بكر فقالوا: السماء لم تمطر، والأرض لم تنبت, والناس في شدة شديدة، فقال أبو بكر: انصرفوا واصبروا، فإنكم لا تمسون حتى يفرج الله الكريم عنكم، قال: فما لبثنا أن جاء أجراء عثمان من الشام، فجاءته مائة راحلة بُرًّا -أو قال طعاما- فاجتمع الناس إلى باب عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم عثمان في ملأ من الناس، فقال: ما تشاءون؟ قالوا: الزمان قد قحط؛ السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، والناس في شدة شديدة، وقد بلغنا أن عندك طعاما، فبعنا حتى نوسع على فقراء المسلمين، فقال عثمان: حبًّا وكرامة ادخلوا فاشتروا، فدخل التجار، فإذا الطعام موضوع في دار عثمان، فقال: يا معشر التجار كم تربحونني على شرائي من الشام؟ قالوا: للعشرة اثنا عشر، قال عثمان: قد زادني، قالوا: للعشرة خمسة عشر، قال عثمان: قد زادني، قال التجار: يا أبا عمرو، ما بقي بالمدينة تجار غيرنا، فمن زادك؟ قال: زادني الله -تبارك وتعالى- بكل درهم عشرة، أعندكم زيادة؟ قالوا: اللهم لا، قال: فإني أشهد الله أني قد جعلت هذا الطعام صدقة على فقراء المسلمين.( ) قال ابن عباس: فرأيت من ليلتي رسول الله × في المنام وهو على برذون أبلق( ) عليه حُلَّة من نور، في رجليه نعلان من نور، وبيده قصبة من نور، وهو مستعجل، فقلت: يا رسول الله، قد اشتد شوقي إليك وإلى كلامك فأين تبادر؟ قال: «يا ابن عباس، إن عثمان قد تصدق بصدقة، وإن الله قد قبلها منه وزوجه عروسا في الجنة، وقد دعينا إلى عرسه». ( )
فهل يفتح الله تعالى آذان عُبَّاد المال، ومحتكري قوت العباد شحًّا وجشعًا إلى صوت هذه العظمة العثمانية حتى تدلف إلى قلوبهم فتهزها هزة الأريحية والعطف، وتوقظ فيها بواعث الرحمة والإحسان بالفقراء والمساكين، والأرامل واليتامى وذوي الحاجات من أهل الفاقة والبؤس، الذين طحنتهم أزمة الحياة واعتصرت دماءهم شرابا لذوي القلوب المتحجرة من الأثرياء؟! فما أحوج المسلمين في هذه المرحلة من حياتهم إلى نفحة عثمانية في إنفاق الأموال على الفقراء والمساكين والمحتاجين تسري بينهم تعاطفًا ومؤاساة وبرًّا وإحسانا.( )
هذا موقف من مواقف الكرم والبر لعثمان ?، فقد كان ? من أرحم الناس بالناس، فهو يقرأ قول رب الناس: +كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى" [العلق: 6] فيصده ذلك عن الطغيان، ويقرأ قوله تعالى: +أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" [البقرة: 44] فيجعله ذلك من أبعد الناس عن النفاق والمنافقين، ويقرأ قوله تعالى: +لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ" [البقرة: 177] فيحمله ذلك على أن يكون من( ) +أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ" [البقرة: 177].
ثانيًا: في عهد الفاروق:
كان عثمان ذا مكانة عند عمر، فكانوا إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شيء رموه بعثمان، وبعبد الرحمن بن عوف. وكان عثمان يسمى الرديف، والرديف بلسان العرب هو الذي يكون بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد رئيس، وكانوا إذا لم يقدر هذان على عمل شيء ثلثوا بالعباس.( )
وقد حدث ذات مرة أن خرج عمر بالناس وعسكر بهم بما يُدْعى (صرارا)، فجاء عثمان فسأله: ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى عمر (الصلاة جامعة)، ثم أخبر الناس عن عزمه في غزو العراق.( ) ولما ولي عمر الخلافة استشار وجوه الصحابة في عطائه من بيت مال المسلمين، فقال له عثمان: كل واطعم.( ) وعندما أرسل أبو عبيدة إلى عمر أن يقدم إلى بيت المقدس ليفتحه، فاستشار عمر الناس، فأشار عثمان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم، وأرغم لأنوفهم، وقال لعمر: فأنت إن أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستعد، فلم يلبثوا إلى السير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.( ) وأشار عليٌّ بالمسير، فهوى عمر ما قال علي ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم.( )
لقد كانت مكانة عثمان في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- كمكانة الوزير من الخليفة، وإن شئت فقل: هي مكانة عمر من أبي بكر في خلافته. وقد صنع الله لأبي بكر بوزارة عمر لخلافته ما يصنعه لخير أهله، وصنع لعمر بوزارة عثمان لخلافته ما يصنعه لخير أهله، فقد كان أبو بكر أرحم الناس بالناس، وكان عمر أشدهم في الحق، فمزج الله رحمة الصديق بشدة عمر، فكانت منها خلافة الصدق وسياسة العدل، وقوم الحزم. وكان عثمان ? أشبه بالصديق في رحمته، وكان عمر على سننه في شدته، فلما تولى بعد أبي بكر جعل الله له في وزارة عثمان لخلافته عوضًا من رحمة الصديق ورفقه، فكان منهما تلك الأمثال المضروبة في أنظمة الحكم وسياسة الأمة أحكم سياسة وأعدلها. وقد عرف الناس هذه المكانة لعثمان في خلافة عمر، فهو الذي أشار على عمر بفكرة الديوان وكتابة التاريخ، كما جاء في
بعض الروايات.
1- الديوان:
لما اتسعت الفتوحات وكثرت الأموال جمع عمر ناسا من أصحاب رسول الله × ليستشيرهم في هذا المال، فقال عثمان: أرى مالا كثيرا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ منهم ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فأقر عمر رأي عثمان، وانتهى بهم ذلك إلى تدوين الدواوين.( )
2- التاريخ:
جاء في بعض الروايات أن الذي أشار على عمر بجعل السنة الهجرية تبدأ بالمحرم هو عثمان، وذلك أنهم لما اتفقوا بعد مشاورات على جعل مبدأ التاريخ الإسلامي من هجرة النبي × لأنها فرقت بين الحق والباطل، تعددت الآراء في أي الأشهر يجعل بداية للسنة، فقال عثمان: أرخوا من المحرم أول السنة، وهو شهر حرام، وأول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس من الحج، فرضي عمر ومن شهده من أصحابه رأي عثمان واستقر عليه الأمر، وأصبح مبدأ تاريخ الإسلا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:21 pm

الفصل الثانى
استخلاف ذى النورين ومنهجه في الحكم وأهم صفاته الشخصية
المبحث الأول
استخلاف ذى النورين
أولاً: الفقه العمرى فى الاستخلاف:
استمر اهتمام الفاروق ? بوحدة الأمة ومستقبلها حتى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره.( ) وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلا ملموسًا, ومعلما واضحا على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية. لقد مضى قبله الرسول × ولم يستخلف بعده أحدا بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر مليًّا وقرر أن يسلك مسلكا آخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله × ترك الناس وكلهم مُقِرٌّ بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادرا وخصوصا أن النبي × وجه الأمة قولا وفعلا إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده. والصديق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأفضل من يحمل المسئولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر( )، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، وقد حصر ستة من صحابة رسول الله × كلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون، وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة وحدد الحكم في المجلس، والمرجح إن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد.( ) وهذا بيان ما أُجْمِل في الفقرات السابقة:
1- العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم:
أما العدد فهو ستة، وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعا. وترك سعيد بن زيد وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي( ). وكان عمر ? حريصا على إبعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة.( )
2- طريقة اختيار الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبد الله بن عمر يحضر معهم مشيرا فقط وليس له من الأمر شيء، ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي، وقال له: أنت أمير الصلاة في هذه الأيام الثلاثة حتى لا يولي إمامةَ الصلاة أحدا من الستة فيصبح هذا ترشيحا من عمر له بالخلافة.( ) وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات( ).
3- مدة الانتخابات أو المشاورة:
حددها الفاروق ? بثلاثة أيام وهي فترة كافية وإن زادوا عليها، فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير.( )
4- عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
أخرج ابن سعد بإسناد رجاله ثقات أن عمر ? قال لصهيب: صلِّ بالناس ثلاثا وليخلُ هؤلاء الرهط في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه.( ) فعمر ? أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط وشق عصا المسلمين ويفرق بينهم عملا بقوله: «من أتاكم وأمركم جمع على رجل منكم يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه».( ) وما جاء في كتب التاريخ من أن عمر ? أمرهم بالاجتماع والتشاور، وحدد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل وأبى أحدهم فيضرب رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما.( ) وهذه من الروايات التي لا تصح سندا، فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف -الرافضي الشيعي- مخالفا فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصحابة رضي الله عنهم، فما ذكر أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم -أي أهل الشورى- فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما( ), فهذا قول منكر، وكيف يقول عمر ? هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله ×، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم؟!!( ).
وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتا ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم.( ) وهذه الرواية منقطعة وفي إسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيف، وقد تغير بآخره.( )
5- الحكم في حال الاختلاف:
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد، فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه.( )
6- جماعة من جنود الله تراقب الاختيار وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة، إن الله -عز وجل- أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.( ) وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم( ).
7- جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل:
ومن فوائد قصة الشورى، جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل؛ لأن عمر جعل الشورى في ستة أنفس مع علمه أن بعضهم كان أفضل من بعض، ويؤخذ هذا من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد؛ حيث كان لا يراعي الفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فاستخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم؛ كأبي الدرداء في الشام، وابن مسعود في الكوفة.( )
8- جمع عمر بين التعيين وعدمه:
جمع عمر بين التعيين، كما فعل أبو بكر أي تعيين المرشح، وبين عدم التعيين كما فعل الرسول ×، فعين ستة وطلب منهم التشاور في الأمر( ).
9- الشورى ليست بين الستة فقط:
عرف عمر أن الشورى لن تكون بين الستة فقط، وإنما ستكون في أخذ رأي الناس في المدينة فيمن يتولى الخلافة؛ حيث جعل لهم أمد ثلاثة أيام فيمكنهم من المشاورة والمناظرة لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة، وبها معظم الصحابة وكل من كان ساكنا في بلد غيرها كان تبعا لهم فيما يتفقون عليه، فما زالت المدينة حتى سنة 23 هـ مجمع الصحابة؛ بل لأن كبار الصحابة فيها، حيث استبقاهم عمر بجانبه، ولم يأذن لهم بالهجرة إلى الأقاليم المفتوحة.( )
10- أهل الشورى أعلى هيئة سياسية:
إن عمر ? أناط بأهل الشورى وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحدا من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحدا من الصحابة الآخرين لم يُثِر أي اعتراض عليه، ذلك ما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فنحن لا نعلم أن اقتراحا آخر قد صدر عن أحد من الناس في ذلك العصر، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال الساعات الأخيرة من حياته أو بعد وفاته، وإنما رضي الناس كافة هذا التدبير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين. وفي وسعنا أن نقول: إن عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا، مهمتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المبادئ الأساسية التي أقرها الإسلام، ولا سيما فيما يتعلق بالشورى؛ لأن العبرة من حيث النتيجة للبيعة العامة التي تجرى في المسجد الجامع. وعلى هذا لا يتوجه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ ما مستند عمر في هذا التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أقرت هذا التدبير ورضيت به، ولم يسمع صوت اعتراض عليه، حتى نتأكد أن الإجماع -وهو من مصادر التشريع- قد انعقد على صحته ونفاذه.( ) ولا ننسى أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكد على أن هذا المبدأ -أهل الشورى أعلى هيئة سياسية- قد أقره نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما أن الهيئة التي سماها عمر تمتعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله وبلغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى والأمانة( ).
هكذا ختم عمر ? حياته ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاما للشورى لم يسبقه إليه أحد، ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن الكريم والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله × وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعا بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرسول × ولا الصديق ? بل أول من فعل ذلك عمر، ونعم ما فعل؛ فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت( ).
ثانيًا: وصية عمر ? للخليفة الذي بعده:
أوصى الفاروق عمر ? الخليفة الذي سيخلفه في قيادة الأمة بوصية مهمة قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا؛ أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم. وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام, أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم. وأوصيك بأهل الذمة خيرا؛ أن تقاتل من وراءهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعا، أو عن يد وهم صاغرون. وأوصيك بتقوى الله والحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة، وأوصيك أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله، وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم؛ فإن في ذلك -بإذن الله- سلامة لقلبك وحطًّا لوزرك، وخيرا في عاقبة أمرك حتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك، وآمرك أن تشتد في أمر الله وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبالِ على مَنْ وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين فتجور وتظلم وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلا وعفة عما بسط لك اقترفت به إيمانا ورضوانا، وإن غلبك الهوى اقترفت به غضب الله. وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة، وقد أوصيتك وخصصتك ونصحتك، فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالا عليه نفسي وولدي، فإن عملت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيبا وافرا وحظا وافيا، وإن لم تقبل ذلك ولم يهمك، ولم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضى به الله عنك، يكن ذلك بك انتقاصا، ورأيك فيه مدخولا؛ لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك فأوردهم النار وبئس المورود، وبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله الداعي إلى معاصيه. ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظا لنفسك. وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضر بهم فيذلوا، ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم، ولا تجمِّرهم في البعوث فينقطع نسلهم، ولا تجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم، هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك وأقرأ عليك السلام.( )
هذه الوصية تدل على بُعْد نظر عمر في مسائل الحكم والإدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكم وإدارة متكامل؛ فقد تضمنت الوصية أمورا غاية في الأهمية، فحق أن تكون وثيقة نفيسة لما احتوته من قواعد ومبادئ أساسية للحكم، متكاملة الجوانب الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية يأتي في مقدمتها:
1- الحرص على تقوى الله وخشيته:
أ- الوصية بالحرص الشديد على تقوى الله والخشية منه في السر والعلن، في القول والعمل؛ لأن من اتقى الله وقاه, ومن خشيه صانه وحماه (أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له)، (وأوصيك بتقوى الله والحذر منه، وأوصيك أن تخشى الله).
ب- إقامة حدود الله على القريب والبعيد (لا تبالِ على مَنْ وجب الحق)، (ولا تأخذك في الله لومة لائم)؛ لأن حدود الله نصت عليها الشريعة فهي من الدين؛ ولأن الشريعة حجة على الناس وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأن التغافل عنها إفساد للدين والمجتمع.
ج- الاستقامة (استقم كما أمرت)، وهي من الضرورات الدينية والدنيوية التي يجب على الحاكم التحلي بها قولا وعملا أولا ثم الرعية، (كن واعظا لنفسك) (وابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة).
2- الناحية السياسية، وتضمنت:
أ- الالتزام بالعدل؛ لأنه أساس الحكم، وإن إقامته بين الرعية تحقق للحكم قوة وهيبة ومتانة سياسية واجتماعية، وتزيد من هيبة واحترام الحاكم في نفوس الناس (وأوصيك بالعدل)، (واجعل الناس عندك سواء).
ب- العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأن العقيدة وما أفرزته من نظام سياسي قام على أكتافهم، فهم أهله وحملته وحُمَاته (أوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم).
3- الناحية العسكرية، وتضمنت:
أ- الاهتمام بالجيش وإعداده إعدادًا يتناسب وعِظَم المسئولية الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدولة وسلامتها، والعناية بسد حاجات المقاتلين (التفرغ لحوائجهم وثغورهم).
ب- تجنب إبقاء المقاتلين لمدة طويلة في الثغور بعيدا عن عوائلهم، وتلافيا لما قد يسببه ذلك من ملل وقلق وهبوط في المعنويات، فمن الضروري منحهم إجازات معلومة في أوقات معلومة يستريحون فيها ويجددون نشاطهم خلالها من جهة، ويعودون إلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانية (ولا تجمرهم في الثغور فينقطع نسلهم)، (وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء العدو).
ج- إعطاء كل مقاتل ما يستحقه من فيء وعطاء؛ وذلك لضمان مورد ثابت له ولعائلته يدفعه إلى الجهاد، ويصرف عنه التفكير في شئونه المالية (ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم).
4- الناحية الاقتصادية والمالية، وتضمنت:
أ- العناية بتوزيع الأموال بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقة منهم دون أخرى (ولا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم).
ب- عدم تكليف أهل الذمة فوق طاقتهم إن هم أدوا ما عليهم من التزامات مالية للدولة (ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين).
ج- ضمان الحقوق المالية للناس وعدم التفريط بها، وتجنب فرض ما لا طاقة لهم به (ولا تحمل منهم إلا عن فضل منهم)، (أن تأخذ حواشي أموالهم فترد على فقرائهم). ( )
5- الناحية الاجتماعية، وتضمنت:
أ- الاهتمام بالرعية، والعمل على تفقد أمورهم وسد احتياجاتهم وإعطاء حقوقهم من فيء وعطاء.. (ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها).
ب- اجتناب الأثَرَة والمحاباة واتباع الهوى؛ لما فيها من مخاطر تقود إلى انحراف الراعي، وتؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب علاقاته الإنسانية (وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله)، (ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم).
ج- احترام الرعية وتوقيرها والتواضع لها، صغيرها وكبيرها، لما في ذلك من سمو في العلاقات الاجتماعية، تؤدي إلى زيادة تلاحم الرعية بقائدها وحبها له (وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم).
د- الانفتاح على الرعية، وذلك بسماع شكاواهم وإنصاف بعضهم من بعض، وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم ويعم الارتباك في المجتمع (ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم).
هـ- اتباع الحق والحرص على تحقيقه في المجتمع وفي كل الظروف والأحوال؛ لكونه ضرورة اجتماعية لا بد من تحقيقها بين الناس (ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات)، (واجعل الناس عندك سواء، لا تبالِ على مَنْ وجب الحق).
و- اجتناب الظلم بكل صوره وأشكاله، خاصة مع أهل الذمة؛ لأن العدل مطلوب إقامته بين جميع رعايا الدولة مسلمين وذميين؛ لينعم الجميع بعدل الإسلام (وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة).
ز- الاهتمام بأهل البادية ورعايتهم والعناية بهم (وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام). ( )
ح- وكان من ضمن وصية عمر لمن بعده: ألا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين.( )
ثالثـًا: منهج عبد الرحمن بن عوف في إدارة الشورى:
1- اجتماع الرهط للمشاورة:
لم يكد يفرغ الناس من دفن عمر بن الخطاب ? حتى أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقيل إنهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس، ليقضوا في أعظم قضية عرضت في حياة المسلمين، بعد وفاة عمر، وقد تكلم القوم وبسطوا آراءهم واهتدوا بتوفيق الله إلى كلمة سواء رضيها الخاصة والكافة من المسلمين( ).
2- عبد الرحمن يدعو إلى التنازل:
عندما اجتمع أهل الشورى قال لهم عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي( ), وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، وأصبح المرشحون الثلاثة علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفتجعلونه إليَّ والله على أن لا آلو عن أفضلكما، قالا: نعم.( )
3- تفويض ابن عوف بإدارة عملية الشورى:
بدأ عبد الرحمن بن عوف ? اتصالاته ومشاوراته فور انتهاء اجتماع المرشحين الستة صباح يوم الأحد، واستمرت مشاوراته واتصالاته ثلاثة أيام كاملة، حتى فجر يوم الأربعاء الرابع من محرم وهو موعد انتهاء المهلة التي حددها لهم عمر، وبدأ عبد الرحمن بعلي بن أبي طالب فقال له: إن لم أبايعك فأشر عليَّ، فمن ترشح للخلافة؟ قال علي: عثمان بن عفان، وذهب عبد الرحمن إلى عثمان وقال له: إن لم أبايعك، فمن ترشيح للخلافة؟ فقال عثمان: علي بن أبي طالب... وذهب ابن عوف بعد ذلك إلى الصحابة الآخرين واستشارهم، وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد، ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاورته النساء في خدورهن، وقد أبدين رأيهن، كما شملت الصبيان والعبيد في المدينة، وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وفي منتصف ليلة الأربعاء، ذهب عبد الرحمن بن عوف إلى بيت ابن أخته: المسور بن مخرمة، فطرق البيت، فوجد المسور نائما( ), فضرب الباب حتى استيقظ فقال: أراك نائما فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعدا، فدعوتهما له، فشاورهما ثم دعاني فقال: ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى ابهارَّ( ) الليل ثم قام علي من عنده... ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح.( )
4- الاتفاق على بيعة عثمان:
وبعد صلاة صبح يوم البيعة (اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23هـ/ 6 نوفمبر 644م) وكان صهيب الرومي الإمام إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف، وقد اعتم بالعمامة التي عممه بها رسول الله ×, وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر، أرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد منهم: معاوية أمير الشام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر وصاحبوه
إلى المدينة.( )
وجاء في رواية البخاري: فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى كل حاضر من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أراهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، فقالSad ) أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون.( ) وجاء في رواية صاحب (التمهيد والبيان) أن علي بن أبي طالب أول من بايع بعد عبد الرحمن بن عوف.( )
5- حكمة عبد الرحمن بن عوف في تنفيذ خطة الشورى:
نفذ عبد الرحمن بن عوف خطة الشورى بما دل على شرف عقله، ونبل نفسه، وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة ونفعه الفردي، وترك عن طواعية ورضا أعظم منصب يطمع إليه إنسان في الدنيا، ليجمع كلمة المسلمين، وحقق أول مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يجلس على عرش الخلافة ويسوس أمور المسلمين، فهو قد اصطنع من الأناة والصبر والحزم وحسن التدبير ما كفل له النجاح في أداء مهمته العظمى، وقد كانت الخطوات التي اتخذها كالآتي:
أ- بسط برنامجه في أول جلسة عقدها مجلس الشورى في دائرة الزمن الذي حده لهم عمر، وبذلك أمكنه أن يحمل جميع أعضاء مجلس الشورى على أن يدلوا برأيهم، فعرف مذهب كل واحد منهم ومرماه، فسار في طريقه على بينة من أمره.
ب- وخلع نفسه وتنازل عن حقه في الخلافة ليدفع الظنون ويستمسك بعروة الثقة الوثقى.
ج- أخذ في تعرف نهاية ما يصبو إليه كل واحد من أصحابه وشركائه في الشورى، فلم يزل يقلب وجوه الرأي معهم حتى انتهى إلى شبه انتخاب جزئي فاز فيه عثمان برأي سعد ابن أبي وقاص، ورأي الزبير بن العوام، فلاحت له أغلبية آراء الأعضاء الحاضرين معه.
د- عمد إلى معرفة كل واحد من الإمامين: عثمان وعلي في صاحبه بالنسبة لوزنه من سائر الرهط الذي رشحهم عمر، فعرف من كل واحد منهم أنه لا يعدل صاحبه أحدا إلا فاته الأمر.
هـ- أخذ في تعرف رأي مَنْ وراء مجلس الشورى من خاصة الأمة وذوي رأيها، ثم من عامتها وضعفائها، فرأى أن معظم الناس لا يعدلون أحدا بعثمان، فبايع له، وبايعه عامة الناس.( )
لقد تمكن عبد الرحمن بن عوف بكياسته وأمانته واستقامته ونسيانه نفسه بالتخلي عن الطمع في الخلافة والزهد بأعلى منصب في الدولة، أن يجتاز هذه المحنة وقاد ركب الشورى بمهارة وتجرد، مما يستحق أعظم التقدير( ).
قال الذهبي: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان, ولو كان محابيا فيها لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص( ).
وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في عهد الخلفاء الراشدين، وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامة، ثم البيعة العامة( ).
رابعًا: أباطيل رافضية دست في قصة الشورى:
هناك أباطيل شيعية وأكاذيب رافضية دست في التاريخ الإسلامي، منها في قصة الشورى، وتولية عثمان الخلافة، وقد تلقفها المستشرقون وقاموا بتوسيع نشرها، وتأثر بها الكثير من المؤرخين والمفكرين المحدثين، ولم يمحصوا الروايات ويحققوا في سندها ومتنها فانتشرت بين المسلمين.
لقد اهتم مؤرخو الشيعة الرافضة بقصة الشورى وتولية عثمان بن عفان الخلافة ودسوا فيها الأباطيل والأكاذيب، وألف جماعة منهم كتبا خاصة، فقد ألف أبو مخنف كتاب الشورى، وكذلك ابن عقدة وابن بابويه.( ) ونقل ابن سعد تسع روايات من طريق الواقدي في خبر الشورى وبيعة عثمان وتاريخ توليه للخلافة( )، ورواية من طريق عبيد الله بن موسى تضمنت مقتل عمر وحصره للشورى في الستة، ووصيته لكل من علي وعثمان إذا تولى أحدهما أمر الخلافة، ووصيته لصهيب في هذا الأمر.( )
وقد نقل البلاذري خبر الشورى وبيعة عثمان عن أبي مخنف( ), وعن هشام الكلبي منها ما نقله عن أبي مخنف ومنها تفرد به( )، وعن الواقدي( ), وعن عبيد الله بن موسى( )، واعتمد الطبري في هذه القصة على عدة روايات منها رواية أبي مخنف( )، ونقل ابن أبي الحديد بعض أحداث قصة الشورى من طريق أحمد بن عبد العزيز الجوهري( ), وأشار إلى نقله عن كتاب (الشورى) للواقدي( ), وقد تضمنت الروايات الشيعية عدة أمور مدسوسة ليس لها دليل من الصحة، وهي:
1- اتهام الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين:
اتهمت الروايات الشيعية الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين، وعدم رضا علي بأن يقوم عبد الرحمن باختيار الخليفة، فقد ورد عند أبي مخنف وهشام الكلبي عن أبيه وأحمد الجوهري أن عمر جعل ترجيح الكفتين إذا تساوتا بعبد الرحمن بن عوف، وأن عليا أحس بأن الخلافة ذهبت منه لأن عبد الرحمن سيقدم عثمان للمصاهرة التي بينهما. ( ) وقد نفى ابن تيمية أي ارتباط في النسب القريب بين عثمان وعبد الرحمن، فقال: فإن عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلا، بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي × ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي ×: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله».( ) فإن النبي × لم يؤاخِ بين مهاجريٍّ ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار؛ فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري( )، وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك.( ) وقد بنت الروايات الشيعية محاباة عبد الرحمن لعثمان للمصاهرة التي كانت بينهما متناسية أن قوة النسب أقوى من المصاهرة من جهة، ومن جهة أخرى تناسوا طبيعة العلاقة بين المؤمنين في الجيل الأول، وأنها لا تقوم على نسب ولا مصاهرة، وأما كيفية المصاهرة التي كانت بين عبد الرحمن وعثمان فهي أن عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت الوليد.( )
2- حزب أموي وحزب هاشمي:
أشارت رواية أبي مخنف إلى وقوع مشادة بين بني هاشم وبني أمية أثناء المبايعة، وهذا غير صحيح، ولم يرد ذلك برواية صحيحة ولا ضعيفة.( ) وقد انساق بعض المؤرخين خلف الروايات الشيعية الرافضية وبنوا تحليلاتهم الخاطئة على تلك الروايات، فصوروا تشاور أصحاب الرسول × في تحديد الخليفة الجديد بصورة الخلاف العشائري، وأن الناس قد انقسموا إلى حزبين حزب أموي وحزب هاشمي، وهو تصور موهوم واستنتاج مردود لا دليل عليه؛ إذ ليس نابعًا من ذلك الجو الذي كان يعيشه أصحاب رسول الله حينما كان يقف المهاجري مع الأنصاري ضد أبيه وأخيه وابن عمه وبني عشيرته، وليس نابعًا من تصور هؤلاء الصحب وهم يضحون بكل شيء من حطام الدنيا في سبيل أن يسلم لهم دينهم، ولا من المعرفة الصحيحة لهؤلاء النخبة من المبشرين بالجنة، فالأحداث الكثيرة التي رويت عن هؤلاء تثبت أن هؤلاء كانوا أكبر بكثير من أن ينطلقوا من هذه الزاوية الضيقة في
معالجة أمورهم، فليست القضية قضية تمثيل عائلي أو عشائري، فهم أهل شورى لمكانتهم
في الإسلام.
3- أقوال نسبت زورًا وبهتانًا لعلي ?:
قال ابن كثير: وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال عبد الرحمن بن عوف: +إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا" [الفتح: 10].
4- اتهام عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة:
وقد ذكر أبو مخنف في روايته في قضية الشورى عن عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أنهما جلسا عند الباب، ورد سعد عليهما، فهذا يستغرب من رعاع الناس فضلا عن الصحابة الكرام، وكيف يقول سعد لهما: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا من أهل الشورى وقد علم الناس أهل الشورى بأعيانهم واستفاض ذلك عندهم. وفي الحقيقة أن رواية أبي مخنف يناقض بعضها بعضا، وهي واضحة لمن تدبرها وقارنها بالأصول الصحيحة، وغرائبها أشهر من ذكرها. وقد أشار الدكتور يحيى اليحيى إلى نماذج وأمثلة تكفي لإسقاط هذه الرواية وعدم الاعتبار بها.( ) هذه بعض الإشارات العابرة ذكرتها للتنبيه والتحذير من تلك السموم المبثوثة في تراثنا التاريخي، والموروث الثقافي للأمة، فقد أثرت في رجال الفكر
والقلم والتاريخ.
خامسًا: أحقية خلافة عثمان بن عفان ?:
لا يشك مؤمن في أحقية خلافة عثمان ? وصحتها، وأنه لا مطعن فيها لأحد إلا ممن أصيب قلبه بزيغ فنقم على أصحاب رسول الله × بسبب ما حل في قلبه من الغيظ منهم، وهذا لم يحصل إلا من الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم في هذه الحياة الدنيا هو سب الصحابة -رضي الله عنهم- وبغضهم، ولا قيمة لما يوجهونه من المطاعن على خلافة الثلاثة -رضي الله عنهم- لظهور بطلانه، وأنها افتراءات لا تصح. وقد جاء في جملة من النصوص القطعية الصحيحة والآثار الشهيرة التنبيه والإيماء إلى أحقية خلافة عثمان بن عفان ?، ومن ذلك( ):
1- قوله تعالى: +وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55]. وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقية خلافة عثمان ? أنه من الذين استخلفهم الله في الأرض، ومكن لهم فيها، وسار في الناس أيام خلافته سيرة حسنة؛ حيث حكم فيهم بالعدل وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهذه الآية تضمنت الإشارة إلى
أحقيته ?( ).
2- قوله تعالى: +قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" [الفتح: 16]. وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقية خلافة عثمان ? هو أن الداعي لهؤلاء الأعراب داع يدعوهم بعد نبيه × وهو أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ فأبو بكر دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجبت طاعة هؤلاء الثلاثة -رضي الله عنهم- بنص القرآن، وإذا وجبت طاعتهم صحت خلافتهم( ) رضي الله عنهم وأرضاهم.
3- عن أبي موسى ? قال: إن النبي × دخل حائطا وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو عمر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه, فإذا هو عثمان بن عفان.( ) هذا الحديث فيه إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة، وإخبار عن بلوى تصيب عثمان، هذه البلوى حصلت له ? وهي حصاره يوم الدار
حتى قتل آنذاك مظلوما، فالحديث علم من أعلام النبوة، وفيه الإشارة إلى كونه
شهيدا رضي الله عنه وأرضاه( ).
4- روى أبو داود -رحمه الله- بإسناده إلى جابر بن عبد الله أنه كان يحدِّث أن رسول الله × قال: «أُرِيَ الليلة رجلٌ صالح: أن أبا بكر نيط برسول الله ×، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر»، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله × قلنا: أما الرجل
الصالح فرسول الله ×، وأما تَنَوُّط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله
به نبيه ×.( )
5- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة ? قال: سمعت رسول الله × يقول: «إنها ستكون فتنة واختلاف -أو اختلاف وفتنة- قال: قلنا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه» وأشار إلى عثمان.( ) وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة للنبي × الدالة على صدق نبوته؛ حيث أخبر بالفتنة التي حصلت أيام خلافة عثمان وكانت كما أخبر، وتضمن الحديث التنبيه على أحقية خلافة عثمان؛ إذ أنه × أرشد الناس إلى أن يلزموه، وأخبر بأنه حين وقوع الفتنة والاختلاف مع أمير المؤمنين ومقدمهم أمرهم بالالتفاف حوله وملازمته لكونه على الحق، والخارجون عليه على الباطل أهل زيغ وهوى، وقد شهد له الرسول × بأنه سيكون مستمرا على الهدى لا ينفك عنه( ).
6- روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ×
قال: «يا عثمان، إنه لعل الله يقمِّصك قميصًا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم».( ) ففي هذا الحديث الإشارة إلى الخلافة واستعارة القميص لها وذكر الخلع ترشيح؛ أي:
سيجعلك الله خليفة، فإن قصد الناس عزلك فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم؛ لكونك
على الحق وكونهم على الباطل.( )
7- وروى الترمذي بإسناده إلى أبي سهلة قال: قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله × قد عهد إليَّ عهدا فأنا صابر عليه( ). فقوله: قد عهد إليَّ عهدا، أي: أوصاني أن لا أخلع بقوله: «وإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم» فأنا صابر عليه، أي: على ذلك العهد( ).
8- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله × قال: «ادعوا لي أو ليت عندي رجلا من أصحابي»، قالت: قلت: أبو بكر، قال: «لا»، قلت: عمر، قال: «لا», قلت: ابن عمك علي، قال: «لا», قلت: فعثمان، قال: «نعم» قالت: فجاء عثمان، فقال: «قومي», قال: فجعل النبي × يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير، قال: فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل؟ قال: لا إن رسول الله × عهد إليَّ أمرا فأنا صابر نفسي عليه( ).
فهذا الحديث والذي قبله فيهما دلالة على صحة خلافته، فمن أنكر خلافته ولم يره من أهل الجنة والشهداء وأساء الأدب فيه باللسان أو الجنان فهو خارج عن دائرة الإيمان وحيز الإسلام( ).
9- ومما دل على صحة خلافته وإمامته ما رواه البخاري بإسناده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا في زمن النبي × لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي × لا نفاضل بينهم.( ) وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى ألهمهم وألقى في روعهم ما كان صانعه بعد نبيه × من أمر ترتيب الخلافة( ).
قال ابن تيمية: فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي × من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي × فلا ينكره، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتا بالنص وإلا فيكون ثابتا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي × من غير نكير، وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم( ).
وكل ما تقدم ذكره من النصوص في هذه الفقرة أدلة قوية كلها فيها الإشارة والتنبيه إلى أحقية خلافة عثمان ? وأنه لا مرية في ذلك, ولا نزاع عند المتمسكين بالكتاب والسنة والذين هم أسعد الناس بالعمل بهما وهم أهل السنة والجماعة، فيجب على كل مسلم أن يعتقد أحقية عثمان ?، وأن يسلم تسليما كاملا للنصوص الدالة على ذلك( ).
سادسًا: انعقاد الإجماع على خلافة عثمان:
أجمع أصحاب رسول الله ×، وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان ? أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب ?، ولم يخالف أو يعارض في هذا أحد؛ بل الجميع سلم له بذلك لكونه أفضل خلق الله على الإطلاق بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد نقل الإجماع على أحقية عثمان ? بالخلافة بعد عمر ? طائفة من أهل العلم بالحديث وغيرهم، ومن تلك النقول( ):
1- ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: حججت في إمارة عمر فلم يكونوا يشكون أن الخلافة من بعده لعثمان( )
2- وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حذيفة ? قال: إني لواقف مع عمر تمس ركبتي ركبته فقال: من ترى قومك يؤمرون؟ قال: إن الناس قد أسندوا أمرهم إلى
ابن عفان( ).
3- ونقل الحافظ الذهبي عن شريك بن عبد الله القاضي أنه قال: قُبِضَ النبي × فاستخلف المسلمون أبا بكر، فلو علموا أن فيهم أحدا أفضل منه كانوا قد غشوا، ثم استخلف أبو بكر عمرَ فقام بما قام به من الحق والعدل، فلما احتضر جعل الأمر شورى بين ستة، فاجتمعوا على عثمان، فلو علموا أن فيهم أفضل منه كانوا قد غشونا.( )
فهذه النقول فيها بيان واضح في أن أصحاب النبي × قد اشتهر بينهم أولوية عثمان بالخلافة، وما زال عمر بن الخطاب ? حيًّا لما سبق من علمهم ببعض النصوص المشيرة إلى أن ترتيبه سيكون في خلافة النبوة بعد الفاروق ?، ولعلمهم أنه أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.( )
4- روى ابن سعد بإسناده إلى النزال بن سبرة ? قال: قال عبد الله بن مسعود حين استخلف عثمان: استخلفنا خير من بقي ولم نأله (أي لم نقصر في اختيار الأفضل). وفي رواية أخرى قال: أمَّرنا خير من بقي ولم نألُ.( )
5- وقال الحسن بن محمد الزعفراني: سمعت الشافعي يقول: أجمع الناس على خلافة أبي بكر، واستخلف أبو بكر عمر، ثم جعل الشورى إلى ستة على أن يولوها واحدا فولوها عثمان رضي الله عنهم أجمعين.( ) وقد نقل أبو حامد محمد المقدسي كلاما عزاه للإمام الشافعي أنه قال: واعلموا أن الإمام الحق بعد عمر ? عثمان ? بجعل أهل الشورى اختيار الإمامة إلى عبد الرحمن بن عوف واختياره لعثمان ?، وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وصوبوا رأيه فيما فعله، وأقام الناس على محجة الحق، وبسط العدل إلى أن
استشهد ?( ).
6- وذكر ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال: لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان( ).
7- وقال أبو الحسن الأشعري: وثبتت إمامة عثمان ? بعد عمر ? بعقد من عقد له الإمامة من أصحاب الشورى الذين نص عليهم عمر، فاختاروه ورضوا بإمامته وأجمعوا على فضله وعدله( ).
8- وقال عثمان الصابوني مبينا عقيدة السلف وأصحاب الحديث في ترتيب الخلافة بعد أن ذكر أنهم يقولون أولاً بخلافة الصديق ثم عمر، قال: ثم خلافة عثمان ? بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به، حتى جعل الأمر إليه( ).
9- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله تعالى عليه وعلى جميع العلماء المصلحين-:
وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد... فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما، وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما، ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن لا يتولى ويولي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف أنه لم يغمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان يشاور أمراء الأجناد، وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم: من قدم عليا على عثمان فقد ازدرى بالمهاجرين والأنصار، وهذا من الأدلة على أن عثمان أفضل؛ لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم.( )
10- وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- حاكيا إجماع الصحابة على خلافة عثمان ?: ويروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى، وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان حتى إنه قال لعلي: أرأيت إن لم أولِّك بمن تشير به عليَّ؟ قال: بعثمان، وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولِّك بمن تشير به؟ قال: بعلي بن أبي طالب. والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهد في أفضل الرجلين فيوليه، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف ? يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، ومجتمعين سرًّا وجهرًا, حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، لا يغتمض بكثير نوم إلا في صلاة ودعاء واستخارة وسؤال من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحدا يعدل بعثمان بن عفان ?، فلما كانت الليلة التي يسفر صاحبها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة وأمره أن ينادي له عليا وعثمان -رضي الله عنهما- فناداهما فحضرا إلى عبد الرحمن فأخبرهما أنه سأل الناس فلم يجد أحدا يعدل بهما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضا لئن ولاه ليعدلن ولئن وُلي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه بها رسول الله × وتقلد سيفا، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد بالناس حتى غصَّ بالناس، وتراصَّ الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس فيه إلا في أخريات الناس، وكان رجلا حييًّا ?، ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله × فوقف وقوفا طويلا ودعا دعاء طويلا لم يسمعه الناس، ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان، فقم إليَّ يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه × وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال: فأرسل يده، وقال: قم إليَّ يا عثمان، فأخذ بيده وقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة رسوله ×، وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم، قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، وقال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي × وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولاً، ويقال ثانيًا.( )
فهذه النقول المتقدم ذكرها للإجماع عن هؤلاء الأئمة كلها تفيد إفادة قطعية أن البيعة بالخلافة تمت لعثمان ? بإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- ولم يخالف أو يعارض في ذلك أحد.( )
سابعًا: حكم تقديم عليّ على عثمان رضي الله عنهما:
الذي عليه أهل السنة أن مَنْ قدَّم عليا على أبي بكر وعمر فإنه ضال مبتدع، ومن قدم عليا على عثمان فإنه مخطئ ولا يضللونه ولا يبدعونه.( ) وإن كان بعض أهل العلم قد تكلم بشدة على من قدم عليا على عثمان بأنه قال: من قدم عليا على عثمان فقد زعم أن أصحاب الرسول × خانوا الأمانة؛ حيث اختاروا عثمان على عليّ رضي الله تبارك وتعالى عنهما( ).
وقال ابن تيمية: استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضل المخالف فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله × أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله.( )
وذكر أقوال أهل العلم في مسألة تفضيل عليّ على عثمان، فقال: فيها روايتان:
إحداهما: لا يسوغ ذلك، فمن فضل عليا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة، لمخالفته لإجماع الصحابة، ولهذا قيل: من قدَّم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يروى ذلك عن غير واحد، منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني.
والثانية: لا يُبَدَّع من قدَّم عليا؛ لتقارب حال عثمان وعلي.( )
* *
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:22 pm

المبحث الثاني
منهج عثمان بن عفان في الحكم
عندما بويع عثمان ? بالخلافة قام في الناس خطيبا فأعلن عن منهجه السياسي، مبينا أنه سيتقيد بالكتاب والسنة وسيرة الشيخين، كما أشار في خطبته إلى أنه سيسوس الناس بالحلم والحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود، ثم حذرهم من الركون إلى الدنيا والافتتان بحطامها؛ خوفا من التنافس والتباغض والتحاسد بينهم، مما يفضي بالأمة إلى الفرقة والخلاف. وكان عثمان ? ينظر وراء الحجب ببصيرته النفاذة إلى ما سيحدث في هذه الأمة من الفتن بسبب الأهواء وتهالك الناس بعدما بويع( ) فقال:
(أما بعد، فإني كلفت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله وسنة نبيه × ثلاثا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن أهل الخير فيما تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم العقوبة. وإن الدنيا خضرة وقد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها) ( ).
وأما قول بعض الناس بأن عثمان لما خطب أول خطبة ارتج عليه فلم يدر ما يقول حتى قال: أيها الناس، إن أول مركب صعب وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها، فهو شيء يذكره صاحب العقد( ), وغيره من يذكر طرف الفوائد، وأن إسناده غير صحيح( ).
أولاً: كُتُب عثمان إلى عماله وولاته وأمراء الجند وعامة الناس:
أقر عثمان ? عمال عمر، فلم يعزل منهم أحدا عاما كاملا أخذا بوصية عمر ?، والناظر في الكتب التي بعث بها إلى الولاة وعمال المال وأمراء الأجناد يقف على النهج الذي أراد السير عليه وأخذ الأمة به( ).
1- أول كتاب كتبه عثمان إلى جميع ولاته:
أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، لم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء( ).
والملاحظ أن عثمان ? أكد في هذا الكتاب الموجه إلى ولاته في الأمصار واجبهم نحو الرعية، وعرفهم أن مهمتهم ليست هي جمع المال، وإنما تتمثل في رعاية مصالح الناس، ولأجل ذلك بيَّن السياسة التي يسوسون بها الأمة، وهي أخذ الناس بما عليهم من الواجبات وإعطاؤهم حقوقهم، فإذا كانوا كذلك صلحت الأمة، وإذا انقلبوا جباة ليس همهم إلا جمع المال انقطع الحياء وفقدت الأمانة والوفاء.( ) لقد كان في كتاب عثمان للولاة التركيز على قيم العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم وأخذ ما عليهم، وإعلاء شأن مبدأ الرعاية السياسية لا الجباية وتكثير الأموال( ).
ونبه على ما سيكون عند تغير الولاة من رعاة إلى جباة؛ بأن ذلك سبب في تقلص مكارم الأخلاق التي مثل لها بالحياء والأمانة والوفاء، وذلك أن بين الراعي والرعية خيطا ساميا من العلاقات المتينة، ويؤكده ويثبته اتفاق الجميع على هدف واحد، وهو ابتغاء وجه الله تعالى، فالوالي يسعى لهذا الهدف بما يقدمه لإمامه من طاعة وولاء وأمانة ووفاء، ويبقى خلق الحياء الذي أشار إليه عثمان يُظلُّ الجميع فيمنعهم من ارتكاب ما يستقبح أو التعرض لجرح المشاعر والإيقاع في الحرج، ثم يوصي عثمان ولاته بالعدل في الرعية؛ وذلك بأخذ ما عليهم من الحقوق وبذل ما لهم من ذلك، ويشير إلى نقطة مهمة وهي أن الوفاء بالعهود من أهم أسباب الفتح والنصر على الأعداء، وقد بين التاريخ أثر هذا الخلق الرفيع في تفوق المسلمين الإداري والحربي( ).
2- كتابه إلى قادة الجنود:
وكان أول كتاب كتبه إلى قادة الأجناد في الفروج( ): أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله بكم، ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون؛ فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه( ).
وفي هذا الكتاب لفت النظر إلى أن الأمور لن تتغير بتغير الخليفة؛ لأن الخلفاء ومن دونهم من الولاة يسيرون على خط واحد، وهو القيام بمهمة تطبيق الإسلام في واقع الحياة، وقوله: (وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان على ملأ منا)، إشارة إلى أن حكم أولئك الخلفاء يقوم على الشورى، وذلك يترتب عليه أن جميع القضايا المهمة تكون معلومة بتفاصيلها عند أهل الحل والعقد، فإذا ذهب الحاكم وخلفه حاكم آخر سار على نفس المنهج؛ لوضوح الهدف لدى الجميع. وقوله: (ولا تغيروا فيغير الله بكم) وعي لسنن الله تعالى في هذا الكون، فمعية الله -جل وعلا- لأوليائه بالتوفيق والحماية والنصر مشروطة بلزومهم شريعته واستسلامهم لأمره، فإذا تغيروا في ذلك غيَّر الله ما بهم واستبدل بهم غيرهم في الهيمنة والتمكين( )، وفي ذلك يقول الله تعالى: +لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ" [الرعد: 11] وذكرهم بأنه على علم بواجبه يؤديه ويقوم عليه ليتلاقى عمل الرعية وعمل الراعي في الشعور بالواجب والقيام به، ويشعر كل فرد أنه يعمل لأمته كما يعمل لنفسه( ).
3- كتابه إلى عمال الخراج:
وكان أول كتاب كتبه إلى عمال الخراج:
أما بعد، فإن الله خلق بالحق فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق به، والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء، لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد؛ فإن الله خصم لمن ظلمهم( ).
خص في هذا الكتاب وزراء المال الذين يجبونه من أفراد الأمة لينفق في مصالحها العامة، فبيَّن لهم أن الله لا يقبل إلا الحق، والحق قائم على الأمانة والوفاء، ثم ميز صنفين من الرعية هما ضعيفاها؛ اليتيم والمعاهد، فحض على التجافي عن ظلمهما؛ لأن الله هو المتولي حمايتهما.( ) ويذكرهم بأنهم إذا ظلموهم فإنهم معرضون لنقمة الله تعالى؛ لأنه خصم لمن ظلم هؤلاء المستضعفين. وفي هذا لفتة إلى جانب من جوانب عظمة الإسلام؛ حيث يدعو إلى نصر المظلومين وإن كانوا من الكفار المعاهدين( ).
4- كتابه إلى العامة:
أما بعد، فإنكم إنما بلغتم بالاقتداء والاتباع فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، فإن رسول الله × قال: «الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا».( )
وفي هذا الخطاب نلاحظ أن عثمان ? رغب عامة الأمة في الاتباع وترك التكلف والابتداع، وأنه حذرهم تغير الحال إذا اجتمعت لهم ثلاث خلال: تكامل النعم الذي يبطر النفوس ويدفعها إلى الترف، ويصدها عن الاجتهاد والعمل، ويصرفها إلى الفراغ والكسل، حتى تفتر حيويتها وتخور عزائمها. وبلوغ أولادها من السبابا، وقد لمست الأمة في تاريخها أثر هؤلاء في المجتمع الإسلامي من الوجهة السياسية والاجتماعية والدينية. وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، وإنما يريد عثمان بذلك ما في طبائع الأعراب من جفوة وغلظ الأكباد، فلا تبلغ هداية القرآن مكان الخير من أفئدتهم، وكذلك يريد ما في الأعاجم من أخلاق موروثة وعقائد متأصلة، وعادات قديمة تباعد بينهم وبين سنن القرآن في الهداية، وقد ظهر أثر الأعراب في فرقة الخوارج الذين كانت كثرتهم من أولئك الجفاة؛ فهم كانوا أقرأ الناس للقرآن وأبعدهم عن هدايته، ثم ظهر فيمن عداهم أثر الأعاجم فيما ابتدعوه من مذاهب وتكلفوه من آراء كانت شرًّا على المسلمين في عقائدهم، ومنهم أكثر الفرق الضالة التي لعبت في تاريخ الإسلام أخطر دور.( )
ثانيًا: المرجعية العليا للدولة:
أعلن ذو النورين أن مرجعيته لدولته كتاب الله وسنة رسوله × والاقتداء بالشيخين في هديهم، فقد قال: «... ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله وسنة نبيه × ثلاثا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم....». ( )
1- فالمصدر الأول هو كتاب الله، قال تعالى: +إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا" [النساء: 105]. فكتاب الله تعالى يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشئون الحياة، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاما قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
2- المصدر الثاني: السنة المطهرة التي يستمد منها الدستور الإسلامي أصوله، ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن( ).
3- الاقتداء بالشيخين: قال رسول الله ×: «اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر».( )
إن دولة ذي النورين خضعت للشريعة وأصبحت سيادة الشريعة الإسلامية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون، وأعطت لنا صورة مضيئة مشرقة على أن الدولة الإسلامية دولة شريعة، خاضعة بكل أجهزتها لأحكام هذه الشريعة، والحاكم فيها مقيد بأحكامها لا يتقدم ولا يتأخر عنها.( ) ففي دولة ذي النورين وفي مجتمع الصحابة الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم، وطاعة الخليفة مقيدة بطاعته لله، قال رسول الله ×: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف».( ) وهيمنة الشريعة على الدولة من خصائص الخلافة الراشدة، فحكومة الخلافة الراشدة تتميز عن الحكومات الأخرى بعدة خصائص، منها:
* أن اختصاص الحكومة (الخليفة) عامة؛ أي تقوم على التكامل بين الشئون الدنيوية والدينية.
* أن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة.
* أن الخلافة تقوم على وحدة العالم الإسلامي.( )
ثالثـًا: حق الأمة في محاكمة الخليفة:
الأمر الذي لا شك فيه أن سلطة الخليفة ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بقيدين:
1- ألا يخالف نصًّا صريحًا ورد في القرآن الكريم والسنة، وأن يكون الإجراء الذي يتخذه متفقا -فضلا عن ذلك- مع روح الشريعة ومقاصدها.
2- ألا يخالف ما اتفقت عليه الأمة الإسلامية أو يخرج على إرادتها.
وأساس ذلك أن الخليفة نائب عن الأمة، منها يستمد سلطانه، ويرجع إليها في تحديد هذا السلطان ومداه، فالأمة تستطيع في كل وقت أن توسع من هذا السلطان، وأن تضيق منه أو تقيده بقيود كلما رأت في ذلك مصلحة أو ضمانا لحسن القيام على أمر الله ومصلحة الأمة.( ) ويكون ذلك من خلال مجلس شورى الأمة. وقد أكد عثمان ? حق الأمة في محاسبة الخليفة في قوله: إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوا رجلي في القيد.( ) وحينما أخذت طائفة عليه بعض أخطاء -في زعمها- في تصريفه لشئون الحكم وإسناد وظائفه، وتظاهرت عليه جموع منهم لمحاسبته على أعماله، فأذعن -رضوان الله عليه- لرغبتهم، ولم ينكر عليهم هذا الحق، وأبدى استعدادا كريما لإصلاح ما عسى أن يكون أخطأه التوفيق في إبرامه( ).
رابعًا: الشورى:
إن من قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشورى، قال تعالى: +فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" [آل عمران: 159].
وقال تعالى: +وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" [الشورى: 38]. وقد اتخذ عثمان ? في دولته مجلسا للشورى يتألف من كبار أصحاب رسول الله × من المهاجرين والأنصار.( ) وقد طلب عثمان ? من العمال والقادة قائلا: أما بعد، فقوموا على ما فارقتم عليه عمر ولا تبدلوا، ومهما أشكل عليكم فردوه إلينا نجمع عليه الأمة ثم نرده عليكم.( ) فأخذ قادته بذلك، فكانوا إذا هموا بالغزو والتقدم في الفتوحات الإسلامية استأذنوه واستشاروه، فيقوم هو بدوره بجمع الصحابة واستشارتهم للإعداد والإقرار والتنفيذ ووضع الخطط المناسبة لذلك، ومن ثم يأذن( ) لهم؛ فقد قام عبد الله بن أبي السرح بالكتابة إلى الخليفة عثمان ? طالبا منه أن يأذن له بأن يغزو أطراف إفريقية، وذلك لقرب جزر الروم من المسلمين، فأجابه الخليفة عثمان إلى ذلك بعد المشورة وندب إليه الناس.( ) كما أن معاوية بن أبي سفيان حين أراد فتح جزيرة قبرص ورودس فعل الشيء نفسه في استشارة القيادة العليا المركزية، وطلب الإذن بالسماح له، ولم يأته الجواب إلا بعد انعقاد مجلس الشورى وبحثه في الموضوع، ومن ثم السماح له.( ) وكان قادة الخليفة عثمان ? في إدارتهم للمعارك الحربية يتشاورون فيما بينهم؛( ) كما شاور عثمان كبار الصحابة في جمع القرآن، وفي قتل عبيد الله بن عمر للهرمزان، وحول التدابير الكفيلة بقطع دابر الفتنة، وفي مقام القضاء، وغير ذلك من المواقف والأحداث التي سيأتي بيانها في محلها بإذن الله.
خامسًا: العدل والمساواة:
إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم،ومن أهم هذه القواعد العدل والمساواة؛ فقد كتب ذو النورين إلى الناس في الأمصار: أن ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ولا يذل المؤمن نفسه، فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما إن شاء الله.( ) فقد كانت سياسته تقوم على العدل بأسمى صوره؛ فقد أقام الحد على والي الكوفة الوليد بن عقبة (أخوه لأمه) عندما شهد عليه الشهود بأنه شرب الخمر، وعزله عن الولاية بسبب ذلك، وسيأتي تفصيل هذه القضية بإذن الله. وقبوله بتولية أبي موسى الأشعري مكانه؛ لأن أهل الكوفة لم يوافقوا على تولية سعيد بن العاص خلفا للوليد. وقد روي عنه أيضا أنه غضب على خادم له يوما فعرك أذنه حتى أوجعه، ولم يستطع أن ينام ليلته آنذاك إلا بعد أن دعا خادمه إلى مضجعه وأمره أن يقتص منه فيعرك أذنه، وقد أبى الخادم في بادئ الأمر، ولكن عثمان أمره ثانية في
حزم فأطاعه( ).
سادسًا: الحريات:
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحرية العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس -جميع الناس- دعوة واسعة وعريضة قلما تشتمل على مثلها دعوة في التاريخ، وفي عهد الخلفاء الراشدين كانت الحريات العامة المعروفة في أيامنا معلومة ومصونة( )؛ كحرية العقيدة الدينية، وحرية التنقل، وحق الأمن، وحرمة المسكن، وحرية الملكية، وحرية الرأي.
سابعًا: الاحتساب:
اهتم أمير المؤمنين عثمان ? بالاحتساب بنفسه كما أسنده إلى غيره، فقد ثبت قيامه ? بالاحتساب في مجالات عدة، منها:
1- إنكاره على لبس الثوب المعصفر:
ومن احتسابه ? أنه أنكر على محمد بن جعفر بن أبي طالب ? لبسه الثوب المعصفر، فعن أبي هريرة ? قال: راح عثمان ? إلى مكة حاجا، ودخلت على محمد بن جعفر بن أبي طالب امرأته، فبات معها حتى أصبح, غدا عليه ردع( ) الطيب وملحفة معصفرة مفدمة( )، فأدرك الناس بملل( )، قبل أن يروحوا، فلما رآه عثمان ? انتهر وأفف وقال: «أتلبس المعصفر وقد نهى عنه رسول الله × ؟!».( )
2- إنكاره على قاصدات العمرة والحج وهن في العدة:
ومن احتسابه ? أنه كان يرد النساء اللواتي كن يخرجن للعمرة أو الحج وهن في العدة؛ فقد روى الإمام عبد الرزاق عن مجاهد قال: كان عمر وعثمان -رضي الله عنهما- يرجعان حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة( ).
3- أمره بذبح الحمام:
ومن احتسابه أنه منع الناس من الانشغال في طيران الحمام( ), لما بدأوا فيه مع سعة العيش، وأمرهم بذبحه؛ فقد روى الإمام البخاري عن الحسن قال: سمعت عثمان ? يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام( ).
4- احتسابه على اللعب بالنرد:
كان عثمان ? ينهى عن اللعب بالنرد وأمرهم بتحريقه أو كسره ممن كان في بيته؛ فقد روى الإمام البيهقي عن زبيد بن الصلت أنه سمع عثمان بن عفان ? وهو على المنبر يقول: يا أيها الناس، إياكم والميسر -يريد النرد- فإنها قد ذكرت لي أنها في بيوت الناس منكم، فمن كان في بيته فليحرقها أو فليكسرها. وقال عثمان ? مرة أخرى وهو على المنبر: يا أيها الناس، إني قد كلمتكم في هذا النرد، ولم أركم أخرجتموها، فلقد هممت أن آمر بحزم الحطب، ثم أرسل إلى بيوت الذين هم في بيوتهم فأحرقها عليهم( ).
5- إخراجه من يراه على شر أو يشهر سلاحا في المدينة:
ومن احتسابه أيضا أنه كان ينكر على من يراه على شر أو كان يحمل معه سلاحا ويخرجه من المدينة؛ فعن سالم بن عبد الله ? قال: وجعل عثمان لا يأخذ أحدا منهم على شر أو شهر سلاح، عصا فما فوقها إلا سيَّره.( )
6- ضربه لمن استخف بعم النبي ×:
ففي أيام خلافته ضرب رجلا في منازعة استخف فيها بالعباس بن عبد المطلب عم الرسول ×، فقيل له عن مبررات ضربه، فقال: نعم، أيُفَخِّم رسولُ الله × عمه وأرخص في الاستخفاف به، لقد خالف رسول الله × من فعل ذلك ومن رضي به منه( ).
7- نهيه عن الخمر لأنها أم الخبائث:
روى النسائي في سننه والبيهقي في سننه عن عثمان بن عفان أنه قال: اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، فعلقته امرأة أغوته، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له: إنها تدعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفق كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقني من هذا الخمر كأسا، فسقته كأسا فقال: زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل الغلام، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ويوشك أن يخرج أحدهما صاحبه( ).
8- من خطب عثمان في المجتمع ومن حِكَمه:
أ- خطبة في الاستعداد ليوم المعاد:
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: خطب عثمان بن عفان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله فإن تقوى الله غُنْم، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورا لظلمة القبر، وليخش عبد أن يحشره الله أعمى, وقد كان بصيرا، وقد يكفي الحكيم جوامع الكلام، والأصم ينادي من مكان بعيد، واعلموا أن من كان الله معه لم يخف شيئا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده( ).
وعن عثمان ? أن رسول الله × قال: «إن الجمَّاء لتُقَصُّ من القرناء يوم القيامة» ( ).
ب- التذكير بمكارم الأخلاق:
قال عثمان ?: إنا والله صحبنا رسول الله × في السفر والحضر فكان يعود مرضانا، ويشيع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناسا يعلمونني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط( ).
ج- من حكمه التي سارت بين الناس:
* قال ?: لو طهرت قلوبنا ما شبعتم من كلام ربكم( ).
* وقال ?: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه،
وفلتات لسانه( ).
* إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن( ).
* وكان ? لا يقيم للدنيا وزنا، فقال فيها: (همُّ الدنيا ظلمة في القلب، وهمُّ الآخرة نور في القلب) ( )
* ومن حكمه البالغة: يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك( ).
* وقال ? في أيام الفتنة: أستغفر الله إن كنت ظَلمت، وقد عفوت إن كنت ظُلمت( ).
* ومن حكمه ومواعظه ?: إن لكل شيء آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذا الدين وعاهة هذه النعمة عيَّابون صغانون، يرونكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون، طغام
مثال النعام.( )
* ولما قدم عبد الله بن الزبير بفتح إفريقية، أمره عثمان بن عفان -رضي الله عنهما- فقام خطيبا، فلما فرغ من كلامه قال عثمان: انكحوا النساء على آبائهن وإخوتهن، فإني لم أر في ولد أبي بكر الصديق أشبه به من هذا( )، وعبد الله بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر. ويريد أن ابن الزبير كان شبيها بجده في الشجاعة والإقدام والفصاحة( ).
* وقال ?: ما من عامل يعمل عملا إلا كساه الله رداء عمله( ).
* وقال ?: إن المؤمن في خمسة أنواع من الخوف؛ أحدها من قبل الله تعالى أن يأخذ منه الإيمان، والثاني من قبل الحفظة أن يكتبوا عليه ما يفتضح به يوم القيامة، والثالث من قبل الشيطان أن يبطل عمله، والرابع من قبل ملك الموت أن يأخذه في غفلة بغتة، والخامس من قبل الدنيا أن يغتر بها وتشغله عن الآخرة( ).
وقال ?: وجدت حلاوة العبادة في أربعة أشياء: أولها في أداء فرائض الله، والثاني في اجتناب محارم الله، والثالث في الأمر بالمعروف ابتغاء ثواب الله، والرابع في النهي عن المنكر اتقاء غضب الله( ).
9- عثمان ? والشعر والشعراء:
لم تذكر لنا المصادر والمراجع سوى النزر القليل عن علاقة عثمان ? مع الشعر والشعراء، مع أن فترة خلافته كانت طويلة نسبيا، ومن هذا القليل تبين لنا أنه كان ملتزما المنهج العام للعقيدة الإسلامية التي وضح معالمها الرسول ×، والتي سلك طريقها سلفه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولاشك أن لكل منهم شخصيته الأدبية المميزة، فقد اشتهر أبو بكر بمعرفة الأنساب، وبعلمه الوافر وحسن مجالسته وبروايته للشعر، واشتهر عمر بالحث على تعلم الشعر، وأنه لم تكن تعرض له قضية إلا تمثل ببيت شعر، أضف إلى ذلك أنه كان شاعرا، أما عثمان بن عفان -رضوان الله عليه- فلم يؤثر عنه ذلك الانغماس الكبير في الشعر، أو تلك العلاقة الحميمة مع الشعراء. وإذا كنا نعرف أن الشعراء كانوا يتهافتون على أبواب الأمراء طمعا برضاهم وبأعطيتهم، فإننا نرى أن الشعراء أيام عثمان يتركون الحواضر ودار الخلافة ويؤثرون العودة إلى البادية.( ) وقد ذكرت كتب الأدب والتاريخ بعض الأبيات نسبتها إلى عثمان أو كان يتمثل بها, ومن هذه الأبيات يروي أنه قال:
واعلم أن الله ليس كصنعه
صنيع ولا يخفى على ملحد

وكان كثيرا ما ينشد أبياتا قالها ويطيل ذكرها لا تعرف لغيره:
تفنى اللذائذ ممن نال صفوتها
من الحرام ويبقى الإثم والعار

يلقى عواقبَ سوءٍ من مغبتها
لا خير في لذة من بعدها نار( )

قال يوم دخل عليه الثائرون في بيته ليقتلوه:
أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع
لعاد ملاذًا في البلاد ومرتعا( )
>
وقال لَمَّا حوصر في داره:
يُبيَّت أهل الحصن والحصن مغلق
ويأتي الجبال الموت شمراخها العُلا( )

ويروى له أيضا:
غنيٌّ النفس يغني النفس حتى يكُفَّها
وإن عَضَّها حتى يضرَّ بها الفقر

وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها
بكائنة إلا سيتبعها يُسْرُ

ونلاحظ في البيت الأخير أنه يتضمن معنى قرآنيا؛ إن مع العسر يسرا، وهذا ليس غريبا على الخليفة المسلم، الذي نشأ وترعرع في أحضان محمد × فهو يعاقب على شعر الهجاء والذي يتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية، ويثني على الشعر الحسن ويحب الاستماع إليه، وكل ذلك ضمن المفاهيم الإسلامية( ).
وإذا كان الخليفة الراشد الثالث لم يهتم بالشعر، ولم يقرب إليه الشعراء، فإن مقتله من قبل الغوغاء فتح الباب على مصراعيه لازدهار الشعر العباسي الذي أصبح الأداة الصحافية الفاعلة في العصور الإسلامية المتلاحقة، فعند مقتله بكاه كثير من شعراء الصحابة، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله.
* * *

المبحث الثالث
أهـــــــــم صفاتـــــــــــه
إن شخصية ذي النورين تعتبر شخصية قيادية، وقد اتصف ? بصفات القائد الرباني، ونجملها في أمور ونركز على بعضها بالتفصيل، فمن أهم هذه الصفات: إيمانه العظيم بالله واليوم الآخر، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم، والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإرادة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصفات. وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية استطاع أن يحافظ على الدولة ويقمع الثورات التي حدثت في الأراضي المفتوحة، وينتقل -بفضل الله وتوفيقه- بالأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، ومن أهم تلك الصفات التي نحاول تسليط الأضواء عليها في هذا المبحث هي:
أولاً: العلم والقدرة على التوجيه والتعليم:
يعتبر عثمان ? من كبار علماء الصحابة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وسيأتي الحديث عن اجتهاداته الفقهية في المجال القضائي والمالي والجهادي بإذن الله تعالى، وكان ? حريصا على اتباع هدي النبي × وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فعن عروة بن الزبير، أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود عبد يغوث قالا له: ما يمنعك أن تكلم خالك يكلم أمير المؤمنين عثمان في الوليد بن عقبة، وقد أكثر الناس فيما فعل؟ قال عبيد الله: فاعترضت لأمير المؤمنين عثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت له: إن لي إليك حاجة هي نصيحة، قال: يا أيها المرء، إني أعوذ بالله منك. قال: فانصرفت، فلما قضت الصلاة جلست إلى المسور وابن عبد يغوث فحدثهما بالذي قلت لأمير المؤمنين وقال لي، فقالا: قد قضيت الذي عليك، فبينما أنا جالس معهما جاءني رسول أمير المؤمنين عثمان فقالا لي: قد ابتلاك الله، فانطلقت حتى دخلت على عثمان، فقال: ما نصيحتك التي ذكرت لي آنفا؟ قال: فتشهدت ثم قلت له: إن الله -عز وجل- بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله ×، ورأيت هديه وقد أكثر الناس في شأن الوليد، فحق عليك أن تقيم عليه الحد، قال: فقال لي: ابن أختي، أدركت رسول الله ×؟ قال: فقلت: لا، ولكن خلص إليَّ من علمه واليقين ما يخلص إلى العذراء في سترها، قال: فتشهد ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدا بالحق، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن بما بعث محمد ×، ثم هاجرت الهجرتين كما قلت، ونلت صهر رسول الله ×، وبايعت رسول الله ×، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف بعده أبو بكر فبايعناه فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف عمر فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلفني الله أفليس لي عليكم مثل الذي كان لهم عليَّ؟ قال: فقلت: بلى، قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ فأما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه -إن شاء الله- بالحق، قال: فجلد الوليد أربعين سوطا، وأمر عليا بجلده فكان هو يجلده( ).
لقد لازم ذو النورين النبي × فاستفاد من علمه وهديه، مما جعله من كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم جميعا، وكان ? قادرا على توجيه رعيته توجيها مفيدا، وتعليمهم واجباتهم ونقل آرائه النابعة من علمه وخبرته وتجاربه وممارسته إليهم؛ حتى يرتقوا في مجال الدعوة والتربية والتعليم والجهاد والاستعداد للقاء الله عز وجل.
ومن توجيهات عثمان ? ما تضمنته خطبة خلافته التي قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ×: إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا الدنيا بالذي هو خير( ), قال تعالى: +وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ? الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً" [الكهف: 45، 46].
ولقد كان المعنى الذي يدور حوله توجيه الخليفة الثالث ? في هذه الخطبة هو الحض على الإقبال على الله والزهد في الدنيا، وهذا هو المناسب لخطبته في ذلك الوقت الذي ألقى فيه الإسلام بجرانه( ) في أقطار المعمورة وفتحت البلدان وأقبلت الدنيا بنعيمها، وبدأ الناس في التنافس فيها وبخاصة غير أصحاب رسول الله × فكان المقال مناسبا للمقام.( )
وقد روى عثمان ? أحاديث عن رسول الله × انتفعت بها الأمة؛ فهذا أبو عبد الرحمن السلمي يحدثنا عن حديث سمعه من عثمان فعمل به، فعن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان ?، عن النبي × قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».( ) قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا. وفي رواية عن شعبة قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، وكان يعلم القرآن.( ) وكان عثمان ? يروي أحاديث رسول الله × للمسلمين كل في محله ومناسبته، ومن هذه الأحاديث:
1- أهمية الوضوء:
توضأ عثمان على البلاط، ثم قال: لأحدثنكم حديثا سمعته من رسول الله ×, لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، سمعت النبي × يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم دخل فصلى، غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها» ( ).
2- تقليده لرسول الله × في الوضوء:
عن حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان: أنه دعا بماء فتوضأ ومضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم ضحك، فقال لأصحابه: ألا تسألوني عما أضحكني؟ فقالوا: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: رأيت رسول الله × دعا بماء قريبا من هذه البقعة، فتوضأ كما توضأت ثم ضحك، فقال: «ألا تسألوني ما أضحكني؟» فقالوا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: «إن العبد إذا دعا بوضوء فغسل وجهه، حط الله عنه كل خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، وإن مسح برأسه كان كذلك، وإن طهر قدميه كان كذلك».( )
3- كفارات الوضوء:
عن عثمان قال: قال رسول الله ×: «من أتم الوضوء كما أمره الله -عز وجل- فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن» ( ).
4- الوضوء وصلاة ركعتين ومغفرة الذنوب:
دعا عثمان بماء وهو على المقاعد, فسكب على يمينه فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاث مرار، ومضمض واستنثر، وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرار، ثم قال: سمعت رسول الله × يقول: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما، غفر الله ما تقدم من ذنبه» ( ).
5- كلمة الإخلاص وكلمة التقوى:
قال عثمان ?: سمعت رسول الله × يقول: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقًا من قلبه إلا حُرم على النار»، فقال له عمر بن الخطاب: أنا أحدثك ما هي؟ هي كلمة الإخلاص التي ألزمها الله -تبارك وتعالى- محمدا × وأصحابه، وهي كلمة التقوى التي أَلاَصَ( ) عليها نبي الله × عمه أبا طالب عند الموت: شهادة أن لا إله إلا الله( ).
6- العلم بالله يدخل العبد الجنة:
عن عثمان بن عفان، عن النبي × قال: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله
دخل الجنة» ( ).
7- الحسنات والباقيات:
عن الحارث مولى عثمان قال: جلس عثمان يوما وجلسنا معه فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مُدّ، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله × يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: «ومن توضأ وضوئي هذا، ثم قال فصلى صلاة الظهر، غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات». قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات يا عثمان؟ قال: هن لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.( )
8- خطورة الكذب على رسول الله ×:
عن عثمان ? قال: قال رسول الله ×: «من تعمد عليَّ كذبا، فليتبوأ بيتًا في النار» ( ).
هذه بعض الأحاديث التي رواها عثمان عن رسول الله ×، وتدل على علم عثمان وحرصه على الاستزادة من الهدي النبوي، وفقه الشريعة الغراء.
ثانيًا: الحلم:
إن الحلم ركن من أركان الحكمة، وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" [آل عمران: 155] وقد بلغ النبي × في حلمه وعفوه الغاية المثالية، وكان الخليفة الراشد عثمان بن عفان شديد الاقتداء في أقواله وأفعاله وأحواله برسول الله ×، وكانت له مواقف كثيرة تدل على حلمه وضبطه لنفسه، ومن أوضح المواقف التي تدل على حلمه قصته في حصار الثائرين عليه؛ حيث أمر من عنده من المهاجرين والأنصار أن ينصرفوا إلى منازلهم ويدعوه وكانوا قادرين على منعه، وكان حلمه مبنيا على شوقه إلى لقاء ربه، وإرادته حقن دماء المسلمين ولو بقتله( ).
ثالثـًا: السماحة:
عن عطاء بن فروخ مولى القرشيين: أن عثمان ? اشترى من رجل أرضا فأبطأ عليه، فلقيه فقال: ما منعك من قبض مالك؟ قال: إنك غبنتني فما ألقى من الناس أحدًا إلا وهو يلومني، فقال: أو ذلك يمنعك؟ قال: نعم، قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله ×: «أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا، وقاضيا ومقتضيا». ( ) فهذا مثل رفيع في السماحة في البيع والشراء، وهو يدل على ما جبل عليه عثمان ? من الكرم وعدم التعلق بالدنيا، فهو يستعبد الدنيا لخدمة مكارم الأخلاق التي من أهمها الإيثار، ولا تستعبده الدنيا، فتجعل منه أنانيا يؤثر مصالحه الخاصة وإن أضر بالناس( ).
رابعًا: اللين:
امتن الله تعالى على رسوله × بأن رزقه صفة اللين رحمة منه به وبعباده، قال تعالى: +فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران: 159].
أفادت الآية الكريمة أن صفة اللين رحمة من الله يرزق بها من شاء من عباده، وأن الرسول × قد رزق هذه الصفة رحمة من الله به وبعباده الذين بعثه إليهم، ويفهم من الآية أن المتصف باللين يحبه الناس ويلتفون حوله ويقبلون منه ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه ( )؛ فاللين من الصفات الطيبة التي اتصف بها عثمان ?، فكان ? لينًا على رعيته عطوفًا على أمته، يخاف أن يصاب أحد دون علمه فلا يتمكن من تلبية حاجته، وكان يتتبع أخبار الناس، فينصر الضعيف، ويأخذ الحق من القوي ?.
خامسًا: العفو:
عن عمران بن عبد الله بن طلحة: أن عثمان بن عفان ? خرج لصلاة الغداة فدخل من الباب الذي كان يدخل منه، فزحمه الباب فقال: انظروا، فنظروا فإذا رجل معه خنجر أو سيف، فقال له عثمان ?: ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك، قال: سبحان الله!! ويحك، علام تقتلني؟ قال: ظلمني عاملك باليمن، قال: أفلا رفعت ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي أردت ذلك مني؟ فقال لمن حوله: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، عدو أمكنك الله منه، فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليت أمر المسلمين، فأتاه برجل من قومه فكفل به فخلى عنه.( )
فهذا تسامح كبير من أمير المؤمنين عثمان بن عفان ?؛ حيث عفا عمن أراد قتله، والعفو عند المقدرة صفة من صفات الكمال في الرجال، وهو دليل على التجرد من حظ النفس وتقلص الأنانية، وضعف الارتباط بالدنيا، وقوة الارتباط بالآخرة، وهذا الخلق إضافة إلى أنه عمل صالح يرفع من درجات صاحبه في الآخرة فإنه سياسة حكيمة في الدنيا؛ إذ أن هذا الرجل الذي أراد الاعتداء لو أنه قتل أو عوقب عقوبة بليغة لربما أحدث فتنة بإيغار صدور أفراد قبيلته واستعدادهم للانتقام إذا سنحت لهم الفرصة، لكن العفو عنه يجعل أفراد قبيلته وأبناء بلده يعذلونه ويعنفونه على ما حاول الإقدام عليه، وبذلك تنطفئ الفتنة قبل تصاعدها، ويكسب صاحب العفو قلوب الناس وولاءهم( ).
سادسًا: التواضع:
قال تعالى: +وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا" [الفرقان: 63].
جعل المولى -عز وجل- صفة التواضع أولى صفات عباده المؤمنين، ولقد كان الخليفة الراشد عثمان متصفا بهذه الصفة، وكانت هذه الصفة تنبع من إخلاصه لله سبحانه وتعالى؛ فعن عبد الله الرومي قال: كان عثمان بن عفان يأخذ وضوءه لنفسه إذا قام من الليل، فقيل له: لو أمرت الخادم كفاك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه.( ) فهذا مثل من اتصاف أمير المؤمنين عثمان ? بالرحمة، فهو مع كبر سنه وعلو منزلته الاجتماعية يخدم نفسه في الليل ولا يوقظ الخدم، وإن وجود الخدم من تسخير الله تعالى للمخدومين، وإن مما ينبغي للمسلم الذي سخر الله تعالى من يخدمه أن يتذكر أن الخادم إنسان مثله له طاقة محدودة في العمل، وله مشاعر وأحاسيس فينبغي له أن يراعي مشاعره، وأن ييسر له الراحة كاملة في النوم، وأن لا يشق عليه بعمل.( ) وكان ? من تواضعه واحترامه لعم النبي × إذا مر به وهو راكب نزل حتى يزول العباس احتراما وتقديرا له( ).
سابعًا: الحياء والعفة.
الحياء من أشهر أخلاق عثمان ? وأحلاها، تلك الصفة النبيلة التي زينه الله بها، فكانت فيه منبع الخير والبركة، ومصدر العطف والرحمة، فقد كان ? من أشد الناس حياء.( ) فقد ذكر الحسن البصري -رحمه الله- عثمان بن عفان يوما وشدة حيائه فقال: إنه ليكون في البيت، والباب عليه مغلق، فما يضع عنه ثوبه ليفيض عليه الماء، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه.( )
ومن حيائه ? ما روته بنانة -وهي جارية لامرأته- تقول: كان عثمان إذا اغتسل جئته بثيابه فيقول لي: لا تنظري إلي، فإنه لا يحل لك.( ) وقد وردت الأحاديث النبوية التي تحدثت عن حيائه وقد ذكرتها في موضعها.
وأما عن عفته وبعده عن مساوئ الأخلاق فحدث في ذلك بما شئت ولا حرج، فإنه ? لم يعرف طريق الفحشاء في الجاهلية ولا في الإسلام، يقول عثمان ?: ما تغنيت ولا تمنيت( )، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله ×، ولا شربت خمرا في جاهلية ولا في الإسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في الإسلام( ).
ثامنًا: الكرم:
كان عثمان ? من أكرم الأمة وأسخاها، وله في ذلك مواقف ومآثر لا تزال غرة في جبين التاريخ الإسلامي؛ فقد مر معنا ما قام به في غزوة تبوك، وشراؤه لبئر رومة وتصدقه به على المسلمين، وتوسيعه للمسجد النبوي في عهد النبي ×, وتصدقه بالقافلة المحملة بالخيرات في عصر الصديق ?، وكان ? يعتق كل جمعة رقبة في سبيل الله منذ أسلم، فجميع ما أعتقه ألفان وأربعمائة رقبة تقريبا.( ) وقد روى أنه كان له على طلحة بن عبيد الله -وكان من أجود الناس- خمسون ألفا، فقال له طلحة يوما: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال له عثمان: هو لك معونة على مروءتك.( ) لقد كان سخاء عثمان وجوده صفة أصلية في شخصيته الفذة ?، فقد وظف أمواله في خدمة دين الله فلم يبخل في تأسيس الدولة الإسلامية والجهاد في سبيل الله تعالى، وخدمة المجتمع ابتغاء رضوان الله تعالى.
تاسعًا: شجاعته:
يعد عثمان ? من الشجعان، والدليل على ذلك:
1- خروجه للجهاد في سبيل الله، وحضوره المشاهد كلها مع رسول الله ×، وإذا اتهم بتخلفه عن بدر فقد سبق أن قلنا إن ذلك كان بأمر من رسول الله ×، ثم عده رسول الله × من الذين شهدوها وأعطاه سهمه منها، ونال أجره إن شاء الله، وليس بعد كلام رسول الله × كلام.
2- سفارة رسول الله × له إلى قريش في الحديبية:
امتثل عثمان ? -كما مر معنا- لطلب الرسول × وذهب إلى قريش وهو يعرف ما أقدم عليه، غير أن رجولته وبطولته قد أبتا عليه إلا الامتثال والطاعة.
إن من يقبل السفارة في مثل تلك الظروف لشجاع عظيم، وبطل من الأبطال النوادر، صحيح أنها أمر من رسول الله × ولكنها في الوقت نفسه شجاعة لا يمكن أن يقبل بها جبان أو رجل عادي( ).
3- الفداء بالنفس:
عندما حوصر ? في داره طلب منه المارقون التنازل عن الخلافة لا خيار غيره أو القتل، أو عزل ولاته وتسليم بعضهم، فأصر على موقفه مضحيا بنفسه من أن تصبح الخلافة بيد ثلة تزيح من ترغب، وتعين من تحب، أو تنزع الخلافة من صاحبها الذي اختارته الأمة، ويصبح ذلك قاعدة.( ) فأصر على موقفه وهو يرى الموت في سيوف المحاصرين، وإن الذي يقف هذا الموقف لهو الشجاع وإنه لصاحب حق، ولن يقف هذا الموقف رجل جبان أو محب للدنيا أبدا، فالحياة عند هؤلاء الجبناء أفضل من المكانة ومن الدنيا كلها( )، ولكن هذا الإصرار العجيب والعزيمة النافذة، والشجاعة الفائقة من عثمان ? ثمرة إيمان قوي بالله
-عز وجل- واليوم الآخر وقر في قلبه، وجعله يستهين بكل شيء في هذه الحياة حتى
بالحياة نفسها( ).
4- الجهاد بالمال:
إن الجهاد بالنفس اقترن مع الجهاد بالمال، وربما قدم عليه، قال تعالى: +لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء: 95].
وهناك آيات كثيرة تقرن المال بالنفس، وإن الذي ينفق المال في سبيل الله بسخاء إنما هو مجاهد وشجاع، وقد أنفق عثمان ? الكثير حتى قال رسول الله ×: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» مرتين( ).
لقد كان عثمان ? شجاعا لا يهاب الموت، جريئا يواجه الباطل في تحدٍّ سافر، حليما لا يجهله حمق الحمقى( ).
عاشرًا: الحزم:
إن صفة الحزم في شخصية ذي النورين أصيلة، ونجد الصديق ? عندما عرض عليه الإسلام قال له: ويحك يا عثمان إنك رجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا.( ) وفي سنة 26 هـ زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه، وابتاع من قوم وأبى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصيحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وقال: أتدرون ما جرأكم عليَّ؟ ما جرأكم علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به، ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، فأخرجوا.( )
ومن المواقف التي تدل على حزمه: حمايته لنظام الخلافة من الضياع، فلم يجب الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة، فكان بذلك يمثل الثبات واستمرار النظام؛ لأنه لو أجاب الخارجين إلى خلع نفسه لأصبح منصب الإمامة العظمى ألعوبة في أيدي المفتونين الساعين في الأرض بالفساد، ولسادت الفوضى واختل نظام البلاد، ولكان ذلك تسليطا للرعاع والغوغاء على الولاة والحكام. لقد كانت نظرة عثمان ? بعيدة الغور، فلو أجابهم إلى ما يريدون لسن بذلك سنة، وهي كلما كره قوم أميرهم خلعوه، ولألقى بأس الأمة بينها، وشغلها بنفسها عن أعدائها, وذلك أقرب لضعفها وانهيارها، على أنه لم يجد سوى نفسه يفدي بها الأمة، ويحفظ كيانها وبنيانها من التصدع، ويدعم بهذا الفداء نظامها الاجتماعي ويحمي سلطانها الذي تساس به من أن تمتد إليه يد العبث والفوضى. ومما لا شك فيه أن هذا الصنع من عثمان كان أعظم وأقوى ما يستطيع أن يفعله رجل ألقت إليه الأمة مقاليدها؛ إذ لجأ إلى أهون الشرين وأخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة وسلطانها.( ) وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.
حادي عشر: الصبر:
اتصف عثمان ? بصفة الصبر، ومن المواقف الدالة على هذه الصفة ثباته في الفتنة؛ إذ كان موقفه إزاء تلك الأحداث التي ألمت به وبالمسلمين المثل الأعلى لما يمكن أن يقدمه الفرد من تضحية وفداء في سبيل حفظ كيان الجماعة، وصون كرامة الأمة، وحقن دماء المسلمين؛ فقد كان بإمكانه أن يقي نفسه ويخلصها لو أنه أراد نفسه ولم يرد حياة الأمة، ولو كان ذاتيا ولم يكن من أهل الإيثار لدفع بمن هب للذود عنه من الصحابة وأبناء المهاجرين والأنصار إلى نحور الخارجين المنحرفين عن طاعته، ولكنه أراد جمع شمل الأمة، ففداها بنفسه صابرا محتسبا، وقد أعلن عثمان ? أنه سيواجه الفتنة العارمة بالصبر الجميل( ) ممتثلا قوله سبحانه: +الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران: 173].
إن عثمان ? كان قوي الإيمان بالله، كبير النفس، نفاذ البصيرة، نبيل الصبر، حيث فدى الأمة بنفسه، فكان ذلك من أعظم فضائله عند المسلمين.( ) قال ابن تيمية -رحمه الله-: ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على مَنْ نال مِنْ عرضه, وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم. وقيل له: تذهب إلى مكة, فقال: لا أكون من ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام، فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول
من خلف محمدا في أمته بالسيف. فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله
عند المسلمين( ).
ثاني عشر: العدل:
واتصف عثمان ? بصفة العدل؛ فعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان ? وهو محصور فقال له: إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى، وهو ذ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:24 pm

الفصل الثالث
المؤسسة المالية والقضائية في عهد عثمان
المبحث الأول
المؤسســـة الماليــــــــــــة
لما تولى عثمان ? الخلافة لم يغير من سياسة عمر المالية، وإن كان قد سمح للمسلمين باقتناء الثروات وتشييد القصور وامتلاك المساحات الشاسعة من الأراضي، فقد زالت عن المسلمين شدة عمر التي كانت ترهبهم وتخيفهم، والتي كانت تحول دون الكثير مما يشتهون، وكان عهده عهد رخاء على المسلمين( ).
أولاً: السياسة المالية التي أعلنها عثمان عندما تولى الحكم:
وجه عثمان ? كتابا إلى الولاة وكتابا آخر إلى عمال الخراج، وأذاع كتابا على العامة، وقد ذكرتُ نصوصها عند حديثي عن منهجه في الحكم، وفي ضوء تلك النصوص تكون عناصر السياسة المالية العامة التي أعلنها ثالث الخلفاء الراشدين قد قامت على الأسس العامة التالية:
* تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية.
* عدم إخلال الجباية بالرعاية.
* أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين.
* إعطاء المسلمين ما لهم من بيت مال المسلمين.
* أخذ ما على أهل الذمة لبيت مال المسلمين بالحق، وإعطاؤهم ما لهم، وعدم ظلمهم.
* تخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء.
* تفادي أية انحرافات مالية يسفر عنها تكامل النعم لدى العامة( ).
ونفصل فيما يلي هذه الأسس:
1- نية عثمان بن عفان تطبيق سياسة مالية عامة:
مما لا شك فيه أن الخليفة الثالث عثمان بن عفان عزم على تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية؛ فقد بويع ? على أساس تطبيق حكم الله وسنة رسوله × وسياسة الخليفتين قبله، وقد طبق أبو بكر ? ما نزل به القرآن وما سنَّه رسول الله × فيما يتعلق بالسياسة المالية وغيرها من الأحكام، وقام عمر بتطوير المؤسسة المالية ونظم قواعدها وأرسى مبادئها وزاد مواردها ورشد إنفاقها، ونهج عثمان طريقهم, واجتهد في بعض الأمور القابلة للاجتهاد، فنفذ حكم الله في الأرض في قضايا الأموال وغيرها؛ فأشرف على دفع الزكاة لبيت المال، وتوزيعها على مستحقيها، وأهل الكتاب في دفعهم الجزية لبيت مال الدولة الإسلامية، وبذلك يدخلون في ذمتها تحميهم وتوفر لهم الأمان وتضفي عليهم سائر خدماتها العامة، والمجاهدون يغنمون الأموال ويرسلون خمسها لبيت مال المسلمين، ويقوم بيت المال بتوزيعها على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وغيرها من وجوه الإنفاق طبقا لقوله تعالى:
+وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41] وغير ذلك من مصادر الدولة المعروفة. وقد تميزت المالية العامة في عهد ذي النورين والخلفاء الراشدين بأنها مرتبطة بالإسلام وتطبيق تعاليمه وحماية إيراداته، ويساند الإنفاق العام فيها نشر راية الإسلام وخير المسلمين، وهي مرشدة للإنفاق؛ لأن تعاليم الإسلام تمنع الإسراف وتحاربه، والله لا يحب المسرفين، وتمنع السفهاء من التحكم في الأموال وهي مالية عامة خيرة؛ لأن بعض مواردها العامة توجه للبنية الضعيفة من الرعية، وهي نقية من الدنس، ولا تتضمن مواردها كسبًا من حرام؛ لأن الله لا يبارك
الكسب الحرام.
2- عدم إخلال الجباية بالرعاية:
ينبه عثمان بن عفان ? في كتابه للولاة أن جباية أموال بيت المال كادت تطغى على الواجب الأول للولاة وهي رعاية الرعية، وذلك أن الجباية أحد واجبات الرعية المكلف بها رئيس الدولة الإسلامية، فلا يصح أن تطغى على سائر الواجبات.( ) وقد استنبط الفقهاء من الهدي النبوي والعهد الراشدي تكاليف الرعاية؛ أي واجبات الخليفة لتحقيق رعاية الأمة كما يلي:
قال الماوردي: والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة.
والثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين؛ حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
والثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعاش وينتشروا في الأسفار، آمنين من تغرير بنفس أو حال.
والرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا.
والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة إليه حتى يسلم أو يدخل الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره (الإسلام) على الدين كله.
والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه نصًّا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.
والثامن: تقدير العطايا وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
والتاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة.
والعاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة( ).
وبإيجاز، فإن واجبات الخليفة تتفرع عن شرطي عقد البيعة، وهما حراسة الدين وسياسة الدنيا( ) اللذين هما مهمة الرسول × الذي هو خليفته، وإن كان الماوردي والفراء المتعاصران قد تطابقت تحديداتهما لواجبات الإمام، فإنما ذلك اجتهاد منهما حسب حاجة الأمة في عصرها، ولا ينبغي أن تقتصر حقوق الأمة على ما عدده عالم من علمائها أو أكثر مهما بلغ من فضل وسعة علم، ومهما كانت نظرته للموضوع شاملة، هذا إن كان العالم معاصرًا، فكيف إن كانت آراؤه واجتهاداته قد سبقنا بها بقرون.( ) ولذا فينبغي أن تحدد واجبات الإمام بناء على الشرطين العامين لصحة عقده وهما حراسة الدين وسياسة الدنيا، وينبغي أن تقوم لجان من علماء الأمة بتحديد ذلك لأهل زمانهم( ).
هذه بعض تكاليف الرعاية كما أوردها الفقهاء، وهي قابلة للتطوير بما يلائم
تطور الأزمان والعصور بحيث لا يخالف التطوير نصًّا من نصوص القرآن أو حكمًا من أحكام الدين( ).
3- أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين:
عمال الخراج نواب عن الدولة في استئداء حقوق بيت المال، فإذا أخذوا ما على المسلمين بالحق أدوا واجبهم المنوط بهم، وإذا غالوا في جباية حقوق بيت المال ظلموا الممولين وألحقوا بهم الضرر وحمَّلوهم فوق ما يطيقون، والرسول × يحذر من المغالاة في استئداء حقوق بيت المال؛ فقد نهى عن جباية كرائم الأموال في الزكاة، وأمر بالتخفيف في استئداء زكاة الثمر( ).
4- إعطاء المسلمين ما لهم من بيت المال بالحق:
عطاء بيت المال للمسلمين إما أن يكون مباشرا كصرف الزكاة للمستحقين لها، وما يقضي به نظام الأعطيات من توزيع فائض الأموال على المسلمين، أو يكون العطاء العام غير مباشر يتمثل في الخدمات العامة التي تؤديها الدولة للرعية، وهذه ينفق عليها من بيت مال المسلمين. وفي كلا العطاءين ينبغي أن يتسم العطاء بالحق، فلا يجوز في العطاء المباشر أن يخالف الأسس التي تحددت لوضعه محاباة لبعض الأفراد أو حرمانا أو نقصانا للبعض الآخر دون مبرر، ولا يجوز أن يتأخر العطاء عن موعده بسبب تعقد الإجراءات أو كثرة الحجب التي تحجب أرباب الظلامات عن الوصول لمن بيدهم أمر العطاء لبحث ظلامتهم من تأخير العطاء أو قلته، أو عدم وصوله إليهم، ولا يجوز في العطاء غير المباشر المتمثل في الخدمات العامة التي تؤديها الدولة للشعب أن تكون المنفعة لفرد معين؛ بل يجب أن يعود نفعها على الأمة جمعاء( ).
5- عدم ظلم أهل الذمة وأخذ ما عليهم لبيت المال بالحق وإعطاؤهم حقوقهم بالحق كذلك:
لا يجوز ظلم أهل الكتاب عند أخذ الجزية منهم؛ لأن أهل الكتاب من الذميين الذين يقيمون في الدولة الإسلامية وهم في ذمتها ورعايتها ما داموا يؤدون الجزية، وقد أوصى بهم رسول الله ×؛ فقد ولى عبد الله بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلما ولى عنده ناداه فقال: ألا من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة. ( ) واستنادا لذلك فقد أوصى بهم عمر بن الخطاب ? حين موته: أوصى الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يُكلفوا فوق طاقتهم( ).
فإذا آذى عمال الجزية الذميين أو كلفوهم فوق طاقاتهم أو عذبوهم، أو أخذوا الجزية من الشيخ الكبير الذي لا شيء له ولا يستطيع العمل، أو أخذوها من الذمي الذي أسلم، كان هذا لونا من ألوان الظلم الذي نبه عليه الخليفة الثالث في كتابه إلى عمال الخراج بعد ارتكابه مستندا في ذلك لتعاليم الرسول ×( ).
هذا وعلاوة على الجزية يؤدي أهل الذمة الذين يزرعون أرض الخراج -وهي التي آلت للدولة الإسلامية كغنيمة نتيجة للفتح الإسلامي- ما يستحق عليها من خراج لبيت مال المسلمين، ويجب أن يراعى عمال الخراج الحق في تحديد قيمته المستحقة على الأراضي التي يزرعها أهل الذمة، وذلك بمراعاة العوامل التي تحكم تحديده؛ لأن إغفالها كلها أو بعضها يوقع الظلم بأهل الذمة الذين يزرعونها، وهذه العوامل أربعة:
* ما يختص بالأرض من جودة يزكو بها زرعها أو رداءة يقل بها ريعها.
* ما يختص بالزرع من اختلاف أنواعه من الحبوب والثمار، فمنها ما يكثر ثمنه ومنها ما يقل ثمنه فيكون الخراج بحسبه.
* ما يختص بالسقي والشرب؛ لأن ما التزم المئونة في سقية النواضح والدوالي لا يحتمل من الخراج ما يحتمله سقي السيوح والأمطار.
* أن لا يستقضي في وضع الخراج غاية ما تحمله ليجعل فيها لأرباب الأرض بقية يجبرون بها في النوائب والجوائع( ).
هذا وإذا كانت الدولة الإسلامية قد أبرمت عهدا أو عقدت صلحا مع أهل الكتاب، فواجب الدولة الإسلامية وعمال خراجها أن يلتزموا بما ورد بها من شروط, ومنها الشروط التي تحدد قيمة ما يدفعونه من جزية أو خراج؛ لأن المسلمين إذا أبرموا عقدا أو عهدوا عهدا التزموا بالوفاء بالعقود والعهود( ).
6- عدم ظلم اليتيم:
لليتيم حقوق في المال العام بنصوص القرآن الكريم، فهو من المستحقين لأموال الزكاة إن كان فقيرا، قال تعالى: +إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [التوبة: 60].
ولليتيم نصيب في خمس الغنائم تطبيقا لقوله جل وعلا: +وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41] ولليتيم نصيب في عطاء بيت المال، فقد كان يفرض للأطفال عموما ومنهم يتامى الأطفال، وإذا كان اليتيم غنيا فيؤدي الزكاة المفروضة على أمواله إذا توافرت, وواجب المصدق أن يأخذ الزكاة بالحق والعدل حتى لا يذهب ظلمه بمال اليتيم أو جزء منه بغير وجه حق( ).
7- تخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء:
قال تعالى: +إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" [النساء: 58].
وقال تعالى: +وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" [المؤمنون: 8].
طالب الخليفة الراشد عثمان بن عفان ? عمال الخراج أن يتحلوا بالأمانة وهي صفة لازمة لجميع من يشتغلون بالأموال العامة، وإذا لم تتوافر فيهم هذه الصفة جاروا على حقوق بيت المال وجاروا على الممولين، وانتكست العلاقة بين بيت المال والممولين. والقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تنبه وتحض على التزام الأمانة، وطالب الخليفة عثمان كذلك عمال الخراج بأن يتحلوا بالوفاء. وقد ورد الوفاء مطلقا في كتاب الخليفة؛ فيشمل الوفاء لبيت المال بمراعاة أخذ حقوقه كاملة من الرعية، والوفاء للممولين بعدم ظلمهم بالمغالاة في تحديد الفرائض المالية المطلوبة منهم، والوفاء لأهل الذمة بالرفق وحسن المعاملة وتطبيق ما تضمنته شروط الصلح معهم من جزية وخراج دون زيادة( ).
8- أثر تكامل النعم على مسار الأمة:
لم يرد عثمان بن عفان ? أن يترك العامة دون تبصيرهم، فحذرهم من أن تجذبهم الدنيا إلى ملاذها ومتاعها، وخشي أن أمر الأمة صائر إلى الابتداع بعد أن توفرت لهم ثلاث: وهي تكامل النعم، وبلوغ أولاد السبايا، وقراءة الأعاجم.( ) فعثمان ? أدرك أن تكامل النعم لدى البعض سيميل بأولي النعم عن المسار السليم؛ لأن تكامل النعمة بزيادة الأموال لدى أفراد الرعية قد يفسدهم بسبب ما ينفقونه على الترف والفساد( ), قال تعالى: +وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" [الإسراء: 16].
9- المقارنة بين السياسة العمرية والعثمانية:
هذه السياسة المالية التي أعلنها ذو النورين تكاد تتفق مع السياسة العامة المالية التي نفذها الفاروق حين ولي أمر المسلمين، فقد أعلن ونفذ: أن المال العام لا يصلحه إلا خِلالٌ ثلاث؛ أن يؤخذ بالحق ويعطى في الحق ويمنع في الباطل.( ) فالسياسة العمرية والعثمانية في المال تنبعان من مشكاة واحدة، وهي مشكاة الإسلام ومبادئه وأصوله وقواعده( ).
ثانيًا: توجيهات عثمانية توضح للناس قواعد زكاتهم:
قال عثمان ?: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم، ومن لم تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا، ومن أخذ منه حتى يأتي هذا الشهر من قابل، قال إبراهيم بن سعد: آراه يعني شهر رمضان.( ) وقال أبو عبيد: وقد جاءنا في بعض الأثر أن هذا الشهر الذي أراده عثمان هو المحرم،( ) وبهذا القول أكد عثمان ? المبادئ التالية:
أ- مبدأ سنوية الزكاة؛ إذ يشترط لأداء الزكاة -ما عدا زكاة الزروع- حوَلانَ الحول، ويظهر ذلك من قول عثمان أن من أخذ منه لا يؤدي زكاة عن أمواله حتى يأتي نفس الشهر في السنة التالية، فلا تتكرر عليه الزكاة في عام واحد.
ب- إذا أخذنا بقول أبي عبيد أن الشهر الذي قصده عثمان بن عفان هو شهر محرم، فكأنه أراد أن تكون السنة المالية الإسلامية مطابقة للسنة الهجرية؛ فعلى المسلمين بعد مرور سنة هجرية كاملة على ما لديهم من أموال أن يسددوا ما عليها من زكاة في أول السنة الهجرة التالية، وهو شهر المحرم إذا توافرت شروطها.
ج- ويدعو عثمان بن عفان ? الناس إلى حساب وعاء الزكاة، فيطلب منهم أداء ما عليهم من ديون حتى تؤخذ الزكاة على الباقي.( ) ولعل عثمان أراد أن يستحث الناس على أداء ما عليهم من ديون؛ وفاء منهم للدائنين، وتسهيلا لحساب المال الخاضع للزكاة، وحتى يقطع بجدية الدين وعدم تطرق الصورية إليه( ).
د- يقول عثمان ?: ومن لم تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا. وبذلك يفتح عثمان بن عفان الدعوة إلى التطوع، فقد يرى بعض المسلمين أنهم لا يستحق عليهم زكاة، ومع ذلك يرون التطوع بأداء صدقات من أموالهم يؤدونها لبيت المال، فيقبلها منهم ويضمها إلى موارد الزكاة، وتصرف الدولة منها على نفس مصارف الزكاة.( ) وقد يكون قول عثمان ?: ومن أخذنا منه لم نأخذ منه حتى يأتينا بها تطوعا، أنه يقصد أن لا يجبى بيت المال صدقة الذهب والفضة إلا إذا أتى بها صاحبها لبيت المال، وأما الصدقة التي يكره الناس عليها ويجاهدون على منعها فهي صدقة الماشية والحرث والنخل، وبذلك يكون عثمان قد ترك لأصحاب الأموال أداء الزكاة على ما يعرف بالأموال الباطنة، وهي أموال الذهب والفضة والتجارة، ولا يقبلها منهم إلا إذا أتى بها صاحبها تطوعا( ). يقول في ذلك أبو عبيد: ألا ترى أن رسول الله × قد كان يبعث مصدقيه إلى الماشية فيأخذونها من أربابها بالكره منهم وبالرضا، وكذلك كانت الأئمة بعده، وعلى منع صدقة الماشية قاتلهم أبو بكر، ولم يأت عن النبي × ولا عن أحد بعده أنهم استكرهوا الناس على صدقات الصامت، إلا أن يأتوا بها غير مكرهين وإنما هي أماناتهم يؤدونها، فعليهم فيها أداء العين والدين؛ لأنها ملك أيمانهم وهم مؤتمنون عليها، وأما الماشية فإنها حكم يحكم بها عليهم، وإنما تقع الأحكام فيما بين الناس على الأموال الظاهرة وهي فيما بينهم وبين الله على الظاهرة والباطنة جميعا( ).
1- رأيه في زكاة دين الدائن:
عن السائب بن يزيد أن عثمان كان يقول: إن الصدقة في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه، والذي هو ملئ تدعه حياء أو مصانعة ففيه الصدقة.( )
وعن عثمان ? قال: زكِّه -يعني الدين- إذا كان عند الملئ( ).
فمن هذين القولين لعثمان بن عفان يبين أن الصدقة واجبة على الدين للدائن على المدين الملئ، ويستطيع أن يحصل من المدين على دينه ولكن يستحي أن يذكر المدين به, أو أن الدائن يدع دينه للمدين مصانعة له، والمصانعة تعني سكوت الدائن عن المطالبة بدينه نظير منفعة يحصل عليها من المدين( ).
2- اقتراضه من مصرف الزكاة وإنفاقه للمصالح العامة:
أخذ عثمان ? من أموال الزكاة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب على المرافق العامة، فأنفق على الجهاد على أن يرد ذلك إذا اتسع المال لرده، ومن حق الإمام أن يقترض من مصرف لمصرف، لا يخالف بذلك الدين، ولا يغير سنة موروثة ما دام مصمما على أن يرد على أموال الصدقة ما أخذ منها.( )
وتذهب بعض الآراء إلى أن أحد مصارف الزكاة وهو مصرف «في سبيل الله» يعطي للغازي في سبيل الله من أموال الزكاة؛ لأن انقطاعه للجهاد أقعده عن العمل والكسب، وليس هذا من باب التشجيع على البطالة، فهذا الصنف قد آثر مصلحة الإسلام على مصلحة نفسه, وترك العمل لشخصه ليعمل في مجال أرحب وأوسع وهو العمل لإعلاء كلمة الله ونشر دينه في المعمورة. ويرى بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المنافع العامة وما تقتضيه حاجات الأمة( ).
3- الإنفاق من الزكاة على الطعام للفقراء وأبناء السبيل:
سَنَّ عثمان ? سُنَّة جديدة، فكان يضع الطعام في المسجد في رمضان وقال: للمتعبد الذي يتخلف في المسجد، وابن السبيل، والمعترين.( ) والخليفة عثمان ? بذلك يكرم المسلمين من بيت المال، وفي ذلك اقتداء بالرسول × الذي كان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان. وهذه السنة التي استنها عثمان ترغب المسلمين في الاعتكاف في المساجد ما دام أكلهم معدًّا، وفي ذلك تشجيع على إحياء سنة الرسول الكريم × في الاعتكاف( ).
4- إنشاء منازل للضيافة من أموال الزكاة:
بلغ عثمان أن أبا سمال الأسدي ومعه نفر من أهل الكوفة ينادي مناد لهم إذا قدم الميار( ): أن من كان من القبائل ليس لقومهم بالكوفة منزل فمنزله على أبي سمال، فاتخذ عثمان بعض الدور كمنازل للضيافة ينزل بها الغرباء ممن ليس لهم منزل، ومن هذه الدور منزل عبد الله بن مسعود في هذيل، وكان الأضياف ينزلون داره في هذيل إذا ضاق عليهم ما حول المسجد( ).
5- العطاء من بيت المال لكل مملوك:
مما زاد عثمان ? على يده أن رد على كل مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة من كل شهر يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم.( ) والغالب على أن مصدر هذه الأموال التي وزعها عثمان على كل مملوك هو أموال الزكاة باعتبار أن لهم فيها نصيبا؛ لأنهم أحد المصارف الثمانية التي حددتها آية الزكاة، وهي مصرف +وَفِي الرِّقَابِ"[التوبة: 6]( ).
ثالثـًا: خمس الغنائم:
بدأ الجهاد في عهد الرسول ×, واستمر في عهد أبي بكر وعمر, وكذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكانت نتيجة ذلك انتشار الإسلام واتساع رقعة الدولة الإسلامية، وكانت فتوحات عهد عثمان كبيرة حققت غنائم كثيرة إلى بيت المال، منها الخمس، كما أنه آل إلى بيت المال جزية من آثر البقاء على دينه من أهل الكتاب ولم يحارب، فهناك ارتباط إذن بين بيت المال والفتوحات الإسلامية، فقد قام بيت المال في عهد عثمان في تمويل هذه الفتوحات، سواء بما كان يدفعه للجنود من مرتبات أو لشراء الأسلحة والعتاد بجانب التطوع بالأموال والأنفس، وإذا تحقق النصر فرضت الجزية على من لم يسلم من أهل الكتاب والخراج على الأرض التي أخذت عنوة، وإذا أسلم أهل البلاد سددوا الزكاة إذا بلغت أموالهم نصابا وتوافرت شروطها باعتبارها من أركان الإسلام، ولا يكمل إسلام المسلم إلا بأدائها، وهذه كلها تساهم في زيادة الإيرادات العامة للدولة الإسلامية، وأحل الله للمسلمين غنائم الحرب، ويوزع أربعة أخماسها بين الفاتحين، والخمس الباقي يؤول لبيت مال المسلمين( ).
وفيما يلي بعض المسائل التي أسفر عنها تطبيق السياسة المالية العامة في عهد عثمان بن عفان بشأن خمس غنائم الفتوحات:
1- لم يسهم للصبي في الغنائم في عهد عثمان بن عفان:
عن تميم بن المهري قال: شهدت فتح الإسكندرية في المرة الثانية، فلم يسهم لي حتى كاد أن يقع بين قومي وبين قريش منازعة، فقال بعض القوم: أرسلوا إلى بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني، فإنهما من أصحاب رسول الله × فاسألوهما عن هذا، فأرسلوا إليهما فسألوهما فقالا: انظروا فإن كان أنبت( ) فأسهموا له، فنظر إليَّ بعض القوم فوجدوني قد أنبت فأسهموا لي( ).
ومعنى ذلك أنه لا يسهم للصبي ولا للمرأة، إنما يرضخ لهم؛ أي يعطون شيئا قليلا لمساعدتهم في غزوات المسلمين، وهذا ما كان يطبق في عهد رسول الله ×( ).
2- السلب للقاتل في عهد عثمان كما كان في عهد رسول الله ×:
السلب هو ما كان على القتيل في الحرب وما كان من سلاح، وما كان تحته من فرس، وقد قضى رسول الله × بالسلب للقاتل؛ فعن أبي قتادة أن رسول الله × قال يوم حنين: «من قتل قتيلا له بينة فله سلبه». ( ) ومفاد هذا الحديث أنه لا يستحق للقاتل السلب إلا بعد أن يقيم البينة على أنه هو الذي قتله، حتى إذا تنازع اثنان كل منهما يدعى أنه قتله فالسلب لمن يقيم البينة منهما( ).
وقد حدث بعد انتقاض الإسكندرية وجاءت الروم وعليهم منويل الحصى وأرسوا بالإسكندرية، وتركهم عمرو حتى يسيروا إليه فيصيبوا من مروا به في البلاد فخزي الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورهم، ويأكلون أطعمتها وينتهبون ما مروا به، فلم يعرض عمرو حتى بلغوا نفيوس فلقوهم في البر والبحر، فحاربوا بالنشاب ثم خرجوا من البحر، فاجتمعوا هم والذين في البر واستمروا في حرب النشاب، وبرز بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز فبرز له رجل من زبيد يقال له (حومل) يكنى أبا مذجح، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف، وألقى حومل رمحه وأخذ بسيفه، وجعل عمرو يصيح: أبا مذجح فيجيبه: لبيك، والناس على شاطئ النيل في البر على تعبئتهم وصفوفهم، فتجاولا ساعة بالسيفين ثم حمل عليه البطريق فاحتمله، ثم أخذ حومل خنجرا كان في منطقته أو في ذراعه فضرب به نحر عدوه فأوتر قوته فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام رحمة الله عليه، ثم شد المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتح الله عليهم وقتل منويل الحصى( ).
3- قيمة الغنائم ونصيب بيت المال في أحد فتوحات عثمان:
من حديث عبد الملك بن مسلمة عن غيره قال: غزونا مع عبد الله بن سعد إفريقية فقسم بيننا الغنائم بعد إخراج الخمس، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، للفرس ألفا دينار ولفارسه ألف دينار، وللراجل ألف دينار، فقسم لرجل من الجيش توفى بذات الحمام فدفع لأهله بعد موته ألف دينار.( ) ومن حديث لعثمان بن صالح وغيره قال: فكان جيش عبد الله بن سعد ذلك عشرين ألفا، ومن المعروف أن يؤول الخمس لبيت المال، استنادا إلى قول الله تعالى: +وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41] وقد رفع نصيب الرسول × وذي القربى في عهد أبي بكر ? بعد وفاة الرسول × ووجِّه إلى السلاح والكراع، وسايره عمر بن الخطاب ? من بعده في التطبيق، وكذا عثمان بن عفان ?، والأربعة أخماس الباقية من الغنائم توزع على الفاتحين بنسبة 3 للفارس وفرسه، 1 للراجل. فمن الحديثين السابقين يمكن حساب قيمة الخمس الذي آل لبيت المال وكذلك قيمة الغنائم كلها، فبافتراض أن الفوارس عشر الجيش الذي بلغ عشرين ألفا، وأن الباقين من الراجلين يكون الحساب كالآتي:
2000 فارس × 3000 دينار = 6000.000 دينار.
18000 راجل × 1000 دينار = 18000.000 دينار.
مجموع ما خص المحاربين = 24 مليون دينار، وهو ما يمثل أربعة أخماس قيمة الغنائم، ويكون نصيب بيت المال خمس الغنائم؛ أي = 6 ملايين دينار، ويكون مجموع ما غنمه المسلمون = 30 مليون دينار( ).
4- الإنفاق العام من خمس الغنائم:
ينفق خمس الغنائم طبقا لنص الآية للرسول × ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل بحق الخمس لكل منهم، وأنه بعد موت الرسول × آل نصيبه ونصيب ذي القربى إلى بيت المال لينفق منها على الكراع والسلاح، وقد استنفد الخليفة الراشد عثمان ? نصيب رسول الله × وذي القربى الذي آل إلى بيت المال على الإنفاق على الكراع والسلاح لكثرة الفتوحات التي تمت في عهده وما استلزمته من أسلحة وخيول.( )
5- نجاح السياسة المالية في تمويل فتوحات الإسلام في عهد عثمان:
من ضمن التحديات التي واجهها عثمان ? انتكاس بعض البلاد المفتوحة، واستطاع عثمان ? إجبار البلاد التي نقضت العهد على الالتزام بعهودهم مع الدولة الإسلامية والانصياع لحكمها.
وفي ضوء ما تم من فتوحات جديدة فإنه يمكن القول: إن تنفيذ السياسة المالية فيما يتعلق بهذه الفتوح قد أسفر عن قيام المالية العامة في عهد عثمان بن عفان بالمطلوب منها، سواء من ناحية تمويلها لهذه الفتوح أو بما حققته الانتصارات من غنائم كثيرة حصل بيت المال على نصيبه منها أو من موارد أخرى، وهي زكاة من أسلم من أهل الأمصار، وجزية من أبى الإسلامَ من أهل الكتاب وخراج أراضيهم( ).
رابعًا: الإيرادات العامة من الجزية في عهد عثمان ?:
1- استقرار المسائل الفنية للجزية في عهد عثمان ?:
استقرت أحكام الجزية وقواعدها ونظام تطبيقها وتحصيلها في عهد عمر بن الخطاب، ولذلك كان دور بيت المال في عهد عثمان أن يتلقى ما يتم تحصيله من جزية بعد الاتفاق على قيمتها، وأن تقر الدولة ما تم عقده من صلح في عهود سابقة أو إقرار صلح جديد، وأن تتكفل الدولة لمن أدوا الجزية بالحقوق التي تترتب على هذا الأداء( ).
2- نماذج مما آل لبيت المال من إيرادات الجزية:
أ- غزا الوليد بن عقبة في إمارته على الكوفة في عهد عثمان أذربيجان، وصالح أهلها على ثمانمائة ألف درهم حبسوها عند وفاة عمر، فوطئهم بالجيش وانقادوا له وقبض
منهم المال( ).
ب- لما وجه عثمانُ عبدَ الله بن سعد إلى إفريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق إفريقية جرجير ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وكان الذي صالحهم عليه عبد الله ثلثمائة قنطار ذهب (ولعل ذلك يعادل المبلغ الأول). ( )
ج- صلح قبرص وقع على جزية سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين( ).
ح- صالح سعيد بن صالح أهل جرجان وكان يجبون أحيانا مائة ألف، ويقولون: هذا صلحنا، وأحيانا مائتي ألف وأحيانا ثلاثمائة ألف( ).
د- غلب عبد الله بن عامر على نيسابور وخرج إلى سرخس، فأرسل إليه أهل مرو يطلبون الصلح، فبعث إليهم ابن حاتم فصالح مرزبان مرو على ألفي ألف، وقال آخر: صالحهم على ستين ألف درهم( ).
و- سار الأحنف بن قيس إلى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، فرضي منهم بذلك، واستعلم ابن عمه وهو أسيد بن المتشمس ليأخذ منهم ما صالحوه عليه( ).
3- عثمان بن عفان ينفذ كتاب الرسول × لأهل نجران:
كان النبي × قد أقر أهل نجران على شروط اشترطها عليهم واشترطوها هم، وكتب لهم بذلك كتابا يوضح هذه الشروط ومنها دفعهم الجزية ومقدارها، ثم جاءوا بعد الرسول × فكتب لهم أبو بكر ? كتابا بهذه الشروط، ثم جاءوا من بعد أن استخلف عمر ? إليه، وكان عمر قد أجلاهم عن نجران اليمن وأسكنهم بنجران العراق؛ لأنه خافهم على المسلمين وكتب لهم كتابا،( ) فلما قُبض عمر ? واستخلف عثمان بن عفان ? أتوه إلى المدينة، فكتب لهم إلى الوليد بن عقبة وهو عامله الكتاب التالي: (بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عثمانَ أميرِ المؤمنين إلى الوليد بن عقبة سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الأسقف والعاقب وسراة أهل نجران الذين بالعراق أتوني، فشكوا إليَّ وأروني شرط عمر لهم، وقد علمت ما أصابهم من المسلمين، وإني قد خففت عنهم ثلاثين حلة من جزيتهم وتركتها لوجه الله تعالى جل ثناؤه، وإني وفيت لهم بكل أرضهم التي تصدق عليهم عمر عقبى مكان أرضهم باليمن، فاستوصِ بهم خيرا فإنهم أقوام لهم ذمة. وكانت بيني وبينهم معرفة، وانظر صحيفة كان عمر كتبها لهم فأوفهم ما فيها، وإذا قرأت صحيفتهم فارددها عليهم، والسلام.( ) وكان ذلك في النصف من شعبان سنة سبع وعشرين. ( )
ومما سبق يتضح منه أمور:
أ- أن عثمان ? أوفى بعهد الرسول ×، وعهد صاحبه -رضي الله عنهما- من بعده، وأن ذلك ينبع من مبدأ عام في الإسلام، وهو أن من عقد عقدا أو عهد عهدا أو وعد وعدا أوفى به.
ب- خفف عثمان عنهم الجزية ووفى لهم بكل أرضهم، وطلب من عامله الوليد بن عقبة أن يوفي لهم بما ورد في كتاب عمر ?، وأن يستوصي بهم خيرا لأنهم أقوام لهم ذمة( ).
4- أهل الكتاب في ذمة المسلمين ما داموا يؤدون الجزية:
بعد انتصار عمرو بن العاص في الإسكندرية، وكان قد جمع من القرى أثناء الحرب ما أصاب أهل القرى، فجاءه أهل تلك القرى ممن لم يكن نقض، فقالوا: قد كنا على صلحنا، وقد مر علينا هؤلاء اللصوص (أي الروم) وأخذوا متاعنا ودوابنا، وهو قائم بين يديك، فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه، وأقاموا عليه البينة. وقال بعضهم لعمرو بن العاص: ما حل لك ما صنعت بنا، كان لنا أن تقاتل عنا لأنا في ذمتك ولم ننقض، فأما من نقض فأبعده الله( ). فانظر كيف نظام الجزية يرتب حقوقا تمسكوا بها، وهي حمايتهم نظير ما يدفعون بالرغم من أنهم لا يشتركون في الدفاع عن البلاد مع المسلمين، وإنما يدفعونها نظير حقوق يحصلون عليها من الدولة الإسلامية، ومن هذه الحقوق حق الحماية وحق الرعاية، وقد أقرهم عمرو بن العاص على هذه الحقوق ورد إليهم أموالهم.( )
5- مشاركة أهل الذمة في الأعباء العامة في عهد عثمان:
ومما يذكر بشأن فتح الإسكندرية الثاني في خلافة عثمان بن عفان مما يتصل بالجزية أن صاحب اخنا -وكان اسمه طلما-، قدم على عمرو بن العاص فقال: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصبر لها؟ فقال عمرو -وهو يشير إلى ركن كنيسة-: إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب اخنا فخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله وأسر، فأتي به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، وقيل: إن عمرا لما أتى به سوَّره وتوَّجه وكساه برنس أرجوان، وقال له: ائتنا بمثل هؤلاء، فرضى بأداء الجزية، فقيل لطلما: لو أتيت ملك الروم، فقال: لو أتيته لقتلني، وقال: قتلت أصحابي( ).
وعندما نحلل قول عمرو بن العاص: إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، نستنتج بعض المبادئ للسياسة المالية في عهد عثمان بالنسبة لغير المسلمين، منها:
أ- أهل الذمة يساهمون في بيت مال المسلمين بما يؤدونه من جزية، فهم خزانة لبيت المال، يحصل منها بيت المال على نصيبه في أموالهم على هيئة جزية.
ب- أن هذا النصيب في أموال أهل الذمة يتحدد في ظل الأعباء الملقاة على الدولة، فإن كبر هذا العبء ارتفعت قيمة الجزية، وإن خف هذا العبء خفت قيمة الجزية.
ج- هذا التحول في قيمة الجزية -ارتفاعا وانخفاضا- مع أعباء الحكم ينبثق من مبدأ المشاركة المالية من مواطني الدولة في الأعباء، بحيث يساهم كلٌّ على قدر طاقته وبما يحقق العدالة في توزيع الأعباء، وفي ظل الوصايا التي أوصى بها الرسول الكريم بحسن معاملة أهل الذمة عامة( ).
خامسًا: الإيرادات العامة من الخراج والعشور في عهد عثمان:
1- الخراج:
امتدت فتوحات الإسلام في عهد عثمان بن عفان ?، ونتج عن هذه الفتوحات أن دخلت الأرض الزراعية للبلاد المفتوحة في حوزة الدولة الإسلامية، وكان عمر ? قد اعتبرها فيئا للمسلمين، وأبقى عليها أهلها من أهل الكتاب الذين آثروا الإبقاء على دينهم يزرعونها، ويؤدون عنها خراج الأرض لبيت مال المسلمين، وقد ساهم خراج هذه الأراضي في زيادة إيرادات بيت المال في عهد عثمان ? بسبب امتداد الفتوحات الإسلامية في عصره( ).
2- عشور التجارة:
استقر نظام العشور في عهد الفاروق على الأسس والقواعد التي وضعها عمر ?، وفي عهد عثمان بن عفان يبدو بصفة عامة أن إيرادات بيت المال زادت من عشور التجارة نتيجة لزيادة رقعة الدولة الإسلامية، بسبب الفتوحات التي تمت في عهده ونتيجة لزيادة الثروات لدى البعض، مما زاد القوة الشرائية بصفة عامة خصوصا في السنوات الأولى في عهد عثمان بن عفان التي اتسمت بالاستقرار، وزيادة القوة الشرائية تزيد الطلب على السلع، وزيادة الطلب على السلع تدعو إلى تنشيط استيرادها وخضوعها لعشور التجارة متى توافرت شروط الإخضاع، ومن العوامل التي أدت إلى زيادة حصيلة عشور التجارة في عهد عثمان بن عفان ارتفاع الأسعار، وارتفاع أسعار السلع يؤدي بالتالي إلى زيادة حصيلة عشور التجارة منها, لأنها ضريبة قيمية تؤخذ نسبة معينة على قيمة السلعة، وليس نوعية تؤخذ من نوع السلعة( ).
سادسًا: سياسة عثمان بن عفان في إقطاع الأرض:
مضى أبو بكر ? في تطبيق السياسة النبوية في إقطاع الأراضي للناس طلبا لاستصلاحها؛ فقد أقطع الزبير بن العوام أرضا مواتا ما بين الجرف وقناة( )، وأقطع مجاعة ابن مرارة الحنفي الخضرمة (قرية كانت باليمامة). ( ) وأراد إقطاع الزبرقان بن بدر، ثم عدل عن ذلك لاعتراض عمر ?، كما أراد إقطاع عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي أرضا سبخة (ليس فيها كلأ ولا منفعة) أرادا استصلاحها، ثم عدل عن ذلك أخذًا برأي عمر ? في عدم الحاجة لتأليفهما على الإسلام، وقال: إن رسول الله × كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله -عز وجل- قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما.
ومن الواضح أن اعتراض عمر ليس على مبدأ الإقطاع لاستصلاح الأراضي بل على أشخاص بعينهم لا يرى تأليفهم على الإسلام، وقد توسع عمر ? في إقطاع الأرض لغرض استصلاحها جريا على السياسة النبوية، فقد أعلن: يا أيها الناس، من أحيا أرضًا ميتًا فهي له.( ) وهناك آثار ضعيفة تؤكد انتزاع عمر ? ملكية الأرض المقطعة إذا لم يتم استصلاحها.( ) وتحدد رواية ضعيفة لذلك ثلاث سنوات من تاريخ الإقطاع، وقد ثبت إقطاع عمر ? لخوان بن جبير أرضا مواتا, وللزبير بن العوام أرض العقيق جميعها، ولعلي بن أبي طالب أرض ينبع، فتدفق فيها الماء الغزير فأوقفها علي ? صدقة على الفقراء.( )
ولما تولى عثمان ? الخلافة توسع في الإقطاع وخاصة في المناطق المفتوحة؛ حيث ترك عدد من الملاكين أراضيهم فارين، فصارت صوافي تقوم الدولة باستثمارها، فأقطع عثمان ? منها خوفا من بوارها( )، ولكن الإمام أحمد يرى أنه أقطع من السواد أيضا، ومما لا شك فيه أن الصوافي قد يقع كثير منها في أرض السواد، وعلى أية حال فإن الإقطاع من الصوافي رفع غلتها من تسعة ملايين درهم (9000000 درهم) سنويا في خلافة عمر ? إلى خمسين مليون درهم (50.000.000 درهم) في خلافة عثمان ?، مما يدل على نجاح سياسته في إدارة الصوافي. وتذكر المصادر قائمة بأسماء الذين أقطعهم عثمان ? ومعظمهم ليسوا من قريش، ومعظم الروايات في إقطاع عثمان ? ضعيفة، وهي بالجملة تثبت توسعه في الإقطاع، ومن المفيد ذكر أسماء المقطعين وهم:
* عبد الله بن مسعود الهذلي (أرض بين نهري بيل وبين السواد).
* عمار بن ياسر (أستينيا).
* خباب بن الأرت التميمي (صعنبي – قرية بالسواد).
* عدي بن حاتم الطائي (الروحاء – قرية من قرى بغداد على نهر عبس)
* سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي (قرية هرمز ببَرِّ فارس).
* الزبير بن العوام.
* أسامة بن زيد الكلبي.
* سعيد بن زيد العدوي القرشي.
* جرير بن عبد الله البجلي (أرض على شاطئ الفرات).
* ابن هبار.
* طلحة بن عبيد الله التميمي القرشي (النشاستبح - ضيعة بالكوفة).
* وائل بن حجر الحضرمي (أرض توالي قرية زرارة بالكوفة).
* خالد بن عرفطة القضاعي (أرض عند حمام أعين بالكوفة).
* الأشعث بن قيس الكندي (طيزنباذ - موضع بين الكوفة والقادسية).
* أبو مريد الحنفي (أرض بالأهواز على نهر تيري).
* نافع بن الحارث بن كلدة الثقفي (قطيعة بشط عثمان بالبصرة)
* أبو موسى الأشعري (قطيعة بحمام عمرة).
* عثمان بن أبي العاص الثقفي (شط عثمان بالبصرة).
ويبدو أن جلاء أهل هذه الأراضي عنها صيَّرها مواتا، وأقطعها عثمان ? لإحيائها، ويبدو أن معاوية بن أبي سفيان أقطع قطائع في سواحل الشام لتعميرها وإعدادها لمواجهة هجمات الروم، وكذلك أقطع قطائع بأنطاكية بأمر عثمان، وآخر بقاليقلا( )، وأما إقطاعه فدك لمروان بن الحكم فلم يعرف من طريق صحيحة، وقيل: إن الذي أقطع فدك لمروان هو معاوية بن أبي سفيان( ).
إن سياسة عثمان في إقطاع الأراضي ساهم في زيادة موارد بيت مال المسلمين بما يؤديه الجميع من زكاة على أموالهم إذا توافرت شروطها، وقد نجح مشروع عثمان في إقطاع الأرض بدليل زيادة إيراد الدولة من أملاكها الخاصة في العراق؛ إذ بلغت خمسين ألف ألف درهم بعد أن كانت 900.000 درهم في عهد الفاروق( ).
سابعًا: سياسة عثمان في حمى الأرض:
وهي أراض خصصت لرعي الإبل والخيل التي تملكها الدولة، وقد استمرت حماية وادي النقيع في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ حيث كان النبي × قد حماه للخيل( ), وطوله ثمانون كيلومترا، ويبدأ جنوب المدينة بـ 40 كيلومترا.( ) وقد كثرت المناطق المحمية في خلافة عمر ? لكثرة ما تملكه الدولة من الإبل والخيل المعدة للجهاد، ومن ذلك حمى الربذة لنعم الزكاة، وعين عليه مولاه هنِّي وأوصاه بالسماح لأصحاب الإبل القليلة بالرعي فيه دون الأغنياء، وحمى أرضا في ديار بني ثعلبة رغم احتجاجهم على ذلك فقد أجابهم: البلاد بلاد الله، تحمى لنعم مال الله.( ) ونهج عثمان نهج من سبقه في الحمى بسبب اتساع الدولة وازدياد الفتوحات في عهده، وقد اقتصر في الحمى على صدقات المسلمين لحمايتها، وعلى هذا فإن عثمان ? زاد في الحمى لما زادت الرعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة لزيادة الحاجة( ).
ولما كان أبو بكر وعمر قد حميا دون أن ينكر عليهم أحد ذلك، فإن عثمان وسع الحمى لكثرة إبل الصدقة وماشيتها، وكثرة الخصومات بين رعاة ماشية الصدقة، فلا اعتراض على فعله( ), بل ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان في الحمى قد اشتهر ذلك بين الصحابة فلم ينكر عليهم منكر، ويعتبر ذلك إجماعا.( ) وقد حكى الإجماع ابن قدامة( ).
ثامنًا: أنواع النفقات العامة في عهد عثمان:
1- نفقات الخليفة:
كان عثمان ? لا يأخذ من بيت مال المسلمين شيئا؛ فقد كان أكثر قريش مالا وأجدهم في التجارة، فكان ينفق على أهله ومن حوله من ماله الخاص.
2- صرف مرتبات الولاة من بيت المال:
في عهد عثمان ? كانت الدولة الإسلامية مقسمة إلى ولايات، وكان على كل ولاية وال يعينه الخليفة يأخذ مرتبه من بيت المال، ويدير شئون الولاية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وإذا لم يعين الخليفة ممثلا له على بيت مال الولاية، فإنه يدخل في اختصاص الوالي الإشرافُ على جباية موارد الولاية، وهي الجزية والخراج وعشور التجارة ينفق منها على شئون الولاية، والفائض يرسله إلى بيت مال المسلمين في المدينة، أما الزكاة التي تحصل من أغنياء الولاية فكانت تصرف على فقرائهم( ).
3- الإنفاق من بيت المال على مرتبات الجند:
كان بيت المال يدفع مرتبات للجند علاوة على ما يحصلون عليه من نصيب في الغنائم، وكان جند كل ولاية يحصلون على مرتباتهم من بيت مال الولاية، فمثلا بالنسبة لجند مصر كتب عثمان ابن عفان إلى عبد الله بن سعد والي مصر الكتاب التالي لصرف مرتبات الجند المرابطين في الإسكندرية: (قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية وقد نقضت الروم مرتين، فالزم الإسكندرية رابطتها ثم أجرِ عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر) ( ).
4- الإنفاق العام على الحج من بيت المال:
كان الإنفاق العام على الحج في عهد عثمان ? من بيت المال، وكانت كسوة الكعبة من القباطي، وهو ثياب من كتان من نسيج مصر( ).
5- تمويل إعادة بناء المسجد النبوي من بيت المال:
كلم الناس عثمان بن عفان أول ما تولى الخلافة أن يزيد في مسجد الرسول ×؛ إذ كان يضيق بالناس في صلاة الجمعة بسبب امتداد الفتح وزيادة سكان المدينة زيادة عظيمة، فاستشار عثمان أهل الرأي فأجمعوا على هدم المسجد وبنائه وتوسيعه، فصلى عثمان الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله × وأزيد فيه وأشهد أني سمعت رسول الله يقول: «من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» ( ), وكان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه، فحسن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه( ).
6- تمويل توسعة المسجد الحرام من بيت المال:
كانت الكعبة أيام الرسول × قائمة وليس حولها إلا فناء ضيق يصلي الناس فيه، وظل المسجد كذلك في خلافة أبي بكر، وفي عهد عمر وسع المسجد فاشترى دورا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في بيت الله الحرام وأحاطها بجدار قصير، وأدخل إنارة المسجد ليلا؛ وذلك لأن المسجد كان قد ضاق بالحجاج الذين يأتون لأداء فريضة الحج بعد أن امتدت فتوحات الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما ضاق المسجد ثانية في عهد عثمان احتذى بمثل عمر وأضاف إلى الكعبة دورا اشتراها وأحاطها بجدار قصير لا يرتفع إلى قامة الرجل كما فعل عمر من قبل.( ) كما كان الولاة يبنون المساجد في ولاياتهم وينفقون عليها من بيت مال الولاية، كما حدث عند بناء مسجد الرحمة بالإسكندرية، ومسجد في اصطخر في فتوحات المشرق( ).
7- الإنفاق على إنشاء أول أسطول بحري:
ساهم بيت مال المسلمين في إنشاء أول أسطول بحري في الإسلام في عهد عثمان، وسيأتي دور هذا الأسطول في الفتوحات الإسلامية بإذن الله تعالى عند حديثنا عن الفتوحات( ).
8- الإنفاق على تحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة:
في سنة ست وعشرين هجرية كلم أهل مكة عثمان ? أن يحول الساحل من الشعيبة وهي ساحل مكة قديما في الجاهلية إلى ساحلها اليوم وهي جدة لقربها من مكة، فخرج عثمان إلى جدة ورأى موضعها وأمر بتحويل الساحل إليها، ودخل البحر واغتسل فيه وقال إنه مبارك، وقال لمن معه: ادخلوا البحر للاغتسال إلا بمئزر، ثم خرج من جدة من طريق عسفان إلى المدينة وترك الناس ساحل الشعيبة في ذلك الزمان واستمرت جدة بندرا إلى الآن لمكة المشرفة( ).
9- تمويل حفر الآبار من بيت مال المسلمين:
ومن الأعمال التي مولها بيت مال المسلمين في عهد عثمان حفر بئر للشرب بالمدينة، وتسمى بئر أريس وهي على ميلين من المدينة وكان ذلك في سنة ثلاثين هجريا، وحدث أن قعد عثمان على رأس البئر وكان بإصبعه خاتم رسول الله، فانسل الخاتم من إصبعه فوقع في البئر، فطلبوه من البئر ونزحوا ما فيها من الماء فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالا عظيما لمن جاء به، واغتم لذلك غما شديدا فلما يئس من العثور على الخاتم صنع خاتما آخر مثله من فضة على مثاله وشبهه ونقش عليه (محمد رسول الله) فجعله في أصبعه حتى قتل، فلما قتل ذهب الخاتم من يده فلم يدر من أخذه( ).
10- الإنفاق على المؤذنين من بيت المال:
كان عثمان ? أول من رزق المؤذنين من بيت المال، قال الإمام الشافعي: (قد أرزق المؤذنين إمام هدى عثمان بن عفان( )، وقد جعل عثمان ? على الأذان جعالة، ولا
يستأجر استئجارا) ( ).
11- تمويل أهداف الإسلام العليا:
يتضح من دراسة النفقات العامة السابقة من بيت المال أنها ساهمت في تمويل الأهداف العليا للدولة الإسلامية، فضلا عن الإنفاق العام على إدارة الدولة ومصالح الرعية، ثم الإنفاق على نشر الإسلام كي تكون كلمة الله هي العليا. وتم تمويل إنشاء أول أسطول بحري للدولة الإسلامية، كما تم تعمير بيوت الله بالإنفاق على إقامة المساجد وتجديدها ورزق المؤذنين، والولاة، والقضاة والجند، وعمال الدولة، كما تم الصرف على رحلات الحج إلى بيت الله الحرام، وكسوة الكعبة وهي قبلة الإسلام والمسلمين، كما أن بيت مال المسلمين قدم أمواله لحفر الآبار ليشرب منها الغادي والرائح من مواطني الدولة الإسلامية، ومن مصادر الدولة، كالزكاة وخمس الغنائم، ثم تمويل شرائح المجتمع الضعيفة في الدولة الإسلامية وهم الفقراء والمساكين واليتا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:25 pm

15- حد القذف بالتعريض:
كان عثمان ? يقيم حد القذف بالتعريض به، فقد قال رجل لآخر: (يا ابن شامة الوذر) -يعرض له بزنا أمه- فاستعدى عليه عثمان بن عفان، فقال الرجل: إنما عنيت كذا وكذا، فأمر به عثمان فجلد الحد؛ أي حد القذف، ولم يلتفت إلى تفسير مراده مما قال.( )
16- عقوبة الزنا:
إذا ثبت الزنا على رجل أو امرأة وكان حُرًّا محصنًا فإنه يعاقب بالرجم بالحجارة حتى الموت، وقد زنت امرأة محصنة في عهد عثمان بن عفان فقضى عثمان برجمها ولم يحضر رجمها( ).
17- التعزير بالنفي والطرد:
بلغ عثمان أن ابن الحبكة النهدي يعالج نيرنجًا -قال محمد بن سلمة: إنما نيرج أخذ كالسحر وليس به- فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك، فإن أقر به فأوجعه، فدعا به فسأله، فقال: إنما هو رفق وأمر يعجب منه، فأمر به فعزر، وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان: إنه قد جد بكم، فعليكم بالجد، وإياكم والْهُزَّال، فكن الناس عليه، وتعجبوا من وقوف عثمان على مثل خبره، فغضب فنفر في الذين نفروا، فضرب معهم، فكتب إلى عثمان فيه، فلما سيَّر إلى الشام من سيَّر، سير كعب بن ذي الحبكة ومالك بن عبد الله -وكان دينه على دينه- إلى دنياوند، فقال في ذلك كعب بن ذي الحبكة للوليد:
لعمري لئن طردتني ما إلى التي
طمعت بها من سقطتي لسبيل

رجوتُ رجوعي يا ابن أروى ورجعتي
إلى الحق دهرًا غال ذلك غُول

وإن اغترابي في البلاد وجفوتي
وشتمي في ذات الإله قليل

وإن دعائي كل يوم وليلة
عليك بدُنيا وندِكُم لطويل( )

18- دفع الناس عن جنازة العباس:
عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: لما أتى بجنازة العباس بن عبد المطلب إلى موضع الجنائز تضايق الناس فتقدموا به إلى البقيع، ولقد رأيتنا يوم صلينا عليه بالبقيع، وما رأيت مثل ذلك الخروج على أحد من الناس قط، وما يستطيع أحد أن يدنو من سريره، وغلب عليه بنو هاشم، فلما انتهوا إلى اللحد ازدحموا عليه، فأرى عثمان اعتزل وبعث الشرطة يضربون الناس عن بني هاشم، حتى خلص بنو هاشم فكانوا هم الذين نزلوا في حفرته ودلوه في اللحد.( ) وهذا يدل على كثرة رجال الشرطة آنذاك، ويعتبر عثمان ? لدى بعض المؤرخين( ) أول من اتخذ صاحب شرطة من الخلفاء، وقد أسند هذه المهمة في المدينة إلى الصحابي الجليل المهاجر ابن قنفذ بن عمير القرشي.( ) وهذا يدل على عنايته بها، وأن صيتها قد ذاع في عهده. وفي الكوفة كان عبد الرحمن الأسدي على شرطة سعيد بن العاص (واليها لعثمان) كما كان نصير بن عبد الرحمن على شرطة معاوية بن أبي سفيان (والي عثمان على الشام) ( ).
وفي الحقيقة لا يعلم خليفة في الإسلام بعد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- يقيم الحدود على القريب والبعيد، والشريف والوضيع، والغني والفقير ولا يبالي، ويعطي كل ما يطلب منه من إصلاح أو حقوق كعثمان ?، وكفاه فخرا أن ينتمي لحكم الخلافة الراشدة( ).
ثانيًا: في العبادات والمعاملات:
1- إتمام عثمان الصلاة بمنى وعرفات:
في حج عام 29هـ صلى عثمان ? بالناس بمنى أربعا، فأتى آتٍ عبدَ الرحمن بن عوف، فقال: هل لك في أخيك قد صلى بالناس أربعا؟ فصلى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين، ثم خرج حتى دخل على عثمان، فقال له: ألم تصلِّ في هذا المكان مع رسول الله × ركعتين؟ قال: بلى، قال: أفلم تصل مع أبي بكر ركعتين؟ قال: بلى، قال: أفلم تصل مع عمر ركعتين؟ قال: بلى، قال: ألم تصل صدرا من خلافتك ركعتين؟ قال: بلى، قال: فاسمع مني يا أبا محمد( )، إني أخبرت أن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، وقد اتخذت بمكة أهلا، فرأيت أن أصلي لخوف ما أخاف على الناس، وأخرى قد اتخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال، فربما أطلعته فأقمت فيه بعد الصدر، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما من هذا شيء لك فيه عذر، أما قولك: اتخذت أهلا، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت وتقدم بها إذا شئت، إنما تسكن بسكناك، وأما قولك: ولي مال بالطائف فإنك بينك وبين الطائف مسيرة ثلاثة ليال وأنت لست من أهل الطائف، وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم، فقد كان رسول الله × ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الإسلام بجرانه، فصلى لهم عمر حتى مات ركعتين، فقال عثمان: هذا رأي رأيته، فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد، غير ما يعلم؟ قال: لا، قال: فما أصنع؟ قال: اعمل بما تعلم، فقال ابن مسعود: الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي أربعا، فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول (يعني تصلي معه أربعا)( ).
إن عثمان صنع ما صنع من إتمام الصلاة في منى وعرفات شفقة على ضعفاء المسلمين أن يفتنوا في دينهم، فقد أبدى لفعله سببا معقولا حينما سأله عبد الرحمن بن عوف عنه وعما دعاه إليه، فلما أطلعه عثمان على وجهة نظره، أخذ عبد الرحمن بقوله وأتم الصلاة بأصحابه، وكذلك صنع عبد الله بن مسعود وغيره من جمهور الصحابة، فتابعوه ولم يخالفوه؛ لأنه إمام راشد تجب متابعته فيما لم يخرج عن حدود الشريعة المطهرة، ولو كان فيما جاء به عثمان أدنى شبهة لمخالفة نص شرعي ما أمكن مطلقا جمهور الصحابة أن يتابعوه.( ) والذي أبداه عثمان في تحاوره مع عبد الرحمن بن عوف واحتج به لرأيه معقول المعنى، ولو تأمل فيه ناظر في أسرار الدين وحكم الشريعة لرأى أن إتمام الصلاة الذي انتهى إليه رأي عثمان أرجح حينئذ من قصرها، وقد حدث من الأمور ما لم يكن على عهد النبي × وأبي بكر وعمر، فخاف عثمان أن يفتن الناس في صلاتهم، ولا سيما جفاة الأعراب في مضاربهم، ومن بعدت بلادهم في أطراف الأرض، وقد لا يتصل بهم من أهل العلم من يعلمهم ويرشدهم، فأراد عثمان بما صنع حسم هذا الشر المخوف على كثير من ضعفاء المسلمين، وقد بالغ عثمان ? في إبعاد الشبهة عن نفسه، فقال: إنه اتخذ بمكة أهلا، وله بالطائف مال ربما نظر إليه وأقام فيه بعد انتهاء الموسم، فيكون حينئذ مقيما ففرضه الإتمام، وذلك منه ? من دقيق النظر في الدين، وفهم أسراره وحكمه.( )
وقد رأى جماعة من الصحابة إتمام الصلاة في السفر، منهم: عائشة، وعثمان وسلمان، وأربعة عشر من أصحاب رسول الله ×.( ) فعثمان ? لم يوجب القصر في السفر، وإنما كان يتجه كما رآه فقهاء المدينة ومالك والشافعي وغيرهما، ثم إنها مسألة اجتهادية، ولذلك اختلف فيها العلماء؛ فقوله فيها لا يوجب تكفيرا ولا تفسيقا.( ) وأما قول ابن مسعود ?: الخلاف شر( ), وفي رواية: إني أكره الخلاف( )، ففيه ترشيد لنا وتذكير على استحباب الخروج من الخلاف في مسائل الاجتهاد، ويحسن بالمسلم أن يستحضرها ويحاول أن يقلل الخوض والجدال في الفروع المختلف فيها( )؛ إذ الظروف المحيطة بنا لا تساعدنا على إضاعة مزيد من الوقت الثمين في الجدل والخلاف عما يجب أن نفعله لمواجهة التحديات الخطيرة( ), كما أن في فعل ابن مسعود وابن عوف -رضي الله عنهما- من الصلاة خلف عثمان بيانا لحرص الصحابة على الاجتماع والوحدة، وهذا خلق عظيم من أخلاق جيل النصر.
2- زاد الأذان الثاني يوم الجمعة:
قال رسول الله ×: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» ( )، وهذه الزيادة من سنة الخلفاء الراشدين، ولا شك أن عثمان من الخلفاء الراشدين ورأى مصلحة أن يزاد هذا الأذان لتنبيه الناس عن قرب وقت صلاة الجمعة بعد أن اتسعت رقعة المدينة، فاجتهد في هذا ووافقه جميع الصحابة، واستمر العمل به لم يخالفه أحد حتى في زمن علي وزمن معاوية وزمني بني أمية وبني العباس إلى يومنا هذا، فهي سنة بإجماع المسلمين.( ) ثم هو له أصل في الشرع، وهو الأذان الأول في الفجر، فقاس عثمان هذا الأذان عليه.( ) لقد سن عثمان ذلك أخذا من سنة الرسول × وأذانه الذي شرعه في الفجر قبل دخول الوقت لينبه النائم ويستعد اليقظان ومريد الصيام، فهو مستن بسنة الرسول × وآخذ من طريقته، وقد اختلف أهل العلم: هل أوقعه قبيل دخول الوقت كما هو الحال في الأذان الأول من الفجر أم أوقعه في الوقت؟ ويميل الحافظ إلى أن وقوعه كان إعلاما بالوقت، قال في فتح الباري: وتبين أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها، وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله، وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها والذكر والصلاة على النبي × فهو في بعض البلاد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى.( ) وأما الذين قالوا: إنه أحدث قبيل دخول الوقت، قالوا: لأن الغرض منه الإعلام بالجمعة والسعي إليها على غرار الأذان الأول في الفجر، فلو كان بعد دخول الوقت لما أدى المعنى المطلوب إلا بتأخير الجمعة بعض الشيء وهو خلاف السنة، وبه يُستغنى عما أحدثه في التذكير والذكر وغيرهما مما أشار إليه الحافظ ولم ينكره إلا بقوله: (واتباع السلف الصالح أولى) ( ).
3- اغتساله كل يوم منذ أسلم:
كان عثمان بن عفان يغتسل كل يوم منذ أسلم( )، وقد صلى ذات يوم الصبح بالناس وهو جنب دون أن يدري، فلما أصبح رأى في ثوبه احتلاما، فقال: كبرت والله إني لأراني أجنب ولا أعلم، ثم أعاد الصلاة( ) ولم يعد من صلى خلفه( ).
4- سجود التلاوة:
كان عثمان بن عفان ? يرى أن سجود التلاوة يجب على المكلف التالي للقرآن, وعلى الجالس لسماع القرآن، أما من سمعه من غير قصد فليس عليه سجود التلاوة، فقد مر ? بقاص فقرأ القاص سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنما السجود على من استمع ثم مضى ولم يسجد.( ) وقوله: على من استمع: يعني على من قصد السماع. وقال ?: إنما السجدة على من جلس لها( )، وروى عن عثمان أن الحائض إذا استمعت السجدة تومئ بها إيماء ولا تتركها، ولا تسجد لها سجود الصلاة( ).
5- صلاة الجمعة في السواحل:
قال الليث بن سعد: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما وفيهما رجال من الصحابة( ).
6- استراحة عثمان في الخطبة:
عن قتادة أن النبي × وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة حتى شق القيام على عثمان فكان يخطب قائما ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالسا والأخرى قائما( ).
7- جعل القنوت قبل الركوع:
قال أنس: إن أول من جعل القنوت قبل الركوع -أي دائما- عثمان؛ لكي يدرك الناس الركعة( ).
8- أعلم الناس بأحكام الحج:
يقول محمد بن سيرين: كانوا يرون أن أعلم الناس بالمناسك عثمان بن عفان، ثم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما( ).
9- النهي عن الإحرام قبل الميقات:
لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: إن هذا نصر من الله لا بد لي من أن أشكره عليه، ولأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا - خراسان- محرما، فأحرم من نيسابور وخلف على خراسان الأحنف بن قيس، فلما قضى عمرته أتى عثمان، وذلك في السنة التي قتل فيها، فقال له عثمان: لقد غررت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور( ).
10- سفر المعتدة للحج والعمرة:
المعروف أن المعتدة لا تبيت إلا في بيتها، ولا تسافر إلا بعد انتهاء عدتها؛ لأن سفرها يقتضي مبيتها في غير بيتها، والحج لا يخلو من سفر، ولذلك فإن عثمان كان يرى أن المعتدة لا يلزمها الحج ما دامت في العدة، و كان ? يرجع المعتدة حاجة أو معتمرة من الجحفة وذي الحليفة( ).
11- النهي عن متعة الحج:
نهى عثمان ? المتعة أو الجمع بينهما ليعمل بالأفضل لا ليبطل المتعة، ولا يخفى على عثمان ومن دونه أن من أراد الإحرام فهو مخير بين الإفراد والقران والتمتع، ولكنه ? رأى الإفراد أفضل من الاثنين، فعن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا -رضي الله عنهما- وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى عليٌّ ذلك أهلَّ بهما وقال: لبيك بعمرة وحجة، وقال: ما كنت لأدع سنة النبي × لقول أحد.( ) ولم ينكر عثمان على علي ذلك منه؛ لأن عليا ? يخشى أن يحمل غيره النهي على الإبطال والتحريم، وإنما قال: ما كنت لأدع سنة رسول الله × لقول أحد، ليظهر جواز ذلك وأنها سنة ماضية، وكلاهما مجتهد مأجور.( )
وفي الحديث من الفوائد الظاهرة: مناظرة العلماء ولاة الأمر بقصد إشاعة العلم ومناصحة المسلمين، وسعة صدر الولاة لاجتهاد العلماء في المسائل التي يتسع معها الاجتهاد، وأن المجتهد لا يجبر مجتهدا آخر باتباعه لسكوت عثمان عن علي، وفيه أن العلم يسبق القول والعمل( ).
12- أكل لحم الصيد:
لا يجوز للمحرم أن يأكل من الصيد الذي صاده هو، أو صاده غيره من الحلال( ), فعن عبد الرحمن بن حاطب أنه اعتمر مع عثمان بن عفان في ركب، فلما كان بالروحاء قدم لهم لحم طير (يعاقيب)، فقال عثمان: كلوا، وكره أن يأكل منه، فقال عمرو بن العاص: أنأكل مما لست منه آكلا؟ قال عثمان: لست في ذلكم مثلكم، إنما صيدت لي، وأميتت باسمي، أو قال: من أجلي.( ) وقد تكرر ذلك من عثمان مرة أخرى، كما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان بن عفان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أُتى بلحم صيد فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: ألا تأكل أنت؟ قال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي( ).
13- كراهية الجمع بين القرابة في الزواج:
أخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه، عن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضغائن( ).
14- في الرضاعة:
روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال: فرق عثمان بين ناس تناكحوا بقول امرأة سوداء أرضعتهم( ).
15- في الخلع:
عن الرُبيع بنت معوذ قالت: كان بيني وبين ابن عمي كلام -وكان زوجها- قالت: فقلت له: لك كل شيء وفارقني، قال: قد فعلت، فأخذ والله كل شيء حتى فراشي، فجئت عثمان وهو محصور فقال: الشرط أملك، خذ كل شيء حتى عقاص رأسها.( ) وفي رواية: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي، فأجاز ذلك عثمان( ).
16- يجب الإحداد على المعتدة لوفاة زوجها:
ومن الإحداد ترك الزينة، وترك المبيت في غير البيت الذي توفى فيه زوجها إلا لضرورة، ويجوز لها أن تخرج نهارا لقضاء حاجتها، ولكنها لا تبيت في المساء إلا في بيتها( )؛ فعن فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله، فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعيد له، فقتلوه بطرف القدوم، فسألت رسول الله أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله ×: نعم، قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله أو أمر بي فنوديت، فقال: (كيف قلت؟) فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت: فلما كان عثمان ابن عفان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك؟ فأخبرته، فاتبعه وقضى به.( ) ولذلك كان عثمان يتشدد في أمر مبيت المرأة المعتدة خارج بيتها، فقد حدث أن امرأة توفي عنها زوجها زارت أهلها في عدتها، فضربها الطلق فأتوا عثمان فسألوه فقال: احملوها إلى بيتها وهي تطلق( ).
17- لا تنكحها إلا نكاح رغبة:
جاء رجل إلى عثمان في خلافته وقد ركب، فسأله فقال: إن لي إليك حاجة يا أمير المؤمنين، فقال له عثمان: إني الآن مستعجل، فإن أردت أن تركب خلفي حتى تقضي حاجتك، فركب خلفه، فقال: إن لي جارا طلق امرأته في غضبه، ولقي شدة، فأردت أن أحتسب بنفسي ومالي فأتزوجها ثم ابتني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول، فقال له عثمان: لا تنكحها إلا نكاح رغبة( ).
18- طلاق السكران:
كان عثمان بن عفان ? يرى أن كل ما يتكلم به السكران فهو هدر، فلا تصح عقوده، ولا فسوخه، ولا إقراره، ولا يقع طلاقه؛ لأنه لا يعي ما يقول ولا يريد ما يقول، ولا إلزام لغير إرادة.( ) قال عثمان ?: ليس لسكران ولا مجنون طلاق( ).
19- هبة الوالد لولده:
إذا نحل الأب ولده نحلة، كان عليه أن يشهد على هذه الهبة، فإذا أشهد عليها اعتبر هذا الإشهاد قبضا لها، وصح أن تبقى بعد ذلك في يد الأب، فقد ورد عن عثمان بن عفان ? قوله: من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يجوز نحلة، فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي جائزة وإن وليها أبوه( )، وأما إذا لم يشهد ولم يسلمها للولد فهي هبة غير لازمة. قال عثمان ?: ما بال أقوام يعطي أحدهم ولده العطية، فإن مات ولده قال: مالي وفي يدي، وإن مات هو قال: وهبته، لا يثبت من الهبة إلا ما حازه الولد من مال أبيه( ).
20- الحجر على السفيه:
كان عثمان بن عفان ? يرى الحجر على السفيه؛ فقد حدث أن اشترى عبد الله بن جعفر أرضا بمبلغ ستين ألف دينار، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب، فقرر على أن الأرض لا تساوي هذا المبلغ من المال، وأن عبد الله بن جعفر قد غُبِن فيها غبنًا فاحشا، بل إنه قد تصرف تصرفا أخرق، وأعرب أنه سيتوجه نحو أمير المؤمنين عثمان بن عفان ليطلب منه الحجر على عبد الله بن جعفر لسفهه وإساءته التصرف في ماله، فأسرع عبد الله بن جعفر إلى الزبير -وكان تاجرا حاذقا- وقال له: إني ابتعت بيعا بكذا وكذا، وإن عليا يريد أن يأتي عثمان فيسأله أن يحجر عليَّ، فقال له الزبير: فأنا شريكك في البيع، وأتى عليَّ عثمان بن عفان فقال له: إن ابن أخي اشترى سبخة بستين ألفا ما يسرني أنها لي بنعلي، فاحجر عليه، وقال الزبير لعثمان: أنا شريكه في هذا البيع، فقال عثمان بن عفان لعلي بن أبي طالب: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير؟( )يعني: إننا لا نستطيع أن نحكم على جعفر
بالسفه لتصرف تصرَّفه شريكه فيه الزبير؛ لأن الزبير لا يمكن أن يشارك في تصرف تجاري أخرق لحذقه بالتجارة( ).
21- الحجر على المفلس:
كان عثمان بن عفان ? يرى الحجر على المفلس، وإذا حجر على مفلس اقتسم الدائنون ماله بنسبة ديونهم، لكن إن وجد بعض دائنيه سلعته التي باعه إياها بعينها عنده، جاز له أن يفسخ البيع ويأخذ سلعته( ), فهو أحق بها من غيره( ).
22- تحريم الاحتكار:
كان عثمان بن عفان ? يمنع الاحتكار وينهى عنه( )، ويظهر أن عثمان بن عفان كان كسلفه عمر بن الخطاب لا يفرق في تحريم الاحتكار بين الطعام وغيره؛ لأن نهيه عن الاحتكار كان عاما، خاصة أن ما ورد عن رسول الله في تحريم الاحتكار منه ما هو مطلق في كل شيء، ومنه ما هو مقيد عند الجمهور لعدم التعارض بينهما، بل يبقى المطلق على إطلاقه( ).
23- ضوال الإبل:
روى مالك أنه سمع ابن شهاب يقول: كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب إبلا مرسلة تناتج لا يمسها أحد، حتى إذا كان زمن عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها.( ) وقد كان فعل عمر تبعا لحديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني ? قال: جاء أعرابي النبيَّ × فسأله عما يلتقطه، فقال: أعرف عفاصها ووكاءها( ), ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، قال: فضالة الغنم يا رسول الله؟ قال: هي لك، أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل؟ قال: ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها( ).
وقد رأى الأستاذ الحجوي أن هذا الاجتهاد من عثمان بن عفان ? مبني على المصلحة المرسلة؛ أنه رأى الناس مدوا أيديهم إلى ضوال الإبل، فجعل راعيا يجمعها، ثم تباع قياما بالمصلحة العامة.( ) غير أن الأستاذ عبد السلام السليماني، رد على هذا القول بقوله: غير أنه من الصعب التسليم بمقالة الأستاذ الحجوي على إطلاقها؛ لأن المصلحة المرسلة هي التي لم ينص الشارع لا على اعتبارها ولا على إلغائها، في حين أن النبي × قد نص على حكم ضوال الإبل في الحديث المذكور أعلاه، فهي إذن مصلحة معتبرة نص عليها النبي بنفسه، فلا يصح أن يقال إن ما فعله عثمان من بيع ضوال الإبل يعد مصلحة مرسلة، فالمصلحة المرسلة لا تكون في مقابلة النص.
والذي يظهر لنا أن اجتهاد عثمان في هذه القضية بني على المصلحة العامة فعلا لكنها ليست مصلحة مرسلة، وأن هذه القضية من القضايا القابلة للاجتهاد، والتي يمكن أن يتغير حكمها بتغير الأزمنة والأحوال, وبالنظر إلى ما يحقق مصلحة أصحاب ضوال الإبل؛ لأن علة الحكم فيها على ما يظهر، هي المحافظة على هذه الإبل إما بأعيانها أو في شكل ثمنها وكلا الأمرين مصلحة، ولا شك أن سيدنا عثمان بصنيعه هذا كان هدفه تحقق المصلحة العامة؛ لأنه رأى أن ترك الإبل على حالها -كما كان الأمر في عهد النبي × وإلى زمن عمر- يعرضها للضياع، بعد أن تغيرت أخلاق الناس، وأصبحوا يمدون أيديهم لضوال الإبل، فرأى أن يقطع الطريق عليهم بما فعل، وهو اجتهاد سليم وحكم سديد بلا ريب( ).
24- توريث المرأة المطلقة في مرض الموت:
طلق عبد الرحمن بن عوف زوجته وهو مريض فورَّثها عثمان منه بعد انقضاء مدة عدتها، وقد روى أن شريحا كتب إلى عمر بن الخطاب في رجل طلق امرأته ثلاثا وهو مريض, فأجاب عمر: أن ورِّثها ما دامت في عدتها، فإن انقضت عدتها فلا ميراث لها. فبعد أن اتفقا على أن طلاق المريض مرض الموت لا يزيل الزوجية كسبب موجب للإرث، جعل عمر حدا لذلك وهو العدة، بينما لم يجعل عثمان حدا لذلك، وقال: ترث مطلقها سواء مات في العدة أو بعدها، وليس في المسألة نص يرجع إليه، والباعث على الحكم هو معاملة الزوج بنقيض قصده؛ لأن الزوج بطلاقه في مرض الموت يعتبر فارا من توريث زوجته( ).
25- توريث المطلقة ما لم تنقضِ عدتها:
قال عثمان بن عفان: إذا مات أحد الزوجين قبل الحيضة الثالثة للمطلقة ورث الحي منهما الميت( ), ولا يمنع التوارث بينهما طوال فترة العدة، كما إذا حاضت المعتدة حيضة أو حيضتين ثم ارتفعت حيضتها؛ فقد طلق حبان بن منقذ امرأته وهو صحيح، وهي ترضع ابنته، فمكثت سبعة عشر شهرا لا تحيض، يمنعها الرضاع أن تحيض، ثم مرض حبان بعد أن طلقها سبعة أشهر أو ثمانية، فقيل له: إن امرأتك ترث، فقال: احملوني إلى عثمان، فحملوه إليه، فذكر له شأن امرأته، وعنده علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت، فقال لهما عثمان: ما تريان؟ فقالا: نرى أنها ترثه إن مات، ويرثها إن ماتت، فإنها ليست من القواعد من النساء اللائي يئسن من المحيض، وليست من الأبكار اللائي لم يحضن، ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل أو كثير، فرجع حبان إلى أهله فأخذ ابنته، فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة، ثم حاضت أخرى، ثم توفي حبان قبل أن تحيض الثالثة، فاعتدت عدة الوفاة وورثت زوجها حبان بن منقذ( ).
26- توريث الحميل:
إذا سبيت امرأة من الكفار ومعها طفل تحمله مدعية أنه ولدها، وهو ما يسمى بـ (الحميل)، فإنها لا تصدق بدعواها، ولا يجري التوارث بينها وبينه إلا إذا أقامت البينة على أنه ابنها. وقد استشار عثمان في ذلك أصحاب رسول الله × فأبدى كل منهما رأيه, وقال عثمان آنئذ: ما نرى أن نورث مال الله إلا بالبينات، وقال: لا يورث الحميل إلا ببينة( ).
هذه بعض اجتهادات ذي النورين أثرت في المؤسسة القضائية في مجال القصاص والحدود والجنايات والتعزير، كما أنه ساهم في تطوير المدارس الفقهية الإسلامية باجتهاداته الدالة على سعة اطلاعه، وغزارة علمه وعمق فهمه واستيعابه لمقاصد الشريعة الغراء، فهو خليفة راشد، أعماله تسترشد بها الأمة في مسيرتها الطويلة لنصرة دين الله تعالى وإعزازه.
* * *

الفصل الرابع
الفتوحات في عهد عثمان بن عفان ?
تمهيد:
شجع خبر مقتل عمر بن الخطاب ? أعداء الإسلام وخصوصا في بلاد الفرس والروم إلى الطمع في استرداد ملكهم، فبدأ يزدجر ملك الفرس يخطط في العاصمة التي يقيم فيها وهي مدينة (فرغنة) عاصمة سمرقند، وأما زعماء الروم فقد تركوا بلاد الشام وانتقلوا إلى القسطنطينية العاصمة البيزنطية، وبدأوا في عهد عثمان في البحث عن الوسائل التي تمكنهم من استرداد ملكهم. وكانت بقايا جيوش الروم في مصر وقد تحصنوا بالإسكندرية في عهد عمر بن الخطاب، فطلب عمرو بن العاص منه أن يأذن بفتحها، وكانت معززة بتحصينات كثيرة وكانت المجانيق فوق أسوارها، وكان هرقل قد عزم أن يباشر القتال بنفسه ولا يتخلف أحد من الروم؛ لأن الإسكندرية هي معقلهم الأخير.( ) وفي عصر عثمان تجمع الروم في الإسكندرية وبدأوا يبحثون عن وسيلة لاسترداد ملكهم فيها، حتى وصل بهم الأمر إلى نقض الصلح واستعانوا بقوة الروم البحرية( )، فأمدوهم بثلاثمائة سفينة بحرية تحمل الرجال والسلاح. ولقد واجه عثمان ذلك كله بسياسة تتسم بالحسم والعزم وتمثلت في الخطة الآتية:
1- إخضاع المتمردين من الفرس والروم وإعادة سلطان الإسلام إلى هذه البلاد.
2- استمرار الجهاد والفتوحات فيما وراء هذه البلاد؛ لقطع المدد عنهم.
3- إقامة قواعد ثابتة يرابط فيها المسلمون لحماية البلاد الإسلامية.
4- إنشاء قوة بحرية عسكرية لافتقار الجيش الإسلامي إلى ذلك( ).
كانت معسكرات الإسلام ومسالحه في عهد عثمان هي عواصم أقطاره الكبرى، فمعسكر العراق الكوفة والبصرة، ومعسكر الشام في دمشق بعد أن خلص الشام كله لمعاوية بن أبي سفيان ومعسكر مصر، وكان مركزه الفسطاط، وكانت هذه المعسكرات تقوم بحماية دولة الإسلام ومواصلة الفتوحات، ونشر الإسلام( ).

المبحث الأول
فتوحات عثمان في المشرق
أولاً: فتوحات أهل الكوفة: أذربيجان 24 هـ:
كانت مغازي أهل الكوفة الري وأذربيحان، وكان يرابط بها عشرة آلاف مقاتل؛ ستة آلاف بأذربيجان، وأربعة آلاف بالري، وكان جيش الكوفة العامل أربعين ألف مقاتل، يغزو كل عام منهم عشرة آلاف، فيصيب الرجل غزوة كل أربعة أعوام. ولما أخلص عثمان ? الكوفة للوليد ابن عقبة انتفض أهل أذربيجان، فمنعوا ما كانوا قد صالحوا عليه حذيفة بن اليمان أيام عمر، وثاروا على واليهم عقبة بن فرقد، فأمر عثمان الوليد أن يغزوهم، فجهز لهم قائده سليمان بن ربيعة الباهلي، وبعثه مقدمة أمامه في طائفة من الجند، ثم سار الوليد بعده في جماعة من الناس، فأسرع إليه أهل أذربيجان طالبين الصلح على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة، فأجابهم الوليد وأخذ طاعتهم، وبث فيمن حولهم السرايا وشن عليهم الغارات، فبعث عبد الله بن شبيل الأحمسي في أربعة آلاف إلى أهل موقان والببر الطيلسان، فأصاب من أموالهم وغنم وسبي، ولكنهم تحرزوا منه فلم يفلّ حدَّهم، ثم جهز سليمان الباهلي في اثني عشر ألفا إلى أرمينية فأخضعها وعاد منها مليء اليدين بالغنائم، وانصرف الوليد بعد ذلك عائدا إلى الكوفة.( )
ولكن أهل أذربيجان تمردوا أكثر من مرة، فكتب الأشعث بن قيس والي أذربيجان إلى الوليد بن عقبة فأمده بجيش من أهل الكوفة، وتتبع الأشعث الثائرين وهزمهم هزيمة منكرة، فطلبوا الصلح فصالحهم على صلحهم الأول، وخاف الأشعث أن يعيدوا الكَرَّة فوضع حامية من العرب وجعل لهم عطايا وسجلهم في الديوان، وأمرهم بدعوة الناس إلى الإسلام. ولما تولى أمرهم سعيد بن العاص عاد أهل أذربيجان وتمردوا على الوالي الجديد، فبعث إليه جرير بن عبد الله البجلي فهزمهم وقتل رئيسهم، ثم استقرت الأمور بعد أن أسلم أكثر شعبها وتعلموا القرآن الكريم. وأما الري فقد صدر أمر الخليفة عثمان إلى أبي موسى الأشعري وفي وقت ولايته على الكوفة، وأمره بتوجيه جيش إليها لتمردها، فأرسل إليها قريظة بن كعب الأنصاري فأعاد فتحها( ).
ثانيًا: مشاركة أهل الكوفة في إحباط تحركات الروم:
عندما انتهى الوليد بن عقبة من مهمته في أذربيجان وعاد إلى الموصل جاءه أمر من الخليفة عثمان نصه: (أما بعد، فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني أن الروم قد أجلبت( ) على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي( )، والسلام). فقام الوليد في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاء حسنا، ورد عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلادا لم تكن افتتحت، وردهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين. وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة آلاف إلى الثمانية آلاف، تمدون إخوانكم من أهل الشام، فإنهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم والفضل المبين. فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلي، فانتدب الناس، فلم يمضِ ثالثة حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فمضوا حتى دخلوا وأهل الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهري، وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهلي، فشنوا الغارات على أرض الروم، فأصاب الناس ما شاءوا من سبي، وملأوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصونا كثيرة.( ) وفي جهاد الوليد وغزوه يقول بعض الرواة: رأيت الشعبي جلس إلى محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة، فذكر محمد غزوة مسلمة بن عبد الملك، فقال الشعبي: كيف لو أدركتم الوليد وغزوه وإمارته؟ إن كان ليغزو فينتهي إلى كذا وكذا ما قصر ولا انتقض عليه أحد حتى عزل من عمله( ).
ثالثـًا: غزوة سعيد بن العاص طبرستان 30 هـ:
غزا سعيد بن العاص من الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله ×، ومعه الحسن والحسين, وعبد الله بن عباس, وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وخرج عبد الله بن عامر من البصرة يريد خراسان، فسبق سعيدا ونزل أبرشهر، وبلغ نزوله أبرشهر سعيدا، فنزل سعيد قوميس، وهي صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند، فأتى جرجان فصالحوه على مائتي ألف، ثم أتى طميسة، وهي كلها من طبرستان جرجان، وهي مدينة على ساحل البحر، وهي في تخوم جرجان، فقاتله أهلها حتى صلى صلاة الخوف، فقال لحذيفة: كيف صلى رسول الله ×؟ فأخبره فصلى بها سعيد صلاة الخوف وهم يقتتلون، وضرب يومئذ سعيد رجلا من المشركين على حبل عاتقه، فخرج السيف من تحت مرفقه، وحاصرهم, فسألوا الأمان فأعطاهم على ألا يقتل منهم رجلا واحدا، ففتحوا الحصن، فقتلهم جميعا إلا رجلا واحدا، وحوى ما كان في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطا عليه قفل، فظن فيه جواهر، وبلغ سعيدا، فبعث إلى النهدي فأتاه بالسفط فكسروا قفله، فوجدوا فيه سفطا ففتحوه فإذا فيه خرقة صفراء وفيها أيران: كميت وورد.( ) وعندما قفل سعيد إلى الكوفة، مدحه كعب بن جعبل فقال:
فنعم الفتى إذا جال جيلان دونه
وإذا هبطوا من دستبي ثم أبهرا

تعلم سعيد الخير أن مطيتي
إذا هبطت أشفقت مِنْ أن تُعْقرا

كأنك يوم الشعب لَيْث خفَّية
تحرَّدَ من ليث العرين وأصْحَرَا

تسوس الذي ما ساس قبلك واحد
ثمانين ألفا دارعين وحُسَّرا( )

رابعًا: هروب ملك الفرس (يزدجرد) إلى خراسان:
قدم ابن عامر البصرة ثم خرج إلى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من وجوز -وهي أردشير خرة- في سنة ثلاثين، فوجه ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود السلمي، فاتبعه إلى كرمان، فنزل مجاشع السيرجان بالعسكر, وهرب يزدجرد إلى خراسان( ).
خامسًا: مقتل يزدجرد ملك الفرس 31 هـ:
اختلف في سبب ذكر قتله كيف كان، قال ابن إسحاق: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل من بعض أهلها مالا فمنعوه وخافوه على أنفسهم، فبعثوا إلى الترك يستفزونهم عليه، فأتوه فقتلوا أصحابه، وهرب هو حتى أتى منزل رجل ينقر الأرحاء( ) على شط المرغاب( ) فأوى إليه ليلا، فلما نام قتله.( ) وجاء في رواية عند الطبري: بل سار يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إياها، فأخذ على طريق الطبسين وقهمستان، حتى شارف مرو في زهاء أربعة آلاف رجل، ليجمع من أهل خراسان جموعا، ويكر إلى العرب ويقاتلهم، فتلقاه قائدان متباغضان متحاسدان كانا بمرو، يقال لأحدهما براز والآخر سنجان، ومنحاه الطاعة، وأقام بمرو، وخص براز فحسده ذلك سنجان، وجعل براز يبغي سنجان الغوائل، ويوغل صدر يزدجرد عليه، وسعى سنجان حتى عزم على قتله، وأفشى ما كان عزم عليه من ذلك إلى امرأة من نسائه كان براز واطأها، فأرسلت إلى براز بنسوة زعمت بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا ما كان عزم عليه يزدجرد من ذلك، فنذر( ) سنجان وأخذ حذره، وجمع جمعا كنحو أصحاب براز، ومن كان مع يزدجرد من الجند، وتوجه نحو القصر الذي كان يزدجرد نازله، وبلغ ذلك براز، فنكص عن سنجان لكثرة جموعه، ورعب جمع سنجان يزدجرد وأخافه، فخرج من قصره متنكرا، ومضى على وجهه راجلا لينجو بنفسه، فمشى نحو من فرسخين حتى وقع إلى رحا فدخل بيت الرحا فجلس فيه كالا( ) لغبا( )، فرآه صاحب الرحا ذات هيئة وطرة وبرزة كريمة، ففرش له، فجلس وأتاه بطعام فطعم، ومكث عنده يوما وليلة، فسأله صاحب الرحا أن يأمل له بشيء فبذل له منطقه مكللة بجوهر كانت عليه، فأبى صاحب الرحا أن يقبلها، وقال: إنما كان يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم كنت أطعم بها وأشرب، فأخبره أنه لا ورق معه، فتملقه صاحب الرحا حتى إذا غفا قام إليه بفأس له فضرب بها هامته فقتله، واحتز رأسه وأخذ ما كان عليه من ثياب ومنطقه, وألقى جيفته في النهر الذي كان تدور بمائه رحاه وبقر بطنه، وأدخل فيه أصولا من أصول طرفاء( ) كانت نابتة في ذلك النهر لتجس جثته في الموضع الذي ألقاه فيه، فلا يسفل فيعرف ويطلب قاتله، وما أخذ من سلبه, وهرب على وجهه.( ) وجاء في رواية: وجاءت الترك في طلبه فوجدوه قد قتله وأخذ حاصله، فقتلوا ذلك الرجل وأهل بيته، وأخذوا ما كان مع كسرى، ووضعوا كسرى في تابوت وحملوه
إلى اصطخر( ).
وقد ذكر الطبري حديثين مطولين، وأحدهما أطول من الآخر يتضمن ضروبا من الاضطرابات تقلب فيها، وأنواعا من الدوائر دارت عليه حتى كانت منيته آخرها.( ) وقد قال يزدجرد لمن أراد قتله في بعض الروايات ألا يقتلوه وقال لهم: ويحكم، إنا نجد في كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا، مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني وائتوا بي إلى الدهقان، أو سرحوني إلى العرب فإنهم يستحيون مثلي من الملوك.( ) وكان مُلْك يزدجرد عشرين سنة منها أربعة سنين في دعة، وباقي ذلك هاربا من بلد إلى آخر، خوفا من الإسلام وأهله، وهو آخر ملوك الفرس في الدنيا على الإطلاق.( ) فسبحان ذي العظمة والملكوت، الملك الحق الحي الدائم الذي لا يموت، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون.( ) وقد قال رسول الله × في ملوك الفرس والروم: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله». ( )
سادسًا: تعاطف النصارى مع يزدجرد بعد مقتله:
بلغ قتل يزدجرد رجلا من أهل الأهواز كان مطرانا على مرو يقال له إيلياء، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إن ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن كسرى، وإنما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتها من غير وجه، ولهذا الملك عنصر في النصرانية مع ما نال النصارى في ملك جده كسرى من الشرف. وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه من الخير، حتى بنى لهم بعض البِيَع، وسدد لهم بعض ملتهم، فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان إسلافه وجدته شيرين إلى النصارى، وقد رأيت أن أبني له ناووسا( ), وأحمل جثته في كرامة حتى أواريها فيه، فقال النصارى: أمرنا لأمرك أيها المطران تبع، ونحن لك على رأيك هذا مواطئون، فأمر المطران فبنى في جوف بستان المطارنة بمرو ناووسا، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثة يزدجرد من النهر وكفنها، وجعلها في تابوت، وحمله من كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الذي أمر ببنائه له وواروه فيه، وردموا بابه( ).
سابعًا: فتوحات عبد الله بن عامر 31 هـ:
في هذه السنة 31 هـ شخص عبد الله بن عامر إلى خراسان ففتح أبرشهر وطوس وبيورد ونسا حتى بلغ سرخس، وصالح فيها أهل مرو. وقد جاء في رواية عن السكن بن قتادة العُريني قال: فتح ابن عامر فارس ورجع إلى البصرة، واستعمل على إصطخر شريك بن الأعور الحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر، فدخل على ابن عامر رجل من بني تميم كنا نقول: إنه الأحنف -ويقال: أوس بن جابر الجشمي جُشَم تميم- فقال له: إن عدوك منك هارب، وهو لك هائب، والبلاد واسعة، فسِرْ فإن الله ناصرك ومعز دينه، فتجهز ابن عامر، وأمر الناس بالجهاز للمسير، واستخلف على البصرة زيادا، وسار إلى كرمان، ثم أخذ إلى خراسان؛ فقوم يقولون: أخذ طريق أصبهان، ثم سار إلى خراسان، واستعمل على كرمان مجاشع بن مسعود السلمي، وأخذ ابن عامر على مفازة وابَر، وهي ثمانون فرسخا، ثم سار إلى الطَّبَسين يريد أبرشهر، وهي مدينة نيسابور، وعلى مقدمته الأحنف بن قيس، فأخذ إلى قُهستان، وخرج إلى أبرشهر فلقيه الهباطلة، وهم أهل هراة، فقاتلهم الأحنف فهزمهم، ثم أتى ابن عامر نيسابور.( )
وجاء في رواية: نزل ابن عامر على أبرشهر فغلب على نصفها عنوة، وكان النصف الآخر في يد كناري، ونصف نساوطوس، فلم يقدر ابن عامر أن يجوز إلى مرو، فصالح كنارى، فأعطاه ابنه أبا الصلت ابن كنارى وابن أخيه سليمًا رهنًا. ووجه عبد الله بن خازم إلى هراة، وحاتم بن النعمان إلى مرو، وأخذ ابن عامر ابني كنارى، فصار إلى النعمان بن الأفقم النصري فأعتقهما( )، وفتح ابن عامر ما حول مدينة أبرشهر، كطوس وبيورد، ونسا وحمران، حتى انتهى إلى سرخس، وسرح ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي -عدى الرباب- إلى ببهق وهو من أبرشهر، بينهما وبين أبرشهر ستة عشر فرسخا، ففتحها وقتل الأسود بن كلثوم، وكان فاضلا في دينه، وكان من أصحاب عامر بن عبد الله العنبري. وكان عامر يقول بعدما أخرج من البصرة: ما آسى من العراق على شيء إلا على ظماء الهواجر، وتجاوب المؤذنين، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم.( ) واستطاع ابن عامر أن يتغلب على نيسابور، وخرج إلى سرخس، فأرسل إلى أهل مرو يطلب الصلح، فبعث إليهم ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي، فصالح براز مرزبان مرو على ألفي ألف ومائتي ألف( ).
ثامنًا: غزوة الباب وبلنجر سنة 32هـ:
كتب عثمان بن عفان ? إلى سعيد بن العاص: أن اغزُ سلمان الباب، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة وهو على الباب: أن الرعية قد أبطر كثيرا منهم البطنة، فقصر، ولا تقتحم بالمسلمين، فإني خاشٍ أن يبتلوا، فلم يزجر ذلك عبد الرحمن عن غايته، وكان لا يقصر عن بلنجر، فغزا سنة تسع من إمارة عثمان حتى إذا بلغ بلنجر حصروها ونصبوا عليها المجانيق والعرادات( )، فجعل لا يدنو منها أحد إلا أعنتوه أو قتلوه، فأسرعوا في الناس( )، ثم إن الترك اتعدوا يوما فخرج أهل بلنجر، وتوافت إليهم الترك فاقتتلوا، فأصيب عبد الرحمن بن ربيعة (وكان يقال له ذو النورين)، وانهزم المسلمون فتفرقوا، فأما من أخذ طريق سلمان بن ربيعة فحماه حتى خرج من الباب، وأما من أخذ طريق الخزر وبلادها فإنه خرج على جيلان وجرجان وفيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وأخذ القوم جسد عبد الرحمن فجعلوه في سفط فبقى في أيديهم، فهم يستسقون به إلى اليوم ويستنصرون به.( )
1- مقتل يزيد بن معاوية: غزا أهل الكوفة بلنجر سنين من إمارة عثمان لم تَئِم( ) فيهن امرأة، ولم ييتم فيهن صبي من قتل، حتى كان سنة تسع من خلافة عثمان قبل المزاحفة بيومين رأى يزيد بن معاوية أن غزالا جيء به إلى خبائه لم يرَ غزالا أحسن منه حتى لف في ملحفته، ثم أتى به قبر عليه أربعة نفر لم يرقبوا أشد استواء منه ولا أحسن منه حتى دفن فيه، فلما تفادى الناس على الترك رمى يزيد بحجر، فهشم رأسه، فكأنما زين ثوبه بالدماء زينة، وليس بتلطخ، فكان ذلك الغزال الذي رأى.( ) وكان يزيد رقيقا جميلا رحمه الله، وبلغ ذلك عثمان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، انتكث أهل الكوفة، اللهم تب عليهم وأقبل بهم.( )
2- ما أحسن حمرة الدماء في بياضك: كان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه أبيض: ما أحسن حمرة الدماء في بياضك، فأصيب عند الالتحام مع العدو بجراحة، فرأى قباءه كما اشتهى وقتل.( )
3- ما أحسن لمع الدماء على الثياب: كان القرشع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب، فلما كان يوم المزاحفة قاتل القرشع حتى خُرِّق بالحراب، فكأنما كان قباؤه ثوبا أرضه بيضاء ووشيه أحمر، وما زال الناس ثبوتا حتى أصيب، وكانت هزيمة الناس مع مقتله( ).
4- إن هؤلاء يموتون كما تموتون: كان الترك في تلك المعركة قد اختفوا في الغياض( )، وكانوا قد خافوا المسلمين واعتقدوا أن السلاح لا يعمل فيهم، واتفق أن تركيًا اختفى في غيضة ورشق مسلمًا بسهم فقتله، فنادى في قومه إن هؤلاء يموتون، فلم تخافوهم؟ فاجترأ الترك على المسلمين وخرجوا عليهم من مكانهم وأوقعوا بهم، واشتد القتال فثبت عبد الرحمن حتى استشهد.( )
5- صبرًا آل سلمان: جاء في رواية أخرى: حين استشهد عبد الرحمن، أخذ الراية أخوه سلمان بن ربيعة الباهلي وقاتل بها، ونادى مناد: (صبرا آل سلمان)، فقال سلمان: أو ترى جزعا، وخرج سلمان ومعه أبو هريرة الدوسي على جيلان( ) فقطعوها إلى جرجان( ) منسحبا من معركة خاسرة( ), بعد أن دفن أخاه عبد الرحمن بنواحي بلنجر( )، وبهذا الانسحاب أنقذ سلمان بقية باقية من جيش أخيه( ).
وقد رجح هذه الرواية محمود شيت خطاب وقال: إن الانسحاب أشبه بقتال المسلمين يومئذ، وذلك في حالة اشتداد الضغط عليهم من العدو وتكبدهم خسائر فادحة بالأرواح، والانسحاب هو من أجل الانحياز إلى فئة من المسلمين، ليعيدوا الكرة ثانية على عدوهم. وقد جاء سلمان بن ربيعة مددًا لعبد الرحمن بأمر عثمان بن عفان، فليس من المعقول أن يبقى ومدده في (الباب)، وليس من المعقول أن يتركه أخوه عبد الرحمن هناك وهو يخوض معركة قاسية شرسة، يكون فيها القائد بأمسِّ الحاجة إلى الجندي الواحد، فكيف يترك عبد الرحمن جيشا كاملا على رأسه أخوه دون أن يستفيد منه في المعركة؟
إن المؤرخين القدامى كانوا يستعملون تعبير (الهزيمة) وهم يريدون بها تعبير الانسحاب؛ ذلك لأن أكثرهم مدنيون لا يفرقون بين هذين التعبيرين, (الهزيمة) وهي ترك ساحة القتال بدون نظام ولا قيادة فهي كارثة، و(الانسحاب) وهو ترك ساحة القتال وفق خطة مرسومة بقيادة واحدة، فهو -أي الانسحاب- صفحة من صفحات القتال، الهدف منه إعادة الكرة على العدو بعد إكمال متطلبات المعركة عَدَدًا وعُدَدًا، وعسى ألا يقع المؤرخون المحدثون في مثل هذا الخطأ في التعبير، فلا يفرقون بين (الهزيمة) و(الانسحاب)؛ لأن الفرق بين التعبيرين شاسع بعيد( ).
تاسعًا: أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة وأهل الشام 32 هـ:
لما قتل عبد الرحمن بن ربيعة استعمل سعيدُ بن العاص على ذلك الفرع سلمانَ بن ربيعة، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتنازع حبيب وسلمان على الإمرة، وقال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان، فقال في ذلك الناس: إذن والله نضرب حبيبًا ونحبسه، وإن أبيتم كثرت القتلى فيكم وفينا، حتى قال في ذلك رجل من أهل الكوفة وهو أوس بن مغراء:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم
وإن ترحلوا نحو ابن عفان نَرْحَل

وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا
وهذا أمير في الكتائب مُقْبل

ونحن ولاةُ الثغر كنا حُمَاته
ليالي نرمي كل ثغر وننكل( )

وتغلب المسلمون على الفتنة بتوفيق الله ثم بوجود أمثال حذيفة بن اليمان، الذي كان على الغزو بأهل الكوفة، فقد غزا ذلك الثغر ثلاث غزوات، فقتل عثمان ? في الثالثة.( )
عاشرًا: فتوحات ابن عامر سنة 32 هـ:
وفيها فتح ابن عامر مرو الروذ، والطالقان والفارياب، والجوزجان، وطخارستان؛ فقد بعث ابن عامر الأحنف بن قيس إلى مرو روذ فحصر أهلها، فخرجوا إليهم فقاتلوهم، فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصنهم فأشرفوا عليه، قال: يا معشر العرب، ما كنتم عندنا كما نرى، ولو علمنا أنكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هذه، فأمهلونا ننظر يومنا، وارجعوا إلى عسكركم، فرجع الأحنف، فلما أصبح غاداهم وقد أعدوا له الحرب، فخرج رجل من العجم معه كتاب من المدينة، فقال: إني رسول فأمنوني، فأمنوه، فإذا رسول من مرزبان مرو ابن أخيه وترجمانه، وإذا كتاب المرزبان إلى الأحنف، فقرأ الكتاب، قال: فإذا هو إلى أمير الجيش، إنا نحمد الله الذي بيده الدول، يغير ما شاء من الملك، ويرفع من شاء بعد الذلة، ويضع من شاء بعد الرفعة، إنه دعاني إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدي، وما كان رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة، فمرحبا بكم وأبشروا، وأنا أدعوكم إلى الصلح فيما بينكم وبيننا، على أن أؤدي إليكم خراجا ستين ألف درهم، وأن تقروا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جد أبي حيث قتل الحية التي أكلت الناس، وقطعت السبيل من الأرضين والقرى بما فيها من الرجال، ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شيئا من الخراج، ولا تخرج المرزبة( ) من أهل بيتي إلى غيركم، فإن جعلت ذلك لي خرجت إليك، وقد بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق منك.
فكتب إليه الأحنف: بسم الله الرحمن الرحيم، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرو روذ ومن معه من الأساورة والأعاجم، سلام على من اتبع الهدى، وآمن واتقى، أما بعد: فإن ابن أخيك ماهك قدم عليَّ، فنصح لك جهده، وأبلغ عنك، وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين, وأنا وهم فيما عليك سواء، وقد أجبناك إلى ما سألت وعرضت على أن تؤدي على أكرَتِك( ) وفلاحيك والأرضين التي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطع جد أبيك لما كان من قتله الحية التي أفسدت الأرض وقطعت السبيل، والأرض لله ولرسوله يورثها من يشاء من عباده، وإن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة، إن أحب المسلمون ذلك وأرادوه، وإن لك على ذلك نصرة المسلمين على من يقاتل من وراءك من أهل ملتك, جار لك بذلك مني كتاب يكون لك بعدي، ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك من المسلمين العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم، ولك بذلك ذمتي وذمة أبي وذمم المسلمين وذمم آبائهم، شهد على ما في هذا الكتاب جزء
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:29 pm

المبحث الثاني
الفتوحات في الشــــــــــام
أولاً: فتوحات حبيب بن مسلمة الفهري:
مر بنا أن الروم أجلبت على المسلمين بالشام بجموع عظيمة أول خلافة عثمان، فكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة بالكوفة أن يمد إخوانه بالشام, فأمدهم بثمانية آلاف عليهم سلمان ابن ربيعة الباهلي، فظفر المسلمون بعدوهم بعد أن غزوهم في أرض الروم فأسروا منهم وغنموا. وكان تحالف الروم والترك قد تجمع لملاقاة المسلمين الذين غزوا أرمينية من الشام، وكان على المسلمين حبيب بن مسلمة وكان صاحب كيد لعدوه، فأجمع أن يبيِّت قائدهم الموريان، أي يباغته ليلا، فسمعته امرأته أم عبد الله بنت يزيد الكلبية يذكر ذلك، فقالت: فأين موعدك؟ قال: سرادق الموريان أو الجنة.. ثم بيتهم فغلبهم, وأتى سرادق الموريان فوجد امرأته قد سبقته إليه.( ) وواصل حبيب جهاده وانتصاراته المتوالية في أراضي أرمينية وأذربيجان، ففتحها إما صلحا أو عنوة( ).
لقد كان حبيب بن مسلمة الفهري من أبرز القادة الذين حاربوا في أرمينية البيزنطية؛ فقد أباد جيوشا بأكملها للعدو, وفتح حصونا ومدنا كثيرة.( ) كما غزا ما يلى ثغور الجزيرة العراقية من أرض الروم فافتتح عدة حصون هناك، مثل شمشاط وملطية وغيرهما، وفي سنة 25 هـ غزا معاوية الروم فبلغ عمورية فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرسوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشام والجزيرة، وواصل قائده قيس بن الحر العبسي الغزو في الصيف التالي، ولما فرغ هدم بعض الحصون القريبة من أنطاكية كي لا يفيد منها الروم( ).
ثانيًا: أول من أجاز الغزو البحري عثمان بن عفان:
كان معاوية بن أبي سفيان وهو أمير الشام يلح على عمر بن الخطاب في غزو البحر، ويصف له قرب الروم من حمص ويقول: إن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم، حتى كان ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه، فإن نفسي تنازعني إليه، فكتب إليه عمرو: إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن ركن خرق القلب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق، فلما قرأ عمر بن الخطاب كتاب عمرو بن العاص كتب إلى معاوية: لا والذي بعث محمدا بالحق، لا أحمل فيه مسلما أبدا، وتالله لمسلم أحب إليَّ مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي، وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقى العلاء مني، ولم أتقدم إليه في ذلك.( ) ولكن الفكرة لم تبرح نفس معاوية، وقد رأى في الروم ما رأى، فطمع في بلادهم وفي فتحها، فلما تولى الخلافة عثمان عاود معاوية الحديث وألح به على عثمان، فرد عليه عثمان ? قائلا: (إني قد شهدت ما رد عليك عمر -رحمه الله- حين استأذنته في غزو البحر)، ثم كتب إليه معاوية مرة أخرى يهون عليه ركوب البحر إلى قبرص فكتب إليه: (فإن ركبت معك امرأتك فاركبه مأذونا وإلا فلا). ( ) كما اشترط عليه الخليفة عثمان ? أيضا بقوله: (لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيرهم فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه). ( ) فلما قرأ معاوية كتاب عثمان نشط لركوب البحر إلى قبرص، فكتب لأهل السواحل يأمرهم بإصلاح المراكب وتقريبها إلى ساحل حصن عكا، فقد رمه ليكون ركوب المسلمين منه إلى قبرص( ).
ثالثـًا: غزوة قبرص:
أعد معاوية المراكب اللازمة لحمل الجيش الغازي، واتخذ ميناء عكا مكانا للإقلاع، وكانت المراكب كثيرة وحمل معه زوجه فاختة بنت قرظة، كذلك حمل عبادة بن الصامت امرأته أم حرام بنت ملحان معه في تلك الغزوة( ).
وأم حرام هذه هي صاحبة القصة المشهورة، عن أنس بن مالك ? أن رسول الله × كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله × يوما فأطعمته، ثم جلست تفلي من رأسه, فنام رسول الله × ثم استيقظ وهو يضحك فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا علي في سبيل الله» كما قال في الأولى، قالت: قلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: «أنت من الأولين» فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت( ).
ورغم أن معاوية ? لم يجبر الناس على الخروج، فقد خرج معه جيش عظيم من المسلمين( )، مما يدل على أن المسلمين قد هانت في أعينهم الدنيا بما فيها، فأصبحوا لا يعبأون بها بالرغم من أنها قد فتحت عليهم أبوابها، فصاروا يرفلون في نعيمها.
إن المسلمين قد تربوا على أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الله اصطفاهم لنصرة دينه وإقامة العدل ونشر الفضيلة، والعمل على إظهار دين الله على كل ما عداه، وهم يعتقدون أن هذه المهمة هي رسالتهم الحقيقية، وأن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الحصول على مرضاة الله، فإن هم قصروا في مهمتهم وقعدوا عن أداء واجبهم فيمسك الله عنهم نصره في الدنيا، ويحرمهم مرضاته في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين. من أجل هذا هرعوا مع معاوية وتسابقوا إلى السفن يركبونها، ولعل حديث أم حرام قد ألم بخواطرهم فدفعهم إلى الخروج للغزو في سبيل الله تصديقا لحديث رسول الله ×، وكان ذلك بعد انتهاء فصل الشتاء في سنة ثمان وعشرين من الهجرة (649م) ( ).
وسار المسلمون من الشام وركبوا من ميناء عكا متوجهين إلى قبرص، ونزل المسلمون إلى الساحل، تقدمت أم حرام لتركب دابتها، فنفرت الدابة وألقت أم حرام على الأرض فاندقت عنقها فماتت.( ) وترك المسلمون أم حرام بعد دفنها في أرض الجزيرة عنوانا على مدى التضحيات التي قدمها المسلمون في سبيل نشر دينهم، وعرف قبرها هناك بقبر المرأة الصالحة( ).
واجتمع معاوية بأصحابه وكان فيهم: أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وعبادة بن الصامت، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن بشر المازني، وشداد ابن أوس بن ثابت، والمقداد بن الأسود، وكعب الحبر بن ماتع، وجبير بن نفير الحضرمي( )، وتشاوروا فيما بينهم وأرسلوا إلى أهل قبرص يخبرونهم أنهم لم يغزوهم للاستيلاء على جزيرتهم( )، ولكن أرادوا دعوتهم لدين الله ثم تأمين حدود الدولة الإسلامية بالشام؛ وذلك لأن البيزنطيين كانوا يتخذون من قبرص محطة يستريحون فيها إذا غزوا ويتموَّنون منها إذا قل زادهم، وهي بهذه المثابة تهدد بلاد الشام الواقعة تحت رحمتها، فإذا لم يطمئن المسلمون على مسالمة هذه الجزيرة لهم وخضوعها لإرادتهم فإن وجودها كذلك سيظل شوكة في ظهورهم وسهما مسددا في حدودهم، ولكن سكان الجزيرة لم يستسلموا للغزاة ولم يفتحوا لهم بلادهم، بل تحصنوا في العاصمة ولم يخرجوا لمواجهة المسلمين، وكان أهل الجزيرة ينتظرون تقدم الروم للدفاع عنهم، وصد هجوم المسلمين عليها( ).
رابعًا: الاستسلام وطلب الصلح:
تقدم المسلمون إلى عاصمة قبرص (قسطنطينا) وحاصروها، وما هي إلا ساعات حتى طلب الناس الصلح، وأجابهم المسلمون إلى الصلح، وقدموا للمسلمين شروطًا واشترط عليهم المسلمون شروطا، وأما شرط أهل قبرص فكان في طلبهم ألا يشترط عليهم المسلمون شروطا تورطهم مع الروم؛ لأنهم لا قبل لهم بهم، ولا قدرة لهم على قتالهم، وأما
شروط المسلمين:
1- ألا يدافع المسلمون عن الجزيرة إذا هاجم سكانها محاربون.
2- أن يدل سكان الجزيرة المسلمين على تحركات عدوهم من الروم.
3- أن يدفع سكان الجزيرة للمسلمين سبعة آلاف ومائتي دينار في كل عام.
4- ألا يساعدوا الروم إذا حاولوا غزو بلاد المسلمين، ولا يطلعوهم على أسرارهم( ).
وعاد المسلمون إلى بلاد الشام، وأثبتت هذه الحملة قدرة المسلمين على خوض غمار المعارك البحرية بجدارة، وأعطت المسلمون فرصة المران على الدخول في معارك من هذا النوع مع العدو المتربص بهم سواء بالهجوم على بلاد الشام أم على الإسكندرية( ).
خامسًا: عبد الله بن قيس قائد الأسطول الإسلامي في الشام:
استعمل معاوية بن أبي سفيان على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة، فغزا خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده، وألا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتى إذا أراد أن يصيبه وحده خرج في قاربه طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم، وعليه سؤَّال يعترُّون( ) بذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السؤَّال إلى قريتها، فقالت للرجال: هل لكم في عبد الله بن قيس؟ قالوا: وأين هو؟ قالت: في المرفأ، قالوا: أي عدوة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبختهم وقالت: أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد، فثاروا إليه، فهجموا عليه، فقاتلوه وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه فجاءوا حتى أرقوا، والخليفة منهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله: واعبد الله، ما هكذا كان يقول حين يقاتل، فقال سفيان: وكيف كان يقول؟ قالت: الغمرات ثم ينجلينا، فترك ما كان يقول ولزم: الغمرات ثم ينجلينا، وأصيب في المسلمين يومئذ وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس الجاسي( )، وقيل لتلك المرأة التي استثارت الروم على عبد الله بن قيس: كيف عرفته؟ قالت: كان كالتاجر، فلما سألته أعطاني كالملك، فعرفت أنه عبد الله بن قيس( ).
وهكذا حينما أراد الله تعالى أن يمن بالشهادة على هذا القائد العظيم أتيحت له وهو في وضع لا يضر بسمعة المسلمين البحرية؛ حيث كان وحده يتطلع ويراقب الأعداء، فكانت تلك الكائنة الغريبة التي أبصرت غورها تلك المرأة الذكية من نساء تلك البلاد؛ حيث رأت ذلك الرجل يظهر في مظاهره الخارجية بمظهر التجار العاديين، ولكنه يعطي عطاء الملوك، فلقد رأت فيه أمارات السيادة مع بساطة مظهره، فعرفت أنه قائد المسلمين الذي دوخ المحاربين في تلك البلاد، وهكذا كانت سماحة ذلك القائد وسخاؤه البارز حتى مع غير المسلمين سببا في كشف أمره، ومعرفة مركزه، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، فيتم بذلك الهجوم عليه وظفره بالشهادة.
وهكذا يضرب قادة المسلمين المثل العليا بأنفسهم لتتم الإنجازات الكبرى على أيديهم، وليكونوا قدوة صالحة لمن يخلفهم؛ فقد قام هذا القائد الملهم بمهمة الاستطلاع بنفسه ولم يكل الأمر إلى جنوده، وفي انفراده بهذه المهمة مظنة للتورط مع الأعداء والهلاك على أيديهم، ولكنه مع ذلك يغامر بنفسه فيتولى هذه المهمة، ثم نجده يتخلق بأخلاق الإسلام العليا حتى مع نساء الأعداء وضعفتهم، فيمد إليهم يد الحنان والعطف، ويسخو لهم بالمال الذي هو من أعز ما يملك الناس، ونجده قبل ذلك مع جنده رفيقا صبورا، لا معنفا ولا مستكبرا، وإذا ادلهمت الخطوب تفاءل بانكشاف الغمة ولم يلجأ إلى لوم أصحابه وتعنيفهم، ولم يهيمن عليه الارتباك الذي يفسد العمل، ويعجل بالخلل والفوضى، وأما خليفته سفيان الأزدي فلعله وقع فيما وقع فيه من الارتباك والاشتغال بطرح اللائمة على جنده لكونه حديث العهد بأمور القيادة، ولكن مما يحفظ له أنه لما نبهته جارية عبد الله بن قيس إلى ذلك الأسلوب الحكيم الذي كان أميره ينتهجه في القيادة سارع في التأسي به في ذلك، ولم يحمله التكبر على عدم سماع كلمة الحق وإن صدرت من جارية مغمورة. وهذا مثل من أمثلة التجرد من هوى النفس، هذا الخلق العظيم الذي كان غالبا في الجيل الأول، وبه تم إنجاز الفتوحات العظيمة ونجاح الولاة والقادة في إدارة الأمة، فلله در أبناء ذلك الجيل: ما أبلغ ذكرهم، وما أبعد غورهم، وما أعظم وطأتهم في الأرض على الجبارين، وما أعذب لمساتهم في الأرض على المستضعفين والمساكين.( )
سادسًا: القبارصة ينقضون الصلح:
في سنة اثنتين وثلاثين هجرية، وقع سكان قبرص تحت ضغط رومي عنيف أجبرهم على إمداد جيش الروم بالسفن ليغزوا بها بلاد المسلمين، وبذلك يكون القبرصيون قد أخلوا بشروط الصلح، وعلم معاوية بخيانة أهل قبرص فعزم على الاستيلاء على الجزيرة ووضعها تحت سلطان المسلمين، فقد هاجم المسلمون الجزيرة هجوما عنيفا فقتلوا وأسروا وسلبوا؛ هجم عليها جيش معاوية من جهة وعبد الله بن سعد من الجانب الآخر، فقتلوا خلقا كثيرا، وسبوا سبيا كثيرا وغنموا مالا جزيلا.( ) وتحت ضغط القوات الإسلامية اضطر حاكم قبرص أن يستسلم للفاتحين ويلتمس منهم الصلح، فأقرهم معاوية على صلحهم الأول.( ) وخشى معاوية أن يتركهم هذه المرة بغير جيش يرابط في الجزيرة فيحميها من غارات الأعداء ويضبط الأمن فيها حتى لا تتمرد على المسلمين، فبعث إليهم اثني عشر ألفا من الجنود، ونقل إليهم جماعة من بعلبك, وبنى هناك مدينة، وأقام فيها مسجدا، وأجرى معاوية على الجنود أرزاقهم. وظل الحال على ذلك، الجزيرة هادئة والمسلمون آمنون من هجمات الروم المفاجئة، ولاحظ المسلمون أن أهل قبرص ليس فيهم قدرات عسكرية، وهم مستضعفون أمام من يغزوهم، وأحس المسلمون أن الروم يغلبونهم على أمرهم ويسخرونهم لمصالحهم فرأوا أن من حقهم عليهم أن يحموهم من ظلم الروم، وأن يمنعوهم من تسلط البيزنطيين، وقال إسماعيل بن عياش: أهل قبرص أذلاء مقهورون يغلبهم الروم على أنفسهم ونسائهم، فقد يحق علينا أن نمنعهم ونحميهم( ).
سابعًا: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه:
وقد جاء في سياق هذه الغزوة المذكورة خبر أبي الدرداء ? حينما نظر إلى سبي الأعداء فبكى، ثم قال: ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه. فانظر إلى هؤلاء القوم بينما هم ظاهرون قاهرون لمن ناوأهم، فلما تركوا أمر الله -عز وجل- وعصوه صاروا إلى ما ترى.( ) وجاء في رواية: فقال له جبير بن نفير: أتبكي وهذا يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك إن هذه كانت أمة قاهرة لهم ملك، فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السبي فليس لله فيهم حاجة، وقال: ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره!!.( )
إن ما تفوه به أبو الدرداء يعتبر مثلا للبصيرة النافذة والفقه في أمر الله تعالى، فهذا الصحابي الجليل يبكي حسرة على هؤلاء الذين أعمى الله بصائرهم، فلم ينقادوا لدعوة الحق فباءوا بهذا المصير المؤلم؛ حيث تحولوا من الملك والعزة إلى الاستسلام والذلة لإصرارهم على لزوم الباطل والتكبر على الخضوع لدعوة الحق، ولو أنهم عقلوا وتدبروا لكان في دخولهم في الإسلام بقاء ملكهم وعمران ديارهم والظفر بحماية دولة الإسلام، وإن هذا التفكير العميق من أبي الدرداء مظهر من مظاهر الرحمة والعطف تفتحت عنه نفسه الزكية، فتشكل ذلك في الظاهر على هيئة دموع تنحدر من عيني هذا الرجل العظيم، ليعبر عما يجول في نفسه من نظرات الحنان والرحمة والأسى على مصير تلك الأمة التي اجتمع لها البقاء على الضلال والمآل السيئ بزوال الملك والوقوع في الذل والهوان، وإنه بقدر ما يفرح المسلم بدخول الناس في الإسلام فإنه يحزن من رؤية الكافرين وهم يعيشون في ضلال مع إدراكه ما ينتظرهم من العذاب الأليم المؤبد في الآخرة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك وقوعهم في الأسر والتشرد وتعرضهم للقتل في الحياة الدنيا؟( )
ثامنًا: عبادة بن الصامت يقسم غنائم قبرص:
قال عبادة بن الصامت لمعاوية -رضي الله عنهما-: شهدت رسول الله × في غزوة حنين والناس يكلمونه في الغنائم، فأخذ وبرة من بعير وقال: «ما لي مما أفاء الله عليكم من هذه الغنائم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم»، فاتق الله يا معاوية واقسم الغنائم على وجهها، ولا تعطِ منها أحدا أكثر من حقه، فقال له معاوية: قد وليتك قسمة الغنائم، وليس أحد بالشام أفضل منك ولا أعلم، فاقسمها بين أهلها واتق الله فيها. فقسمها عبادة بين أهلها وأعانه أبو الدرداء وأبو أمامة( ).
* * *

المبحث الثالث
فتوحات الجبهة المصــــــــــرية
أولاً: ردع المتمردين في الإسكندرية:
كبر على الروم خروج الإسكندرية من أيديهم، وظلوا يتحينون الفرص لإعادتها إلى حوزتهم، فراحوا يحرضون مَنْ بالإسكندرية مِنَ الروم على التمرد والخروج على سلطان المسلمين؛ ذلك لأن الروم كانوا يعتقدون أنهم لا يستطيعون الاستقرار في بلادهم بعد خروج الإسكندرية من ملكهم.( ) وصادف تحريض الروم لأهل الإسكندرية هوى في نفوس سكانها فاستجابوا للدعوة، وكتبوا إلى قسطنطين بن هرقل يخبرونه بقلة عدد المسلمين ويصفون له ما يعيش فيه الروم بالإسكندرية من الذل والهوان.( ) وكان عثمان ? قد عزل عمرو بن العاص عن مصر، وولى مكانه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وفي أثناء ذلك وصل منويل الخصى قائد قوات الروم إلى الإسكندرية لإعادتها وتخليصها من يد المسلمين، ومعه قوات هائلة يحملهم في ثلاثمائة مركب مشحونة بكل ما يلزم هذه القوات من
السلاح والعتاد( ).
علم أهل مصر بأن قوات الروم قد وصلت إلى الإسكندرية، فكتبوا إلى عثمان يلتمسون إعادة عمرو بن العاص ليواجه القوات الغازية فإنه أعرف بحربهم، وله هيبة في نفوسهم، فاستجاب الخليفة لطلب المصريين، وأبقى ابن العاص أميرا على مصر( )، ونهب منويل وجيشه الإسكندرية وغادروها بعد أن تركوها قاعا صفصفا, ليعيثوا فيما حولها من القرى ظلما وفسادا، وأمهلهم عمرو بن العاص ليمعنوا في الإفساد وليشعر المصريون بالفرق الهائل بين حكامهم من المسلمين وحكامهم من الروم، ولتمتلئ قلوب المصريين على الروم حقدا وغضبا فلا يكون لهم من حبهم والعطف عليهم أدنى حظ، وخرج منويل بجيشه من الإسكندرية يقصد مصر السفلى دون أن يخرج إليهم عمرو أو يقاومهم أحد، وتخوف بعض أصحابه, وعمرو كان له رأي آخر، فقد كان يرى أن يتركهم يقصدونه، ولا شك أنهم سينهبون أموال المصريين، وسيرتكبون من الحماقات في حقهم ما يملأ قلوبهم حقدا عليهم وغضبا منهم، فإذا نهض المسلمون لمواجهتهم عاونهم المصريون على التخلص منهم، وحدد عمرو سياسته هذه بقوله: «دعهم يسيروا إليَّ، فإنهم يصيبون من مروا به، فيخزي بعضهم ببعض».( ) وقد صدق حدس عمرو، وأمعن الروم في إفسادهم ونهبهم وسلبهم، وضج المصريون من فعالهم، وأخذوا يتطلعون إلى من يخلصهم من شر هؤلاء الغزاة المفسدين.( )
وصل منويل إلى نقيوس، واستعد عمرو للقائه وعبأ جنده، وسار بهم نحو عدوه الشرس، وتقابل الجيشان عند حصن نقيوس على شاطئ نهر النيل، واستبسل الفريقان أيما استبسال، وصبر كل فريق صبرا أمام خصمه مما زاد الحرب ضراوة واشتعالا، ودفع بالقائد عمرو إلى أن يمعن في صفوف العدو، ويقدم فرسه بين فرسانهم، ويشهر سيفه بين سيوفهم، ويقطع به هامات الرجال وأعناق الأبطال، وأصاب فرسه سهم فقتله، فترجل عمرو وانضم إلى صفوف المشاة، ورآه المسلمون فأقبلوا على الحرب بقلوب كقلوب الأسود لا يهابون ولا يخافون قعقعة السيوف.( ) وأمام ضربات المسلمين وهنت عزائم الروم وخارت قواهم، فانهزموا أمام الأبطال الذين يريدون إحدى الحسنيين، وقصد الروم في فرارهم الإسكندرية لعلهم يجدون في حصونهم المنيعة وأسوارها الشاهقة ما يواري عنهم شبح الموت الذي يلاحقهم( ).
وخرج المصريون بعد أن رأوا هزيمة الروم يصلحون للمسلمين ما أفسده العدو الهارب من الطرق، ويقيمون لهم ما دمره من الجسور، وأظهر المصريون فرحتهم بانتصار المسلمين على العدو الذي انتهك حرماتهم واعتدى على أموالهم وممتلكاتهم، وقدموا للمسلمين ما ينقصهم من السلاح والمؤونة( ).
ولما وصل عمرو الإسكندرية ضرب عليهم الحصار ونصب عليها المجانيق وظل يضرب أسوار الإسكندرية حتى أوهنها، وألح عليها بالضرب حتى ضعف أهلها وتصدعت أسوارها وفتحت المدينة الحصينة أبوابها، ودخل المسلمون الإسكندرية وأعملوا سيوفهم في الروم يقتلون المقاتلين، ويأسرون النساء والذرية، وهرب من نجا من الموت لاجئين إلى السفن ليفروا بها عائدين من حيث أتوا، وكان منويل في عداد القتلى، ولم يكف المسلمون عن القتل والسبي حتى أمر عمرو بذلك لما توسط المسلمون المدينة، ولما لم يكن هناك من يقاوم أو يتصدى لهم.( ) ولما فرغ المسلمون أمر عمرو ببناء مسجد في المكان الذي أوقف فيه القتال وسماه مسجد الرحمة.( )
وعادت إلى العاصمة العتيدة طمأنينتها، وعادت السكينة إلى قلوب المصريين فيها، فرجع إليها من كان قد فر منها أمام الزحف الرومي الرهيب، وعاد بنيامين بطريرك القبط إلى الإسكندرية بعد أن فر مع الفارين، وأخذ يرجو عمرو ألا يسيء معاملة القبط لأنهم لم ينقضوا عهدهم ولم يتخلوا عن واجبهم، ورجاه كذلك ألا يعقد صلحا مع الروم، وأن يدفنه إذا مات في كنيسة يحنس( ).
وجاء المصريون من كل حدب وصوب إلى عمرو يشكرونه على تخليصهم من ظلم الروم، ويطلبون منه إعادة ما نهبوا من أموالهم ودوابهم معلنين ولاءهم وطاعتهم، فقالوا: إن الروم قد أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة، فطلب منهم عمرو أن يقيموا البينة على ما ادعوا، ومن أقام بينة وعرف من له بعينه رده( ) عليه، وهدم عمرو سور الإسكندرية، وكان ذلك في سنة 25 هـ. وأصبحت الإسكندرية آمنة من جهاتها كلها رغم هدم سورها، فقد كان شرقيها في قبضة المسلمين وكذلك جنوبها، وأما غربيها فقد أمنه عمرو بن العاص بفتح برقة وزويلة وطرابلس الغرب، وصالح أهل هذه البلاد على الجزية فكانوا يدفعونها طائعين، وأما شمالها فكان في قبضة الروم، وقد تلقوا درسا على يد المسلمين لم يترك لهم فرصة للتفكير في العودة، وحتى لو فكروا في العودة فهيهات أن يدخلوها وليس لهم فيها نصير ولا معين، وقوات المسلمين تراقب البحر بكل يقظة واهتمام( ).
ثانيًا: فتح بلاد النوبة:
كان عمرو بن العاص قد شرع في فتح بلاد النوبة بإذن من الخليفة عمر، فوجد حربا لم يتدرب عليها المسلمون وهي الرمي بالنبال في أعين المحاربين حتى فقدوا مائة وخمسين عينا في أول معركة، ولهذا قبل الجيش الصلح, ولكن عمرو بن العاص رفض للوصول إلى شروط أفضل( )، وعندما تولى ابن سعد ولاية مصر غزا النوبة في عام إحدى وثلاثين هجرية فقاتله الأساود من أهل النوبة قتالا شديدا، فأصيبت يومئذ عيون كثيرة من المسلمين، فقال شاعرهم:
لم تر عين مثل يوم دُمقلة
والخيل تعدو بالدروع مثقلة( )

فسأل أهل النوبة عبد الله بن سعد المهادنة، فهادنهم هدنة بقيت إلى ستة قرون( )، وعقد لهم عقدا يضمن لهم استقلال بلادهم ويحقق للمسلمين الاطمئنان إلى حدودهم الجنوبية، ويفتح النوبة للتجارة والحصول على عدد من الرقيق في خدمة الدولة الإسلامية، وقد اختلط المسلمون بالنوبة والبجة، واعتنق كثير منهم الإسلام( ).
ثالثـًا: فتح إفريقية:
كان من مقاصد حملة عمرو بن العاص ? لبرقة وطرابلس وبقية مناطق ليبيا، فتح البلاد وإزالة الطاغوت الروماني عن قلوب العباد حتى تتضح لهم السبل وتفترق لهم الطرق، وتصبح حرية الاختيار في متناول تلك الشعوب، بعد تلك الحملة المباركة التي كانت سببا في دخول ذلك النور إلى تلك المناطق المظلمة بعبادة الأصنام والتقرب إليها بالقرابين، واتخاذ الأنداد والأرباب من البشر من دونه سبحانه وتعالى، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وعن حملة عبد الله بن سعد على إفريقية( ) يقول الدكتور صالح مصطفى: وفي سنة 26 هـ/646م عُزِل عمرو بن العاص ? عن ولاية مصر، واستعمل عليها عبد الله بن سعد ?، وكان عبد الله بن سعد يبعث جرائد الخيل كما كانوا يفعلون أيام عمرو بن العاص فيصيبون من أطراف إفريقية ويغنمون( )، وكانت جرائد الخيل تقصد إفريقية (تونس) تمهيدا لفتحها ومعرفة وضعها، فكان حال هذه الجرائد أشبه ما يكون بكتائب الاستطلاع التي تعتبر مقدمة الجيش وعيونه، فلما اجتمعت عند عبد الله بن سعد معلومات كافية عن إفريقية من ناحية مداخلها ومخارجها، وقوتها وعدادها، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي كتب حينئذ إلى الخليفة الراشد عثمان بن عفان يخبره بهذه المعلومات الهامة عن إفريقية، يستأذن بناء على تلك المعلومات بفتحها، فكان له ما طلب. يقول الدكتور صالح مصطفى: ولما استأذن عبد الله بن سعد الخليفة عثمان بن عفان في غزو إفريقية، جمع الصحابة واستشارهم في ذلك، فأشاروا عليه بفتحها، إلا أبو الأعور سعيد بن زيد، الذي خالفه متمسكا برأي عمر بن الخطاب في ألا يغزو أفريقية أحد من المسلمين، ولما أجمع الصحابة على ذلك دعا عثمان للجهاد، واستعدت المدينة -عاصمة الخلافة الإسلامية- لجميع المتطوعين وتجهيزهم، وترحيلهم إلى مصر لغزو إفريفية تحت قيادة عبد الله بن سعد. وقد ظهر الاهتمام بأمر تلك الغزوة جليا، وهذا يتضح من الذين خرجوا إليها من كبار الصحابة، ومن خيار شباب آل البيت، وأبناء المهاجرين الأوائل وكذلك الأنصار؛ فقد خرج في تلك الغزوة الحسن والحسين، وابن عباس وابن جعفر وغيرهم.
هذا وقد خرج من قبيلة مهرة وحدها في غزوة عبد الله بن سعد ستمائة رجل، ومن غنث سبعمائة رجل، ومن ميدعان سبعمائة رجل، وعندما بات الاستعداد تامًا خطب عثمان فيهم، ورغبهم في الجهاد، وقال لهم: لقد استعملت عليكم الحارث بن الحكم إلى أن تقدموا على عبد الله بن سعد فيكون الأمر إليه، وأستودعكم الله. ويقال: إن عثمان ? قد أعان في هذه الغزوة بألف بعير يحمل عليها ضعفاء الناس، وعندما وصل هذا الجيش إلى مصر انضم إلى جيش عبد الله بن سعد، وتقدم من الفسطاط تحت قيادة عبد الله ذلك الجيش الذي يقدر بعشرين ألفا يخترق الحدود المصرية الليبية، وعندما وصلوا إلى برقة انضم إليهم عقبة بن نافع الفهري ومن معه من المسلمين، ولم يواجه الجيش الإسلامي أية صعوبات أثناء سيرهم في برقة؛ وذلك لأنها ظلت وفية لما عاهدت المسلمين عليه من الشروط زمن عمرو بن العاص، حتى إنه لم يكن يدخلها جابي الخراج، وإنما كانت تبعث بخراجها إلى مصر في الوقت المناسب. ومما يؤكد بقاء برقة على عهدها لعمرو بن العاص، ما ذكر أنه سمع يقول: قعدت مقعدي هذا، وما لأحد من قبط مصر علي عهد إلا أهل أنطابلس( )، فإن لهم عهدًا يوفي لهم به، كما أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقول: ولولا مالي بالحجاز لنزلت برقة، فما أعلم منزلا أسلم ولا أعزل منها( ).
وهكذا انطلقت هذه الحملة المباركة نحو إفريقية, وكان ذلك بعد انضمام قوات عقبة بن نافع إليها، إلا أن عبد الله بن سعد قائد الحملة ما فتئ يرسل الطلائع والعيون في جميع الاتجاهات لاستكشاف الطرق وتأمينها ورصد تحركات العدو وضبطها؛ تحسبا لأي كمين أو مباغتة تطرأ على حين غفلة، فكان من نتائج تلك الطلائع الاستطلاعية أن تم رصد مجموعات من السفن الحربية تابعة للإمبراطورية الرومانية، حيث كانت هذه السفن الحربية قد رست في ساحل ليبيا البحري بالقرب من مدينة طرابلس، فما هي إلا برهة من الزمن حتى كان ما تحمله هذه السفن غنيمة للمسلمين، وقد أسروا أكثر من مائة من أصحابها، وتعتبر هذه أول غنيمة ذات قيمة أصابها المسلمون في طريقهم لفتح إفريقية.( )
وواصل عبد الله بن سعد السير إلى إفريقيا، وبث طلائعه وعيونه في كل ناحية، حتى وصل جيشه إلى مدينة سبيطلة بأمان، وهناك التقى الجمعان؛ جيش المسلمين بقيادة عبد الله ابن سعد وجيش جرجير حاكم إفريقية، وكان تعداد جيشه يبلغ حوالي مائة وعشرين ألفا، وكان بين القائدين اتصالات مستمرة ورسائل متبادلة، فَحْوَاها عرض الدعوة الإسلامية على جرجير ودعوته للدخول في الإسلام، ويستسلم لأمر الله سبحانه، أو أن يدفع الجزية، ويبقى على دينه خاضعا لسيادة الإسلام، ولكن كل تلك العروض رفضها وأصر واستكبر هو وجنوده، وضاق الأمر بالمسلمين، ونشبت المعركة بين الجمعين وحمى الوطيس بينهما لعدة أيام، حتى وصل مدد بقيادة عبد الله بن الزبير، وكانت نهاية هذا المستكبر الطاغي جرجير على يديه( ).
ولما رأى الروم الذين بالساحل ما حل بجرجير وأهل سبيطلة، غارت أنفسهم وتجمعوا وكاتب بعضهم بعضا في حرب عبد الله بن سعد إياهم، فخافوه وراسلوه وجعلوا له جعلا على أن يرتحل بجيشه، وألا يعترضوه بشيء ووجهوا إليه ثلاثمائة قنطار من الذهب في بعض الروايات، وفي البعض الآخر مائة قنطار، جزية في كل سنة على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم، فقبل ذلك منهم وقبض المال، وكان في شرط صلحهم أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهو لهم، وما أصابوه بعد الصلح رده عمر إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غدا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ونقاتل نحن الروم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملوا, فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون ونقصدهم على غرة، فلعل الله ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوه على ذلك، فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه، وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم وخيولهم عندهم مسرجة، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالا شديدا، فلما أذن بالظهر همَّ الروم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم والمسلمون؛ فكل الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعبا، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحا من شجعان المسلمين وقصد الروم فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم وحملوا حملة رجل واحد وكبروا فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون، وقتل جرجير، قتله ابن الزبير، وانهزم الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونازل عبد الله بن سعد المدينة وحاصرهم حتى فتحها، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار.
ولما فتح عبد الله مدينة سبيطلة بث جيوشه في البلاد فبلغت قفصة فسبوا وغنموا، وسيِّر عسكرا إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد فحصرهم وفتحه بالأمان فصالحه أهل إفريقية كما مر معنا، ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك وأرسله ابن سعد إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية( ).
رابعًا: بطولة عبد الله بن الزبير في فتح إفريقية:
هذا ولقد كان لعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- موقف عظيم في البطولة والشجاعة، وقد ذكره الحافظ ابن كثير حيث قال: لما قصد المسلمون -وهم عشرون ألفا- إفريقية، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وفي جيشه عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومائة ألف، وقيل في مائتي ألف، فلما تراءى الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه ولا أخوف عليهم منه.
قال عبد الله بن الزبير: نظرت إلى الملك جرجير من وراء الصفوف وهو راكب على برذون، وجاريتان تظلانه بريش الطواويس، فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي السرح فسألته أن يبعث معي من يحمي ظهري، وأقصد الملك، فجهز معي جماعة من الشجعان، فأمر بهم فحموا ظهري وذهبت حتى خرقت الصفوف إليه، وهم يظنون أني في رسالة إلى الملك، فلما اقتربت منه أحس مني الشر، ففر على برذونه فلحقته فصفعته برمحي وذففت -يعني أجهزت- عليه بسيفي، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبرت، فلما رأى ذلك البربر فَرِقُوا وفروا كفرار القطا، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون, فغنموا غنائم جمة وأموالا عظيمة وسبيًا عظيمًا، وذلك ببلد يقال له: (سبيطلة) على يومين من القيروان.
قال ابن كثير: فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير ? وعن أبيه، وعن سائر الصحابة الكرام أجمعين( ).
إن ما قام به ابن الزبير نوع من الطموح نحو المعالي المحفوفة بالأهوال بدون تدرج سابق، لقد كان عمره آنذاك سبعا وعشرين سنة، ولم يذكر له قبل ذلك مواقف بطولية من نوع المغامرات، فكيف أقدم على هذه المغامرة الهائلة التي يغلب على الظن أو يكاد يقرب من اليقين في عرف الناس العاديين أن فيها الهلاك؟!! وإن الاحتمالات التي يمكن أن ترد في مثل هذه المغامرة أن يدور في خلد المغامر أمران:
1- أن ينجح في هجومه فيقضي على ملك البربر، ويتفرق جنده كما هي عادة الكفار، وفي ذلك نصر مؤزر للمسلمين، وكفاية لهم عن خوض معركة شرسة قد تخوف منها المسلمون.
2- أن يتقبله الله شهيدا، وفي ذلك الوصول إلى أسمى الأماني، وأبلغ الدرجات التي يطمح إليها الصالحون ويتنافسون على بلوغها، كما أن في ذلك من إرهاب الكفار وإثارة الرعب فيهم الشيء الكثير؛ حيث سيتوقع الكفار أن المسلمين الذين سيقاتلونهم كلهم من هذا النوع الجريء الفتاك؛ إذ أنه يكفي المغامر شجاعة أن يقذف بنفسه في وسط المعركة الملتهبة، إنه لا يقدم على هذه الوثبة العالية إلا العظماء الذين يتصورون الجنة من وراء تلك الوثبة ويشتاقون للعيش فيها. ولقد كان ابن الزبير وثب تلك الوثبة متجردا من علائق الدنيا وأثقالها المثبطة، طامحا إلى ما أعده الله تعالى للمجاهدين في سبيله على قدر طاقتهم، سواء انتصروا على أعدائهم أو نالوا الشهادة.( )
وقد جاء في هذا الخبر أن البربر بعدما قتل ملكهم فروا من جيش المسلمين كفرار القَطَا، وأن المسلمين تبعوهم يقتلون ويأسرون منهم من غير مقاومة، وإن هذا الخبر دليل على أن الله تعالى مع أوليائه المؤمنين، وأنه يقيض لهم إذا صدقوا ما يخلصهم من الشدائد وينقذهم من المآزق، فإن المسلمين قد وقعوا في معضلة كبرى؛ حيث أحاط بهم أعداؤهم الذين يفوقونهم ست مرات في العدد أو أكثر، وكان على المسلمين أن يقاتلوهم من كل جانب، وهو أمر عسير على جيش صغير بالنسبة لكثرة عدوه، كما جاء في قول الراوي: فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه ولا أخوف عليهم منه، فقيض الله لهم هذا البطل المغوار الذي أقدم على مغامرة نادرة المثال، فأنقذ الله به ذلك الجيش الإسلامي من عسرة كان يعاني منها.( )
ولا ننسى موقف الأبطال الذين كانوا مع عبد الله بن الزبير يحمون ظهره، فإنهم قد شاركوه في تلك المخاطرة، ولئن لم يذكر التاريخ أسماءهم فإن عملهم الفدائي قد بقي مخلدا في الدنيا برفع ذكر هذه الأمة حينما تفاخر بأبطالها، وفي الآخرة بما ينتظرون من وعد الله للمجاهدين الصادقين( ).
هذا وقد قدَّم المسلمون الغالي والرخيص في فتوحات إفريقية، واستشهد منهم الكثير، وممن توفى منم غازيا بإفريقية في خلافة عثمان أبو ذؤيب الهذلي وكان شاعرا مشهورا، وهو الذي قال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع

وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع( )

خامسًا: معركة ذات الصواري:
أصيب الروم بضربة حاسمة في إفريقية، وتعرضت سواحلهم للخطر بعد سيطرة الأسطول الإسلامي على سواحل المتوسط من ردوس حتى برقة، فجمع قسطنطين بن هرقل أسطولا بناه الروم من قبل، فخرج بألف سفينة لضرب المسلمين ضربة يثأر لها لخسارته المتوالية في البر، فأذن عثمان ? لصد العدوان، فأرسل معاوية مراكب الشام بقيادة بسر بن أرطأة، واجتمع مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح في مراكب مصر، وكانت كلها تحت أمرته، ومجموعها مائتا سفينة فقط، وسار هذا الجيش الإسلامي وفيه أشجع المجاهدين المسلمين ممن أبلوا في المعارك السابقة؛ فقد انتصر هؤلاء على الروم من قبل في معارك عديدة، فشوكة عدوهم في أنفسهم محطمة، لا يخشونه ولا يهابونه، على الرغم من قلة عدد سفنهم إذا قيست بعدد سفن عدوهم. خرج المسلمون إلى البحر وفي أذهانهم وقلوبهم إعزاز دين الله وكسر شوكة الروم، ولقد كان لهذه المعركة التاريخية أسباب، منها:
1- الضربات القوية التي وجهها المسلمون إلى الروم في إفريقية.
2- أصيب الروم في سواحلهم الشرقية والجنوبية بعد أن سيطر المسلمون بأسطولهم عليها.
3- خشية الروم من أن يقوى أسطول المسلمين فيفكروا في غزو القسطنطينية.
4- أراد قسطنطين بن هرقل استرداد هيبة ملكه بعد الخسائر المتتالية برًّا، وعلى شواطئه في بلاد الشام ومصر وساحل برقة.
5- كما أراد الروم خوض معركة ظنوا أنها مضمونة النتائج، كي تبقى لهم السيطرة في المتوسط، فيحافظوا على جزره، فينطلقوا منها للإغارة على شواطئ بلاد العرب.
6- محاولة استرجاع الإسكندرية بسبب مكانتها عند الروم، وقد ثبت تاريخيا مكاتبة سكانها لقسطنطين بن هرقل ملك الروم. هذه بعض أسباب معركة ذات الصواري( ).
أين وقعت هذه المعركة؟
وهذا السؤال لم يجد المؤرخون له جوابا موحدا؛ فالمراجع العربية لم تحدد مكانها، باستثناء مرجع واحد على ما نعلم صرح بالمكان بدقة، وآخر قال اتجه الروم إليه.
* في (فتح مصر وأخبارها) ( )ذكر الكتاب خطبة عبد الله بن سعد بن أبي السرح وقال: قد بلغني أن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب. ولم يحدد مكان المعركة.
* (الطبري) ( ) في أخبار سنة 31هـ، ربط حدوث ذات الصواري بما أصاب المسلمون من الروم في إفريقية، وقال: فخرجوا في جمع لم يجتمع للروم مثله قط.
* ولم يذكر (الكامل في التاريخ) ( ) مكان الموقعة أيضا، ولكنه ربط سبب وقوعها بما أحرزه المسلمون من نصر في إفريقية بالذات.
* وفي (البداية والنهاية) ( ): فلما أصاب عبد الله بن سعد بن أبي السرح من أصاب من الفرنج والبربر بلاد إفريقية، حميت الروم واجتمعت على قسطنطين بن هرقل، وساروا إلى المسلمين في جمع لهم لم ير مثله منذ كان الإسلام؛ خرجوا في خمسمائة مركب وقصدوا عبد الله بن سعد بن أبي السرح في أصحابه من المسلمين ببلاد المغرب.
* (تاريخ الأمم الإسلامية): ( ) لم يذكر مكان الموقعة أيضا( )، ورجح الدكتور شوقي أبو خليل أن المعركة كانت على شواطئ الإسكندرية، وذلك للأسباب التالية:
* كتاب (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) يذكر صراحة: غزوة ذات الصواري في البحر من ناحية الإسكندرية( ).
* تاريخ ابن خلدون يذكر( ): ثم بعث ابن أبي السرح السرايا ودوخ البلاد فأطاعوا وعاد إلى مصر، ولما أصاب ابن أبي السرح إفريقية ما أصاب، ورجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازيا إلى الإسكندرية في ستمائة مركب.
* ربطت المراجع العربية التي لم تحدد موقع المعركة بين حدوث المعركة وبين ما خسره الروم في شمال إفريقية بالذات.
* الأسطول الرومي صاحب ماض عريق، فهو سيد المتوسط قبل ذات الصواري، فهو أجرأ على مهاجمة السواحل الإسلامية، ولذلك رجح الدكتور شوقي أبو خليل مجيء الأسطول الرومي إلى شواطئ الإسكندرية لاستعادتها بسبب مكانتها عند الروم، ومكاتبة أهلها لملكهم السابق، وهو بذلك يقضي أيضا على الأسطول الفتي في مهده، الذي شرع العرب في بنائه بمصر، فتبقى للروم السيطرة والسطوة في مياه المتوسط وجزره.
* المراجع الأجنبية تعرف ذات الصواري بموقعة (فونيكة)، وفونيكة هو ثغر يقع غرب مدينة الإسكندرية، بالقرب من مدينة مرسى مطروح، فهي تحدد الموقع تماما( ).
* أحداث المعركة:
قال مالك بن أوس بن الحدثان: كنت معهم في ذات الصواري، فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط، وكانت الريح علينا -أي لصالح مراكب الروم- فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبا منا، وسكتت الريح عنا، قلنا للروم: الأمن بيننا وبينكم، قالوا: ذلك لكم، ولنا منكم.( ) كما طلب المسلمون من الروم: إن أحببتم ننزل إلى الساحل فنقتتل حتى يكتب لأحدنا النصر، وإن شئتم فالبحر. قال مالك بن أوس: فنخروا نخرة واحدة، وقالوا: بل الماء الماء، وهذا يظهر لنا ثقة الروم بخبرتهم البحرية، وأملهم في النصر لممارستهم أحواله وفنونه، مرنوا عليه فأحكموا الدراية بثقافته وأنوائه فطمعوا بالنصر فيه، خصوصا أنهم يعلمون حداثة عهد المسلمين به( ).
بات الفريقان تلك الليلة في عرض البحر، وموقف المسلمين حرج، فقال القائد المسلم لصحبه: أشيروا عليَّ؟ فقالوا: انتظر الليلة بنا لنرتب أمرنا ونختبر عدونا، فبات المسلمون يصلون ويدعون الله -عز وجل- ويذكرونه ويتهجدون، فكان لهم دوي كدوي النحل على نغمات تلاطم الأمواج بالمراكب، أما الروم فباتوا يضربون النواقيس في سفنهم، وأصبح القوم، وأراد قسطنطين أن يسرع في القتال، ولكن عبد الله بن سعد بن أبي السرح لما فرغ من صلاته إماما بالمسلمين للصبح، استشار رجال الرأي والمشورة عنده، فاتفق معهم على خطة رائعة: فقد اتفقوا على أن يجعلوا المعركة برية على الرغم من أنهم في عرض البحر، فكيف تم للمسلمين ذلك؟ أمر عبد الله جنده أن يقتربوا من سفن أعدائهم فاقتربوا حتى لامست سفنهم سفن العدو، فنزل الفدائيون أو رجال الضفادع البشرية في عرفنا الحالي إلى الماء، وربطوا السفن الإسلامية بسفن الروم، ربطوها بحبال متينة، فصار 1200 سفينة في عرض البحر، كل عشرة أو عشرين منها متصلة مع بعضها، فكأنها قطعة أرض ستجري عليها المعركة، وصفَّ عبد الله بن سعد المسلمين على نواحي السفن يعظهم ويأمرهم بتلاوة القرآن الكريم، خصوصا سورة الأنفال؛ لما فيها من معاني الوحدة والثبات والصبر( ).
وبدأ الروم القتال، فهم في رأيهم قد ضمنوا النصر عندما قالوا: بل الماء الماء، وانقضوا على سفن المسلمين بدافع الأمل بالنصر، مستهدفين توجيه ضربة أولى حاسمة يحطمون بها شوكة الأسطول الإسلامي، فنقض الروم صفوف المسلمين المحاذية لسفنهم، وصار القتال كيفما اتفق, وكان قاسيا على الطرفين، وسالت الدماء غزيرة اصطبغت بها صفحة الماء، فصار أحمر، وترامت الجثث في الماء، وتساقطت فيه, وضربت الأمواج السفن حتى ألجأتها إلى الساحل، وقتل من المسلمين الكثير، وقتل من الروم ما لا يحصى، حتى وصف المؤرخ البيزنطي (ثيوفانس) هذه المعركة بأنها كانت يرموكا ثانيا على الروم.( ) ووصفها الطبري بقوله: إن الدم كان غالبا في الماء في هذه المعركة( )، حاول الروم أن يغرقوا سفينة القائد المسلم عبد الله بن أبي السرح، كي يبقى جند المسلمين دون قائد، فتقدمت من سفينته سفينة رومية، ألقت إلى عبد الله السلاسل لتسحبها وتنفرد بها، ولكن علقمة بن يزيد الغطيفي أنقذ السفينة والقائد بأن ألقى بنفسه على السلاسل وقطعها بسيفه( ).
وصمد المسلمون رغم كل شيء، وصبروا كعادتهم في معاركهم، فكتب الله -عز وجل- لهم النصر بما صبروا، واندحر ما تبقى من الأسطول الرومي، وكاد الأمير قسطنطين أن يقع أسيرا في أيدي المسلمين -كما ذكر ابن عبد الحكم- لكنه تمكن من الفرار لما رأى قواه تنهار وجثث جنده على سطح الماء تلقى بها الأمواج إلى الساحل. لقد رأى أسطوله الذي تأمل فيه خيرا ونصرا وإعادة كرامة يغرق قطعة بعد قطعة، ففر مدبرا والجراحات في جسمه، والحسرة تأكل فؤاده، يجر خيبة وفشلا، فوصل جزيرة صقلية( )، وألقت به الريح هناك، فسأله أهله عن أمره فأخبرهم، فقالوا: شمت النصرانية، وأفنيت رجالها، لو دخل المسلمون لم نجد من يردهم( ) فقتلوه، وخلوا من كان معه من المراكب( ).
* نتائج ذات الصواري:
1- كانت ذات الصواري أول معركة حاسمة في البحر خاضها المسلمون، أظهر فيها الأسطول الفتيُّ الصبر والإيمان، والجَلَد والفكر السليم بما تفتَّق عنه الذهن الإسلامي من خطة جعلت المعركة صعبة على أعدائهم، فاستحال عليهم اختراق صفوف المسلمين بسهولة، كما استخدم المسلمون خطاطيف طويلة يجرون بها صواري وشرع سفن الأعداء، الأمر الذي انتهى بكارثة بالنسبة للروم.
2- كانت ذات الصواري حدا فاصلا في سياسة الروم إزاء المسلمين، فأدركوا فشل خططهم في استرداد هيبتهم، أو استرجاع مصر أو الشام، وانطلق المسلمون في عرض هذا البحر الذي كان بحيرة رومية، وانتهى اسم (بحر الروم) إلى الأبد، واستطاع المسلمون فتح قبرص وكريت وكورسيكا وسردينيا وصقلية وجزر البليار، ووصلوا إلى جنوة ومرسيليا.
3- قتل قسطنطين فتولى ابن قسطنطين الرابع من بعده، وكان حَدَثًا صغير السن، مما جعل الظروف مواتية لقيام حملة بحرية وبرية إسلامية تستهدف عاصمة روما (القسطنطينية) فيما بعد.
4- الإعداد الروحي قبل المعركة -أو ما يسمى بالتوجيه المعنوي في أيامنا هذه- له قيمته في تحقيق النصر؛ حيث تتجه القلوب إلى الله بصدق، فهذا المؤمن الذي بات ليله في تهجد وذكر، يستمد العون من الله، من عظمته وعزته، بعد أن هيأ الأسباب، يلقى الأعداء بروح عالية لا يهاب الموت، فالله أكبر من كل شيء، وهذه المعارك التي نصف أحداثها التاريخية هي وصفة طبية نعرضها للتطبيق والنهج، لنستفيد منها في حياتنا؛ فحياة الصحابة ما هي إلا للقدوة وسيرة للاتباع.( )
5- أصبح البحر المتوسط بحيرة إسلامية، وصار الأسطول الإسلامي سيد مياه البحر المتوسط، وهذا الأسطول ليس للتسلط والقرصنة بل للدعوة إلى الله وكسر شوكة المشركين، ونشر الحضارة المنبثقة عن كتاب الله وسنة رسوله ×.
6- عكف المسلمون على دراسة علوم البحرية، وصناعة السفن، وكيفية تسليحها، وأسلوب القتال من فوقها، وعلوم الفلك المتصلة بتسييرها في البحار، ومعرفة مواقعهم على المصورات البحرية المختلفة، فيما بعد، فعرفوا الاصطرلاب (البوصلة الفلكية), وطوروها إلى المدى الذي استفاد منه بعد ذلك البحارة الغربيون أمثال: كرستوف كولومبس، وأمريكوفيسبوشي في اكتشافاتهم( ).
7- لقد كانت هذه المعركة مظهرا من مظاهر تفوق العقيدة الصحيحة الصلبة على الخبرة العسكرية والتفوق في العدد والعُدَد، فلقد كان الروم هم أهل البحر منذ القدم، وقد مروا بتجارب طويلة في الحروب البحرية، بينما كان المسلمون حديثي عهد بركوب البحر والقتال البحري، ولكن الله تعالى أدلى المسلمين عليهم برغم التفوق المذكور؛ لأنه سبحانه قد سخر أولئك المؤمنين لنشر دينه وإعلاء كلمته في الأرض. وإن مما يشاد به في هذه المعركة قوة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:30 pm

المبحث الرابع
أعظم مفاخر عثمان جمع الأمة على مصحف واحد
أولاً: المراحل التي مرت بها كتابة القرآن الكريم:
1- المرحلة الأولى في العهد النبوي:
حيث ثبت بالدليل القاطع، أن رسول الله × كان يأمر بكتابة القرآن الذي ينزل عليه، وثبت أنه كان له كاتب أو كتاب يكتبون الوحي، حتى شُهر زيد بن ثابت بلقب (كاتب
النبي × لاختصاصه بكتابة الوحي)، وبوَّب البخاري في كتاب (فضائل القرآن) (باب كتَّاب النبي ×)، وذكر فيه حديثين:
الأول: أنا أبا بكر ? قال لزيد: (إنك كنت تكتب الوحي لرسول الله...) ( )
والثاني: عن البراء قال: لما نزلت +لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ..." قال النبي ×: «ادع لي زيدا وليجئ باللوح والدواة والكتف، أو الكتف والدواة». ( ) وكان النبي × يكتب القرآن في مكة أيضا قبل الهجرة، وممن كتب له عبد الله بن سعد بن أبي السرح ثم ارتد، ثم أسلم عام الفتح، وله في ذلك قصة مشهورة قد ذكرتها. والمعروف أن الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا كتبة، فلعلهم كانوا يكتبون القرآن في مكة، ومما يدل على أن القرآن كان مكتوبا في مكة قصة إسلام عمر بن الخطاب ودخوله على أخته، وبيدها صحيفة فيها سورة طه، وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه -أي القرآن- مجموع في الصحف في قوله تعالى: +رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً" [البينة: 2]. وقد توفى رسول الله × والقرآن كله مكتوب لكنه غير مجموع في موضع واحد، وكان مكتوبا على العسب واللخاف, ومحفوظا في صدور الرجال، ومع حفظه في الصحف وفي الصدور كان جبريل يعرض القرآن على النبي × كل عام مرة، وعرض عليه مرتين في العام الذي قبض.( ) ويحتمل أن النبي × لم يجمع القرآن في مصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته × ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء لوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية( ).
2- المرحلة الثانية في عهد أبي بكر ?:
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر ? بمشورة عمر بن الخطاب ? بجمع القرآن؛ حيث جمع من الرقاع والعظام والعسب ومن صدور الرجال( )، وأسند الصديق هذا العمل العظيم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري ?، يروى زيد بن ثابت ? فيقول: بعث إليَّ أبو بكر ? لمقتل أهل اليمامة( )، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر ?: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر( ) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن( ) كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله × ( )؟ فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك( )، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ×، فتتبع القرآن فاجمعه.( ) قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي مما كلفني به من جمع القرآن، فتتبعت القرآن من العسب( ) واللخاف( )
وصدور الرجال والرقاع والأكتاف.( ) قال: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره +لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، وكانت الصحف عند أبي بكر في حياته حتى توفاه الله، ثم عمر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم( ).
ونستخلص من المرحلة الثانية في جمع القرآن بعض النتائج:
أ- أن جمع القرآن الكريم جاء نتيجة الخوف على ضياعه نظرا لموت العديد من القراء في حروب الردة، وهذا يدل على أن القراء والعلماء كانوا وقتئذ أسرع الناس إلى العمل والجهاد لرفع شأن الإسلام والمسلمين بأفكارهم وسلوكهم وسيوفهم، فكانوا خير أمة أخرجت للناس ينبغي الاقتداء بهم لكل من جاء بعدهم.
ب- أن جمع القرآن تم بناء على المصلحة المرسلة، ولا أدل على ذلك من قول عمر لأبي بكر حين سأله كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله ×: إنه خير. وفي بعض الروايات أنه قال له: إنه والله خير ومصلحة للمسلمين. وهو نفس ما أجاب به أبو بكر زيد بن ثابت حين سأل نفس السؤال، وسواء صحت الرواية التي جاء فيها لفظ المصلحة أو لم تصح فإن التعبير بكلمة خير يفيد نفس المعنى، وهو مصلحة المسلمين في جمع القرآن مبني على المصلحة المرسلة أول الأمر، ثم انعقد الإجماع على ذلك بعد أن وافق الجميع بالإقرار الصريح أو الضمني، وهذا يدل على أن المصلحة المرسلة يصح أن تكون سندا للإجماع بالنسبة لمن يقول بحجيتها كما هو مقرر في كتب أصول الفقه.
ج- وقد اتضح لنا من هذه الواقعة كذلك كيف كان الصحابة يجتهدون في جو من الهدوء يسوده الود والاحترام، هدفهم الوصول إلى ما يحقق الصالح العام لجماعة المسلمين، وأنهم كانوا ينقادون إلى الرأي الصحيح وتنشرح قلوبهم له بعد الإقناع والاقتناع، فإذا اقتنعوا بالرأي دافعوا عنه كما لو كان رأيهم منذ البداية، وبهذه الروح أمكن انعقاد إجماعهم حول العديد من الأحكام الاجتهادية( ).
* ما المقومات الأساسية لزيد بن ثابت للقيام بهذه المهمة؟
اختار أبو بكر ? زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة، وذلك لأنه رأى فيه المقومات الأساسية للقيام بها، وهي:
أ- كونه شابا؛ حيث كان عمره 21 سنة، فيكون أنشط لما يطلب منه.
ب- كونه أكثر تأهيلا، فيكون أوعى له؛ إذ من وهبه الله عقلا راجحا فقد يسر له سبيل الخير.
ج- كونه ثقة، فليس هو موضعا للتهمة، فيكون عمله مقبولا، وتركن إليه النفس ويطمئن إليه القلب.
د- كونه كاتبا للوحي، فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا الأمر، وممارسته عملية له، فليس غريبا عن هذا العمل ولا دخيلا عليه( ).
هـ- ويضاف لذلك أنه أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي ×، فعن قتادة قال: سألت أنس بن مالك ?: من جمع القرآن على عهد النبي ×؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.( ) وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن فكان لا يثبت شيئا من القرآن إلا إذا كان مكتوبا بين يدي النبي × ومحفوظا من الصحابة، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، خشية أن يكون في الحفظ خطأ أو وَهْم، وأيضا لم يقبل من أحد شيئا جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله × وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن.( ) وعلى هذا المنهج استمر زيد ? في جمع القرآن حذرا متثبتا مبالغا في الدقة والتحري( ).
* الفرق بين المكتوب في العهد النبوي وعهد الصديق:
الفرق بين المكتوب في العهد النبوي وما كتب في عهد أبي بكر: أن القرآن كان مكتوبا في العهد النبوي، مفرقا في الصحف والألواح والعُسب والكرانيف والقصب وأدوات أخرى، ولم تكن مجموعة سوره في خيط واحد، وأما الذي تم في أيام أبي بكر فهو كتابة القرآن في صحف كل سورة أو سور في صحيفة مرتبة آياته على ما حفظوه عن رسول الله ×، فكانت مهمة زيد بن ثابت أن يكتب ما كان مكتوبا في العهد النبوي في صحف، كل سورة في صحيفة مرتبة فيها الآيات ترتيبا توقيفيا( ).
3- المرحلة الثالثة في جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان ?:
* الباعث على جمع القرآن في عهد عثمان:
عن أنس بن مالك: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير, وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق( ).
ويؤخذ من هذا الحديث الصحيح أمور، منها:
أ- أن السبب الحامل لعثمان ? على جمع القرآن مع أنه كان مجموعا مرتبا في صحف أبي بكر الصديق إنما هو اختلاف قراء المسلمين في القراءة اختلافا أوشك أن يؤدي بهم إلى أخطر فتنة في كتاب الله تعالى، وهو أصل الشريعة ودعامة الدين، وأساس بناء الأمة الاجتماعي والسياسي والخلقي، حتى إن بعضهم كان يقول لبعض: إن قراءتي خير من قراءتك، فأفزع ذلك حذيفة، ففزع فيه إلى خليفة المسلمين وإمامهم, وطلب إليه أن يدرك الأمة قبل أن تختلف فيستشري بينهم الاختلاف ويتفاقم أمره ويعظم خطبه، فيمس نص القرآن وتحرف عن مواضعها كلماته وآياته، كالذي وقع بين اليهود والنصارى من اختلاف كل أمة على نفسها في كتابها.
ب- أن هذا الحديث الصحيح قاطع بأن القرآن الكريم كان مجموعا في صحف ومضموما في خيط، وقد اتفقت كلمة الأمة اتفاقا تاما على أن ما في تلك الصحف هو القرآن كما تلقته عن النبي × في آخر عرضة على أمين الوحي جبريل عليه السلام، وأن تلك الصحف ظلت في رعاية الخليفة الأول أبي بكر الصديق، ثم انتقلت بعده إلى رعاية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ثم لما عرف عمر حضور أجله ولم يولِّ عهده أحدًا معينا في خلافة المسلمين، وإنما جعل الأمر شورى في الرهط المصطفين بالرضا من رسول الله ×، أوصى بحفظ الصحف عند ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأن عثمان اعتمد في جمعه على تلك الصحف، وعنها نقل مصحفه (الرسمي)، وأنه أمر أربعة من أشهر قراء الصحابة إتقانا لحفظ القرآن ووعيا لحروفه وأداء لقراءته وفهما لإعرابه ولغته: ثلاثة قرشيين وواحدا أنصاريا، وهو زيد بن ثابت صاحب الجمع الأول في عهد الصديق بإشارة الفاروق، وفي بعض الروايات أن الذين أمرهم عثمان أن يكتبوا من الصحف اثنا عشر رجلا، فيهم أبي بن كعب، وآخرون من قريش والأنصار( ).
ج- ونأخذ من هذا أن الفتوحات في عهد عثمان كانت بإذن وأمر من الخليفة، وأن القرار العسكري يصدر من المدينة، وأن الولايات الإسلامية كلها كانت خاضعة لأمر الخليفة عثمان في عهده؛ بل يدل على أن هناك إجماعا من الصحابة والتابعين في جميع الأقاليم على خلافة عثمان. وقدوم حذيفة بن اليمان إلى المدينة، لرفع اختلاف الناس في قراءة القرآن، يدل على أن القضايا الشرعية الكبرى كان يستشار فيها الخليفة في المدينة، وأن المدينة ما زالت دار السنة ومجمع فقهاء الصحابة( ).
ثانيًا: استشارة جمهور الصحابة في جمع عثمان:
جمع عثمان ? المهاجرين والأنصار وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيان الأمة وأعلام الأئمة وعلماء الصحابة، وفي طليعتهم علي بن أبي طالب ?، وعرض عثمان ? هذه المعضلة على صفوة الأمة وقادتها الهادين المهديين، ودارسهم أمرها ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عرف رأيهم وعرفوا رأيه، فأجابوه إلى رأيه في صراحة لا تجعل للريب إلى قلوب المؤمنين سبيلا، وظهر للناس في أرجاء الأرض ما انعقد عليه إجماعهم، فلم يعرف قط يومئذ لهم مخالف ولا عرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفى على آحاد الأمة فضلا عن علمائها وأئمتها البارزين( ).
إن عثمان ? لم يبتدع في جمعه المصحف، بل سبقه إلى ذلك أبو بكر الصديق ?، كما أنه لم يصنع ذلك من قِبَل نفسه، إنما فعله عن مشورة للصحابة -رضي الله عنهم- وأعجبهم هذا الفعل وقالوا: نعم ما رأيت، وقالوا أيضا: قد أحسن (أي في فعله في المصاحف)( ).
وقد أدرك مصعب بن سعد صحابة النبي × حين مشق( ) عثمان ? المصاحف فرآهم قد أعجبوا بهذا الفعل منه( )، وكان علي ? ينهى من يعيب على عثمان ? بذلك ويقول: يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرا أو قولوا خيرا, فوالله ما فعل الذي فعل -أي في المصاحف- إلا عن ملإٍ منا جميعا -أي الصحابة-, والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل( ).
وبعد اتفاق هذا الجمع الفاضل من خيرة الخلق على هذا الأمر المبارك، يتبين لكل متجرد عن الهوى أن الواجب على المسلم الرضا بهذا الصنيع الذي صنعه عثمان ? وحفظ به القرآن الكريم( ).
قال القرطبي في التفسير: وكان هذا من عثمان ? بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت من القراءة المشهورة عن النبي × واطراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان رأيا سديدا موفقا( )
ثالثـًا: الفرق بين جمع الصديق وجمع عثمان رضي الله عنهما:
قال ابن التين: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشيته أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي ×. وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك إلى تخطئة بعضهم البعض، فخشى من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره، واقتصر في سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءاته بلغة غيرهم، دفعًا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: لم يقصد أبو بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، إنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي × وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد.
وقال الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك؛ إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن، فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق، وقد قال علي ?: لو وليت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان( ).
وقال القرطبي: فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه؟ قيل له: إن عثمان ? لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك؟ وإنما فعل ذلك عثمان لأن الناس اختلفوا في القراءة لتفرق الصحابة في البلدان، واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم، ووقع بين أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة ?( ).
رابعًا: هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة:
ذهب الشيخ المحقق صادق عرجون -رحمه الله- إلى أن صحف الصديق التي كانت أصلا للمصحف الإمام بإجماع المسلمين لم تكن جامعة للأحرف السبعة التي وردت صحاح الحديث بإنزال القرآن عليها، بل كانت على حرف منها، هو الذي وقعت به العرضة الأخيرة واستقر عليها الأمر في آخر حياة رسول الله ×، وإنما كانت الأحرف السبعة أولا من باب التيسير على الأمة، ثم ارتفع حكمها لما استفاض القرآن وتمازج الناس وتوحدت لغاتهم. قال الإمام الطحاوي: إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم؛ لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، وسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك حتى كثرت منهم من يكتب, وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله ×، فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه, فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها. قال ابن عبد البر: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد.( )
وقال الطبري: إن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان جائزا لهم ومرخصا لهم فيه، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجتمعوا على حرف واحد أجمعوا على ذلك إجماعا شائعا، وهم معصومون من الضلالة.( ) وهذا الحرف الذي كتبت به صحف الإجماع القاطع ونقل عنها المصحف الإمام جامع لقراءات القراء السبعة وغيرها، مما يقرأ به الناس ونقل متواترا عن رسول الله ×؛ لأن الأحرف الواردة في الحديث غير هذه القراءات.( ) قال القرطبي: قال كثير من علمائنا كالداودي وابن أبي صفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الذي جمع عليه المصحف( )، وأقرب الآراء إلى الفهم عند ظننا في معنى الأحرف إنما هو الرأي القائل بأنها هي أفصح لغات العرب وأشهرها، وهي مبثوثة في القرآن كله، وإليه ذهب القاسم بن سلام وابن عطية في جماعة من الأجلاء، وإليه يرجع نحو سبعة أقوال مما ذكره السيوطي في الإتقان في معنى الأحرف( ).
خامسًا: عدد المصاحف التي أرسلها عثمان ? إلى الأمصار:
لما فرغ عثمان ? من جمع المصاحف أرسل إلى كل أفق بمصحف، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسله إلى الآفاق، وقد اختلفوا في عدد المصاحف التي فرقها في الأمصار، فقيل: إنها أربعة وهو الذي اتفق عليه أكثر العلماء، وقيل: إنها خمسة، وقيل: إنها ستة، وقيل: إنها سبعة، وقيل: إنها ثمانية. أما كونها أربعة فقيل: إنه أبقى مصحفا بالمدينة، وأرسل مصحفا إلى الشام، ومصحفا إلى الكوفة، ومصحفا إلى البصرة. وأما كونها خمسة؛ فالأربعة المتقدم ذكرها، والخامس أرسله إلى مكة. وأما كونها ستة فالخمسة والمتقدم ذكرها، والسادس اختلف فيه، فقيل جعله خاصا لنفسه، وقيل: أرسله إلى البحرين. وأما كونها سبعة، فالستة المتقدم ذكرها، والسابع أرسله إلى اليمن. وأما كونها ثمانية، فالسبعة المتقدم ذكرها، والثامن كان لعثمان يقرأ فيه، وهو الذي قتل وهو بين يديه.( ) وبعث ? مع كل مصحف من يرشد الناس إلى قراءته بما يحتمله رسمه من القراءات مما صح وتواتر، فكان عبد الله بن السائب مع المصحف المكي، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مع المصحف الكوفي، وعامر بن قيس مع المصحف البصري، وأمر زيد بن ثابت أن يقرئ الناس بالمدني( ).
سادسًا: موقف عبد الله بن مسعود من مصحف عثمان:
لم يثبت أن ابن مسعود ? خالف عثمان في ذلك، وكل ما روي في ذلك ضعيف الإسناد، كما أن هذه الروايات الضعيفة التي تتضمن ذلك تثبت أن ابن مسعود رجع إلى ما اتفق عليه الصحابة في جمع القرآن، وأنه قام في الناس وأعلن ذلك، وأمرهم بالرجوع إلى جماعة المسلمين في ذلك( ). وقال: إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا، ولكن ينتزعه بذهاب العلماء، وإن الله لا يجمع أمة محمد × على ضلالة، فجامعوهم على ما اجتمعوا عليه، فإن الحق فيما اجتمعوا عليه، وكتب بذلك إلى عثمان.( ) وقد ورد عن ابن كثير رجوع ابن مسعود إلى الوفاق( )، وأكد الذهبي ذلك فقال: وقد ورد أن ابن مسعود رضي وتابع عثمان ولله الحمد.( ) ولا يلتفت إلى ما كتبه طه حسين في قضية المصحف وعلاقة عثمان مع ابن مسعود وما ساقه بأسلوب مسموم، فيه أفكار أخذها من أساتذته المستشرقين( ). الذين اعتمدوا على روايات ضعيفة ورافضية في تشويه علاقة الصحابة ببعضهم رضي الله
عنهم جميعا.
إن ابن مسعود ? الذي ترك صلاة القصر في منى خشية من الخلاف والفتنة ومتابعة للخليفة، هل يتوقع منه أن يصعد المنبر ويحرض الناس على الخلاف، وهو القائل: إن الخلاف شر( ).
إن مؤرخي الروافض زوَّروا روايات ونسبوها لابن مسعود وموقفه من عثمان رضي الله عنهم، وأظهروا في تلك الأكاذيب الصحابة قوما متنازعين متباغضين، متعنتين متفاحشين في القول، وهي روايات ساقطة لا تثبت أمام النقد الهادئ الموضوعي، ويرفضها الذوق المؤمن والعقل الفطن، وقد زعمت الرافضة كذبا وزورا بأن ابن مسعود كان يطعن على عثمان ويكفره، ولما حكم عثمان ضربه حتى مات، وهذا كذب بيِّن على ابن مسعود، فإن علماء النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما بويع عثمان بالخلافة سار عبد الله بن مسعود من المدينة إلى الكوفة، ولما وصل إليها حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مات فلم نر يوما أكثر نشيجا من يومئذ، وإنا اجتمعنا أصحاب محمد فلم نأل عن خيرنا ذي فُوق، فبايعنا أمير المؤمنين عثمان فبايعوه.( ) وهذه الكلمات الواضحة أكبر دليل على تلك المكانة الرفيعة لعثمان بن عفان في قلب ابن مسعود وعند جميع الصحابة، أولئك الذين مدحهم الله تعالى ورضي عنهم، وهم خير من فقه قوله سبحانه: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا" [الأحزاب: 70]. فقول عبد الله بن مسعود صدق لا يعدو الحقيقة، كما أنه نابع عن قناعته وصادر عن محض إرادته، ما قاله خوفا ولا خشية، ولم يقذف به هكذا رخيصا للاستهلاك والتغرير، أو ليحوز مكانة ومنصبا في الخلافة الجديدة. إذن فمن بدهيات الأمور وأولياتها أن ليس ثمة حقد أو بغضاء في قلب أحدهما على الآخر، وإن حدث شيء فإنما هو من أجل الحق وصالح المسلمين( )، ويندرج تحت فقه النصيحة وآدابها وتأديب الخليفة لرعيته، وأما ما زعم الروافض ومن سار على نهجهم من أن عثمان ضرب ابن مسعود حتى مات فهذا كذب باتفاق أهل العلم، قال أبو بكر بن العربي: وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور.( ) فلا وجهة للرافضة بالطعن على عثمان بقصة ابن مسعود هذه, فإنه لم يضربه ولم يمنعه عطاءه، وإنما كان يعرف له قدره ومكانته، كما كان ابن مسعود شديد الالتزام بطاعة إمامه الذي بايع له وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة( ).
سابعًا: فهم الصحابة لآيات النهي عن الاختلاف:
قال تعالى: +وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [الأنعام: 153], فالصراط المستقيم هو القرآن والإسلام والفطرة التي فطر الله الناس عليها، والسبل هي الأهواء والفرق والبدع والمحدثات، قال مجاهد: +وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ" يعني البدع والشبهات والضلالات( ).
ونهى الله -سبحانه وتعالى- هذه الأمة عما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف والتفرق من بعد ما جاءتهم البينات، وأنزل الله إليهم الكتاب فقال سبحانه: +وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [آل عمران: 105].
ونهى الأمة أن يكون أفرادها من المشركين، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، فقال عز من قائل: +فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" [الروم: 30- 32].
وأخبر سبحانه وتعالى أن رسول الله × برئ من الذين يفرقون دينهم ويكونون شيعا وأحزابا( ), قال تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" [الأنعام: 159].
ويظهر من قصة جمع القرآن في عهد عثمان ? مدى فهم الصحابة -رضي الله عنهم- لآيات النهي عن الاختلاف؛ حيث إن الله نهى عن الاختلاف وحذر منه، فلعمق فهمهم لهذه الآيات ارتعد حذيفة ? عندما سمع بوادر الاختلاف في قراءة القرآن، فرحل فورا إلى المدينة النبوية، وأخبر عثمان ? بما رأى وبما سمع، فسرعان ما قام عثمان يخطب الناس، يحذرهم من مغبة هذا الخلاف، ويشاور الصحابة -رضوان الله عليهم- في الحل لهذه المحنة التي بدأت بالظهور، وفي مدة قصيرة يحسم الأمر ويغلق باب الخلاف الذي كاد أن ينفتح بجمع الصحف ونسخها في مصحف واحد من المصادر الموثوقة جدا، وبإغلاق باب الفتنة هذا فرح المسلمون، بينما اغتاظ المنافقون الذين كانوا قد استبشروا ببوادر الخلاف التي كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر ويسعون إلى تحقيقها، ولما حسم الخلاف، ولم يجد أولئك طريقا إلى استنهاضه، ازداد حقدهم على عثمان ? وسعوا إلى التشنيع عليه وتصوير حسنته هذه سيئة، وتلمسوا في سبيل إثبات ذلك خيوط العنكبوت الواهية، ليطعنوا فيه ويسوغوا خروجهم عليه بها، مظهرين للناس أن هذه الحسنة سيئة تستوجب الخروج عليه( ).
إن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يتركوا كل قارئ على قراءته الصحيحة، بل جمعوهم على قراءة واحدة، فاجتمع شملهم وتوحد صفهم، وهذا درس عظيم نستلهمه من دراستنا لتاريخ عهد الخلفاء الراشدين، الحافل بالعبر والدروس ومواطن القدوة( ).
قال رسول الله ×: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا مَنْ ولاه الله أمركم». ( )
إن طريق الاعتصام بحبل الله أن نلتزم بكتاب الله وسنة رسوله ×، وهذا الأصل من آكد الأصول في هذا الدين العظيم، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: وهذا الأصل العظيم -وهو الإسلام- مما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، مما عظمت به وصية النبي × في مواطن عامة وخاصة( ). ولذلك أمر الله تعالى ورسوله × بكل ما يحفظ على المسلمين جماعتهم وألفتهم، ونهى عن كل ما يعكر صفو هذا الأمر العظيم.
إن ما حصل من فرقة بين المسلمين وتدابر وتقاطع وتناحر، بسبب عدم مراعاة هذا الأصل وضوابطه مما ترتب عليه تفرق في الصفوف، وضعف في الاتحاد، وأصبحوا شيعا وأحزابًا كل حزب بما لديهم فرحون( ).
إن وحدة المسلمين واجتماعهم مطلب شرعي، ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة؛ بل من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى، ونحن مأمورون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فلا بد من تضافر الجهود بين الدعاة وقادة الحركات الإسلامية، وبين علماء المسلمين وطلبة العلم لإصلاح ذات البين إصلاحًا حقيقًا لا تلفيقيًّا؛ لأن أنصاف الحلول تفسد أكثر مما تصلح، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: الجهاد نوعان؛ جهاد يقصد به صلاح المسلمين وإصلاحهم في عقائدهم وأخلاقهم وآدابهم وجميع شئونهم الدينية والدنيوية، وفي تربيتهم العلمية وهذا النوع هو الجهاد وقوامه، وعليه يتأسس النوع الثاني، وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين والملحدين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم، وهذان نوعان: جهاد بالحجة والبرهان واللسان، وجهاد بالسلاح المناسب في كل وقت وزمان.( ) ثم أفرد فصلا بعنوان: الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة واتفاق الكلمة.( ) وبعد أن ذكر الآيات والأحاديث الدالة على وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال: فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية( ).
ولذلك نرى أن الأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد؛ لأن هذه الخطوة مهمة جدا في إعزاز المسلمين وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم، وهذا من فقه الخلفاء الراشدين، ويتجلى في أبهى صورة في جمع عثمان ? للأمة على مصحف واحد.
* * *
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:33 pm

الفصل الخامس
مؤسسة الولاة في عهد عثمان ?
المبحث الأول
أقاليم الدولة في عهد عثمان وسياسته مع الولاة
أولاً: مكة المكرمة:
توفى عمر بن الخطاب ? وواليه على مكة خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي( ), وقد أبقاه عثمان ? فترة من الوقت يصعب تحديدها ثم قام بعزله، ولم ترد أخبار عن سبب ذلك، إضافة إلى صعوبة تحديد أهم أعماله. وقد قام عثمان ? بعد عزله بتولية علي بن ربيعة بن عبد العزى، ثم قام عثمان ? بعد ذلك بتولية مجموعة من الأمراء على مكة يصعب تحديد فترات ولايتهم منهم عبد الله بن عمرو الحضرمي، الذي كان أحد عمال عثمان على مكة، كما أن النصوص تثبت أن عثمان ? قد أعاد خالد بن العاص بن هشام على مكة مرة أخرى، وتؤكد بعض المصادر أن عثمان توفي وخالد على مكة فقام عليٌّ ? بعزله وتولية غيره.( ) وهذه الرواية على ما يبدو أثبت من الروايات التي تذكر أن عبد الله بن الحضرمي هو الوالي على مكة حين قتل عثمان.( ) وقد تميزت مكة في عهد عثمان بالهدوء المستمر رغم ما وقع في بعض الأمصار من فتنة في أواخر عهد عثمان( ).
ثانيًا: المدينة النبوية:
تعد المدينة المنورة من أهم المدن الإسلامية في عهد عثمان, بها مركز الخلافة وإليها تفد الوفود من مختلف الأمصار، والأجناد الإسلامية، ويقيم بها كثير من شيوخ الصحابة من المهاجرين والأنصار، وبذلك تكتسب أهمية خاصة. وقد كان عثمان بحكم خلافته مقيما بها ويتفقد أحوالها، حتى إنه كان يسأل عن أسعار المواد الغذائية وعن أخبار الناس.( ) وكان عثمان ? إذا سافر إلى الحج يستخلف أحد الصحابة على المدينة حتى يرجع، وكثيرا ما كان يستخلف زيد بن ثابت ?.( ) وكان في المدينة بيت مال وديوان للأعطيات كغيرها من الأمصار، وتعتبر المدينة من أكثر الأمصار الإسلامية هدوءًا خلال عصر عثمان سوى ما حدث في أيامه الأخيرة من اضطراب الأحوال فيها بعد وصول جيوش الفتنة وحصار عثمان وخروج بعض كبار الصحابة منها( ).
ثالثـًا: البحرين واليمامة ( ) :
توفي عمر بن الخطاب ? وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص الثقفي فأقره عثمان عليها فترة من الوقت، وتدل الروايات على أن عثمان بن أبي العاص كان على ولاية البحرين بعد مبايعة عثمان بثلاث سنين؛ أي سنة 27هـ، بدليل مشاركته بجيشه مع جيش البصرة في بعض الفتوح.( ) ويبدو أن التعاون الذي بدأ بين ولاية البحرين وولاية البصرة في عهد عمر أخذ يشتد ويقوى في عهد عثمان خصوصا بعد تولية (عبد الله بن عامر بن كريز) ( ) على البصرة؛ حيث أصبح عامل البحرين أحد القواد التابعين لعبد الله بن عامر والي البصرة، كما أن النصوص التاريخية تفيد تبعية ولاية البحرين للبصرة -إلى حد ما- واندماجها معها، بحيث أصبح ابن عامر يعين العمال عليها من قبله.( ) ويؤكد أحد الباحثين هذا التعاون في قوله: وفي زمن الخليفة عثمان بن عفان ألحقت البحرين بالبصرة عندما أصبحت الأخيرة قاعدة لفتوح فارس وجنوب إيران، فصار ولاتها تابعين لأمير البصرة, وقد عزز هذا صلة البصرة بالبحرين ووثقها.( ) وقد ذكر من ولاة عثمان على البحرين مروان بن الحكم، وعبد الله بن سوار العبدي، وقد توفي عثمان وعبد الله على البحرين.( ) وقد كان للبحرين في أيام عثمان دور كبير في تلك الفتوح( ).
وقد كانت الأوضاع داخل البحرين مستقرة حتى وفاة عثمان، وأما اليمامة فقد كانت في عهد عمر ? تابعة لولاية البحرين وعمان إلى حد كبير، بل إن والي البحرين هو الذي كان يبعث عليها الأمراء أحيانا، أما في عهد عثمان ? فالذي يبدو أن اليمامة كان عليها وال من قبل عثمان مباشرة, وقد ورد ذكره في أحداث الفتنة بعد مقتل عثمان مباشرة؛ إذ وصلته بعض الكتب في تلك الفترة ممن غضبوا لمقتل عثمان( ).
رابعًا: اليمن وحضرموت:
توفي عمر ? وعامله على اليمن (يعلى بن مُنيَّة)، وكان في طريقه إلى المدينة بناء على طلب عمر إذ جاءه كتاب من عثمان يخبره بوفاة عمر وبيعة الناس لعثمان، واستعماله من قبل عثمان له على صنعاء، فاستمر على صنعاء إلى وفاة عثمان ?.( ) وكان على مدينة الجند عبد الله بن ربيعة الذي استمر واليا عليها طيلة عهد عثمان ?( ). ويبدو أن هناك ولاة آخرين كانوا على بقية من اليمن، ولكن المصادر الرئيسية ركزت على هذين الواليين في الغالب، كما أن المصادر لم تفصل القول في أحداث اليمن خلال عصر عثمان، كما يقل إيرادها للمراسلات بين عثمان وولاته في اليمن سوى ما ذكره من أوامر عامة مرسلة لجميع الولاة.( ) وقد اشتهر عن أهل اليمن خلال عصر عثمان طاعتهم وانقيادهم لولاتهم، يدل على ذلك ما روي من أن عثمان ? بعث رجلا ثقفيا إلى اليمن، فلما عاد سأله عثمان عن أهلها فقال: رأيت قوما ما سئلوا أعطوا حقا كان أو باطلا.( )
ومن المعروف أن العديد من القبائل اليمنية هاجرت خلال الفتوح في أيام عمر بن الخطاب إلى الأمصار الإسلامية الجديدة سواء في العراق أو مصر أو الشام، وبالتالي فإن صلات اليمن وأهلها بهذه الأمصار لم تتوقف طيلة عهد عثمان؛ حيث نجد لأناس من يهود اليمن دورا خطيرا في أحداث الفتنة التي قامت أواخر عهد عثمان، واستشهد فيها
عثمان ?, وعلى رأس هؤلاء الوالغين في الفتنة (عبد الله بن سبأ)، وبعد مقتل عثمان ? ترك اليمن عدد من ولاتها وقدموا إلى الحجاز للمشاركة فيما يجري من أحداث، ومنهم يعلى بن منية وعبد الله بن ربيعة( ).
خامسًا: ولاية الشام:
حينما جاء عثمان إلى الخلافة كان معاوية ? واليا على معظم الشام فأقره عثمان عليها( )، كما أقر بعض الولاة الآخرين على ولاياتهم كاليمن والبحرين ومصر وغيرها من الولايات. وقد تطورت الأحداث وضمت إلى معاوية بعض المناطق الأخرى حتى أصبح معاوية هو الوالي المطلق لبلاد الشام، بل أصبح أقوى ولاة عثمان وأشدهم نفوذا، وقد كان في بداية خلافة عثمان ولاة آخرون منهم: عمير بن سعد الأنصاري وكان على حمص، وينافس معاوية بن أبي سفيان في المكانة لدى عثمان ? إلا أن عميرا مرض مرضا أعياه عن القيام بأعباء الولاية، فطلب من الخليفة عثمان أن يعفيه، فأعفاه وضم ولايته إلى معاوية بن أبي سفيان، وبذلك زاد نفوذ معاوية فامتد إلى حمص التي ولى عليها من قبله عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.( ) كما توفى علقمة بن محرز -وكان على فلسطين- فضم عثمان ولايته إلى ولاية معاوية بن أبي سفيان ? فاجتمعت الشام لمعاوية بعد سنتين من خلافة عثمان ?، وأصبح الوالي المطلق فيها طيلة السنوات الباقية من خلافة عثمان حتى توفي عثمان وهو عليها كما هو معروف.( ) وقد كانت فترة ولاية معاوية على الشام مليئة بالأحداث، كانت الشام من أهم مناطق الجهاد، ومع أن الشام في داخلها قد استقرت أوضاعها وسادها الإسلام وقلَّتْ محاولات الروم إثارة القلاقل فيها، إلا أن الشام كانت متاخمة لأرض الروم، وبالتالي كان المجال مفتوحا أمام معاوية للجهاد في تلك النواحي، وقد تحدثنا عنها فيما مضى، وقد كان لمعاوية ثقله السياسي في الدولة الإسلامية أواخر خلافة عثمان ?؛ إذ كان ضمن الولاة الذين جمعهم عثمان ليستشيرهم حين بدأت ملامح الفتنة تلوح في الأفق، كما ظهرت له آراء خاصة في هذا الاجتماع وجهها إلى عثمان( )، وسيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى.
سادسًا: أرمينية:
بدأت الجيوش الإسلامية بالتوجه إلى أرمينية لأول مرة في عهد عثمان ?؛ حيث توجه أول جيش إسلامي إلى تلك المنطقة من بلاد الشام، وهي من أقرب الولايات إليها، يقوده حبيب بن مسلمة الفهري وقوامه حوالي ثمانية آلاف مقاتل، واستطاع هذا الجيش أن يفتح العديد من المواقع في أرمينية، إلا أنه أحس بالخطر نتيجة تجمع حشود من الروم لمساعدة الأرمن في حروبهم ضد المسلمين، فطلب المساعدة من الخليفة الذي أمر بتسيير جيش من الكوفة قوامه ستة آلاف رجل تقريبا ويقوده سلمان بن ربيعة الباهلي.( ) وقد حدث نزاع بعد ذلك بين حبيب بن مسلمة وسلمان بن ربيعة، وقف الخليفة عثمان عليه، فقام بالكتابة إلى القوم وحل المشكلة التي بينهما.( ) ويبدو أن سلمان بن ربيعة تولى قيادة الجيوش الإسلامية؛ حيث كتب إليه عثمان بإمرته على أرمينية( )، ثم توغل سلمان بن ربيعة في أرمينية ثم بلاد (الخزر) ( ) فاتحا ومنتصرا، حتى وقعت معركة حامية بين جيشه وقوامه عشرة آلاف رجل وجيش ملك الخزر وقوامه ثلاثمائة ألف -كما تقول الروايات- فقتل سلمان وجميع جنوده، وقد كتب عثمان ? إلى حبيب بن مسلمة أن يسير مرة أخرى إلى بلاد أرمينية, فاتجه بجيشه وقام بفتح المواقع مرة بعد أخرى، وثبت أقدام المسلمين فيها، وعقد بعض المعاهدات مع أهل البلاد( )، ثم رأى عثمان ? أن يوجهه إلى ثغور الجزيرة لخبرته بها وقدرته عليها، وعين مكانه على أرمينية حذيفة بن اليمان بالإضافة لولايته على أذربيجان؛ حيث قام بعدة غزوات نحو بلاد الخزر من أرمينية( )، وبعد ما يقرب من سنة عزله عثمان وولى على أرمينية المغيرة بن شعبة ? حتى توفى عثمان وهو عليها وعلى أذربيجان في الوقت نفسه.( ) وتعد هذه الولاية إضافة جديدة أضافها عثمان إلى الدولة الإسلامية ولم تكن فتحت قبله، وقد لقي المسلمون عناء شديدا في فتحها وتنظيمها وضبط أمورها( ).
سابعًا: ولاية مصر:
كان والي مصر في خلافة عمر بن الخطاب هو عمرو بن العاص الذي حكمها ما يقرب من أربع سنوات.( ) وتوفي عمر وهو وال عليها، وقد أقره عثمان بن عفان في بداية خلافته فترة من الوقت, وكان يساعده في عمله في بعض نواحي مصر عبد الله بن أبي السرح( ) الذي كان مصاحبا لعمرو بن العاص منذ أيام فتوحه في فلسطين؛ حيث كان من ضمن قواده واشترك معه في فتوح مصر.( ) وقد عينه عمر على بعض صعيد مصر بعد فتحها( ), ويبدو أن عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي السرح حدث بينهما خلاف في وجهات النظر، فوفد عمرو بن العاص على عثمان بعد مبايعته بالخلافة، وطلب منه عزل عبد الله بن سعد عن ولاية الصعيد، فرفض عثمان ذلك, وذكر له أن عمر هو الذي ولى ابن أبي السرح، وأنه لم يأت بما يوجب العزل، فأصر عمرو على عزله، وأصر عثمان على عدم موافقته، ونتيجة لإصرار كل من الطرفين على رأيه، رأى عثمان أن من الأصلح عزل عمرو عن مصر وتولية عبد الله بن أبي السرح مكانه، وهذا ما حدث بالفعل.( ) وفي هذه الظروف قام الروم بالإغارة على الإسكندرية والاستيلاء عليها وقتلوا جميع من فيها من المسلمين، فرأى أمير المؤمنين تعيين عمرو على جيوش مصر لفتح الإسكندرية من جديد والقضاء على جيش الروم، وتم ذلك فعلا( )، وقد فصَّلت أحداثه في حديثي عن الفتوحات، ثم إن عثمان أراد أن يعيد عمرو على ولاية أجناد مصر وحربها, وأن يجعل عبد الله بن سعد على الخراج، إلا أن عمرو رفض ذلك، وتكاد الأخبار تندر عن ولاية عمرو في مصر خلال عهد عثمان ? سوى ما ورد من دوره في الجهاد؛ سواء في رد الروم وطردهم عن الإسكندرية وتثبيت الأمن في أنحاء مصر، أم في قضايا الخراج التي دارت فيها بين عثمان وبين عمرو خلافات في الرأي.( ) وبعد عزل عمرو بن العاص عن مصر مرة أخرى أو عن ولاية الإسكندرية على أرجح الآراء، وبعد رفضه ما اقترحه عثمان ? من ولايته على الأجناد وولاية ابن أبي السرح على الخراج، أقر عثمان عبد الله بن أبي السرح مرة أخرى على مصر، وأصبح هو الوالي الرسمي لمصر، والمدير الفعلي لولاية مصر بأجنادها وخراجها ومختلف شئونها.( ) وقد كانت ولاية مصر في أول أمرها هادئة مستقرة إلى أن تمكن مثيرو الفتنة من أمثال عبد الله بن سبأ من الوصول إليها وإثارة الناس فيها، فكان لهم وللمتأثرين بهم دور كبير في مقتل عثمان ?( )، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل ذلك.
ثامنًا: ولاية البصرة:
استشهد عمر بن الخطاب ? وواليه على البصرة أبو موسى الأشعري، وكان المجتمع البصري في تلك الفترة قد بدأ يشهد تغيرات أساسية في بنيته السكانية والاجتماعية حيث أصبحت البصرة من أكبر المعسكرات الإسلامية؛ إذ هاجر إليها العديد من القبائل وقام جندها بفتح الكثير من المواقع، وبالتالي اكتسبت أهمية خاصة في بداية عهد عثمان.( ) وقد انشغل الناس بأمورهم الخاصة إضافة إلى الأمور العامة من جهاد وغيره، وبالتالي فإن الولاية على مثل هذه المنطقة وكذلك ما يتبعها من أقاليم أخرى تعتبر مهمة ليست باليسيرة وتتطلب دراية خاصة بإدارة أحوال تلك الولاية، ولعل عمر بن الخطاب ? كان يحس بمقدرة أبي موسى الخاصة على إدارة تلك الولاية؛ حيث أوصى الخليفة من بعده أن يترك أبا موسى في الولاية من بعده أربع سنوات بعد وفاته.( ) وقد كانت فترة ولاية أبي موسى للبصرة فترة جهاد وكفاح برز فيها دور أهل البصرة، كما برز فيها أبو موسى ? بفتح العديد من المواقع في بلاد فارس، إضافة إلى تثبيته لأقدام المسلمين في المواقع المفتوحة سابقا، والتي حاول أهلها الانتقاض بعد وفاة عمر بن الخطاب ?، فقام أبو موسى بغزوهم وتثبيت الإسلام في تلك الربوع.( ) وبالإضافة إلى دور أبي موسى في الفتوح فإنه قام بدور مهم في تنظيم الري وحفر القنوات والأنهار في البصرة أثناء ولايته زمن الخليفة عثمان، وقد قام بحفر قناة لجلب مياه الشرب إلى البصرة اعتمد عليها الناس بعد ذلك في شربهم، كما بدأ في مشاريع لحفر قنوات أخرى، إلا أن عزله عن الولاية حال دون إتمامها( )، فقام خليفته عبد الله بن عامر بإتمامها.( ) ولم تستمر ولاية أبي موسى على البصرة طويلا؛ إذ قام عثمان بعزله سنة 29 هـ -كما ترجح معظم الروايات- وعين مكانه عبد الله بن عامر بن كريز.( ) ويورد المؤرخون عدة روايات حول عزل أبي موسى، نستخلص منها أن هناك مشكلة قامت بين أبي موسى وبين جند البصرة اختلف في سببها، وقد قدمت مجموعة من أهل البصرة إلى عثمان تحرضه على عزل أبي موسى قائلين له: ما كل ما نعلم نحب أن تسألنا عنه فأبدلنا سواه، قال عثمان: من تحبون؟ فقالوا: في كل أحد عوض عنه، وطلب قوم من عثمان أن يولي عليهم قرشيا( )، فعزل عثمان أبا موسى وولى مكانه عبد الله بن عامر. وهنا تتجلى لنا حكمة أبي موسى وسعة صدره وطاعته لأمر الخليفة، وأنه لم يكن يحرص على الولاية كما يظن البعض، فحينما بلغه عزله وتولية عبد الله بن عامر مكانه، صعد المنبر وأثنى على عبد الله بن عامر - وكان شابا صغيرا عمره 25 سنة - وكان ما مدحه به أبو موسى قوله: قد جاءكم غلام كريم العمَّات والخالات والجدات في قريش، يفيض عليكم المال فيضا.( )
لقد استطاع عثمان ? في تلك الظروف الصعبة التي تمر بها ولاية البصرة أن يعين قائدا جديدا يستجيب له الأجناد، وبالتالي توحدت صفوفهم أمام الأعداء، فضلا عن أن هذا العزل تكريم لأبي موسى من أن يهان من قبل بعض العوام، ممن تأثروا بالغوغاء وأفكار المتمردين المنحرفة ممن حملوا في نفوسهم كراهيته والتشهير به والتفوا عليه.( ) وقد كانت ولاية البصرة تمر بظروف صعبة حينما تولى ابن عامر، مما دفع عثمان ? إلى إجراء تغيير أساسي في إدارة الولاية؛ إذ أنه ضم أجناد البحرين وعمان إلى ابن عامر في البصرة؛ حتى يعطيه سلطة أقوى للوقوف أمام التحديات التي تواجهه في تلك الفترة، وقد كان لهذا الدمج أثره الكبير على قوة ابن عامر ونفوذه، كما أنه أثر من ناحية أخرى على البصرة نفسها؛ حيث أصبحت إحدى العواصم الإسلامية المستقرة، وزادت هجرة القبائل إليها أكثر من ذي قبل( )، وبالتالي زادت أعباء الولاية سواء في الديوان أم في تنظيم مختلف شئون الولاية الإدارية والمالية والأمنية وغيرها.
وقد كانت لولاية البصرة وأجنادها ولابن عامر نفسه فتوح عظيمة بدأت بعد ولايته مباشرة، وانتهت قبل مقتل أمير المؤمنين عثمان ?( )، وقد تم بيانها عند حديثنا عن فتوحات عثمان ?. وقد اكتسبت البصرة أيام ابن عامر مكانة خاصة بين الولايات الإسلامية لفتت نظر الخليفة عثمان ? نتيجة فتوحها وتوسعها في مختلف المجالات، فأصبحت مركزا إداريا مرموقا( )، وتدار منها العديد من المناطق الإسلامية. وكان ابن عامر مسئولا عن توزيع الأمراء في مختلف المناطق التابعة لولايته باتفاق مسبق مع الخليفة عثمان ?، وبالتالي كانت مسئولياته عظيمة. وقد قام ابن عامر بتوزيع الأمراء على المناطق التابعة له بمجرد أن تولى الإمارة؛ حيث اختار بعض القواد والأمراء وعينهم على تلك المناطق, ومن أهمها عمان والبحرين وسجستان وخراسان وفارس والأهواز, بما في هذه المناطق من مدن مختلفة ومناطق شاسعة( )، وكان يجري تنقلات بين هؤلاء الأمراء والعمال من وقت لآخر تبعا للمصلحة في ذلك. كما اشتهرت البصرة في أيامه ببيت مالها الذي زاد دخله في أيامه وكثرت مصروفاته، وكان المسئول عن بيت المال في أيام عمر زياد بن أبي سفيان، وقد كان يلي بعض المشاريع من حفر للأنهار وغيرها نيابة عن ابن عامر( )، وفي ولاية ابن عامر ضربت الدراهم في أنحاء فارس التابعة لولايته، وعليها ألفاظ عربية في الفترة من سنة 30هـ حتى 35هـ( ). وقد كان ابن عامر محبوبا لأهل البصرة عموما منذ قدومه إليها، ورغم ما أثير حوله من أن عثمان ولاه لأنه قريب له، إلا أن أهل البصرة تمسكوا به.( ) ومن خلال هذا العرض تبين أن ولاية البصرة في عهد عثمان انحصرت في رجلين هما أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عامر، ولقد كان لكل الواليين دوره الرئيسي في ضبط أمور البصرة وما يتبعها( ).
تاسعًا: ولاية الكوفة:
كان على ولاية الكوفة حين بويع عثمان بالخلافة المغيرة بن شعبة ?، وكان قد تولى في أواخر عهد عمر ?( )، وقد قام عثمان ? بعزل المغيرة عن الكوفة وتعيين سعد بن أبي وقاص مكانه، وقد ذكر في سبب العزل أنه كان بوصية من عمر ?؛ حيث أوصى الخليفة من بعده أن يستعمل سعدا نظرا لأن عمر عزله عن الكوفة في أواخر خلافته، وقال: إني لم أعزله عن سوء ولا خيانة، وأوصي الخليفة بعدي أن يستعمله.( ) تولى سعد بن أبي وقاص على الكوفة وكان قرار التعيين مشتركا بين سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود؛ سعد على الصلاة والجند، وابن مسعود على بيت المال.( ) وقد كان سعد بن أبي وقاص صاحب خبرة في ولاية الكوفة وله معرفة تامة بأمورها وسكانها وثغورها وأجنادها؛ نظرا لأنه
كان مؤسسها في عهد عمر، كما أنه وليها عدة سنوات، فكان أخبر الناس بها
وأعلمهم بأحوالها.( )
ومن الأعمال التي قام بها سعد أثناء ولايته في عهد عثمان على الكوفة قيامه بزيارة بعض الثغور التابعة للكوفة ومنها (الري) وترتيب أمورها وضبطها سنة 25هـ( )، وكذلك قيامه بتعيين بعض الأمراء والعمال الجدد في (همذان) وما حولها، ولم تطل فترة ولاية سعد ابن أبي وقاص على الكوفة إذ حدث بينه وبين عبد الله بن مسعود خلاف، وكان ابن مسعود على بيت المال، فاقترض منه سعدا شيئا من الأموال إلى أجل، فجاء الأجل ولم يكن عند سعد ما يسد به ذلك القرض، فجاءه ابن مسعود يطالبه بتسديد ذلك القرض فاشتدا في الكلام واجتمع حولهما الناس، فقرر عثمان عزل سعد وإبقاء ابن مسعود، فكانت عقوبة سعد العزل وعقوبة ابن مسعود الإقرار في العمل كما يقول الطبري.( ) وهذه القصة تدلنا على تورع كلا الصحابيين، وتدل على حاجة سعد إلى المال، وعدم وجود ما يكفيه وأنه لذلك اضطر إلى الاقتراض من بيت المال، كما تدل على اجتهاد عبد الله بن مسعود في حفظ أموال المسلمين وإصراره على استرداد القرض من سعد والي الكوفة وحاكمها، وكانت ولاية سعد على الكوفة سنة وأشهرا.( )
وبعد عزل سعد ولي عثمان على الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي كان قبل تعيينه على الكوفة قد عمل قائدا لجيش من جيوش أبي بكر في الأردن، ثم عمل لعمر على عرب الجزيرة( )، وفي أواخر خلافة عمر وأوائل خلافة عثمان كان الوليد أحد قواد أجناد الكوفة، وقام بالجهاد في العديد من المواقع قائدا لتلك الأجناد( )، فكان قبل تعيينه على ولاية الكوفة صاحب خبرة بالكوفة وأجنادها وثغورها ومختلف شئونها. وكعادة الخلفاء الراشدين في تفضيل أصحاب الخبرة في المنطقة على غيره عند الحاجة إلى تعيين ولاة جدد، فقد وقع اختيار عثمان ? على الوليد بن عقبة لولاية الكوفة، وكثير ممن كتبوا عن تعيين عثمان ? للوليد سواء من المتقدمين أو من المتأخرين حاولوا اتهام عثمان في هذا التعيين، فهم يقولون: إن عثمان استعمل على الكوفة أخاه لأمه الوليد بن عقبة( )، وهذا فيه غمز مباشر لعثمان ?.( ) وفي بداية ولاية الوليد كان يشترك معه عبد الله بن مسعود حيث كان واليا على بيت المال، إلا أن خلافا حدث بين الوليد وعبد الله بن مسعود على أمر يتعلق بأموال الدولة ورفع النزاع إلى عثمان ليفصل فيما يراه، فرأى عثمان ? أن من المصلحة توحيد الولاية وبيت المال في يد الوليد وعزل عبد الله بن مسعود، وقد اعتقد أن المصلحة العامة تقتضي ذلك الضم.( ) وقد بقي الوليد بن عقبة في الكوفة محبوبا من أهلها، ليس على داره باب( )، يستقبل الناس في مختلف الأوقات ليحل مشكلاتهم، ويقوم بالواجبات الملقاة عليه، إلى أن وقعت بعض الحوادث في الكوفة أوجدت بعض الحاقدين عليه بسبب موقفه الحازم في قضية ابن الحيسمان الخزاعي الذي قتله مجموعة من شباب الكوفة، فأقام الوليد بن عقبة بأمر من عثمان ? حد القصاص على هؤلاء الشباب المعتدين، ومنذ تلك الحادثة أخذ أولياء هؤلاء المجرمين وأقاربهم يروجون الشائعات على الوليد بن عقبة، ويحاولون جاهدين أن يتصيدوا أخطاء الوليد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، واستطاع أولئك الموتورون تلفيق قضية ضد الوليد، وهي دعوى شربه الخمر، التي سببت إقامة الحد عليه وعزله عن ولاية الكوفة، وهذا ما أراده المتآمرون( )، وسيأتي تفصيل قضية شرب الوليد بن عقبة للخمر عند حديثنا عن ولاة عثمان ? بإذن الله تعالى.
وبعد عزل الوليد أرسل عثمان إلى أهل الكوفة كتابا جاء فيه: من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، سلام أما بعد، فإني استعملت عليكم الوليد بن عقبة حتى تولت منعته واستقامت طريقته، وكان من صالحي أهله وأوصيته بكم ولم أوصكم به، فلما بذل لكم خيره وكف عنكم شره، وغلبتكم علانيته طعنتم به في سريرته والله أعلم بكم وبه، وقد بعثت عليكم سعيد بن العاص أميرا.( ) وكانت شكاية أهل الكوفة للوليد وعزله حلقة في سلسلة طويلة من الشكايات والعزل من قبل بعض أهل الكوفة لأمرائهم( )، وقد غضب الكثير من أهل الكوفة لعزل الوليد، وبعد عزل عثمان ? للوليد عن ولاية الكوفة عين بعده سعيد بن العاص سنة 30هـ الذي كان مقيما في المدينة، فاتجه إلى الكوفة ورافقه وفد من أهل الكوفة الذين قدموا على عثمان في شكاية الوليد، وكان فيهم الأشتر النخعي وغيره( )، فلما وصل سعيد الكوفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد بعثت إليكم، وإني لكاره ولكني لم أجد بدًّا إذ أمرت أن أئتمر، إلا إن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، والله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تُعييني، وإني الرائد نفسي اليوم، ثم نزل عن المنبر( ).
ومن خلال هذه الخطبة يتبين لنا معرفة سعيد ببدايات الفتنة وإرهاصاتها التي بدأت تظهر في الكوفة قبل ولايته، وتهديده لأصحاب الفتنة وعزمه على القضاء على الفتنة التي استشعر بدايتها في الكوفة.( ) واستطاع سعيد بن العاص أن ينظم أمور ولايته ويعين الأمراء والولاة في مختلف الثغور التابعة للكوفة ويضبط أمورها( )، وقام بغزوات ناجحة تم ذكرها عند حديثنا عن الفتوحات في عهد عثمان, ثم بدأت الفتنة تطل برأسها في الكوفة سنة 33هـ، وسيأتي الحديث عنها -بإذن الله تعالى- بالتفصيل، ودبر الأشتر النخعي مؤامرة ضد سعيد بن العاص وانخدع بها بعض عوام الكوفة فقاموا مع الأشتر في رفض ولاية سعيد والطلب من عثمان إبداله بغيره، ولم يكن سعيد سوى وال من الولاة الذين سبق لأهل الكوفة أن اعترضوا عليهم وطلبوا عزلهم قبل ذلك، كسعد بن أبي وقاص والوليد بن عقبة وغيرهما، وكان طلب خلعه مقرونا بثورة حمل الغوغاء فيها السلاح وهي سابقة خطيرة في تاريخ الكوفة، بل وفي تاريخ الدولة الإسلامية كلها، وليس فيها سبب حقيقي, وإنما السبب الحقيقي هو تطور الأوضاع والتغير الذي طرأ على نفوس الناس بتأثير دعاة الفتنة والخروج على عثمان، وقد أصدر الخليفة عثمان ? أمرا بتولية أبي موسى الأشعري على الكوفة وعزل سعيد بن العاص بناء على طلب بعض أهل الكوفة. وقد استهل أبو موسى ولايته بخطبة أمام أهل الكوفة قال فيها: أيها الناس، لا تنفروا في مثل هذا ولا تعودوا لمثله، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا فكأنكم( ) بأمير، قالوا: فَصَلِّ بنا، قال: لا إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السمع والطاعة لعثمان.( ) وقد كتب عثمان إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، ووالله لأفرشنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أجبتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه أنزل فيه عندما أجبتم حتى لا يكون لكم عليَّ حجة( ).
وقد استمر أبو موسى ? واليا على الكوفة حتى قتل عثمان ?( )، وهكذا نجد أن ولاية الكوفة في خلافة عثمان ? قد تولى عليها خمسة ولاة، ابتداء بالمغيرة بن شعبة وانتهاء بأبي موسى الأشعري، وقد حفلت فترة الولاية لكل من هؤلاء الخمسة بالعديد من الحوادث التي برزت على ساحة الأحداث، وكان لها تأثير مباشر على مسيرة الدولة الإسلامية، وقد نمت الفتنة في الكوفة واشتهر عن أهلها تسلطهم على ولاتهم، ورفضهم لهم في كثير من الأحيان مهما استرضوهم؛ فقد شكوا سعد بن أبي وقاص، وشكوا الوليد بن عقبة، وطردوا سعيد بن العاص، ولعلنا نتذكر هنا أنهم أتعبوا عمر قبل عثمان حتى قال فيهم: من عذيري من أهل الكوفة، وقد كان لبعض أهل الكوفة دور مباشر ورئيسي في مقتل الخليفة
عثمان ?.
وجدير بالذكر أنه كانت هناك بعض الولايات المتفرعة من ولاية الكوفة كطبرستان، وأذربيجان، وبعض المناطق الأخرى شمالي بلاد فارس.( ) ومما يؤيد ارتباطها بالكوفة أن ولاة الكوفة -ومنهم سعيد بن العاص- هم الذين كانوا يتولون الفتوح في نواحيها، كما كانوا يؤدبون أهلها في حال عصيانهم، وقد لعبت هذه الولايات الفرعية دورا مرتبطا بدور الكوفة أيضا إلى حد كبير( ).
ومن خلال العرض السابق للولايات الإسلامية في عهد عثمان يتبين لنا أن هناك ولايات تمتعت بالاستقرار طيلة عهد عثمان ?، ومنها الولايات الواقعة في بلاد العرب كالبحرين واليمن ومكة والطائف وغيرها، كما تمتعت الشام بالاستقرار أيضا طيلة خلافة عثمان ?، وأما البصرة فقد شغل أهلها بالفتوح مع واليهم عبد الله بن عامر، وأما مصر والكوفة فقد حدث فيهما الاضطراب في أواخر خلافة عثمان، وبالتالي ولدت فيهما الفتنة وأقدم أناس من أهلها على غزو المدينة وعلى قتل الخليفة عثمان ? بدلا من غزو أعداء الإسلام!!.( )
* * *
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:37 pm

المبحث الثاني
سياسة عثمان مع الولاة وحقوقهم وواجباتهم
أولاً: سياسة عثمان مع الولاة:
تولى عثمان ? الخلافة في بداية سنة 24هـ، وكان ولاة عمر ? ينتشرون في الأمصار الإسلامية, وقد أقرهم عثمان في ولاياتهم عاما كاملا، ثم باشر بعد ذلك العزل والتعيين في هذه الأمصار بمقتضى سلطته وحسب ما يراه في مصلحة المسلمين، ولعل عثمان في ذلك قد اتبع وصية عمر ? التي أوصى فيها: أن لا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين.( ) وكان عثمان ? في سياسته مع الولاة يعتمد على مشورة الصحابة في كثير من تصرفاته، كما أنه قام بضم بعض الولايات إلى بعضها لما يراه في مصلحة المسلمين، ولذلك قد حدد الولاة إلى حد ما في بعض المناطق؛ فقد ضم البحرين إلى البصرة، كما ضم بعض ولايات الشام إلى بعضها الآخر نتيجة لوفاة بعض الولاة أو طلبهم الإعفاء من العمل.
وقد كان عثمان ? دائم النصح لولاته بالعدل والرحمة بين الناس، فكان أول كتبه إلى ولاته بعد مبايعته خليفة للمسلمين: أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوا الذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا بالوفاء( ).
ونحن نرى من هذا أن عثمان حدد لولاته معالم السياسة التي يجب أن يسيروا عليها، من إعطاء الحقوق للمسلمين ومطالبتهم بما عليهم من واجبات وإعطاء أهل الذمة حقوقهم ومطالبتهم بما عليهم من واجبات، وبالوفاء حتى مع الأعداء وبالعدل في ذلك كله، وأن لا يكون همهم جباية المال.( ) كما كان عثمان ? يكتب إلى عماله ببعض التعليمات الخاصة في الأمور المستجدة التي تتعلق بإدارتهم للولايات، إضافة إلى كتبه العامة والتي كان يصدر فيها تعليمات محددة يلتزم بها الجميع، ومن ذلك: إلزامه الناس في الولايات بالمصاحف التي كتبت في المدينة على ملأ من الصحابة؛ حيث أرسل مصاحف إلى كل من الكوفة والبصرة ومكة ومصر والشام والبحرين واليمن والجزيرة بالإضافة إلى مصحف المدينة( ), وقد أمر عثمان بجمع المصاحف الأخرى وإحراقها وذلك بموافقة الصحابة في المدينة، كما ورد ذلك عن علي ?( )، كما كان عثمان ? حريصا على أن يتنافس الأمراء فيما بينهم في الجهاد وفتح بلدان جديدة، فقد كتب إلى عبد الله بن عامر في البصرة وإلى سعيد بن العاص في الكوفة يقول: أيكما سبق إلى خراسان فهو أمير عليها، مما دفع ابن عامر إلى فتح خراسان وسعيد بن العاص إلى فتح طبرستان.( ) وقد كان عثمان يشترط بعض الشروط على الولاة أحيانا ليضمن أن يكون تصرفهم في صالح المسلمين، ومثال ذلك أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عثمان يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص، فكتب إليه عثمان: فإن ركبت البحر ومعك امرأتك فاركبه مأذونا لك وإلا فلا، فركب البحر وحمل امرأته( ).
ثانيًا: أساليب عثمان ? لمراقبة عماله والاطلاع على أخبارهم:
اتبع عثمان ? عدة أساليب لمراقبة عماله والاطلاع على أخبارهم، من ذلك:
1- حضوره لموسم الحج:
كان عثمان يحرص على الحج بنفسه ويلتقي بالحجاج، ويسمع شكاياتهم وتظلمهم من ولاتهم، كما أنه طلب من العمال أن يوافوه في كل موسم، وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في كل موسم ومن يشكوهم( )، وكان ذلك استمرارا لما كان عليه الحال أيام عمر من لقاء سنوي بين الخليفة والولاة والرعية( ).
2- سؤال القادمين من الأمصار والولايات:
وتعتبر هذه الطريقة من أيسر الطرق؛ حيث إنها لا تكلف الخلفاء كثيرا، كما أنها تأتي في كثير من الأحيان دون ترتيب مسبق، وقد اشتهر عن الخلفاء الراشدين الأربعة عملهم بهذه الطريقة، وكان وجود الخليفة في المدينة المنورة خلال عصور الخلفاء الثلاثة الأول مما يساعد الخليفة، نظرا لكثرة الوافدين إلى المدينة للزيارة، وخصوصا أثناء موسم الحج( ).
3- وجود أناس من أهل البلاد يكتبون إلى الخليفة:
فقد استقبل عثمان ? الكتب التي أرسلها بعض الرعية من الأمصار إلى المدينة بما فيها شكاوي؛ فقد استقبل كتابا أرسله أهل الكوفة إليه، وكذلك كتابا أرسله أهل مصر إليه، كما استقبل كتبا أخرى أرسلها أناس من الشام، وقد اطلع عثمان على ما في هذه الكتب وعالج ما فيها( ).
4- إرسال المفتشين إلى الولايات:
بعث عثمان ? العديد من المفتشين إلى بعض الولايات للاطلاع على أحوالها ومعرفة ما يشاع عن ولاته من ظلم للرعية، وقد جاء أولئك المفتشون بتقارير وافية عن أحوال أولئك الولاة( )؛ فقد أرسل عمار بن ياسر إلى مصر، ومحمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة ابن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، بالإضافة إلى إرساله رجالا آخرين إلى أماكن أخرى( ).
5- السفر إلى الولايات والاطلاع على أحوالها مباشرة:
كان عثمان ? يزور مكة في موسم الحج، ويطلع على أحوالها، ويقابل الولاة بها وحجاج الأمصار، ويسأل عن أخبارهم وأحوالهم.
6- طلب الموفدين من الولايات لسؤالهم عن أمرائهم وولاتهم:
كان الخلفاء الراشدون في كثير من الأحيان يطلبون من الولاة أن يبعثوا إليهم بأناس من أهل البلاد ليسألوهم، وقد تكرر ذلك من عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، أما أبو
بكر ? فكان مشغولا بأمور جهادية منعته من ذلك، كما كان لقصر مدة خلافته دور في قلة
هذه الحوادث( ).
7- استقدام الولاة وسؤالهم عن أحوال بلادهم:
وقد اشتهرت هذه الطريقة خلال عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، و قد كانت الاتصالات المستمرة قائمة بين الخليفة عثمان وبين ولاته لبحث مختلف شئون الدولة، ومن أهم هذه الاتصالات: الاجتماع الذي عقده عثمان مع ولاته في المدينة؛ حيث دعا ولاة البصرة والكوفة والشام ومصر وغيرهم، ودعا كبار الصحابة وعقد معهم اجتماعا بحث فيه بوادر الفتنة التي بدأت تظهر، وتعرف على آراء أولئك الولاة في الفتنة وكيفية علاجها، فقد أدلى كل وال من هؤلاء برأيه في علاج تلك الظاهرة( ).
8- المراسلة مع الولاة:
وطلب التقارير منهم عن أحوال رعيتهم وأحوال بلادهم، وقد اشتهرت هذه الطريقة خلال عصور الخلفاء الراشدين الأربعة، وكانت بالأحرى أهم الطرق خلال عصر أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما( ).
هذه أهم الأساليب التي اتبعها عثمان في متابعة ومراقبة ولاته، وقد كان ? حريصا على قيام الولاة بواجباتهم، وفي حالة وقوع أي مخالفة منهم، فإنهم يؤدبهم على ذلك الخطأ إذا وصل إلى علمه، وإذا ثبت عليه ارتكابه شرع في عقوبته دون النظر إلى حسن ظنه في العامل، ومن ذلك جلده للوليد بن عقبة حد الخمر بعد اكتمال شروطه وبغض النظر عن صدق الشهود من عدمه( )، وقام بعد جلده بعزله عن ولاية الكوفة.( ) وقد درج عثمان ? أن يكتب إلى أهل الأمصار عن تعيين وال جديد عليهم ليوصيهم به كما أوصاه بهم، وكذلك كان يكتب في كثير من الأحيان إلى العامة في الأمصار ناصحا، حتى يساعد الولاة في تسيير أمور الرعية، ومن ذلك الكتاب الذي أرسله عثمان إلى الأمصار، يقول فيه: أما بعد، فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يرفع على شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولا لعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم, فيا من ضرب سرا وشتم سرا.. من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فيأخذ بحقه؛ حيث كان مني أو من عمالي... أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين، فلما قرئ في الأمصار، أبكى الناس ودعوا لعثمان( ).
ثالثـًا: حقوق الولاة:
استقر في عهد الخلفاء الراشدين بأن للولاة حقوقا مختلفة يتصل بعضها بالرعية وبعضها بالخليفة، بالإضافة إلى حقوق أخرى متعلقة ببيت المال، وكل هذه الحقوق الأدبية أو المادية تهدف بالدرجة الأولى إلى إعانة الولاة على القيام بواجباتهم وخدمة المصلحة العامة، ومن أهم هذه الحقوق:
1- الطاعة في غير معصية الله:
قال تعالى: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" [النساء: 59].
قال القرطبي: لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات، وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية فأمر الرعية بطاعته جل وعلا أولاً وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله × ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا، على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم( ). وفي العهد الراشدي خصوصا والمجتمع الإسلامي عموما، الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم، ولهذا فإن طاعة الحكام مقيدة دائما بطاعة الله ورسوله، كما قال رسول الله ×: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف» ( ).
2- بذل النصيحة للولاة:
من منطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأساس الذي تقره الأمة بأكملها، والذي وردت الأوامر به من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحدثت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه العموم، ومنها ما خص الولاة به؛ حيث أمرت الأحاديث النبوية ببذل النصيحة لهم، وقد دأب الخلفاء الراشدون الأربعة على الكتابة لولاتهم باستمرار يبذلون لهم النصيحة، والنصوص الواردة في هذه كثيرة يصعب حصرها( ).
3- يجب على الرعية للوالي إيصال الأخبار الصحيحة إليه:
والصدق في ذلك سواء ما يخص أحوال العامة، أو ما يخص أخبار الأعداء, أو ما كان متعلقا بعمال الوالي وموظفيه، والعجلة في ذلك قدر المستطاع، خصوصا ما كان متعلقا بالأمور الحربية وأخبار الأعداء وما يتعلق بخيانات العمال وغير ذلك، من منطلق الاشتراك في المسئولية مع الوالي في مراعاة المصلحة العامة للأمة( ).
4- مؤازرة الوالي في موقفه:
وعندما اندلعت الفتنة وطلب أصحابها من عثمان عزل بعض ولاته رفض عثمان ذلك، وكان هذا التعضيد يخدم الهدف العام للدولة الإسلامية ويمنع الاضطراب، ولا يعني ذلك عدم الالتفات إلى الشكاوي ومؤازرة الولاة بدون تحقق؛ بل إن هذا التعضيد من الخلفاء إنما يأتي بعد تحقق وتثبت من تلك الشكايات، وبعد محاسبة دقيقة قد تتطلب إرسال لجان خاصة من بعض الصحابة للتحقيق في تلك القضايا، كما أن المؤازرة للوالي واجبة من قبل الخليفة، فهي كذلك واجبة من قبل الرعية، وأن على الناس احترامهم وتقديرهم( )، وإن كان عثمان ? قد عزل بعض الولاة وذلك لما رآه من مصلحة الرعية.
5- احترامهم بعد عزلهم:
ومن ذلك ما فعله عثمان مع أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، بل نلاحظ أن عثمان استشار عمرو بن العاص في مسائل الدولة الكبرى بعد عزله، وهذا احترام فائق من عثمان ? لمن عزلهم من الولاة.
6- مرتبات الولاة:
ومن حقوق الولاة مرتباتهم التي يعيشون عليها، ومبدأ الأرزاق والرواتب للعمال متفق عليه بين الخلفاء الراشدين اقتداء بما فعله الرسول ×، ولئن كانت الروايات قد اقتصرت على ذكر مرتبات بعض العمال فقط، فإن المفهوم أن جميع العمال كانت لهم مرتبات خلال عصور الراشدين، ومعظم الروايات التي وردت في هذا الموضوع كانت تركز بالدرجة الأولى على عصر عمر بن الخطاب؛ حيث ورد ذكر مقدار أرزاق بعض الولاة في عصره، وقد مضى عثمان وعلي -رضي الله عنهما- على سيرة من سبقهما من الخلفاء في فرض الأرزاق للعمال والولاة، إلا أن عصر عثمان ? كان على ما يبدو أكثر توسعا في بذل الأعطيات للناس عموما ومن ضمنهم الولاة؛ نظرا لزيادة الدخل في بيت المال نتيجة الفتوح الواسعة التي قام بها ولاة عثمان في المشرق وفي أرمينية وأفريقية وغيرها، بل إن عثمان ? كان يعطي مكافآت مقطوعة للعمال خاصة وبارزة؛ فقد أعطى لعبد الله بن سعد بن أبي السرح خمس الخمس من الغنيمة جزاء فتوحه في شمال أفريقية؛ حيث قال له: إن فتح الله عليك غدًا أفريقية فلك ما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا.( ) وعلى كل حال فإن إعطاء الأرزاق للعمال وإغناءهم عن الناس كان مبدأ إسلاميا فرضه رسول الله × وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، حتى أغنوا العمال عن أموال الناس، وفرغوهم للعمل ولمصلحة الدولة( ).
رابعًا: واجبات الولاة:
1- إقامة الدين، ومن أبرز تلك الواجبات:
أ- نشر الدين الإسلامي بين الناس:
حيث اختص ذلك العصر بفتوحات عظيمة اقتضت من الولاة العمل على نشر الدين في البلاد المفتوحة مستعينين بمن معهم من الصحابة، وقد كان الولاة يقومون بهذه المهمة مع وجود من يساعدهم في بداية الفتوح في عهد أبي بكر ?، ثم بدأت الأمصار تعتمد على معلمين وفقهاء قدموا لهذه المهمة بعد التوسع وبناء الأمصار في عهد عمر، وقد تأكد وجود المعلمين بعد ذلك خلال الفترة الأخيرة من خلافة عمر، وخلال فترة خلافة عثمان وعلي، وذلك لكثرة السكان في الأمصار وكثرة طلاب العلم، وانشغال الولاة بأمور مختلفة، وتوسع الولايات؛ حيث كانت تتبع الولاية الواحدة العديد من الأمصار التي كان الناس فيها بحاجة إلى فقهاء ومعلمين( ).
ب- إقامة الصلاة:
كان الخليفة نفسه طيلة عصر الخلفاء الراشدين الأربعة هو الذي يقيم صلاة الجمعة والجماعة والأعياد في البلد الذي يقيم فيه، ويخطب في الناس الجمعة والأعياد والمناسبات الأخرى، وكذلك نوابه يقومون بهذه المهمة في أمصارهم، وطيلة عهد الخلفاء الراشدين كان الولاة يخطبون في الناس بأنفسهم ويؤمونهم في الصلاة( ).
ج- حفظ الدين وأصوله:
كان الخلفاء الراشدون بعد وفاة الرسول × يشعرون بعظم الواجب الملقى عليهم في حفظ الدين على أصوله الصحيحة التي نزلت على رسول الله ×، وكانوا يعملون جاهدين في إحياء سنة الرسول × والقضاء على البدع، والعمل على احترام دين الله واحترام رسوله ×، ورد كيد من يحاولون الدس على هذا الدين. وقد عمل عثمان ? على كتابة المصحف الشريف وإرسال نسخ منه إلى الأمصار، وأمر ولاته بإحراق ما لدى الناس من مصاحف أخرى من قبيل المحافظة على أهم أصول الدين، وهو القرآن الكريم.( ) وقد بذل ولاة عثمان جهودا كبيرة في محاربة السبئية الذين جاءوا بآراء غريبة على الإسلام وضيقوا عليهم وطاردوهم.( ) وعلى العموم فإن المحافظة على الدين واحترامه كان من أهم الواجبات الموكلة إلى الولاة( ).
د- تخطيط وبناء المساجد:
حينما وصل الرسول × إلى قباء قام ببناء أول المساجد في الإسلام، وبعد وصوله إلى المدينة بدأ ببناء مسجده فيها، وحينما كان الرسول × يبعث بالولاة إلى البلدان كان هؤلاء الولاة يقومون ببناء المساجد فيها، واستمر الخلفاء الراشدون بعد ذلك في بناء المساجد في البلدان والأمصار التي فتحها المسلمون، وإن كان الولاة لم يقوموا بتأسيس جميع هذه المساجد فإن لهم دورا في إنشاء المساجد الرئيسية في معظم البلدان التابعة لولاتهم وخصوصا الجوامع منها( ).
هـ- تيسير أمور الحج:
كان الولاة على البلدان في صدر الإسلام مسئولين عن تيسير أمور الحج في ولاياتهم وتأمين سلامة الحجاج منها، فقد كان الولاة يعينون الأمراء على قوافل الحج، ويحددون لهم أوقات السفر؛ حيث لا يغادر الحجاج بلدانهم إلا بإذن الوالي، ولم يكتفِ بعض الأمراء بأمور الترتيب؛ بل نجد منهم من عمل على تأمين المياه في الأماكن التي يسلكها الحجاج من ولايته، فهذا عبد الله بن عامر بن كريز أجرى المياه في طريق حجاج البصرة حينما كان عاملا عليها لعثمان بن عفان؛ حيث أوجد المياه في الطريق من البصرة إلى مكة.( ) وقد أكد الفقهاء بعد ذلك على أن تسيير الحجاج عمل من مهام الوالي على بلده، يقول الماوردي: أما تسيير الحجيج فداخلة في أحكام إمارته؛ لأنه من جملة المعونات التي تنسب إليه( ).
و- إقامة الحدود الشرعية:
إن إقامة الحدود على المخالفين لأوامر الله وسنة رسوله × واجب ديني ملقى على الولاة، وهو من أهم الأمور الموكلة إليهم سواء منها الحدود المتعلقة بمن يتعرض لمنافع المسلمين العامة أو من يتعرض بالضرر لأقوام معينين( )، وقد قام عثمان وولاته بإقامة الحدود الشرعية في عهده ?.
2- تأمين الناس في بلادهم:
المحافظة على الأمن في الولاية من أعظم الأمور الموكلة إلى الوالي، وفي سبيل تحقيق ذلك فإنه يقوم بالعديد من الأمور أهمها إقامة الحدود على العصاة والفساق( )، مما يحد من الجرائم التي تهدد حياة الناس وممتلكاتهم، وبالتالي تقل الحوادث الأمنية من القتل أو السرقة أو قطع الطريق وما إلى ذلك؛ بل الأمر أيضا يشمل ما يلقيه الناس من أقوال ضد بعضهم البعض من قذف وغيره، فإن إقامة الحد فيها يمنع من الاعتداء الأدبي على الناس في أعراضهم ومحارمهم, ولم يقتصر الأمر على تأمين الناس بعضهم من بعض؛ بل إن العمال -وبأمر من الخلفاء- يعملون على تأمين رعاياهم من الحشرات والهوام كالعقارب وغيرها، يقول البلاذري: كتب عامل نصيبين إلى معاوية وهو عامل عثمان على الشام والجزيرة يشكو إليه أن جماعة من المسلمين ممن معه أصيبوا بالعقارب فكتب إليه يأمره أن يوظف على أهل كل حيز من المدينة عدة من العقارب مسماة في كل ليلة ففعل، وكانوا يأتونه بها فيأمر بقتلها.( )
3- الجهاد في سبيل الله:
إن السمة العامة لعهد الخلفاء الراشدين أن الولاة هم قادة الجهاد في تلك البلدان، كما أن الولاة في عهد عثمان ? كان لهم دور كبير في الفتوح ومنهم عبد الله بن عامر بن كريز والمغيرة بن شعبة، وأبو موسى الأشعري الذين واصلوا الفتوح في المشرق، ومثل عبد الله بن سعد بن أبي السرح الذي واصل الفتوح في شمال أفريقية، ومعاوية بن أبي سفيان الذي واصل الفتوح في نواحي أرمينية وبلاد الروم، وهكذا فإننا نرى أن الأمراء في عهد الخلفاء الراشدين كانوا مع إدارتهم لبلادهم مجاهدين لنواحي العدو، ولم يمنعهم ذلك من القيام بأعمالهم الموكلة إليهم، ولا شك أن الجهاد كان مصحوبا بعمليات معينة تخدم الشئون العامة له، وقد تحدثت المصادر التاريخية عن أهم هذه الأعمال التي جرت من قبل الأمراء، منها:
أ- إرسال المتطوعين من قبل الأمراء إلى الجهاد: فقد كان ولاة اليمن والبحرين ومكة وعمان يبعثون بالمجاهدين خلال عهد أبي بكر وعمر وعثمان( ).
ب- الدفاع عن الولاية ضد الأعداء: كان ولاة الشام يدافعون الروم طيلة عهد الخلفاء الراشدين، وكذلك الحال عند ولاة العراق الذين دافعوا الفرس حتى تمكنوا من قتل آخر ملوكهم في عصر الخليفة عثمان بن عفان ?.
ج- تحصين البلاد: كان عثمان ? يأمر بتحصين السواحل وشحنها، وإقطاع القطائع لمن ينزلها من المسلمين للمساعدة في شحنها بالرجال( ).
د- تتبع أخبار الأعداء: فقد قام الولاة بتتبع أخبار الأعداء وتوجيه الضربات الموجعة إليهم، واستطاعوا أن يخترقوا صفوفهم ويزرعوا عيونا تابعة لهم.
هـ- إمداد الأمصار بالخيل: كانت الخيل ذات أهمية خاصة في الجهاد، وقد اهتم المسلمون بتربيتها منذ أيام الرسول × واعتنوا بها عناية خاصة، وقد وضع عمر سياسة عامة في الدولة لتوفير الخيل اللازمة للجهاد في الأمصار الإسلامية حسب حاجتها.( ) وسار عثمان ? على نفس السياسة العمرية في اهتمامه بالخيل، فقد كانت هذه الخيول مجهزة للدفاع الفوري عن الدولة الإسلامية.
و- تعليم الغلمان وإعدادهم للجهاد: اهتم الخلفاء الراشدون بتربية الأولاد وتعليمهم ما يفيدهم في حياتهم الجهادية مستقبلا.
ز- متابعة دواوين الجند: سار عثمان ? على نهج السياسة العمرية في اهتمامه بدواوين الجند، وقد اهتم ? اهتماما بدواوين الأمصار لاعتقاده بأن أهل الأمصار أحوج الناس للضبط خصوصا القريبة من الأعداء وهي الأمصار التي تحتاج إلى الجنود باستمرار، وقد كان الولاة على البلدان مسئولين مباشرة عن دواوين الجند رغم وجود بعض الموظفين الآخرين الذين يتولون مهمتها، ولكن باعتبار أن هؤلاء الولاة هم أمراء الحرب؛ فقد كانت مسئوليتهم عن الدواوين في بلدانهم كمسئولية الخليفة باعتبارهم نوَّابًا( ).
ح- تنفيذ المعاهدات: إن الفتوح الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين صاحبتها مراسلات مع الأعداء، ومعاهدات ومصالحات كثيرة بين المسلمين وأهل البلاد المفتوحة، وقد كان الأمراء على البلدان بصفتهم قادة الجند مسئولين مباشرة عن عقد مثل هذه المصالحات
وعن تنفيذها( ).
4- بذل الجهد في تأمين الأرزاق للناس:
اتبع الخلفاء الراشدون منذ عصر أبي بكر الصديق ? طريقة جديدة لتوزيع الأعطيات على المسلمين من موارد بيت المال المختلفة، وقد كانت في البداية غير محددة بأوقات معينة، ولكن في عهد عمر ? تغيرت بعد وضعه للدواوين في الأمصار المختلفة؛ حيث بدأ توزيع الأعطيات يأخذ شكلا دوريا منتظما سار عليه عثمان ?، ولم يكتف الخلفاء وولاتهم في العهد الراشدي بتأمين الطعام ومراقبة الأسواق فقط؛ بل إن السكن وتوزيعه كان من المهام الموكلة لأمراء البلدان، كما كان الأمراء يشرفون على تقسيم البيوت في المدن المفتوحة( ).
5- تعيين العمال والموظفين:
كان تعيين العمال والموظفين في الوظائف التابعة للولاية في كثير من الأحايين من مهام الوالي، حيث إن الولاية في الغالب تتكون من بلد رئيسي إضافة إلى بلدان وأقاليم أخرى تابعة للولاية، وهي بحاجة إلى تنظيم أمورها، فكان الولاة يعينون من قبلهم عمالا وموظفين في تلك المناطق، وفي عصر عثمان ? أصبح هؤلاء العمال التابعون للولاة يحكمون مناطق كبيرة نظرا لتوسع الولايات نتيجة الفتوح وانضمام أقاليم كبيرة بأكملها إلى ولايات كانت محددة في السابق كالبصرة والكوفة والشام وغيرها، وبالتالي فإن توزيع العمال وإدارتهم وتنظيمهم كانت مهمة كبيرة من المهام التي يقوم بها ولاة البلدان.
6- رعاية أهل الذمة:
كانت رعاية أهل الذمة واحترام عهودهم والقيام بحقوقهم الشرعية، ومطالبتهم بما عليهم للمسلمين من واجبات، وتتبع أحوالهم، وأخذ حقوقهم ممن يظلمهم انطلاقا من الأوامر الشرعية في هذا الجانب من واجبات الوالي( ).
7- مشاورة أهل الرأي في ولايته:
سار الخلفاء على نهج الرسول × في مشاورة أهل الرأي من الصحابة؛ حيث كانوا يعقدون مجالس لكبار الصحابة، يستشيرونهم في مختلف الأمور( )، كما كانوا يأمرون ولاتهم باستشارة أهل الرأي في بلادهم، وكان الولاة يطبقون ذلك ويعقدون مجالس للناس
لأخذ آرائهم( ).
8- النظر في حاجة الولاية العمرانية:
اشتهر عن الخلفاء الراشدين وولاتهم عنايتهم بحاجة السكان في النواحي العمرانية والزراعية، وفي عهد عثمان ? قام عبد الله بن عامر واليه على البصرة بحفر الآبار والعيون ليس في ولاية البصرة فحسب بل في أماكن أخرى عديدة( ).
9- مراعاة الأحوال الاجتماعية لسكان الولاية:
كان الولاة من منطلق تعاليم الإسلام الشاملة يراعون هذا الجانب بكل ما فيه من تعليمات، إلا أن ولاة ذلك العصر -وبتوجيه من الخلفاء الراشدين- قاموا ببعض الأعمال الاجتماعية التي يصعب أن يقوم بها من هم في مثل منصبهم، كما حرص الخلفاء على أن ينزلوا الناس على منازلهم، وأن يحترم الولاة أهل الشرف والسابقة في الإسلام، ومن ذلك أن عامل عثمان على الكوفة كتب إليه يشكو من غلبة الأعراب والروادف على أهل الشرف والبلاء والسابقة في الإسلام،( ) فكتب إليه عثمان: أما بعد، ففضِّل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد وليكن من نزلها بسببهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكلٍّ منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل( ).
10- أوقات عمل الوالي:
اشتهر عن الوليد بن عقبة والي عثمان على الكوفة أنه لم يكن لداره باب، وأنه كان يستقبل الناس في جميع الأوقات، وهذا يدل على تمتع الناس بحرية مراجعة الأمير من غير حرج متى أرادوا ذلك لحاجة( )؛ فقد كان للوالي قسم تابع لبيته مفتوح للناس متى أرادوا المجيء إليه مفصول عن أهله وأولاده.
* * *
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:48 pm

المبحث الثالث
حقيقــــة ولاة عثمــــــــان ?
يكثر المؤرخون من الحديث عن محاباة عثمان أقاربه وسيطرتهم على أزِمَّة الحكم في عهده، حتى أثاروا عليه نقمة كثير من الناس، فثاروا ناقمين عليه إطلاقه يد ذوي قرباه في شئون الدولة.( ) وأقارب عثمان الذين ولاهم ?: أولهم معاوية، والثاني عبد الله بن أبي السرح، الثالث الوليد بن عقبة، الرابع سعيد بن العاص، الخامس عبد الله بن عامر، هؤلاء خمسة ولاهم عثمان وهم من أقاربه، وهذا في زعمهم مطعن عليه فلننظر أولا من هم ولاة عثمان ?، هم: أبو موسى الأشعري، القعقاع بن عمرو، جابر المزني، حبيب بن مسلمة، عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، أبو الأعور السلمي، حكيم بن سلامة، الأشعث بن قيس، جرير بن عبد الله البجلي، عيينة بن النهاس، مالك بن حبيب، النسير العجلي، السائب بن الأقرع، سعيد بن قيس، سلمان بن ربيعة، خنيس بن حبيش، الأحنف بن قيس، وعبد الرحمن بن ربيعة، ويعلى بن مُنَية( )، وعبد الله بن عمرو الحضرمي، وعلي بن ربيعة بن عبد العزى. هؤلاء هم ولاة عثمان ?، يعني لو أخذنا إحصائية لوجدنا أن عدد الولاة ثمانية عشر واليا، ألا يصح أن يكون خمسة من بني أمية يستحقون الولاية، وبخاصة إذا علمنا أن النبي × كان يولي بني أمية أكثر من غيرهم، ثم يقال بعد ذلك: إن هؤلاء الولاة لم يكونوا كلهم في وقت واحد، بل كان عثمان ? قد ولى الوليد بن عقبة ثم عزله فولى مكانه سعيد بن العاص، فلم يكونوا خمسة في وقت واحد، وأيضا لم يتوف عثمان إلا وقد عزل أيضا سعيد بن العاص، فعندما توفي عثمان لم يكن من بني أمية من الولاة إلا ثلاثة وهم: معاوبة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعبد الله بن عامر بن كريز فقط، عزل عثمان الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص، ولكنه عزلهما من أين؟ من الكوفة التي عزل منها عمر سعد بن أبي وقاص، الكوفة التي لم ترضَ بوال أبدا؛ إذ عزل عثمان ? لأولئك الولاة لا يعتبر مطعنا فيهم بل مطعن في المدينة التي ولوا عليها ( ).
إن بني أمية كان رسول الله × يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله × أكثر من بني عبد شمس؛ لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي × عتاب بن أسيد بن أبي العاص على مكة، وأبا سفيان بن حرب على نجران، وخالد ابن سعيد على صدقات بني مذجح، وأبان بن سعيد على بعض السرايا ثم على البحرين، فعثمان لم يستعمل إلا من استعمله النبي × ومن جنسهم وقبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده؛ فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام، وأقره عمر، ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية( ).
والسؤال الذي يطرح نفسه أأثبت هؤلاء كفاءتهم أم لا؟ وستأتي شهادات أهل العلم في أولئك الولاة الذين ولاهم عثمان ? بإذن الله تعالى.
إن عثمان خليفة راشد يقتدى به، وأفعاله تشكل سوابق دستورية في هذه الأمة، فكما أن عمر سن لمن بعده التحرج عن تقريب الأقربين فإن عثمان سن لمن بعده تقريب الأقربين إذا كانوا أهل كفاءة، ومن تتبع سيرة عثمان لا يشك في كفاءتهم الإدارية، وكل ما أنكر على عثمان لا يخرج عن دائرة المباح( ).
إن الولاة الذين ولاهم عثمان ? من أقاربه قد أثبتوا الكفاية والمقدرة في إدارة شئون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان، وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان, ومنهم من تقلد مهام الولاية قبل ذلك في عهد الصديق والفاروق رضي الله عنهما.( ) ولننظر إلى أقوال أهل العلم في أولئك الولاة:
أولاً: معاوية بن أبي سفيان بن حرب الأموي:
ذكر المترجمون لهذا الصحابي الكريم فضائل جمة، وإليك شيئا منها:
1- من القرآن الكريم:
اشترك معاوية ? في غزوة حنين، قال تعالى: +ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ" [التوبة: 26].
فمعاوية ? من الذين شهدوا غزوة حنين، وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي ×( ).
2- من السنة:
دعاء الرسول × لمعاوية ?، ومن ذلك قوله ×: «اللهم اجعله هاديا ( ) مهديا ( ) واهد به». ( ) وقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقِهِ العذاب». ( ) وقال رسول الله ×: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا». ( ) قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله، أنا فيهم؟ قال: «أنت فيهم»، ثم قال النبي ×: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر( ) مغفور لهم»، فقلت -أي أم حرام-: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا.( ) قال المهلب( ): في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر.( )
3- ثناء أهل العلم على معاوية ? :
أ- ثناء عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عليه:
قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه.( ) ومما يناسب المقام ذكر بعض المسائل الفقهية التي أثرت عن معاوية ? ومن تلك المسائل ما يلي:
* أثر عنه ? أنه أوتر بركعة.
* أثر عنه ? الاستسقاء بمن ظهر صلاحه( ).
* أنه يجزئ إخراج نصف صاع من البُرِّ في زكاة الفطر( ).
* استحباب تطييب البدن لمن أراد الإحرام( ).
* جواز بيع وشراء دور مكة( ).
* التفريق بين الزوجين بسبب( ) العُنَّة( ).
* وقوع طلاق السكران.
* عدم قتل المسلم بالكافر قصاصا.
* حبس القاتل حتى يبلغ ابن القتيل( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:51 pm

ب- ثناء عبد الله بن المبارك على معاوية ?:
قال عبد الله بن المبارك: معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إليه شذرا اتهمناه على القوم؛ يعني الصحابة( ).
ج- ثناء أحمد بن حنبل:
سئل الإمام أحمد: ما تقول - رحمك الله- فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصبا( )؟ قال أبو عبد الله: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون، ونبين أمرهم للناس( ).
د- ثناء القاضي ابن العربي على معاوية ?:
تحدث ابن العربي عن الخصال التي اجتمعت في معاوية ? فذكر منها: قيامه بحماية البيضة، وسد الثغور، وإصلاح الجند، والظهور على العدو، وسياسة الخلق.( ) وقد علق محب الدين الخطيب على هذا النص بقوله: وقد بلغ من همته -يعني معاوية- وعظيم عنايته بذلك أن أرسل يهدد ملك الروم وهو في معمعة القتال مع علي في صفين، وقد بلغه أن ملك الروم اقترب من الحدود في جنود عظيمة.( ) وفي ذلك يقول ابن كثير: وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب عليٍّ تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين، لاصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم، وبعث يطلب الهدنة( ).
هـ- ثناء ابن تيمية على معاوية ?:
قال عنه ابن تيمية: «... فإن معاوية ثبت عنه بالتواتر أنه أمَّرَه النبي × كما أمر غيره، وجاهد معه، وكان أمينا عنده يكتب له الوحي، وما اتهمه النبي × في كتابة الوحي، وولاه عمر بن الخطاب الذي كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته».( )
و- ثناء ابن كثير عليه:
قال عنه ابن كثير: وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين، فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو. وقال أيضا: كان حليما( ), وقورا، رئيسا، سيدا في الناس، كريما، عادلا, شهما.( ) وقال عنه أيضا: كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر، رحمه الله تعالى( ).
4- روايته للحديث:
يعد معاوية ? من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله ×، ومرد ذلك إلى ملازمته لرسول الله × بعد فتح مكة، لكونه صهره وكاتبه ×. هذا وقد روى معاوية ? مائة وثلاثة وستين حديثا عن رسول الله ×، اتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة.( ) وكانت سيرة معاوية ? مع الرعية في ولايته من خير سير الولاة، مما جعل الناس يحبونه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي × قال: «خيار أئمتكم - حكامكم - الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم – تدعون لهم - ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» ( ).
وأختم حديثي عن معاوية ? بما قاله القاضي أبو بكر بن العربي: فعمر ولاه وجمع له الشامات كلها وأقره عثمان، بل إنما ولاه أبو بكر الصديق لأنه ولى أخاه يزيد واستخلفه، فأقره عمر، لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتعلق عثمان بعمر وأقره، فانظر إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها.( ) وثبت أن رسول الله × استكتبه، فيكون سند ولايته الأعمال في الدولة الإسلامية، لم يكن لأحد قبله ولم يكن لأحد بعده؛ حيث اجتمع على توليته رسول الله ×، ومن بعده خلفاؤه الثلاثة، ثم صالحه وأقر له بالخلافة الحسن بن علي سبط رسول الله ×( ).
ثانيًا: عبد الله بن عامر بن كريز:
هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي( ).
ولد في عهد رسول الله × وذلك في السنة الرابعة للهجرة.( ) وعندما اعتمر الرسول الكريم × في السنة السابعة للهجرة عمرة القضاء، ودخل مكة حمل إليه عبد الله بن عامر، قال ابن حجر: «... فتلمظ وتثاءب، فتفل رسول الله في فيه، وقال: «هذا ابن السلمية؟» قالوا: نعم، فقال: «هذا أشبهنا» وجعل يتفل في فيه ويعوذه، فجعل يبتلع ريق النبي × فقال: إنه لمسقى، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء( ).
لم يتول عبد الله بن عامر منصبا إداريا أو عسكريا إلى أن أصبح واليا على البصرة سنة 29هـ/649م، وهو ابن خال الخليفة عثمان بن عفان ?؛ لأن أم عثمان هي أروى بنت كريز بن ربيعة، وكانت أم عبد الله بن عامر من بني سُليم( ).
ولما عُين لولاية البصرة كان عمره أربعا أو خمسا وعشرين( )، وظل واليا على البصرة حتى مقتل الخليفة عثمان ? عندما تجهز بجيش كبير، وحمل ما عنده من الأموال فسار إلى مكة حيث وافى الزبير، ورجع منها إلى البصرة فشهد موقعة الجمل، ولم يحضر موقعة صفين، على الرغم من أن القلقشندي ذكر أنه كان في التحكيم مع معاوية بصفين.( ) وفي خلافة معاوية تولى إمارة البصرة لمدة ثلاث سنوات ثم عزله عنها، فأقام بالمدينة، ومات بها سنة سبع وخمسين للهجرة.( ) وفي رواية ابن قتيبة: أنه توفى بمكة ودفن بعرفات عام تسع وخمسين.( ) وأشاد ابن سعد به قائلا: كان عبد الله شريفا، سخيا كريما كثير المال، والولد، محبا للعمران( ). وقال عنه ابن حجر: كان جوادا كريما ميمونا.. جريئا شجاعا( ), وكان يعتبر من أجود أهل البصرة( ), ومن أجود أهل الإسلام.( ) وكان لعبد الله بن عامر أثر حميد في الفتوحات؛ فقد تمكن من القضاء على آمال الفرس بشكل تام، عندما قضى على آخر رمق من الأمل الفارسي القديم، وذلك بقضائه على آخر ملوكهم يزدجر بن شهريار بن كسرى، وخرزاد مهر أخي رستم اللذين تزعما المعارضة الفارسية ضد المسلمين.
وإضافة إلى براعة عبد الله بن عامر في الشئون الإدارية العسكرية، فإنه كان مهتما بالمعارف الإسلامية، ويروى أنه روى حديثا عن النبي ×. وقال ابن قتيبة: لم يروِ عن رسول الله إلا حديثا واحدا( )، غير أنه لم يكن له رواية في الكتب الستة.( ) أما الحديث النبوي الذي رواه فقد أورده ابن قانع، وابن منده عن طريق مصعب الزبيري: حدثني أبي عن جدي مصعب بن ثابت، عن حنظلة بن قيس، عن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر أن
رسول الله × قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد». ( )
إصلاحاته الاقتصادية في البصرة:
يقترن باسم عبد الله بن عامر عدد من الإصلاحات في البصرة، لا تقل أهمية عن إنجازاته العسكرية الفذة المتمثلة في انتصاراته العديدة على المجوس، وتتبعه لفلولهم المنهزمة وقضائه على آمال يزدجر، فقد كانت إصلاحاته الاقتصادية ممثلة في عنايته بسوق البصرة، فقد اشترى هذا السوق من ماله ووهبه لأهلها( )، وكان السوق يتوسط البصرة، بدليل ما ذكره خليفة بن خياط من أن السوق قائم على ضفاف النهر الذي يتوسط البصرة، وهذا اختيار جيد؛ لأنه يجعل السوق مركزا مهما في وسط المدينة. ولعل أبرز أعماله الإصلاحية في البصرة في ميدان الري، وقد اهتم ابن عامر بهذه المسألة اهتماما كبيرا، وذكر ابن قتيبة أن ابن عامر احتفر بالبصرة نهرين أحدهما في الشرق والآخر يعرف بأم عبد الله وهو منسوب إلى أم عبد الله بن عامر( )، وأمر عبد الله بن عامر، زياد بن أبي سفيان بحفر الأبلة، وكان زياد واليا على الديوان وبيت المال من قبل عبد الله بن عامر، وكان يستخلفه في مكانه عند توجهه للفتوح.( ) وذكر خليفة بن خياط أن زياد احتفر نهر الأبلة حتى انتهى إلى موضع الجبل، والذي تولى حفره لزياد عبد الرحمن بن أبي بكرة( ), فلما فتح عبد الرحمن الماء جعل يركض فرسه والماء يكاد يسبقه.( ) وحفر عبد الله بن عامر حوضا نسب إلى أمه، وهو حوض أم عبد الله بن عامر بالبصرة منسوب إليها.( ) وذكر البلاذري أن عبد الله بن عامر حفر نهرا، تولى أمر حفره له نافذ مولاه فغلب عليه، فقيل: نهر نافذ.( ) وهناك نهر مُرَّة لابن عامر، تولى حفره له مرة مولى أبي بكر الصديق ? فغلب على ذكره( )، وهناك نهر الأساورة الذي حفره لهم عبد الله بن عامر. ويذكر البلاذري قنطرة قرة بالبصرة فيقول: قنطرة قرة نسبة إلى قرة بن حيان الباهلي، وكان عندها نهر قديم ثم اشترته أم عبد الله بن عامر( ) فتصدقت به مغيثا لأهل البصرة( ).
مما تقدم، يتبين لنا أن عبد الله بن عامر كان مهتما بحفر الأنهار من أجل ازدهار الزراعة التي هي عماد الحياة الاقتصادية، إضافة إلى موقع البصرة الإستراتيجي بالنسبة إلى طرق التجارة، وأهميتها العسكرية كقاعدة للفتوحات الإسلامية في المشرق. ويمكن أن نلاحظ مدى رغبة عبد الله بن عامر في الإصلاح، من خلال قوله: لو تُركت لخرجت المرأة في حاجتها على دابتها، ترد كل يوم على ماء وسوق حتى توافي مكة( ).
وفي الحقيقة أن إصلاحاته هذه لا تقل أهمية عن الفتوحات في المشرق التي قام بها، فقد كانت البصرة هي القاعدة العسكرية للخلافة في فتوحاتها ببلاد المشرق. وأشار الدكتور صالح العلي إلى أن الفتوح الواسعة أدت إلى ازدياد دخل البصرة وانتشار الرخاء الاقتصادي فيها، مما شجع التجار ورجال الأعمال على التقاطر إليها، وبذلك بدأت الحياة المدنية تنمو سريعا في البصرة.( )
لقد كانت الحالة المالية لإمارة البصرة جيدة جدا، نتيجة للفتوح الواسعة في المشرق، والنشاط الاقتصادي التجاري للبصرة واستقرار الأمن فيها، وكان عبد الله بن عامر رجلا متواضعا فاتحا بابه لجميع الناس، حتى إنه عاقب الحاجب وأمره ألا يغلق بابه ليلا ولا نهارا.( ) وفي الحقيقة أصبح ابن عامر ذا شهرة واسعة بالبصرة, قال ابن سعد: كان الناس يقولون: قال ابن عامر وفعل ابن عامر.( ) ونتيجة لأعماله الإصلاحية وسيرته الحميدة فقد ازداد حب الأمة له( ). وظل ابن عامر عليها إلى أن قتل الخليفة عثمان ?( ).
فهذا عبد الله بن عامر أحد ولاة عثمان، فهو الذي شق نهر البصرة، وأول من اتخذ الحياض بعرفات وأجرى إليها العين( )، وهو الرجل الذي له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر كما يقول ابن تيمية.( ) وقال فيه الذهبي: وكان من كبار أمراء العرب وشجعانهم وأجوادهم، وكان فيه رفق وحلم( ).
ثالثـًا: الوليد بن عقبة:
هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الأمير أبو وهب الأموي، له صحبة قليلة( ), وهو أخو عثمان لأمه.
كان الوليد بن عقبة من رجال الدولة الإسلامية على عهد أبي بكر وعمر اللذين كانا يتخيران للأعمال ذوي الكفاءة والأمانة من الرجال، وكان ذلك من أعظم أسباب ذلك الانتشار السريع على أوسع نطاق للإسلام في عهدهما، وأنه كان محل ثقة واعتماد الخليفتين، وممن وسد إليه الأمور المهمة لما كان يريان فيه من الكفاءة وصدق الإيمان.( ) وأول عمل له في خلافة الصديق أنه كان موضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس( ) 12هـ، ثم وجهه مددا إلى قائده عياض بن غنم الفهري.( ) وفي سنة 13هـ كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة، فكتب إلى عمرو بن العاص وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد، فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين، وسار الوليد بن عقبة قائدا إلى شرق الأردن.( ) ثم رأينا الوليد في سنة 15هـ على عهد عمر أميرا على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة( )، وكان في ولايته هذه يحمي ظهور المجاهدين في بلاد الشام لئلا يؤتوا من خلفهم, وانتهز الوليد فرصة ولايته على هذه الجهة التي كانت لا تزال مليئة بالنصارى، فكانت من جهاده الحربي وعمله الإداري داعيا إلى الله يستعمل أساليب الحكمة والموعظة الحسنة لحمل نصارى إياد وتغلب على الدخول في الإسلام.( ) وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في خلافة عثمان، فتولى الكوفة له وكان من خير ولاتها عدلا ورفقا وإحسانا، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظاهرة موفقة، كما شهد له بذلك بظهر الغيب قاضي من أعظم قضاة الإسلام في التاريخ علما وفضلا وإنصافا، وهو التابعي الجليل الإمام الشعبي( )؛ فقد أثنى على غزوه وإمارته بقوله حين ذكر له غزو مسلمة بن عبد الملك( ): كيف لو أدركتم الوليد وغزوه وإمارته، إنه كان ليغزو فينتهي إلى كذا وكذا، ما نقص ولا انتقص عليه أحد حتى عزل عن عمله.( ) وقد كان الوليد ? أحب الناس في الناس وأرفقهم بهم، وقد أمضى خمس سنين وليس في داره باب.( ) وقد قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله × وتوأمة أبيه، والولاية اجتهاد، وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل منه درجة( ).
والمستعرض لسيرة هذا الصحابي الجليل والبطل الإسلامي العظيم الذي كان محل ثقة الخلفاء الراشدين الثلاثة لا يرتاب؛ فإنه أهل للولاية، وإنما تساوره الشكوك في ثبوت ما قيل فيه من نزول الآية فيه وتسميته فاسقا وشربه للخمر، والأمر يحتاج إلى تحقيق، وإليك بحث هذين الأمرين( ):
هل ثبت بأن الوليد نزلت فيه الآية +إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ"؟
قال تعالى: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" [الحجرات: 6].
يتناقل الرواة في ذلك قصة تقول: (إن رسول الله × بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق مصدقا، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، وأبوا في أداء الصدقة، وذلك أنهم خرجوا إليه فهابهم ولم يعرف ما عندهم، فانصرف عنهم، وأخبر بارتدادهم، فبعث إليهم رسول الله × خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت فيهم، فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، ونزلت الآية.( ) وقد جاءت روايات عديدة وليس للقصة سند موصول صحيح( )، وأقل ما يوصف به سند القصة أنه ضعيف، وإذا قبلوا الأسانيد الضعيفة في فضائل الأعمال التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا، فإننا لا نقبل السند الضعيف في قصة الوليد؛ لأنه يحل حراما، وهو وصف رجل صحب الرسول عليه السلام -ولو يوما- بأنه فاسق.. وكيف نقبل السند الضعيف والآية نفسها تحث على التثبت في قبول الأخبار، فهذه الآية وضعت أصل علم الرواية( ).
إن قصة الوليد بن عقبة فيما نسبوه إليه لا تقبل فيها إلا الأخبار الصحيحة السند والمتن؛ لأنها تصفه بالفسق، وهذا مطعن لا يتساهل في قبوله إذا وُصف به رجل من عرض الناس في العصر الحديث بعد خمسة عشر قرنا من عصر الدعوة، فكيف نتساهل في نسبتها إلى رجل عاش في العهد النبوي، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وأوكلوا إليه أعمالا ذات خطر؟!.
والقصة تمثل جزءا من تاريخ صدر الإسلام، وتتصل أجزاء القصة وحوادثها بالعقيدة الإسلامية، وأخبار هذا الجانب من التاريخ الإسلامي لا يتساهل في قبولها، كما يتساهل في قبول الأخبار التي تتصل بالعمران المدني، ثم إن الوليد بن عقبة من مسلمة الفتح، وكثيرا ما توجه المطاعن إلى إسلام هذه الفئة من الناس، ويزعم بعض المؤرخين أنهم أسلموا مكرهين، ولم يدخل الإيمان إلى قلوبهم، وهو زعم باطل بلا ريب.( ) وأخبار الوليد بن عقبة تزيَّد الرواة فيها، ولعبت بها الأهواء المذهبية والسياسية، ودخلها الوضع، وكانت ميدانا لتسابق أهل القصة في اختبار القدرة على الوضع وإثبات عبقريتهم الأدبية المجنحة( ).
ومما يعكر على رواية إرسال الوليد بن عقبة لجمع صدقات بني المصطلق ويعارضها حديث موصول السند إلى رجال ثقات، أن الوليد بن عقبة كان يوم الفتح صغيرا ومن كان في سنه لا يرسله النبي × عاملا، فعن فياض بن محمد الرقي، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج الكلابي، عن عبد الله الهمداني (أبي موسى) عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح رسول الله × مكة، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم فجيء بي إليه، وإني مطيب بالخلوق، ولم يمسح على رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلقتني بالخلوق، فلم يمسني من أجل الخلوق( ).
إن القصة لعبت بها الأهواء المذهبية؛ فالوليد أموي عثماني، والذي أقحم اسم الوليد في قصة سبب نزول الآية شيعي رافضي (محمد بن السائب الكلبي)، قال عنه ابن حجر: كان يعد من شيعة أهل الكوفة، وقال ابن حجر: كان بالكوفة كذابان، أحدهما الكلبي، والآخر السدي.( ) واختاره لهذه القصة؛ لأنها تتصل بجمع الصدقات، والوليد عمل على صدقات قضاعة في عهد أبي بكر، وعمل على صدقات تغلب في الجزيرة في زمن عمر، وكتب الشيعة تعيب عثمان بن عفان بسبب قصة الوليد.( ) ونحن لا ننكر أن تكون الآية نزلت في سياق قصة بني المصطلق، ولكن الذي ننكره أن يكون الوليد هو الموصوف بالفاسق في الآية، ذلك أن منطوق +إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ" بصيغة التنكير يدل على الشمول؛ لأن النكرة إذا وقعت في سياق الشرط عمت كما تعم إذا وقعت في سياق النفي( )
حد الوليد بن عقبة في الخمر:
وأما حد الوليد في الخمر فقد ثبت في الصحيحين أن عثمان حده بعدما شهدت عليه الشهود، فهو ليس مأخذا على عثمان، بل كان من مناقب عثمان ? أن أقام عليه الحد وعزله عن الكوفة؛ حيث ذكر البخاري هذه الحادثة في باب (مناقب عثمان) ( ), وكان علي ? يقول: إنكم وما تعيرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل رِدْءَه.( ) ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بفعله وعزله عن عمله، وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا.( ) ثم إن تلك الحادثة لم تطرأ في عهد عثمان فحسب، بل لها سابقة في عهد عمر بن الخطاب ?؛ حيث ذكر أن قدامة بن مظعون له صحبة شرب الخمر، وهو أمير على البحرين من قبل عمر
فحده وعزله( ).
وقد ذكر بعض المؤرخين أنه لم يثبت على الوليد شربه الخمر، قال الحافظ في الإصابة: ويقال إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق.( ) وقد أشار إلى هذا ابن خلدون فقال: وما زالت الشائعات -أي على عمال عثمان- من قبل المشاغبين تنمو، ورمى الوليد بن عقبة - وهو على الكوفة - بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحده عثمان وعزله.( ) وما حكاه الطبري ببعض تفاصيل: إن أبناءً لأبي زينب وأبي مورع وجندب بن زهير نقبوا على ابن الحيسمان داره وقتلوه، فشهد عليهم بذلك أبو شريح الخزاعي الصحابي وابنه، -وكان جارا لابن الحيسمان- فاقتص منهم الوليد، فأخذ الآباء على أنفسهم أن يكيدوا للوليد، وأخذوا يترقبون حركاته فنزل به أبو زبيد الشاعر، وكان نصرانيا من أخواله بني تغلب، وأسلم على يد الوليد, وكان الضيف متهما بشرب الخمر، فأخذ بعض السفهاء يتحدثون بذلك في الوليد لملازمته أبا زبيد، ووجد أبو زينب وأبو مورع خير فرصة يغتنمانها، فسافرا إلى المدينة وتقدما إلى عثمان شاهدين على الوليد بشرب الخمر، وأنهما وجداه يقئ الخمر، فقال عثمان: ما يقئ الخمر إلا شاربها، فجيء بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان: نقيم حدود الله ويبوء شاهد الزور بالنار، فاصبر يا أخي( ).
قال محب الدين الخطيب: وأما الزيادة التي وردت في رواية مسلم من أنه أتى بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم، وفي بعض طرق أحمد أن صلى أربعا، فلم تثبت في شيء من شهادة الشهود، فهي من كلام حضين الراوي للقصة، ولم يكن حضين من الشهود ولم يروها عن شاهد ولا عن إنسان معروف، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم، فلا اعتداد بهذا الجزء من كلامه( ).
هذا هو والي عثمان على الكوفة الوليد بن عقبة، المجاهد الفاتح، العادل المظلوم الذي كان منه لأمته كل ما استطاعه من عمل طيب، ثم رأى بعينه كيف يبغي المبطلون على الصالحين, وينفذ باطلهم فيهم, فاعتزل الناس بعد مقتل عثمان في ضيعة له منقطعة عن صخب المجتمع، وهي تبعد خمسة عشر ميلا عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان يجاهد فيها ويدعو الناس للإسلام في خلافة عمر( )، واعتزل جميع الحروب التي كانت أيام علي ومعاوية -رضي الله عنهما- إلى أن توفي بضيعته ودفن بها في عام 61هـ، وقيل إنه توفي في أيام معاوية( ).
رابعًا: سعيد بن العاص.
هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأموي.( ) وقال أبو حاتم: له صحبة، ولي الكوفة بعد الوليد بن عقبة، كان من فصحاء قريش, ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن؛ فعن أنس بن مالك قال: «... فأمر عثمان زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها (أي الصحف) في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش».( ) وقد أقيمت عربية القرآن على لسان سعيد بن العاص؛ لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله ×. أدرك من الحياة النبوية تسع سنين، وقتل أبوه يوم بدر مشركا، قتله علي بن أبي طالب.( )
واقرأ معي هذا الخبر الذي يدل على قوة إيمانه: حيث روي أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص: لم أقتل أباك، وإنما قتلت خالي العاص بن هشام، فقال سعيد: لو قتلته لكنت على الحق، وكان على الباطل، فأعجب عمر بجوابه. وفي أيام ولايته الكوفة غزا طبرستان ففتحها وغزا جرجان، وكان في عسكره حذيفة وغيره من الصحابة.( ) وكان مشهورا بالكرم والبر، حتى سأله السائل -وليس عنده ما يعطيه- فكتب له بما يريد أن يعطيه، مسطورا.( ) وكان رحمه الله يحب جمع شمل المسلمين ويكره الفتنة ويفر منها، ولاه عثمان الكوفة بعد الوليد بن عقبة ووفد إلى المدينة مرة، وعندما عاد إلى الكوفة جند أهل الشغب جنودهم ومنعوه من دخولها، فعاد ولزم المدينة. وهؤلاء الذين منعوه من العودة إلى الإمارة كان منهم قتلة عثمان، ومع ذلك اعتزل الجمل وصفين وحث أهل الجمل على القعود عن الخروج.( ) هذه هي سيرته؛ كرم وشجاعة، وبر، وجهاد، وفصاحة أشبه ما تكون بفصاحة النبي ×، وكان قد أملى على زيد بن ثابت هذا المصحف الذي نقرؤه اليوم، فتأمل هذه المناقب الثابتة له بالرواية الصحيحة، وقارنها بما يذكرون من مثالبه التي لا سند لها، وتأمل فيمن أشاعها، فتظن أنها ملفقة لأنها تجمع في الرجل النقيضين؛ الكرم والبخل، والبر والتوحش، والفهم والجهل، والجهاد والنكوص، وهذا لا يعقل اجتماعه في رجل سوى.( ) يزعم الرواة بلا إسناد أنه عندما ولي سعيد الكوفة بعد الوليد كان بعض الموالي يقول رجزا:
يا ويلنا قد عُزِل الوليـد
وجاءنــا مجوِّعًا ســـــعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد( ).
وهذا رجز مصنوع، وقصة موضوعة بلا شك( )؛ لأن الموالي في سنة 30 هـ - أي العبيد من أسرى الحروب- لم يكونوا يحسنون العربية بله قول الشعر، ولأن سعيد بن العاص المشهور بالكرم والبر لا يمكن أن يوصف بأنه (مجوِّع)، وإذا مدح الناس والشعراء الوليد لكرمه فإن سعيدا ضرب المثل بكرمه( )، فكان يقال له: عكة العسل، وقال فيه الفرزدق
يذكر كرمه:
ترى الغُرَّ الجحاجح من قريش
إذا ما الأمر في الحدثان عالا

قياما ينظرون إلى سعيد
كأنهم يرون به هلالا( )

وإذا قال الموالي هذا الرجز في أول مجيء سعيد إلى الكوفة, فكيف عرف الموالي سياسة سعيد، وهل جاء مجوعا أم جاء مشبعا، والغريب أن الرواة يسوقون هذا الخبر في سياق ينقض بعضه بعضا؛ حيث يقولون: فولى عثمان سعيد بن العاص الكوفة فسار فيهم سيرة عادلة، فكان بعض الموالي يقول... الرجز( )! فكيف تكون السيرة عادلة، ويوصف بأنه جوع الموالي؟! فقد كان الخير كثيرا يسع الجميع، ويفيض, والسيرة العادلة تجعل الخير يعم.( ) ورحم الله المؤرخين القدماء، فقد كانوا حسني الظن بالقراء، فجمعوا في كتبهم الروايات المتناقضة، وحسبوا أن القراء في جميع العصور يستطيعون تمييز الغث من السمين، وعذرهم بأنهم كانوا يؤلفون لأهل عصرهم، وما عرفوا أن القرون التالية ستحفل بمن يحتطب بليل.( ) فقد روى ابن سعد في ترجمة سعيد بلا إسناد يقول: قالوا: فلما قدم سعيد الكوفة واليا قدمها شابا مترفا ليست له سابقة، فقال: لا أصعد المنبر حتى يطهر، فأمر به فغسل، وقال على المنبر: إنما هذا السواد بستان لأغُيْلمة من قريش، فشكوه إلى عثمان.( ) وهذا كلام لا يصح لأنه غير مسند؛ ولأن سعيد بن العاص الذي قاد جيوش الجهاد وفتح الفتوح لا يكون كما وصف القائلون. ثم إن ابن سعد يروي قولة سعيد هذه على لسان الأشتر مالك بن الحارث عندما منع سعيد بن العاص من دخول الكوفة بعد سنوات من ولايته؛ حيث قال الأشتر: هذا سعيد بن العاص قد أتاكم يزعم أن هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش، والسواد مساقط رؤوسكم, ومراكز رماحكم، وفيئكم وفئ آبائكم( ).
ومالك بن الحارث الملقب بـ(الأشتر) صاحبة فتنة؛ كان من رؤساء الخوارج الذين حاصروا عثمان وقتلوه، ولا يستغرب من هؤلاء أن يختلقوا الأقوال لإثارة كره الناس، وإذا كانت هذه الجملة قد قيلت، فإن الذين قالوها هم الخارجون على الخلافة؛ لأنهم فهموا هذا الفهم السقيم بسبب تتابع الأمراء على العراق -وبخاصة الكوفة- من قريش، ولأن العصبية القبلية واضحة في هذه المقولة.( ) وقد قال الإمام الذهبي فيه: وكان أميرا شريفا جوادا، ممدَّحا، حليما، وقورا، ذا حزم وعقل، يصلح للخلافة (الولاية).( ) وأما قول المخالفين والذين طعنوا في عثمان ? بأنه استعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة( ), فمجرد إخراج أهل الكوفة له لا يدل على ذنب يوجب ذلك، فمن عرف الكوفة وسبر أحوالها عرف كثرة تشكي أهلها من ولاتهم بلا مبرر شرعي ولأتفه الأسباب، حتى قال فيهم عمر بن الخطاب ?: أعياني وأعضل بي أهل الكوفة، ما يرضون أحدا ولا يرضى بهم، ولا يصلحون ولا يصلح عليهم.( ) وفي رواية: أعياني أهل الكوفة؛ فإن استعملت عليهم ليِّنا استضعفوه، وإن استعملت عليهم شديدا شكوه.( ) بل إنه دعا عليهم فقال: اللهم إنهم قد لبسوا عليَّ فلبِّس عليهم( ).
وقد كان سعيد بن العاص رجلا حكيما، فقد قال: لجليسي علىَّ ثلاث؛ إذا دنا رحبت به، وإذا جلس أوسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه. وقال لابنه: يا بني، أجرِ لله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه، أو جاءك مخاطرا لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته. وقال أيضا: يا بني، لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فتهون عليه. ودخلت عليه ذات يوم امرأة من العابدات وهو أمير الكوفة فأكرمها وأحسن إليها، فقالت: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت المنة في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سببا لردها عليه.
ولما حضرت سعيدًا الوفاة جمع بنيه وقال لهم: لا يفقدن أصحابي غير وجهي، وصلوهم بما كنت أصلهم به، وأجروا عليهم ما كنت أجري عليهم، واكفوهم مؤنة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه، وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجته أعظم منة عليكم مما تعطونه. ثم أوصاهم بوصايا كثيرة، وكانت وفاته 58هـ، وقيل 57هـ، وقيل 59هـ( ).
خامسًا: عبد الله بن سعد بن أبي السرح:
درج المؤرخون في الغالب إذا ذكروا اسم عبد الله بن أبي السرح وتولية عثمان له على ولاية مصر على أن يقولوا: لقد ولى عثمان على مصر عبد الله بن أبي السرح أخاه من الرضاعة.( ) وإيراد عبارة (أخاه من الرضاعة) مقرونة بالتولية تعتبر إيحاء من بعض المؤرخين باتهام عثمان ?, وأنه لهذه الأخوة من الرضاعة ولاه على مصر، وهذا الذي يراه المؤرخ غير صحيح، ولكي نرد على هؤلاء وعلى ما يغمزون به أمير المؤمنين عثمان بن عفان ? نستعرض جهود فارس بني عامر بن لؤى( ) -عبد الله بن سعد-؛ فقد كان على خبرة ودراية تامة بأحوال مصر ونواحيها نتيجة اشتراكه مع جيش عمرو في فتحها، ونتيجة ولايته على بعض النواحي أثناء خلافة عمر، فقد كان على صعيد مصر( ), وكذلك أول خلافة عثمان، مما أهله لأن يصبح واليا عاما على مصر، فكان أقوى المرشحين لتلك الولاية بعد عمرو بن العاص نتيجة لتلك الخبرات، ويبدو أن عبد الله بن سعد تمكن من ضبط خراج مصر حتى زاد ما كان يجمعه من الخراج على ما كان يجمعه عمرو بن العاص قبله، ولعل مرد ذلك إلى اتباع عبد الله بن سعد لسياسة جديدة في المصروفات اختلفت عن سياسة عمرو، وبالتالي زادت أموال الخراج
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:54 pm

المتوافرة في مصر.( )
وقد قام عبد الله بن سعد أثناء ولايته بالجهاد في عدة مواقع، فكانت له فتوح مختلفة لها شأن عظيم، فكان من غزواته غزوة أفريقية سنة 27هـ وفتوحه فيها, وقتله ملكها جرجير، وكان يصاحبه في تلك الغزوات مجموعة من الصحابة، منهم: عبد الله بن الزبير، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم، وانتهت الغزوة بصلح مع بطريرك أفريقيا على تأدية الجزية للمسلمين.( ) وقد عاد ابن أبي السرح إلى أفريقية مرة أخرى ووطد فيها الإسلام وذلك في سنة 33هـ( )، كما كان من أهم أعمال عبد الله بن سعد بن أبي السرح غزوه لبلاد النوبة وتسمى غزوة الأساودة أو غزوة الحبشة عند بعض المؤرخين، وقد وقعت هذه الغزوة سنة إحدى وثلاثين للهجرة، وقد دار قتال شديد بين أجناد المسلمين وجنود النوبة، وأصيب مجموعة من المسلمين نظرا لإجادة أهالي النوبة للرمي، وقد انتهت تلك الغزوة بصلح وقعه عبد الله بن سعد مع أهالي النوبة بوضع جزية محددة عليهم.( ) ويعتبر عبد الله بن سعد بحق أول قائد مسلم تمكن من اقتحام النوبة، وقاتل أهلها وفرض عليهم الجزية، واستقرت الحال على ذلك في أيامه بين أهل النوبة والمسلمين.
كذلك من أهم أعمال عبد الله بن سعد العسكرية غزوة ذات الصواري، وقد انتصر فيها المسلمون على الروم، وقد كانت ولاية عبد الله بن سعد على مصر محمودة على العموم لدى المصريين ولم يروا منه ما يكرهون، يقول عنه المقريزي: ومكث أميرا مدة ولاية عثمان ? كلها محمودا في ولايته.( ) وقال فيه الذهبي: ولم يتعد ولا فعل ما ينقم عليه، وكان أحد عقلاء الرجال وأجوادهم.( ) وقد كانت ولاية مصر في أول أمرها هادئة مستقرة إلى أن تمكن مثيرو الفتنة من أمثال عبد الله بن سبأ من الوصول إليها وإثارة الناس فيها، فكان لهم وللمتأثرين بهم دور كبير في مقتل عثمان ?، كما أن الأحوال في مصر نفسها اضطربت نتيجة طرد الوالي الشرعي لها واستيلاء أقوام آخرين على الأمور بطريقة غير شرعية، وقد تمكنوا خلال تلك الفترة من بث الكراهية في قلوب الناس لخليفتهم عثمان نتيجة مكائد قاموا بها وأكاذيب لفقوها ونشروها( ) -سيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى-. ولما وقعت الفتنة بمقتل عثمان ? اعتزلها عبد الله بن سعد وسكن عسقلان، أو الرملة في فلسطين. وروى البغوي بإسناد صحيح عن يزيد بن أبي حبيب قال: خرج ابن أبي السرح إلى الرملة بفلسطين، فلما كان عند الصبح قال: اللهم اجعل آخر عملي الصبح، فتوضأ ثم صلى، فسلم عن يمينه ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه( ).
سادسًا: مروان بن الحكم ووالده:
كان مروان بن الحكم من أخص أقرباء عثمان به، وأوثقهم صلة بمركز الخلافة وألصقهم بالأحداث التي عصفت بالوحدة الإسلامية في عهد عثمان ?، فكان منه بمنزلة كاتم سر الدولة، أو حامل ختم الملك.( ) ولم يكن مروان بالتأكيد المستشار الأوحد للخليفة الذي كان يستشير كبار الصحابة وصغارهم، ولم يكن بمعزل عن قادة الرأي في مجتمع الإسلام، وكذلك لم يكن مروان الوزير الذي تجمعت تحت يده سلطات الدولة، إنما كان كاتبا للخليفة، وهي وظيفة تستمد أهميتها من قرب صاحبها من إذن الخليفة وخاتمه، أما ادعاء توريطه عثمان وإثارة الناس عليه لتنقل الخلافة بعد ذلك إلى بني أمية، فافتراض لا دليل عليه، ولم تنتقل الخلافة إلى بني أمية إلا بعد أهوال جسام لم يكن لمروان فيها دور خطير، ثم إن عثمان لم يكن ضعيف الشخصية حتى يتمكن منه كاتبه إلى الحد الذي يتصوره الرواة.( ) ولا ذنب لمروان بن الحكم إن كان في حياة الرسول × لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم، بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها، وكان مسلما يقرأ القرآن ويتفقه في الدين، ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشيء يعاب فيه، فلا ذنب لعثمان في استكتابه، وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان.( ) بل إن خبر طرد النبي × لأبيه ضعيف سندا ومتنا، وتعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية فأوضح تهافته وضعفه.( ) وعُرف عن مروان بن الحكم العلم والفقه والعدل، فقد كان سيدا من سادات شباب قريش لما علا نجمه أيام عثمان بن عفان، وقد شهد له الإمام مالك بالفقه، واحتج بقضائه وفتاواه في مواطن عديدة من كتاب الموطأ, كما وردت في غيره من كتب السنة المتداولة في أيدي الأئمة المسلمين يعملون بها.( ) وكان الإمام أحمد يقول: يقال: كان عند مروان قضاء، وكان يتتبع قضايا عمر بن الخطاب.( ) وكان مروان من أقرأ الناس للقرآن كما كان له رواية للحديث الشريف؛ حيث روى عن بعض مشاهير الصحابة، وروى عنه بعضهم، وكما روى عنه بعض التابعين.( ) وكان حريصا على تحري السنة والعمل بها؛ روى الليث بن سعد -فقيه مصر- بسنده قال: شهد مروان جنازة، فلما صلى عليها انصرف، فقال أبو هريرة: أصاب قيراطا وحرم قيراطا (أي الأجر والثواب، كما ورد في حديث شريف).( ) فأخبر بذلك مروان فأقبل يجري حتى بدت ركبتاه، فقعد حتى أذن له.( )
وجاء في مقدمة فتح الباري: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان، يقال له رؤية، يعني رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن ثبتت، فلا يعرج على من تكلم فيه.( ) وكان يقول ابن كثير: وهو صحابي عند طائفة كثيرة؛ لأنه ولد في حياة النبي ×.( ) وقد ولى مروان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان، فكان شديدا على أهل الفسوق بها، حربا على مظاهر الترف والتخنث( )، عادلا مع رعيته، حذرا من مجاملة ذوي قرباه، أو من يحاول منهم استغلال نفوذه؛ فقد لطم أخوه عبد الرحمن مولى لأهل المدينة يعمل حناطا أثناء فترة ولاية مروان على المدينة، فشكا الحناط إلى مروان، فأتى بأخيه عبد الرحمن، وأجلسه بين يدي الحناط وقال له: الطمه، فقال الحناط: والله ما أردت هذا، وإنما أردت أن أعلمه أن فوقه سلطانا ينصرني عليه، وقد وهبتها لك، فقال: لست أقبلها منك، فخذ حقك، فقال: والله لا ألطمه، ولكن أهبها لك، ولست والله لاطمه، فقال مروان: لست والله قابلها، فإن وهبتها فهبها لمن لطمك أو لله عز وعلا، قال: قد وهبتها لله تعالى، فقال عبد الرحمن شعرا يهجو أخاه مروان لذلك( ).
إن هذه الصورة المشرقة عن علم مروان وعدله وفقهه وتدينه تكاد تختلف تماما عن تلك الصورة الكريهة التي يقدمها عنه معظم المؤرخين والرواة الذين اجتهدوا لتشويه حياة الرجل، فلما حانت وفاته اجتهدوا أيضا لتشويهها, فزعموا أن امرأته أم خالد بن يزيد بن معاوية، خنقته بوسادتها، أو دست له السم لما سب ابنها -بزعمهم- أمام جماعة من الناس، وهذه القصة -ومع ما تحتويه من عناصر متناقضة- تبدو لأول وهلة وكأنها أسطورة اخترعتها مخيلات عجائز القوم، ثم رددتها الألسن، إما حبًّا في الثرثرة، أو لتنال من سمعة هذه الأسرة الرفيعة المكانة حسدا لما وصلت إليه من مجد.( ) فهل كان موته طبيعيا، أم مات بإصابة الطاعون، أم خنقته زوجته؟ إن تناقض الروايات دليل على أن الحقيقة غير معروفة، والروايات التي تزعم أن زوجته هي التي اغتالته مباشرة أو بالواسطة (عن طريق بعض جواريها) غير مقبولة أو معقولة، فهذه الزوجة سيدة شريفة من بيت عبد شمس وزوجها قريبها، وهو خليفة، وهي كانت زوجة خليفة وأم خليفة (وهو معاوية بن يزيد بن معاوية)، وهو عمل لا تقدم النساء الشريفات عليه، ثم إننا لم نر أي أثر لهذا الاغتيال، فلم يحدث في الأسرة أي خلاف، ولا مطالبة بالثأر، وظل خالد على مكانته عند عبد الملك، كما أن الدافع لا يكفي بحال لارتكاب جريمة القتل.( ) وذكر عن بعض أهل العلم أنه قال: كان آخر كلام تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار، وكان نقش خاتمه العزة لله، وقيل: آمنت بالعزيز الرحيم.( ) وقال ابن القيم: أحاديث ذم الوليد، وذم مروان بن الحكم كذب( ).
سابعًا: هل جامل عثمان أحدًا من أقاربه على حساب المسلمين؟
لو كان عثمان ? أراد أن يجامل أحدا من أقاربه على حساب المسلمين لكان ربيبه محمد ابن أبي حذيفة أولى الناس بهذه المجاملة، ولكن الخليفة أبي أن يوليه شيئا ليس كفئًا له بقوله: يا بني، لو كنت رضا ثم سألتني العمل لأستعملتك، ولكن لست هناك.( ) ولم يكن ذلك كراهية له ولا نفورا منه، وإلا لما جهزه من عنده وحمله وأعطاه حين استأذن في الخروج إلى مصر ( ).
وأما استعمال الأحداث فكان لعثمان ? في رسول الله أسوة حسنة، فقد جهز جيشا لغزو الروم في آخر حياته واستعمل عليه أسامة بن زيد رضي الله عنهما( )، وعندما توفي الرسول × تمسك الصديق ? بإنفاذ هذا الجيش، لكن بعض الصحابة رغبوا في تغيير أسامة بقائد أسن منه، فكلموا عمر في ذلك ليكلم أبا بكر، فغضب أبو بكر لما سمع هذه المقالة وقال لعمر: يا عمر، استعمله رسول الله × وتأمرني أن أعزله.( ) ويجيب عثمان بنفسه على هذه المآخذ أمام الملأ من الصحابة بقوله: ولم أستعمل إلا مجتمعا محتلما مرضيا، وهؤلاء أهل عملهم فسلوهم عنهم، وهؤلاء أهل بلدهم، وقد ولى مَنْ قبلي أحدث منهم، وقيل لرسول الله × مما قيل لي في استعماله لأسامة، أكذلك؟ قالوا: نعم يعيبون للناس ما لا يفسرون.( ) ويقول علي ?: (ولم يولِّ -أي عثمان- إلا رجلا سويا عدلا، وقد ولى رسول الله × عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة). ( )
لم يكن ولاة الأمصار في عهد عثمان جاهلين بأمور الشرع، ولم يكونوا من المفرطين في الدين، وإذا كانت لهم ذنوب فلهم حسنات كثيرة، ومع ذلك فإن سيئات وذنوب هؤلاء كانت تعود عليهم، ولم يكن لها تأثير في المجتمع المسلم، وقد تتبعنا آثار هؤلاء الولاة أيام ولايتهم، ووجدناها عظيمة الفائدة للإسلام والمسلمين، وقد اهتدى على يدي ولاة عثمان مئات الألوف إلى الإسلام، وبسبب فتوحاتهم انضم إلى ديار الإسلام أقاليم واسعة، ولو لم يكن عند هؤلاء من الشجاعة والدين ما يحثهم على الجهاد, ما قادوا الجيوش إلى الجهاد، وفيه مظنة الهلاك، وفيه ترك الراحة ومتاع الدنيا، وقد تتبعنا سيرة هؤلاء الولاة، فوجدنا لكل واحد منهم فتحا أو فتوحا في الجهات التي تجاور ولايته، مع مناقب وصفات حسنة تؤهله للقيادة( ).
إن الذي يرجع إلى الصحيح من وقائع التاريخ، ويتتبع سيرة الرجال الذين استعان بهم أمير المؤمنين ذو النورين رضوان الله عليهم، وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمة وسعادتها فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الجهر بالإعجاب والفخر كلما أمعن في دراسة ذلك الدور من أدوار التاريخ الإسلامي( ).
إن عثمان وولاته انشغلوا بمدافعة الأعداء وجهادهم وردهم، ولم يمنعهم ذلك من توسيع رقعة الدولة الإسلامية ومد نفوذها في مناطق جديدة، وقد كان للولاة تأثير مباشر في أحداث الفتنة؛ حيث كانت التهمة موجهة إليهم، وأنهم اعتدوا على الناس، ولكننا لم نلمس حوادث معينة يتضح فيها هذا الاعتداء المزعوم والمشاع، كما اتهم عثمان بتولية أقاربه, وقد دحضنا تلك الفرية، وهكذا نرى أن عثمان لم يألُ جهدا في نصح الأمة وفي تولية من يراه أهلا للولاية، ومع هذا فلم يسلم عثمان وولاته من اتهامات وجهت إليهم من قبل أصحاب الفتنة في حينها، كما أن عثمان ? لم يسلم من كثير من الباحثين في كتاباتهم غير المنصفة وغير المحققة عن عهد عثمان، وخصوصا الباحثين المحدثين الذين يطلقون أحكاما لا تعتمد على التحقيق أو على وقائع محددة، يعتمدون فيها على مصادر موثوقة؛ فقد تورط الكثير منهم في الروايات الضعيفة والرافضية، وبنوا أحكاما باطلة وجائرة في حق الخليفة الراشد عثمان بن عفان؛ مثل: طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى)، وراضى عبد الرحيم في كتابه (النظام الإداري والحربي)، وصبحي الصالح في كتابه (النظم الإسلامية)، ومولوي حسين في كتابه (الإدارة العربية)، وصبحي محمصاني في كتابه (تراث الخلفاء الراشدين في الفقه والقضاء)، وتوفيق اليوزبكي في كتابه (دراسات في النظم العربية والإسلامية)، ومحمد الملحم في كتابه (تاريخ البحرين في القرن الأول الهجري)، وبدوي عبد اللطيف في كتابه (الأحزاب السياسية في فجر الإسلام)، وأنور الرفاعي في كتابه (النظم الإسلامية)، ومحمد الريس في كتابه (النظريات السياسية)، وعلي حسني الخربوطي في كتابه (الإسلام والخلافة)، وأبي الأعلى المودودي في كتابه (الملك والخلافة)، وسيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية)، وغيرهم.
لقد كان عثمان ? بحق الخليفة المظلوم الذي افترى عليه خصومه الأولون، ولم ينصفه المتأخرون( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:56 pm

المبحث الرابع
حقيقة العلاقة بين أبي ذر الغفاري
وعثمان بن عفان رضي الله عنهما
أولاً: مجمل القصة:
إن مبغضي عثمان بن عفان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر إلى الربذة، وزعم بعض المؤرخين أن ابن السوداء (عبد الله بن سبأ) لقي أبا ذر في الشام وأوحى إليه بمذهب القناعة والزهد، ومواساة الفقراء، ووجوب إنفاق المال الزائد عن الحاجة، وجعله يعيب معاوية، فأخذه عبادة بن الصامت إلى معاوية، وقال له: هذا والله الذي بعث إليك أبا ذر فأخرج معاوية أبا ذر من الشام.( ) وقد حاول أحمد أمين أن يوجد شبها بين رأي أبي ذر ورأي مزدك الفارسي، وقال بأن وجه الشبه جاء من أن ابن سبأ كان في اليمن، وطَوَّف في العراق، وكان الفرس في اليمن والعراق قبل الإسلام، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقى هذه الفكرة من مزدكية العراق، واعتنقها أبو ذر حسن النية في اعتقادها.( )
وكل ما قيل في قصة أبي ذر مما يشنع به على عثمان بن عفان باطل، لا يبنى على رواية صحيحة، وكل ما قيل حول اتصال أبي ذر ? بابن السوداء باطل لا محالة( )، والصحيح: أن أبا ذر ? نزل في الربذة باختياره، وأن ذلك كان بسبب اجتهاد أبي ذر في فهم آية خالف فيها الصحابة، وأصر على رأيه، فلم يوافقه أحد عليه فطلب أن ينزل بالربذة( ) التي كان يغدو إليها زمن النبي ×، ولم يكن نزوله بها نفيا قسريا، أو إقامة جبرية، ولم يأمره الخليفة بالرجوع عن رأيه؛ لأن له وجها مقبولا، لكنه لا يجب على المسلمين الأخذ به.( )
وأصح ما روي في قصة أبي ذر ? ما رواه البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر ?، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" [التوبة: 34] قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك, وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريبا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا عليَّ حبشيا لسمعت وأطعت.( ) وقد أشار هذا الأثر إلى أمور مهمة، منها:
1- سأله زيد بن وهب ليتحقق مما أشاعه مبغضو عثمان: هل نفاه عثمان أو اختار أبو ذر المكان؟ فجاء سياق الكلام أنه خرج بعد أن أكثر الناس عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام، وليس في نص الحديث أن عثمان أمره بالذهاب إلى الربذة بل اختارها بنفسه، ويؤيد هذا ما ذكره ابن حجر عن عبد الله بن الصامت قال: دخلت مع أبي ذر على عثمان فحسر رأسه، فقال: والله ما أنا منهم -يعني الخوارج-، فقال: إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي بالربذة، قال: نعم( ).
2- قوله: كنت بالشام: بيَّن السبب في سكناه الشام ما أخرجه أبو يعلى عن طريق زيد ابن وهب: حدثني أبو ذر، قال: قال لي رسول الله ×: «إذا بلغ البناء -أي المدينة- سلعا، فارتحل إلى الشام»، فلما بلغ البناء سلعا قدمت الشام فسكنت بها.( ) وفي رواية قالت أم ذر: والله ما سير عثمان أبا ذر -تعني الربذة- ولكن رسول الله × قال: «إذا بلغ البناء سلعا، فاخرج منها» ( ).
3- إن قصة أبي ذر في المال جاءت من اجتهاده في فهم الآية الكريمة: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ? يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ" [التوبة: 34، 35] وروى البخاري عن أبي ذر ما يدل على أنه فسر الوعيد +يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا" الآية.. وكان يخوف الناس به، فعن الأحنف ابن قيس حدثهم قال: جلست إلى ملأ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم، فسلم ثم قال: بشر الكانزين برَضْف( ) يحمى عليه في نار جنهم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْض( ) كتفه، ويوضع على نُغْض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل.( ) ثم ولى فجلس إلى سارية وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو، فقلت له: ما أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت، قال: إنهم لا يعلقون شيئا.
واستدل أبو ذر ? بقول رسول الله ×: «ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا، أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير» ( ).
4- وقد خالف جمهور الصحابة أبا ذر، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، واستدلوا على ذلك بالحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري قال: قال النبي ×: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة». ( ) وقال الحافظ ابن حجر: ومفهوم الحديث أن ما زاد على الخمس ففيه صدقة، ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه، فلا يسمى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزا.( ) وقال ابن زيد: فإن ما دون الخمس لا تجب فيه الزكاة، وقد عفى عن الحق فيه فليس بكنز قطعا، والله قد أثنى على فاعل الزكاة، ومن أثنى عليه في واجب حق المال لم يلحقه ذم من جهة ما أثنى عليه فيه، وهو المال.( ) قال الحافظ: ويتلخص أن يقال: ما لم تجب فيه الصدقة لا يسمى كنزا؛ لأنه معفو عنه، فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك؛ لأنه عفى عنه بإخراج ما وجب منه فلا يسمى كنزا( ).
وقال ابن عبد البر: والجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤدَّ زكاته، ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعا: إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك، ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر( ).
5- ولعل مما يفسر مذهب أبي ذر في الإنفاق ما رواه الإمام أحمد عن شداد بن أوس، قال: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله × فيه الشدة، ثم يخرج إلى قومه، يسلم لعله يشدد عليهم، ثم إن رسول الله × يرخص فيه بعد، فلم يسمعه أبو ذر فيتعلق أبو ذر بالأمر الشديد( ).
6- قوله: «إن شئت تنحيت فكنت قريبا». يدل على أن عثمان طلب من أبي ذر أن يتنحى عن المدينة برفق ولم يأمره، ولم يحدد له المكان الذي يخرج إليه، ولو رفض أبو ذر الخروج ما أجبره عثمان على ذلك، ولكن أبا ذر كان مطيعا للخليفة؛ لأنه قال في نهاية الحديث: لو أمَّروا عليَّ حبشيًّا لسمعت وأطعت.( ) ومما يدل على أنه يمقت الفتنة والخروج على الإمام المبايع، ما رواه ابن سعد في أن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب له راية؟ -يعني مقاتله- فقال: لا، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب لسمعت وأطعت( ).
7- والسبب في تنحي أبي ذر عن المدينة، أو طلب عثمان منه ذلك، أن الفتنة بدأت تطل برأسها في الأقاليم، وأشاع المبغضون الأقاويل الملفقة، وأرادوا أن يستفيدوا من إنكار أبي ذر متعلقا برأيه ومذهبه، ولا يريد أن يفارقه، فرأى عثمان ? تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؛ لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طلاب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة.
8- قال أبو بكر بن العربي: كان أبو ذر زاهدا ويرى الناس يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم, وهو غير لازم، فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام، فخرج إلى المدينة فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: لو اعتزلت؛ معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه ولا يخالط الناس، ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج زاهدا فاضلا، وترك جلة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل، وحال أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا، فسبحان مرتب المنازل( ).
وقال ابن العربي: ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام، وكان أبو الدرداء زاهدا فاضلا قاضيا لهم (في الشام)، فلما اشتد في الحق وأخرج طريقة عمر بن الخطاب في قوم لم يحتملوها عزلوه، فخرج إلى المدينة, وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من كل عيب، وعثمان برئ أعظم براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفي وروى سببًا فهو كل باطل( ).
9- ولم يقل أحد من الصحابة لأبي ذر إنه أخطأ في رأيه، لأنه مذهب محمود لمن يقدر عليه, ولم يأمر عثمان أبا ذر بالرجوع عن مذهبه، وإنما طلب منه أن يكف عن الإنكار على الناس ما هم فيه من المتاع الحلال. ومن روى أنه عثمان نهى أبا ذر عن الفتيا مطلقا لم تصل روايته إلى درجة الخبر الصحيح.( ) والذي صح عند البخاري أن أبا ذر قال: لو وضعتم الصمصامة على هذه -وأشار إلى قفاه- ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي × قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها.( ) وفي البخاري لم يروا أن عثمان نهى أبا ذر عن الفتيا؛ لأن نهي الصحابي عن الفتيا دون تحديد الموضوع أمر ليس بالهين( ).
10- ولو كان عثمان نهاه عن الفتيا مطلقا لاختار له مكانا لا يرى فيه الناس، أو حبسه في المدينة، أو منعه من دخول المدينة، ولكن أذن له بالنزول في منزل يكثر مرور الناس به؛ لأن الربذة كانت منزلا من منازل الحجاج العراقيين، وكان أبو ذر يتعاهد المدينة يصلي في مسجد رسول الله ×. وقال له عثمان: لو تنحيت فكنت قريبا. والربذة ليست بعيدة عن المدينة، وكان يجاورها حمى الربذة الذي ترعى فيه إبل الصدقة، ولذلك يروى أن عثمان أقطعه صرمة من إبل الصدقة، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه رزقا، وكانت الربذة أحسن المنازل في طريق مكة.( ) وبعد أن ذكر الإمام الطبري الأخبار التي تفيد اعتزال أبي ذر من تلقاء نفسه قال: وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأمورا شنيعة كرهت ذكرها( ).
إن الحقيقة التاريخية تقول إن عثمان ? لم ينفِ أبا ذر ? إنما استأذنه فأذن له، ولكن أعداء عثمان ? كانوا يشيعون عليه بأنه نفاه، ولذلك لما سأل غالب القطان الحسن البصري: عثمان أخرج أبا ذر؟ قال الحسن: لا، معاذ الله.( ) وكل ما روي في أن عثمان نفاه إلى الربذة، فإنه ضعيف الإسناد لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة لمخالفته للمرويات الصحيحة والحسنة، التي تبين أن أبا ذر استأذن للخروج إلى الربذة وأن عثمان أذن له( )؛ بل إن عثمان أرسل يطلبه من الشام ليجاوره بالمدينة، فقد قال له عندما قدم من الشام: إنا أرسلنا إليك لخير لتجاورنا بالمدينة.( ) وقال له أيضا: كن عندي تغدو عليك وتروح اللقاح.( ) أفمن يقول ذلك له ينفيه؟( )ولم تنص على نفيه إلا رواية رواها ابن سعد، وفيها بريدة بن سفيان الأسلمي الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: ليس بالقوي وفيه رفض، فهل تقبل رواية رافضي تتعارض مع الروايات الصحيحة والحسنة؟( ) واستغل الرافضة هذه الحادثة أبشع استغلال فأشاعوا أن عثمان ? نفى أبا ذر إلى الربذة، وأن ذلك مما عيب عليه من قِبَل الخارجين عليه أو أنهم سوغوا الخروج عليه.( ) وعاب عثمان ? بذلك ابن المطهر الحلي الرافضي المتوفي سنة 726هـ، بل زاد أن عثمان ? ضرب أبا ذر ضربا وجيعا( )، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ردا جامعا قويا.( ) وكان سلف هذه الأمة يعلمون هذه الحقيقة، فإنه لما قيل للحسن البصري: عثمان أخرج أبا ذر؟ قال: لا، معاذ الله.( ) وكان ابن سيرين إذا ذكر له أن عثمان ? سير أبا ذر، أخذه أمر عظيم، ويقول: هو خرج من نفسه، ولم يسيره عثمان.( ) وكما تقدم في الرواية الصحيحة الإسناد أن أبا ذر ? لما رأى كثرة الناس عليه خشي الفتنة، فذكر ذلك لعثمان كأنه يستأذنه في الخروج، فقال له عثمان ?: إن شئت تنحيت فكنت قريبا( ).
ثانيًا: بطلان تأثير ابن سبأ على أبي ذر ?:
كتب سعيد الأفغاني في كتابه (عائشة والسياسة)، فعظم دور ابن سبأ في الفتنة، ونسب إليه كل المؤامرات والفتن والملاحم الواقعة بين الصحابة، ويرى أن هذه المؤامرة المحكمة سهر عليها أبالسة خبيرون، وسددوا خطاها وتعاهدوها حتى أتت ثمارها في جميع الأقطار، ولهذا كتب هذا العنوان (ابن سبأ البطل الخفي المخيف).( ) ويبدو التهويل من شأن ابن سبأ عند الأفغاني حينما يصفه بأنه رجل على غاية من الذكاء وصدق الفراسة، والنظر البعيد، والحيلة الواسعة، والنفاذ إلى نفسية الجماهير( )، ويقطع أنه أحد أبطال جمعية تلمودية سرية غايتها تقويض الدولة الإسلامية.( ) ويكاد يقرر بأنه يعمل لصالح دولة الروم التي انتزع المسلمون منها لفترة قريبة قطرين هامين هما مصر والشام، عدا ما سواهما من بلاد
أخرى على البحر المتوسط، ويستغرب نشاط ابن سبأ إلى شتى المجالات الدينية
والسياسية والحربية( ).
وهو يرى أن ابن سبأ كان موفقا كل التوفيق في لقائه مع أبي ذر، وفي تفصيل هذه المقالة التي ركبها على مزاج أبي ذر، وأن الذي ساعده على ذلك فهمه الجيد لأمزجة الناس واستخباراته الصادقة المنظمة.( ) وهذا الزعم -أي تأثير ابن سبأ على أبي ذر ?- لا أساس له من الصحة من عدة وجوه:
أ- حينما أرسل معاوية إلى عثمان ? يشكو إليه أمر أبي ذر لم تكن منه إشارة
إلى تأثير ابن سبأ عليه، واكتفى أن قال: إن أبا ذر قد أعضل بي، وقد كان من أمره
كيت وكيت( ).
ب- ذكر ابن كثير الخلاف الواقع بين أبي ذر ومعاوية بالشام في أكثر من موضع في كتابه، ولم يرد ابن سبأ في واحد منها( ).
ج- وفي صحيح البخاري، ورد الحديث الذي يشير إلى أصل الخلاف بين أبي ذر ومعاوية، وليس فيه الإشارة من قريب أو بعيد إلى ابن سبأ( ).
د- وفي أشهر الكتب التي ترجمت للصحابة ترد محاورة معاوية لأبي ذر، ثم نزوله الربذة، ولكن شيئا من تأثير ابن سبأ على أبي ذر لا يذكر( ).
هـ- بل ورد الخبر في الطبري هكذا.. فأما العاذرون معاوية في ذلك -يعني إشخاص معاوية أبا ذر إلى المدينة- فذكروا في ذلك قصة ورود ابن السوداء الشام ولقياه أبا ذر.. إلخ.( ) وهذا الخبر الذي أورده الطبري ساقط وكاذب، تكذبه وقائع التاريخ الزمنية، وإليك البيان:
* يذكرون أن ابن سبأ أسلم في عهد عثمان، وكان يهوديا من اليمن، وبدأ نشاطه المخرب في الحجاز، ولكنهم لم يذكروا أنه التقى أحدا أو التقاه أحد في الحجاز.
* كان أول ظهوره في البصرة بعد أن تولى عبد الله بن عامر عليها بثلاث سنوات، وعبد الله بن عامر جاء بعد أبي موسى الأشعري سنة 29هـ، وبهذا يكون ظهوره في البصرة 32هـ، وقد طرده ابن عامر من البصرة يوم عرفة.
* قالوا: إنه توجه إلى الكوفة، فباض وفرخ، وحرضه على معاوية, ولا بد أنه مكث زمنا في الشام ليتعرف على أحوال الرجال، ويضع خططه ليبث دعوته فيهم، ولنفرض جدلاً أنه عرف أمره في الشام في أواخر سنة 33هـ، فماذا تقول أيها القارئ إذا عرفت أن الروايات الصحيحة تقول: إن أبا ذر كانت مناظرته لمعاوية سنة 30هـ، وأنه رجع إلى المدينة وتوفي بالربذة سنة 31هـ، أو سنة 32هـ، ومعنى هذا أن ابن سبأ ظهر في البصرة في وقت كان فيه أبو ذر ميتا، فكيف وأين التقاه؟.( )
إن أبا ذر ? لم يتأثر لا من قريب ولا من بعيد بآراء عبد الله بن سبأ اليهودي، وقد أقام بالربذة حتى توفى، ولم يحضر شيئا مما وقع في الفتن( )، ثم هو قد روى حديثا من أحاديث النهي عن الدخول في الفتنة( ).
ثالثـًا: وفاة أبي ذر ? وضم عثمان عياله إلى عياله:
في غزوة تبوك قيل لرسول الله ×: قد تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره، فقال:
«دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه».( ) وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله × ماشيا، ونزل رسول الله × في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال رسول الله ×: «كن أبا ذر» ( ), فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر، فقال رسول الله ×: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده». ( ) ومضى الزمان وجاء عهد عثمان وأقام أبو ذر في الربذة، فلما حضرته الوفاة أوصى امرأته وغلامه: إذا مت فاغسلاني وكفناني ثم احملاني فضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلوا به كذلك، فطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله ×: «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده».( ) فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام وأقسم ألا تركبوا حتى تأكلوا، ففعلوا، وحملوهم حتى أقدموهم إلى مكة، ونعوه إلى عثمان ? فضم ابنته إلى عياله.( ) وجاء في رواية: «... فلما دفناه دعتنا إلى الطعام وأردنا احتمالها, فقال ابن مسعود: أمير المؤمنين قريب نستأمره، فقدما مكة فأخبرناه الخبر، فقال: يرحم الله أبا ذر، ويغفر له نزوله الربذة، ولما صدر خرج، فأخذ طريق الربذة، فضم عياله إلى عياله، وتوجه نحو المدينة وتوجهنا نحو العراق( ).
* * *

الفصل السادس
أسباب فتنة مقتل عثمان ?
المبحث الأول
أهمية دراسة وقائع فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداث
والحكمة من إخباره × بوقوعها
أولاً: أهمية دراسة وقائع فتنة مقتل عثمان ? وما ترتب عليها من أحداث في الجمل وصفين وغيرهما:
ورد عن كثير من السلف والعلماء الأمر بالتوقف عن الخوض في تفاصيل ما وقع بين الصحابة، وإيكال أمرهم إلى الله الحكم العدل، مع الترضِّي عنهم، واعتقاد أنهم مجتهدون، مأجورون إن شاء الله، والحذر من الطعن فيهم والوقوع في أعراضهم؛ لما يجر ذلك من الطعن في الشريعة؛ إذ هم حملتها وحاملوها إلينا، ومن ذلك ما روى عن عمر بن عبد العزيز أنه سئل عن أهل صفين فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضب لساني فيها.( ) وسئل أحدهم عن ذلك فقال متمثلا قوله تعالى: +تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [البقرة: 134].
وهذا النهي معلل، علته الخوف مما ذكرناه من الطعن فيهم والوقوع في أعراضهم، وما يستوجب ذلك من غضب الله ونقمته، فإذا انتفت هذه العلة فالظاهر أنه لا حرج في ذلك، إذا كان الكلام والبحث في تفاصيل ما وقع بينهم لا يؤدي إلى الطعن فيهم مطلقا، فلا بأس من دراسة ذلك والتعمق في أسبابه ودوافعه وتفصيلاته الدقيقة ونتائجه وتداعياته على مجتمع الصحابة، ثم على من بعدهم، وقد كتب من العلماء عن الفتنة، أمثال: ابن كثير والطبري وغيرهما حول أحداث تلك الفترة الحرجة من تاريخ الإسلام، وفصلوا في قضايا كثيرة تتعلق بتلك الفتنة، ومنهم من ذهب إلى حد تخطئة أحد الطرفين، أو كليهما اعتمادا على روايات ونصوص كثيرة اختلط فيها الصحيح بغيره.( ) وهناك أسباب تدعو علماء أهل السنة وطلاب العلم منهم للغوص في أعماق فتنة الهرج التي وقعت في صدر الإسلام والبحث عن تفاصيلها، ومن هذه الأسباب:
1- أن المؤلفات المعاصرة التي تناولت أحداث الفتنة بين الصحابة والتابعين انقسمت إلى ثلاثة أنواع:
أ- مصنفات تربى أصحابها على موائد الفكر الغربي الحاقد على التاريخ الإسلامي, أو الجاهل بالتاريخ الإسلامي، فلم يروا فيه شيئا جميلا، فراحوا يطعنون في الصحابة والتابعين بطريقة تخدم أهداف أعداء الإسلام وخصومه، الذين قاموا لدراسة أحداث تلك الفتنة وتفاصيلها، وإعطائها تفسيرات تطعن في جموع الصحابة، وتضرب الإسلام في أصوله، وتجعل من هذه الأحداث صراعا سياسيا على مناصب وكراسي، تخلي فيه الصحابة عن إيمانهم وتقواهم وصدقهم مع الله، وانقلبوا إلى طلاب دنيا، وعشاق زعامة، لا يهمهم أن تراق الدماء، وتزهق الأرواح وتسلب الأموال وتستباح الحرمات إذا كان في ذلك ما يحقق لهم ما يريدون من الرياسة والزعامة.
وممن تولى كبر هذه الفرية طه حسين (الفتنة الكبرى) ( )، الذي هو بحق فتنة كبرى على عقول الناشئة من أبناء المسلمين؛ فقد راح طه حسين يشنع على الصحابة ويشكك في نياتهم، ويتهمهم باتهامات مغرضة خدمة لأهداف أعداء الإسلام والمسلمين.( ) وقد تأثر الكثير بمنهجه، ويبدو أن أمثال هؤلاء اعتمدوا على الروايات التاريخية التي أوردها المؤرخون كالطبري وابن عساكر وغيرهما، والتي اختلط فيها الغث بالسمين، والكذب بالصدق، أخذها دون مراعاة لمنهج هؤلاء في مصنفاتهم، وهذا خطأ كبير.( ) وقد تأثرت هذه الكتابات بالفكر الرافضي والكتابات الشيعية الرافضية للتاريخ الإسلامي( )؛ فقد تعمد الروافض الإساءة في كتاباتهم للتاريخ الإسلامي، كما في روايات وأخبار الكلبي( ), وأبى مخنف( ), ونصر بن مزاحم المنقري( ), والتي توجد حتى عند الطبري في تاريخه، لكن الطبري يذكرها مسندة لهؤلاء، فيعرف أهل العلم حالها.( ) وكما في كتابات المسعودي في مروج الذهب واليعقوبي في تاريخه. وقد أشار الأستاذ محب الدين الخطيب في حاشية (العواصم) إلى أن التدوين التاريخي إنما بدأ بعد الدولة الأموية, وكان للأصابع الباطنية والشعوبية المتلفعة برداء التشيع دور في طمس معالم الخير فيه، وتسويد صفحاته الناصعة( ).
ويظهر هذا الكيد لمن تدبر كتاب (العواصم من القواصم) لابن العربي مع الحاشية الممتازة التي وضعها العلامة محب الدين الخطيب، لقد سود شيوخ الروافض آلاف الصفحات بسبِّ أفضل قرن عرفته البشرية، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم لتشويه تاريخ المسلمين.( ) وكانت هذه المادة (الرافضية) الكبيرة والتي تجدها في كتب التاريخ التي وضعها الروافض أو شاركوا في بعض أخبارها، وتراها في كتب الحديث عندهم كالكافي، والبحار، وفيما كتبه شيوخهم في القديم؛ كإحقاق الحق، وفي الحديث ككتاب الغدير، هذه المادة السوداء المظلمة الكريهة الشائهة هي المرجع لما كتبه أعداء المسلمين من المستشرقين وغيرهم، وجاء ذلك الجيل المهزوم روحيا، والذي يرى في الغرب قدوته وأمثولته من المستغربين، فتلقف ما كتبته الأقلام الاستشراقية وجعلها مصدره ومنهله، وتبنى أفكارهم ونشر شبهاتهم في ديار المسلمين، وكان لذلك أثره الخطير في أفكار المسلمين وثقافتهم، وكان الرفض هو الأصل في هذا الشر كله. وإن دراسة آراء المستشرقين وصلتها بالتشيع لهي موضوع مهم يستحق الدراسة والتتبع، لقد بدأت استفادة العدو الكافر من شبهات الروافض وأكاذيبهم ومفترياتهم على الإسلام والمسلمين منذ عهد الإمام ابن حزم (ت 456هـ) ( ).
ب- مصنفات لبعض علماء هذه الأمة من المعاصرين، وهي مفيدة إجمالا، ولكن طريقة عرضهم للأحداث وتفسيرهم لمواقف بعض الصحابة والتابعين فيها كثير -أو بعض- من عدم الإنصاف، مثل ما كتبه أبو الأعلى المودودي -رحمه الله- في كتابه (الخلافة والملك)، وما دونه الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- في كتابه (تاريخ الأمم الإسلامية) و(الإمام زيد بن علي)، فالكتابان مشحونان بكثير من التحامل على مقام بعض الصحابة والطعن على خلفاء بني أمية، وتنقصهم وتجريدهم من أية خصلة حميدة أو عمل صالح.( ) ويبدو أن أمثال هؤلاء العلماء لم يحققوا في الروايات التاريخية، فتورطوا في الروايات الرافضية الشيعية وبنوا عليها تحليلاتهم واستنتاجاتهم، غفر الله لنا ولهم.
ج- مصنفات حاول أصحابها أن يسلكوا فيها منهج علماء الجرح والتعديل في نقد الروايات التاريخية وعرضها على أصول منهج المحدثين من حيث السند والمتن من أجل تمييز صحيحها من سقيمها, وسليمها من عليلها.
وفي هذه المؤلفات محاولة جيدة وجهد مشكور للوقوف في وجه هذا الزيف، وتفسير الأحداث التفسير الصحيح الذي لا يتعارض مع فضل الصحابة وإيمانهم وجهادهم( ), ومن هذه المؤلفات الجيدة ما كتبه الدكتور يوسف العش في (تاريخ الدولة الأموية)، وما كتبه محب الدين الخطيب تعليقا على كتاب (العواصم من القواصم) لأبي بكر بن العربي، وما كتبه صادق عرجون في كتابه (عثمان بن عفان)، وما سطره الدكتور سليمان بن حمد العودة في كتابه (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام)، وما كتبه محمد أمحزون في كتابه (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة)، وما كتبه الدكتور أكرم العمري في كتابه (الخلافة الراشدة)( ), وما كتبه عثمان الخميس في كتابه (حقبة من التاريخ)، وما كتبه الدكتور محمد حسن شراب في كتابه (المدينة النبوية.. فجر الإسلام والعصر الراشدي)، وما قام به محب الدين من تحقيقات نافعة وتعليقات صائبة على كتاب (العواصم من القواصم) و(المنتقى)، وغيرها من الكتب والبحوث والرسائل التي سارت على نفس المنهج؛ فقد ظهر من هذا البيان شدة الحاجة إلى وجود مؤلفات ومصنفات ترد على هذه المزاعم والأخطاء، ولا يتم الرد على هؤلاء المزيفين للتاريخ الإسلامي ومقام الصحابة إلا بمحاولة دراسة تفاصيل تلك الأحداث، وغربلة الأخبار والروايات الواردة بميزان الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف.( ) وقد جاء عن ابن تيمية قوله: لكن إذا ظهر مبتدع، يقدح فيهم بالباطل,
فلا بد من الذب عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل.( ) وقد ذهب الإمام الذهبي -رحمه الله- في هذا مذهبا آخر، فهو يدعو إلى إحراق هذه الكتب التي فيها هذا الكذب والتشويه لمقام الصحابة، قال رحمه الله: كما تقرر الكف عن كثير مما وقع بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه؛ لتصفو القلوب وتتوافر على حب الصحابة والترضي عنهم.( ) وقد أفادنا الذهبي في كلامه فائدة كبيرة، وهو تصريحه بكون أكثر ما ينقل من ذلك في الكتب والدواوين كذبا وزورا وافتراء على مقام الصحابة رضي الله عنهم، إلا أن اقتراح الذهبي بحرق تلك المؤلفات لم يعد ممكنا؛ فقد انتشرت هذه الكتب، وتولت طباعتها كثير من دور النشر، وكثير من ذوي النيات السيئة فلم يبق إلا وضعها موضع الدراسة وبيان ما فيها من عوار وخطأ وكذب؛ حفظا لأجيال المسلمين من انحراف السلوك والعقيدة( ).
2- تظهر أهمية دراسة فتنة مقتل عثمان ? وما ترتب عليها من أحداث لمعرفة أسباب الفتنة الحقيقية، سواء كانت هذه الأسباب داخلية أو خارجية، ومعرفة نصيب كل سبب من الأسباب فيما حدث، وهل هناك أسباب يمكن إدراجها في هذا السبيل؟
إن الذي يقرأ طرفا مما كتب عن هذه الفتنة يحس أن مؤامرة كبرى جرى التخطيط لها، وتعاون المجوس والنصارى واليهود والمنافقون على تنفيذها؛ فقضية تآمر الأعداء ترافق الأمة الإسلامية في كل مراحل تاريخها الطويل( ).
إلا أن هذه المؤامرة ما كانت لتنجح لولا وجود عوامل ضعف داخلية أسهمت في التمكين لنجاح هذه المؤامرة. ألا يصح دراسة عهد الصحابة -والحالة هذه- واجبا من الواجبات في سبيل معرفة أسباب ضعف الأمة الإسلامية، وتحديد مكامن الداء التي أوتيت منها، والاستفادة من ذلك في إصلاح حاضر هذه الأمة وتجنبها هذه المزالق في مستقبل حياتها؟ أم كتب عليها أن تظل ترزأ تحت ثقل أدوائها من الداخل وكيد أعدائها
من الخارج( ).
إن ما وقع من أحداث جسام في فتنة مقتل عثمان ? وما ترتب عليها من أحداث تحتاج لدراسة عميقة ومتأنية لكي نستخرج من تلك الحقبة التاريخية دروسا وعبرا نستضيء بها في حاضرنا؛ لكي نسترشد بها في سعينا الجاد لإعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، حتى تسعد البشرية بدين الله وشرعه، وتخرج من شقاوتها وتعاستها وضنكها بسبب بعدها عن شرع الله تعالى.
ثانيًا: الحكمة من إخباره × بوقوعها:
لقد أخبر النبي × في كثير من أحاديثه بأن هذه الأمة ستختلف وستتقاتل، وتعددت الأحاديث التي تشير إلى ذلك بإجمال أو بتفصيل، وتنوعت أساليب الإخبار عن ذلك من ذكر لأسباب الفتن أو لنتائجها، أو لبعض أحداثها ووقائعها، أو لمن يثيرونها، وغير ذلك، وكان كثير من هذا البيان والتوضيح منه × جوابا لأسئلة الصحابة الكرام الذين كانوا يطرحونها عليه، وهم يشاهدون ويتذوقون النعمة العظيمة التي أفاءها الله عليهم، وهي نعمة الأخوة ووحدة الصف واجتماع الكلمة، فراحوا يسألون عما إذا كانت هذه النعمة ستدوم أم تزول، ولما كان رسول الله × يعلم بالوحي أنها لن تدوم كما هي أحب أن يربيهم على الاستعداد لهذه المحن والفتن حتى يحسنوا التصرف يوم يقدر الله لهذه الفتنة أن تقع، فيسعوا إلى علاجها في وقتها، ومن خلال النظر في جملة الأحاديث الواردة في ذكر الفتن نلمح الحكم التالية( ):
1- أن النبي × وهو يذكر هذه الفتن والوقائع يريد أن يربي الأمة على الاستعداد لها حتى تحسن التصرف يوم تقع هذه الفتن، فتسعى إلى علاجها في وقتها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالثلاثاء يناير 19, 2010 11:58 pm

2- إن في هذه الأحاديث إشارات إلى من يثيرونها، وأنها أحيانا تكون من قوم ظاهري الإيمان والتشدد، ولكن عقولهم منحرفة، وقلوبهم ملتوية، وهم في جملة حالهم غير مدركين ولا فاقهين( ).
3- إن هذه الفتنة تكشف المنافقين وتصقل قلوب المؤمنين فيزدادون إيمانا، ويتحفزون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو نوع من الابتلاء تصقل به النفوس وتتعود المجاهدة وتتعرف الخير فتأمر به والشر فتنهى عنه( ).
4- إن الإخبار عن هذه الفتن يحمل في مضمونه تحذيرا شديدا من الوقوع فيها, أو ملابسة شيء منها؛ ذلك أن المؤمنين من هذه الأمة -من الصحابة وغيرهم- حين يسمعون خبر النبي × بأن منهم من سيحدث منه القتل، ومنهم من سيتعلق بالدنيا، ومنهم من سيترك الجهاد، ومنهم، ومنهم.. تتحرك في نفوسهم مشاعر المواجهة لهذه الفتن، ويقول كل واحد منهم: لعلي أنجو، ويصبح الموقف منها الخوف على الدوام أن يقع في تلك المهالك على غفلة، والخوف في هذا الباب من أعظم سبل النجاة( ).
قال ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن أورد عدة أحاديث مرفوعة في وقوع هذا الخلاف والاختلاف في هذه الأمة: وهذا المعنى محفوظ عن النبي × من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعها في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو من شاء الله له السلامة( ).
5- إن الإخبار عن هذه الفتن أدق في تحديد سبل النجاة منها؛ فإن الإنسان مهما بالغت في تحذيره من خطر يهدده -دون أن تحدد له هذا الخطر أو تبين له كيفية الوقوع فيه- قد لا يتصور الطريقة التي سيحدث بها، ولا يستبين طبيعة المشكلة التي سيواجهها، وقد يقع في المحذور دون أن يعرف أنه المقصود بالتحذير( ).
6- إن الإخبار عن تلك الفتن اقترن في بعض الأحاديث بذكر أسبابها، أو بيان نتائجها، أو موقف المسلم منها، وهذا ينفع المسلم أو الأمة كلها في نبذ أسباب الفتن، أو الحكم على وقائع معينة من خلال النظر في نتائجها، أو اتخاذ الموقف السليم منها ابتداء.
7- ثم إن فيها دليلا واضحا على صدق رسالة محمد × ونبوته، يزداد به إيمان الصحابة الذين سمعوا الحديث ثم رأوا تأويله في مواقفهم بعد مدة، ويزداد به إيمان المؤمن -كل مؤمن- في كل عصر ومصر، وهو يعيش وقائع الفتن والاختلافات التي أخبر النبي × بوقوعها( ).
وقد جمع الدكتور عبد العزيز صغير دخان أحاديث الفتنة وقام بدراستها، وبيان صحيحها من ضعيفها في كتابه (أحداث وأحاديث الفتنة الأولى)، ثم استخرج من الأحاديث الصحيحة معاني دلت عليها تلك الأحاديث، منها:
1- أن الفتنة سنة الله -عز وجل- في الأمم، وفي هذه الأمة إلى قيام الساعة، وهي فتن كقطع الليل المظلم، عمياء صماء بكماء، من سعى فيها هلك في الدنيا والآخرة، ومن كف يده أفلح، لا يكاد يبصر فيها أحد موقفه إلا من أحياه الله بالعلم وزوده بالتقوى، وهداه إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه( ).
2- وفي هذه الأحاديث أن فتنة القتال بين المسلمين أمر واقع لا محالة، ولا سبيل لإنكاره واستغرابه بدءا بما وقع بين الصحابة والتابعين، ومرورا بالعصور الإسلامية إلى اليوم، ولكن الواجب هو معرفة أسباب هذا القتال لتلافيها، أو السعي في إطفاء نار الفتنة حينما تشب في ديار المسلمين، وألا ينبغي أن يقف المسلم منها موقف المتفرج.
3- ومن رحمة الله بهذه الأمة أن يكفر عنها ذنوبها في الدنيا، وليس القتل والفتن التي تنزل ساحتها والزلازل التي تصيبها إلا كفارة لهذه الذنوب.
4- وفي بعض هذه الأحاديث إشارة واضحة وصريحة إلى أن منبت معظم هذه الفتن من قبل المشرق، وكذلك كان الواقع؛ فإن الفتنة الأولى بدأ تحريكها في الكوفة والبصرة، وفتنة الجمل كانت هناك.
5- وفي الفتنة يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا يسير، وتتحكم فيها الشهوات والشبهات، ويصير أهل الإسلام الصحيح غرباء في سلوكهم وتصرفاتهم، ويصبح المتمسك بدينه أشبه ما يكون بالذي يقبض على الجمر أو على الشوك، صابرا محتسبا ما يصيبه من الألم والأذى في سبيل دينه وما يعتقد أنه حق.
6- وفي الفتنة يحفظ الله طائفة من الناس، فلا تلتبس بالفتنة، ولا تتلطخ أيديهم من دماء المسلمين، يسعون في إصلاح ذات البين، والدعوة إلى مبادئ الإسلام الصحيحة من رحمة وأخوة وسيكون موقفهم غريبا بدون شك وسط الجموع الهائجة والأهواء المستحكمة( ).
7- وفي الفتنة يلعب اللسان دورا أخطر من السيف، بل إن اللسان يكون غالبا منشأ الفتن والبلايا، فرب كلمة شر مسمومة انطلقت فأشعلت النار في القلوب، وهيجت ما كان مستكنا في النفوس، وشحذت العواطف، وكانت سببا في فتن ضارية( ).
8- وفي الفتنة ينقص العلم؛ إما بموت العلماء أو بسكوتهم واعتزالهم إيثارا للسلامة، أو لانصراف الناس عنهم لسبب من الأسباب، ويسود عندها الجهل، ويتخذ الناس رؤساء جهالا، فيفتوا بغير علم، فيُضِلوا ويَضِلوا، ويسود الرويبضة -وهو التافه من الناس- ويستعلي السفهاء منهم( ).
9- وفي هذه الأحاديث أن الله -عز وجل- ضمن لرسوله × ألا يهلك هذه الأمة بالسنين والمجاعات، وألا يسلط عليهم عدوا فيتمكن منها دائما، مهما كانت قوة هذه العدو وإمكانياته وجبروته، ولكن الأمر الذي لم يضمنه الله لرسوله × هو ألا تختلف هذه الأمة، وسيكون هذا هو الباب الذي يدخل منه العدو الخارجي؛ إذ أن الأمة إذا اختلفت فيما بينها وقتل بعضها بعضا، ضعفت عوامل القوة فيها، وتمكن منها عدوها فعبث بخيراتها ومقدراتها، ولن يرفع عنها حتى تعود إلى تحقيق القوة في نفسها بالوحدة، وجمع الكلمة، والاحتكام إلى شرع الله( ).
10- وفي الأحاديث أن وقوع الفتنة واستمرارها مظنة ظهور فرق المنحرفين عن هدى الإسلام، وتمكن أهل الباطل وظهورهم.
11- وفي الفتنة تتغير أخلاق الناس وتتبدل، ويزهد الناس في العمل الصالح، ومشاريع الخير، ويلقى بين الناس العداوة والبغضاء والحقد، ويختلط الأمر على الناس.
12- وفي الأحاديث أن هذه الفتن يسبقها أمن واستقرار وصلاح أحوال الناس المادية والأمنية، حتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضُلاَّل الطريق، ويظهر هذا في عهد عثمان ?؛ فقد كان عهد أمن واستقرار وتدفق الأموال والخيرات، ثم حدثت فتنة الهرج فقُوض ذلك كله، حتى تبدل الحال من الأمن إلى الخوف.
13- وفي الفتنة يقتل خيار الناس وذوو العقول والرأي فيهم، ويبقى رجرجة من الناس لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا.( ) هذه بعض المعاني من أحاديث الفتن.
* * *

المبحث الثاني
أسباب فتنة مقتل عثمان ?
قال الإمام الزهري: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة أميرا للمؤمنين، أول ست سنين منها لم ينقم الناس عليه شيئا، وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب؛ لأن عمر كان شديدا عليهم، أما عثمان فقد لان لهم ووصلهم. ثم حدثت الفتنة بعد ذلك، وقد سمى المؤرخون المسلمون الأحداث في النصف الثاني من ولاية عثمان 30-35هـ (الفتنة) التي أدت إلى استشهاد عثمان ?. ( ) كان المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان متفقين لا تنازع بينهم، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعا من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان( ).
وقد كان المجتمع الإسلامي في خلافة الصديق والفاروق والنصف الأول من خلافة عثمان يتصف بالسمات الآتية:
1- أنه - في عمومه- مجتمع مسلم بكامل معنى الإسلام، عميق الإيمان بالله واليوم الآخر، مطبق لتعاليم الإسلام بجدية واضحة، والتزام ظاهر، وبأقل قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في التاريخ؛ فالدين بالنسبة له هو الحياة، وليس شيئا هامشيا يفئ الناس إليه بين الحين والحين، إنما هو حياة الناس وروحهم، ليس فقط فيما يؤدونه من شعائر تعبدية يحرصون على أدائها على وجهها الصحيح، وإنما من أخلاقياتهم وتصوراتهم واهتماماتهم وقيمهم وروابطهم الاجتماعية، وعلاقات الأسرة وعلاقات الجوار، والبيع والشراء، والضرب في مناكب الأرض، والسعي وراء الأرزاق، وأمانة التعامل، وكفالة القادرين لغير القادرين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرقابة على أعمال الحكام والولاة، ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن كل أفراد المجتمع هم على هذا الوصف، فهذا لا يتحقق في الحياة الدنيا، ولا في أي مجتمع من البشر. وقد كان في مجتمع الرسول × -كما ورد في كتاب الله- منافقون يتظاهرون بالإسلام وهم في دخيلة أنفسهم من الأعداء، وكان فيه ضعاف الإيمان، والمعوقون، والمتثاقلون، والمبطِّئون، والخائنون، ولكن هؤلاء جميعا لم يكن لهم وزن في ذلك المجتمع، ولا قدرة على تحويل مجراه؛ لأن التيار الدافق هو تيار أولئك المؤمنين صادقي الإيمان، المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، الملتزمين بتعاليم هذا الدين( ).
2- أنه المجتمع الذي تحقق فيه أعلى مستوى من المعنى الحقيقي (للأمة)، فليست الأمة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللغة ووحدة الأرض، ووحدة المصالح، فتلك هي الروابط التي تربط البشر في الجاهلية، فإن تكونت منهم أمة فهي أمة جاهلية، أما الأمة بمعناها الرباني، فهي الأمة التي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النظر عن اللغة والجنس واللون، ومصالح الأرض القريبة، وهذه لم تتحقق في التاريخ وحده كما تحققت في الأمة الإسلامية، فالأمة الإسلامية هي أمة لا تقوم على عصبية الأرض ولا الجنس ولا اللون ولا المصالح الأرضية، إنما هو رباط العقيدة، يربط بين العربي والحبشي والرومي والفارسي، يربط بين أهل البلاد المفتوحة والأمة الفاتحة على أساس الأخوة الكاملة في الدين، ولئن كان معنى الأمة قد حققته هذه الأمة أطول فترة عرفتها الأرض، فقد كانت فترة صدر الإسلام أزهى فترة تحققت فيها معاني الإسلام كلها، بما فيها معنى الأمة على نحو غير مسبوق( ).
3- أنه مجتمع أخلاقي يقوم على قاعدة أخلاقية واضحة مستمدة من أوامر الدين وتوجيهاته، وهي قاعدة لا تشمل علاقات الجنسين وحدها، وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع؛ فهو خال من التبرج ومن فوضى الاختلاط، وخال من كل ما يخدش الحياء من فعل أو قول أو إشارة، وخال من الفاحشة إلا القليل الذي لا يخلو منه مجتمع على الإطلاق، ولكن القاعدة الأخلاقية أوسع بكثير من علاقات الجنسين؛ فهي تشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والتعبير، فالحكم قائم على أخلاقيات الإسلام، وعلاقات الناس في المجتمع قائمة على الصدق والأمانة والإخلاص والتعاون والحب، لا غمز ولا لمز ولا نميمة ولا قذف للأعراض( ).
4- أنه مجتمع جاد، مشغول بمعالي الأمور لا بسفاسفها، وليس الجد بالضرورة عبوسا وصرامة، ولكنه روح تبعث الهمة في الناس وتحث على النشاط والعمل والحركة، كما أن اهتماماته أعلى وأبعد من واقع الحس القريب، وليست فيه سمات المجتمع الفارغة المترهلة التي تتسكع في البيوت وفي الطرقات، تبحث عن وسيلة لقتل الوقت من شدة الفراغ( ).
5- أنه مجتمع مجند للعمل في كل اتجاه تلمس فيه روح الجندية واضحة، لا في القتال في سبيل الله فحسب -وإن كان القتال في سبيل الله قد شغل حيزا كبيرا في حياة هذا المجتمع- ولكن في جميع الاتجاهات؛ فالكل متأهب للعمل في اللحظة التي يطلب منه فيها العمل، ومن ثم لم يكن في حاجة إلى تعبئة عسكرية ولا مدنية، فهو معبأ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة وبتأثير شحنها الدافعة لبذل النشاط في كل اتجاه( ).
6- أنه مجتمع متعبد تلمس فيه روح العبادة واضحة في تصرفاته، ليس فقط في أداء الفرائض والتطوع بالنوافل ابتغاء مرضات الله، ولكن في أداء الأعمال جميعا؛ فالعمل في حسه عبادة، يؤديه بروح العبادة، الحاكم يسوس رعيته بروح العبادة، والمعلم الذي يعلم القرآن ويفقه الناس في الدين يُعَلِّم بروح العبادة، والتاجر الذي يراعى الله في بيعه وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة، والزوج يرعى بيته بروح العبادة، والزوجة ترعى بيتها بروح العبادة، تحقيقا لتوجيه رسول الله ×: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» ( ).
هذه من أهم سمات عصر الصديق وعهد الخلفاء الراشدين، إلا أن تلك السمات كانت أقوى كلما اقتربنا من عهد النبوة، وتضعف كلما ابتعدنا عن عصر النبوة. وهذه السمات جعلته مجتمعا مسلما في أعلى آفاقه، وهي التي جعلت هذه الفترة المثالية في تاريخ الإسلام، كما أنها هي التي ساعدت في نشر هذا الدين بالسرعة العجيبة التي انتشرت بها؛ فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح في التاريخ كله، بحيث شملت في أقل من خمسين عاما أرضا تمتد من المحيط غربا إلى الهند شرقا، وهي ظاهرة في ذاتها تستحق التسجيل والإبراز، وكذلك دخول الناس في الإسلام في البلاد المفتوحة بلا قهر ولا ضغط، وقد كانت تلك السمات التي اشتمل عليها المجتمع المسلم هي الرصيد الحقيقي لهذه الظاهرة؛ فقد
أحب الناس الإسلام لما رأوه مطبقا على هذه الصورة العجيبة الوضاءة، فأحبوا أن يكونوا من بين معتنقيه( ).
إن دراسة هذه الفترة من التاريخ ينبغي أن تترك انطباعا لا يمحى في نفس الدارس؛ انطباعا بأن الإسلام دين واقعي قابل للتطبيق في عالم الواقع بكل مثالياته، فهي ليست مثاليات معلقة في الفضاء لمجرد التأمل أو التمني، ولكنها مثاليات واقعية في متناول التطبيق إذا حاولها الناس بالجدية الواجبة وأعطوها حقها من الجهد، ثم انطباعًا بأن ما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى؛ لأن البشر هم البشر، وقد استطاع البشر دائما أن يحاولوا الصعود مرة أخرى وسيصعدون حين يعزمون, وسينالون على ذلك النصر والتمكين، قال تعالى: +وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55].
ومن الأمور التي تساعد المسلمين على العودة إلى الخلافة الراشدة معرفة العوامل والأسباب التي أدت إلى زوالها، لكي نعمل على اجتنابها والأخذ بالأسباب التي جعلها الله سببا في إكرام الأمة بها، ولذلك نريد أن نفصل في أسباب فتنة مقتل عثمان لأهميتها، وإليك أهم هذه الأسباب:
أولاً: الرخاء وأثره في المجتمع:
كان رسول الله × يرى ما يعانيه أصحابه من شظف العيش وفقر الحال، فكان يصبرهم، ثم يخبرهم أن هذا الحال الذي هم عليه لن يدوم طويلا، حتى تفتح عليهم خزائن الدنيا وخيراتها، وحذرهم من الاشتغال بذلك عن العمل الصالح والجهاد في سبيل الله، وما يمكن أن يجره ذلك عليهم من التقاتل على الدنيا ومتاعها الزائل.( ) وقد فقه عمر بن الخطاب هذا التحذير فكان من سياسته حماية المسلمين من غوائل فتنة المال وزخارف الدنيا، فاجتهد في منع المسلمين من التوسع في بلاد العجم، ولولا ظهور مصلحة أخرى راجحة في توسعهم لبقى المنع قائما، إلا أن هذا التراجع من عمر لم يشمل كبار الصحابة والمهاجرين والأنصار، الذين كانوا بالمدينة إذ بقى المنع في حقهم.( ) ولا شك أن الذي فعله عمر كان يدل على إحساسه وخوفه من انتشار المسلمين في أرض تزخر بألوان الخيرات والأرزاق فتستولي الدنيا على قلوبهم وتفسد عليهم آخرتهم.( ) فلما جاء عهد عثمان وتوسعت الفتوحات شرقا وغربا، وبدأت الأموال تتقاطر على بيت المال من الغنائم والأسلاب, وامتلأت أيدي الناس بالخيرات والأرزاق( )، وغني عن الإشارة أن النعم والخيرات وتلك الواردات من الفتوح سيكون لها أثرها على المجتمع؛ إذ تجلب الرخاء وما يترتب عليه من انشغال الناس بالدنيا والافتتان بها، كما أنها مادة للتنافس والبغضاء، خاصة بين أولئك الذين لم يصقل الإيمان نفوسهم، ولم تهذبهم التقوى من أعراب البادية وجفاتها، ومن مسلمة الفتوحات وأبناء الأمم المترفة الدخلاء في الإسلام الذين جروا شوطا بعيدا في زخارف الدنيا وبهجتها، واتخذوها غاية يتنافسون فيها. وقد أدرك عثمان هذه الظاهرة وأنذر بما سيؤول إليه أمر الأمة من التبدل والتغير في كتابه الموجه إلى الرعية: «فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاثة فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم للقرآن».( )
أما تكامل النعم فيتحدث الحسن البصري -وهو شاهد عيان- عن حالة المجتمع، ووفور الخيرات وإدرار الأموال، وما آل إليه أمر الناس من البطر وعدم الشكر، فيقول: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قلما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا, يقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا على أعطياتكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على السمن والعسل. الأعطيات جارية، والأرزاق دارَّة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير... والأخرى كان السيف مغمدا على أهل الإسلام فسلوه على أنفسهم، فوالله ما زال مسلولا إلى يوم الناس هذا، وأيم الله، إني لأراه سيفا مسلولا إلى يوم القيامة( ).
وأما بلوغ أولاد المسلمين من السبايا فيتمثل فيما آل إليه أمر هؤلاء من الدعة والترف، وكان أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا وانتهى وسع الناس لطيران الحمام والرمي على الجلاهقات( )، فاستعمل عليها عثمان رجلا من بني ليث سنة ثمان( ) فقضَّضها وكسر الجلاهقات.( ) وحدث بين الناس النشو بتناولهم النبيذ، فأرسل عثمان رجلا يطوف عليهم بالعصا ليمنعهم من ذلك، وعندما اشتد ذلك شكاهم عثمان إلى الناس، فأجمعوا على أن يجلدوا في النبيذ، فأخذ نفر منهم فجلدوا، ثم جعل عثمان لا يأخذ أحدا على شر أو شهر سلاحا إلا نفاه من المدينة، فضج آباؤهم من ذلك.( ) وقام عثمان في المدينة فقال: «إن الناس تبلغني عنهم هنات وهنات، وإني لا أكون أول من فتح بابها ولا أدار راحتها (أي الفتنة)، ألا وإني زام نفسي بزمام, وملجمها بلجام، فأقودها بزمامها وأكبعها( ) بلجامها، ومنا ولكم طرف الحبل، فمن اتبعني حملته على الأمر الذي يعرف، ومن لم يتبعني فمن خلف منه وعزاء منه، ألا وإن لكل نفس يوم القيامة سائقا وشهيدا؛ سائق يسوقها على أمر الله وشاهد يشهد عليها بعملها، فمن كان يريد الله بشيء فليبشر ومن كان يريد الدنيا فقد خسر».( ) وهكذا لما قام عثمان الرجل التقي والخليفة الراشد بواجبه، وكانت إجراءاته تعزيرية تجاه أبناء الأغنياء الذين بدأوا نوعا من حياة الترف وفساد الأخلاق، انضم أولئك المنحرفون إلى صف الناقمين من الرعاع.
وبالنسبة لقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، فيظهر في شكل واضح في تكوين طبقة في المجتمع المسلم تتعلم القرآن لا رغبة في الثواب، وإنما رغبة في الجعل الذي جعله الخليفة تشجيعا وتأليفا.( ) ويجب أن نلاحظ أن هذا التغير بدأ أثره يظهر أولا على أطراف الدولة الإسلامية، ثم أخذ يزحف إلى عاصمة الخلافة، مما دفع عثمان إلى تذكير المسلمين في خطبه بضرورة الحذر من التهالك على الدنيا وحطامها، فكان مما قاله في إحدى خطبه:
إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى وإن الآخرة تبقى، ولا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية.. واحذروا من الله الغِيَر، والزموا جماعتكم، ولا تصيروا أحزابا( ), ثم قرأ: +وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [آل عمران: 103، 104].
وفي مثل هذه الظروف، والخيرات وافرة، فاضت الدنيا على المسلمين وتفرغ الناس بعد أن فتحوا الأقاليم واطمأنوا فأخذوا ينقمون على خليفتهم( ).
ومن هنا يعلم أثر الرخاء في تحريك الفتنة، ومن هنا أيضا يمكن فهم مقالة عثمان ? لعبد الرحمن بن ربيعة -له صحبة- وهو على الباب( ): إن الرعية قد أبطر كثيرا منهم البطنة فقصر بهم، ولا تقتحم بالمسلمين فإني خاشٍ أن يبتلوا.( )
وفي آخر خطبة لعثمان ? وهو يعظ المسلمين بعد أن فتحت الدنيا عليهم قال:
ألا لا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية.. واحذروا أحداث الدهر المغير، والزموا جماعتكم، ولا تتفرقوا شيعا وأحزابا( ).
ثانيًا: طبيعة التحول الاجتماعي في عهد عثمان ?:
حدثت تغيرات اجتماعية عميقة، ظلت تعمل في صمت وقوة لا يلحظها كثير من الناس، حتى ظهرت على ذلك الشكل العنيف المتفجر بدءا من النصف الثاني من خلافة عثمان، وبلغت قمة فورانها في التمرد الذي أدى إلى استشهاد عثمان ?( ).
لما توسعت الدولة الإسلامية عبر حركة الفتوح حصل تغير في تركيبة المجتمع واختلالات في نسيجه؛ لأن هذه الدولة بتوسعها المكاني والبشري ورثت ما على هذه الرقعة الواسعة من أجناس، وألوان، ولغات، وثقافات، وعادات، ونظم، وأفكار، ومعتقدات، وفنون أدبية وعمرانية، ومظاهر، وظهرت على سطح هذا النسيج ألوان مضطربة وخروقات غير منتظمة، ورقع غير منسجمة، مما صيرت المجتمع غير متجانس في نسيجه التركيبي وبالذات في الأمصار الكبرى، بمواقعها وأهميتها، تدفع بجيوش الفتوح وتستقبلها وهي عائدة، وقد نقص عددها بالموت والقتل، وتستقبل بدلا عنهم أو أكثر منهم أعدادا وفيرة من أبناء المناطق المفتوحة، فرس، وترك، وروم، وقبط، وكرد، وبربر، وكان أكثرهم من الفرس أو من النصارى العرب أو غيرهم أو من اليهود.( ) وأكثر سكان هذه الأمصار الكبيرة هم ممن شاركوا في حركة الفتح الإسلامي ثم استقروا في هذه الأمصار، وكان أغلب هؤلاء من القبائل العربية من جنوبها وشمالها وشرقها، والذين لم يكونوا - عادة - من الصحابة، وبمعنى أدق ليسوا ممن تلقوا التربية الكافية على يد رسول الله ×, أو على أيدي الجيل الأول من الصحابة؛ إما لانشغالهم بالفتوح أو لقلة الصحابة. وقد حصلت تغيرات في نسيج المجتمع البشري المكون من جيل السابقين وسكان البلاد المفتوحة، والأعراب ومن سبقت لهم ردة، واليهود والنصارى، وفي تكوين نسيج المجتمع الثقافي، وفي بسطة عيش المجتمع، وفي ظهور لون جديد من الانحرافات، وفي قبول الشائعات( ).
1- المتغيرات في نسيج المجتمع البشري:
أ- لقد تكون هذا النسيج من قطاعات عدة:
قطاع الأسبقين ممن بقى من الصحابة ومن الذين نالوا قسطا من رعاية الصحابة، ولكن هذا القطاع وذاك ظل يتناقص إما عن طريق الموت والقتل في ميادين الفتوح، وإما عن طريق تفرقهم في الأمصار، مما جعلهم أقل حضورا، وكانوا موزعين في البلدان المفتوحة والأمصار الكبيرة المستحدثة كالبصرة, والكوفة، والشام، ومصر، وبعضهم في الجزيرة العربية يخرجون منها ثم يعودون إليها مرة أخرى( ).
ب- سكان المناطق المفتوحة: وكانوا يشكلون الأكثرية بالنسبة للقادمين إليهم مع حركة الفتوح؛ فقد ظل القادمون قلة وإن كان لهم حضور فعلي في إدارة البلد أو التأثير السلوكي والأخلاقي والفكري واللغوي، إلا أنهم رغم ذلك يعتبرون قلة، وظل هذا القطاع -قطاع سكان المناطق المفتوحة- مقتصرا في استقراره غالبا على مناطقهم، ومع هذا فقد تنقل بعضهم في المناطق الأخرى من بلدان الدولة الإسلامية؛ بل استقر بعضهم في الأمصار الكبيرة وفي عاصمة الدولة أيضا، إما على شكل ما عرف بالسبي، أي يستقرون تابعين لمواليهم، وإما على شكل تنقل تجاري ومعارفي وإداري؛ حيث لا يوجد قانون يمنعهم من ذلك، إن لم يكونوا يلقون التشجيع والدعم.( ) وقد كان الأعاجم الذين جاءوا من البلاد المفتوحة من أسرع الناس إلى الفتنة، ذلكم لأن أغلب الأعاجم من الأمم الموتورة، والشعوب المقهورة، فتكثر مسارعتهم للفتن لأسباب كثيرة، منها:
* جهلهم وحداثة عهد أكثرهم بالكفر، والملك والعز الذي كانوا عليه، ثم سُلبوه.
* قلة فقههم في الدين، بسبب العجمة وغيرها.
* العصبية وكراهية العرب.
* أن طوائف منهم دخلت الإسلام ظاهرا وخوفا من السيف أو الجزية، وأضمروا للإسلام والمسلمين الشر والكيد، فيسارعون إلى كل فتنة.
* طمع أهل الأهواء فيهم للأسباب المذكورة وتحريضهم لهم( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالأربعاء يناير 20, 2010 12:00 am

ج- أولئك الأعراب عُرفوا بأنهم من سكان البادية:
وهم مثل بقية الناس منهم المسلم التقي ومنهم الكافر والمنافق، إلا أنهم كما قال الله عنهم: +الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [التوبة: 97]؛ وذلك لأنهم أقسى قلوبا وأغلظ طبعا وأجفى قولا، ولصفاتهم هذه فهم جديرون وأخلق بهم أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من الشرائع والأحكام والجهاد( )؛ فهم من أسرع الناس في الفتن ولمسارعتهم فيها أسباب، منها:
* قلة فقههم في الدين.
* سرعة اغترار الواحد منهم بما يتعلمه من القرآن، فيظن أنه صار عالما بقليل من العلم.
* جفاؤهم للعلماء، وترك التلقي عنهم والاقتداء بهم.
* تمكن العصبية القبلية من نفوسهم.
* تغرير أهل المطامع بهم، واستغلال سذاجتهم وجهلهم.
* حدة طباعهم ونفورهم من المدنية والخلطة، وإساءة الظن بالآخرين ممن لا يعرفونهم، وهذا من طباع الأعراب في كل زمان ومكان.
* تشددهم في الدين، وتنطعهم بلا علم، لذلك صار غالب الخوارج من هذا الصنف( ).
وخرج من هؤلاء الأعراب رجال عرفوا (بالقراء) وقد اختلف مفهوم (القراء) هذا عن منطوقه, فالمنطوق يقصد به جماعة ممن تخصصوا بقراءة القرآن، إلا أن المفهوم ومن خلال الواقع أنتج دلالات أخرى، فمنهم من كان على طريقة الخوارج، يفهمون القرآن بطريقتهم الخاصة، ومنهم من كان زاهدا لا يفقه حقيقة ما يقرأ ولم يستطع التأقلم مع واقع المجتمع.( ) وهؤلاء القراء الجهلة يسارعون للفتن وذلك لأسباب، منها:
* الشدة في نزعة التدين عندهم مع قلة الفقه في الدين، مما يورث غيرة على الدين بغير علم ولا بصيرة، فتجرفهم الأهواء والعواطف باسم الغيرة على الدين, دون نظر في العواقب ولا فقه لقواعد الشرع كدرء المفاسد، وجلب المصالح.
* الاغترار بما يحصله الواحد منهم من الآيات والأحاديث دون فقه ولا بصيرة، فيتوهم أنه صار من أهل العلم الذين يُحلِّون ويعقدون في مصالح المسلمين.
* تعاليهم على العلماء والأئمة، وظنهم أنهم وصلوا درجة الاستغناء عنهم وعن فقههم وعلمهم، تحت شعار (هم رجال ونحن رجال).
* اتخاذهم رؤساء جهالا من بينهم دون العلماء والأئمة. لأن أهل الأهواء ورؤوس البدع والفتن -وغالبهم من الدهاة- يفزعون إلى القراء فيغوونهم، ويستدرجونهم، ويستغلون نزعة التدين فيهم، ويستثيرون غيرتهم بلا بصيرة.
* جهلهم بقواعد الاستدلال وأحكام الفتن( ).
د- وفصيل أو قطاع آخر في نسيج المجتمع الإسلامي وهو ممن سبقت لهم ردة: وكانت حياتهم في الإسلام قصيرة وانتماؤهم إليه ضرورة، ولا ننفي أن منهم من زكى وصلح وكان من الفضلاء إلا أن منهم من لم يتذوق حلاوة الإسلام، فظل -رغم انتسابه للإسلام- يعيش بعقليته السابقة ونفسيته التي عاشها قبل الإسلام، العقلية القبلية، تناوشه العصبيات، وكأن الإسلام لم يدخل فيهم, أو أنهم ظنوا عدم التناقض بين ما يعرفونه من إسلام وما يتعاملون به في الواقع من دوافع قبلية( ).
لقد شكلت طوائف من المرتدين عنصرا أسهم في تهيئة أجواء الفتنة، والمرتدون كانوا على عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولكن الشيء الجديد هو اختلاف سياسة عثمان ? عن الخليفتين قبله تجاههم؛ فأبو بكر ? يكتب إلى عماله: ألا يستعينوا بمرتد في جهاد العدو، ويؤكد على خالد بن الوليد، وعياض بن غنم ألا يغزو معهما أحد قد ارتد حتى يرى رأيه فيهم، فلم تشهد أيامه( ) مرتدا. ويقول الشعبي: كان أبو بكر لا يستعين في حروبه بأحد من أهل الردة حتى مات.( ) ولذلك كان بعض من ارتد وحسن إسلامه بعد ذلك يستحيون من مواجهة أبي بكر، فطليحة بن خويلد مثلا يذهب إلى مكة معتمرا وما استطاع مقابلة أبي بكر حتى مات.( ) وفي خلافة عمر ? تخف هذه السياسة تجاه المرتدين، فيندب أهل الردة ليرمي بهم الشام والعراق( )، وقد كان في مسيرة جيش سعد بن أبي وقاص في القادسية قيس بن مكشوح المرادي، وعمرو بن معد يكرب كان يحمس الناس ويحرك مشاعرهم، وهذا كله كان بعد أن أذن عمر لأهل الردة في الغزو.( ) ولكن هذا التجاوز عن سياسة أبي بكر عند عمر يصحبه نوع من الحذر والحيطة، ولا ينفك عن الضوابط والشروط المقيدة؛ فأهل الردة لا يولون على مائة، ولهذا اضطر سعد أن يبعث قيس بن المكشوح في سبعين رجلا فقط في أثر الأعاجم، ثاروا بهم في ليلة الهرير.( ) ويأتي عثمان ? فيتجاوز سياسة التقييد التي فرضها الخليفتان قبله تجاه المرتدين، ويرى أن عامل الزمن الذي مضى على عهد الردة كاف لأن يتخلص من كان قد ارتد من رواسبها، ويجتهد عثمان فيستعمل أهل الردة استصلاحا لهم، فلم يصلحهم ذلك، بل زادهم فسادا وجعل قائلهم يتمثل
قول القائل:
وكنت وعمرا كالْمُسَمِّن كلبه
فخدشه أنيابه وأظافره( )

وكانت من نتائج استعمال عثمان لأهل الردة في الكوفة أن تبدل أهلها وأصيب قائدهم عبد الرحمن بن ربيعة في غزوة للترك، وهو الذي كان يقاتلهم في عهد عمر فيَفْرَقُون منه، ويقولون: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعه ملائكة تمنعه من الموت.( ) وتظهر الآثار بشكل واضح في الفتنة التي انتهت بقتل عثمان، وذلك حينما نجد في أسماء المتهمين في دم عثمان رجالا ينتسبون إلى قبائل كانت في عداد المرتدين، أمثال: سودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وحكيم بن جبلة العبدي( ).
هـ- اليهود والنصارى:
وكان بعضهم -وهو كثير- قد خرج أو أخرج من جزيرة العرب فاستقروا في الأمصار الكبيرة، ومنها الكوفة والبصرة، وكان اليهود خاصة -حسب طبعهم- ظلوا في تلك الأمصار المطلة على ميادين الفتوح يمارسون مهنتهم المشهورة المزدوجة, السيطرة المالية بوسائلهم المختلفة، والتآمر على قطع اليد التي تمد لهم المساعدة.( ) وسيأتي الحديث عن دور اليهود بإذن الله تعالى.
2- تكوينات نسيج المجتمع الثقافي:
فإلى جوار هذا الخليط البشري كان هناك خليط آخر لا يقل خطره - إن لم يفق الخليط البشري- ألا وهو الخليط الثقافي؛ حيث تدفقت الثقافات والأفكار والنظم والعقائد مع تلك الأعداد البشرية التي انضمت إلى محتويات المجتمع الإسلامي، فصارت تشكل حملا ضخما على عاتقه، ومما زاد الطين بلة أنه بالرغم من اندماج المسلمين في نسيج البلدان المفتوحة؛ حيث عاشوا في أوساطهم وتزوجوا منهم، وتعلموا لغاتهم، ولبسوا ملابسهم، ومارسوا عاداتهم، إلا أنه بالرغم من ذلك فقد كان تأثيرهم في أهل البلد المفتوح محدودا في هذه الفترة المبكرة.( ) فلم ينل أهالي هذه البلاد المفتوحة حظا وافرا من التربية، ولم تتشبع بروح الإسلام كما هو حال الصحابة من المهاجرين والأنصار، وكذلك القبائل العربية التي اختلطت بأهالي البلاد المفتوحة. وإذا كان الإسلام قد تمكن من صهر هذه القبائل المختلفة في بوتقة لفترة معينة، إلا أنه مما يجب أن يوضع في الحسبان أن عملية التعليم والتربية التي كانت تقودها القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار لم تكن قادرة على استيعاب هذه الأفواج الكبيرة واحتوائها؛ فالموالي لم يتخلصوا من كل الأفكار والعادات التي كانوا عليها في جاهليتهم، ويرجع ذلك إلى عدم التوازن بين حركة التوسع الأفقي في فتح البلدان وبين التوسع الرأسي في تعليم الناس وتفقيههم في كتاب الله وسنة رسوله ×، على أن حركة الجهاد لا بد أن يصحبها ويتبعها الدعاة والمعلمون ليفقهوا الناس في دينهم؛ حتى لا يختل ميزان التربية، وتحدث الخلخلة في الصف الإسلامي، وتتوسع الفجوة بين الفاتحين وسكان الأراضي المفتوحة، مما يتسبب في حدوث ظواهر سلبية تؤثر في تماسك الصف الإسلامي ووحدته السياسية والفكرية.( ) ولم يكن يمكن تفادي هذا الجانب السلبي رغم وجود البذل والحماس في ميدان التعليم والتربية الإسلامية؛ حيث كان التوسع في الأرض سريعا وواسعا، فقد فتحت العراق وما وراءها وبلاد الشام في سنوات قليلة معدودة، فلم يكن في مقدرة الطاقة البشرية في ميدان التربية والتعليم استيعاب الأعداد الهائلة من سكان تلك المناطق وتعليمها.( ) ومن أسباب ذلك: أن الصحابة الذين كان من المفروض أن يقوموا بهذه الأمانة قد قتل معظمهم في ميادين الجهاد، ولم يبق إلا أفراد قليلون متفرقون تجمع حولهم المسلمون الذين يحبون أن يتعلموا، فظهرت طبقة التابعين، ولأن معظمهم مخلصون فقد كانوا في مقدمة ميادين الجهاد، فقُتل أيضا منهم من قُتل( ), كما لم يكن الزمن كافيا لترسيخ التعاليم الإسلامية في نفوس كثير منهم، مما ساعد مع غيره من العوامل على وجود خلخلة فكرية وظواهر سلبية دخيلة على النهج الإسلامي, مما كان له الأثر في عدم استقرار الدولة، وظهر ذلك جليا في السنوات الأخيرة من عهد عثمان ?( ).
3- ظهور جيل جديد:
فقد حدث في المجتمع تغير أكبر؛ ذلك أن جيلا جديدا من الناس ظهر، وأخذ يحتل مكانة في المجتمع، وهو غير جيل الصحابة، جيل يعيش في عصر غير العصر الذي كانوا يعيشون فيه، ويتصف بما لا يتصفون به؛ فهو جيل( ) يعتبر في مجموعه أقل من الجيل الأول الذي حمل على كتفيه عبء بناء الدولة وإقامتها، فقد تميز الجيل الأول من المسلمين بقوة الإيمان والفهم السليم لجوهر العقيدة الإسلامية والاستعداد التام لإخضاع النفس لنظام الإسلام المتمثل في القرآن والسنة، وكانت هذه الميزات أقل ظهورا في الجيل الجديد الذي وُجِد نتيجة للفتوحات الواسعة، وظهرت فيه المطامع الفردية، وبعثت فيه العصبية للأجناس والأقوام, وبعضهم يحملون رواسب كثيرة من رواسب الجاهلية التي كانوا عليها، ولم ينالوا من التربية الإسلامية على العقيدة الصحيحة السليمة مثل ما نال الرعيل الأول من الصحابة -رضوان الله عليهم- على يد رسول الله ×؛ وذلك لكثرتهم وانشغال الفاتحين بالحروب والفتوحات الجديدة.( ) فالصحابة كانوا أقل فتنا من سائر من بعدهم، فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف( ).
كان الجيل الجديد لا يرضى بالواقع الذي كان يتسم به جيل الذين سبقوه، فقد اعتاد على غير ما اعتادوا عليه، فتكونت عقلية جديدة ومفهوم جديد للحياة، وهو مفهوم قد ابتعد عن العقلية التي كانت سائدة في عصر الراشدين الأولين، فأصبح لا يفهم تلك العقلية ولا يستطيع تشربها، ولا يسعه أن يذعن لحكمها( )، ولذلك انضم المنحرفون من الجيل الجديد لدعاة الفتنة.
4- استعداد المجتمع لقبول الشائعات:
وهكذا ندرك من خلال هذا الخليط غير المتجانس في نسيج المجتمع أنه صار مهيأ للهزات، مستعدا للاضطراب، قابلا لتلقي الإذاعات والأقاويل والشائعات( )، وهذا ما يعبر عنه بوضوح ابن تيمية قائلا: ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أُمِر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال رسول الله ×: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر..»، أقرب عهدا بالرسالة وأعظم إيمانا وصلاحا، وأئمتهم أقوم بالواجب، وأثبت في الطمأنينة لم تقع فتنة؛ إذ كانوا في حكم القسط (أي النفوس المطمئنة)، ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة عليٍّ كثر القسم الثالث (أهل النفس اللوامة التي تخلط عملا صالحا وآخر سيئا)، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا، ثم كثر هذا القسم (الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا) بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين، وكل منهم متأول وأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه مع الحق والعدل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه نوع من الظن، وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى.( ) ويوضح هذا الواقع بدقة أكثر ذلك الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأحد أتباعه، قال الرجل: ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ قال علي: لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليوم وال على مثلك.( ) وكان أمير المؤمنين عثمان بن عفان مدركا لما يدور في وسط المجتمع؛ حيث قال في رسالته إلى الأمراء: أما بعد، فإن الرعية قد طعنت في الانتشار، ونزعت إلى الشَّره، وأعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء مُسْرعة، وضغائن محمولة، يوشك أن تنفر فتغير( ).
ثالثـًا: مجيء عثمان بعد عمر رضي الله عنهما:
كان مجيء عثمان ? مباشرة بعد عمر بن الخطاب ? واختلاف الطبع بينهما مؤديا إلى تغير أسلوبهما في معاملة الرعية، فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه, ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعا وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به عمر حتى يقول عثمان نفسه: يرحم الله عمر، ومن يطيق ما كان عمر يطيق.( ) لكن الناس وإن رغبوا في الشوط الأول من خلافته لأنه لان معهم وكان عمر شديدا عليهم، حتى أصبحت محبته مضرب المثل، فقد أنكروا عليه بعد ذلك، ويرجع هذا إلى نشأة عثمان في لطفه ولين عريكته ورقة طبعه ودماثة خلقه، مما كان له بعض الأثر في مظاهر الفرق عند الأحداث بين عهده وعهد سلفه عمر بن الخطاب، وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوام سجنهم: أتدرون ما جرأكم عليَّ؟ ما جرأكم علي إلا حلمي.( ) وحين بدت نوايا الخارجين وقد ألزمهم عثمان الحجة في رده على المآخذ التي أخذوها عليه أمام الملأ من الصحابة والناس، أبى المسلمون إلا قتلهم، وأبى عثمان إلا تركهم لحلمه ووداعته قائلا: بل نعفو ونقبل، ولنبصرهم بجهدها، ولا نحادّ أحدا حتى يركب حدا أو يبدي كفرا.( )
رابعًا: خروج كبار الصحابة من المدينة:
كان عمر ? قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن وأجل، فشكوه فبلغه، فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سَنَّ البعير، يبدأ فيكون جذعا، ثم ثَنِيًّا، ثم رباعيا، ثم سداسيا، ثم بازلا( )، إلا فهل ينتظر البازل إلا النقصان، ألا فإن الإسلام قد بزل، ألا وإن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا، إني قائم دون شعب الحرة، آخذ بحلاقيم( ) قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار.( ) لقد كان عمر يخاف على هؤلاء الصحابة من انتشارهم في البلاد المفتوحة وتوسعهم في القطاع والضياع، فكان يأتيه الرجل من المهاجرين وهو ممن حبس في المدينة فيستأذنه في الخروج فيجيبه عمر: لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك.( ) وأما عثمان فقد سمح لهم بالخروج ولان معهم. يقول الشعبي: فلما ولي عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس، فكان أحب إليهم من عمر( )، فكان من نتائج هذا التوسع أن اتخذ رجال من قريش أموالا في الأمصار، وانقطع إليهم الناس.( ) وفي رواية: فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم عمر فانساحوا في البلاد، فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع إليهم من لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام، فكان مغموما (مغمورا) في الناس، وصاروا أوزاعا إليهم وأملوهم، وتقدموا في ذلك فقالوا: يملكون فنكون قد عرفناهم، وتقدمنا في
التقريب والانقطاع إليهم، فكان ذلك أول وهن دخل في الإسلام، وأول فتنة كانت في العامة ليس إلا ذلك( ).
خامسًا: العصبية الجاهلية:
يقول ابن خلدون: لما استكمل الفتح واستكمل للملة الملك، ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحبة الرسول × والاقتداء بهديه وآدابه المهاجرين والأنصار وقريش وأهل الحجاز، ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم، وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وقضاعة وغيرهم، فلم يكونوا في تلك الصحبة بمكان إلا قليل منهم، وكانت لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة ومعرفة حقهم، وما كانوا فيه من الذهول والدهش لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحصر ذلك العباب، وتنوسى الحال بعض الشيء، وذل العدو واستفحل الملك، كانت عروق الجاهلية تنبض، ووجدوا الرياسة عليهم من المهاجرين والأنصار وقريش وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق ذلك أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطوات، والاستبطاء عليهم الطاعات، والتجني بسؤال الاستبداد منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان، وفشت المقالة في ذلك في أتباعهم، وتناولوا بالظلم في جهاتهم، وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة، فارتابوا وأفاضوا في عزل عثمان وحمله على عزل أمرائه، وبعث إلى الأمصار من يأتيه بالخبر.. فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامهم( ).
سادسًا: توقف الفتوحات:
حين توقفت الفتوح في أواخر عهد عثمان أمام حواجز طبيعية أو بشرية لم تتجاوزها سواء في جهات فارس وشمالي بلاد الشام أم في جهة أفريقية، توقفت الغنائم على أثرها، فتساءل الأعراب: أين ذهبت الغنائم القديمة؟ أين ذهبت الأراضي المفتوحة التي يعدونها حقا من حقوقهم؟( ) وانتشرت الشائعات الباطلة التي اتهمت عثمان ? بأنه تصرف في الأراضي الموقوفة على المسلمين وفق هواه، وأنه أقطع منها لمن شاء من الناس، وقد كان لها أثر ووقع على الأعراب؛ خاصة أن معظمهم بقى بدون عمل يقضون شطرا من وقتهم في الطعام والنوم، والشطر الآخر بالخوض في سياسة الدولة والحديث عن تصرفات عثمان التي كانت تهوِّلها السبئية. وقد أدرك أحد عمال عثمان هذا الأمر -وهو عبد الله بن عامر- فأشار على الخليفة حيث طلب من عماله -وهم وزراؤه ونصحاؤه- أن يجتهدوا في آرائهم ويشيروا عليه، فأشار عليه أن يأمر الناس بالجهاد ويجمهرهم في المغازي حتى لا يتعدى همُّ أحدهم قمل فروة رأسه ودبرة دابته.( )
وفي ذلك الجو من الحديث والفكر عند أفراد تعودوا الغزو ولم يفقهوا من الدين شيئا كثيرا يمكن أن يتوقع كل سوء، ويكفي أن يُحرك هؤلاء الأعراب وأن يُوجهوا توجيها، فإذا هم يثورون ويحدثون القلاقل والفتن، وهذا ما حدث بالفعل؛ فإن الأعراب بسبب توقف الفتوحات ساهموا في بوادر الفتنة الأولى، وكانوا سببا من أسباب اندلاعها.( )
سابعًا: المفهوم الخاطئ للورع:
الورع في الشريعة طيب؛ وهو أن يترك ما لا بأس به مخافة مما فيه بأس. وهو في الأصل: ترفع عن المباحات في الله ولله. والورع شيء شخصي يصح للإنسان أن يطالب به نفسه، ولكن لا يصح أن يطالب به الآخرين. ومن أخطر أنواع الورع: الورع الجاهل الذي يجعل المباح حراما أو مفروضًا، وهذا الذي وقع فيه أصحاب الفتنة( )؛ فقد استغل أعداء الإسلام يومها مشاعرهم هذه ونفخوا فيها، فرأوا فيما فعله عثمان من المباحات أو المصالح خروجا على الإسلام وتغييرا لسنة من سبقه، وعظمت هذه المسائل في أعين الجهلة فاستباحوا أو أعانوا من استباح دم الخليفة الراشد عثمان بن عفان ?، وفتحوا على المسلمين باب الفتنة إلى اليوم. وهذا الورع الجاهل نلاحظه اليوم في تصرفات بعض المسلمين الذين يصرون على تكييف أحكام الإسلام وفق ما يشتهون أو يكرهون، أو وفق عاداتهم وتقاليدهم( ).
ثامنًا: طموح الطامحين:
وجد في الجيل الثاني من أبناء الصحابة -رضي الله عنهم- من يعتبر نفسه جديرا بالحكم والإدارة، ووجد أمثال هؤلاء أن الطريق أمامهم مغلق، وفي العادة أنه متى
وجد الطامحون الذين لا يجدون لطموحهم متنفسا فإنهم يدخلون في كل عملية تغيير، ومعالجة أمر هؤلاء في غاية الأهمية( ).
تاسعًا: تآمر الحاقدين:
لقد دخل في الإسلام منافقون موتورون اجتمع لهم من الحقد والذكاء والدهاء ما استطاعوا أن يدركوا نقاط الضعف التي يستطعيون من خلالها أن يوجدوا الفتنة, ووجدوا من يستمع إليهم بآذان مصغية، فكان من آثار ذلك ما كان( )؛ فقد عرفنا سابقا وجود يهود ونصارى وفرس، وهؤلاء جميعا معروف باعث غيظهم وحقدهم على الإسلام والدولة الإسلامية، ولكننا هنا نضيف من وقع عليه حد أو تعزير لأمر ارتكبه في وسط الدولة، عاقبه الخليفة أو ولاته في بعض الأمصار وبالذات البصرة والكوفة ومصر والمدينة، فاستغل أولئك الحاقدون من يهود ونصارى وفرس وأصحاب الجرائم مجموعات من الناس كان معظمهم من الأعراب، ممن لا يفقهون هذا الدين على حقيقته, فتكونت لهؤلاء جميعا طائفة وصفت من جميع من قابلهم بأنهم أصحاب شر، فقد وصفوا: بالغوغاء من أهل الأمصار، ونُزَّاع القبائل، وأهل المياه وعبيد المدينة( )، وبأنهم ذؤبان العرب( )، وأنهم حثالة الناس ومتفقون على الشر( )، وسفهاء عديمو الفقه( ), وأراذل من أوباش القبائل( )، فهم أهل جفاء وهمج، ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل( )، وأنهم آلة الشيطان.( ) وقد تردد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصنعاني اليهودي ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان من اليهود ثم أسلم، ولم ينقب أحد عن نواياه فتنقل بين البلدان الإسلامية باعتباره أحد أفراد المسلمين( )، وسيأتي الحديث عنه في مبحث مستقل بإذن الله.
عاشرًا: التدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان ?:
كان المجتمع مهيأ لقبول الأقاويل والشائعات نتيجة عوامل وأسباب متداخلة، وكانت الأرض مهيأة، ونسيج المجتمع قابلا لتلقي الخروقات، وأصحاب الفتنة أجمعوا على الطعن في الأمراء بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى استمالوا الناس إلى صفوفهم، ووصل الطعن إلى عثمان بن عفان ? نفسه باعتباره قائد الدولة. وإذا ما حصرنا الدعاوي التي روجت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالأربعاء يناير 20, 2010 12:02 am

ضد الخليفة وطعنوه بها فيمكننا تصنيفها إلى مجموعات خمس:
1- مواقف شخصية له قبل توليه الخلافة (تغيبه عن بعض الغزوات والمواقع).
2- سياسته المالية: الأعطيات، الحمى.
3- سياسته الإدارية النافذة: تولية أقربائه، طريقته في التولية.
4- اجتهادات خاصة به أو بمصلحة الأمة (إتمام الصلاة بمنى، جمع القرآن، الزيادة في المسجد).
5- معاملته لبعض الصحابة: عمار، أبي ذر، ابن مسعود( ).
وقد بينت موقف عثمان في كل ما وجه إليه في موضعه، ولم يبق إلا عمار ?, وسيأتي الحديث عنه بإذن الله. وقد حدثت زيادات في إبراز المطاعن على عثمان ? سواء في عهده وما واجهوه بها ورده عليها في حينها، أو ما تُقُوِّل عليه فيما بعد عند الرواة والكتاب فإنها لم تصح ولم تصل إلى حد أن تكون سببا في قتله( ).
إن المآخذ السابق ذكرها والمدونة في تاريخ الطبري وغيره من كتب التاريخ، والمروية عن طريق المجاهيل والإخباريين الضعفاء خاصة الرافضة، كانت ولا تزال بلية عظمى على الحقائق في سِيَر الخلفاء والأئمة، خاصة في مراحل الاضطرابات والفتن، وقد كان مع الأسف لسيرة عثمان أمير المؤمنين ? من ذلك الحظ الوافر؛ فرواية الحوادث ووضع الأباطيل على النهج الملتوي بعض ما نال تلك السيرة النيرة من تحريف المنحرفين وتشويه الغالين بغية التأليب عليه أو التشهير به، وقد أدرك عثمان ? بنفسه ذلك عندما كتب إلى أمرائه: أما بعد، فإن الرعية طعنت في الانتشار, ونزعت إلى الشر أعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرة، وأهواء متسرعة، وضغائن محمولة.( ) وقال ابن العربي عن تلك المآخذ جملة: قالوا متعدين متعلقين برواية كذابين جاء عثمان في ولايته بمظالم ومناكير.. هذا كله باطل سند ومتنا.( )
وقد بيَّن ابن تيمية بأن عثمان ? ليس معصوما، فقال: والقاعدة الكلية في هذا أن لا يعتقد أن أحدا معصوم بعد النبي ×؛ بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ، والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها، وقد تكفر عنهم بحسناتهم الكثيرة، وقد يبتلون أيضا بمصائب يكفر الله بها، وقد يكفر عنهم بغير ذلك، فكل ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبا أو خطأ، وعثمان ? قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعته. وقد ثبت أن النبي × شهد له؛ بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه( )، ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه، وأنه ابتلى ببلاء عظيم فكفر الله به خطاياه, وصبر حتى قتل شهيدا مظلوما، وهذا من أعظم ما يكفر به الخطايا.( )
حادي عشر: استخدام الأساليب والوسائل المهيجة للناس:
وأهم هذه الأساليب: إشاعة الأراجيف حيث ترددت كلمة الإشاعة والإذاعة كثيرا، والتحريض والمناظرة والمجادلة للخليفة أمام الناس، والطعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب واختلافها على لسان الصحابة رضي الله عنهم؛ عائشة وعلي وطلحة والزبير، والإشاعة بأن علي بن أبي طالب ? الأحق بالخلافة، وأنه الوصي بعد رسول الله ×، وتنظيم فرق في كل من البصرة والكوفة ومصر، أربع فرق من كل مصر، مما يدل على التدبير المسبق. وأوهموا أهل المدينة أنهم ما جاءوا إلا بدعوة الصحابة، وصعَّدوا الأحداث حتى وصلت إلى القتل.( ) وإلى جوار هذه الوسائل استخدموا مجموعة من الشعارات منها: التكبير، ومنها أن جهادهم هذا ضد المظالم، ومنها أنهم لا يقومون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها المطالبة باستبدال الولاة وعزلهم، ثم تطورت المطالبة إلى خلع عثمان إلى أن تمادوا في جرأتهم وطالبوا بل سارعوا إلى قتل الخليفة، وخاصة حينما وصلهم الخبر بأن أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة، فزادهم حماسهم المحموم لتضييق الخناق على الخليفة, والتشوق إلى قتله بأي وسيلة( ).
ثاني عشر: أثر السبئية في أحداث الفتنة:
1- السبئية حقيقة أم خيال:
أجمع القدماء على وجوده بلا استثناء، وخالف في ذلك قلة من المعاصرين أكثرهم من الشيعة، وحجة من أنكره أنه من إبداع مخيلة سيف بن عمر التميمي؛ وذلك لانتقاد بعض علماء الرجال له في مجال رواية الحديث، إلا أن العلماء يعدونه حجة في الأخبار، علما بأنه وردت روايات كثيرة عند ابن عساكر تذكر عبد الله بن سبأ ليس من بين الرواة سيف بن عمر، وقد حكم الألباني على بعضها بأنها صحيحة من الشيعة سواء في كتب الفرق أو الرجال، أو الحديث عندهم، وليس فيها عمر هذا لا من قريب ولا من بعيد. وقد فصل ذلك الدكتور سليمان العودة في كتابه (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام).
وشكك بعض الباحثين في عبد الله بن سبأ( ) وقالوا بأنه شخصية وهمية، وأنكروا وجوده بدون حجة أو برهان، والذين أنكروا شخصية ابن سبأ هم طائفة من المستشرقين وفئة من الباحثين العرب، وغالبية الشيعة المعاصرين، ومن العجيب أن هؤلاء المستشرقين وذيولهم من الرافضة والمستغربين في عصرنا أنكروا شخصية عبد الله بن سبأ، وأنه شخصية وهمية لم يكن لها وجود، فأين بلغ هؤلاء من قلة الحياء والجهل، وقد ملأت ترجمته كتب التاريخ والفرق، وتناقلت أفعاله الرواة وطبقت أخباره الآفاق. لقد اتفق المؤرخون والمحدثون وأصحاب كتب الفرق والملل والنحل والطبقات والأدب والأنساب الذين تعرضوا للسبئية على وجود شخصية عبد الله بن سبأ الذي ظهر في كتب أهل السنة، كما ظهر في كتب الشيعة شخصية تاريخية حقيقية، ولهذا فإن أخبار الفتنة ودور ابن سبأ فيها لم تكن قصرا على تاريخ الإمام الطبري، واستنادا إلى روايات سيف بن عمر التميمي فيه، وإنما هي أخبار منتشرة في روايات المتقدمين، وفي ثنايا الكتب التي رصدت أحداث التاريخ الإسلامي، وآراء الفرق والنحل في تلك الفترة، إلا أن ميزة الإمام الطبري على غيره أنه أغزرها مادة وأكثرها تفصيلا لا أكثر، ولهذا فإن التشكيك في هذه الأحداث بلا سند وبلا دليل إنما يعني الهدم لكل تلك الأخبار، والتسفيه بأولئك المخبرين والعلماء، وتزييف الحقائق التاريخية، فمتى كانت المنهجية ضربا من ضروب الاستنتاج العقلي المحض في مقابل النصوص والروايات المتضافرة؟! وهل تكون المنهجية في الضرب صفحا والإعراض عن المصادر الكثيرة المتقدمة والمتأخرة التي أثبتت لابن سبأ شخصية واقعية؟ ( ) وقد جاء ذكر ابن سبأ في كتب أهل السنة كثيرا، منها:
* جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همدان( ) المتوفي عام 83هـ، وقد هجا المختار ابن أبي عبيد الثقفي وأنصاره من أهل الكوفة بعدما فر مع أشراف قبائل الكوفة إلى
البصرة بقوله:
شهدت عليكم أنكم سبئية
وأني بكم يا شرطة الكفر عارف( )

وهناك رواية عن الشعبي المتوفي عام 103هـ (721م) تفيد أن (أول من كذب عبد الله ابن سبأ( )، وتحدث ابن حبيب( ) المتوفي عام 245هـ (860م) عن ابن سبأ حينما اعتبره أحد أبناء الحبشيات.( ) كما روى أبو عاصم خُشيش بن أصرم المتوفي سنة 253هـ خبر إحراق علي ? لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتابه الاستقامة.( ) ويعتبر الجاحظ( ) المتوفي سنة 255هـ من أوائل من أشار إلى عبد الله بن سبأ( )، ولكن روايته ليست أقدم رواية عن ابن سبأ، كما يرى الدكتور جواد علي( ).
وخبر إحراق علي بن أبي طالب ? لطائفة من الزنادقة تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد.( ) ولفظ الزندقة ليس غريبا عن عبد الله بن سبأ وطائفته، يقول ابن تيمية: إن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ( ), ويقول الذهبي: عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة، ضال مضل.( ) ويقول ابن حجر: عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة.. وله أتباع يقال لهم السبئية, معتقدون الإلهية في علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته.( ) ويوجد لابن سبأ ذكر في كتب الجرح والتعديل؛ يقول ابن حبان المتوفى 354هـ: وكان الكلبي – محمد بن السائب الإخباري – سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبأ، من أولئك الذين يقولون: إن عليا لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا قبل قيام الساعة.. وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها.( ) كما أن كتب الأنساب هي الأخرى تؤكد نسبة (السبئية) إلى عبد الله بن سبأ، ومنها على سبيل المثال كتاب (الأنساب) للسمعاني ( ) المتوفي عام 562هـ.( ) وعرَّف ابن عساكر المتوفي عام 571هـ ابن سبأ بقوله: عبد الله بن سبأ الذي تنسب إليه السبئية، وهم الغلاة من الرافضة، أصله من اليمن، كان يهوديا وأظهر الإسلام.( ) ولم يكن سيف بن عمر هو المصدر الوحيد لأخبار عبد الله بن سبأ؛ إذ أورد ابن عساكر في تاريخه روايات لم يكن سيف فيها، وهي تثبت ابن سبأ وتؤكد أخباره.( ) ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ، أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتداع ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلو في علي يدعو الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له.( ) ويشير الشاطبي( ), المتوفى عام 790هـ, إلى أن بدعة السبئية من البدع الاعتقادية المتعلقة بوجود إله مع الله -تعالى الله- وهي بدعة تختلف عن غيرها من المقالات.( ) وفي خطط المقريزي, المتوفى عام 845هـ، أن عبد الله بن سبأ قام في زمن علي محدثا القول بالوصية والرجعة والتناسخ( ).
وأما المصادر الشيعية التي ذكرت ابن سبأ فهي: فقد روى الكشي عن محمد بن قولوية قال: حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثني يعقوب بن يزيد، ومحمد بن عيسى، عن علي بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب الأزدي، عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ، إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين، وكان والله أمير المؤمنين عبدا طائعا، الويل لمن كذب علينا، وإن قوما يقولون فينا ما لا نقول في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم.( ) والرواية من حيث السند صحيحة( ).
وفي كتاب الخصال أورد القمي الخبر نفسه، ولكن موصولا بسند آخر، وأما صاحب (روضات الجنات) فقد ذكر ابن سبأ عنده على لسان الصادق المصدوق الذي لعن ابن سبأ لاتهامه بالكذب والتزوير وإذاعة الأسرار والتأويل.( ) وقد ذكر الدكتور سليمان العودة في كتابه مجموعة من النصوص التي تزخر بها كتب الشيعة ومروياتهم عن عبد الله بن سبأ، فهي أشبه ما تكون وثائق مسجلة تدين من حاول من متأخري الشيعة إنكار عبد الله بن سبأ أو التشكيك في أخباره، بحجة قلة أو ضعف المصادر التي حكت أخباره( ).
إن شخصية ابن سبأ حقيقة تاريخية لا لبس فيها في المصادر السنية والشيعية المتقدمة والمتأخرة على السواء، وهي كذلك أيضا عند غالبية المستشرقين أمثال: يوليوس فلهاوزن( ) وفان فولتن( ), وليفي ديلافيدا( ), وجولد تسيهر( ), ورينولد نكلسن( ), ودوايت رونلدسن( ). على حين يبقى ابن سبأ محل شك أو مجرد خرافة عند فئة قليلة من المستشرقين أمثال كيتاني, وبرنارد لويس( ), وفريد لندر المتأرجح( ).. علما بأننا لا نعتد بهم في أحداث تاريخنا.
ومن استقرأ المصادر، سواء القديمة والمتأخرة عند السنة والشيعة، يتأكد له أن وجود ابن سبأ كان وجودا تؤكده الروايات التاريخية، وتفيض فيه كتب العقائد, وذكرته كتب الحديث، والرجال، والأنساب، والأدب، واللغة، وسار على هذا النهج كثير من المحققين والباحثين المحدثين، ويبدو أن أول من شكك في وجود ابن سبأ بعض المستشرقين، ثم دعم هذا الطرح الغالبية من الشيعة المحدثين؛ بل وأنكر بعضهم وجوده البتة، وبرز من الباحثين العرب المعاصرين من أعجب بآراء المستشرقين ومن تأثر بكتابات الشيعة المحدثين، ولكن هؤلاء جميعا ليس لهم ما يدعمون به شكهم وإنكارهم إلا الشك ذاته والاستناد إلى مجرد الظنون والفرضيات( )، ومن أراد التوسع في معرفة المراجع والمصادر السنية والاستشراقية والشيعية التي ذكرت ابن سبأ فليراجع (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة) للدكتور محمد أمحزون، و(عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام) للدكتور سليمان بن حمد العودة.
2- دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة:
في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان ? بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي نتيجة عوامل التغير التي ذكرناها، وأخذ بعض اليهود يتحينون فرصة الظهور مستغلين عوامل الفتنة ومتظاهرين بالإسلام واستعمال التقية، ومن هؤلاء عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء. وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التهويل من شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة( )، فإنه كذلك لا يجوز التشكيك فيه أو الاستهانة بالدور الذي لعبه في أحداث الفتنة كعامل من عواملها, على أنه أبرزها وأخطرها؛ إذ أن هناك أجواء للفتنة مهدت له، وعوامل أخرى ساعدته. وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادعاها واخترعها من قبل نفسه وافتعلها من يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها لغاية ينشدها, وغرض يستهدفه؛ وهو الدس في المجتمع الإسلامي، بغية النيل من وحدته وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان ? وتفرق الأمة شيعا وأحزابا.( )
وخلاصة ما جاء به أنه أتى بمقدمات صادقة، وبنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذَّج والغلاة وأصحاب الأهواء من الناس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبَّس فيها على مَنْ حوله حتى اجتمعوا عليه؛ فطرق باب القرآن بتأوله على زعمه الفاسد، حيث قال: لَعَجَبٌ ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذِّب بأن محمدا يرجع، وقد قال تعالى: +إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ" [القصص: 85] فمحمد أحق بالرجوع من عيسى.( ) كما سلك طريق القياس الفاسد من ادعاء إثبات الوصية لعلي ? بقوله: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء.( ) وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان ?، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ×، ووثب على وصيِّ رسول الله × وتناول أمر الأمة؟ ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله × فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر.( ) وبث دعاته، وكاتب من كان استفسد من الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون, ويسرون غير ما يبدون، فيقول أهل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس( ).
ويظهر من هذا النص الأسلوب الذي اتبعه ابن سبأ؛ فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من الصحابة؛ حيث جعل أحدهما مهضوم الحق وهو علي، وجعل الثاني مغتصبا وهو عثمان، ثم حاول بعد ذلك أن يحرك الناس - خاصة في الكوفة - على أمرائهم باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجعل هؤلاء يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم، علما بأنه ركز في حملته هذه على الأعراب الذين وجد فيهم مادة ملائمة لتنفيذ خطته؛ فالقراء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصحاب المطامع منهم هيج أنفسهم بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان؛ مثل تحيزه لأقاربه وإغداق الأموال من بيت مال المسلمين عليهم، وأنه حمى الحمى لنفسه، إلى غير ذلك من التهم والمطاعن التي حرك بها نفوس الغوغاء ضد عثمان ?، ثم إنه أخذ يحض أتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مفجعة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، وهكذا يتخيل الناس في جميع الأمصار أن الحال بلغ من السوء ما لا مزيد عليه، والمستفيد من هذه الحال هم السبئية؛ لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي.( ) هذا وقد شعر عثمان ? بأن شيئا ما يحاك في الأمصار، وأن الأمة تمخض بِشَرٍّ فقال: والله إن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها( ).
على أن المكان الذي رتع فيه ابن سبأ هو مصر، وهناك أخذ ينظم حملته ضد عثمان ?, ويحث الناس على التوجه إلى المدينة لإثارة الفتنة بدعوى أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، ووثب على وصيِّ رسول الله × (يقصد عليًا).( ) وقد غشهم بكتب ادعى أنها وردت من كبار الصحابة، حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنورة واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعا؛ حيث تبرأوا مما نسب إليهم من رسائل تؤلب الناس على عثمان.( ) ووجدوا عثمان مقدرا للحقوق بل وناظرهم فيما نسبوا إليه، ورد عليهم افتراءهم وفسر لهم صدق أعماله، حتى قال أحد هؤلاء الأعراب وهو مالك بن الأشتر النخعي: لعله مُكر به وبكم.( ) ويعتبر الذهبي أن عبد الله بن سبأ المهيج للفتنة بمصر، وباذر بذور الشقاق والنقمة على الولاة، ثم على الإمام عثمان فيها.( ) ولم يكن ابن سبأ وحده، وإنما كان عماله ضمن شبكة من المتآمرين، وأخطبوط من أساليب الخداع والاحتيال والمكر, وتجنيد الأعراب والقراء وغيرهم. ويروي ابن كثير أن من أسباب تألب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ وذهابه إلى مصر، وإذاعته بين الناس كلاما اخترعه من عند نفسه، فافتتن به بشر كثير من
أهل مصر( ).
إن المشاهير من المؤرخين والعلماء من سلف الأمة وخَلَفِهَا يتفقون على أن ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد وأفكار وخطط سبئية ليلفت المسلمين عن دينهم وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفُرْقة والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكونت به الطائفة السبئية المعروفة, التي كانت عاملا من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان ?، والذي يظهر من خطط السبئية أنها كانت أكثر تنظيما؛ إذ كانت بارعة في توجيه دعايتها ونشر أفكارها لامتلاكها ناصية الدعاية والتأثير بين الغوغاء والرعاع من الناس، كما كانت نشيطة في تكوين فروع لها سواء في البصرة أم الكوفة أم مصر، مستغلة العصبية القبلية، ومتمكنة من إثارة مكامن التذمر عند الأعراب والعبيد والموالي، عارفة بالمواضع الحساسة في حياتهم وبما يريدون( ).
* * *

الفصل السابع
مقتل عثمان بن عفان ?
المبحث الأول
اشـــــــــــتعال الفتنـــــة
نجح الموتورون الحاقدون الكاذبون في إزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفة، وعين عثمان ? سعيد بن العاص واليا جديدا على الكوفة، وعندما وصل سعيد إلى ولايته صعد المنبر، وبعدما حمد الله وأثنى عليه قال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني عندما أمرني عثمان، لم أجد بدًّا من التنفيذ، ألا وإن الفتنة قد أطلت رأسها فيكم، والله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تغلبني، وإني رائد نفسي اليوم( ), واطلع سعيد على أحوال الكوفة، وعرف توجهات الناس فيها، وأدرك تعمق الفتن فيها، وضلوع مجموعة من الخوارج والموتورين والحاقدين وأعداء الإسلام في التآمر والكيد والفتنة وسيطرة الرعاع والغوغاء والأعراب على الرأي فيها.( )
وكتب سعيد رسالة إلى أمير المؤمنين عثمان يخبره فيها بالأوضاع المتردية في الكوفة، ومما قال فيها: إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم, وقد غلب فيها أهل الشرف والسابقة والقِدمة، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت, وأعراب لَحَتْ حتى ما ينظر فيها إلى ذي شرف وبلاء.. فرد عليه عثمان ? برسالة طلب منه فيها إعادة ترتيب أوضاع أهلها وتصنيفهم على أساس السبق والجهاد، وتقديم أهل العلم والصدق والجهاد على غيرهم، ومما قال له فيها: فضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله على أيديهم تلك البلاد، واجعل الذين نزلوا البلاد بعد فتحها من الأعراب تبعا لأولئك السابقين المجاهدين إلا أن يكون السابقون تثاقلوا عن الجهاد والحق، وتركوا القيام به، وقام به من بعدهم. واحفظ لكل إنسان منهم منزلته وأعطهم جميعا قسطهم بالحق، فإن المعرفة بالناس يتحقق بها العدل بينهم.( ) وقام سعيد بتنفيذ توجيهات عثمان ? وأخبر الخليفة بما فعل، وجمع عثمان أهل الحل والعقد في المدينة، وأبلغهم بأوضاع الكوفة ورسوخ الفتنة فيها، وإجراءات سعيد بن العاص لمواجهتها، فقالوا: أصبت بما فعلت، ولا تسعف أهل الفتنة بشيء ولا تقدمهم على الناس، ولا تطعمهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا تولى الأمور من ليس أهلا لها، لم يقم بها بل يفسدها، فقال عثمان لهم: يا أهل المدينة، إن الناس قد تحركوا للفتنة، فاستعدوا لمواجهتها، واستمسكوا بالحق، وسوف أخبركم بأخبارها وأنقلها لكم أولا بأول( ).
أولاً: تأذى أصحاب الأهواء من الإصلاح:
تأذى الرعاع وأجلاف الأعراب من تقديم أصحاب السابقة والجهاد والبلاء والعلم والتقوى في المجالس والرئاسة والاستشارة، وصاروا يعيبون على الولاة تقديم هؤلاء عليهم واستشارتهم دونهم ويعتبرونهم تمييزا, وجفوة وإقصاء لهم، واستغل الحاقدون الموتورون هذا الأمر في نفوسهم، وغرسوا فيهم كره الخليفة والدولة ورفض أعمال الوالي سعيد بن العاص، ونشر الإشاعات ضده بين الناس، ورفض عامة الناس في الكوفة كلام الموتورين الخارجين، فسكت هؤلاء الحاقدون وصاروا يخفون شبهاتهم ولا يظهرونها؛ لرفض
معظم المسلمين لها، ولكنهم كانوا يسرون بها إلى من يؤيدهم من الأعراب أو الغوغاء
أو المعاقبين المغررين.( )
وكان أعداء الإسلام الموتورون من اليهود والنصارى والمجوس يتآمرون على الإسلام والمسلمين، وينشرون الإشاعات الكاذبة ضد الخليفة والولاة، ويستثمرون الأخطاء التي تصدر عن بعضهم في تهييج العامة ضدهم، ويزيدون عليها الكثير من الافتراءات والتزويرات، وهم يهدفون من ذلك إلى نشر الفوضى وتعميق الفرقة بين المسلمين، وذلك لتغذية غيظهم وحقدهم على الإسلام, الذي قضى على أديانهم الباطلة وهدم نظام الحكم الإسلامي، الذي حطم دولهم وقضى على جيوشهم، وجند هؤلاء الأعداء لتحقيق أهدافهم الموتورين من الرعاع والسذج والبلهاء والتف حولهم الحاقدون ممن أدَّبهم أو حدَّهم أو عزَّرهم الخليفة أو أحد ولاته، ونظم هؤلاء الأعداء (جمعية سرية) خبيثة جعلوا أعضاءها هؤلاء الذين استجابوا لهم، وجعلوا لهم أتباعا في المدن الكبيرة والأقاليم العديدة، وكونوا شبكة اتصالات سرية بينهم. وكانت أهم فروع جمعيتهم الخبيثة في: الكوفة، والبصرة، ومصر، ولهم بعض العناصر في المدينة المنورة والشام( ).
ثانيًا: عبد الله بن سبأ اليهودي على رأس العصابة:
أوصى ابن سبأ أتباعه المجرمين في جمعيته السرية الخبيثة، المنتشرين في بلاد المسلمين، فقال لهم: انهضوا في هذا الأمر، فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم وولاتكم الذين يعينهم الخليفة، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتستميلوا الناس إليكم، وادعوهم إلى هذا الأمر.( ) وبث عبد الله بن سبأ دعاته في الأمصار، وكاتب أتباعه الذين أفسدهم في الأمصار وضمهم إليه وكاتبوه، وتحرك أتباعه في البلدان بدعوتهم ودعوا مؤيديهم في السر إلى ما هم عليه من الخروج على الولاة والخليفة، والعمل على عزل عثمان عن الخلافة، وكانوا في الظاهر يظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليؤثروا في الناس، ويستميلوهم ويخدعوهم، وصار أتباع ابن سبأ يؤلفون الأكاذيب والافتراءات عن عيوب أمرائهم وولاتهم، وينشرونها في كتب يرسلها بعضهم إلى بعض في الأمصار، وصار أهل كل مصر منهم يكتبون كتبا بهذه الأكاذيب إلى أهل مصر آخر، فيقرأ أهل كل مصر تلك الكتب المزورة على الناس عندهم فيسمع الناس عندهم عن عيوب وأخطاء الوالي في ذلك البلد فيقولون: إنا لفي عافية مما ابتلى به المسلمون في ذلك البلد، ويصدقون ما يسمعون. وبذلك أفسد السبئيون الأرض وأفسدوا المسلمين، ومزقوا كلمتهم، وزعزعوا أخوتهم ووحدتهم، وهيجوا الناس على الولاة والأمراء، ونشروا الافتراءات ضد الخليفة عثمان نفسه،وكانوا يقومون بهذه الجرائم المنظمة والمدروسة بمهارة يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يعلنون، ويهدفون إلى عزل عثمان والقضاء على دولة الإسلام( ).
توجه ابن سبأ إلى الشام ليفسد بعض أهلها ويؤثر فيهم، ولكنه لم ينجح في هدفه الشيطاني، فقد كان له معاوية ? بالمرصاد.( ) ودخل البصرة ليجند الأتباع له من المارقين أو الحاقدين أو الرعاع البلهاء، وكان والي البصرة عبد الله بن عامر بن كريز، وكان حازما عادلا صالحا، ولما وصل ابن سبأ البصرة، نزل عند رجل خبيث من أهلها كان لصا فاتكا، هو حكيم بن جبلة( ).
وبلغ عبد الله بن عامر أن رجلا غريبا نازل على حكيم بن جبلة، وكان حكيم بن جبلة لصا، وعندما كانت تعود جيوش الجهاد إلى البصرة، كان حكيم يتخلف عنها ليسعى في أرض فارس فسادا، ويغير على أرض أهل الذمة، ويعتدي على أرض المسلمين، ويأخذ منها ما يشاء، فشكاه أهل الذمة والمسلمون إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر، وقال له: احبس حكيم بن جبلة في البصرة، ولا تتركه يخرج منها حتى تأنس منه رشدا، فحبسه ابن عامر في بيته، وكان لا يستطيع أن يخرج من البصرة، وبينما كان اللص ابن جبلة تحت الإقامة الجبرية في بيته، نزل عليه اليهودي عبد الله بن سبأ، واستغل ابن سبأ زعارة ابن جبلة وانحرافه وحقده ولؤمه فجنده لصالحه، وصار ابن جبلة رجل ابن سبأ في البصرة، وصار ابن جبلة يقدم لابن سبأ أمثاله من المنحرفين والموتورين، فيغرس ابن سبأ في نفوسهم أفكاره، ويجندهم بجمعيته السرية. ولما علم ابن عامر بابن سبأ، استدعاه، وقال له: ما أنت؟ قال ابن سبأ: أنا رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام فأسلم، ورغب في جوارك فأقام عندك. قال ابن عامر: ما هذا الكلام الذي يبلغني عنك؟ اخرج عني. أخرجه ابن عامر من البصرة، فغادرها ابن سبأ بعد أن ترك فيها رجالا وأتباعا له، وجعل فيها فرعا لحزبه
السبئي اليهودي.
ذهب ابن سبأ إلى الكوفة فوجد فيها رجالا من المنحرفين جاهزين لاستقباله، فجندهم لجماعته وحزبه، ولما علم به سعيد بن العاص أخرجه من الكوفة، فتوجه إلى مصر، فأقام فيها وعشش فيها وباض، وفرخ فيها وأفسد، واستمال أناسا هناك من الرعاع والبلهاء، ومن الحاقدين والموتورين، ومن العصاة والمذنبين. وكان ابن سبأ يرتب الاتصالات السرية بين مقره في مصر، وبين أتباعه في المدينة والبصرة والكوفة، ويتحرك رجاله بين هذه البلدان.( ) واستمرت جهود ابن سبأ وأعوانه حوالي ست سنوات، حيث بدأوا أعمالهم الشيطانية سنة ثلاثين، ونجحوا في آخر سنة خمس وثلاثين في قتل الخليفة عثمان، واستمر إفسادهم طيلة خلافة علي ?، وقرر (السبئيون) أن تكون بداية الفتنة في الكوفة( ).
ثالثـًا: أهل الفتنة يفسدون في مجلس سعيد بن العاص:
في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين جلس سعيد بن العاص في مجلسه العام وحوله عامة الناس، وكانوا يتحدثون ويتناقشون فيما بينهم، فتسلل هؤلاء الخوارج من السبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، وعلى إشعال نار الفتنة.
جرى كلام وحوار في المجلس بين سعيد بن العاص وبين أحد الحضور، وهو (خنيس ابن حُبيش الأسدي) واختلفا على أمر، وكان سبعة من الخوارج، أصحاب الفتنة جالسين: منهم جندب الأزدي، الذي قتل ابنه السارق بسبب تورطه في قضية قتل، ومنهم الأشتر النخعي، وابن الكواء، وصعصعة ابن صوحان، فاستغل أصحاب الفتنة المناسبة، وقاموا بضرب خنيس الأسدي في المجلس، ولما قام أبوه يساعده وينقذه ضربوه، وحاول سعيد منعهم من الضرب فلم يمتنعوا، وأغمى على الرجل وابنه من شدة الضرب، وجاء بنو أسد للأخذ بثأر أبنائهم، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، ولكنَّ سعيدا تمكن من إصلاح الأمر( )، ولما علم عثمان بالحادثة طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الموضوع بحكمة، وأن يضيق على الفتنة ما استطاع.
ذهب الخوارج المفتونون إلى بيوتهم وصاروا ينشرون الإشاعات ويذيعون الافتراءات والأكاذيب ضد سعيد وضد عثمان، وضد أهل الكوفة ووجوهها، فاستاء أهل الكوفة منهم وطلبوا من سعيد أن يعاقبهم، فقال لهم سعيد: إن عثمان قد نهاني عن ذلك، فإذا أردتم ذلك فأخبروه، وكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان بشأن هؤلاء النفر، وطلبوا منه إخراجهم من الكوفة ونفيهم عنها، فهم مفسدون مخربون فيها، فأمر عثمان واليه سعيد بن العاص بإخراجهم من الكوفة، وكانوا بضعة عشر رجلا، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء فقال له: إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرا خلقوا للفتنة، فَرُعْهم وأخفهم وأدبهم وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشدا فاقبل منهم.( ) ومن الذين تم نفيهم إلى الشام: الأشتر النخعي، وجندب الأزدي، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكواء( ).
رابعًا: أهل الفتنة منفيون عند معاوية:
لما قدموا على معاوية رحب بهم وأنزلهم كنيسة تسمى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدى ويتعشى معهم، فقال لهم يوما: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة, وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا، وإن قريشا لو لم تكن لعدتم أذلة كما كنتم( ).
كان عثمان ? يدرك أن معاوية للمعضلة، فله من فصاحته وبلاغته, وله من حلمه وصبره، وله من ذكائه ودهائه ما يواجه به الفتن، ومن أجل ذلك ما إن تقع المعضلة حتى يرسلها لابن أبي سفيان كي يحلها، وفعلا بذل معاوية ? ما بوسعه من أجل إقناع هؤلاء النفر؛ أكرمهم أولا، وخالطهم وجالسهم, وعرف سرائرهم من خلال هذه المجالس قبل أن يحكم عليهم بما نقلوا عنهم، وبعد أن أزال الوحشة عنهم وأزال الكلفة بينه وبينهم، لاحظ أن النعرة القبلية هي التي تحركهم، وأن شهوة الحكم والسلطة هي التي تثيرهم، فكان لا بد من أن يلج عليهم من زاويتين اثنتين:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالأربعاء يناير 20, 2010 12:08 am

الأولى: أثر الإسلام في عزة العرب.
الثانية: دور قريش في نشر الإسلام وتحمل أعبائه.
فإن كان للإسلام أثر في تكوينهم فلا بد أن يرعووا لهذا الحديث، بعد هذا وضع أمامهم صورة لوضع العرب، وقد انقلبوا بالإسلام أمة واحدة تخضع لإمام واحد، وودعوا حياة الفوضى وسفك الدماء والقبلية المنتنة( ).
ويتابع معاوية حديثه معهم فيقول: إن أئمتكم لكم إلى اليوم جُنَّة( ) فلا تشذوا عن جنتكم، وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهين أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر, ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنة، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا، فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلا، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكرني الجاهلية؟ وقد وعظتك وتزعم لما يُجِنك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة، أخزى الله أقواما أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم( ).
وعرف معاوية أن الإشارة العابرة لن تقنعهم، لا بد من شرح مسهب لواقع قريش أولا فقال: افقهوا ولا أظنكم تفقهون؛ إن قريش لم تعز في جاهلية ولا في إسلام إلا بالله عز وجل، لم تكن أكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأعظمهم أخطارا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله الذي لا يُسْتذل من أعز، ولا يوضع من رفع، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة, إلا ما كان من قريش؛ فإنه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا, ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم؟ أفٍّ لك ولأصحابك، ولو أن متكلما غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت، فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، أنتنها نبتًا، وأعمقها واديًا، واعرفها بالشر، وألأمها جيرانا، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقابا وألأمهم أصهارا، نزَّاع( ) الأمم، وأنتم جيران الخط وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي × ونكبتكم دعوته, وأنت نزيع شطير( ) في عمان لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي ×, فأنت شر قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجا، وتنزع إلى اللآمة والذلة ولا يضع ذلك قريشا، ولن يضرهم, ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء الله، ولا أمرا أراده الله، ولا تدركون بالشر أمرا إلا فتح الله عليكم شرا منه وأخزى، ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم( ).
وبذلك بذل معاوية كل طاقاته الفكرية والثقافية والسياسية لإقناعهم:
* عرض لهم أولا أمر قريش في الجاهلية والإسلام.
* تناول قبائل هؤلاء النفر ووضعها في الجاهلية؛ حيث كانت تعاني سوء المناخ ونتن المنبت من الناحية الطبيعية، ثم الذلة والتبعية لفارس من الناحية السياسية، إلى أن أكرمهم الله بالإسلام فعزت بعد ذلٍّ، وارتفعت بعد هوان.
* تناول معاوية صعصعة بن صوحان خطيب القوم، وكيف تلكأ عن تلبية نداء الرسالة، وقد دخل قومه بها، ثم عاد وانضم إلى الإسلام، ورفعه الإسلام ثانية بعد انحدار.
* كشف معاوية ? عن مخططات صعصعة وأصحابه، وكيف يبغون الفتنة، ويبغون دين الله عوجا.
وإن الشيطان هو وكر هذه الفتنة, ومحرك هذا الشر، وبذلك ربط تاريخ الأمة بالله ثم بالإسلام والعقيدة، ثم كشف عن زيف هؤلاء النفر، وفضحهم عن آخرهم، وأبان عن مخططاتهم وصلتها بدعوى الجاهلية( ).
* جلسة أخرى:
ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلا ثم قال: أيها القوم، ردوا عليَّ خيرا، أو اسكتوا وتفكروا، وانظروا فيما ينفعكم, وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين، فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم.
قال صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. قال معاوية: أو ليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته, وطاعة نبيه ×، وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا؟! قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ×، قال: إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ×، ولزوم الجماعة وكراهة الفرقة، وأن توقروا أئمتكم، وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم. قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن من المسلمين من هو أحق به منك. قال معاوية: من هو؟ قالوا: من كان أبوه أحسن قدما من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدما منك في الإسلام. قال معاوية: والله إن لي في الإسلام قدما، ولغيري كان أحسن قدما مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر ابن الخطاب، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب بخط يده فاعتزلت عمله، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلا هو خير. فمهلا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوما ولا ليلة، ولكن الله يقضيها ويدبرها وهو بالغ أمره، فعاودوا الخير وقولوه. قالوا: لست لذلك أهلا، قال معاوية: أما والله إن لله سطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان حتى تُحلَّكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر والخزي الدائم في الآجل، فوثبوا عليه فأخذوا بلحيته ورأسه فقال: مه، إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضا، ثم قام من عندهم فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلا ما بقيت.( )
هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشام كل جهده، واستعمل حلمه وثقافته وأعصابه كي يثنيهم عن الفتنة، إنه يدعوهم إلى تقوى الله وطاعته، والاستمساك بالجماعة والابتعاد عن الفرقة، وإذا بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله.( ) وبحلمه الكبير، وصدره الواسع عاد فذكرهم بأنه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حد زعمهم فهو يتوب من المعصية إن وقعت، ثم يعود لدعوتهم إلى الطاعة والجماعة والابتعاد عن تفريق كلمة الأمة، ولو كان الوعظ يجدي معهم لأمكن أن تتأثر قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللطف وهذا الحلم، لكنهم اعتبروا ذلك ضعفا وتهاونا منه؛ خاصة وهو يوجههم إلى أن يستعملوا الأسلوب الهادئ في العظة واللين في النصح، فوجدوا المجال رحبا أن يكشفوا عن مكنون قلوبهم. فقالوا: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإن بالمسلمين من هو أحق به منك، وانتبه معاوية انتباها مفاجئا إلى ما يكنُّون، فأحب أن يتعرف على جانب غامض عليه، لعل في هذا التعرف ما يوصله إلى من يحركهم، ويبث في ذهنهم الأراجيف المغرضة، ولكنهم أخفوا ما يكنون, واكتفوا بالإشارة إلى أنهم يحبون أن يدع العمل لمن هو أفضل منه، ولِمَنْ أَبُوه أفضل من أبيه، ثم تحلم عليهم أكثر فأكثر، رغم الأسلوب الفج الذي سلكوه معه، وهم يأمرونه بأن يعتزل العمل. وهنا نجد لمعاوية جوابا مستفيضا عن وجهة نظره في الحكم والإمارة والقيادة، وقد لخص معاوية إجابته في ست نقاط أساسية ومهمة:
1- هي أن له قدما وسابقة في الإسلام، فهو حامي ثغر الشام منذ وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
2- إن هناك في المسلمين من هو أفضل منه وأكرم، وأحسن سابقة وأكثر بلاء، وهو يرى أنه أقوى من يحمي هذا الثغر الإسلامي العظيم (الشام)، فمنذ أن تولاه تمكن من ضبطه وسياسته، وفهم نفسيات أهله حتى أحبوه.
3- إن الميزان الحساس والمعيار الدقيق الذي يقيم الولاة هو عمر بن الخطاب ? الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فلو وجد في معاوية شططا أو انحرافا أو ضعفا لعزله، ولما أبقى عليه يوما واحدا، فقد عمل له طيلة خلافته، كما ولاه من قبل رسوله الله × على بعض عمله، واستخدمه كاتبا بين يديه، وولاه أبو بكر الصديق من بعده ولم يطعن في كفاءته أحد.
4- إن اعتزال العمل يجب أن يستند لأسباب موجبة للاعتزال، فما الحجة التي يقدمها دعاة الفتنة ليتم الاعتزال على أساسها؟
5- إن الذي يقرر العزل عن العمل أو البقاء في الإمارة ليس هؤلاء الأدعياء، إن ذلك من حق أمير المؤمنين عثمان ?، وهو الذي له الحق في تعيين الولاة وعزلهم.
6- إن أمير المؤمنين عثمان يوم يقرر عزل معاوية، فهو واثق أن أمره خير كله، ولا غضاضة في ذلك؛ فهو أمير مأمور وهو أمر خليفة المسلمين( ).
كان ختام الجلسة مؤسفا أشد الأسف, مؤلما أشد الألم، لقد حذرهم نقمة الله وغضبه، وحذرهم مهاوي الشيطان ومنزلقاته، وحذرهم فرقة الكلمة ومعصية الإمام، وحذرهم الانقياد إلى أهوائهم وغرورهم، فماذا كان منهم مقابل ذلك؟ وثبوا عليه وأخذوا برأسه ولحيته، وعندئذ زجرهم وقمعهم، ووجه لهم كلاما قاسيا مبطنا بالتهديد، وعرف أن هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحق، فلا بد من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان ?، وكشف هوياتهم وخطرهم ليرى فيهم أمير المؤمنين رأيا آخر( ).
كتاب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- بشأن أهل الفتنة من الكوفة:
كتب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواما يتكلمون بألسنة الشياطين، وما يملون عليهم، ويأتون الناس - زعموا- من قبل القرآن فيشبهون على الناس، وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيرا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام
أن يغروهم بسحرهم وفجورهم, فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي
نجم فيه نفاقهم( ).
خامسًا: رجوع أهل الفتنة إلى الكوفة ثم نفيهم إلى الجزيرة:
كتب عثمان إلى سعيد بن العاص، فردهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد -وكان أميرا على حمص- فلما وصلوا إلى عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد استدعاهم، وكلمهم كلاما شديدا، وكان مما قاله لهم: يا آلة الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا، لقد رجع الشيطان محسورا خائبا، وأنتم ما زلتم نشيطين في الباطل!! خسَّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ويخزكم، يا معشر من لا أدري من أنتم: أعرب أم عجم، لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة، والله لأذلنكم. وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهرا كاملا، وعاملهم بمنتهى الحزم والشدة، ولم يلن معهم كما لان سعيد ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه, وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم (صعصة بن صوحان) يقول له: يا ابن الخطيئة، هل تعلم أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، وأن من لم يصلحه اللين أصلحته الشدة، وكان يقول لهم: لماذا لا تردون عليَّ كما كنتم تردون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا تخاطبوني كما كنتم تخاطبونهما؟
ونفع معهم أسلوب عبد الرحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه وشدته وقسوته, وأظهروا له التوبة والندم، وقالوا له: نتوب إلى الله ونستغفره، أقلنا أقالك الله، وسامحنا سامحك الله. وبقى القوم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد, وأرسل عبد الرحمن أحد زعمائهم -وهو الأشتر النخعي- إلى عثمان ليخبره بتوبتهم وصلاحهم، وتراجعهم عما كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احلل أنت ومن معك حيث شئتم فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وذكر له من فضل عبد الرحمن وحزمه، فأقاما عند عبد الرحمن في الجزيرة مدة أظهروا فيها التوبة والاستقامة والصلاح( )، وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين، وكان هذا في شهور سنة ثلاث وثلاثين، بعدما تم نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشام، ثم عبد الرحمن بن خالد، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أن المصلحة تقتضي أن يسكنوا إلى حين( ).
1- أهل الفتنة بالبصرة يفترون على أشج عبد القيس:
أما أهل الفتنة بالبصرة بزعامة حكيم بن جبلة فقد كانوا ضد أهل الفضل فيها, وتآمروا وكذبوا عليهم، وكان من أفضل وأتقى أهل البصرة (أشج عبد القيس) واسمه عامر بن عبد القيس، وكان زعيما لقومه، وقد وفد على رسول الله × وتعلم منه، ومدحه رسول الله بقوله: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة».( ) وكان عامر بن عبد القيس من قادة الجهاد في القادسية وغيرها، وكان مقيما في البصرة، وكان على قسط كبير من الصلاح والتقوى، فكذب الخارجون عليه، واتهموه بالباطل، فسيَّره عثمان إلى معاوية بالشام، ولما كلمه معاوية وعامله، وعرف براءته وصدقه، وكذب الخوارج وافتراءهم
عليه، وكان الذي تولى الكذب على عامر بن عبد القيس هو (حمران بن أبان) وهو
رجل عاص بدون دين؛ حيث تزوج امرأة في أثناء عدتها، ولما علم عثمان بذلك فرق بينهما، وضربه ونكل به لمعصيته، ونفاه إلى البصرة، وهناك التقى مع زعيم السبئيين فيها؛ اللص حكيم بن جبلة( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالأربعاء يناير 20, 2010 12:10 am

- ابن سبأ يحدد سنة أربع وثلاثين للتحرك:
وفي سنة أربع وثلاثين - السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان - أحكم عبد الله بن سبأ اليهودي خطته، ورسم مؤامراته, ورتب مع جماعته السبئيين الخروج على الخليفة وولاته، فقد اتصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشياطين من حزبه في البصرة والكوفة والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم وكاتبوه، وراسلهم وراسلوه، وكان ممن كاتبهم وراسلهم، السبئيون في الكوفة، وقد كان بضعة عشر رجلا منهم منفيين في الشام، ثم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين كان زعيم السبئيين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس( )، وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها وأشرافها، لأنهم توجهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرعاع والغوغاء، الذي أثر فيهم السبئيون والمنحرفون وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضد والي عثمان على الكوفة سعيد بن العاص( ).
3- أوضاع أهل الكوفة عند تحرك أهل الفتنة:
قال الطبري عن أوضاع الكوفة سنة أربع وثلاثين: وفد سعيد بن العاص إلى عثمان في سنة إحدى عشرة من إمارة عثمان، وقد بعث سعيد قبل خروج الأشعث بن قيس إلى أذربيجان، وسعيد بن قيس إلى الري، والنسير العجلي إلى همذان، والسائب بن الأقرع إلى أصبهان، ومالك بن حبيب إلى ماه، وحكيم بن سلامة إلى الموصل، وجرير بن عبد الله إلى قرقيسيا، وسلمان بن ربيعة إلى الباب، وعتيبة بن النهاس إلى حلوان، وجعل على الحرب القعقاع بن عمرو التميمي، وكان نائبه بعد خروجه عمرو بن حريث، وبذلك خلت الكوفة من الوجوه والرؤساء، ولم يبق فيها إلا منزوع أو مفتون.( ) وفي هذا الجو خرج زعيم السبئيين في الكوفة (يزيد بن قيس) بعد اتفاق مع شيطانه ابن سبأ في مصر، وخرج معه أهل الفتنة الذين انضموا إلى جمعية ابن سبأ السرية، والغوغاء الذين تأثروا بها( ).
4- القعقاع بن عمرو التميمي يقضي على التحرك الأول:
خرج يزيد بن قيس في الكوفة، وهو يريد خلع عثمان، فدخل المسجد وجلس فيه, وتجمع عليه في المسجد السبئيون, الذين كان ابن السوداء يكاتبهم من مصر، ولما تجمع الخارجون في المسجد، علم بأمرهم القعقاع بن عمرو أمير الحرب، فألقى القبض عليهم، وأخذ زعيمهم يزيد بن قيس معه، ولما رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته وبصيرته لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان وخلعه، وأظهر له أن كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد بن العاص، والمطالبة بوال آخر مكانه، فاستجيب لطلبهم, ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة لما سمع كلام يزيد، ثم قال ليزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد ولا يجتمع عليك أحد واجلس في بيتك، واطلب ما تريد من الخليفة وسيحقق
لك ذلك( ).
5- يزيد بن قيس يكاتب أهل الفتنة عند عبد الرحمن بن خالد:
جلس يزيد بن قيس في بيته، واضطر إلى تعديل خطته في الخروج والفتنة، واستأجر هذا السبئي (يزيد بن قيس) رجلا وأعطاه دراهم وبغلا، وأمره أن يذهب بسرعة وكتمان إلى السبئيين من أهل الكوفة الذين نفاهم عثمان بن عفان إلى الشام, ثم إلى الجزيرة، وهم مقيمون عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد هناك، وقد أظهروا له التوبة والندم، وقال يزيد لإخوانه الشياطين في كتابه: إذا وصلكم كتابي فلا تضعوه من أيديكم حتى تأتوا إليَّ، فقد راسلنا إخواننا في مصر -وهم السبئيون هناك- واتفقنا معهم على الخروج. ولما قرأ الأشتر كتاب يزيد خرج فورا للكوفة، ولحق به إخوانه الخارجون، وفقدهم عبد الرحمن بن خالد فلم يجدهم فأرسل جماعة في طلبهم فلم يدركوهم، واتصل يزيد بن قيس بجماعته مرة ثانية، واتصل جماعته بالرعاع والغوغاء في الكوفة، وتجمعوا في المسجد، ودخل عليهم الأشتر النخعي في المسجد وعمل على إثارتهم وتهييجهم ودفعهم للثورة والخروج، وكان مما قال لهم: لقد جئتكم من عند الخليفة عثمان، وتركت واليكم سعيد بن العاص عنده، وقد اتفق عثمان وسعيد على إنقاص عطائكم، وخفض أموالكم من مئتي درهم إلى مئة درهم. وقد كذب الأشتر فيما قال، ولم يتحدث عثمان وسعيد بذلك، ولكنه كيد السبئيين في نشر الأكاذيب والافتراءات لتهييج العامة، واستخف الأشتر بكلامه الناس في المسجد، وأثر في الرعاع والغوغاء وهيجهم، وكانت ضجة كبيرة في المسجد، وصار يكلمه عقلاء المسلمين من وجوههم وأشرافهم وصالحيهم وأتقيائهم؛ كأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن مسعود، والقعقاع بن عمرو، فلم يسمع لهم، ولم يستجب لهم.( ) وصاح يزيد بن قيس في الغوغاء والرعاع داخل المسجد وخارجه، وقال: إني خارج إلى طرق المدينة لأمنع سعيد بن العاص من دخول الكوفة، ومن شاء أن يخرج معي لمنع سعيد من الدخول والمطالبة بوال مكانه فليفعل، فاستجاب لندائه السبئيون والرعاع، وخرج معه حوالي ألف منهم( ).
6- القعقاع بن عمرو يرى قتل قادة أهل الفتنة:
ولما خرج السبئيون والغوغاء طلبا للفتنة والتمرد وإحداث القلاقل، بقى في المسجد وجوه المسلمين وأشرافهم وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث وطالب المسلمين بالأخوة والوحدة ونهاهم عن التفرق والاختلاف والفتنة والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمردين( )، فقال القعقاع بن عمرو: أترد السيل عن عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات، لا والله لا تُسَكِّن الغوغاء إلا المشرفية( )، ويوشك أن تُنْتَضَى ثم يعجِّون عجيج العتدان( )، ويتمنون ما هم فيه فلا يرده عليهم أبدا، فاصبر، فقال: أصبر, وتحول إلى منزله.( )
7- أهل الفتنة يمنعون سعيد بن العاص من دخول الكوفة:
سار يزيد بن قيس ومعه الأشتر النخعي بالألف من الخارجين إلى مكان على طريق المدينة يسمى (الجَرَعة)، وبينما كانوا معسكرين في الجرعة، طلع عليهم سعيد بن العاص عائدا من عند عثمان، فقالوا له: عُد من حيث أتيت ولا حاجة لنا بك، ونحن نمنعك من دخول الكوفة، وأخبر عثمان أننا لا نريد واليا علينا، ونريد من عثمان أن يجعل أبا موسى الأشعري واليا مكانك، قال لهم سعيد: لماذا خرجتم ألفا لتقولوا لي هذا الكلام؟ كان يكفيكم أن تبعثوا رجلا إلى أمير المؤمنين بطلبكم، وأن توقفوا لي رجلا في الطريق ليخبرني بذلك، وهل يخرج ألف رجل لهم عقول لمواجهة رجل واحد( )؟
رأى سعيد بن العاص أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقل، وهذا رأي أبي موسى الأشعري، وعمرو بن حريث, والقعقاع بن عمرو في الكوفة.( ) وعاد سعيد بن العاص إلى عثمان وأخبره خبر القوم الخوارج، قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يدا من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا لقد أظهروا أنهم لا يريدونني واليا عليهم، ويريدون واليا آخر مكاني، قال له عثمان: من يريدون واليا؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعري، قال عثمان: قد عينا وأثبتنا أبا موسى واليا عليهم، والله لن نجعل لأحد عذرا، ولن نترك لأحد حجة، ولنصبرن عليهم كما هو مطلوب منا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون. وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه واليا على الكوفة( ).
وقبل وصول كتاب عثمان بتعيين أبي موسى واليا كان في مسجد الكوفة بعض أصحاب رسول الله ×، وقد حاولوا ضبط الأمور وتهدئة العامة، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك؛ لأن السبئيين والحاقدين سيطروا على الرعاع والغوغاء وهيجوهم، فلم يعودوا يسمعون صوت عقل أو منطق. وكان في مسجد الكوفة وقت التمرد والفتنة اثنان من أصحاب رسول الله × هما: حذيفة بن اليمان، وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، وكان أبو مسعود غاضبا لتمرد وثورة الرعاع وخروجهم إلى الجرعة، وعزلهم الوالي سعيد، وعصيانهم له، وهي أول مرة تحصل، بينما كان حذيفة بعيد النظر، يتعامل مع الحدث بموضوعية وتفكير.( ) قال أبو مسعود لحذيفة: لن يعودوا من الجرعة سالمين، وسيرسل الخليفة جيشا لتأديبهم، وستسفك فيها دماء كثيرة، فرد عليه حذيفة قائلا: والله سيعودون إلى الكوفة، ولن يكون هناك اشتباك أو حرب ولن تسفك هناك دماء، وما أعلم من هذه الفتن شيئا، إلا وقد علمته من رسول الله × وهو حي؛ حيث أخبرنا عن هذه الفتن التي نراها اليوم قبل وفاته، ولقد أخبرنا رسول الله × أن الرجل يصبح على الإسلام ثم يمسي وليس معه من الإسلام شيء، ثم يقاتل المسلمين، فيرتد وينكص قلبه ويقتله الله غدا، وسيكون هذا فيما بعد.( ) لقد كان حذيفة بن اليمان ? متخصصا في علم الفتن، وتعامل مع فتن السبئيين في الكوفة وغيرها وفق ما سمعه وعلمه من رسول الله ×، واستحضر ما حفظه من تلك الأحاديث, ففهم حقيقة ما يجري حوله، ولم يستبعده ولم يستغربه وحاول الإصلاح ما أمكنه( ).
8- أبو موسى الأشعري يهدئ الأمور وينهى عن العصيان:
قام أبو موسى الأشعري ? بتهدئة الأمور، ونهى الناس عن العصيان، وقال لهم: أيها الناس، لا تخرجوا في مثل هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا فكأنكم بأمير.( ) فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السمع والطاعة لعثمان( ).
وما كانوا صادقين في ذلك، لكنهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقية عن الآخرين، وكان أبو موسى يصلي بالناس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه واليا على الكوفة، ولما هدأت الأمور في الكوفة إلى حين - في سنة أربع وثلاثين - عاد حذيفة بن اليمان إلى أذربيجان والباب يقود جيوش الجهاد هناك، وعاد العمال والولاة إلى أعمالهم في مناطق فارس( ).
9- كتاب عثمان إلى الخارجين في الكوفة:
كتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة كتابا يبين فيه الحكمة من استجابته لطلبهم في عزل سعيد وتعيين أبي موسى بدله، وهي رسالة ذات دلالات هامة، وتبين طريقة عثمان في مواجهة هذه الفتن، ومحاولته تأجيل اشتعالها ما استطاع، مع علمه اليقيني أنها قادمة، وأنه عاجز عن مواجهتها، فهذا ما علمه من رسول الله ×، قال لهم عثمان في رسالته: أما بعد، فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشن لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، واسألوني كل ما أحببتم مما لا يعصى الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم حتى لا يكون لكم عليَّ حجة، وكتب بمثل ذلك في الأمصار.( ) رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما أصلحه، وأوسع صدره، وكم ظلمه السبئيون والخارجون والحاقدون وكذبوا وافتروا عليه( ).
* * *
المبحث الثاني
سياسة عثمان ? في التعامل مع الفتنة
من خلال النصوص التاريخية في العديد من المصادر يتضح أن عثمان ? قد واجه الفتنة بعدد من الأساليب وهي:
أولاً: رأي بعض الصحابة بأن يرسل عثمان لجان تفتيش وتحقيق:
اهتز محمد بن مسلمة وطلحة بن عبيد الله وغيرهما لما سمعوا من الإشاعات التي بثها عبد الله بن سبأ في الأمصار، فدخلوا على أمير المؤمنين عثمان على عجل وقالوا: يا أمير المؤمنين، أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ قال: لا والله، ما جاءني إلا السلامة. قالوا: فإنا قد أتانا، وأخبروه بما تناهى لسمعهم عن الفتنة التي تموج بها الأمصار الإسلامية، وعن الهجوم الشرس على ولاته في كل صقع، وقال: أنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا عليَّ؟ قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بخبرهم( )، فقام عثمان بإجراء سديد عظيم، وتخير نفرا من الصحابة لا يختلف اثنان في صدقهم وتقواهم وورعهم، ونصحهم، اختار محمد بن مسلمة الذي كان عمر يأتمنه على محاسبة ولاته والتفتيش عليهم في الأقاليم، وأسامة بن زيد حِبّ رسول الله × وابن حِبِّه، وأمير الجيش الذي أوصى النبي × بإنفاذه في آخر عهده بالدنيا، فقال: أنفذوا بعث أسامة. وعمار بن ياسر السبَّاق إلى الإسلام، والمجاهد العظيم، وعبد الله بن عمر، التقي الفقيه الورع. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة إلى البصرة، وعمار إلى مصر، وابن عمر إلى الشام، وكانوا على رأس جماعة، فأرسلهم إلى تلك الأمصار الكبيرة، فمضوا جميعا إلى عملهم الشاق المضني الخطير العظيم، ثم عادوا جميعا عدا عمار بن ياسر الذي استبطأ في مصر ثم عاد، وقدموا بين يدي أمير المؤمنين ما شاهدوه وسمعوه وسألوا الناس عنه.( ) وكان ما جاء به هؤلاء واحد في كل الأمصار، وقالوا: أيها الناس، ما أنكرنا شيئا، ولا أنكر المسلمون إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عليهم.( ) وأما ما روي من اتهام عمار بن ياسر ? بالتأليب على عثمان ? فإن أسانيد الروايات التي تتضمن هذه التهمة ضعيفة، لا تخلو من علة، كما أن في متونها نكارة( ).
رجع مفتشو الأمصار، واتضح بأنه ليس هناك ما يوجب على الخليفة أن يعزل واحدا من ولاته، والناس في عافية وعدل وخير ورحمة واطمئنان، وأمير المؤمنين يعدل في القضية، ويقسم بالسوية، ويرعى حق الله وحق الرعية، وما يثار هو شكوك وأراجيف وأكاذيب يبثها الحاقدون في الظلمات لكي لا يعرف مصدرها، ولكن الخليفة البار الراشد العظيم لم يكتفِ بهذا، بل كتب إلى أهل الأمصار( ).
ثانيًا: كتب إلى أهل الأمصار كتابا شاملا بمثابة إعلان عام لكل المسلمين:
أما بعد: فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع على شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلىَّ أهل المدينة أن أقواما يشتمون، وآخرون يضربون، فيا من ضُرب سرا، وشُتم سرا، من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان، مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله
يجزي المتصدقين، فلما قرئ في الأمصار أبكى الناس، ودعوا لعثمان، وقالوا: إن الأمة لتمخَّض بِشَرّ ( ).
فهل تريد الدنيا أن تسمع بحزم وعزم أعلى وأشمخ من هذا الحزم والعزم من رجل زادت سنه على اثنتين وثمانين سنة، وهو في هذه الفورة والقوة من المتابعة والتنقيب عن المظالم؟ أم هل يريد الناس أن يروا عدلا أرفع وأسمى من هذا العدل والإنصاف، حتى إن حق أمير المؤمنين الشخصي متروك لرعيته، ما دام حق الله قائما وحدوده مرعية؟ نعم عند عثمان، الذي لم يقف عند ذلك، ولم يكتفِ بأن أرسل أمناءه للتفتيش عن أحوال الناس، وكتابته من ثم إلى أهل الأمصار بأن يأتوا موسم الحج ليرفعوا شكاتهم -إن كانت لهم- أمام جموع الحجيج، ولم يكتف عثمان بذلك كله؛ بل بعث إلى عمال الأمصار أنفسهم ليواجهوا الناس عندما يرفعون مظالمهم -إن وجدت- ثم ليسألهم أمير المؤمنين عما يتناقله الناس، وليشيروا عليه بالرأي الناصح السديد الرشيد( ).
ثالثـًا: مشورة عثمان لولاة الأمصار:
بعث عثمان ? إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجل؛ عبد الله بن عامر، ومعاوية ابن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص -وهم من الولاة السابقين-، وكانت جلسة مغلقة وخطيرة جرت فيها الأبحاث التالية التي تقرر خطة العمل الجديدة على ضوء الأخبار المتناهية إلى المدينة عاصمة دولة الإسلام.( ) قال عثمان: ويحكم ما هذه الشكاية؟ وما هذه الإذاعة؟ إني والله لخائف أن يكون مصدوقا عليكم وما يعصب( ) هذا إلا بي، فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيء؟ لا والله ما صدقوا ولا بروا، ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، وما كنت لتأخذ به أحد فيضمنك على شيء، وما هي إلا إذاعة لا يحل الأخذ بها، ولا الانتهاء إليها. قال: فأشيروا عليَّ، فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السر، فيلقى به غير ذي معرفة، فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم، قال: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم.
وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم، فإنه خير من أن تدعهم. قال معاوية: قد وليتني فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلا الخير، والرجلان أعلم بناحيتهما، قال: فما الرأي؟ قال: حسن الأدب، قال: فما ترى يا عمرو؟ قال: أرى أنك قد لنت لهم، وتراضيت عنهم، وزدتهم عما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبك فتشد في موضع الشدة, وتلين في موضع اللين، إن الشدة تنبغي لمن لا يألو الناس شرا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعا اللين. وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه فيكفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سده شيء فرفق، فذاك والله ليفتحن، وليست لأحد علىَّ حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا، ولا نفسي، ووالله إن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، كفكفوا الناس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تُدْهنوا فيها( ).
لقد خالف عثمان ? رأي أخيه عمرو باتباع الشدة، ولم يخالفه في اتباع سنة صاحبيه، فرحى الفتنة دائرة، ولا تعالج بالعنف؛ لأن العنف هو الذي يدير هذه الرحى، ولن يرضى أمير المؤمنين أن يكون صاحبها (فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها)، وكان واضحا صريحا ? فيما لا هوادة فيه وهي حدود الله، فلا مداهنة فيها وما غير ذلك؛ فالرفق أولى والمغفرة أفضل، ولا بد من تأدية الحقوق كلها.( )
وقد جاءت روايات بسند فيه ضعيف ومجهولون تشوه العلاقة بين عمرو بن العاص وعثمان رضي الله عنهما، وساهمت روايات ساقطة في مسخ صورة عمرو بن العاص ?، وتحويل علاقته بعثمان ? إلى علاقة فاتك خطط لقتل أميره، ثم عاد بانتهازية ليطالب بدمه.( ) وهذه الرواية ضعيفة ومرفوضة عند أهل التاريخ وأهل الحديث.( ) وقد جاء في رواية بسند فيها ضعفاء ومجهولون أيضا بأن عمرو بن العاص قال: يا عثمان: إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا, وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما.( ) وجاء في نفس الرواية أن عبد الله بن عامر قال: أرى لك أن تجمرهم
في هذه البعوث حتى يهم كل رجل منهم قمل فروة رأسه ودبر دابته، وتشغلهم عن الإرجاف بك( ).
إن عثمان ? منع الولاة من التنكيل بمثيري الشغب (حبسهم أو قتلهم)، وقرر أن يعاملهم بالحسنى واللين( ), وطلب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كل بصير يرى أنها قادمة( ).
1- اقتراحان لمعاوية يرفضهما عثمان رضي الله عنهما:
قبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشام، أتى إلى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي إلى الشام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث ما لا قبل لك بها.
قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله × بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذن أبعث لك جيشا من أهل الشام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة ليدافع عنك وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا، حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله × الأرزاق بجند تساكنهم، ولا أضيق على أهل الهجرة والنصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين, والله لتغتالن أو لتغزين، قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل( ).
لكأنما معاوية ? كان يعلم أن وراء تلك الفتن والشائعات يدا خبيثة تخطط لهدف مرهوب ليس دونه ضرب الخليفة والخلافة، لكن عثمان الخليفة الراشد كان له رأي آخر، فهو يريد أن يسير مع هؤلاء لآخر الطريق حتى لا يترك لهم حجة عند الله وعند الناس، فيفضحهم في الدنيا والآخرة، وتلك مصابرة عظيمة من هذا الإمام العادل العظيم( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالأربعاء يناير 20, 2010 12:13 am

- عثمان يخترق صفوف المتآمرين بعد مجيئهم للمدينة:
كان أمير المؤمنين عثمان من اليقظة والوعي ما يجعله يحقق بقلم استخباراته مع هؤلاء المتآمرين، حيث بث في صفوفهم رجلين من المسلمين كانا قد عوقبا من الخليفة ليطمئن المتآمرون إليهم، فقد أرسل عثمان رجلين، مخزوميا وزهريا فقال: انظرا ما يريدون واعلما علمهم، وكانا مما نالهما من عثمان أدب فاصطبرا للحق ولم يضطغنا، فلما رأوهما باثوهما وأخبروهما بما يريدون، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة، قالوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قالوا: لا، قالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ وشرح هؤلاء القوم للرجلين أبعاد المؤامرة كاملة والخطة المقترحة، وقالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قررناه بها فلم يخرج ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه وكانت إياها، فرجعا إلى عثمان فضحك وقال: اللهم سلم هؤلاء فإنك إن لم تسلمهم شقوا. فأرسل إلى الكوفيين والبصريين ونادى: الصلاة جامعة، وهم عنده في أصل المنبر، فأقبل أصحاب رسول الله × حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وحقيقة ما يريدون من تأكيد الشبهات عليه تمهيدا للخروج عليه وخلعه أو قتله، وقام الرجلان اللذان حادثا السبئيين، فشهدا بما أخبروهما به، فقال المسلمون جميعا في داخل المسجد: اقتلهم يا أمير المؤمنين، لأنهم يريدون الخروج على أمير المؤمنين، وتفريق كلمة المسلمين. ورفض عثمان ? دعوة الصحابة لقتلهم؛ لأنهم مسلمون في الظاهر، من رعيته، ولا يرضى أن يقال: عثمان يقتل مسلمين مخالفين له، ولذلك رد عثمان بن عفان على تلك الدعوة قائلا: لا نقتلهم، بل نعفو ونصفح، ونبصرهم بجهدنا، ولا نقتل أحدا من المسلمين، إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب القتل، أو أظهر ردة وكفرا( ).
رابعًا: إقامة الحجة على المتمردين:
ثم دعا عثمان القوم السبئيين إلى عرض ما عندهم من شبهات وإظهار ما يرونه من أخطاء وتجاوزات ومخالفات وقع هو فيها، وكانت جلسة مصارحة ومكاشفة في المسجد على مرأى ومسمع من الصحابة والمسلمين، فتكلم السبئيون وعرضوا الأخطاء التي ارتكبها عثمان - على حد زعمهم-, وقام عثمان ? بالبيان والإيضاح وقدم حججه وأدلته فيما فعل، والمسلمون المنصفون يسمعون هذه المصارحة والمحاسبة والمكاشفة، وأورد عثمان ما أخذوه عليه، ثم بين حقيقة الأمر ودافع عن حسن فعله، وأشهد معه الصحابة الجالسين في المسجد( ).
1- قال: قالوا: إني أتممت الصلاة في السفر، وما أتمها قبلي رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، لقد أتممت الصلاة لما سافرت من المدينة إلى مكة، ومكة بلد فيها أهلي فأنا مقيم بين أهلي ولست مسافرا، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
2- وقالوا: إني حميت حمى، وضيَّقت على المسلمين، وجعلت أرضا واسعة خاصة لرعي إبلي، ولقد كان الحمى قبلي لإبل الصدقة والجهاد، حيث جعل الحمى كل من رسول الله وأبو بكر وعمر، وأنا زدت فيه لما كثرت إبل الصدقة والجهاد، ثم لم نمنع ماشية فقراء المسلمين من الرعي في ذلك الحمى، وما حميت لماشيتي، ولما وليت الخلافة كنت من أكثر المسلمين إبلا وغنما، وقد أنفقتها كلها، ومالي الآن ثاغية ولا راغية، ولم يبق لي إلا بعيران، خصصتهما لحجي، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
3- وقالوا: إني أبقيت نسخة واحدة من المصاحف، وحرقت ما سواها، وجمعت الناس على مصحف واحد، ألا إن القرآن كلام الله، من عند الله، وهو واحد، ولم أفعل سوى أن جمعت المسلمين على القرآن، ونهيتهم عن الاختلاف فيه، وأنا في فعلي هذا تابع لما فعله أبو بكر، لما جمع القرآن، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
4- وقالوا: إني رددت الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان رسول الله × نفاه إلى الطائف، إن الحكم بن العاص مكي، وليس مدنيا، وقد سيره رسول الله × من مكة إلى الطائف، وأعاده الرسول × إلى مكة بعدما رضي عنه، فالرسول × سيره إلى الطائف، وهو الذي رده وأعاده، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
5- وقالوا: إني استعملت الأحداث ووليت الشباب صغار السن، ولم أولِّ إلا رجلا فاضلا محتملا مرضيا، وهؤلاء الناس أهل عملهم فسلوهم عنهم. ولقد ولى الذين من قبلي من هم أحدث منهم وأصغر منهم سنا، ولقد ولى رسول الله × أسامة بن زيد وهو أصغر ممن وليته، وقالوا لرسول الله × أشد مما قالوا لي، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم، إن هؤلاء الناس يعيبون للناس ما لا يفسرونه ولا يوضحونه.
6- وقالوا: إني أعطيت عبد الله بن سعد بن أبي السرح ما أفاء الله به، وإنما أعطيته خمس الخمس -وكان مئة ألف- لما فتح أفريقية، جزاء جهده، وقد قلت له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك خمس الخمس من الغنيمة نفلا، وقد فعلها قبلي أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ومع ذلك قال لي الجنود المجاهدون: إنا نكره أن تعطيه خمس الخمس ولا يحق لهم الاعتراض والرفض، فأخذت خمس الخمس من ابن سعد ورددته على الجنود، وبذلك لم يأخذ ابن سعد شيئا، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم.
7- وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لأهل بيتي فإنه لم يحملني على أن أميل معهم إلى جور وظلم الآخرين، بل أحمل الحقوق عليهم وآخذ الحق منهم، وأما إعطاؤهم فإني أعطيهم من مالي الخاص، وليس من أموال المسلمين، لأني لا أستحل أموال المسلمين، ولا لأحد من الناس. ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله × وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وجعلت مالي الذي لي لأهلي وأقاربي، قال الملحدون ما قالوا؟ وإني والله ما أخذت من مصر من أمصار المسلمين مالا ولا فضلا، ولقد رددت على تلك الأمصار الأموال، ولم يحضروا إلى المدينة إلا الأخماس من الغنائم، ولقد تولى المسلمون تقسيم تلك الأخماس، ووضعها في أهلها، ووالله ما أخذت من تلك الأخماس وغيرها فِلْسًا فما فوقه، وإنني لا آكل إلا من مالي، ولا أعطي أهلي إلا من مالي.
8- وقالوا: إني أعطيت الأرض المفتوحة لرجال معينين، وإن هذه الأرضين المفتوحة قد اشترك في فتحها المهاجرون والأنصار وغيرهم من المجاهدين، ولما قسمت هذه الأراضي على المجاهدين الفاتحين، منهم من أقام بها واستقر فيها، ومنهم من رجع إلى أهله في المدينة
أو غيرها، وبقيت تلك الأرض ملكا له، وقد باع بعضهم تلك الأراضي، وكان ثمنها
في أيديهم.
وبذلك أورد عثمان ? أهم الاعتراضات التي أثيرت عليه، وتولي توضيحها، وبيان وجه الحق فيها.( ) وترى من ذلك الدفاع المحكم الذي دافع به عثمان بن عفان ?, وساجل الصحابة فيه وذاكرهم إياه صورة لما كان يجري من النقد المر العنيف له ? وما كان يشيعه السبئيون من قالة السوء، وما يعملون على ترويجه من باطل مزيف، فقد أجمل ? ذكر الاعتراضات التي كانوا يعترضون بها عليه، وبيَّن وجه الحق فيما يفعل، وأنه كان على بينة من أمره وعلى حجة من دينه، ولكنهم مغرضون لا يريدون رشادا، ولا يبغون سدادا، فمجادلته لهم مجادلة رجل مخلص مع آخر يتربص به الدوائر ويتسقط هفواته لينفذ أغراضا, ويلقى في نفوس الناس عنه إعراضا، ومن كان شأنه كذلك لا تقنعه الحجة، ولا يهديه الدليل، ومن يضلل الله فلا هادي له( ).
وقد سمع كلامه وتوضيحه زعماء أهل الفتنة الذين بجانب المنبر، كما سمعه الصحابة الكرام ومن معهم من المسلمين الصالحين، وتأثر المسلمون بكلام عثمان وبيانه وتوضيحه وصدقوه فيما قال، وازدادوا له حبًّا، وأما السبئيون دعاة الفتنة والفرقة، فلم يتأثروا بذلك ولم يتراجعوا؛ لأنهم لم يكونوا باحثين عن حق، ولا راغبين في خير، إنما كان هدفهم الفتنة، والكيد للإسلام والمسلمين. وقد أشار الصحابة والمسلمون على عثمان بقتل أولئك السبئيين (زعماء الفتنة) بسبب ما ظهر من كذبهم وتزويرهم، وحقدهم بل أصروا عليه في قتلهم، ليتخلص المسلمون من شرهم، وتستقر بلاد المسلمين ويقضي على الفتنة التي يثيرها هؤلاء وأتباعهم، ولكن عثمان كان له رأي آخر وتحليل مغاير، فآثر أن يتركهم، ورأي عدم قتلهم محاولة منه لتأخير وقوع الفتنة، ولم يتخذ عثمان ضد السبئيين القادمين من مصر والكوفة والبصرة أي إجراء مع علمه بما يخططون ويريدون، وتركهم يغادرون المدينة ويعودون إلى بلادهم( ).
خامسًا: الاستجابة لبعض مطالبهم:
استجاب لبعض مطالبهم في خلع بعض الولاة وتولية من طلبوا توليته، هذه الأساليب كافية في المعالجة وإقامة الحق والعدل لو كانت الأمور تسير في وضعها الطبيعي، لكن الواقع أن وراء هذه الشكاوى والإثارات أمورًا خفية، وأحقادا جاهلية تسعى لإثارة الفتنة بين المسلمين وتفريق وحدتهم، ووقوع ما أخبر به النبي × من استشهاد عثمان ?( ).
سادسًا: ضوابط التعامل مع الفتن عند عثمان ?:
إن المتأمل في هدي عثمان ? في تعامله مع الفتنة التي وقعت في عهده يمكنه أن يستنبط بعض الضوابط التي تعين المسلم في مواجهته للفتن، ومن هذه الضوابط:
1- التثبت: فقد أرسل لجان تفتيش للأمصار واستمع لأهلها، واستطاع أن يخترق جماعة السبئيين ويقف على حقيقة أمرهم، ولم يستعجل في إصداره للأحكام عليهم.
2- لزوم العدل والإنصاف: فقد اتضح هذا الضابط في كتابه للأمصار، وطلب
ممن ادعى أنه شتم أو ضرب من الولاة فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان منه
أو من عماله( ).
3- الحلم والأناة: ويتضح هذا الضابط في كتابه لأهل الكوفة عندما طلبوا عزل سعيد بن العاص وتعيين أبا موسى الأشعري وقد جاء في هذا الكتاب: «.. والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولاستصلحنَّكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه».( )
4- الحرص على ما يجمِّع، ونبذ ما يفرق بين المسلمين: ولذلك جمع الناس على مصحف واحد كما مر معنا، وعندما عرض عليه الأشتر النخعي عروضا ثلاثة -يأتي تفصيلها بإذن الله- قال عثمان: «... وإن قتلتموني فلم أرتكب ما يوجب قتلي، والله لئن قتلتموني فإنكم لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون جميعا بعدي أبدا، ولا تقاتلون العدو جميعا بعدي».( )
5- لزوم الصمت والحذر من كثرة الكلام: من خلال سيرة عثمان ? تتضح صفة قلة كلامه إلا فيما ينفع من علم أو نصح أو توجيه أو رد اتهامات باطلة، وقد كان ? كثير الصمت قليل الكلام.
6- استشارة العلماء الربانيين: فقد كان ? يستشير علماء الصحابة كعلي، وطلحة، والزبير، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم جميعا، فالعلماء هم صمام الأمان، والملجأ في الخطوب المدلهمة والفتن المظلمة؛ لأنهم أبصر الناس بحالها، وأعرفهم بمآلها، فمن التجأ إليهم وجد الفهم السليم والنظر الصحيح، والموقف الشرعي الواضح( ).
7- الاسترشاد بأحاديث رسول الله × في الفتن: إن منهج عثمان ? أثناء الفتنة ومسلكه مع المتمردين الذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث ولا ضغط الواقع؛ بل كان منهجا نابعا من مشكاة النبوة؛ حيث أمره رسول الله × بالصبر والاحتساب وعدم القتال حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وقد وفَّى ذو النورين ? بوعده وعهده لرسول الله × طوال أيام خلافته حتى خر شهيدا مضرجًا بدمائه الطاهرة الزكية( ).
وقد قال محب الدين الخطيب: الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار، هو أنه كان يكره الفتنة، ويتقي الله في دماء المسلمين، إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يهابها البغاة، فيرتدعون عن بغيهم، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة، وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته فأبى أن يضيق على أهل دار الهجرة بجند يساكنهم، وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر إلى الله في سبيل دينه، فلما تذاءب عليه البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافا، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف. والأخبار بذلك مستفيضة في مصادر أوليائه وشانئيه، على أنه لو ظهرت في الميدان قوة منظمة ذات هيبة تقف في وجوه الثوار، وتضع حدا لغطرستهم وجاهليتهم، لارتاح عثمان لذلك وسر به، مع ما هو مطمئن إليه من أنه لن يموت إلا شهيدا( ).
* * *

المبحث الثالث
احتلال أهل الفتنة للمدينة
أولاً: قدوم أهل الفتنة من الأمصار:
اتفق أهل الفتنة فيما بينهم على القيام بخطوتهم العملية النهائية في مهاجمة عثمان في المدينة، وحمله على التنازل عن الخلافة وإلا يقتل، وقرروا أن يأتوا من مراكزهم الثلاثة: مصر والكوفة والبصرة في موسم الحج، وأن يغادروا بلادهم مع الحجاج، وأن يكونوا في صورة الحجاج، وأن يعلنوا للآخرين أنهم خارجون للحج، فإذا وصلوا المدينة، تركوا الحجاج يذهبون إلى مكة لأداء مناسك الحج، واستغلوا فراغ المدينة من معظم أهلها -المشغولين بالحج- وقاموا بمحاصرة عثمان تمهيدا لخلعه أو قتله.( ) وفي شوال سنة خمس وثلاثين كان أهل الفتنة على مشارف المدينة( ), فقد خرج المتمردون من مصر في أربع فرق لكل فرقة أمير، ولهؤلاء الأمراء أمير ومعهم شيطانهم عبد الله بن سبأ وأمراء الفرق الأربعة، هم: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشير التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وأمير هؤلاء الأمراء هو الغافقي بن حرب العكي، وكان عدد الفرق الأربعة ألف رجل. وخرج المتمردون من الكوفة ألف رجل، في أربع فرق، وأمراء فرقهم هم: زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، وأمير متمردي الكوفة هو عمرو بن الأصم. وخرج متمردو البصرة ألف رجل، في أربع فرق، وأمراء فرقهم، هم: حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد، وبشر بن شريح القيسي، وابن المحرش ابن عبد الحنقي، وأمير متمردي البصرة هو حرقوص بن زهير السعدي. وكان عبد الله بن سبأ يسير مع هؤلاء مزهوا مسرورا بنجاح خطته اليهودية الشيطانية، وكان أهل الفتنة من مصر يريدون علي بن أبي طالب خليفة، وكان أهل الفتنة من الكوفة يريدون الزبير بن العوام خليفة، وكان أهل الفتنة من البصرة يريدون طلحة بن عبيد الله.( ) وهذا العمل منهم كان بهدف الإيقاع بين الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ما ذهب إليه الآجري حيث قال: وقد برأ الله -عز وجل- علي بن أبي طالب ? وطلحة والزبير رضي الله عنهم من هذه الفرق، وإنما أظهروا ليموهوا على الناس وليوقعوا بين الصحابة، وقد أعاذ الله الكريم الصحابة من ذلك( ).
وبلغ خبر قدومهم عثمان ? قبل وصولهم، وكان في قرية خارج المدينة فلما سمعوا بوجوده فيها، اتجهوا إليه فاستقبلهم فيها، ولم تصرح لنا الروايات باسم هذه القرية، ويحدد المدائني تاريخ قدومهم بليلة الأربعاء هلال ذي القعدة( ), وكان أول من وصل المصريين، فقالوا لعثمان: ادع بالمصحف فدعا به، فقالوا: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس بالسابعة، فقرأ حتى أتى هذه الآية: +قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ" [يونس: 59].
فقالوا له: قف أرأيت ما حميت من الحمى؟ الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد من إبل الصدقة. امضه، قال: فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول: امضه نزلت في كذا فما يزيدون، فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه شرطا، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين( ).
* علي بن أبي طالب يرسله عثمان للمفاوضة مع أهل الفتنة من الأمصار:
ونزل القوم في ذي المروة، قبل مقتله بما يقارب شهرا ونصفا، فأرسل عثمان إليهم عليا ? ورجلا آخر لم تسمه الروايات، والتقى بهم علي ? فقال لهم: تعطون كتاب الله وتعتبون من كل ما سخطتم، فوافقوا على ذلك.( ) وفي رواية أنهم شادوه، وشادهم مرتين أو ثلاثا، ثم قالوا: ابن عم رسول الله × ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله فقبلوا( )، فاصطلحوا على خمس: على أن المنفى يقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة، وكتبوا ذلك في كتاب، وأن يرد ابن عامر على البصرة، وأن يبقى أبو موسى على الكوفة( ).
وهكذا اصطلح عثمان ? مع كل وفد على حدة ثم انصرفت الوفود إلى ديارها( ).
* الكتاب المزعوم بقتل وفد أهل مصر:
وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعا راضين تبين لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططوا تخطيطا آخر يذكي الفتنة ويحييها يقتضي تدمير ما جرى من صلح بين أهل الأمصار وعثمان ?، وبرز ذلك فيما يأتي: في أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم -يُظهر أنه هارب منهم- فكأنه يقول: خذوني، فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان ? وعليه خاتمه إلى عامله، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها( ). ونفى عثمان ? أن يكون كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت، ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم، فلم يصدقوه( ).
وهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه من عثمان، وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحد من إبل الصدقة إلى عامله بمصر ابن أبي السرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان، وذلك لعدة أمور:
1- إن حامل الكتاب المزور قد تعرض لهؤلاء المصريين ثم فارقهم، وكرر ذلك مرارا، وهو لم يفعل ذلك إلا ليلفت أنظارهم إليه، ويثير شكوكهم فيه، وكأنه يقول لهم: معي شيء هام بشأنكم. وإلا فلو كان من عثمان لخافهم حامل الكتاب المزعوم، ولأبعد عنهم, وأسرع إلى والي مصر ليضع بين يديه الأمر فينفذه.
2- كيف علم العراقيون بالأمر وقد اتجهوا إلى بلادهم، وفصلتهم عن المصريين -الذين أمسكوا بالكتاب المزعوم- مسافة شاسعة؛ فالعراقيون في الشرق والمصريون في الغرب، ومع ذلك عادوا جميعا في آن واحد كأنما كانوا على ميعاد؟ لا يعقل هذا إلا إذا كان الذين زوروا الكتاب واستأجروا راكبا ليحمله ويمثل الدور في (البويب) أمام المصريين، قد استأجروا راكبا آخر انطلق إلى العراقيين ليخبرهم بأن المصريين قد اكتشفوا كتابا بعث به عثمان لقتل المنحرفين المصريين، وهذا ما احتج به علي بن أبي طالب ? فقد قال: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا( ). بل إن عليًّا يجزم: هذا والله أمر أبرم بالمدينة( ).
3- كيف يكتب عثمان إلى ابن أبي السرح بقتل هؤلاء وابن أبي السرح كان عقب خروج المتمردين من مصر متجهين إلى المدينة كتب إلى الخليفة يستأذنه بالقدوم عليه، وقد تغلب على مصر محمد بن أبي حذيفة، وفعلا خرج ابن أبي السرح من مصر إلى العريش وفلسطين فالعقبة، فكيف يكتب له عثمان بقتلهم وعنده كتابه الذي يستأذنه به منه بالقدوم عليه؟
4- إن عثمان ? قد نهى عن قتل المتمردين عندما حاصروه وأبى على
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالأربعاء يناير 20, 2010 12:14 am

الصحابة أن يدافعوا عنه، ولم يأمر بقتال الخارجين دفاعا عن نفسه، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فكيف يكتب مثل هذا الكتاب المزور وقد خرجوا عنه من المدينة مظهرين التوبة والإنابة.
5- تخلف حُكيم بن جبلة والأشتر النخعي -بعد خروج المتمردين- في المدينة يشير إشارة واضحة إلى أنهما هما اللذان افتعلا الكتاب، إذ لم يكن لهما أي عمل بالمدينة ليتخلفا فيها، وما مكثا إلا لمثل هذا الغرض، فهما صاحبا المصلحة في ذلك.( ) وربما كان ذلك بتوجيه من عبد الله بن سبأ, ولم يكن لعثمان ? في ذلك أية مصلحة، وكذلك ليس لمروان بن الحكم أية مصلحة، والذين يتهمون مروان في هذا إنما ينسبون إلى الخليفة الغفلة عن مهامه، وأن في ديوان الخلافة من يجري الأمور ويقضي بها دون علمه، وبذلك يبرئون ساحة أولئك المجرمين الناقمين، الغادرين، ثم لو أن مروان زور الكتاب لكان أوصى حامل ذلك الكتاب أن يبتعد عن أولئك المنحرفين، ولا يتعرض لهم في الطريق حتى يأخذوه وإلا لكان متآمرا معهم على عثمان، وهذا محال.
6- إن هذا الكتاب المشئوم ليس أول كتاب يزوره هؤلاء المجرمون، بل زوروا كتبا على لسان أمهات المؤمنين، وكذلك على لسان علي وطلحة والزبير، فهذه عائشة -رضي الله عنها- تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي وتقول: لا والذي آمن به المؤمنون, وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا( ).
ويعقب الأعمش فيقول: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها.( ) ويتهم الوافدون عليا بأنه كتب إليهم أن يقدموا عليه بالمدينة، فينكر ذلك عليهم، ويقسم: والله ما كتبت إليكم كتابا.( ) كما ينسب إلى الصحابة بكتابة الكتب إلى أهل الأمصار يأمرونهم بالقدوم إليهم، فدين محمد قد فسد وترك، والجهاد في المدينة خير من الرباط في الثغور البعيدة.( ) ويعلق ابن كثير على هذا الخبر قائلا: وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، فقد كتب من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج -قتلة عثمان- كتبٌ مزورة عليهم أنكروها، وكذلك زور هذا الكتاب على عثمان أيضا، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم به.( ) ويؤكد كلام ابن كثير ما رواه الطبري وخليفة من استنكار كبار الصحابة -علي وعائشة والزبير- أنفسهم لهذه الكتب في أصح الروايات.( ) إن الأيدي المجرمة التي زورت الرسائل الكاذبة على لسان أولئك الصحابة هي نفسها التي أوقدت نار الفتن من أولها إلى آخرها، ورتبت ذلك الفساد العريض، وهي التي زورت وروجت على عثمان تلك الأباطيل، وأنه فعل وفعل، ولقنتها للناس، حتى قبلها الرعاع، ثم زورت على لسان عثمان ذلك الكتاب ليذهب عثمان ضحية إلى ربه شهيدا سعيدا. ولم يكن عثمان الشهيد هو المجني عليه وحده في هذه المؤامرة السبئية اليهودية، بل الإسلام نفسه كان مجنيا عليه قبل ذلك، ثم التاريخ المشوه المحرف والأجيال الإسلامية التي تلقت تاريخها مشوها هي كذلك ممن جنى عليهم الخبيث اليهودي، وأعوانه من أصحاب المطامع والشهوات والحقد الدفين، أما آن للأجيال الإسلامية أن تعرف تاريخها الحق، وسير رجالاتها العظام؟ بل ألم يأن لمن يكتب في هذا العصر من المسلمين أن يخاف الله ولا يتجرأ على تجريح الأبرياء، قبل أن يحقق ويدقق حتى لا يسقط كما سقط غيره؟!.( )
ثانيًا: بدء الحصار ورأي عثمان في الصلاة خلف أئمة الفتنة:
لم تفصِّل الروايات الصحيحة كيفية بدء الحصار ووقوعه، ولعل الأحداث التي سبقته تلقي شيئا من الضوء على كيفية بدئه، فبينما كان عثمان ? يخطب الناس ذات يوم إذا برجل -يقال له أعين( ) - يقاطعه ويقول له: يا نعثل( ), إنك قد بدلت، فقال عثمان ?: من هذا؟ فقالوا: أعين، قال عثمان: بل أنت أيها العبد، فوثب الناس إلى أعين، وجعل رجل من بني ليث يزعهم عنه حتى أدخله الدار.( ) وكان رجوع المتمردين الثاني، وقبل اشتداد الحصار كان عثمان ? يتمكن من الخروج للصلاة ودخول من شاء إليه، ثم مُنع من الخروج من الدار حتى إلى صلاة الفريضة( )، فكان يصلي بالناس رجل من المحاصِرين من أئمة الفتنة، حتى إن عبيد الله بن عدي بن الخيار تحرج من الصلاة خلفه، فاستشار عثمان في ذلك، فأشار عليه بأن يصلي خلفه، وقال له: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.( ) وفي بعض الروايات الضعيفة أن الذي كان يصلي بالناس هو أميرهم الغافقي( ). ولا صحة لما روى الواقدي من أن عليًّا ? أمر أبا أيوب الأنصاري أن يصلي بالناس فصلى بهم أول الحصر، ثم صلى علي ? بهم العيد وما بعده.( ) وإضافة إلى شدة ضعف إسناد هذه الرواية، فلو كان الذي يصلي بالناس هو علي، أو أبو أيوب -رضي الله عنهما- لما تحرج عبيد الله بن عدي بن الخيار من الصلاة خلفهما( ).
ثالثـًا: المفاوضات بين عثمان ومحاصريه:
وبعد أن تم الحصار، وأحاط الخارجون على عثمان ? بالدار طلبوا منه خلع نفسه أو يقتلوه( ), فقد رفض عثمان ? خلع نفسه، وقال: لا أخلع سربالا سربلنيه الله.( ) يشير إلى ما أوصاه به رسول الله × بينما كان قلة من الصحابة -رضوان الله عليهم- يرون خلاف ما ذهب إليه, وأشار عليه بعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه، ومن هؤلاء المغيرة بن الأخنس ?، لكنه رفض ذلك( ).
1- ابن عمر يحث عثمان على عدم التنازل عن منصب الخلافة:
دخل ابن عمر على عثمان -رضي الله عنهما- أثناء حصاره، فقال له عثمان ?: انظر إلى ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا خلعتها أمخلد أنت في الدنيا؟ فقال عثمان ?: لا، قال: فإن لم تخلعها هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال عثمان ?: لا، قال: فهل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال: لا، قال: فلا أرى لك أن تخلع قميصا قمَّصكه الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه( ).
رضي الله عن عبد الله بن عمر، ما كان أبعد نظره، إنه لا يريد أن يسن عثمان سنة سيئة للخلفاء، وحاشا لعثمان أن يفعل، فلو تنازل عثمان لهؤلاء الخوارج السبئيين وخلع نفسه، لصار الخلفاء ألعوبة وملهاة بأيدي الطامعين أو المغرضين، وبذلك تهتز صورة الخليفة، وتزول هيبته عند الناس، ولقد سن عثمان سنة حسنة لمن بعده بمشورة ابن عمر وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم؛ حيث صبر واحتسب فلم يتنازل عن الخلافة ولم يسفك دماء المسلمين( ).
إن الاستجابة لمطالب المتمردين، وهم فئة قليلة من الأمة ليسوا من أهل الحل والعقد، ولا من رجالات الإسلام وفقهاء الشريعة، ستكون لها آثار خطيرة على مسيرة الأمة، وهيبة الخلافة وعلاقة الراعي بالرعية، وكان ثمن دفع هذه الآثار السيئة أن دفع الخليفة حياته، وهو يعلم بمصيره ويستسلم له, وهو أمر ثقيل على النفس، ولكنه قدم مصالح الأمة على مصلحته الشخصية، مما يكشف عن قوة وعزيمة، وشجاعة ومضاء، ويرد به على تلك التهم التي وجهت إليه من ضعف في هذه الصفات، فإنه ? كان قادرا - بإذن الله - على كبح الفتنة، ولكنه قدر حدوث مفاسد تغلب على مصلحة كبحها، فأعرض عن ذلك درءا لها، وبذلك يعلم خطأ العقاد عندما قال بأن قتل عثمان لا يوصف بأكثر من أنه (مشاغبة دهماء) لم تجد من يكبحها.( ) فإن في ذلك غمزا في شخصية وشجاعة عثمان ?، وهي حقا فتنة دهماء، ولكن عدم كبحها يعد منقبة لعثمان ?، لما فيه من تضحية في سبيل الله رجاء تحصيل مصلحة للأمة، وعملا بوصية رسول الله ×( ).
2- توعد المحاصرين له بالقتل:
وبينما كان عثمان ? في داره، والقوم أمام الدار محاصروها دخل ذات يوم مدخل الدار، فسمع توعد المحاصرين له بالقتل، فخرج من المدخل ودخل على من معه في الدار ولونه ممتقع، فقال: إنهم ليتوعدونني بالقتل آنفا، فقالوا له: يكفيكم الله يا أمير المؤمنين، فقال: ولِمَ يقتلونني وقد سمعت رسول الله × يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس»؟ فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسا، ففيم يقتلونني؟!( ) ثم أشرف على المحاصرين وحاول تهدئة ثورتهم عن خروجهم على إمامهم، مضمنا كلامه الرد على ما عابوه به، وكشف الحقائق التي لبَّسها القوم، عسى أن يفيق المغرور بهم ويعودوا إلى رشدهم، فطلب من المحاصرين أن يخرجوا له رجلا يكلمه، فأخرجوا له شابا يقال له: صعصعة بن صوحان، فطلب عثمان ? أن يبين له ما نقموه عليه( ).
3- إقامة عثمان الحجة على زيف استدلال صعصعة:
قال صعصعة: أخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله، فقال له عثمان ?:
اتل -أي استدل بالقرآن- فقرأ: +أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ" [الحج: 39].
فقال عثمان: ليست لك، ولا لأصحابك، ولكنها لي ولأصحابي، فقرأ عثمان الآية التي استدل بها صعصعة وما بعدها، مما يفسرها ويبين زيف استدلال صعصعة بها فتلا: +أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ? الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ? الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" [الحج: 39- 41]. فأفهم عثمان ? الناس الآيات فهما صحيحا كما نزلت، مبينا سبب نزولها وفيمن نزلت، وعلى ما تدل؛ لئلا يلبس عليهم من قرأ القرآن، وهو لا يعرف معناه ويستدل به على ما يضاد مراده.( ) كما أن نفي عثمان لمن نفاه إنما هو عمل بالآية التي تلي الآية التي استدل بها صعصعة، فإنها تأمر من مكنه الله في الأرض أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وعثمان خليفة، ونفيهم أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، لما قاموا به من تعدٍّ على بعض المسلمين، ومن محاولات لإثارة الفتنة.( )
4- تذكير عثمان ? الناس بفضائله:
وبعد أن رد عثمان ? على هؤلاء ذكَّر الناس بمكانته وببعض فضائله، مناشدا من يعلمها أو سمعها من رسول الله × ليبينها للناس، فقد قال: أنشد الله من شهد رسول الله × يوم حراء إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: اسكن حراء، ليس عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد وأنا معه. فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة فقال: هذه يدي وهذه يد عثمان، فبايع لي، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رسول الله × قال: من يوسع لنا البيت في المسجد ببيت له في الجنة، فابتعته من مالي فوسعت به المسجد، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رسول الله × يوم جيش العسرة قال: من ينفق اليوم نفقة متقبلة؟ فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال، ثم قال: أنشد الله من شهد رومة يباع ماؤها ابن السبيل فابتعتها من مالي فأبحتها ابن السبيل، قال: فانتشد له رجال.( )
وعن أبي ثور الفهمي يقول: قدمت على عثمان، فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا، فدخلت على عثمان فأعلمته، قال: فكيف رأيتهم؟ فقلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله × فصلى بهم الجمعة، وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قال فيهم، فقال: كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت، إني رابع أربعة في الإسلام، ولقد أنكحني رسول الله × ابنته، ثم توفيت, فأنكحني ابنته الأخرى، ولا زنيت ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله ×، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله ×, ولا أتت عليَّ جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة، فأجمعها في الجمعة الثانية( ).
ولما رأى عثمان ? إصرار المتمردين على قتله حذرهم من ذلك ومن مغبته فاطلع عليهم من كوة( ) وقال لهم: أيها الناس، لا تقتلوني واستعتبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلوا جميعا أبدا، ولا تجاهدوا عدوا أبدا، لتختلفن حتى تصيروا هكذا، وشبك بين أصابعه.( ) وفي رواية أنه قال: أيها الناس، لا تقتلوني، فإني والٍ وأخ مسلم، فوالله إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت، أصبت أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعا أبدا، ولا تغزوا جميعا أبدا، ولا يقسم فيئكم بينكم( ). وقال أيضا: فوالله لئن قتلوني لا يحابون بعدي أبدا، ولا يقاتلون بعدي أبدا.( ) وقد تحقق ما حذرهم منه؛ فبعد قتله وقع كل ما قاله ?، وفي ذلك يقول الحسن البصري: فوالله إن صلى القوم جميعا إن قلوبهم لمختلفة.( )
رابعًا: دفاع الصحابة عن عثمان ? ورفضه لذلك:
أرسل عثمان ? إلى الصحابة -رضي الله عنهم- يشاورهم في أمر المحاصرين وتوعدهم إياه بالقتل، فكانت مواقفهم كالآتي:
1- علي بن أبي طالب ? :
فقد أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله ? أن عليا أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئا يستحل به دمك، فقال: جُزيت خيرا، ما أحب أن يهراق دم في سببي( ).
2- الزبير بن العوام ?:
عن أبي حبيبة( ) قال: بعثني الزبير إلى عثمان وهو محاصر فدخلت عليه في يوم صائف وهو على كرسي، وعنده الحسن بن علي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فقلت: بعثني إليك الزبير بن العوام وهو يقرئك السلام ويقول لك: إني على طاعتي لم أبدل ولم أنكث، فإن شئت دخلت الدار معك، وكنت رجلا من القوم، وإن شئت أقمت، فإن بني عمرو بن عوف وعدوني أن يصبحوا على بابي، ثم يمضون على ما آمرهم به، فلما سمع -يعني عثمان- الرسالة قال: الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي، أقرئه السلام، ثم قل له: أحبّ إليَّ، وعسى الله أن يدفع بك عني، فلما قرأ الرسالة أبو هريرة قام فقال: ألا أخبركم ما سمعت أذناي من رسول الله ×؟ قالوا: بلى، قال: أشهد لسمعت رسول الله × يقول: «تكون بعدي فتن وأمور»، فقلنا: فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: «إلى الأمين وحزبه»، وأشار إلى عثمان بن عفان، فقام الناس فقالوا: قد أمكنتنا البصائر، فأذن لنا في الجهاد؟ فقال: (أعزم على من كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل)( ).
3- المغيرة بن شعبة ?:
فقد ورد أن المغيرة بن شعبة ? دخل عليه وهو محاصر، فقال: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالا ثلاثة اختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم، فإن معك عددا وقوة، وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابا سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون
أول من خلف رسول الله × في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني, فإني سمعت رسول الله × يقول: «يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم»، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة الرسول( ).
4- عبد الله بن الزبير ?:
عزم الصحابة -رضي الله عنهم- على الدفاع عن عثمان، ودخل بعضهم الدار، ولكن عثمان ? عزم عليهم بشدة، وشدد عليهم في الكف عن القتال دفاعا عنه، مما حال بين رغبتهم الصادقة في الدفاع عنه وبين تحقيقها، وكان من ضمن أولئك عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فقد قال لعثمان ?: قاتلهم، فوالله لقد أحل الله لك قتالهم، فقال عثمان: لا والله، لا أقاتلهم أبدا( ).
وفي رواية: يا أمير المؤمنين، إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منها فأذن لنا، فقال عثمان ?: أنشد الله رجلا أهراق فيَّ دمه( )، ثم أمَّره على الدار، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليطع عبد الله بن الزبير( ).
5- كعب بن مالك، وزيد بن ثابت الأنصاريان رضي الله عنهما:
حث كعب بن مالك ? الأنصار على نصرة عثمان ? وقال لهم: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان ووقفوا بابه، ودخل زيد بن ثابت ? وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئت كنا أنصار الله مرتين.( ) فرفض القتال وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا( ).
6- الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
وجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما، وقال له: اخترط سيفي؟ قال له: لا أبرأ( ) الله إذًا مِنْ دمك، ولكن ثم( ) سيفك، وارجع إلى أبيك( ).
7- عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
ولما رأى الصحابة أن الأمر استفحل، وأن السيل بلغ الزبى( ) عزم بعضهم على الدفاع عنه دون استشارته، فدخل بعضهم الدار مستعدا للقتال، فقد كان ابن عمر معه في الدار، متقلدا سيفه لابسا درعه ليقاتل دفاعا عن عثمان ?، ولكن عثمان عزم عليه أن يخرج من الدار خشية أن يتقاتل مع القوم عند دخولهم عليه فيقتل، كما لبسه مرة أخرى( ).
8- أبو هريرة ?:
دخل الدار على عثمان يقول: يا أمير المؤمنين، طاب أمضرب( )، فقال له: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإياي؟ قال: لا، قال: فإنك والله إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قُتِل الناس جميعا، فرجع ولم يقاتل. وفي رواية: أن أبا هريرة كان متقلدا سيفه حتى
نهاه عثمان( ).
9- سليط بن سليط:
قال: نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها.( )
ويقول ابن سيرين: كان مع عثمان في الدار سبعمائة، لو يدعهم لضربوهم إن شاء الله حتى يخرجوهم من أقطارها، منهم: ابن عمر، والحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير. ويقول أيضا: لقد قتل عثمان يوم قتل وإن الدار لغاصة، منهم ابن عمر وفيهم الحسن بن علي في عقنه السيف، ولكن عثمان عزم عليهم ألا يقاتلوا( ).
وبذلك يظهر زيف ما اتهم به الصحابة مهاجرين وأنصارا من تخاذل عن نصرة عثمان ?، وكل ما روي في ذلك فإنه لا يسلم من علة إن لم تكن عللا قادحة في الإسناد والمتن جميعا( ).
10- عرض بعض الصحابة على عثمان مساعدته في الخروج إلى مكة:
ولما رأى بعض الصحابة إصرار عثمان ? على رفض قتال المحاصرين، وأن المحاصرين مصرون على قتله، لم يجدوا حيلة لحمايته سوى أن يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكة هربا من المحاصرين، فقد روى أن عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، عرضوا عليه ذلك، وكان عرضهم متفرقا، فقد عرض كل واحد منهم عليه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالأربعاء يناير 20, 2010 12:16 am

* الأسباب التي دعت عثمان إلى منع الصحابة من القتال:
يظهر للباحثين من خلال روايات الفتنة أن هناك أسبابا خمسة هي:
1- العمل بوصية رسول الله × التي سارَّه بها، وبيَّنها عثمان ? يوم الدار، وأنها عهدٌ عهد به إليه، وأنه صابر نفسه عليه( ).
2- ما جاء في قوله: لن أكون أول من خلف رسول الله × في أمته بسفك الدماء؛ أي كره أن يكون أول من خلف رسول الله × في أمته بسفك دماء المسلمين( ).
3- علمه بأن البغاة لا يريدون غيره، فكره أن يتوقى بالمؤمنين، وأحب أن
يقيهم بنفسه( ).
4- علمه بأن هذه الفتنة فيها قتله، وذلك فيما أخبره بها رسول الله × عند تبشيره إياه بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه سيقتل مصطبرا بالحق, معطيه في فتنة، والدلالات تدل على أن أوانها قد حان، وأكد ذلك تلك الرؤيا التي رآها ليلة قتله، فقد رأى رسول الله × وقال له: «أفطر عندنا القابلة»، ففهم ? أن موعد الاستشهاد قد قرب.
5- العمل بمشورة ابن سلام ? له؛ إذ قال له: الكف الكف، فإنه أبلغ لك
في الحجة( ).
وتحقق إخبار النبي × بأن عثمان ? سوف يقتل، وذلك فيما رواه عبد الله بن حوالة( ) ? عن النبي × قال: «من نجا من ثلاث فقد نجا -ثلاث مرات-: موتي، والدجال، وقتل خليفة مصطبرا بالحق معطيه» ( ).
وفيما تقدم يتبين هدوؤه في التفكير ?، وأن شدة البلوى لم تحل بينه وبين ذلك التفكير الصحيح والرأي السليم، فقد تضافرت الأسباب لتحديد هذا الموقف المسالم في قتال الخارجين عليه، ولا شك أنه ? كان على الحق في مواقفه التي اتخذها لما صح عن النبي × أنه أشار إلى وقوع هذه الفتنة، وشهد لعثمان وأصحابه أنهم على الحق فيها( ).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس عمن نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاء المسلمون ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم... وقيل له: تذهب إلى مكة؟ فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام؟ فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف، فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين( ).
خامسًا: موقف أمهات المؤمنين وبعض الصحابيات:
1- أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما:
كان موقف السيدة أم حبيبة أم المؤمنين من المواقف البالغة الخطر في هذه الأحداث، وهو موقف كان من الخطورة بحيث كادت -رضي الله عنها- أن تقتل فيه، ذلك أنه
لما حوصر عثمان ? ومنع عنه الماء، سرَّح عثمان ابنا لعمرو بن حزم الأنصاري - من جيران عثمان - إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئا من
الماء فافعلوا، وإلى طلحة وإلى الزبير وإلى عائشة وأزواج النبي ×، فكان أولهم إنجادا له علي وأم حبيبة.( ) وكانت أم حبيبة معنية بعثمان، كما قال ابن عساكر، وكان هذا طبيعيا منها؛ حيث النسب الأموي الواحد، جاءت أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل، قالوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت( ) بأم حبيبة فتلقاها الناس وقد مالت راحلتها، فتعلقوا بها، وأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها.( ) ويبدو أنها -رضي الله عنها- أمرت ابن الجراح مولاها أن يلزم عثمان ?، فقد حدثت أحداث الدار، وكان ابن الجراح حاضرا( ).
2- صفية زوجة رسول الله ×:
وما فعلته السيدة أم حبيبة فعلت مثله السيدة صفية رضي الله عنها؛ فلقد روي عن كنانة( ) قال: كنت أقود بصفية لتردَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر( )، فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: ذروني لا يفضحني هذا، ثم وضعت خشبا من منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الطعام والماء( ).
3- عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
ولما حدث ما حدث للسيدة أم حبيبة أعظمه الناس جدا، فخرجت عائشة -رضي الله عنها- من المدينة وهي ممتلئة غيظا على المتمردين، وجاءها مروان بن الحكم، فقال: أم المؤمنين، لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد من يمنعني، لا والله لا أُعَيَّر( ), ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء.( ) ورأت -رضي الله عنها- أن خروجها ربما كان معينا في فض هذه الجموع، كما سيتضح من الرواية الآتية بعد، وتجهزت أمهات المؤمنين إلى الحج هربا من الفتنة، على أن خروجهن لم يكن تنزها عن ملابسات الفتنة وحسب، ولم يكن هربا محضا، وإنما كان محاولة منهن لتخليص عثمان ? من أيدي هؤلاء المفتونين، الذين كان منهم محمد بن أبي بكر، أخو السيدة عائشة رضي الله عنها، الذي حاولت أن تستتبعه معها إلى الحج فأبى، ولقد دلل على هذه المحاولة منها أن استتباعها له ورفضه كانا لافتين للنظر حتى إن حنظلة الكاتب( ) قد هاله رفض محمد لأن يتبع أم المؤمنين، وقارن بين هذا الرفض وبين متابعته لأهل الأمصار، قائلا: يا محمد، تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان( ) العرب إلى ما لا يحل فتتبعهم، فأبى، فقالت السيدة عائشة: أما والله لو استطعت أن يحرمهم الله ما يجولون لأفعلن.( ) وهذا القول منها بعدما حاولته مع أخيها، دليل على أنها قد بدأت محاولتها لفض الثائرين عن عثمان، ولإثارة الرأي العام عليهم منذ بدأ تفكيرهم في الذهاب إلى مكة، وهذا هو ما أكد عليه الإمام ابن العربي، قال: إنه يروي أن تغيبهم - تغيب أمهات المؤمنين مع عدد من الصحابة - كان قطعا للشغب بين الناس رجاء أن يرجع الناس إلى أمهاتهم، وأمهات المؤمنين، فيرعوا حرمة نبيهم( )، ويستمعوا إلى كلمتهن التي طالما كانوا يقصدونها في كل الآفاق( ). أي أن خروجهم كان نوعا من التفريق لهذه الجموع؛ حيث كان معروفا عند الناس التماس رأيهن وفتاواهن، وكن -رضوان الله عليهن- لا يتصورن أن يصل الأمر بهؤلاء الناس إلى قتل الخليفة ?( ).
4- مواقف للصحابيات:
أ- وقد حاولت أسماء بنت عميس نفس المحاولة التي حاولتها أم المؤمنين عائشة، فبعثت إلى ابنيها محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر( ) فقالت: إن المصباح يأكل نفسه ويضيء للناس، فلا تأثما في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيكما، فإن هذا الأمر الذي تحاولون اليوم لغيركم غدا، فاتقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم، فلجَّا وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى ما صنع بنا عثمان، وتقول: ما صنع بكما، ألا ألزمكما الله.( ) وقيل الحديث كان بين ليلى بنت أسماء وأخويها( ).
وهي في ذلك تشير إلى أنه لما جاء أهل الأمصار، وكروا راجعين إلى المدينة بعدما كانوا ناظروا عثمان ? فناظرهم، وأقام عليهم الحجة، فأظهروا أنهم راجعون إلى بلادهم، ثم ما لبثوا أن عادوا بدعوى أن عثمان ? بعث رسلا في قتل أناس كان منهم -حسب دعواهم- محمد بن أبي بكر( )، ولعل هذا هو ما يشير إليه محمد بن أبي بكر في قوله: لا ننسى ما صنع بنا عثمان، وقد نفى عثمان ? نسبة هذا الكتاب إليه وقال: إما أن تقيموا شاهدين عليَّ بذلك وإلا فيميني أني ما كتبت ولا أمرت، وقد يكتب على لسان الرجل ويضرب على خطه وينقش على خاتمه( ).
لقد كانت السيدة أسماء -رضي الله عنها- واعية بما يجري من تدبير خفي لزعزعة أحوال المسلمين، وتنحية عثمان ? عن الخلافة، وهكذا فإن موقفها -رضي الله عنها- من ابنيها, ووضوح الأمر عندها على هذا النحو الذي جعلها لا تتأثر في مقام الأمومة، ولا تبدو إلا محقة للحق في هذا الموقف الواضح، هذا الموقف لا يستهان به ولا شك، وهو يعد صورة جلية لعدالة هؤلاء الصحابة الكرام( ).
ب- الصعبة بنت الحضرمي:
ولما اشتد حصار عثمان ? طلبت الصعبة بنت الحضرمي من ابنها طلحة بن عبيد الله أن يكلم عثمان كي يردعه عن إصراره على إسلامه نفسه دون مدافعة من الصحابة، واستنصار بأهل الأمصار، فقد خرجت الصعبة بنت الحضرمي وقالت لابنها طلحة بن عبيد الله: إن عثمان اشتد حصره، فلو كلمته حتى تردعه.( ) والرواية يبدو منها إشفاق الصعبة على عثمان ?، كما يبدو منها كذلك عناية أم عبد الله بن رافع بالأمر، ومتابعتها لما يجري من أحداث الفتنة( )، وهي التي روت عن الصعبة بنت الحضرمي الحادثة( ).
هذا هو الموقف العام لنساء المسلمين، فقد كان موقفا معتدلا وقادرا على النظر السليم في المسألة، رغم الغيوم التي كانت ملتبسة بها، وهو على كل حال كان هذا موقف الصحابة جميعا رضي الله عنهم وأرضاهم( ).
سادسًا: من حج بالناس ذلك العام؟ وهل طلب عثمان من الولاة نصرته؟
1- من حج بالناس ذلك العام (35 هـ)؟
استدعى عثمان عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وكلفه أن يحج بالناس هذا الموسم، فقال له ابن عباس: دعني أكن معك وبجانبك يا أمير المؤمنين في مواجهة هؤلاء، فوالله إن جهاد هؤلاء الخوارج أحبَّ إليَّ من الحج، قال له: عزمت عليك أن تحج بالمسلمين، فلم يجد ابن عباس أمامه إلا أن يطيع أمير المؤمنين، وكتب عثمان كتابا مع ابن عباس ليقرأ على المسلمين في الحج، بيَّن فيه قصته مع الخوارج عليه، وموقفه منهم، وطلباتهم منه ( ). وهذا نص خطاب عثمان ? للمسلمين في موسم الحج عام 35 هـ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أذكركم بالله -جل وعز- الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البينات، وأوسع عليكم من الرزق ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمته، فإن الله -عز وجل- يقول وقوله الحق: +وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" [إبراهيم: 34]، وقال عز وجل: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [آل عمران: 102-105]، وقال وقوله الحق: +وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [المائدة: 7]، وقال وقوله الحق: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ? وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ? فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [الحجرات: 6-8]، وقوله عز وجل: +إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [آل عمران: 77]، وقال وقوله الحق: +فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَن يُّوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [التغابن: 16]، وقال وقوله الحق: +وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ? وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ? وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ? وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ? وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ? مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل: 91- 96]. وقال وقوله الحق: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" [النساء: 59]. وقال وقوله الحق: +وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55]. وقال وقوله الحق: +إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [الفتح: 10].
أما بعد، فإن الله -عز وجل- رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدم إليكم فيه ليكون له الحجة عليكم، إن عصيتموه فاقبلوا نصيحة الله -عز وجل- واحذروا عذابه، فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلا من بعد أن تختلف، إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعا، وسلط عليكم عدوكم، ويستحل بعضكم حرمة بعض، ومتى يفعل ذلك لا يقم لله سبحانه دين، وتكونوا شيئا، وقد قال الله -جل وعز- لرسوله ×: +إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" [الأنعام: 159] وإني أوصيكم بما أوصاكم الله وأحذركم عذابه، فإن شعيبا × قال لقومه:
+وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنْكُم بِبَعِيدٍ ? وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ" [هود: 89، 90].
أما بعد، فإن أقواما مما كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس أنما يدعون إلى كتاب الله -عز وجل- والحق ولا يريدون الدنيا ولا منازعة فيها، فلما عرض عليهم الحق إذ الناس في ذلك شتى؛ منهم آخذ للحق ونازع عنه حين يعطاه، ومنهم تارك للحق ونازل عنه في الأمر يريد أن يبتزه بغير الحق، طال عليهم عمري، وراث( ) عليهم الإمرة, فاستعجلوا القدر، وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهم، ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئا، كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، فقلت: أقيموها على من علمتم تعداها في أحد، أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد، قالوا: كتاب الله يتلى، فقلت: فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب، وقالوا: المحروم يرزق، والمال يوفى ليستن فيه السنة الحسنة، ولا يعتدى في الخمس ولا في الصدقة، ويؤمَّر ذو القوة والأمانة، وترد مظالم الناس إلى أهلها، فرضيت بذلك واصطبرت له،... كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر استعجلوا القدر ومنعوا مني الصلاة، وحالوا بيني وبين المسجد، وابتزوا ما قدروا عليه بالمدينة. كتبت إليكم كتابي هذا، وهم يخبرونني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ أو صوابا، غير متروك منه شيء، وإما أعتزل الأمر فيؤمِّرون آخر غيري، وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من الذي جعل الله سبحانه عليهم من السمع والطاعة، فقلت لهم: أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يُسْتقد( ) من أحد منهم، وقد علمت أنما يريدون نفسي، وأما أن أتبرأ من الإمارة فأن يكلبوني( ) أحب إليَّ من أن أتبرأ من عمل الله -عز وجل- وخلافته، وأما قولكم: يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرؤون من طاعتي فلست عليكم بوكيل, ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة، ولكن أتوها طائعين، يبتغون مرضاة الله -عز وجل- وإصلاح ذات البين، ومن يكن منكم يبتغي الدنيا فليس بنائل منها إلا ما كتب الله عز وجل له، ومن يكن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضاة الله -عز وجل- والسنة الحسنة التي استن بها رسول الله × والخليفتان من بعده رضي الله عنهما، فإنما يجزي بذلكم الله وليس بيدي جزاؤكم، ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثمن لدينكم، ولم يغن عنكم شيئا، فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده، فمن يرض بالنّكث منكم فإني لا أرضاه له، ولا يرضى الله سبحانه أن تنكثوا عهده، وأما الذي يخيرونني فإنما كله النزع والتأمير، فملكت نفسي ومن معي، ونظرت حكم الله وتغيير النعمة من الله سبحانه، وكرهت سنة السوء، وشقاق الأمة وسفك الدماء، فإني أنشدكم بالله وبالإسلام ألا تأخذوا إلا الحق وتعطوه مني, وترك البغي على أهله، وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله عز وجل، فإني أنشدكم الله سبحانه الذي جعل عليكم العهد والمؤازرة في أمر الله، فإن الله سبحانه قال وقوله الحق: +وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً" [الإسراء: 34] فإن هذه معذرة إلى الله ولعلكم تذكرون. أما بعد، فإنني لا أبرئ نفسي +وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [يوسف: 53] وإن عاقبت أقواما فما أبتغي بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى الله -عز وجل- من كل عمل عملته، وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلا هو، إن رحمة ربي وسعت كل شيء، إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون، وإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، وأنا أسأل الله -عز وجل- أن يغفر لي ولكم، وأن يؤلف قلوب هذه الأمة على الخير، ويُكَرِّه إليها الفسق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها المؤمنون والمسلمون). قال ابن عباس: فقرأت هذا الكتاب عليهم قبل التروية( ) بمكة بيوم.

2- هل طلب عثمان ? من الولاة نصرته:
يزعم سيف بن عمر في روايته عند الطبري أن عثمان لما حصر كتب إلى عماله على الأمصار يستمدهم، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري على رأس جيش، وكذا فعل عبد الله بن سعد في مصر، فأرسل معاوية بن حديج، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو على رأس قواته.( ) وهذا الزعم لا يتفق مع منهج عثمان في مواجهة الفتنة من إيثار العافية والكف، ولا يتفق مع تيقنه بالقتل، ولا يتفق مع ما لجأ إليه من صرف المدافعين عنه من كبار الصحابة وأبنائهم، بل عبيده ومواليه الذين نهاهم أشد النهي عن القتال، بل جعل العتق نصيب من يكف يده منهم ولا يقاتل كما سوف نرى. ولكن الذي يمكن تصوره هو أنه كما بادر جماعة من الصحابة إلى الدفاع عن عثمان دون أن يطلب منهم ذلك ورغم محاولاته العديدة لصرفهم، فإنه قد بادرت جماعات كثيفة من أجناد المسلمين في الأمصار للدفاع عن الخليفة المظلوم من تلقاء أنفسهم وتوجيه من أمرائهم، ولا يصح أن نظن أن رجلا مثل معاوية في قرابته من عثمان كان سيسعه - لو أراد- أن يتقاعس عن السير إليه أو تسيير الجنود إليه، ولا يمكن أن نفترض أن رجالا مثل أنصار عثمان بمصر - وعلى رأسهم معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد وغيرهما من أبطال المسلمين- كانوا سينتظرون قابعين حتى يقتل الخليفة ثم يتحركون للثأر له، ويعرضون نحورهم للقتل في سبيله، بل الذي يمكن تصوره وافتراضه أن جنودا من الأمصار قد تحركت بالفعل نحو المدينة لنجدة الخليفة دون أن يطلب منها نجدته( ).
3- آخر خطبة خطبها عثمان ? :
كان آخر لقاء عام لعثمان مع المسلمين بعد أسابيع من الحصار؛ حيث دعا الناس، فاجتمعوا له جميعا، المحارب الطارئ من السبئيين، والمسالم المقيم من أهل المدينة، وكان في مقدمة القادمين: علي وطلحة والزبير، فلما جلسوا أمامه قال لهم: إن الله -عز وجل- إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكم الدنيا لتركنوا إليها، وإن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، واتقوا الله عز وجل، فإن تقواه جُنَّة ووقاية من بأسه وانتقامه، والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابا، قال تعالى: +وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" [آل عمران: 103]. ثم قال للمسلمين: يا أهل المدينة: إني أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي، وإني والله لا أدخل على أحد بعد يومي هذا، حتى يقضى الله فيَّ قضاءه، ولأدعَنَّ هؤلاء الخوارج وراء بابي، ولا أعطيهم شيئا يتخذونه عليكم دَخَلا في دين أو دنيا، حتى يكون الله هو الصانع في ذلك ما أحب، وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلا الحسن ومحمد وابن الزبير وأشباهًا لهم، فجلسوا على باب عثمان عن أمر آبائهم، وثاب إليهم ناس كثير، ولزم عثمان الدار( ) حتى أتاه أجله.
سابعًا: استشهاد عثمان ?:
وفضلا عن تحرك جيوش الأمصار منها لنجدة الخليفة، فقد كانت أيام الحج تنقضي سريعا وتوشك جماعات من هؤلاء أن تزحف إلى المدينة لنجدة الخليفة، وبخاصة مع وجود عبد الله بن عباس وعائشة وغيرهما من المدافعين عن عثمان، وقدمت الأخبار إلى المتمردين بأن أهل الموسم يريدون نصرة عثمان، فلما أتاهم ذلك مع ما بلغهم من نفور أهل الأمصار إليهم أعلقهم( ) الشيطان وقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل، فيشتغل بذلك الناس عنا( ).
1- آخر أيام الحصار وفيه الرؤيا:
وفي آخر أيام الحصار - وهو اليوم الذي قتل فيه- نام ? فأصبح يحدِّث الناس: ليقتلني القوم( )، ثم قال: رأيت النبي × في المنام، ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي ×: يا عثمان أفطر عندنا، فأصبح صائما وقتل من يومه( ).
2- صفة قتله:
هاجم المتمردون الدار فتصدى لهم الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم، فنشب القتال فناداهم عثمان: الله الله، أنتم في حل من نصرتي، فأبوا، ودخل غلمان عثمان لينصروه، فأمرهم ألا يفعلوا؛ بل إنه أعلن أنه من كف يده منهم فهو حر.( ) وقال عثمان في وضوح وإصرار وحسم، وهو الخليفة الذي تجب طاعته: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه.( ) ولا تبرير لذلك إلا بأن عثمان كان واثقا من استشهاده بشهادة النبي × له بذلك، ولذلك أراد ألا تراق بسببه الدماء، وتقوم بسببه فتنة بين المسلمين.( ) وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج ثم تعجل في نفر حجوا معه، فأدرك عثمان قبل أن يقتل، ودخل الدار يحمي عنه وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت؟ فأقدم المتمردون على حرق الباب والسقيفة، فثار أهل الدار -وعثمان يصلي- حتى منعوهم، وقاتل المغيرة بن الأخنس والحسن بن علي ومحمد بن طلحة وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم وأبو هريرة، فأبلوا أحسن البلاء وعثمان يرسل إليهم في الانصراف دون قتال، ثم ينتقل إلى صلاته، فاستفتح قوله تعالى: +طه ? مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ? إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَّخْشَى" [طه: 1-3] وكان سريع القراءة، فما أزعجه ما سمع، ومضى في قراءته ما يخطئ وما يتعتع، حتى إذا أتى إلى نهايتها قبل أن يصلوا إليه ثم دعا فجلس وقرأ: +قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [آل عمران: 137].
وأصيب يومئذ أربعة من شبان قريش وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم( ), وقتل المغيرة بن الأخنس، ونيار بن عبد الله الأسلمي( )، وزياد الفهري، واستطاع عثمان أن يقنع المدافعين عنه، وألزمهم بالخروج من الدار، وخلى بينه وبين المحاصرين، فلم يبق في الدار إلا عثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع ولا حام من الناس، وفتح ? باب الدار( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالأربعاء يناير 20, 2010 12:17 am

وبعد أن خرج من في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر ? المصحف بين يديه، وأخذ يقرأ منه وكان إذ ذاك صائما، فإذا برجل من المحاصرين لم تسمه الروايات يدخل عليه، فلما رآه عثمان ? قال له: بيني وبينك كتاب الله( ), فخرج الرجل وتركه، وما إن ولى حتى دخل آخر، وهو رجل من بني سدوس، يقال له: الموت الأسود، فخنقه وخنقه قبل أن يضرب بالسيف، فقال: والله ما رأيت شيئا ألين من خنقه، لقد خنقته حتى رأيت نفسه مثل الجان( ) تردد في جسده، ثم أهوى إليه بالسيف، فاتقاه عثمان ? بيده فقطعها، فقال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل( )؛ وذلك أنه كان من كتبة الوحي، وهو أول من كتب المصحف من إملاء رسول الله ×، فقتل ? والمصحف بين يديه، وعلى أثر قطع اليد انتضح الدم على المصحف الذي كان بين يديه يقرأ منه، وسقط على قوله تعالى:
+فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"( ) [البقرة: 137].
وفي رواية: إن أول من ضربه رجل يسمى رومان اليماني، ضربه بصولجان، ولما دخلوا عليه ليقتلوه أنشد قائلا:
أرى الموت لا يبقى عزيزا ولم يدع
لعاد ملاذا في البلاد ومرتقى

وقال أيضا:
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق
ويأتي الجبال في شماريخها( ) العلي( )

ولما أحاطوا به قالت امرأته نائلة بنت الفرافصة: إن تقتلوه أو تدعوه فقد كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن.( ) وقد دافعت نائلة عن زوجها عثمان وانكبت عليه واتقت السيف بيدها, فتعمدها سودان بن حمران ونضح أصابعها فقطع أصابع يدها، وولت،
فغمز أوراكها( ).
ولما رأى أحد غلمان عثمان الأمر، راعه قتل عثمان، وكان يسمى (نجيح) فهجم نجيح على سودان بن حمران فقتله، ولما رأى قتيرة بن فلان السكوني نجيحا قد قتل سودان، هجم على نجيح فقتله، وهجم غلام آخر لعثمان اسمه (صبيح) على قتيرة بن فلان فقتله، فصار في البيت أربعة قتلى شهيدان، ومجرمان، أما الشهيدان: فعثمان وغلامه نجيح، وأما المجرمان فسودان وقتيرة السكونيان، ولما تم قتل عثمان ? نادى منادٍ القوم السبئيين قائلا: إنه لم يحل لنا دم الرجل ويحرم علينا ماله، ألا إن ماله حلال لنا، فانهبوا ما في البيت، فعاث رعاع السبئيين في البيت فسادا، ونهبوا كل ما في البيت، حتى نهبوا ما على النساء، وهجم أحد السبئيين ويدعى كلثوم التجيبي على امرأة عثمان (نائلة) ونهب الملاءة التي عليها، ثم غمز وركها، وقال لها: ويح أمك من عجيزة ما أتمك، فرآه غلام عثمان (صبيح) وسمعه وهو يتكلم في حق نائلة هذا الكلام الفاحش، فعلاه بالسيف فقتله( )، وهجم أحد السبئيين على الغلام فقتله، وبعدما أتم السبئيون نهب دار عثمان، تنادوا وقالوا: أدركوا بيت المال، وإياكم أن يسبقكم أحد إليه، وخذوا ما فيه، وسمع حراس بيت المال أصواتهم، ولم يكن فيه إلا غرارتان من طعام فقالوا: انجوا بأنفسكم، فإن القوم يريدون الدنيا، واقتحم السبئيون بيت المال وانتهبوا ما فيه( ).
حقق الخوارج السبئيون مرادهم، وقتلوا أمير المؤمنين، وتوقف كثير من أتباعهم من الرعاع والغوغاء بعد قتل عثمان ليفكروا, وما كانوا يظنون أن الأمر سينتهي بهم إلى قتله، لقد استغفلهم شياطينهم السبئيون، واستغلوهم في الشغب على عثمان، أما أن يقتلوه فهذا ما استفظعوه واستشنعوه، وسقط في أيدي هؤلاء الغوغاء، وحصل لهم كما حصل لبني إسرائيل لما عبدوا العجل، ندم بعضهم، كما قال الله تعالى: +وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ? وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"( ) [الأعراف: 148، 149] وحزن الصالحون في المدينة لمقتل خليفتهم، وصاروا يسترجعون ويبكون، لكن ماذا يفعلون وجيوش الخوارج السبئيين تحتل المدينة، وتعيث فيها فسادا، وتمنع أهلها من فعل أي شيء؟ وكان الحاكم الفعلي للمدينة هو أمير خوارج مصر (الغافقي بن حرب العكي)، وكان معهم شيطانهم المخطط (عبد الله بن سبأ) وهو فرح مسرور لما وصل إليه من أهداف ومآرب يهودية شيطانية.
وعلق كبار الصحابة على مقتل عثمان ( ) :
أ- الزبير بن العوم ?: لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون، فقال: دبروا ودبروا، ولكن كما قال الله تعالى: +وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ" [سبأ: 54].
ب- طلحة بن عبيد الله ?: لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون قال: تبًّا لهم، وقرأ قوله تعالى: +مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ? فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ" [يس: 49، 50].
ج- علي بن أبي طالب ?: لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، قيل له: إن القوم نادمون، فقرأ قوله تعالى: +كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ? فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ" [الحشر: 16، 17].
د- سعد بن أبي وقاص ?: ولما علم سعد بذلك قال: رحم الله عثمان، ثم تلا قوله تعالى: +قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ? الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ? أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ? ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا" [الكهف: 103-106] ثم قال سعد: اللهم اندمهم واخزهم واخذلهم، ثم خذهم.( ) واستجاب الله دعوة سعد -وكان مستجاب الدعوة- فقد أخذ كل من شارك في قتل عثمان، مثل عبد الله بن سبأ، والغافقي والأشتر، وحكيم بن جبلة، وكنانة التجيبي، حيث قتلوا فيما بعد( ).
ثامنًا: تاريخ قتله، وسنه عند استشهاده, وجنازته والصلاة عليه ودفنه:
1- تاريخ قتله:
إن في تحديد السنة التي قتل فيها عثمان ? شبه إجماع من المؤرخين، فلم يقع خلاف في أنه كان في السنة الخامسة بعد الثلاثين من الهجرة، إلا ما روي عن مصعب بن عبد الله من أنه كان من السنة السادسة والثلاثين( )، وهو قول شاذ مخالف للإجماع، فمن قال بالقول الأول جمع غفير منهم: عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعامر بن شرحبيل الشعبي، ونافع مولى ابن عمر، ومخرمة بن سليمان، وغيرهم كثير.( ) ولم يختلف المؤرخون في الشهر الذي قتل فيه وأنه ذو الحجة، إلا أنه اختلف في تحديد ما بعد ذلك من اليوم والساعة، والذي ترجح لديَّ من أقوال العلماء الكثيرة أنه استشهد في (18/12/35هـ). ( ) وأما عن تحديد اليوم الذي قتل فيه من أيام الأسبوع ففيه ثلاثة أقوال، والذي ترجح لدي من هذه الأقوال قول الجمهور، وهو يوم الجمعة؛ لأنه قول الجمهور ولا يخالفه قول أقوى منه.( ) وكان وقت قتله صبيحة يوم الجمعة، وهو ما ذهب إليه الجمهور، ولم يخالف بأقوى منه( ).
2- سنه عند استشهاده:
اضطربت الروايات في سنه عند استشهاده والخلاف في ذلك قديم، حتى إن الطبري -رحمه الله- يقول: اختلف السلف قبلنا في قدر مدة حياته( )، والذي أميل إليه أنه توفي وسنه اثنتان وثمانون (82 سنة)، وهو قول الجمهور، ويترجح هذا القول لعدة أسباب، منها:
أ- أن نتيجة مقارنة سنة ولادته مع سنة استشهاده تؤيد هذا القول؛ فإنه ولد في السنة السادسة بعد عام الفيل، واستشهد في السنة الخامسة والثلاثين بعد الهجرة، فطرح تاريخ مولده من تاريخ استشهاده يتبين لنا سنه عند استشهاده.
ب- إنه قول الجمهور ولم يخالفه قول أقوى منه( ).
3- جنازته والصلاة عليه ودفنه:
قام نفر من الصحابة في يوم قتله بغسله وكفنوه وحملوه على باب، ومنهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير ابن مطعم، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وجماعة من أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان، وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل: الزبير بن العوام، وقيل: حكيم بن حزام، وقيل: مروان بن الحكم، وقيل: المسور بن مخرمة( )، والذي ترجح عندي أن الذي صلى عليه الزبير بن العوام لرواية الإمام أحمد في مسنده؛ فقد بينت تلك الرواية أن الزبير بن العوام ? صلى على عثمان ودفنه, وكان أوصى إليه.( ) وقد دفن ? ليلا، وقد أكد ذلك ما رواه ابن سعد والذهبي؛ حيث ذكرا أنه دفن بين المغرب والعشاء( ), رضوان الله عليه، وأما ما رواه الطبراني من طريق عبد الملك بن الماجشون قال: سمعت مالكا يقول: قتل عثمان ? فأقام مطروحا على كناسة بني فلان ثلاثا( )، فالرواية السابقة ضعيف سندها، وباطل متنها، فأما السند ففيه علتان:
أ- ضعف عبد الملك بن الماجشون الذي كان يروي المناكير عن الإمام مالك.
ب- أن هذه الرواية مرسلة؛ حيث إن الإمام مالكا لم يدرك مقتل عثمان ?، لأنه لم يولد إلا سنة 93هـ( ).
وأما متن هذه الرواية فباطل، وفيه يقول ابن حزم: من قال إنه ? أقام مطروحا على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت، وإفك موضوع، وتوليد من لا حياء في وجهه، ولقد أمر رسول الله × برمي أجساد قتلى الكفار من قريش يوم بدر في القليب, وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى، وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة، وهم شر من وارته الأرض، فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين، فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام, ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلا ميتا بين أظهرهم على مزبلة ثلاثة أيام لا يوارونه( ).
إنه لا يدخل في عقل أي إنسان سليم من داء الرفض أنهم يتركون إمامهم ملقى دون دفن ثلاثة أيام، مهما كانت قوة أولئك الفجرة الذين جاءوا لحصاره وقتله، فالصحابة كما وصفهم ربهم لا يخافون في الله لومة لائم، وإنما تلك الروايات التي شوهت كتب التاريخ من دس الروافض( ).
4- براءة محمد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان ?:
إن قاتل عثمان ? رجل مصري، لم تفصح الروايات عن اسمه، وبينت أنه سدوسي الأصل، أسود البشرة، لقب بـ (جبلة) لسواد بشرته، كما لقب أيضا بـ (الموت الأسود)، وذهب محب الدين الخطيب إلى أن القاتل: هو عبد الله بن سبأ حيث قال: ومن الثابت أن ابن سبأ كان مع ثوار مصر عند مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة، وهو في كل الأدوار التي مثلها كان شديد الحرص على أن يعمل من وراء ستار، فلعل (الموت الأسود) اسم مستعار له أراد أن يرمز به إليه ليتمكن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام.( ) وقد يشهد له: أن ابن سبأ أسود البشرة، فقد صح عن علي ? أنه وصفه بالخبث وسواد البشرة، وذلك في قوله: الخبيث الأسود( ).
وأما ما يتعلق بتهمة محمد بن أبي بكر بقتل عثمان بمشاقصه، فهذا باطل، وقد جاءت روايات ضعيفة في ذلك، كما أن متونها شاذة لمخالفتها للرواية الصحيحة التي تبين أن القاتل هو رجل مصري.( ) وقد ذكر الدكتور يحيى اليحيى عدة أسباب ترجح براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان، منها:
أ- أن عائشة -رضي الله عنها- خرجت إلى البصرة للمطالبة بقتلة عثمان، ولو كان أخوها منهم ما حزنت عليه لما قتل فيما بعد، وسيأتي تفصيله عند حديثنا عن علي بن أبي طالب ? بإذن الله تعالى.
ب- لعن علي ? لقتلة عثمان ? وتبرؤه منهم، يقتضي عدم تقريبهم وتوليتهم، وقد ولي محمد بن أبي بكر مصر، فلو كان منهم ما فعل ذلك.
ج- ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن طلحة بن مصرف قال: سمعت كنانة مولى صفية بنت حيي قال: شهدت مقتل عثمان وأنا ابن أربع عشرة سنة، قالت: هل أندى محمد بن أبي بكر بشيء من دمه؟ فقال: معاذ الله، دخل عليه، فقال عثمان: يا ابن أخي لست بصاحبي فخرج، ولم يند من دمه بشيء( ).
ويشهد لهذا ما أخرجه خليفة بن خياط والطبري بإسناد رجال ثقات عن الحسن البصري -وكان ممن حضر يوم الدار( ) - أن ابن أبي بكر أخذ بلحيته، فقال عثمان: لقد أخذت مني مأخذا أو قعدت مني مقعدا، ما كان أبوك ليقعده فخرج وتركه( ).
وبهذا يتبين لنا براءة محمد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان، براءة الذئب
من دم يوسف، كما تبين أن سبب تهمته هو دخوله قبل القتل.( ) وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- أنه لما كلمه عثمان ? استحى، ورجع، وتندم، وغطى وجهه، وحاجز دونه فلم
تفد محاجزته( ).
* * *

المبحث الرابع
موقف الصحابة من مقتل عثمان رضي الله عنهم
شوهت بعض كتب التاريخ مواقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وذلك بسبب الروايات الرافضية التي ذكرها كثير من المؤرخين، فالمتتبع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطبري، وكتب التاريخ الأخرى من خلال روايات أبي مخنف، والواقدي وابن أعثم، وغيرهم من الإخباريين يشعر أن الصحابة هم الذين كانوا يحركون المؤامرة ويثيرون الفتنة، فأبو مخنف ذو الميول الشيعية لا يتورع في اتهام عثمان بأنه الخليفة الذي كثرت سقطاته فاستحق ما استحقه، ويظهر طلحة في مروياته كواحد من الثائرين على عثمان والمؤلبين ضده. ولا تختلف روايات الواقدي عن روايات أبي مخنف؛ فعمرو بن العاص يقدم المدينة ويأخذ في الطعن على عثمان، وقد كثرت الروايات الرافضية التي تتهم الصحابة بالتآمر ضد عثمان ?, وأنهم هم الذين حركوا الفتنة وأثاروا الناس، وهذا كله كذب وزور.( ) وخلافا للروايات الرافضية والموضوعة والضعيفة، فقد حفظت لنا كتب المحدثين -بحمد الله- الروايات الصحيحة التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان والمنافحين عنه،
المتبرئين من قتله، والمطالبين بدمه بعد مقتله، وبذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة أو إثارتها( ).
إن الصحابة جميعا -رضي الله عنهم- أبرياء من دم عثمان ?، ومن قال خلاف ذلك فكلامه باطل لا يستطيع أن يقيم عليه أي دليل ينهض إلى مرتبة الصحة، ولذلك أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم، عن أبيه قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟ قال: لا، كانوا أعلاجا( ) من أهل مصر. وقال الإمام النووي: ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل سفلة الأطراف والأراذل، تحزبوا وقصدوه من مصر، فعجز الصحابة الحاضرون عن دفعهم فحصروه حتى قتلوه ?( ).
وقد وصفهم الزبير ? بأنهم غوغاء من الأمصار، ووصفتهم السيدة عائشة بأنهم نُزَّاع القبائل.( ) ووصفهم ابن سعد بأنهم حثالة الناس متفقون على الشر.( ) ووصفهم ابن تيمية بأنهم خوارج مفسدون وضالون باغون معتدون.( ) ووصفهم الذهبي بأنهم رؤوس شر وجفاء( ). ووصفهم ابن العماد الحنبلي في الشذرات بأنهم أراذل من أوباش القبائل( ).
ويشهد على هذا الوصف تصرف هؤلاء الرعاع منذ الحصار إلى قتل الخليفة ? ظلما وعدوانا، فكيف يمنع الماء عنه والطعام وهو الذي طالما دفع من ماله الخاص ما يروي ظمأ المسلمين بالمجان( )، وهو الذي ساهم بأموال كثيرة عندما يلم بالناس مجاعة أو مكروه، وهو الدائم العطاء عندما يصيب الناس ضائقة أو شدة من الشدائد؟( )حتى إن عليا ? يصف هذا الحال وهو يؤنب المحاصرين بقوله: يا أيها الناس، إن الذي تفعلونه لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تمنعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة (الطعام)؛ فإن الروم وفارس لتأسر وتطعم وتسقي( ). لقد صحت الأخبار وأكدت حوادث التاريخ على براءة الصحابة من التحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضده( ). وإليك أقوال الصحابة في البراءة من دم عثمان:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سلمى العربيه
عربي مميز
عربي مميز



عدد المساهمات : 250
تاريخ التسجيل : 18/01/2010

الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: الصحابه رضوان الله عليهم   الصحابه رضوان الله عليهم - صفحة 2 Emptyالأربعاء يناير 20, 2010 12:18 am

أولاً: ثناء أهل البيت على عثمان ? وبراءتهم من دمه:
1- موقف السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
أ- عن فاطمة بنت عبد الرحمن اليشكرية عن أمها، أنها سألت عائشة: وأرسلها عمها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان، فإن الناس قد أكثروا فيه، فقالت: لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعدا عند نبي الله، وإن رسول الله × مسند ظهره إليَّ، وإن جبريل -عليه السلام- ليوحي إليه القرآن وإنه ليقول: «اكتب عثمان»، فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريما على الله ورسوله( ).
ب- وعن مسروق، عن عائشة قالت حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قربتموه تذبحونه كما يذبح الكبش، فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج إليه، قالت عائشة: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت إليهم بسوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.( ) وقد مر معنا كذب السبئيين، وأنهم كتبوا رسائل لأهل الأمصار ونسبوها كذبا وزورا للسيدة عائشة رضي الله عنها.
ج- ولما سمعت بموت عثمان في طريق عودتها من مكة إلى المدينة رجعت إلى مكة ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الْحِجْر فتسترت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار، وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإرب( )، واستعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها، فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحا لهم، فلما لم يجدوا حجة ولا غدرا خلجوا( ), وبادروا بالعدوان، ونبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام، والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، فنجاة( ) من اجتماعكم عليه حتى يَنْكل( ) بهم غيرهم، ويشرد( ) من بعدهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من دَرَنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء( ).
وعلى العكس من الصورة الطيبة التي نفهمها من الروايات السابقة الموثوقة للعلاقة بين أم المؤمنين عائشة وعثمان، فإنه تبقى عند الطبري وغيره روايات أخرى صورت العلاقة بين عائشة وعثمان على صورة متناقضة تماما لما انتهينا إليه، وشوهت الدور الرائع الناصع الواعي الذي قامت به رضي الله عنها، دفاعا عن حرمات الله عز وجل، ودفعا عن
عثمان ?، وفهما لألاعيب السبئية( ).
إن الروايات التي جاءت في العقد الفريد, وفي الأغاني, وتاريخ اليعقوبي, وتاريخ المسعودي، وأنساب الأشراف، وما انتهت إليه من استدلالات في شأن الدور السياسي للسيدة عائشة -رضي الله عنها- في حياة عثمان بن عفان ?، إن جميع ما تؤدي إليه استدلالات تدين الموقف السياسي للسيدة عائشة -رضي الله عنها- لا يعتد بها لمخالفتها للروايات الصحيحة، وقيامها على روايات واهية( )؛ فأغلبها روايات غير مسندة، والمسند مجروح الإسناد لا يحتج بروايته، هذا إلى فساد متونها إذا ما قورنت بالروايات الأخرى الأكثر صحة وقربا بالحقيقة( ). وقد قامت السيدة أسماء محمد أحمد زيادة بدراسة الأسانيد والمتون للروايات التي تحدثت عن الدور السياسي للسيدة عائشة في أحداث الفتنة، ونقدت الروايات القائلة بالخلاف السياسي بين عائشة وعثمان عند الطبري وغيره وبينت زيفها وكذبها، ثم قالت: وكان الأحرى بنا أن نعرض عن ذكرها جميعا -كما ذكرت آنفا- لعدم وصولها إلينا عن طريق معتمد، بل الطرق التي وصلت منها رُمى أصحابها بالتشيع والكذب والرفض لكننا عرضنا لها لشيوعها في أغلب الدراسات الحديثة، وللتدليل على سقوطها، فهي روايات -كما اتضح لنا- حاولت خلق تاريخ لا وجود له أصلا من الخلاف، والتنكر بين عثمان وعائشة وبين عثمان والصحابة جميعا.( ) ولو صح أن عائشة اتفقت مع المتمردين على التحريض على عثمان ? لكان من المتوقع أن يكون عندها نوع من التماس العذر لهؤلاء المتمردين، لكن لم يصح عنها -رضي الله عنها- شيء من هذا، وإنه لو صح شيء من هذه الروايات في وصف موقف السيدة عائشة -رضي الله عنها- من مقتل عثمان فهي روايات كفيلة بإسقاط العدالة عن عائشة رضي الله عنها، وعن الصحابة الذين اشتركوا معها، وهو ما لا نقبل به للخبر الصادق عن الله ورسوله في تقرير عدالتهم التي كانت كافية لدحض هذه الروايات، لكننا توقفنا أمام الروايات تأكيدا منا على سقوط هذه الرواية ومن بعدها الاستدلالات القائمة عليها، حتى تجتمع الأدلة الدينية والعلمية والتاريخية في صعيد واحد يؤكد بعضها بعضا( ).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الصحابه رضوان الله عليهم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 4انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» القاب الصحابه رضوان الله عليهم
» رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم...عبد الله بن رواحة
» القاب الصحابه
» موسوعة سيرة الصحابه
» كل شي عن رسول الله (صلى الله علية وسلم) من مولدة وحتى وفا ته موسوعة كاملة { ارجوا التثبيت >>

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كل العرب انفو الاخباري :: المنتدى الاسلامي :: قصص الرسل و الانبياء-
انتقل الى: